محاسبة النفس [ عبد الرحمن العايد ]
التصنيفات
الوصف المفصل
محاسبة النفس
الدكتور / عبد الرحمن بن عايد العايد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ؛ أما بعد :
فالنفس بطبيعتها أمارة بالسوء ، ميالة إلى الطغيان ، تعصف بها الأهواء ، وتملؤها الأدواء ، خطرها عظيم ، وبلاؤها جسيم ، تحتاج إلى من يلجمها بلجام التقوى ، ويأطرها على الحق أطراً ، ومن هنا كان لابد من وقفة محاسبة لها وقفة خفية بينك وبين نفسك لا يعلمها إلا الله .
إن كثيراً من المؤسسات والشركات لها قسم خاص يدعى قسم المحاسبة والتدقيق من خلاله تتعرف على أوجه الربح فتزيد منها أو أسباب الخسارة فتتجنبها .
أليس من الأولى أن تكون لنا وقفة محاسبة مع أنفسنا ؛ هذا ما نتكلم عنه في هذه المحاضرة التي هي بعنوان محاسبة النفس وسيكون الكلام في النقاط التالية :
* تعريف المحاسبة.
* أهمية المحاسبة.
* مشروعية المحاسبة.
* أسباب فقدها.
* آثار فقدها.
* الأسباب المعينة على المحاسبة.
* الآثار المترتبة عليها.
* أنواعها وكيفية كل نوع.
* علاقتها بالتوبة.
* علاقتها بمقت النفس.
* نماذج من كلام السلف عن المحاسبة.
* عقوبة النفس بعد محاسبتها.
* كلمة أخيرة.
تعريف المحاسبة:
قال الماوردي في معنى المحاسبة: (أن يتصفّح الإنسان في ليله ما صدر من أفعال نهاره، فإن كان محموداً أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذموماً استدركه إن أمكن وانتهى عن مثله في الـمستقبل).
وأمـا الحارث المحاسبي فقد عرّفها بقوله: (هي التثبّت في جميع الأحوال قبل الفعل والترك من العقد بالضمير، أو الفعل بالجارحة؛ حتى يتبيّن له ما يفعل وما يترك، فإن تبيّن له ما كره الله ـ عز وجل ـ جانـبه بعقد ضمير قلبه، وكفّ جوارحه عمّا كرهه الله ـ عز وجل ـ ومَنَع نفسه من الإمساك عن ترك الفرض، وسارع إلى أدائه).
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: (هي التمييز بين ما له وما عليه (يقصد العبد) فيستصحب ما له ويـؤدي ما عليه؛ لأنه مسافرٌ سَفَرَ من لا يعود). وقال (فمحاسبة النفس هو نظر العبد في حق الله عليه أولا ثم نظره هل قام به كما ينبغي ثانياً) .
أهمية المحاسبة :
للمحاسبة أهمية كبرى تتبين في النقاط التالية :
1- طريق لاستقامة القلوب وتزكية النفوس ؛ فإن زكاتها وطهارتها موقوف على محاسبتها ، فلا تزكو ولا تطهر ولا تصلح ألبتة إلا بمحاسبتها .
2- أنها دليل على صلاح الإنسان وعلى خوفه من الله ؛ فغير الخائف من الله ليس عنده من الدواعي ما يجعله يقف مع نفسه فيحاسبها و يعاتبها على تقصيرها .
3- أنها طريق للتوبة ؛ وذلك لأنه إذا حاسب نفسه أدرك تقصيره في جنب الله ، فقاده هذا إلى التوبة .
4- يترتب على المحاسبة آثار حميدة سيأتي ذكرها .
5 ـ يترتب على ترك المحاسبة آثار سيئة سيأتي ذكرها .
مشروعية المحاسبة :
يدل على محاسبة النفس ما يلي :
1- قول الله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ)) (الحشر:18) .
ففي هذه الآية أمر الله ـ سبحانه وتعالى ـ العبدَ أن ينظر ما قدم ليوم القيامة ، وهل يصلح ما قدمه أن يلقى الله به أو لا يصلح ، ولا شك أن المقصود والهدف من هذا النظر : أن يقوده ذلك إلى كمال الاستعداد ليوم المعاد ، وتقديم ما ينجيه من عذاب الله ، ويبيض وجهه عند الله ؛ وهذه في حقيقتها هي محاسبة النفس .
2- روى أحمد وغيره من حديث شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله )) ومعنى دان نفسه : أي حاسبها .
