وظائف رمضان
التصنيفات
الوصف المفصل
- فَضْلُ شَهْرِ رَمضانَ
- فصل في فضل الجودِ في رمضان وتلاوةِ القرآن
- فصلٌ في فَضْلِ العشِرِ الأواخرِ من رمضانَ
- فَصْلُ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ
- فَصْلٌ في أرْجَى ليلة لها
- فصل في العمل في ليلة القدر
- فصْلٌ في: ودَاعِ رَمضانَ
- تَتِمَّةٌ: في صيام ستٍّ من شوّال
وظائف رمضان
مُلَخَّصَهٌ مِن لَطَائِف المعَارِفِ
للشّيخِ زَينْ الدِّيِن عَبدِ الرحَمن بنِ رَجَبِ الحَنَبَليِّ
مع زيادات
للشَّيخِ عَبد الرحمَن بن محمَد بن قاسم
رحمه الله تعالى
1312هـ - 1392 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ الذي خصَّ بالفضلِ والتَّشرِيفِ شهرَ رمضانَ، وأَنزلَ فيه القرآنَ هُدى للناسِ وبيِّناتٍ من الهدى والفُرقانِ، وخَصَّهُ بالعفو والغفرانِ، واخْتَصَّ منِ اصطَفاهُ بفضلٍ منه وامتنانٍ، وأيقَظَ بالوعظِ من وفَّقهُ في هذا الموسم العظيمِ الشأنِ.
وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ ذُو الفضلِ والإحسانِ. وأشهدُ أن محمدًَّا عبدهُ ورسُولهُ سيدُ ولدِ عَدنانِ، صلّى اللهُ عليه وعلَى آلِهِ وأصحابِهِ وسلّم تسليمًا كَثيرًا.
أمَّا بعدُ: فهذا مختصرٌ لطيفٌ في وظائفِ هذا الموسمِ الشريف، يبعثُ الهمَمَ إلى التَّعرُّضِ للنَّفَحَاتِ، ويُثيرُ العزمَ إلى أشرفِ الأوقاتِ.
واللهَ أسألُ أن يوفِّقَنَا لما يُحبُّ مِنَ الطاعاتِ، وأن يضاعِفَ لنا الحسناتِ ويغفرَ لنا السيئاتِ، ويستجيبَ لنا الدعواتِ، إِنه جوادٌ كريم.
عَبدالرحمَن بن محمَد بن قاسِم
فَضْلُ شَهْرِ رَمضانَ
عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: كان رسولُ الله ﷺ يُبشِّرُ أصحابَهُ، يقولُ: «قد جاءَكم شهر رمضان شهرٌ مباركٌ، كتبَ اللهُ عليكم صيامَهُ، فِيه تُفتَّحُ أبوابُ الجنّةِ، وتُغلقُ فيه أبوابُ الجحيمِ، وتُغلُّ فيه الشياطينُ، فيه ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شهرٍ، من حُرِمَ خيرَها فقد حُرِم» رَواهُ أحمدُ والنسائيُّ. وَرُويَ: «أتاكُم رمضانُ سيدُ الشهورِ، فمرحبًا به وأهلاً».
جاء شهرُ الصيامِ بالبركاتِ | فأكرِمْ به مِنْ زائرٍ هُوَ آتِ |
وعن عبادَ مرفوعًا: «أتاكمُ رمضانُ، شهر بركةٍ يغشاكُمُ اللهُ فيهِ، فيُنزِّلُ الرَّحمةَ، وَيحُطُّ الخطايَا، ويَستجيبُ فيه الدعاءَ، ينظرُ اللهُ إلى تَنَافُسِكمُ فيهِ، ويُباهِيْ بكمُ ملائِكتَهُ، فأرُوا اللهَ مِنْ أنفُسِكم خيرًا، فإِنَّ الشقيَّ من حُرِمَ فيه رحمةَ اللهِ» رواهُ الطبرانيُّ، ورُوَاتُهُ ثِقاتٌ.
وفي الصحيحينِ عن أبي هُريرَةَ رضي الله عنه عن النَّبيِّ ﷺ قال: «إذا دَخَلَ رمضانُ فُتِّحَت أبوابُ السماءِ، وغُلِّقَتْ أبوابُ جَنَّم، وسُلسِلتِ الشياطينُ». ولمسلمٍ: «فُتِّحَتْ أبوابُ الرَّحمةِ»، وله أيضًا عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه مرفوعًا: «إذا جاءَ رمضانُ فُتِّحتْ أبوابُ الجنةِ وأغلِقتْ أبوابُ النار، وصُفدِّتِ الشياطينُ».
وعنهُ رضي الله عنه: أنَّ رسول اللهِ ﷺ قالَ: «إِذا كان أوَّلُ ليلةٍ من رمضانَ صُفِّدتِ الشياطينُ ومَردَةُ الجنِّ، وغُلِّقت أبوابُ النيرانِ، فلم يفتح منها بابٌ، وفُتِّحتْ أبوابُ الجنةِ فلم يغلقْ منها باب، ويُنادي منادٍ: يا باغيَ الخير أَقبلْ، ويا باغيَ الشرِّ أقصِر، وللهِ عتقاءُ من النارِ، وذلك كل ليلة» رواهُ الترمذيُّ والنِسائيُ والحاكم.
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ قال: «أعطيت أمتي في شهر رمضان خمس خصال، لم تعطها أمة قبلهم: خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا، ويزين الله ﷻ كل يوم جنته، ثم يقول: يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤونة والأذى، ويصير إليك. وتصفد فيه مردة الجن، فلا يخلصون فيه إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره، ويغفر لهم في آخر ليلة، قيل: يا رسول الله، أهي ليلة القدر؟ قال: لا، ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله» رواه أحمد.
وعن سلمان رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله ﷺ في آخر يوم من شعبان، فقال: «يا أيها الناس، قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة القدر خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعا، من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزداد فيه الرزق، ومن فطر فيه صائمًا كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء» قالوا: يا رسول الله، ليس كلنا يجد ما يفطر به الصائم، قال رسول الله ﷺ: «يعطي الله هذا الثواب لمن فطر صائمًا على مذقة لبنٍ أو تمرةٍ، أو شربةِ ماء.
ومن سقى صائمًا سقاه الله ﷻ من حوضي شربة لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة، ومن خفف عن مملوكه فيه غفر الله له، وأعتقه من النار حتى يدخل الجنة. وهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار.
فاستكثروا فيه من أربع خصال: خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غناء بكم عنهما، أما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم: فشهادة أن لا إله إلا الله وتستغفرونه، وأما اللتان لا غناء بكم عنهما: فتسألون الله الجنة وتعوذون به من النار» رواه ابن خزيمة والبيهقي وغيرهما.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ قال: «أظلكم شهركم هذا، بمحلوف رسول الله ﷺ ما مر بالمسلمين شهر خير لهم منه، ولا مر بالمنافقين شهر شر لهم منه، بمحلوف رسول الله ﷺ إن الله ليكتب أجره ونوافله قبل أن يدخله، ويكتب وزره وشقاءه قبل أن يدخله. وذلك أن المؤمن يُعدُّ فيه القوت والنفقة للعبادة، ويعدُّ فيه المنافق اتباع غفلات المؤمنين واتباع عوراتهم. فغنم يغتنمه المؤمن».
وقال بندار في حديثه: «فهو غنم للمؤمنين، يغتنمه الفاجر» رواه ابن خزيمة في صحيحه وغيره.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن الجنة لتبخَّرُ([1]) وَتُزَيَّنُ من الحول إلى الحول لدخول شهر رمضان.
فإذا كانت أول ليلة من شهر رمضان هبت ريح من تحت العرش يقال لها: المثيرة، فتصفق أوراق أشجار الجنان، وحلق المصاريع. فيسمع لذلك طنين لم يسمع السامعون أحسن منه. فتبرز الحور العين، حتى يقفن بين شرف الجنة فينادين: هل من خاطب إلى الله فيزوجُه؟ ثم يقلن الحور العين: يا رضوان الجنة، ما هذه الليلة؟ فيجيبهن بالتلبية. ثم يقول: هذه أول ليلة من شهر رمضان، فتحت أبواب الجنة على الصائمين من أمة محمد ﷺ»، رواه البيهقي وغيره.
وعن عمرو بن مرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وصليت الصلوات الخمس، وأديت الزكاة، وصمت رمضان وقمته، فممن أنا؟ قال: «من الصديقين والشهداء» رواه ابن خزيمة وابن حبان.
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي ﷺ كان يدعو ببلوغ رمضان، فكان إذا دخل شهر رجب، قال: «اللهم بارك لنا في رجب وشعبان، وبلغنا رمضان» رواه الطبراني وغيره.
- وقال عبدالعزيز بن مروان: كان المسلمون يقولون عند حضور شهر رمضان: اللهم قد أظلنا شهر رمضان، فسلمه لنا وسلمنا له، وارزقنا صيامه وقيامه، وارزقنا فيه الجد والاجتهاد والقوة والنشاط، وأعذنا فيه من الفتن.
وقال معلى بن الفضل: كانوا يدعون الله ستة أشهر: أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر: أن يتقبله منهم.
وقال يحيى بن أبي كثير: كان من دعائهم: «اللهم سلِّمني إلى رمضان وسلم لي رمضان، وتسلَّمه مني متقبلا».
بلوغ شهر رمضان، وصيامه نعمة عظيمة، ويدل عليه حديث الثلاثة الذين استشهد اثنان منهم، ومات الثالث بعدهما على فراشه، فرؤي في المنام سابقًا لهما، فقال النبي ﷺ: «أليس صلى بعدهما كذا وكذا صلاة، وأدرك رمضان فصامه؟ فوالذي نفسي بيده إن بينهما لأبعد مما بين السماء والأرض» رواه أحمد وغيره.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ودخل رمضان، يا رسول الله، فما أقول: قال: «قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني».
جاء رمضان، فيه الأمان والعتق والفوز بسكنى الجنان. من لم يربح في هذا الشهر ففي أي وقت يربح؟ من لم يقرب فيه لمولاه فهو على بعده لا يبرح، من رحم في هذا الشهر فهو المرحوم، ومن حرم خيره فهو المحروم.
أتى رمضان مزرعة العباد | لتطهير القلوب من الفساد | |
فأدِّ حقوقه قولا وفعلا | وزادَك فاتخذه للمعاد | |
فمن زرع الحبوب وما سقاها | تأوه نادمًا عند الحصاد |
وعن أبي جعفر بن علي رضي الله عنه ، قال: كان رسول الله ﷺ إذا استهل شهر رمضان استقبله بوجهه، ثم يقول: «اللهم أَهِِلَّه علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والعافية المجللة، ودفاع الأسقام، والعون على الصلاة والصيام، وتلاوة القرآن. اللهم سلمنا لرمضان وسلمه لنا، وتسلمهُ منا، حتى يخرج رمضان وقد غفرتَ لنا ورحمتنا وعفوت عنا» أخرجه ابن عساكر.
وروى ابن النجار عن الحارث الأعور، عن علي رضي الله عنه ، أنه كان إذا نظر إلى الهلال قال: اللهم إني أسألك خير هذا الشهر، وفتحه ونصره وبركته، ورزقه ونوره وظهوره، وأعوذ بك من شره وشر ما بعده.
فصل
في فضل صوم شهر رمضان
في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي ﷺ قال: «كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف. قال الله تعالى: إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك».
وفي رواية: «كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي».
وفي رواية للبخاري: «لكل عمل كفارة، والصوم لي، وأنا أجزي به».
ولأحمد: «كل عمل ابن آدم كفارة إلا الصوم، والصوم لي، وأنا أجزي به».
فعلى الرواية الأولى: يكون استثناء الصوم من الأعمال المضاعفة، فتكون الأعمال تضاعفُ بعشر أمثالِها إلى سبعمائَةِ ضعفٍ إلا الصوم، فإنه لا ينحَصرُ تضعيفه، بل يضاعِفه الله أضعافًا كثيرةً. فإن الصيام من الصبر، وقد قال الله تعالى: } إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ {.
ولهذا روي عن النبي ﷺ: أنه قال: «شهر رمضان شهر الصبر» وعنه أنه قال: «الصوم نصف الصبر» رواه الترمذي.
والصبر ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر عن محارم الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة، وتجتمع الثلاثة كلها في الصوم. وتقدم في حديث سلمان: «هو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة» وروى الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنه مرفوعًا: «الصيام لله، لا يعلم ثوابه إلا الله».
واعلم أن مضاعفة الأجر للأعمال تكون بأسباب.
منها: شرف المكان المعمول فيه ذلك العمل، كالحرم، ولذلك تضاعف الصلاة في مسجديْ مكة والمدينة، كما ثبت في الصحيح «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام» وفي رواية «فإنه أفضل» ولذلك روي أن الصيام يضاعف بالحرم. وفي سنن ابن ماجه بإسناد ضعيف. عن ابن عباس مرفوعًا: «من أدرك رمضان بمكة فصامه وقام منه ما تيسر: كتب الله له مائة ألف شهر رمضان فيما سواه» وذكر له ثوابًا كثيرًا.
ومنها: شرف الزمان، كشهر رمضان وعشر ذي الحجة وتقدم في حديث سلمان في فضل شهر رمضان «من تطوع فيه بخصلة من خصال الخير، كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه».
وفي الترمذي عن أنس رضي الله عنه ، سئل النبي ﷺ: أي الصدقة أفضلُ؟ قال: «صدقة في رمضان».
وفي الصحيحين عنه ﷺ قال: «عمرة في رمضان، تعدل حجة» أو قال: «حجة معي»، وروي في حديث «أن عمل الصائم مضاعف».
وذكر ابن أبي مريم عن أشياخه: أنهم كانوا يقولون: إذا حضر شهر رمضان فانبسطوا فيه بالنفقة، فإن النفقة فيه مضاعفة كالنفقة في سبيل الله، وتسبيحةٌ أفضل من ألف تسبيحة في غيره.
قال النخعي: صوم يوم من رمضان أفضل من ألف يوم، وتسبيحةٌ فيه أفضل من ألف تسبيحة، وركعة فيه أفضل من ألف ركعة.
فلما كان الصيام في نفسه مضاعفًا أجره بالنسبة على سائر الأعمال، كان صيام شهر رمضان مضاعفًا على سائر الصيام، لشرف زمانه، وكونه هو الصوم الذي فرضه الله على عباده، وجعل صيامه أحد أركان الإسلام التي بني الإسلام عليها.
وقد يضاعف الثواب بأسباب أخر، منها: شرف العامل عند الله وقربه منه، وكثرة تقواه، كما ضوعف أجر هذه الأمة على أجور من قبلهم من الأمم. وأما على الرواية الثانية: فاستثناء الصيام يرجع إلى أن سائر الأعمال للعباد، والصيام اختصه الله لنفسه كما يأتي، وأما الرواية الثالثة: فالاستثناء يعود إلى التكفير بالأعمال.
ومن أحسن ما قيل في ذلك: ما قاله سفيان، قال: هذا من أجود الأحاديث وأحكمها «إذا كان يوم القيامة يحاسب الله عبده، ويؤدي ما عليه من المظالم من سائر عمله، حتى لا يبقى إلا الصوم، فيتحمل الله ﷻ ما بقي من المظالم، ويدخله بالصوم الجنة» رواه البيهقي وغيره.
