×
الحياء قرين الإيمان: إن الحياء علامة تدل على ما في النفس من الخير، وهو أمارة صادقة على طبيعة الإنسان، فيكشف عن مقدار إيمانه وأدبه؛ فحينما ترى إنسانًا يشمئز ويتحرج من فعل ما لا ينبغي فاعلم أن فيه خيرًا وإيمانًا بقدر ما فيه من تركٍ للقبائح. وهذه الرسالة تُعرِّف الحياءَ وتُبيِّن قسمَيْه، وأنواعَه.

 الحياء قرين الإيمان

أسماء بنت راشد الرويشد


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد - صلى الله عليه وسلم -، أما بعد:

فإن للخير والشر معان كامنة في النفس تعرف بعلامات وسمات دالة كما قال الشاعر:

لا تسأل المرء عن أخلاقه

في وجهه شاهد من الخبر

فمن سمات الخير: الدعة والحياء والكرم.

ومن سمات الشر: القحة والبذاء واللؤم.

حياءك فاحفظه عليك وإنما

يدل على فعل الكريم حياؤه

إن الحياء علامة تدل على ما في النفس من الخير، وهو أمارة صادقة على طبيعة الإنسان، فيكشف عن مقدار إيمانه وأدبه؛ فحينما ترى إنسانًا يشمئز ويتحرج من فعل ما لا ينبغي فاعلم أن فيه خيرًا وإيمانًا بقدر ما فيه من ترك للقبائح.

 ما الحياء وما حقيقته؟

الحياء: خُلُق يبعث على فعل كل مليح وترك كل قبيح؛ فهو من صفات النفس المحمودة التي تستلزم الانصراف عن القبائح وتركها، وهو من أفضل صفات النفس وأجلّها، وهو من خُلُق الكرام وسمة أهل المروءة والفضل.

ومن الحكم التي قيلت في شأن الحياء: «من كساه الحياء ثوبه لم يَر الناس عيبه».

لذلك فعندما نرى إنسانًا لا يكترث ولا يبالي فيما يبدر منه من مظهره أو قوله أو حركاته يكون سبب ذلك قلة حيائه وضعف إيمانه كما جاء في الحديث: «إذا لم تستح فاصنع ما شئت»([1]).

وقد قال الشاعر:

إذا رزق الفتى وجهًا وقاحًا

تقلب في الأمور كما يشاء

فما لك في معاتبة الذي لا

حياء لوجهه إلا العناء

قال أبو حاتم: «إن المرء إذا اشتد حياؤه صان عرضه ودفن مساوئه ونشر محاسنه».

والحياء: من الأخلاق الرفيعة التي أمر بها الإسلام وأقرها ورغب فيها. وقد جاء في الصحيحين ([2]) قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، أفضلها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان».

وفي الحديث الذي رواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين: «الحياء والإيمان قُرِنا جميعًا، فإذا رُفع أحدهما رُفعَ الآخر».

والسر في كون الحياء من الإيمان: أن كلاً منهما دافع إلى الخير صارف عن الشر مبعدٌ عنه؛ فالإيمان يبعث المؤمن على فعل الطاعات وترك المعاصي والمنكرات، والحياء يمنع صاحبه من التفريط في حق الرب والتقصير في شكره، ويمنع صاحبه كذلك من فعل القبيح أو قوله اتقاء الذم والملامة.

ورُبَّ قبيحة ما حال بيني

وبين ركوبها إلا الحياء

وقد قيل: «الحياء نظام الإيمان، فإذا انحل نظام الشيء تبدد ما فيه وتفرَّق».

فالحياء: ملازم للعبد المؤمن كالظل لصاحبه وكحرارة بدنه؛ لأنه جزء من عقيدته وإيمانه، ومن هنا كان الحياء خيرًا ولا يأتي إلا بالخير، كما في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الحياء لا يأتي إلا بالخير»([3] وفي رواية لمسلم: «الحياء خيرٌ كله»([4]).

وفي الصحيحين: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر على رجل يعظ أخاه في الحياء – أي يعاتبه؛ لأنه أضر به – فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «دعه فإن الحياء من الإيمان»([5])؛ فقد أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذلك الرجل أن يترك أخاه ويبقيه على حيائه ولو منع صاحبه من استيفاء حقوقه؛ إذ ضياع حقوق المرء خير له من أن يفقد حياءه الذي هو من إيمانه وميزة إنسانيته وخيريته.