3- (عَنْ حَنْظَلَةَ الأُسَيِّدِيِّ قَالَ وَكَانَ مِنْ كُتَّابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ قَالَ قُلْتُ نَافَقَ حَنْظَلَةُ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا تَقُولُ قَالَ قُلْتُ نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلادَ وَالضَّيْعَاتِ فَنَسِينَا كَثِيرًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (( وَمَا ذَاكَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الأزْوَاجَ وَالأَوْلادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً ثَلاثَ مَرَّاتٍ )) ، فهنا حنظلة حاسب نفسه على ما ظنه تقصيراً .
4- ذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا ؛ فإنه أهون عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم ، وتزينوا للعرض الأكبر يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ) .
أسباب فقدها :
لماذا لا نحاسب أنفسنا أو لماذا نقصر في محاسبتنا لأنفسنا ؟ .
هناك أمور تمنع أو تقلل من محاسبة النفس من أهمها :
1- المعاصي : سواء كان ذلك بفعل الكبائر أو بالإصرار على الصغائر ؛ حيث إن هذه المعاصي تسبب الران على القلب ، فإذا لم يحاسب العبد نفسه ويتوب تراكم هذه الران على قلبه ، وبقدر تراكم هذا الران تقل محاسبته لنفسه حتى يصبح قلبه لا ينكر منكراً ولا يعرف معروفاً .
2- التوسع في المباحات : لأن هذا التوسع يرغبه في الدنيا ويقلل تفكيره في الآخرة ، وإذا لم ينظر إلى آخرته ، أو قل نظره إليها قلت محاسبته لنفسه .
3- عدم استشعار عظمة الله وما يجب له من العبودية والخضوع والذل ؛ فلو استشعرنا ذلك وعرفنا لله حقه لأكثرنا من محاسبتنا لأنفسنا ، ولقارنا بين نعم الله علينا وبين معاصينا ، ولقارنا بين حقه علينا وبين ما قدمناه لآخرتنا .
4- تزكية النفس وحسن الظن بها: لأن حسن الظن بالنفس يمنع من التعرف على عيوبها وإذا لم تكتشف الداء كيف ستعالجه .
5- عدم تذكر الآخرة : والانشغال بالدنيا ولو وضعنا الآخرة نصب أعيننا لما أهملنا محاسبة أنفسنا .
آثار فقد المحاسبة :
إذا لم يحاسب العبد نفسه أو قلت محاسبته لنفسه فإنه يوشك أن يقع في أشياء منها :
1- عدم محاسبة النفس تسهل على العبد الوقوع في المعاصي ؛ حيث إن محاسبة النفس تجعله يندم على فعله المعصية ، وإذا ندم أوشك أن لا يعملها مرة أخرى ، أما إذا لم يأبه للمعصية ولم يحاسب نفسه عليها فإنه من السهل أن يقع فيها أو في معصية غيرها مرة أخرى .
2- يعسر عليه ترك المعاصي والبعد عنها ؛ لأنه يكون حينئذ ألفها واعتاد عليها ، وتشربها قلبه فيصعب عليه تركها .
4- استثقال الطاعات ؛ لأن الطاعة تحتاج إلى جهد وعزيمة ، وهذه العزيمة لا تأتي إلا بالوقوف مع النفس وقفة محاسبة ، وأخذها بالحزم والجد .
5- هلاك القلب: قال ابن القيم : (وهلاك القلب من إهمال محاسبتها ومن موافقتها واتباع هواها) وقال في إغاثة اللهفان : (وترك المحاسبة والاسترسال وتسهيل الأمور وتمشيتها ؛ فإن هذا يؤول به إلى الهلاك ، وهذه حال أهل الغرور : يغمض عينيه عن العواقب ، ويمشي الحال ، ويتكل على العفو فيهمل محاسبة نفسه ، والنظر في العاقبة ؛ وإذا فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب ، وأنس بها ، وعسر عليها فطامها ، ولو حضره رشده لعلم أن الحمية أسهل من الفطام وترك المألوف والمعتاد)
الأسباب المعينة على المحاسبة :
يعين المرء على محاسبته لنفسه عدة أمور منها :
1- أن يدرك أنه إذا اجتهد في محاسبة نفسه في الدنيا استراح من محاسبة الله له في يوم القيامة ، وإذا أهمل محاسبة نفسه في الدنيا اشتد عليه الحساب يوم القيامة .