وعلى هذا فيكون المعنى: أن الصيام لله ﷻ، فلا سبيل لأحد إلى أخذ أجره من الصيام، بل أجره مدخر لصاحبه عند الله، وحينئذ فقد يقال: إن سائر الأعمال قد يكَّفرُ بها ذنوب صاحبها، فلا يبقى له أجر، فإنه روي: «إنه يوازن يوم القيامة بين الحسنـات والسيئـات، ويقص بعـضها من بعض. فإن بقي حسنة دخل بها صاحبها الجنة»، وفيه حديث مرفوع فيحتمل أن يقال في الصوم: إنه لا يسقط ثوابهُ بمقاصة ولا غيرها، بل يوفَّر أجرهُ لصاحبه حتى يدخل الجنة، فيوفى أجرُه فيها.
وأما قوله: «فإنه لي» فإن الله خص الصيام بإضافته إلى نفسه دون سائر الأعمال؛ وذكر في معنى ذلك وجوه، من أحسنها وجهان:
أحدهما: أن الصيام مجرد ترك حظوظ النفس وشهواتها الأصلية، التي جبلت على الميل إليها لله ﷻ ولا يوجد ذلك في عبادة أخرى غير الصيام. فإذا اشتد توقان النفس إلى ما تشتهيه مع قدرتها عليه، ثم تركته لله في موضع لا يطلع عليه إلا الله: كان ذلك دليلا على صحة الإيمان.
فإن الصائم يعلم أن له ربا يطلع عليه في خلوته، وقد حرم عليه أن يتناول شهواته المجبول على الميل إليها في الخلوة، فأطاع ربه وامتثل أمره، واجتنب نهيه، خوفًا من عقابه ورغبة في ثوابه، فشكر الله له ذلك، واختص لنفسه عمله هذا من بين سائر أعماله، ولهذا قال بعد ذلك «إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي» قال بعض السلف: طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعد غيب لم يره.
لما علم المؤمن الصائم أن رضى مولاه في ترك شهواته، قَدَّمَ رضى مولاهُ على هواه، فصرات لذتُه في ترك شهواتِه لله، لإيمانِه باطلاع الله وأن ثوابَه وعقابَه أعظمُ من لذةٍ يتناولُها في الخلوة، إيثارًا لرضى ربه على هوى نفسه، بل المؤمن يكره ذلك في خلوته أشد من كراهته لألم الضرب.
ولهذا كثير من المؤمنين لو ضرب على أن يفطر في رمضان لغير عذر لم يفعل، لعلمه بكراهية الله تعالى لفطره في هذا الشهر، وهذا من علامات الإيمان: أن يكره المؤمن ما يلائمه من شهواته إذا علم أن الله يكرهه، فتصير لذته فيما يرضي مولاه، وإن كان مخالفًا لهواه.
وإذا كان هذا فيما حُرَّمَ لعارض الصوم: من الطعام والشراب، ومباشرة النساء، فينبغي أن يتأكد ذلك فيما حُرِّمَ على الإطلاق، كالزنا وشرب الخمر، وأخذ أموال الناس بالباطل، وهتك الأعراض بغير حق، وسفك الدماء المحرمة، فإن هذا يسخط الله على كل حال، وفي كل مكان وزمان.
الوجه الثاني: أن الصيام سرٌّ بين العبد وبين ربه لا يطلعُ عليه غيره، لأنه مركبٌ من نيةٍ باطنةٍ لا يطلعُ عليها إلا الله، وتركٍ لتناولِ الشهوات التي يستخفى بتناولها في العادة، ولذلك قيل: لا تكتبه الحفظة وقيل: إنه ليس فيه رياء.
وقد يرجع إلى الأول، فإن من ترك ما تدعوه نفسه إليه لله ﷻ، بحيث لا يطلع عليه غير من أمره ونهاه: دلَّ على صحة إيمانه، والله تعالى يحبُّ من عباد أن يعاملوه سرًا بينهم وبينهُ بحيثُ لا يطلعُ على معاملتهم إياهُ سواهُ.
وقوله: «ترك شهوتهُ وطعامه من أجلي» فيه إشارةٌ إلى ما ذكر من أن الصائمين يتقربون إلى الله تعالى، بترك ما تشتهيه نفوسهم من الطعام والشراب والنكاح، وهذه أعظمُ شهوات النفس.
وفي التقرب إلى الله بترك هذه الشهوات بالصيام فوائد.
منها: كسرُ النفس، فإن الشبع والرِّيَّ ومباشرة النساء، تحملُ النفس على الأشَر والبطرِ والغفلةِ.
ومنها: تخليِّ القلب للفكر والذكر، فإن تناول هذه الشهوات يقسَّي القلب ويُعميه، ويحولُ بين القلب والذكر والفكر، ويستدعي الغفلة، وخلوة البطن من الطعام والشراب ينورُ القلب، ويوجبُ رقَّته، ويزيلُ قسوتهُ، ويُخْليهِ للذكر والفكر.
ومنها: أن الغني يعرفُ قدر نعمة الله عليه، بإقداره له على ما منعهُ كثيرًا من الفقراء، من فضول الطعام والشراب، والنكاح، فإنه بامتناعه من ذلك في وقت مخصوص، وحصول المشقة له بذلك، يتذكرُ به مَنْ مُنع منْ ذلك على الإطلاق، فيوجب له ذلك شكر نعمة الله عليه بالغنى، ويدعوه إلى رحمة أخيه المحتاج، ومواساته بما يمكنُ من ذلك.
ومنها: أن الصيام يضيق مجاري الدم، التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم. فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فتسكنُ بالصيام وساوسُ الشيطان، وتنكسرُ سورةُ الشهوة والغضب، ولهذا جعل النبي ُّ ﷺ الصوم وجاءً، لقطعه عن شهوة النكاح.
واعلم أنه لا يتمُّ التقربُ إلى الله تعالى بترك هذه الشهوات المباحة، في غير حالة الصيام، إلا بعد التقرب إليه بترك ما حرم الله عليه في كلِّ حالٍ: من الكذب، والظُّلم، والعُدوان، على الناس في دمائهم، وأموالهم، وأعراضهم، ولهذا قال ﷺ: «من لم يدَعْ قولَ الزور والعمل به فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامه وشرابه» أخرجه البخاري. وفي حديث آخر: «ليس الصيامُ من الطعام والشراب، إنما الصيامُ من اللغو والرفث» قال ابن المديني: على شرط مسلم.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «الصيامُ جُنَّةٌ، فإذا كان يومُ صومِ أحدكم، فلا يَرْفُثُ ولا يفسق، ولا يجهل، فإن سابَّه أحدٌ فليقل: إني امرؤٌ صائمٌ». «الجُنةُ»: ما يستر صاحبه، ويحفظه من الوقوع في المعاصي. «والرَّفثُ»: الفُحْشُ، ورديءُ الكلامِ.
ولأحمد والنسائي عن أبي عُبيدة مرفوعًا: «الصيامُ جُنّةٌ ما لم يُخرِّقْها». وروى الطبراني عن أبي هريرة مرفوعًا: «إن الصيام جُنَّةٌ ما لم يُخرِّقْها، قيل: بم يُخرّقْها؟ قال بكذب أو غيبة» وروي عن أبي هريرة مرفوعًا: «الصائمُ في عبادة، ما لم يغتب مسلمًا أو يؤذه» وعن أنس: «ما صام من ظلَّ يأكلُ لحوم النَّاس».
قال بعض السلف: أهونُ الصيام: تركُ الطعام والشراب. وقال جابرٌ: إذا صُمت فليصم سمعُك وبصرُك ولسانُك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقارٌ وسكينةٌ، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء.
إذا لم يكنْ في السَّمع مني تصاوُنٌ | ||
وفي بصري غَضٌّ، وفي منطقي صمتُ | ||
فحظِّي إذًا من صومي الجوعُ والظمأ | ||
فإن قلتُ: إني صمتُ يومي فما صمتُ | ||
وقال النبي ﷺ: «رُبَّ صائمٍ حظُّه من صيامه الجوع والعطشُ، ورب قائمٍ حظهُ من قيامه السهرُ».
وسرُّ هذا: أن التقربَ إلى الله بتركِ المباحات، لا يكملُ إلاّ بعد التقرب إلى الله بترك المباحات، لا يكمل إلا بعد التقرب إليه بترك المحرمات، فمن ارتكب المحرمات، ثم تقرب إلى الله بترك المباحات: كان بمثابة من يتركُ الفرائض، ويتقربُ بالنوافل.
وفي مسند أحمد: أن امرأتين صامتا في عهد رسول الله ﷺ، فكادتا أن تموتـا من العـطش، فذُكِرَ ذلك للنبي ﷺ، فأعرض عنهما، ثم ذكرتا له، فدعاهما، فأمرهما، أن تتقيئآ، فقاءتا ملء قدحٍ قيحًا، ودمًا وصديدًا، ولحمًا عبيطًا، فقال النبي ﷺ: «إن هاتين صامتا عمّا أحل الله لهما، وأفطرتا على ما حرَّمَ اللهُ عليهما، جلستْ إحداهُما إلى الأخرى، فجعلتا تأكلان لحوم الناس».
وقولُه ﷺ: «للصائم فرحتان: فرحةٌ عند فطره، وفرحة عند لقاء ربِّه» أمَّا فرحةُ الصائم عند فطره: فإن النفوس مجبولةٌ على الميل إلى ما يلائمُها، من مطعمٍ، ومشرب، ومنكحٍ، فإذا مُنعت من ذلك في وقت من الأوقات، ثم أُبِّيح لها في وقتٍ آخر، فرحت بإباحة ما مُنعت عنه، خصوصًا عند اشتداد الحاجة إليه.
فإن النفوس تفرح بذلك طبعًا، فإن كان ذلك محبوبًا لله، كان محبوبًا شرعًا، والصائمُ عند فطره كذلك، فكما أن الله حرَّم على الصائم تناوُل هذه الشهوات، في نهار الصيام، فقد أذن له فيها في ليل الصيام، بل أحبَّ منه المبادرة إلى تناولها، في أول الليل وآخره، بل أحبُّ عباده إليه أعجلُهُم فطرًا، لما في الصحيحين عن سهلٍ مرفوعًا: «لا يزالُ الناسُ بخيرٍ ما عجَّلوا الفطر».
وللترمذي عن أبي هريرة مرفوعًا: «قال الله ﷻ: أحبُّ عبادي إليَّ أعجلهم فطرًا» وروى أحمد عن أبي ذرّ مرفوعًا: «لا تزال أمتي بخير ما عجّلوا الفطر، وأخرُوا السّحور».
وروى الحاكمُ، وابن عساكر عن ابن عمر، وأنسٍ مرفوعًا: «من فقه الرجل تعجيل فطره، وتأخيرُ سحوره، وتسحروا فإنَّه الغذاءُ المُباركُ، واللهُ وملائكتُه يُصلون على المتسحرين».
فالصائمُ ترك شهواته لله بالنهار، تقرَّبا إليه وطاعةً له، ويبادرُ إليها في الليل تقرُّبًا إلى الله وطاعةً له، فما تركها إلا بأمر ربّه. ولا عاد إليها إلا بأمر ربّه، فهو مطيعٌ له في الحالتين، فإذا بادر الصائمُ إلى الفطر تقرُّبًا إلى مولاه، وأكل وشرب وحمد الله، فإنه يُرجى له المغفرةُ وبُلوُغُ الرّضوان بذلك.
وفي الحديث: «إن الله ليرضى عن العبد يأكلُ الأكلة فيحمدُه عليها، ويشربُ الشربة فيحمده عليها»، وربما استجيب دعاؤه عند ذلك، كما في الحديث المرفوع: «إن للصائم عند فطره دعوةً لا تردُّ».
ولأحمد والترمذي عن أبي هريرة مرفوعًا: «ثلاثةٌ لا ترد دعوتُهم: الصائمُ حتى يفطر... الحديث» وعن ابن عمر مرفوعًا «لكلِّ عبدٍ صائمٍ دعوةٌ مستجابةٌ عند إفطاره، أعطيها في الدنيا، أو ادّخرت له في الآخرة».
ورُوي عن أنسٍ وابن عباسٍ رضي الله عنهم: كان النبي ﷺ إذا أفطر قال: «اللهم لك صمتُ وعلى رزقك أفطرتُ، فتقبَّل منِّي إنك أنت السمعي العليمُ»، ورُوي عن ابن عمر مرفوعًا: كان إذا أفطر قال: «ذهب الظَّمأ، وابتلَّت العروقُ، ووجب الأجرُ إن شاء الله تعالى» وروي عنه أنه كان إذا أفطر يقولُ: «اللهم يا واسع المغفرة، اغفر لي».
وإن نوى بأكله وشُربه تقويةَ بدنه، على القيام والصيام، كان مُبابًا على ذلك، كما أنه إذا نوى بنومه في الليل والنهار، التقوِّي على العمل كان نومُه عبادةً. وفي حديثٌ مرفوعٌ: «نوم الصائم عبادةٌ، وصمتُه تسبيحٌ، وعملهُ مضاعفٌ، ودعاؤه مستجابٌ، وذنبهُ مغفورٌ» رواه البيهقي.
قال أبو العالية: الصائمُ في عبادةٍ ما لم يغتب أحدًا، وإن كان نامًا على فراشه، رواه عبدُ الرزاق.
فالصائم في ليله ونهاره في عبادةٍ، ويستجابُ دعاؤه في صيامه وعند فطره؛ فهو في نهاره صائمٌ صابرٌ، وفي ليله طاعمٌ شاكرٌ. وفي حديث رواه الترمذي وغيرهُ: «الطاعمُ الشاكرُ بمنزلةِ الصائم الصابر»، ومن فهم هذا لم يتوقف في معنى: فرح الصائِم عند فطره. فإن فطرهُ على الوجه المشار إليه، من فضل الله ورحمته، فيدخل في قوله تعالى: } قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ {، ومن شرط ذلك: أن يكون فطره على حلالٍ، فإن كان فطره على حرام كان ممَّن صام عما أحلَّ الله، وأفطر على ما حرَّم اللهُ، ولم يستجب له دعاءٌ.
وأما فرحُهُ عند لقاء ربه: فبما يجدُهُ عند الله من ثواب الصيام مُدَّخرًا، فيجُده أحوج ما كان إليه. كما قال تعالى: } وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا {.
ولابن خُزيمة: «فإذا لقي الله ﷻ، فرح بصومه»، وفي المسند عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال: «ليس من عمل يومٍ إلا يختمُ عليهِ».
وعن عيسى u قال: إن هذا الليلَ والنَّهار خزانتان، فانظرُوا ماذا تضعون فيهما، فالأيام خزائنُ للناس، ممتلئةٌ بما خزنوه فيها، من خير وشر. وفي يوم القيامة: تُفْتَحُ هذه الخزائنُ لأهلها، فالمتقُون يجدون في خزائنهم: العزة والكرامة، والمذنبُون يجدون في خزائنهم: الحسرة والندامة.
الصائمون على طبقتين:
إحدهما: من ترك طعامهُ وشرابهُ وشهوته لله ﷻ، يرجو عنده عوض ذلك في الجنة، فهذا قد تاجر مع الله وعامله، والله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ولا يخيبُ معه من عامله، بل يربحُ عليه أعظم الربح.