ورحم الله امرأة كانت فقدت طفلها فوقفت على قوم تسألهم عن طفلها، فقال أحدهم: تسأل عن ولدها وهي تغطي وجهها؟! فسمعته فقالت: لأن أُرزأ في ولدي خير من أُرزأ في حيائي أيها الرجل.

سبحان الله ... أين هذه المرأة من نساء اليوم، تخرج المرأة كاشفة وجهها مبدية زينتها لا تستحيي من الله ولا من الناس، أضاعت دينها وخسرت إيمانها، ولئن كانت تلك المرأة قد أضاعت ولدها فعند الله لها العوض والأجر، أمَّا المرأة التي أضاعت حياءها وإيمانها فما أعظم الخسارة وما أسوأ العاقبة.

وصدق الشاعر حين قال:

فتاة اليوم ضيَّعت الصوابا

وألقت عن مفاتنها الحجابا

فلم تبدي حياء من رقيب

ولم تخش من الله الحسابا

إذا سارت بدت ساق وردف

وإن جلست ترى العجب العُجابا

بربك هل سألت العقل يومًا

أهذا طبع مَنْ رام الصوابا

أهذا طبع طالبة لعلم

إلى الإسلام تنتسب انتسابا

فما كان التقدم صبغ وجه

وما كان السفور إليه بابا

شباب اليوم يا أختي ذئاب

وطبع الحمل أن يخشى الذئابا

 حياء أم ضعف إيمان؟

إن انقباض النفس عن الفضائل والانصراف عنها لا يسمى حياء؛ فخُلُق الحياء في المسلم غير مانع له من أن يقول حقًا أو يطلب علمًا أو يأمر بمعروف أو ينهي عن منكر؛ فإذا منع العبد عن فعل ذلك باعثٌ داخلي فليس هو حياءه، وإنما هو ضعف إيمانه وجبنه عن قول الحق: }وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ{ [الأحزاب: 53] فهذا النبي - صلى الله عليه وسلم - مع شدة حيائه فإنه لم يكن يسكت عن قول الحق؛ بل كان يغضب غضبًا شديدًا إذا انتهكت محارم الله؛ فمن ذلك أن أسامة بن زيد حِبَّ رسول الله وابن حِبَّه حين شفع في حد من الحدود الشرعية، لم يمنع النبي - صلى الله عليه وسلم - حياؤه أن يقول لأسامة في غضب: «أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة، والله لو سرقت فاطمة لقطعت يدها»([6]).

ولم يمنع الحياءُ أم سليم الأنصارية من أن تقول: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق فهل على المرأة من غسل إذا احتلمتْ؟ فيقول لها ولم يمنعه الحياء في بيان العلم: «نعم، إذا رأت الماء»([7]).

لذا فالحياء لا يمنع صاحبه من الاستفسار والسؤال عما جهل من أمور الدين وما يجب عليه معرفته؛ وقد قيل: «لا يتعلم العلم مستحي ولا مستكبر».

وهناك من النساء من يمنعها حياؤها بزعمها من ترك بعض العادات المحرمة التي اعتادت عليها في مجتمعها مثل مصافحة الرجال الأجانب والاختلاط بهم، فلا تتحجب من أقارب زوجها، ولا تمنع من دخولهم عليها في بيتها حال غياب زوجها محتجة بأنها تستحيي منهم ومن مخالفة عادات مجتمعها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إياكم والدخول على النساء»([8])، والمراد غير ذوات المحرم وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا أمس أيدي النساء»([9]).

فإذا كان خير الخلق لا يصافح نساء الصحابة وهن صحابيات وفي خير القرون فما بال رجال ونسوة في عصر كثر فيه الشر وأهله أصبحوا لا يرون في المصافحة بأسًا؛ محتجين بأن قلوبهم تقية ونفوسهم نقية؟ والرسول - صلى الله عليه وسلم - حذَّر من مسِّ النساء فقال: «لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير من أن يمس امرأة لا تحل له»([10]).

ومن الناس من يتساهل في إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة أنه يستحيي من الإنكار على الناس، ومن ذلك ما يفعله بعض الناس من مجاملة بعضهم لبعض في سماع الغيبة أو غيرها من المنكرات أو رؤيتها؛ فهذا جبن مذموم كل الذم، وصاحبه شريك في الإثم إن لم ينكر أو يفارقهم.