وقال ﷺ لرجل: «إنك لن تدع شيئًا اتقاء الله: إلا آتاك الله خيرًا منه» رواه أحمد. فهذا الصائمُ يُعطى في الجنة ما شاء من طعام وشراب ونسـاء، قال تعالى: } كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ { قال مجاهدٌ وغيره: نزلت في الصائمين.
وقال يعقوبُ بن يوُسف: بلغنا أن الله تعالى يقول لأوليائه يوم القيامة: يا أوليائي، طالما نظرت إليكم في الدنيا، وقد قَلَصَتْ شفاهكم عن الأشربة، وغارت أعينكم، وخفقت بطونكم، كونوا اليوم في نعيمكم، وتعاطوا الكأس فيما بينكم، وكلوا واشربوا هنيئًا بما أسلفتم في الأيام الخالية.
وقال الحسن: تقول الحوراء لولي الله، وهو متكئ معها على نهر العسل، تعاطيه الكأس: إن الله نظر إليك في يوم صائفٍ بعيد ما بين الطرفين، وأنت في ظمأ هاجرةٍ من جهد العطش، فباهى بك الملائكة، وقال: انظروا إلى عبدي، ترك زوجته وشهوته، وطعامه وشرابه من أجلي، رغبة فيما عندي، أشهدكم أني قد غفرت له، فغفر لك يومئذ، وزوَّجنيك.
وفي الصحيحين عن النبي ﷺ: «إن في الجنة بابًا يقال له الريانُ، يدخلُ منه الصائمون، لا يدخل منه غيرهم» وفي رواية: «إذا دخلوا أُغلق» وللطبراني عن سهل مرفوعًا: «لكل باب من أبواب البرّ بابٌ من أبوابِ الجنة، وإن باب الصيام يُدعى الريانُ».
وله في حديث عبدالرحمن بن سمرة، عن النبي ﷺ في منامه الطويل: «ورأيت رجلًا من أمتي يلهثُ عطشًا، كلما دنا من حوضٍ طُرد، فجاءه صيامُ رمضان فسقاه وأرواه».
وروى ابن أبي الدنيا: أن النبي ﷺ: «بعث أبا موسى على سريةٍ في البحر، فهتف بهم هاتفٌ: يا أهل السفينة، قفوا أخبركم بقضاء الله على نفسه: أن من عطَّش نفسه في يومٍ حارٍّ كان حقًا على الله أن يُرويه يوم القيامة»، وللبزّار: «في يومٍ صائفٍ، سقاهُ اللهُ يوم العَطشِ».
وللبيهقيِّ عن عليّ مرفوعًا: «من منعه الصيامُ من الطعام والشراب، أطعمه اللهُ من ثمار الجنة، وسقاهُ من شرابها». وذكر ابن أبي الدنيا عن أنس مرفوعًا: «الصائمون ينفحُ من أفواههم ريح المسك، وتوضع لهم مائدة تحت العرش، يأكلون منها والناسُ في الحساب». وعن أنس موقوفًا: «إن لله مائدةً لم تر مثلها عينٌ، ولم تسمع أُذُنٌ ولا خطر على قلب بشر، لا يقعدُ عليها إلا الصائمون».
وعن بعض السلف قال: بلغنا أنه يوضعُ لهم مائدةٌ يأكلون منها والناسُ في الحساب، فيقولون: يا ربَّنا نحن نحاسبُ وهؤلاء يأكلون؟ فيقال: إنهم طالما صامُوا وأفطرتُم، وقاموا ونُمتمْ. ورأى بعض العارفين في منامه، كأنه أدخل الجنة، فسمع قائلاً يقول له: هل تذكر أنك صمت لله يومًا قط؟ فقال: نعم؛ قال: فأخذتني صواني النثار من الجنة. ومن ترك في الدنيا لله طعامًا وشرابًا مدة يسيرةً، عوضهُ اللهُ عنه طعامًا وشرابًا لا ينفدُ، وأزواجًا لا تَمُتْنَ أبدًا.
شهرُ رمضان: فيه يُزوجُ الصائمون. في الحديث: «إن الجنة لتزخرف وتُبَخَّرُ من الحول إلى الحول لقدوم شهر رمضان. فتقولُ الحورُ: يا رب اجعل لنا في هذا الشهر، من عبادك أزواجًا، تقرُّ أعيُننا بهم، وتقرُّ أعيُنُهم بنا» وفي حديث آخر: «إن الحور تنادي في شهر رمضان: هل من خاطب إلى الله فيزوجُهُ؟». مهورُ الحور العين: طولُ التجهد، وهو: حاصل في شهر رمضان أكثر من غيره.
والثانيةُ: من الصائمين من يصوم في الدنيا عما سوى الله، فيحفظُ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ويذكر الموت والبلى، ويريدُ الآخرة ويترك زينة الدنيا، فهذا: عيدُ فطره يوم لقاء ربه، وفرحه برؤيته. يا معشر الصائمين: صوموا اليوم عن شهوات الهوى، لتدركوا عيد الفطر يوم اللقاء، لا يطولنَّ عليكم الأملُ، باستبطاء الأجل، فإن معظم نهار الصيام قد ذهب، وعيد اللقاء قد اقترب.
قوله: «ولخَلُوفُ فم الصائم: أطيب عند الله من ريح المسك» خلُوفُ الفم: رائحةُ ما يتصاعدُ منه من الأبخرة، لخلوِّ المعدة من الطعام بالصيام، وهي رائحةٌ مستكرهةٌ في مشامِّ الناس في الدنيا، لكنَّها أطيبُ عند الله من ريح المسك، حيث كانت ناشئةً عن طاعته وابتغاء مرضاته. وفيه معنيان، أحدُهما: أن الصيام لما كان سرًّا بين العبد وبين ربه في الدنيا: أظهره اللهُ في الآخرة علانية للخلق، ليشتهر بذلك أهلُ الصيام، ويعرفُون بصيامهم بين الناس، جزاءً لإخفاء صيامهم في الدنيا.
وعن أنس رضي الله عنه مرفوعًا: «يخرجُ الصائمون من قبورهم يُعرفون بريح أفواههم، ريحُ أفواههم أطيبُ من ريح المسك» رواه الأصبهاني، وفي إسناده ضعف. قال مكحول: يُروَّحُ أهل الجنة برائحةٍ، فيقولون: ربنا ما وجدنا ريحًا مُنْذُ دخلنا الجنة، أطيب من هذه الرائحة، فيقالُ: هذه رائحةُ أفواه الصائمين.
وقد تفوح رائحةُ الصيام في الدنيا، فتستنشق قبل الآخرة، وهي نوعان، أحدُهما: ما يدركُ بالحواسِّ الظاهرة، كان عبدُالله بنُ غالبٍ من العباد المجتهدين في الصلاة والصيام، فلما دُفنَ كان يفوحُ من تراب قبره رائحة المسك، فرُؤي في المنام، فسُئل عن تلك الرائحة التي توجدُ من قبره؟ فقال: تلك رائحة التلاوة والظمأ.
والثاني ما تَسْتَنْشِقُهُ الأرواحُ والقلوب، فيوجبُ ذلك للصائمين المخلصين المودَّةَ والمحبةَ في قلوب المؤمنين؛ وفي حديث الحارث الأشعري عن النبي ﷺ: «أن زكريا عليه السلام، قال لبني إسرائيل: وآمُرُكم بالصيام، فإن مثل ذلك كمثل رجلٍ في عصابةٍ مَعَهُ صُرَّةٌ فيها مسكٌ، فكلُّهم يعجبُه ريحهُ، وإن ريح الصائم أطيبُ عند الله من ريح المسك» رواه الترمذي وغيرُه. وفي الحديث: «ما أسرَّ عبدٌ سريرة إلا ألبسهُ الله رداءها علانية».
المعنى الثاني: أنَّ مَنْ عبدَ الله وأطاعه، وطلب رضاه في الدنيا بعملٍ، فنشأ من عمله آثارٌ مكروهةٌ للنفوس في الدنيا، فإن تلك الآثار غيرُ مكروهةٍ عند الله، بل هي مستحبةٌ محبوبةٌ له، وطيِّبةٌ عنده، لكونها نشأت عن طاعته واتباع مرضاته، فإخبارُه بذلك للعاملين في الدنيا، فيه تَطْييْبٌ لقلوبهم، لئلا يُكره منهم ما وجد في الدنيا. ورد حديثٌ مرسل: «كلُّ شيءٍ ناقصٍ في عرف الناس في الدنيا، إذا انتسب إلى طاعته ورضاهُ، فهو الكاملُ في الحقيقة».
خلوفُ فم الصائمين أطيبُ من ريح المسك. نوحُ المذنبين على أنفسهم من خشيته أفضلُ من التسبيح، انكسارُ المخبتين لعظمته هو الجبر، ذلُّ الخائفين من سطوته هو العزُّ، جوُع الصائمين لأجله هو الشبع، عطشُهم في طلب مرضاته هو الرِّيُّ، نصبُ المجتهدين في خدمته هو الراحة. لما سُلسِلَتْ الشياطينُ في شهر رمضان وخمدت نيرانُ الشهوات بالصيام انعزل سلطانُ الهوى، وصارت الدولةُ لحاكم العقل، فلم يبق للعاصي عذر.
يا غيومُ الغفلة تَقَشَّعِي، يا شموسُ التقوى والإيمان اطلعي، يا صحائف أعمال الصالحين ارتفعي، يا قلوبُ الصالحين اخشعي، يا أقدامُ المجتهدين اسجدي لربك واركعي، يا عيونُ المتهجدين لا تهجعي، يا ذنوبُ التائبين لا ترجعي.
فصل في فضل الجودِ في رمضان وتلاوةِ القرآن
في الصحيحين عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله ﷺ أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكونُ في رمضان حين يلقاهُ جبرائيلُ، فيدراسهُ القرآن، وكان جبرائيل يلقاه كلَّ ليلةٍ من شهر رمضان فيدارسُهُ القرآن، فلرسول الله ﷺ حين يلقاه جبرائيل: أجودُ بالخير من الريح المرسلة» ورواه أحمد وزاد «ولا يُسأل شيئًا إلا أعطاه» وللبيهقي عن عائشة رضي الله عنها: «كان رسول الله ﷺ إذا دخل رمضانُ أطلق كُلَّ أسيرٍ وأعطى كُلَّ سائل».
«الجودُ» هو سعة العطاء وكثرتُه. والله تعالى يوصفُ بالجود، فروي الترمذيُّ عن سعد بن أبي وقّاصٍ، رضي الله عنه، عن النبي ﷺ: «إن الله جـوادٌ يحـب الجود، كـريمٌ يُحبُّ الكرم».
وعن الفضيل: إن الله تعالى يقول كلَّ ليلة: أنا الجوادُ ومني الجودُ، وأنا الكريمُ ومني الكرم.
فالله سبحانه: أجود الأجودين، وجوده يتضاعف في أوقات خاصة كشهر رمضان، وفيه أنزل قوله تعالى: } وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ {.
ولما كان الله تعال جبل نبيَّه ﷺ على أكمل الهيئات وأشرفها، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه : «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» كان رسول الله ﷺ أجود الناس على الإطلاق، كما أنه أفضلهم وأشجعهم وأكملهم في جميع الأوصاف الحميدة، وكان جودُه يجمع أنواع الجود، وكان جودُه ﷺ يتضاعف في رمضان على غيره من الشهور. كما أن جود ربَّه يتضاعف فيه أيضًا.
وكان ﷺ يلتقي هو وجبريل في شهر رمضان، وهو أفضل الملائكة وأكرمهم، ويدراسه القرآن الذي جاء به إليه، وهو أشرف الكتب وأفضلها وهو يحث على الإحسان ومكارم الأخلاق، وقد كان هذا الكتاب الكريم له ﷺ خلق، بحيث يرضى لرضاه ويسخط لسخطه، ويسارع إلى ما حث عليه. ويمتنع عمَّا زجر عنه. فلهذا كان يتضاعف جوده، وإفضاله في هذا الشهر، لقرب عهده بمخالطة جبرائيل، وكثرة مدارسته له هذا الكتاب الكريم، الذي يحث على المكارم والجود. ولا شك أن المخالطة تؤثر وتورث أخلاقًا من المخالط.
وفي تضاعف جوده ﷺ في رمضان بخصوصه فوائدُ كثيرةٌ، منها: شرف الزمان ومضاعفةُ أجر العمل فيه؛ وفي الترمذي عن أنس مرفوعًا: «أفضلُ الصدقةِ صدقةُ رمضانَ». ومنها: إعانةُ الصائمين والذاكرين على طاعتهم، فيستوجبُ المعينُ لهم مثل أجورهم، كما أن من جَهَّز غازيًا فقد غزا. ومن خلفَه في أهله بخير فقد غزا.
وفي حديث زيد بن خالدٍ عن النبي ﷺ قال: «من فطر صائمًا فله مثلُ أجره، من غير أن ينقص من أجر الصائم شيءٌ» رواه أحمد والترمذي. ورواه الطبراني عن عائشة رضي الله عنها، وزاد: «وما عمل الصائمُ من أعمال البرِّ إلا كان لصاحب الطعام، ما دامت قوةُ الطعام فيه».
وفي حديث سلمان المتقدم، في فضل شهر رمضان: «وهو شهرُ المواساة، وشهرٌ يزادُفيه: رزق المؤمن، من فطر فيه صائمًا كان مغفرةً لذنُوبِه، وعقتًا لرقبته من النار، وكان له مثل أجره، من غير أن يُنقصَ من أجرِ الصائِم شيءٌ» قالوا: يا رسول الله، ليس كلُّنا يجد ما يفطِّرُ الصائم، قال: «يعطي الله هذا الثواب لمن فطر صائمًا، على مذقة لبن، أو تمرةٍ، أو شربة ماءٍ؛ ومن سقى فيه صائمًا سقاه الله من حوضي شربةً لا يظمأُ بعدها حتى يدخلَ الجنة».
ومنها: أن شهرَ رمضان شهرٌ يجودُ اللهُ فيه على عباده بالرحمة والمغفرة والعتق من النار، لا سيما في ليلة القدر. والله تعالى يرحمُ من عباده الرحماءُ، كما قال النبي ﷺ: «إنما يرحمُ اللهُ من عباده الرحماءُ»، فمن جاد على عباد الله، جاد اللهُ عليه بالعطاء والفضل، والجزاءُ من جنس العمل.
ومنها: أن الجمع بين الصيام والصدقة من موجبات الجنة، كما في حديث علي رضي الله عنه ، عن النبي ﷺ قال: «إن في الجنة غُرفًا يُرى ظهورُها من بطونها، وبطونُها من ظهورِها» قالوا: لمن هي يا رسول الله؟ قال: «لمن طَيَّبَ الكلامَ، وأطعمَ الطعامَ، وأدامَ اصيامَ، وصلَّى بالليلِ والناسُ نيام».
وهذه الخصالُ كلُّها تكونُ في رمضان، فيجتمع فيه للمؤمن الصيام والقيام والصدقة، وطيب الكلام، فإنه ينهى فيه الصائم عن اللغو والرفث، والصلاة والصيام والصدقة: توصلُ صاحبها إلى الله ﷻ.
قال بعض السلف: الصلاة توصل صاحبها إلى نصف الطريق، والصيام يوصله إلى باب الملك، والصدقةُ تأخذُ بيده، فتدخلهُ على الملك.
وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي ﷺ قال: «من أصبح منكم اليوم صائمًا؟ قال أبو بكرٍ: أنا، قال: من تَبعَ منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكرٍ أنا، قال: من تصدقَ بصدقةٍ؟ قال أبو بكرٍ: أنا، قال: من عاد منكم مريضًا؟ قال أبو بكرٍ: أنا، قال: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة».
ومنها: أن الجمع بين الصيام والصدقة أبلغُ في تكفير الخطايا، واتقاء جهنم، والمباعدة عنها، خصوصًا إن ضُمَّ إلى ذلك قيام الليل، فقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: «الصيامُ جُنةُ أحدِكم من النار، كَجُنَّتِهِ من القتال»، ولأحمد أيضًا: عن أبي هريرة مرفوعًا: «الصومُ جُنَّةٌ وحصنٌ حصين من النار».
وفي حديث معاذٍ رضي الله عنه ، عن النبي ﷺ أنه قال: «الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماءُ النارَ. وقيامُ الرجلِ في جوفِ الليل» يعني: أنه يطفئ الخطيئة أيضًا، صرح به أحمد. وفي الصحيح عنه ﷺ أنه قال: «اتقوا النار ولو بِشقِّ تمرةٍ» كان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: صلُّو في ظلمة الليل ركعتين لظلمة القبور، صوموا يومًا شديدًا حرَّهُ لحرِّ يوم النشور، تصدقوا بصدقة السرِّ لهول يوم عسير.
ومنها: أن الصيام لا بدّ أن يقع فيه خللٌ ونقصٌ، وتكفيرُ الصيام للذنوب، مشروطٌ بالتحفظ مما ينبغي أن يُتحفَّظَ منه، كما في حديث أخرجه ابنُ حبان، وعامةُ صيام الناس: لا يجتمع في صومه التحفظ كما ينبغي، ولذا نهى أن يقول الرجلُ: «صمتُ رمضان كلُّه، أو قمتُه كلُّه» فالصدقةُ تجبر ما كان فيه من النقص والخلل، ولهذا وجب في آخر رمضان زكاةُ الفطر، طهرة للصائم من اللغو والرفث.
ومنها: أن الصائم يدع طعامه وشرابه، فإذا أعان الصائمين على التقوِّي على طعامهم وشرابهم، كان بمنزلة من ترك شهوته لله، وآثر بها وواسى منها، ولهذا يشرع له تفطير الصوَّام معه إذا أفطر؛ لأن الطعام يكون محبوبًا له حينئذٍ، فيواسي منه حتى يكون ممن أطعم الطعام على حُبّه، فيكون في ذلك شاكرًا لله، على نعمة إباحة الطعام والشراب له، وردِّه له بعد منعه إياه، فإن هذه النعمة إنما يُعرف قدرُها عند المنع منها.
وسئل بعضُ العرافين: لم شُرع الصيامُ؟ قال: ليذوق الغنيُّ طعم الجوع فلا ينسى الجائع؛ وهذا من بعض حكم الصوم وفوائده. وتقدم في حديث سلمان: «وهو شهرُ المواساة» فمن لم يقدر على درجة الإيثار على نفسه، فلا يعجز عن درجة أهل المواساة.
كان كثير من السلف: يواسون من إفطارهم، ويؤثرون ويطوون. فقد كان ابن عمر: يصوم ولا يفطر إلا مع المساكين، فإذا منعه أهله عنهم، لم يتعشَّ تلك الليلة، وكان إذا جاءهُ وهو على الطعام، أخذ نصيبهُ من الطعام، وقام فأعطاه السائل، فيرجع وقد أكل أهله ما بقي في الجفنة، فيصبح صائمًا ولم يأكل شيئًا.
واشتهى بعض الصالحين طعامًا، وكان صائمًا فوضع بين يديه وهو صائمٌ، فسمع قائلاً يقول: من يقرضُ المليء الوفيَّ؟ فقال: عبده المعدمُ من الحسنات، وأخذ الصحفة فخرج بها إليه وبات طاويًا.
وجاء سائلٌ إلى الإمام أحمد: فدفع إليه رغيفين كان يعدُّهما لفطره، ثم طوى وأصبح صائمًا. وكان الحسن يُطعمُ إخوانه وهو صائمٌ، ويجلسُ يروِّحُهمُ، وهمُ يأكلون.
وله فوائدُ أخرُ. قال الشافعيُّ رحمه الله: أحبُّ للرجل الزيادة بالجود في رمضان، اقتداءً برسول الله ﷺ، ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثيرٍ، منهم، بالصوم والصلاة عن مكاسبهم.
ودل الحديث أيضًا: على دراسة القرآن في رمضان، والاجتماع على ذلك، وعرض القرآن على من هو أحفظ له منه. وفيه دليلٌ على استحباب الإكثار، من تلاوة القرآن، في شهر رمضان.
وفي حديث فاطمة: أنه أخبرها: «أن جبرائيل كان يعارضه القرآن كُلَّ عامٍ مرَّةً، وأنه عارضه في عام وفاته مرتين»، وفي حديث ابن عباس: «أن المدارسة بينه وبين جبرائيل: كانت ليلاً».
فدلَّ على استحباب الإكثار من التلاوة في رمضان ليلاً، فإن الليل تنقطعُ فيه الشواغلُ، وتجتمعُ فيه الهممُ، ويتواطأ فيه القلبُ واللسانُ على التدبر، كما قال تعالى: } إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا {.
وشهرُ رمضان: له خصوصيةٌ بالقرآن، كما قال تعالى: } شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ { وقال ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما: إنه أُنزل جُملةً واحدةً من اللوح المحفوظ، إلى بيت العزة في ليلة القدر.
ويشهدُ لذلك قوله تعالى: } إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ { وقولهُ: } إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ { والنبيُّ ﷺ بُديءَ بالوحي، ونزل عليه القرآن في شهر رمضان؛ وقد كان النبيُّ ﷺ يُطيلُ القراءة في قيام رمضان بالليل، أكثر من غيره.
وقد صلَّى معه حذيفة ليلة في رمضان «فقرأ بالبقرة، ثم النِّساء، ثم آل عمران، لا يمرُّ بآية تخويفٍ إلا وقف وتعوذ، ولا بآية رحمةٍ إلا وقف وسأل، فما صلى ركعتين حتى جاء بلال فآذنه بالصلاة» رواه أحمد والنسائي. وعنه: أنه «ما صلى إلا أربع ركعات».
وكان عُمر رضي الله عنه : أمر أبيَّ بن كعب، وتميمًا الداريَّ، أن يقوما بالناسِ في شهر رمضان، فكان القارئ يقرأ بالمائتين في الركعة، حتى كانوا يعتمدون على العصي من طول القيام، وما كانوا ينصرفون إلا عند الفجر؛ وفي رواية: أنهم كانوا يربطون الحبال بين السواري، ثم يتعلقون بها.
وروي أن عمر جمع ثلاثة قراء، فأمر أسرعهم قراءة أن يقرأ بالناس بثلاثين، وأوسطهم بخمس وعشرين، وأبطأهم بعشرين.
ثم كان في زمن التابعين: يقرؤون بالبقرة في قيام رمضان، في ثمان ركعات. فإن قرأها في اثنتي عشرة، رأوا أنه قد خفف.
وسئل أحمدُ: عما روي عن عمر، في السريع في القراءة، والبطئ؟ فقال: في هذا مشقَّةٌ على الناس، ولا سيما في هذه الليالي القصار، وإنما الأمرُ على ما يحتملهُ الناسُ.
وقال أحمدُ لبعض أصحابه، وكان يصلي بهم في رمضان: هؤلاءِ قوم ضعفاءُ، اقرأ خسمًا، ستًا، سبعًا، قال: فقرأتُ، فختمت ليلة سبع وعشرين.
روي عن الحسن: أن الذي أمره عمر أن يصلي بالناس: كان يقرأ خمس آيات، ست آياتٍ.
فكلامُ أحمد يدل على أنه في القراءة: يراعي حال المأمومين، فلا يشق عليهم، وقاله غيره من الفقهاء.
وروى أهل السنن عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ لما قام بهم إلى ثُلُثِ الليل، ومرةً إلى نصفِ الليل قالوا: لو نفَّلتنا بقية ليلتنا؟ فقال: «إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف: كُتب له بقيةُ ليلته».
فدل: على أن قيام ثُلُثِ الليل أو نصفه يُكتبُ به قيامُ ليلةٍ، لكن مع الإمام. وكان أحمد يأخذ بهذا الحديث، ولا ينصرفُ حتى ينصرف الإمام. وقال بعضُ السلف: من قام نصف الليل فقد قام الليل.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: «من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة يةٍ كُتب من القانتين، ومن قام بألف كُتب من المقنطرين» رواه أبو داود. ويروى من حديث تميمٍ وأنس مرفوعًا: «من قرأ بمائة آيةٍ كتب له قيامُ ليلة» وفيهما ضعف.
ومن أراد أن يزيد في القراءة ويُطيل، وكان يصلي لنفسه، فليطول ما شاء، وكذلك من صلى بجماعة يرضون بصلاته. وكان بعض السلف: يختمُ في قيام رمضان، في كل ثلاث ليالٍ، وبعضهم في كل سبعٍ، وبعضُهم في كلِّ عشرٍ.
فصل
والتراويحُ سنةٌ، وفعلها جماعةٌ أفضلُ. وفعلُ الصحابة لها مشهورٌ. وتلقته الأمةُ عنهم خلفًا بعد سلفٍ. روى أبو بكر عبدالعزيز عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أنه ﷺ كان يصلي في شهر رمضان عشرين ركعةً».
قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: له أن يُصلِّي عشرين، كما هو المشهورُ في مذهب أحمد، والشافعي؛ وله أن يصلي ستًا وثلاثين، كما هو مذهب مالك؛ وله أن يصلي إحدى عشرة، وثلاث عشرة وكلٌّ حسنٌ، فيكون تكثيرُ الركعات، أو تقليلُها، بحسب طول القيام وقصره.
وعمرُ رضي الله عنه لما جمع الناس على أُبيٍّ: صلى بهم عشرين ركعة؛ والصحابةُ y: منه من يُقلُّ، ومنهم من يكثرُ، والحدُّ المحدود: لا نصَّ عليه من الشارع صحيحٌ.
وكثير من الأئمة في الترايوح: يصلُّون صلاةً لا يعقلونها، ولا يطمئون في الركوع ولا في السجود، والطمأنينة ركن؛ والمطلوب في الصلاة: حضور القلب بين يدي الله تعالى، واتعاظه بكلام الله إذا يتلى عليه، وهذا لا يحصل في العجلة، فتقصير القراءة مع الخشوع في الركوع والسجود، أولى من طول القراءة مع العجلة المكروهة.
وصلاة عشر ركعات مع طول القراءة والطمأنينة، أولى من عشرين ركعة مع العجلة المكروهة، لأن لُبَّ الصلاة وروحها: هو إقبالُ القلب على الله ﷻ، ورب قليل خير من كثير، وكذلك ترتيل القراءة أفضل من السرعة والسرعة المباحة، هي: التي لا يحصل معها إسقاط شيء من الحروف فإن أسقط بعض الحروف، لأجل السرعة لم يجز ذلك له، وينهى عنه. وأما إذا قرأ قراءة بيِّنة، ينتفع بها المصلون خلفه فحسنٌ.
وقد ذم الله الذين يقرؤون القرآن بلا فهم معناه؛ فقال تعالى: } وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ { أي تلاوة بلا فهم، والمراد من إنزال القرآن: فَهْمُ معانيه، والعمل به، لا مجردُ التلاوة.
ويستحب تحسينُ صوته بالقراءة، لما روى أبو داود وغيرهُ: «ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن».
كان الزهري رحمه الله يقول إذا دخل رمضان: إنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام.
قال ابن عبدالحكم: كان مالكٌ إذا دخل رمضانُ، يفرُّ من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، ويقبل على تلاوة القرآن، من المصحف. وقال عبدالرزاق: كان الثوريُّ إذا دخل رمضان ترك جميع العبادات وأقبل على تلاوة القرآن. وقال سفيانُ: كان زيد الياميُّ إذا حضر رمضان، أحضر المصاحف، وجمع إليه أصحابه.
كان السلف: يقبول على تلاوة القرآن في رمضان، فمنهم من يختم في كل سبع، ومنهم في ثلاثٍ، ومنهم في ليلتين، ومنهم في العشر الأواخر من كلِّ ليلة، وما ورد من النهي في أقل من ثلاثٍ فهو محمول على المداومة على ذلك، فأما في الأوقات الفاضلة، كشهر رمضان خصوصًا الليالي التي تطلب فيها ليلةُ القدر، وفي الأماكن الفاضلة: فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتنامًا للزمان والمكان. وهو قول أحمد وغيره. وعليه يدل عمل غيرهم.
وقال ﷺ: «اقرءوا القرآن، فإنه يأتي شفيعًا لأصحابه يوم القيامة»، وروى الترمذي عن أبي مسعود مرفوعًا: «من قرأ حرفًا من كتاب الله فله حسنةٌ، والحسنة بعشر أمثالها لا أقول آلم حرف ولكن ألفٌ حرف ولامٌ حرفٌ، وميمٌ حرف» فكيف هذا مع المضاعفة في شهر رمضان؟
وعن ابن عمر مرفوعًا: «يُقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية» رواه الترمذيُّ. ولأحمد نحوه عن أبي سعيد: «ويصعد بكل آية درجة، حتى يقرأ آخر آية منه».
واعلم أن المؤمن، يجتمعُ له في شهر رمضان جهادان: جهادٌ لنفسه بالنهار على الصيام، وجهادٌ بالليل على القيام، فمن جمع بين هذين الجهادين ووفَّى بحقوقهما، وصبر عليهما وفِّي أجرُه بغير حساب.
قال كعبٌ: ينادي يوم القيامة منادٍ: إن كلَّ حارث يُعطى بحرثه ويزادُ، غير أهل القرآن والصيام، فيعطون أجورهم بغير حساب. ويشفعان له عند الله ﷻ، كما في المسند عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي ﷺ: «الصيام والقيام: يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشراب، والشهوات المحرمات بالنهار، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل، فشفعني فيه فيشفعان».
فالصيام يشفع لمن منعه المحرمات كلَّها، فإنه يشفع له عند الله يوم القيامة، يقول يا رب منعتُه شهواته فشفعني فيه، وأما من ضيَّع صيامهُ، ولم يمنعه مما حرمه الله عليه، فإنه جدير أن يُضرب به وجهُ صاحبه، ويقولُ له: ضيعك الله كما ضيعتني.
قال بعض السلف: إذا احتضر المؤمن، يقال للملك: شُمَّ رأسه. قال: أجد في رأسه القرآن.
فيقال شم قلبه. فيقول: أجد في قلبه الصيام. فيقال: شُم قدميه. فيقول: أجد في قدميه القيام. فيقال: حفظ نفسه حفظه الله.
وكذلك القرآن: إنما يشفع لمن منعه النوم بالليل، فإن من قرأ القرآن، وقام به، فقد قام بحقّه، فيشفع له. وقد ذكر النبي ﷺ رجلاً فقال: «ذلك لا يتوسَّدُ القرآن» أي لا ينامُ عليه، فيصير له كالوسادة.