والله عز وجل يقول: }كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ{ [آل عمران: 110].

وقد حذرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من التساهل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال: «والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه ثم تدعوه فلا يُستجاب لكم»([11]).

 وينقسم الحياء من حيث الأصل إلى قسمين:

1- حياء فطري غريزي.          2- وحياء مكتسب.

قال القرطبي: الحياء المكتسب هو الذي جعله الشارع من الإيمان غير أن من كان فيه غريزة الحياء فإنها تعينه على المكتسب، وقد يتطبع بالمكتسب حتى يصير غريزيًا. وهذا قول صحيح ومعلوم بالتجربة في مجال التربية؛ فإن المتربي قد يكون في بدايته لا يملك حياءً غريزيًا، أو أن عنده حياءاً غريزياً ناقصًا، ثم ينشأ في جو ينمي بواعث الحياء في قلبه ويدله على خصال الحياء؛ فإن هذا المتربي سيكتسب الحياء شيئًا فشيئًا، ويقوى الحياء في قلبه بالتوجيه والتربية حتى يصبح الحياء خلقًا ملازمًا له، وقد قال بعض الحكماء: «أحيوا الحياء بمجالسة من يستحيا منه». وهذا الكلام بديع المعنى بعيد الفقه؛ حيث إن كثرة مجالسة من لا يستحيا منه، لوضاعته أو حقارته أو قلة قدره ومروءته- تخلق في النفس نوعًا من التجانس معهم، ثم إن قلة قدرهم عنده تجعله لا يستحيي منهم فيصنع ما يشاء بحضرة هذه الجماعة؛ فتضعف عنده خصلة الحياء شيئًا فشيئًا فيتعود أن يصنع ما يشاء أمام الناس جميعًا.

أما مجالسة من يستحيا منهم لصلاحهم وعلو قدرهم: فإنها تحيي في القلب الحياء، فيظل الإنسان يراقب أفعاله وأقواله قبل صدورها حياء ممن يجالسه، فيكون هذا خُلقًا له ملازمًا فتتعود نفسه إتيان الخصال المحمودة ومجانبة وكراهية الخصال المذمومة.

الحاصل: أن مجالسة الأخيار تقوي الحياء المكتسب وتنميه، أما مجالسة الأرذال فإنها تحول بين العبد وبين اكتساب الحياء.

 والحياء أنواع:

 1- الحياء من الله.

2- الحياء من الملائكة.

3- الحياء من الناس.

4- الحياء من النفس.

1- الحياء من الله: قال الله تعالى: }أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى{ [العلق: 14]، وقال تعالى: }وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ{ [الأنعام: 91].

فتجرؤ العبد على المعاصي واستخفافه بالأوامر والنواهي الشرعية يدل على عدم إجلاله لربه وعدم مراقبته له.

فالحياء من الله يكون باتباع الأوامر واجتناب النواهي. وفي الحديث الذي رواه الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «استحيوا من الله حق الحياء». قال: قلنا: يا رسول الله، إنا نستحي والحمد لله، قال: «ليس ذلك، ولكن من استحى من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى ، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء»([12]).

معنى الحديث: «استحيوا من الله حق الحياء» أي استحيوا من الله قدر استطاعتكم؛ لأنه من المعلوم أن الإنسان لا يستطيع أن يقوم بكل ما عليه تامًا كاملاً، ولكن كل على حسب طاقته ووسعه، قال تعالى: }فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ{ [التغابن: 16].

(قال: قلنا: إنا نستحي والحمد لله) أجابوا بذلك لأنهم قصدوا أنهم يفعلون كل مليح ويتركون كل قبيح على حسب استطاعتهم، فرد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ليس المقصود هذا العموم؛ لأن هناك شروطا للحياء حق الحياء فليس الأمر كما يظنون ولكن حقيقة ذلك:

1- «أن يحفظ الرأس وما وعى»: أي ما جمع من الأعضاء: العقل والبصر والسمع واللسان؛ قال الله تعالى: }إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا { [الإسراء: 36-31]؛ ([13]) فينبغي عليه أن يستعملها فيما يرضي الله تعالى؛ لأنها نِعَم عظيمة من الله اجتمعت له فميزه عن غيره من المخلوقات؛ فمن اللؤم والوقاحة أن يتقوى العبد بنعم ربِّه على معصيته، وأن يستعمل آلاءه فيما يسخطه؛ وإلا فالواجب عليه تجاهه في هذه النعم الظاهرة والباطنة أن يستحي من ربه من أن يستعملها في معصيته، ويستحي كذلك من التقصير في شكرها فيدفعه ذلك الحياء إلى حفظ تلك الجوارح، فيستحي من ربه أن يقع في غيبة أو ينطق كذبًا أو يسمع فجورًا أو فحشًا؛ كما لا ينظر إلى حرام ولا يقلب بصره فيما لا يحل له }قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ{، } قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ {[النور: 30-31]؛ كما عليه أن يستحيي ممن يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور من أن يطلع عليه وهو يفكر في معصية أو يخطط لفساد أو إفساد؛ فإذا حفظ الرأس وما فيه من الجوارح كان فعلاً قد حقق الشرط الأول من حقيقة الحياء من الله.

222- «وليحفظ البطن وما حوى»: أي يحفظ بطنه وما في ذلك من حفظ الفرج عن الحرام؛ فيحفظ بطنه من أن يدخله طعام حرام أو مال حرام؛ فالبدن ينبت ويقوى من الطعام، والرب عز وجل لا يقبل من عبده أن يتقوى على طاعته بمطعم حرام ولا مشرب حرام؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب ... يا رب ... ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وقد غُذي بالحرام؛ فأنَّى يُستجاب لذلك»([14])؛ لذلك ينبغي على المسلم أن يستحي من الله أن يدخل في بطنه ما لا يحل، وأن يكتفي بالحلال الذي رزقه الله، وكذلك يبعد فرجه عن الحرام ويكتفي بما أحل الله له، والله عز وجل ما حرَّم شيئًا إلا وأحلَّ شيئًا آخر مقابله }وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا{ [البقرة: 275]، كما حرم الله الزنى وأحل الزواج بل هو عمل يُثاب عليه «وفي بُضع أحدكم صدقة»([15]).

3- «وليذكر الموت والبلى»؛ لأن كل نفس ذائقة الموت، فما بعد الحياة إلا الموت، ولن يبقى أحد من المخلوقات؛ بل سيفنى الجميع ويبقى الله جل جلاله، وسنرجع وسنقف بين يديه تبارك وتعالى، قال - صلى الله عليه وسلم -: «أكثروا من ذكر هادم اللذات»([16]).

4- «ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا»: قال تعالى: }تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ{ [القصص: 83] وقال: }الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا{ [الكهف: 46]. وليس المراد من ترك زينة الدنيا أي تحريم ما أحل الله. }قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ{ [الأعراف: 32]؛ وإنما المذموم الانغماس فيها بحيث تلهيه عن طاعة الله والقيام بواجباته؛ فتكون فتنة له تهلك دينه وآخرته.

الحياء ومراتب العبودية:

تبين معنا أن الحياء من الله يكون باتباع أوامر الله واجتناب نواهيه ومراقبة الله في السر والعلن، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «استحي من الله تعالى كما تستحي من الرجل الصالح من قومك»([17])، وهذا الحياء يسمى حياء العبودية الذي يصل بصاحبه إلى أعلى مراتب الدين، وهي مرتبة الإحسان التي يحس فيها العبد دائمًا بنظر الله إليه، وأنه يراه في كل حركاته وسكناته فيتزين لربه بالطاعات.

 وهذا الحياء يجعله دائمًا يشعر بأن عبوديته قاصرة حقيرة أمام ربه؛ لأنه يعلم أن قدر ربه أعلى وأجل؛ قال ذو النون: «الحياء وجود الهيبة في القلب مع وحشة مما سبق منك إلى ربك»، وهذا يسمى أيضًا حياء الإجلال الذي منبعه معرفة الرب عزَّ وجل وإدراك عظيم حقه ومشاهدة مننه وآلائه، وهذا هو حقيقة نصب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإجهاده نفسه في عبادة ربه.

ومن هذا الحياء أيضًا: حياء الجناية والذنب: ومثال ذلك ما ذكره ابن القيم في كتابه مدارج السالكين عندما فرَّ آدم هاربًا في الجنة، فقال الله تعالى له: «أفرارًا مني؟» فقال: لا، بل حياء منك.