وروى أحمد من حديث بُريدة مرفوعًا: «إن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة، حين ينشقُّ عنه قبرهُ، كالرجل الشاحب- يعني المتغير اللون فيقول: هل تعرفُني؟ فيقول: أنا صاحبك الذي أظمأتك في الهواجر، وأسهرت ليلك، وكلُّ تاجر من وراء تجارته فيعطى المُلْكَ بيمينه، والخلد بشماله، ويوضعُ على رأسه تاجُ الوقار، ثم يقال له: اقرأ واصعد في درجة الجنة وغرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ، هذًَّا كان أو ترتيلاً».
وفي حديث عبادة الطويل: «إن القرآن يأتي صاحبه في القبر فيقول له: أنا الذي كنت أسهرُ ليلك، وأظميءُ نهارك، وأمنعُك شهواتك، وسمعك وبصرك، فستجدني من الأخلاء خليل صدقٍ، ثم يصعد، فيسأل له فراشًا ودثارًا، فيؤمر له بفراشٍ من الجنة وياسمين من الجنة، ثم يدفع القرآن في قبلة اللَّحد فيوسع عليه ما شاء الله من ذلك».
قال ابن مسعود: ينبغي لقارئ القرآن: أن يُعرف بليله إذا الناس ينامون، وبنهاره إذا الناسُ يخلطون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبحزنه إذا الناس يفرحون؛ وقال وُهيبٌ: قيل لرجل: ألا تنام فقال: إن عجائب القرآن أطرن نومي؛ وصحب رجلٌ رجلاً شهرين فلم يره نائمًا. فقال: ما لي لا أراك نائمًا؟ قال: إن عجائب القرآن أطرْن نومي، ما أخرج من أعجوبةٍ إلا وقعتُ في أخرى.
قال أحمد بن أبي الحواري: إني لأقرأ القرآن وأنظرُ فيه آيةً آيةً، فيتحيرُ عقلي وأعجبُ من حفاظ القرآن، كيف يهنيهم النوم، أو يسعهم أن يشتغلوا بشيء من الدنيا، وهم يتلون كتاب الله؟ أما إنهم لو فهموا ما يتلون وعرفوا حقه، وتلذذوا به، واسْتَحْلُّوا المناجاة به، لذهب عنهم النوم، فرحًا بما رزقوا.
فأما من كان معه القرآنُ، فنام عنه بالليل، ولم يعمل به بالنهار، فإنه ينتصب له خصمًا يوم القيامة، يطالبه بحقوقه التي ضيعها. روى أحمد من حديث سمرة: أن النبي ﷺ: «رأى في منامه رجلاً مستلقيًا على قفاه، ورجلٌ قائم بيده فهرٌ، أو صخرةٌ، فيشدخ بها رأسه، فيتدهده، فإذا ذهب ليأخذه عاد رأسه كما كان، فيصنع به مثل ذلك. فسأل عنه فقيل له: هذا رجلٌ آتاه الله القرآن، فنام عنه بالليل، ولم يعمل به بالنهار، فهو يفعل به ذلك إلى يوم القيامة».
وفي حديث عمرو بن شعيب مرفوعًا: «يمثل القرآن يوم القيامة رجلاً، فيؤتى بالرجل قد حمله فخالف أمره، فيتمثل له خصمًا، فيقول: يا رب حمَّلتَهُ إياي، فبئس حامل، تعدَّى حدودي وضيع فرائضي، وركب معصيتي، وترك طاعتي فما يزالُ يقذفُ عليه بالحجج حتى يقال: شأنك به. فيأخذه بيده، فما يرسله حتى يكبَّه على منخره في النار.
ويؤتى بالرجل الصالح: كان قد حمله، وحفظ أمره، فيتمثل له خصمًا دونه، فيقول: يا رب: حمَّلته إياي فخير حاملٍ، حفظ حدودي، وعمل بفرائضي، واجتنب معصيتي، واتَّبع طاعتي، فما يزال يقذف له بالحجج، حتى يقال له: شأنك به، فيأخذه بيده، فما يرسله حتى يلبسه حلَّة الإستبرق، ويعقد عليه تاج الملك، ويسقيه كأس الخمر».
فصلٌ في قيام رمضان
عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن رسول الله ﷺ قال: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه» متفق عليه. وعن عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه ، أن رسول الله ﷺ ذكر شهر رمضان فقال: «إن رمضان شهر فرض الله صيامه، وإني سننت للمسلمين قيامه، فمن صامه وقامه إيمانًا واحتسابًا، خرج من الذنوب كيوم ولدته أمه» أخرجه النسائي، وقال: الصواب عن أبي هريرة.
ولنذكر ههنا طرفًا في فضل قيام الليل، قال الله تعالى: } تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ { ومدح قومًا فقال: } كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ {، وقال تعالى: } وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا {.
وروى الترمذي عن عبدالله بن سلام، أن النبي ﷺ قال: «يا أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلُّوا بالليل والناس نيامٌ، تدخلوا الجنة بسلام».
وروي من حديث أبي هريرة مرفوعًا: «أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل» وللترمذي عن بلالٍ مرفوعًا: «عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم. وإن قيام الليل مقربة لكم إلى ربكم، مكفرة للسيئات، ومنهاةٌ عن الإثم، ومطردة للداء عن الجسد».
وفي حديث الكفارات، والدرجات قال: «ومن الدرجات: إطعامُ الطعامِ، وطيبُ الكلامِ، وأن تقوم بالليلِ والناسُ نيامٌ» صححه البخاري، والترمذي.
وروى الطبراني عن أبي الدرداء مرفوعًا: «ثلاثة يحبهم الله ويضحكُ إليهم، ويستبشر بهم- فذكر منهم- الذي له امرأة حسناءُ وفراشٌ حسن، فيقومُ من الليل، فيقول الله تعالى: يذر شهوته، فيذكرني، ولو شاء لرقد».
وفي المسند عن ابن مسعود مرفوعًا: «عجب الله من رجلين: رجلٍ ثار عن وطائهِ ولحافِه بين أهلهِ وحِبِّه، إلى صلاته رغبة فيما عندي».
وفي حديث أبان عن أنس عن ربيعة، عن النبي ﷺ قال: «ثلاثة مواطن لا ترد فيها الدعوة: رجل يكون في برِّية حيث لا يراه أحد، فيقوم فيصلي، فيقول الله لملائكته: علم عبدي هذا أن له ربًا يغفرُ الذنوب، فانظروا ماذا يطلب؟ فتقول الملائكة: أي رب رضاك ومغفرتك، فيقول الله أشهدُكم أني قد غفرت له ورضيت عنه. ورجل يقوم من الليل، فيقول الله: أليسَ قد جعلتُ الليل سكنًا، والنوم سُباتًا؟ فقام عبدي هذا يصلِّي، يعلمُ أنَّ له ربّاً يغفرُ الذنب، فيقول الله لملائكته: انظروا ماذا يطلبُ عبدي؟ فتقول الملائكة: أي رب رضاكَ ومغفرتك، فيقول الله: أشهدكم أني قد غفرت له ورضيت عنه».
وروى أحمد عن عقبة مرفوعًا، قال: «رجلان من أمتي يقوم أحدهما من الليل، يعالج نفسه إلى الطهور، وعليه عُقَدٌ، فيتوضأ، فإذا وضأ يديه انحَّلت عُقدةٌ، وإذا مسح رأسه انحلت عقدة، وإذا وضَّأ رجليه انحلت عقدة، فيقول الله ﷻ للذين وراء الحجاب: انظروا إلى عبدي هذا يعالج نفسه يسألني، ما سألني عبدي هذا فهو له».
وفي الأثر المشهور: «كذب من ادعى محبتي، فإذا جنَّه الليل نام عنِّي، أليس كل محب يحب خلوة حبيبه؟ فها أنا مطلع على أحبابي، إذا جنّهم الليل، جعلت أبصارهم في قلوبهم، فخاطبوني على المشاهدة. وكلَّموني على حضوري، غدًا أقرُّ أعين أحبابي في جناتي».
ينزل الله تعالى كلّ ليلة إلى سماء الدنيا، فيقول: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من داع فأجيب دعوته؟ إلى أن ينفجر الفجر؛ كان بعض السلف يقوم الليل، فنام ليلة، فأتاه آتٍ في منامه، فقال له: قُمْ؛ أما علمت أن مفاتيح الجنة مع أصحاب الليل خزانها؟
قيل لابن مسعود: ما نستطيع قيام الليل؛ قال: أقعدتكم ذنوبكم وقيل: لبعض المحبين: قد أعجزنا قيام الليل، قال: قيدتكم خطاياكم. وقال الفضيل: إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم قد قيدتك خطيئتك.
يا من ضيع عمره في غير طاعة، يا من فرط في شهره بل دهره وأضاعه، يا من بضاعتُه التسويفُ والتفريطُ، وبئس البضاعة، يا من جعل خصمه القرآن وشهر رمضان، كيف ترجو ممن جعلته خصمك الشفاعة كلُّ قيام لا ينهى صاحبه عن الفحشاء والمنكر، لا يزيد صاحبه إلا بعدًا، وكل صيام لا ينهي عن قول الزور والعمل به، لا يورثُ صاحبه إلا مقتًا وردَّاً. يا قوم: أين آثار الصيام؟ أين أنوارُ القيام؟
عباد الله، هذا شهرُ رمضان، وفي بقيته للعابدين مُسْتَمْتَعْ، وهذا كتابُ الله فيه يتلى ويُسْمَعُ، وهذا القرآنُ لو أنزل على جبل لرأيته خاشعًا يتصدع، ومع هذا فلا قلبٌ يخشع، ولا عين تدمع، ولا صيام يصان فينفع، ولا قيامٌ استقام فيرجى أن يشفع.
قلوب خلت من التقوى فهي خراب بلقع، وتراكمت عليها الذنوب فهي لا تبصر ولا تسمع، كم يتلى علينا القرآن وقلوبُنا كالحجارة أو أشدُّ قسوة؟ كم يتوالى علينا شهرُ رمضان، وحالنا فيه كحال أهل الشِّقْوَة؟ أين نحن من قوم إذا سمعوا داعيَ الله أجابوا، وإذا تليت عليهم آياتُه وجِلَت قلوبهم وأنابوا؟
فصلٌ في العشْرِ الْوُسَط
عن أبي سعيد رضي الله عنه ، قال: «كان رسولُ الله ﷺ يعتكفُ في العشر الوُسَطِ من شهر رمضان» وقد دل الحديث: على أنه كان يعتكف العشر الوُسط لابتغاء ليلة القدر. وفي رواية: «أنه اعتكف العشر الأول، ثم اعتكف العشر الوسط، ثم قال: «إني أتيتُ فقيل لي: إنها في العشر الأواخر، فمن أحبَّ أن يعتكف فليعتكف، فاعتكف الناسُ معه».
وقد ورد الأمرُ: بطلب ليلة القدر في النِّصف الآخر من رمضان، وفي أفراد ما بقي من العشر الوسط، وهما: ليلة سبع عشرة، وتسع عشرة، أما الأول: فروى الطبراني عن عبدالله بن أنيس أنه ﷺ سئل عن ليلة القدر؟ فقال: «رأيتُها وأُنْسِيْتُها، فتحرَّوها في النصف الآخر» الحديث. وكلُّ زمانٍ فاضلٍ من ليلٍ أو نهار، فإن آخره أفضلُ من أوله.
وأما الثاني: فروى أبو داود عن ابن مسعود مرفوعًا: «اطلبوها ليلة سبع عشرة»، وقالوا: إن صبيحتها كان يوم بدر. والمشهور عند أهل السِّير والمغازي: أن ليلة بدرٍ ليلةُ سبع عشرة، وكانت ليلة جمعةٍ، وكان زيدٌ بن ثابت لا يحيي ليلةً من رمضان كما يحيى ليلة سبع عشرة، ويقول، إن الله تعالى فرق في صبيحتها بين الحق والباطل، وأذلَّ في صبيحتها أئمة الكفر.
وحكى أحمدُ عن أهل المدينة: أن ليلة القدر تطلبُ ليلة سبع عشرة.
وأصحُّ ما روي من الحوادث في هذه الليلة: أنها ليلةُ بدر، وصبيحتها هو يوم الفرقان، وسمي يوم الفرقان: لأن الله تعالى فرق فيه بين الحق والباطل، وأظهر الحق وأهله على الباطل وأهله، وعلت كلمةُ الله وتوحيدُه، وذُلَّ أعداؤه من المشركين وأهل الكتاب.
وفي الموطأ عن طلحة بن عبيد الله مرفوعًا: «ما رئِي الشيطانُ أحقر ولا أدحر ولا أصغر منه يوم عرفة، إلا ما رؤي يوم بدر، فقيل: ما رؤي يوم بدر؟ قال: رأى جبريل u يزُع الملائكة».
وفي ليلة القدر تنتشرُ الملائكةُ في الأرض، فيبطل سلطان الشياطين، كما قال تعالى: } تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ {.
وفي المسند عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي ﷺ قال: «الملائكةُ في الأرض في تلك الليلة، أكثر من عدد الحصى».
وفي صحيح ابن حبان عن جابر رضي الله عنه ، عن النبي ﷺ في ليلة القدر: «لا يخرج شيطانها حتى يخرج فجرها».
وفي المسند عن عبادة مرفوعًا: «لا يحل لكوكب أن يرمى به فيها حتى يصبح، وإن أمارَتها: أن الشمس تخرجُ في صبيحتها مستويةً ليس لها شعاع، مثلُ القمر ليلةَ البدر، ولا يحلُّ لشيطانٍ أن يخرج معها يومئذٍ».
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «إن الشيطان يطلعُ مع الشمس كلَّ يومٍ، إلا ليلةَ القدرِ، وذلك أنها تطلُعُ لا شعاعَ لها» وقال مجاهد: (سلامٌ هي) قال: «لا يحدث فيها داءٌ، ولا يستطيع الشيطان العمل فيها» وعنه قال: «ليلةُ القدر ليلةٌ سالمةٌ، لا يحدثُ فيها حدثٌ، ولا يرسل فيها الشيطان» وعنه قال: «سالمةٌ، لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سُوءًا، ولا يُحدثُ فيها أذىً».
وعن ابن عباس قال: في تلك الليلة تُصفَّدُ مردةُ الجنِّ وتُغَلُّ عفاريت الجن، وتُفتحُ فيها أبوابُ السماءِ كلُّها، وتُقبلُ فيها التوبةُ من كلِّ تائبٍ، فلذلك قال: } سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ {.
أبشروا يا معشر المسلمين: فهذه أبوابُ الجنة الثمانية في هذا الشهر لأجلكم قد فُتِّحت، ونسماتُها على قلوب المؤمنين قد تفَتَّحت، وأبوابُ الجحيم كلُّها لأجلكم مغلقة، وأقدامُ أبليس وذريته من أجلكم موثقة.
قَصِّمُوا ظهره بكلمة التوحيد، فهو يشكو ألم الانكسار في كل موسم من مواسمِ الفضل، ففي هذا الشهر يدعو بالويل، لما يرى من تنزل الرحمة ومغفرة الأوزار، غلب حزبُ الرحمن. وهرب حزبُ الشيطان.
عباد الله: هذا شهر رمضان قد انتصف، فمن منكم حاسب نفسه فيه لله وانتصف؟ من منكم قام في هذا الشهر بحقِّهِ الذي عرف؟ ألا إن شهركم قد أخذ في النقص فزيدوا في العمل، فكأنكم به وقد انصرف، فكلُّ شهر فعسى أن يكون منه خلف، أما شهر رمضان، فمن أين لكم منه خلف؟
تنصف الشهرُ وا لهفاهُ وانصرَما | واختصَّ بالفوزِ بالجناتِ مَنْ خَدَما | |
وأصبح الغافلُ المسكينُ منكسِرا | مثلي، فيا ويحَهُ، يا عُظمَ ما حُرما | |
من فاتُه الزرعُ في وقت البذارِ فما | ترَاهُ يحصُدُ إِلاَّ الهمَّ والنَّدَما | |
طُوبَى لمن كانت التَّقوى بِضاعتَه | في شهرِه وبحبلِ اللهِ مُعْتَصِما |
فصلٌ في فَضْلِ العشِرِ الأواخرِ من رمضانَ
في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، قالت: «كان رسول الله ﷺ إذا دخل العشرُ شدَّ مئزرَه، وأحيَا ليله، وأيقظَ أهلَه» وفي رواية لمسلم عنها، قالت: «كان رسول الله ﷺ يجتهدُ في العشرِ الأواخرِ من رمضانَ ما لا يجتهدُ في غيرِه».
كان النبي ﷺ يخصُّ العشر الأواخر من رمضان، ما لا يخصُّ غيره، بأعمالٍ يعملُها في بقية الشهر.
فمنها إحياء الليل؛ فيحتمل أن المراد إحياء الليل كلِّه، وروي من وجه فيه ضعفٌ بلفظ: «وأحيا الليل كُلَّه» وفي المسند من وجهٍ آخرَ عنها قالت: «كان النبي ﷺ يخلطُ العشرين بصلاةٍ ونومٍ. فإذا كان العشرُ- تعني الأخيرَ- شمَّرَ وشَدَّ المئزر».
وخرَّج أبو نعيم بإسناد فيه ضعف، عن أنس رضي الله عنه : «كان رسول الله ﷺ إذا دخل رمضان قام ونام، فإذا كان ليلةُ أربعٍ وعشرين لم يَذُق غمضًا».
ويحتمل أن يراد بإحياء الليل إحياء غالبه؛ وروي عن بعضهم من أحيى نصف الليل فقد أحيى الليل؛ وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما علمتُهُ ﷺ قام ليلة حتى الصباح.
ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن إحياءها يحصلُ بأن يُصلِّيَ العشاء في جماعة، ويعزمَ على أن يصلِّي الصبح في جماعة؛ وقال الشافعي: من شهد العشاء والصبح ليلة القدر، فقد أخذ بحظه منها، ونقل مثله مالكٌ عن ابن المسيب، وروي مرفوعًا: من حديث أبي هريرة «من صلى العشاء في جماعةٍ في رمضان، فقد أدرك ليلة القدر» أخرجه الأصبهاني.
ويروى من حديث أبي جعفر، محمد بن علي مرفوعًا: «من أدرك رمضان صحيحًا مسلمًا، فصام نهاره، وصلى وردًا من ليله، وغضّ بصره، وحفظ فرجه ولسانه ويده، وحافظ على صلاته في الجماعة، وبكر إلى جمعه، فقد صام الشهر واستكمل، الأجر، وأدرك ليلة القدر، وفاز بجائزة الرب» قال أبو جعفر: جائزة لا تشبه جوائز الأمراء. رواه ابن أبي الدنيا.
ومنها: أنه ﷺ كان يُوقظُ أهله للصلاة في ليالي العشر دون غيرها. وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه أنه ﷺ قام بهم ليلة ثلاثٍ وعشرين، وخمسٍ وعشرين، وسبع وعشرين؛ وذكر أنه دعا أهله ونساءه ليلةَ سبع وعشرين خاصة. وهذا يدل على أنه يتأكد إيقاظُهم في آكد الأوتار، التي ترجى فيها ليلةُ القدر.
وروى الطبراني عن علي رضي الله عنه أنه ﷺ: كان يوقظ أهله في العشر الأواخر من رمضان، وكلَّ صغيرٍ وكبيرٍ يطيق الصلاة؛ قال سفيان الثوري: أحبُّ إليَّ إذا دخل العشر الأواخر: أن يتهجد بالليل ويجتهد فيه، وينهض أهله وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك.
وصح أنه ﷺ: كان يطرق فاطمة، وعليًا ليلا، فيقول «تقومان فتصليان؟»، وكان يوقظ عائشة بالليل، إذا قضى تهجُّدَهُ وأراد أن يوتر.
وورد الترغيب في إيقاظ أحد الزوجين صاحبه للصلاة، ونضح الماء على وجهه.
وفي الموطأ: أن عمر رضي الله عنه ، كان يصلي من الليل ما شاء الله، حتى إذا كان نصف الليل أيقظ أهله للصلاة، يقول لهم: الصلاة الصلاة، ويتلو هذه الآية } وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا { الآية.
ومنها: أنه ﷺ: كان يَشُدُّ المئزر، والمرادُ اعتزاله النساء. وورد أنه لم يأو إلى فراشه، حتى ينسلخ رمضان. وفي حديث أنس: «وطوى فراشه، واعتزل النساء».
وقد كان ﷺ: يعتكفُ العشر الأواخر؛ والمعتكفُ ممنوعٌ من قربان النساء بالنصَّ والإجماع؛ وقد قال طائفةٌ من السلف في قوله تعالى: } فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ { إنه طلبُ ليلةِ القدر.
والمعنى في ذلك: أن الله تعالى لما أباحَ مباشرةَ النساء، في ليالي الصيام، إلى تَبَيُّن الخيطِ الأبيض من الخيط الأسود، أمر مع ذلك بطلب ليلة القدر، لئلا يشتغل المسلمون في طول ليالي الشهر، بالاستمتاع المباح، فيفوتُهم طلبُ ليلةِ القدر، فأمر مع ذلك بطلب ليلة القدر بالتهجد من الليل، خصوصًا في الليالي المرجوَّة فيها، فمن ههنا كان ﷺ يصيبُ من أهله في العشرين من رمضان، ثم يعتزلُ نساءهُ، ويتفرغُ لطلب ليلة القدر في العشر الأواخر.
ومنها: تأخيره الفطور إلى السحور. روي عن عائشة وأنس أنه ﷺ كان في ليالي العشرة يجعل عشاءه سحورًا. وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد مرفوعًا قال: «لا تواصلوا. فيأيكم أراد ان يُواصل فليواصل إلى السحر» قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله؟ قال: «إني لست كهيئتكم، إني أبيتُ لي مطعم يطعمني، وساقٍ يسقيني».
وهذا إشارة إلى ما كان الله يفتحه عليه، في صيامه وخلوته بربه، لمناجاته وذكره، من مواد أنسه ونفحات قدسه، فكان يرد بذلك على قلبه من المعارف الإلهية، والمنح الربانية ما يغذيه، ويغنيه عن الطعام والشراب.
الذكر، قوت العرافين، يغنيهم عن الطعام والشراب؛ لما جاع المجتهدون شبعوا من طعام المناجاة، فأُفٍّ: لمن باع لذة المناجاة، بفضل لقمةٍ أو لقيمات.
ومنها: اغتسالُه بين العشاءين؛ روى ابن أبي عاصم عن عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله ﷺ إذا كان في رمضان نام وقام، فإذا دخل العشرُ شدَّ المئزر، واجتنب النساء، واغتسل بين العشاءين يعني المغرب والعشاء.
وروي عن علي رضي الله عنه : أنه ﷺ كان يغتسلُ بين العشاءين كل ليلةٍ، يعني من العشر الأواخر. وفي إسناده ضعف. وروي عن حذيفة رضي الله عنه ، أنه: قام مع النبي ﷺ ليلةً في رمضان، فاغتسل، وبقي فضلةٌ، فاغتسل بها حذيفةُ، رواه ابن أبي عاصم.
قال ابنُ جرير: كانوا يستحبون أن يغتسلوا كلَّ ليلةٍ من ليالي العشر الأواخر، ومنهم من كان يغتسل ويتطيبُ، في الليالي التي تكون أرجى لليلة القدر. وروي عن أنس: أنه إذا كان ليلةُ أربع وعشرين اغتسل وتطيَّب، ولبس حُلَّةً وإزارًا ورداءً، فإذا أصبح طواهما فلم يلبسهما إلى مثلها من قابل.
وقال حمَّادُ بن سلمةَ: كان ثابتٌ وحميدٌ: يلبسان أحسن ثيابهما، ويتطيبان، ويطيبان المسجد بالنضوح والدُّخنة، في اللِّيلة التي تُرجى فيها ليلة القدر.
فيستحبُّ في الليالي التي تُرجى فيها ليلةُ القدر: التنظُّفُ، والتطيُّبُ، والتزيُّن بالغسل والطيب، واللباس الحسن، كما شُرع ذلك في الجمع والأعياد. وكذلك يشرعُ أخذُ الزينة بالثياب، في سائر الصلوات، كما قال تعالى: } خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ { وقال ابن عمر: الله أحق أن يتزين له؛ وروي عنه مرفوعًا.
ولا يكمل التزين الظاهر إلا بتزيين الباطن، بالإنابة والتوبة وتطهيره من أدناس الذنوب وأوضارها، فإنَّ زينةَ الظاهر مع خراب الباطن لا تغني شيئًا.
إذا المرءُ لم يلبس ثيابًا من التقى | تقلَّب عُريانا، وإِن كانَ كاسيا |
والله سبحانه: لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، وإنَّما ينظرُ إلى قلوبكم وأعمالكم، فمن وقف بين يديه، فليزين ظاهره باللباس، وباطنه بلباس التقوى، قال تعالى: } يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ {.
ومنها: الاعتكافُ، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي ﷺ كان يعتكفُ العشر الأواخر من رمضان، حتى توفاه الله».
وإنما كان ﷺ يعتكفُ في هذه العشر، التي تطلب فيها ليلةُ القدر. قطعًا لأشغاله، وتفريغً لباله، وتخلّيًا لمناجاةِ ربه، وذكره ودعائه.
وذهب أحمدُ: أنَّ المعتكف لا يستحبُ له مخالطةُ الناس، حتى ولا تعليم علم وإقراء قرآن، بل الأفضلُ له: الانفرادُ بنفسه، والتخلي بمناجاة ربه، وذكره ودعائه.
وهذا الاعتكاف، هو: الخلوةُ الشرعية، وإنما يكون في المساجد، لئلا يُترك به الجمعُ والجماعات، فإنَّ الخلوة القاطعة عن الجمع والجماعات منهيٌّ عنها؛ وسئل ابنُ عباس رضي الله عنهما: عن رجل يقوم الليل ويصوم النهار، ولا يشهدُ الجمعة ولا الجماعة؟ قال: هو في النار.
فالخلوة المشروعة لهذه الأمة: هي الاعتكافُ في المساجد، خصوصًا في شهر رمضان، وخصوصًا في العشر الأواخر منه، كما كان النبي ﷺ يفعله. فالمتعكفُ قد حبس نفسه على طاعة الله وذكره، وقطع عن نفسه كُلَّ شاغلٍ يشغلهُ عنه، وعكف بقلبه وقالبه على ربه وما يقربه منه، فما بقي له همٌّ سوى الله وما يرضيه عنه.
ومعنى الاعتكاف وحقيقتُه: قطعُ العلائق عن كُلِّ الخلائق، للاتصال بخدمة الخالق. وكلَّما قويت المعرفة والمحبّةُ له، والأنسُ به: أورثت صاحبها الانقطاع إليه بالكلية على كُلِّ حال. كان بعضهم لا يزالُ منفردًا في بيته خاليًا بربه، فقيل له: أما تستوحش؟ فقالك كيف أستوحش وهو يقول: «أنا جليسُ من ذكرني؟».
يا من أضاع عمرهُ في لا شيء: استدرك ما فاتك في ليلة القدر. فإنها تحسب من العمر؛ قال الله تعالى: } إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ {.
قال مالكٌ: بلغني أن النبيَّ ﷺ أُريَ أعمارَ الناس قبلَه، أو ما شاء الله من ذلك، فكأنه تقاصر أعمار أُمته أن لا يبلغوا من العمل الذي بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر خير من ألف شهر.
وروي عن مجاهد: أن النبي ﷺ «ذكر رجلًا من بني إسرائيل لبس السلاح ألف شهر» فتعجب المسلمون من ذلك، فأنزل الله هذه السورة: } لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ { التي لبس فيها ذلك الرجل السلاح في سبيل الله ألف شهر. وقال النخعي: العملُ فيها خبرٌ من العمل في ألف شهر سواها.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي ﷺ قال: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه». وفي المسند عن عبادة مرفوعًا: «من قامها ابتغاءها، ثم وقعت له غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر». وفي المسند والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي ﷺ أنه قال: في شهر رمضان: «فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم».
قال جويبرٌ، قلتُ للضّحَّاكِ: أرأيتَ النُّفساءوالحائض، والمسافر والنائم، لهم في ليلة القدر نصيبٌ؟ قال: نعم؛ كُلُّ من تقبل الله عمله، سيعطيه نصيبه من ليلة القدر.
المعوَّلُ على القبول لا على الاجتهاد، والاعتبارُ ببر القلوب وطهارتها، لا بعمل الأبدان، رُبَّ قائمٍ حظَّهُ من قيامه التعبُ والسهرُ، كم من قائم محروم، ونائم مرحوم، هذا نائم وقلبه ذاكر، وهذا قائم وقلبه فاجرٌ، لكن العبدُ مأمورٌ بالسعي في اكتساب الخيرات، والاجتهاد في الأعمال الصالحات، والانزجار عن المكروهات، وأعمال السيئات، وكُلٌّ ميسرٌ لما خلق له، أما أهلُ السعادة فيُيَسرُن لعمل أهل السعادة، وأما أهلُ الشقاوة فيُيَسَّرُون لعمل أهل الشقاوة، فالمبادرة المبادرة، إلى اغتنام العمل فيما بقي من الشهر، فعسى أن تُدرك ما فات من ضياع العمر.
فَصْلُ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ
في الصحيحين: عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رجالاً من أصحاب النبي ﷺ أُرُوا ليلةَ القدرِ في المنام، في السبع الأواخر من رمضان، فقال رسول الله ﷺ: «أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر».
وروى مسلم عن النبي ﷺ قال: «التمسوهَا في العشْرِ الأواخر، فإن ضعُف أحدُكم أو عجز، فلا يُغلبْ على السبع البَوَاقي». وكان رسولُ الله ﷺ: يأمُر بالتماسها في أوتار العشر الأواخر من رمضان.
ففي صحيح البخاري، عن النبي ﷺ قال: «التمسوها في العشر الأواخر من رمضان: في تاسعةٍ تبقى، في سابعة تبقى، في خامسةٍ تبقى».
وفي رواية: «هي في العشر، سبع يمضين، أو سبع يبقين».
قال أبو بكرة: ما أنا بملتمسها لشيء سمعته من رسول الله ﷺ إلا في العشر الأواخر، فإني سمعته يقول: «التمسوها في تسع يبقين، أو سبع يبقين، أو خمسٍ يبقين، أو آخر ليلة».