ومن أنواع الحياء من الله:

الحياء من نظر الله إليه في حالة لا تليق:

كالتعري؛ كما في حديث بهز بن حكيم عندما سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ فقال: «احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك» قال: يا نبي الله، إذا كان أحدنا خاليًا؟ قال: «فالله أحق أن يستحي منه الناس»([18]).

ولذلك عقد الإمام البخاري بابًا سماه: «التعري عند الاغتسال والاستتار أفضل».

وقد ورد أن ابن عباس كان يغتسل وهو يرتدي ثوبًا خفيفًا حياء من الله.

وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: «والله إني لأضع ثوبي على وجهي في الخلاء حياءً من الله».

وكان عثمان بن عفان لا يقيم صلبه عند الاغتسال حياءً من الله.

وجاء رجل إلى الحسين رضي الله عنه فقال له: أنا رجل عاصٍ ولا أصبر على المعصية فعظني.

قال الحسين: افعل خمسة، وافعل ما شئت:

قال الرجل: هات.

قال الحسين: لا تأكل من رزق الله وأذنب ما شئت.

قال الرجل: كيف، ومن أين آكل، وكل ما في الكون من رزقه.

قال الحسين: اخرج من أرض الله وأذنب ما شئت.

قال الرجل: هذه أعظم من تلك، فأين أسكن.

قال الحسين: اطلب موضعًا لا يراك الله فيه وأذنب ما شئت.

قال الرجل: كيف، ولا تخفي على الله خافية.

قال الحسين: إذا جاءك ملك الموت فادفعه عن نفسك وأذنب ما شئت.

فقال الرجل: هذا محال.

قال الحسين: إذا دخلت النار فلا تدخل فيها وأذنب ما شئت.

فقال الرجل: حسبي حسبي؛ لن يراني الله بعد اليوم في معصية أبدًا.

ولقد بلغ الإيمان بأصحابه يستحيون من الله في التقصير في النوافل وكأنهم قد ضيعوا الفرائض؛ قال الفضيل بن عياض: «أدركت أقوامًا يستحيون من الله في سواد الليل من طول الهجيعة». وقال يحيى بن معاذ: «من استحيي من الله مطيعًا استحيى الله منه وهو مذنب» ... وهذا كلام يحتاج إلى شرح: أي من غلب عليه خُلُق الحياء من الله حتى في طاعته، استحيي الله أن يرى من يكرم عليه في حال يشينه عنده. وفي الواقع شاهد على ذلك: فإن الرجل إذا اطلع على أخص الناس به وأحبهم إليه وأجلهم عنده، وهو يفعل ما يشين أو ما يخونه فيه، فإنه يشعر عند ذلك بحياء عجيب حتى كأنه هو ذلك الجاني، وهذا غاية الكرم والمحبة؛ لأنه لو كان الجاني ليس له به صلة أو أنه لا يجعله، فإن الشعور الذي سيكون تجاهه المقت والبغض.

ثم قال يحيى بن معاذ: سبحان من يذنب عبده ويستحي منه. وقد قيل: «من استحيا من الله، استحيا الله منه».

ويجدر هنا أن ننبِّه إلى أن حياء الرب صفة من صفاته الثابتة بالكتاب والسنة وهي كسائر صفاته عزَّ وجلَّ لا تدركها الأفهام ولا تكيفها العقول، بل نؤمن بها من غير تمثيل ولا تكييف، وحياء الله عز وجل صفة كمال، ومن لوازمها الكرم والفضل والجود والجلال.

ففي الحديث: «إن الله حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه أن يردّهما صفرًا»([19]).

عجيب شأن هذا العبد المسكين لا يستحيي من ربه وهو ينعم عليه أناء الليل والنهار مع فقره الشديد، والرب العظيم يستحيي من عبده مع غناه وعدم حاجته إليه.

 2- الحياء من الملائكة:

من المعلوم أن الله قد جعل فينا ملائكة يتعاقبون علينا بالليل والنهار ... وهناك ملائكة يصاحبون أهل الطاعات مثل الخارج في طلب العلم، والمجتمعين على مجالس الذكر والزائر للمريض وغير ذلك.

وأيضًا ملائكة لا يفارقوننا؛ وهم الحفظة والكتبة }وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ{ [الانفطار: 10-11]، }أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ{ [الزخرف: 80]. إذن فعلينا أن نستحيي من الملائكة؛ وذلك بالبُعد عن المعاصي والقبائح وإكرامهم عن مجالس الخنا وأقوال السوء والأفعال المذمومة المستقبحة.