وروى أحمد والنسائي عن أبي ذر رضي الله عنه ، قال: كنت أسأل الناس عنها- يعني ليلة القدر- فقلت: يا رسول الله، أخبرني عن ليلة القدر: أفي رمضان هي أم في غيره؟ قال: «بلى هي في رمضان» قلت: تكون مع الأنبياء ما كانوا، فإذا قبضوا رفعت، أم هي إلى يوم القيامة؟ قال: «بل هي إلى يوم القيامة» قلت: في أي رمضان؟ قال: «التمسوها في العشر الأول. والعشر الأواخر» قلت: في أي العشرين؟ قال: «في العشر الأواخر لا تسألني عن شيء بعدها».
ثم حدَّث رسول الله ﷺ، ثم اهتبلتُ غفلته، فقلت: يا رسول الله أقسمت عليك بحقي لما أخبرتني، في أي العشر هي؟ فغضب علي غضبًا لم يغضب مثله منذ صحبته، قال: «التمسوها في السبع الأواخر. لا تسألني عن شيء بعدها»، ورواه ابن حبان والحاكم.
وفي رواية لهما أنه قال له: «ألم أنهك أن تسألني عنها؟ إن الله لو أذن لي أن أخبركم بها لأخبرتكم، لا آمن أن تكون في السبع الأواخر».
ولمسلم وأبي داود عن عبدالله بن أنيس، أنه قال يا رسول الله، إني أكون ببادية، وإني أصلي بهم، فمرني بليلة في هذا الشهر أنزلها إلى المسجد فأصلي فيه، قال: «انزل في ليلة ثلاث وعشرين» لفظ أبي داود.
كانت طائفة تجتهد ليلة أربع وعشرين، روي عن أنس والحسن، وروي عنه قال: راقبتُ الشمس عشرين سنة ليلة أربع وعشرين. فكانت تطلع لا شعاع لها، وروي عن ابن عباس، ذكره البخاري عنه. وقيل: إن المحفوظ عنه: أنها ليلة ثلاثٍ وعشرين.
وكان أيوب السختياني يغتسل ليلة ثلاث وعشرين، ويمس طيبًا ليلة أربع وعشرين، ويقول: ليلةُ ثلاث وعشرين ليلةُ أهل المدينة، وليلةُ أربع وعشرين، ليلتنا أهل البصرة.
وقد اختلف الناس في ليلة القدر، والجمهور: أنها في العشر الأواخر، كما دلَّت عليه الأحاديث الصحيحة. واختلفوا في أيِّ ليالي العشر أرجى؟ وحكي عن الحسن ومالك: أنها تُطْلَبُ في جميع ليالي العشر، ورجّحَهُ بعضُ أصحابنا.
وقال الأكثرون: بل بعض لياليه أرجى من بعض، ثم قالوا: أوتاره أرجى في الجملة. ولم يرد نصٌّ صريحٌ عن النبي ﷺ: أنها في ليلة معينة.
والحكمة في ذلك- والله أعلم- ليجتهد المؤمن في هذه الليالي الشريفة، كل ليلة يقول: هذه ليلة القدر، واجتهاده في هذه الليالي العشر، واعتكافه فيها لأجل هذه الليلة: يدلُّ على ذلك، والله أعلم.
فَصْلٌ في أرْجَى ليلة لها
وأرجاها ليلةُ سبعٍ وعشرين، لما روى مسلم عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه ، قال: «والله إني أعلم أيَّ ليلةٍ هي، هي الليلة التي أمرنا رسولُ الله ﷺ بقيامها؛ وهي ليلة سبع وعشرين».
وفي لفظ: «كان يحلف على ذلك، ويقولُ: بالآيةِ والعلامةِ التي أخبرنا بها رسول الله ﷺ، أن الشمس تطلُع صبيحتها لا شُعاع لها».
وخرجه أيضًا بلفظ آخر عن أبيٍّ، قال: «والله إني لأعلمُ أيَّ ليلةٍ هي؟ هي الليلةُ التي أمرنا رسول الله ﷺ بقيامها، هي ليلة سبعٍ وعشرين».
وروى أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلًا قال : يا رسول الله: إني شيخٌ كبيرٌ عليلٌ يشقُّ عليَّ القيامُ، فمرني بليلة يوفقني الله فيها لليلة القدر، فقال: «عليك بالسابعة» وإسنادُه على شرط البخاري.
وروي أيضًا، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله ﷺ: «من كان متحريًا فليتحرَّها ليلةَ سبع وعشرين» أو قال: «تحرَّوها ليلةَ سبعٍ وعشرين». وعن معاوية مرفوعًا: «ليلةُ القدر ليلةُ سبع وعشرين». والصحيحُ عند أحمد وقفه.
ومما يدلُّ على ذلك: حديث أبي ذر في قيام النبي ﷺ بهم، في أفراد السبع الأواخر، وأنه «قام بهم في الثالثة والعشرين إلى ثلث الليل. وفي الخامسة إلى نصف الليل، وفي السابعة إلى آخر الليل، حتى خشوا أن يفوتهم الفلاحُ» وجمع أهله ليلتئذ، وجمع الناس. و«الفلاحُ»: السحور.
ومما استدلَّ به بعضُهم من الآيات، والعلامات: ما تقدم عن أبيِّ بن كعب، أنه استدل على ذلك بطلوع الشمس في صبيحتها لا شعاع لها؛ وطاف بعضُ السلف بالبيت الحرام، ليلةَ سبع وعشرين، فرأى الملائكة في الهواء طائفين فوق رؤوس الناس.
ورجلٌ بالسواد ينظرُ، فقال له آخر: أيُّ شيءٍ تنظر؟ فقال: إلى ليلة القدر. فقال: نم فسأخبرك؛ فلما كانت ليلةُ سبع وعشرين، ذهب به إلى النخل، فإذا النخلُ واضعٌ سعفه بالأرض، وقال: لسنا نرى هذا في السنة كلِّها إلا في هذه الليلة.
ومُقْعَدٌ دعا الله فيها فأطلقه، ومقعدةٌ كذلك، وأخرسُ ثلاثين سنة دعا الله فأطلق لسانه وتكلَّم.
وذكر الوزير أبو المظفر: أنَّهُ رأى ليلةَ سبع وعشرين-وكانت ليلة جمعةٍ- بابًا في السماء مفتوحًا شاميَّ الكعبة، ظنه حيال الحجرة النبوية، ولم يزل كذلك إلى طلوع الشمس.
وإن وقع في ليلةٍ من أوتار العشر ليلةُ جمعةٍ، فهي أرجى من غيرها.
فصل في العمل في ليلة القدر
ثبت عن النبيِّ ﷺ أنه قال: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه». وفي المسند عن عبادة: «من قامها ابتغاءها، ثم وقعت له غفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر». وللنسائي في حديث قتيبة بن سعيد عن سفيان: «غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» قال الحافظ: وإسناده على شرط الصحيح.
وقيامُها: إنما هو بالتهجد فيها والصلاة. وقد أمر ﷺ عائشة بالدعاء فيها. قال سفيان: الدعاءُ في الليلة أحبُّ إليَّ من الصلاة. وإذا كان يقرأُ ويدعُو، ويرغبُ إلى الله في الدعاء والمسألةِ، لعله يوافق.
وقد كان ﷺ يتهجد في ليالي رمضان، ويقرأُ قراءةً مُرتَّلة، لا يمرُّ بآية فيها رحمةٌ إلاَّ سأل، ولا بآية فيها عذاب إلا تعوذ. فجمع بين الصلاة والقراءة والدعاء والتفكر. وهذا أفضل الأعمال وأكملها في ليالي العشر وغيرها.
قال الشعبي في ليلة القدر: ليلُها كنهارها. وقال الشافعي: أستحب أن يكون اجتهادُه في نهارها كاجتهاده في ليلها.
قالت عائشة رضي الله عنها «يا رسول الله، إن وافقتُ ليلةَ القدر ما أقول؟ قال: قولي: اللهمَّ إنك عفوٌّ تحبُّ العفو فاعفُ عنِّي».
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا: «إنَّ الله ينظرُ ليلة القدر إلى المؤمنين من أمة محمد ﷺ، فيعفو عنهم، ويرحمهم، إلَّا أربعةً: مدمنُ خمرٍ، وعاقٌ، ومشاحنٌ، وقاطعُ رحم».
لما عرف العارفون بجلاله خضعُوا، ولما سمع المذنبون بعفوه طمعُوا ما ثمَّ إلا عفوُ الله أو النارُ، إنما أمر بسؤال العفو في ليلة القدر بعد الاجتهاد في الأعمال فيها، وفي ليالي العشر: لأنَّ العارفين يجتهدون في الأعمال الصالحة، ثم لا يرون لأنفسهم عملاً، ولا حالاً، ولا مقالاً، فيرجعون إلى سؤال العفو، كحال المذنب المعترف. كان مطرِّفُ يقولُ في دعائه: اللهم ارض عنّا، فإن لم ترض عنّا، فاعفُ عنَّا.
يا ربِّ، عبدُك قد أتا | كَ وقد أساءَ، وقد هفا | |
يَكْفيهِ منكَ حياؤه | من سوء ما قدْ أسلفا | |
حملَ الذُّنوبَ على الذُّنو | ب الموبقاتِ، وأسرَفا | |
وقد استجارَ بذيلِ عفْـ | ـوكَ من عقابك مُلْحِفا |
فصْلٌ في: ودَاعِ رَمضانَ
تقدم: ما ثبتَ في الصحيحين عن النبي ِّ ﷺ أنه قال: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر لهُ ما تقدم من ذنبه» ولأحمد «وما تأخر» وإسنادهُ حسن؛ و «من قام ليلةَ القدر إيمانًا واحتسابًا: غُفر لهُ ما تقدم من ذنبه. ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا: غفر له ما تقدم من ذنبه» زاد النسائي «غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر».
ولأحمد عن عبادة مرفوعًا في ليلة القدر: «من قامها ابتغاءها ثم وقعت له غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر». ولابن حبان والبيهقي، عن أبي سعيد مرفوعًا: «من صام رمضان، وعرف حدوده، وتحفظ مما ينبغي له أن يتحفَّظ منه كفّر ما قبله». وعن أبي هريرة مرفوعًا: «شهر رمضان، يكفِّرُ ما بين يديه إلى شهر رمضان المقبل» رواه ابن أبي الدنيا.
والتكفيرُ مشروطٌ: بالتحفظ مما ينبغي أن يُتحفَّظ منه؛ والجمهور على أن ذلك إنما يكفِّرُ الصغائر؛ لما روى مسلمٌ: أن النبي ﷺ قال: «الصلواتُ الخمس، والجمعةُ إلى الجمعة، ورمضانُ إلى رمضان مكفراتٌ لما بينهنَّ، ما اجتنبت الكبائر».
وفي تأويله قولان:
أحدهما: أن التكفير مشروطٌ باجتناب الكبائر.
الثاني: أن المراد: أنّ هذه الفرائض: تكفِّرُ الصغائر خاصة؛ وقال ابن المنذر في ليلة القدر: يرجى بها مفغرةُ الذنوب كبائرها وصغائرها؛ وقال غيره: مثل ذلك في الصوم.
والجمهور: على أن الكبائر لا بدّ لها من توبة نصوح؛ وحديث أبي هريرة: يدلُّ على أن هذه الأسباب الثلاثة، كلُّ واحدٍ منها مكفرٌ لما سلف من الذنوب، فقيامُ ليلةِ القدر يقع التكفير به إذا وافقها ولو لم يشعر بها، وأما صيامُ رمضان وقيامُه: فيتوقفُ التكفيرُ بهما على تمام الشهر.
وقيل: يغفر لهم آخر ليلة من رمضان، ويدلُّ عليه: ما رواه أحمد عن أبي هريرة قال: «ويغفر لهم في آخر ليلة، فقيل: يا رسول الله، أهي ليلةُ القدر؟ قال: لا، ولكنَّ العامل إنما يوفَّى أجره إذا قضى عمله».
وروي: «أن الصائمين يرجعون يوم الفطر مغفورًا لهم، وأن يوم الفطر يسمى يوم الجوائز». وأخرج البزّارُ عن معاذ مرفوعًا: «من صام رمضان وصلَّى الصوات الخمس، وحجَّ البيت، كان حقًا على الله أن يغفر له».
قال الزهري: إذا كان يومُ الفطر وخرج الناس إلى الصلاة اطلع الله عليهم، فقال: يا عبادي، لي صُمْتُم، ولي قمتم، ارجعوا مغفورًا لكم. وقال مورِّق: يرجعُ هذا اليوم قومٌ كما ولدتهم أمهاتهم.
روي عن ابن عباس مرفوعًا: «إذا كان يومُ الفطر هبطت الملائكةُ إلى الأرض، فيقفون على أفواه السِّكك، ينادون بصوت يسمعُه مَنْ خلق الله، إلا الجنَ والإنس، يقولون يا أمة محمد، أخرجوا إلى ربّ كريم، يعطي الجزيل، ويغفر الذنب العظيم. فإذا برزوا إلى مصلاهم يقول الله ﷻ لملائكته: ما جزاءُ الأجير إذا عمل عمله؟ فيقولون: إلهنا وسيدنا أن يوفّى أجره. فيقولُ: إني أشهدكم أنِّي جعلت ثوابهم من صيامهم وقيامهم رضائي ومغفرتي، ارجعوا مغفورًا لكم» خرّجه سلمة بن شبيب.
زاد البيهقي: «يا عبادي، فوعزتي وجلالي لا تسألوني اليوم شيئًا في جمعكم لآخرتكم إلا أعطيتكم، ولا لدنياكم إلا نظرت لكم، فوعزتي لأسترن عليكم عثراتكم ما راقبتموني، وعزّتي وجلالي لا أخزيكم، ولا أفضحكم بين أصحاب الحدود، انصرفوا مغفورًا لكم، قد أرضيتموني ورضيت عنكم، فتفرحُ الملائكةُ وتستبشرُ بما يعطي اللهُ هذه الأمة إذا أفطروا من شهر رمضان».
الصيامُ وسائر الأعمال: من وفَّاها فهو من خيار عباد الله الموفين، ومن طفّف فيها فويل للمطففين، إذا كان الويلُ لمن طفَّف ميكال الدنيا. فكيف حالُ من طفّفَ ميكال الدِّين؟
غدًا توفّى النفوسُ ما عَمِلت | ويحصدُ الزَّارعُونَ ما زرعوا | |
إِن أحسنوا أحسنوا لأنفسِهمُ | وإن أساءُوا، فبئْسَما صنعوا |
كان السلفُ الصالحُ: يجتهدون في إتمام العمل، وإكماله وإتقانه، ثم يهتمون بعدَ ذلك بقبوله: ويخافون من ردِّه، وهؤلاء الذين يُؤتُون ما آتو وقلوبهم وجلة، رُوي عن عليٍّ رضي الله عنه: «كُونُوا لقبول العمل أشدَّ اهتمامًا منكم بالعمل، ألم تسمعُوا الله ﷻ يقول: } إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ {».
وعن فضالةَ: لأن أعلم أن الله تقبّل مني مثقال حبةِ خردلٍ، أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها، لأن الله تعالى يقول: } إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ {.
وقال مالك بنُ دينار: الخوفُ على العمل أن لا يُقبل أشدُّ من العمل. وقال عطاءٌ السلميُّ: الحذر الاتقاء على العمل الصالح أن لا يكون لله.
وقال عبدالعزيز بن أبي رَوَّاد: أدركتُهم يجتهدُون في العمل الصالح، فإذا فعلوه وقع عليهم الهمُّ: أتُقُبِّلَ منهم أم لا؟ قال بعض السلف: كانوا يدعون الله ستة أشهرٍ أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبله منهم.
وكان بعض السلف يظهرُ عليه الحزنُ يوم عيد الفطر، فيقال له: إنه يومُ فرح وسرور فيقول: صدقتم. ولكني عبدٌ أمرني مولاي أن أعمل له عملاً، فلا أدري أيقبله مني أم لا؟
رأى وهيبٌ قومًا يصحكون يوم عيدٍ، فقال: إن كان هؤلاء تُقُبِّل منهم صيامُهم، فما هذا فعل الشاكرين، وإن كان لم يُتقبل منهم فما هذا فعل الخائفين.
وعن الحسن قال: إن الله جعل رمضانَ مضمارًا لخلقه، يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبقَ قومٌ ففازوا، وتخلَّف آخرون فخابوا، فالعجبُ من اللاّعب الضاحك في اليوم الذي يفوزُ فيه المحسنون، ويخسرُ فيه المبطلون.
روي عن علي رضي الله عنه : أنه كان ينادي في آخر ليلةٍ من رمضان: يا ليت شعري من هذا المقبولُ فنهنيه، ومن هذا المحرومُ فنعزِّيه؟ أيُّها المقبولُ: هنيئًا لك، أيُّهَا المردودُ: جبر اللهُ مصيبتك.
شهرُ رمضان تكثر فيه أسبابُ المغفرة والغفران؛ فمن أسباب المغفرة فيه: صيامُه وقيامُه؛ وقيامُ ليلة القدر. ومنها: تفطيرُ الصّوامِ، والتخفيف عن المملوك. ومنها: الذكرُ. وفي حديث مرفوع «ذاكرُ الله فيه مغفورُ له. وسائلُ الله فيه لا يخيبُ».
ومنها: الاستغفار، وطلبُ المغفرةِ، ودعاءُ الصائم مستجابٌ في صيامه وعند فطره. وفي حديث أبي هريرة: ويغفر فيه إلا لمن أبى.
قالوا: يا أبا هريرة ومن يأبى؟ قال: يأبى أن يستغفر الله. ومنها: استغفارُ الملائكة للصائمين حتى يفطروا. لما كثرت أسبابُ المغفرة في رمضانَ، كان الذي تفوتُه فيه المغفرة محرومًا غاية الحرمان.
صعدَ النبيُّ ﷺ المنبر فقال: «آمين، آمين، آمين. فقيل له. فقال: إن جبرائيل أتاني، فقال: من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فمات، فدخل النار، فأبعده الله. قل: آمين فقلت: آمين» الحديث. رواه ابن حبان.
وقال قتادة: كان يقالُ من لم يغفرْ لَه في رمضان فلن يغفر له فيما سواه؛ وفي حديث آخر «من لم يغفرْ له في رمضان، فمتى يُغفرْ له؟».
متى يغفر لمن لم يغفر له في هذا الشهر؟ متى يُقبل من رُدَّ في ليلة القدر؟ متى يصلُح من لا يصلحُ في رمضان؟ متى يصلحْ من كان فيه من داء الجهالة والغفلةِ مرْضان؟
ترحَّلَ الشَّهرُ وَا لهْفَاهُ وانصرمَا | واختصَّ بالفوزِ بالجنات مَنْ خَدَما | |
وأصبح الغافلُ المسكينُ منكسرا | مثلي، فيا ويْحهُ، ياعُظْمَ ما حُرِما | |
من فاته الزرعُ في وقت البذارِ فما | تراهُ يحصد إلاّ الهمّ والنَّدَمَا |
شهرُ رمضانَ: أولُه رحمةٌ، وأوسطُه مغفرةٌ، وآخرُه عتق من النار.
وفي الحديث الصحيح: «أنه تفتَّحُ فيه أبوابُ الرحمة» وفي الترمذي «إِن للهِ عتقاءَ من النار، وذلك كلَّ ليلة».
الأغلب على أوله: الرحمة، وأوسطه: المغفرة، وآخره: العتقُ فيه من النار لمن أوبقته الأوزار، واستوجب النار، بالذنوب الكبار.
وفي حديث ابن عباس المرفوع: «إن لله في كل ليلة من شهر رمضان عند الإفطار ألفَ ألفَ عتيقٍ من النار، فإذا كان يومُ الجمعة أعتق الله في كل ساعة منها ألفَ ألفَ عتيقٍ من النار، كلُّهم قد استوجب العذاب. فإذا كان آخرُ ليلة من شهر رمضان: أعتق اللهُ في ذلك اليوم بعدد ما أعتق من أول الشهرِ إلى آخره» أخرجه سلمةُ بنُ شبيب وغيرُه.
ورَوى البزّارُ عن أبي سعيد مرفوعًا: «إن لله تبارك وتعالى عُتقاء كلَّ يومٍ وليلة، يعني في رمضان، وإنَّ لكل مسلم في كلِّ يومٍ وليلةٍ دعوةً مستجابة».
وإنما كان يومُ الفطر من رمضان عيدًا لجميع الأمة: لأنه يعتق فيه أهل الكبائر من الصائمين من النار، فيلتحق فيه المذنبون بالأبرار، كما أنَّ يوم النحر هو العيدُ الأكبر، لأنّ قبله يوم عرفة، وهو: اليوم الذي لا يرى في يوم من أيام الدنيا، أكثر عتقاء من النار منه، فمن أعتق من النار في اليومين، فله يومُ عيد، ومن فاته العتقُ في اليومين، فله يومُ وعيد.
لما كانت المغفرةُ والعتقُ كلُّ منهما مرتبٌ، على صيام رمضان وقيامه: أمر الله سبحانه عند إكمال العدة بتكبيره وشكره، فقال: } وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ { فشكْرُ من أنعم على عبده بتوفيقهم للصيام والقيام، وإعانتهم عليه، ومغفرته لهم وعتقهم من النار: أن يذكروه ويشكروه، ويتَّقوه حقَّ تقاته.
يا من أعتقهُ مولاهُ من النَّار، إياك أن تعودَ بعد أن صرت حرًّا، إلى رقِّ الأوزار، أيبعدُك مولاك من النّار، وأنت تقربُ منها؟ وينقذُك منها، وأنت توقعُ نفسك فيها، ولا تحيدُ عنها؟ إن كانت الرحمةُ للمحسنين فالمسيءُ لا ييأس منها، وإن تكن المغفرة للمتقين، فالظالم لنفسه غيرُ محجوب عنها.
إن كانَ لا يرجوكَ إلا مُحسنٌ | فمن الذي الذي يرجوُ ويدعو المذنبُ؟ |
لم لا يُرجَى العفوُ من ربِّنا؟ وكيف لا يُطمع في حلمه؟
وفي الصحيح: «أنه تعالى بعبده أرحمُ من أمه» } قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا {.
فيا أيُّها العاصي- وكلُّنا كذلك- لا تقنط من رحمة الله لسوء أفعالك، فكم في هذه الأيام من معتق من النار، من أمثالك؟ فأحسن الظن بمولاك وتب إليه، فإنه لا يهلك على الله إلا هالك.
إذا أوجعتْك الذنوب فداوِها | برفع يَدٍ بالليل والليلُ مظلمُ | |
ولا تقنطن من رحمة الله، إنما | قنوطك منها من ذنوبك أعظم |
ينبغي لمن يرجو العتق في رمضان من النار: أن يأتي بأسبابٍ توجبُ العتق من النار؛ كان أبو قلابةَ يُعتقُ في آخر الشهر جارية حسناء مزينةً، يرجو بعتقها العتق من النار.
وتقدم في حديث سلمان: «من فطر فيه صائمًا، كان مغفرةً لذنوبه، وعتقًا لرقبته من النار، ومن خفّف عن مملوكه، كان له عتقًا من النار» وفيه: «فاستكثروا فيه من أربع خصالٍ: خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غناء لكم عنهما، فأمَّا الخصلتان اللتان ترضون بهما ربَّكم: فشهادةُ أن لا إله إلا الله، والاستغفار؛ وأما اللتان لا غناءَ لكم عنهما: فتسألون الله الجنةَ وتستعيذون به من النّار» فهذه الخصالُ كلٌ منها سببٌ للعتق والمغفرة.
فأما كلمةُ التوحيد فإنها تهدم الذنوب وتمحوها، ولا تُبقي ذنبًا ولا يسبقُها عمل، وهي تعدلُ عتق الرِّقاب الذي يوجب العتق من النار، ومن أتى بها أربع مرات- حين يصبح وحين يمسي- أعتقه الله من النار، ومن قالها مخلصًا من قلبه حرمه الله على النار.
وأما كلمة الاستغفار: فمن أعظم أسباب المغفرة، فإن الاستغفار دعاءٌ بالمغفرة، ودعاءُ الصائم مستجابٌ في حال صيامه وعند فطره.
قال الحسن: أكثروا من الاستغفار. فإنكم لا تدرُون متى تنزلُ الرَّحمةُ؛ وقال لقمان لابنه: يا بنيَّ عوِّد لسانك الاستغفار. فإن لله ساعاتٍ لا يردُ فيها سائلًا؛ وفي الأثر: إن إبليس قال: أهلكتُ الناس بالذُّنوبِ، وأهلكوني بلا إله إلا الله، والاستغفار.
والاستغفارُ: ختامُ الأعمال الصالحة كلِّها، فتختم به الصلاة والحج وقيامُ الليل، وتختم به المجالسُ، فإن كانت ذكرًا، كان كالطابع عليها، وإن كانت لغوًا كان كفارةً لها؛ فكذلك ينبغي أن يُختم صيامُ رمضان بالاستغفار؛ وكتب عمر بن عبدالعزيز إلى الأمصار: يأمرُهم بختم رمضان بالاستغفار، والصدقة، صدقةِ الفطر؛ فإن صدقة الفطر طُهرةٌ للصائم من اللغو والرفث، والاستغفارُ يرقِّعُ ما تخرَّقَ من الصيام باللغو والرفث.
قال عُمر بنُ عبدالعزيز، في كتابه: قُولوا كما قال أبُوكم آدمُ u: } رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ { وقولوا كما قال نوحٌ u: }إِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ{.
وقولوا كما قال موسى u: } رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي { وقولوا كما قال ذو النون: } لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ {.
الصِّيامُ: جُنةٌ من النار ما لم يخرِّقها، والكلام السيءُ يخرِّقُ هذه الجُنة، والاستغفارُ يرقِّعُ ما تخرق منها.
أمر النبيُّ ﷺ عائشة ليلة القدر بسؤال العفو؛ فإنَّ المؤمن يجتهدُ في شهر رمضان في صيامه وقيامه، فإذا قَرُبَ فراغه وصادف ليلة القدر لم يسأل الله إلاَّ العفو، كالمسيء المقصِّر.
قال يحيى بنُ معاذ: ليس بعارفٍ من لم يكن غايةُ أمله من الله العفو، من استغفر بلسانه وقلبُه على المعصية معقود، وعزمُه أن يرجع إلى المعصية بعد الشهر ويعود، فصومُه عليه مردود، وبابُ القبولِ في وجهه مسدود.
قال كعبٌ: من صامَ رمضانَ، وهو يحدِّث نفسهُ إذا أَفطر بعد رمضان: عصى ربَّه، فصيامُه عليه مردُود. ومن صامَ رمضان، وهو يحدث نفسه إذا أفطر بعد رمضان أن لا يعصي الله: دخل الجنة بغير حساب ولا مسألة.
وأما سؤالُ الجنةِ والاستعاذةُ من النار: فمن أهمِّ الدعاءِ. قال ﷺ: «حولها نُدَنْدِن» فالصائمُ يُرجى استجابة دعائه، فينبَغي أن لا يدعو إلا بأهم الأمور.
وفي الحديث: «تعرضوا لنفحات ربِّكم، فإن لله نفحاتٍ من رحمته، يصيب بها من يشاء من عباده» فمن أصابته سعدَ سعادة لا يشقى بعدها أبدًا.
فإن أعظم نفحاته: مصادفةُ ساعة إجابةٍ، يسأل العبدُ فيها الجنة والنجاةَ من النار، فيجابُ سُؤالهُ، فيفوزُ بسعادة الأبد، قال تعالى: } فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ {.
ليس السعيد الذي دنياه تسعِدُه | إن السعيدَ الذي ينجُو من النار |
عباد الله، شهرُ رمضان قد عزم على الرحيل، ولم يبق منه إلَا القليل، فمن كان منكم أحسن فعليه بالتَّمام، ومن كان فرَّط فليختمه بالحسنى، فالعملُ بالختام، فاغتنموا منه ما بقي، وودِّعوهُ بأزكى تحيةٍ وسلام.
قُلوبُ المتَّقين إلى هذا الشهر تحِنُّ، ومن ألمِ فراقه تَئنُّ، إذا كان هذا جزعُ من ربح فيه، فكيف بمن خسر في أيامه ولياليه؟ ماذا ينفعُ المفرطُ فيه بكاؤه، وقد عظمتْ فيه مصيبتُه وجلَّ عزاؤه؟
كم نُصِحَ المسكينُ فما قبلَ النُّصحَ، كَم دُعيَ إلى المصالحة فما أجاب إلى الصُّلح؟ كما شاهد الواصلين فيه، وهو متباعدٌ، كم مرَّت به زُمرُ السائرين وهو قاعد؟ حتى إذا ضاق به الوقتُ، وحاقَ به المقتُ، ندِمَ على التفريط حين لا ينفعُ النَّدم.
فنفسَك لُمْ، ولا تَلُمِ المطايا | ومُتْ كَمَدًا، فليس لك اعتذارُ |
شهرَ رمضانَ ترفَّق، دموُع المحبين تدَفَّق، قُلوبُهم من ألمِ الفراق تشقَّق، عسَى وقفةٌ للوداعِ تُطفي من نار الشوق ما أَحرَق، عسَى ساعةُ توبةٍ وإقِلاعٍ ترفو من الصيام كلَّ ما تخرَّق، عسَى مُنقَطعٌ عن رَكب المقبولين يَلْحق، عسى أسيْرُ الأوزارِ يُطلَق، عسَى مَنْ استوجبَ النار يُعتق.
عسَى وعسَى مِن قَبلِ وقتِ التَّفرقِ | ||
إلى كُلِّ مَا نَرجُو مِنَ الْخَيْرِ نَرْتَقِي | ||
فيُجبرُ مَكسورٌ، ويُقبل تَائبٌ | ||
ويُعتَقُ خَطّاءٌ، ويُسعَدُ مَنْ شَقِي | ||
******
****
**
*
تَتِمَّةٌ: في صيام ستٍّ من شوّال
عن أبي أيوب رضي الله عنه : أن رسول الله ﷺ قال: «من صام رمضانَ، ثم أتبع ستًا من شوال، كان كصيام الدّهر» رواه مسلم. وروى أحمدُ والنسائي عن ثوبان مرفوعًا: «صيامُ شهرِ رمضانَ بعشرة أشهر، وصيامُ ستة أيامٍ بشهرين فذلك صيام السنة».
وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «من صام رمضان وأتبعه بستٍ من شوّال، فكأنما صام الدّهر» رواه البزّار وغيره. وروى الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله ﷺ: «من صامَ رمضانَ وأتبعه ستًّا من شوّال، خرج من ذنوبه كيومِ ولدتُهُ أُمّه».
آخره، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.