 3- الحياء من الناس:

وهذا النوع من الحياء هو أساس مكارم الأخلاق ومنبع كل فضيلة؛ لأنه يترتب عليه القول الطيب والفعل الحسن والعفَّة والنزاهة.

والحياء من الناس قسمان:

أ- هذا القسم أحسن الحياء وأكمله وأتمه؛ فإن صاحبه يستحي من الناس جازمًا بأنه لا يأتي هذا المنكر والفعل القبيح إلا خوفًا من الله تعالى أولاً، ثم اتقاء ملامة الناس وذمهم ثانيًا، فهذا يأخذ أجر حيائه كاملاً؛ لأنه استكمل الحياء من جميع جهاته؛ إذ ترتب عليه الكف عن القبائح التي لا يرضاها الدين والشرع ويذمه عليها الخلق.

 وهذا هو حقيقة موقف الصحابي الجليل حذيفة بين اليمان عندما أتى الجمعة فوجد الناس قد انصرفوا، فتنكب الطريق وقال: «لا خير فيمن لا يستحيي من الناس».

ب- أن يترك القبائح والرذائل حياءً من الناس، وإذا خلا من الناس لا يتحرج من فعلها، وهذا النوع من الناس عنده حياء؛ ولكنَّ حياءه ناقص ضعيف يحتاج إلى علاج وتذكير بعظمة ربه وجلاله، وأنه أحق أن يُستحيا منه؛ لأنه القادر المطلع الذي بيده ملكوت كل شيء، الذي أسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، فكيف يليق به أن يأكل من رزقه ويعصيه، ويعيش في أرضه وملكوته ولا يطيعه، ويستعمل عطاياه فيما لا يرضيه؟! وعلى ذلك فإن هذا العبد لا يليق به أن يستحيي من الناس الذين لا يملكون له ضرًّا ولا نفعًا لا في الدنيا ولا في الآخرة، ثم لا يستحيي من الله الرقيب عليه المتفضل عليه الذي ليس له غناء عنه.

أما الذي يجاهر بالمعاصي ولا يستحيي من الله ولا من الناس فهذا من شر ما منيت به الفضيلة وانتهكت به العفة؛ لأن المعاصي داء سريع الانتقال لا يلبث أن يسري في النفوس الضعيفة فيعم شر معصية المجاهر ويتفاقم خطبها، فشره على نفسه وعلى الناس عظيم، وخطره على الفضائل كبير، ومن المؤسف أن المجاهرة بالمعاصي التي سببها عدم الحياء من الله ولا من الناس قد فشت في زماننا.

فلا شاب ينزجر، ولا رجل تدركه الغيرة، ولا امرأة يغلب عليها الحياء فتتحفظ وتتستر؛ فقد كثر في المجتمع المسلم التبرج من النساء في الأسواق وفي الحدائق العامة وحتى في المساجد، بل حتى المسجد الحرام، تخرج المرأة كاشفة الوجه مبدية الزينة بكل جرأة وقحة، لم تجل خالقًا ولم تستح من مخلوق. ولقد صدق الشاعر حين قال:

لحد الركبتين تشمرينا

بربك أي نهر تعبرينا

كأن الثوب ظل في صباح

يزيد تقلصًا حينا فحينا

تظنين الرجال بلا شعور

لأنك ربما لا تشعرينا

نعم؛ إنها لا تشعر؛ لا تشعر بمراقبة الله واطلاعه عليها، لا تشعر بالخوف والرهبة من الله، لا تشعر بنظرات الرجال اللاهبة، ولا تشعر بما هي فيه من الغي والفتنة؛ فهي فعلاً امرأة بلا شعور.

ومن مظاهر عدم الحياء في مجتمع النساء:

تحدُّث المرأة بما يقع بينها وبين زوجها من الأمور الخاصة، وقد وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - من يفعل ذلك بشيطان أتى شيطانة في الطريق والناس ينظرون.

ومن مظاهر ضعف الحياء لدى بعض النساء: تبسُّطهن بالتحدث مع الرجل الأجنبي مثل البائع، وتليين القول له وترقيق الصوت من أجل أن يخفض لها في سعر البضاعة، ومثل هذه المرأة تذكر بتقوى الله وتنبه إلى أنها مهما تضررت بغلاء السلعة فلن يعادل ضررها بذهاب حيائها ودينها بتدللها على البائع لتحفظ عليها بعض مالها.

ومن مظاهر قلة حياء النساء في هذا الزمن تشبههن بالرجال في اللباس وقصات الشعر والمشية والحركة، وهذا فعل مستقبح تأباه الفطرة السليمة والذوق والحياء وحرَّمه الشرع ونهى عنه، والمظاهر في ذلك كثيرة؛ نسأل الله العافية والسلامة مما يفعله السفهاء والسفيهات؛ لأنه إذا انتهكت المحارم وغلبت الشهوات وضاع الحياء فإنه عيش وحال مؤذن بعقوبة وسخط من الله، والنبي - صلى الله عليه وسلم - حين سُئل: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم، إذا كثر الخبث»([20] والخبث: كل معصية عصى الله بها.

ومن المشاهد المؤسفة التي فشت في وسط النساء هذه الأيام: ظاهرة النساء الكاسيات العاريات، أو النساء شبه العاريات وذلك بلبس الملابس شديدة الضيق اللاصقة، أو الملابس المفتحة من الأعلى والأسفل حتى وصلت إلى حدود العورات المغلظة فلم يراعوا دينًا ولا حياء ولا مروءة. والله إن المؤمن حين يرى أمثال هؤلاء النسوة يقشعر بدنه حياء من الله وحياء من الناس ولكن ماذا نقول لأمثال هؤلاء النسوة؟! وماذا نملك لهن وقد نُزع الحياء من قلوبهن وقابلن الناس بوجه وقاح، كما قال الشاعر:

إذا رزق الفتى وجهًا وقاحاً

تقلب في الأمور كما يشاء

فما لك في معاتبة الذي لا

حياء لوجهه إلا العناء

  4- الحياء من النفس:

وهو حياء النفوس العزيزة من أن ترضى لنفسها بالنقص أو تقنع بالدون، ويكون هذا الحياء بالعفة وصيانة الخلوات وحسن السريرة؛ فيجد العبد المؤمن نفسه تستحي من نفسه حتى وكأن له نفسين تستحي إحداهما من الأخرى، وهذا أكمل الحياء؛ فإن العبد إذا استحيى من نفسه فهو بأن يستحي من غيره أجدر.

يقول أحد العلماء: «من عمل في السر عملاً يستحيي منه في العلانية فليس لنفسه عنده قدر».

والحقيقة أن هناك نفسًا أمارة بالسوء تأمر صاحبها بالقبائح؛ قال تعالى على لسان امرأة العزيز: }وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ{ [يوسف: 53]، والنفس الثانية هي النفس الأمارة بالخير الناهية عن القبائح؛ وهي النفس المطمئنة.

قال تعالى: }يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي{ [الفجر: 27-30].

إذن فعلينا أن نجاهد أنفسنا فلا نجعلها تفكر في الحرام ولا تعمله، حتى تكون من النفوس المطمئنة التي تبشر بجنة عرضها السموات والأرض.

يقول تعالى: }وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ{ [العنكبوت: 69].

نسأل الله العزيز القدير ذا العرش المجيد أن يعصمنا من قبائحنا، وأن يستر عوراتنا ويغفر زلاتنا ويقينا شرور أنفسنا وشر الشيطان وشركه؛ اللهم إنا نعوذ بك من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن؛ سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



([1]) البخاري (7/196).

([2]) البخاري (1/75)، مسلم (2/4).

([3]) البخاري (12/151)، مسلم (2/6).

([4]) مسلم (2/7).

([5]) البخاري (12/151)، مسلم (2/6).

([6]) البخاري (14/38).

([7]) البخاري (1/308)، مسلم (3/182).

([8]) البخاري (10/114)، مسلم (14/127).

([9]) صحيح الجامع رقم (7054).

([10]) صحيح الجامع.

([11]) مسند الإمام أحمد (6/537).

([12]) مسند الإمام أحمد (1/640)، والترمذي (6/311).

([13]) الإسراء: (36).

([14]) مسلم (7/85).

([15]) مسلم (7/77).

([16]) النسائي (4/301).

([17]) صحيح الجامع، أخرجه الطبراني في الكبير.

([18]) مسند الإمام أحمد (5/624).

([19]) فتح الباري (12/428).

([20]) البخاري (7/28)، مسلم (8/4).