2- أن يدرك أن ثمرة محاسبته لنفسه سكنى الفردوس ، والنظر إلى وجه الرب سبحانه ، وعدم محاسبته لنفسه يؤدي به إلى دخول النار ، والحجاب عن الرب تعالى ، فإذا تيقن هذا هان عليه محاسبة نفسه في الدنيا .
3- الاطلاع على أخبار السلف في محاسبتهم لأنفسهم ، فعليك إن كنت من المحاسبين لنفسك أن تطالع أحوال الرجال والنساء من المجتهدين ؛ لينبعث نشاطك ويزيد حرصك ، وإياك أن تنظر إلى أهل عصرك ؛ فإنك إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ، وسيأتي طرفاً من أخبارهم في ذلك .
4- صحبة أهل الهمة العالية المحاسبين لأنفسهم ؛ لأنك ستقتدي بهم في ذلك .
5- معرفة طبيعة النفس ؛ وأنها داعية إلى العصيان والجهل ؛ فلابد من محاسبتها وإلا قادتك إلى مهاوي الردى .
6- العلم الذي يميز به العبد بين الحق والباطل ، والهدى والضلال ، والضار والنافع ، والكامل والناقص ، والخير والشر ، ويبصر به مراتب الأعمال : راجحها ومرجوحها ، ومقبولها ومردودها ؛ وبقدر هذا العلم يكون التفاوت بين العباد من ناحية المحاسبة ، فمن كان حظه من هذا العلم أقوى كان حظه من المحاسبة أكمل وأتم .
7- سوء الظن بالنفس ؛ لأن حسن الظن بالنفس يمنع الإنسان من أن يبحث عن عيوبه ، بل وربما لبَّس عليه فيرى المساوىء محاسن والعيوب كمالاً . وعين الرضى عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا ومن عرف نفسه حق المعرفة أساء الظن بها ، ومن أحسن ظنه بنفسه فهو من أجهل الناس بنفسه .
8- أن تقارن بين نعمة الله عليك وبين أفعالك ، فالله سبحانه أنعم عليك نعماً كثيرة وأنت لم تقم بحقها ، وحينها تعلم أنه ليس إلا أن يعفو عنك ويرحمك أو تهلك.
9- أن تقارن بين حسناتك وسيئاتك أيهما أكثر وأرجح قدراً وصفة ؛ فهذا سيعينك على محاسبة نفسك ؛ لأنك لا بد أنك ستجد معاصي عملتها ؛ إذ لا يوجد معصوم بيننا .
10- تمييز النعمة من الحُجة :
وذلك لأن النعم التي ينعم بها الله على عباده لا تخلو من حالتين :
الحالة الأولى : نعمة ينعم بها الله على عبده ؛ فيعرف حق الله فيها ، وتكون سبباً يُعان بها على تحصيل سعادته الأبدية ، فهذه نعمة حقيقية .
الحالة الثانية : نعمة ينعم بها الله على عبده ، ولا يعرف حق الله فيها فلا يستعملها في طاعة الله ، بل ربما استعملها في المعاصي ، فهذه نقمة وحجة على صاحبها وليست نعمة ، وإنعام الله بها على العبد قد يكون من قبيل الاستدراج ، وكم من مستدرج بالنعم وهو لا يشعر ، وكم من نعمة هي في حقيقتها حجة على صاحبها .
ولنضرب أمثلة تبين ما سبق :
أ- العلم الشرعي نعمة ، فإذا صحبه عمل يرضى الله سبحانه فهو منة ونعمة حقيقية ، وإلا فهو حجة على صاحبه .
ب- القوة الظاهرة والباطنة نعمة ، فإذا صحبها تنفيذ لمرضات الله وأوامره فهي منة ونعمة حقيقية ، وإلا فهي حجة على صاحبها .
ج- المال نعمة ، فإذا اقترن به إنفاق في سبيل الله وطاعته لا لطلب الجزاء ولا الشكور فهو منة ونعمة حقيقية ، وإلا فهو حجة على صاحبه .
د- الفراغ نعمة ، فإذا اقترن به اشتغال بما يريد الرب من عبده فهو منة ونعمة حقيقية ، وإلا فهو حجة على صاحبه .
والأمثلة كثيرة نكتفي بما ذكرنا اختصاراً للوقت .
الآثار المترتبة على المحاسبة :
إذا حاسب الإنسان نفسه استفاد عدة فوائد منها :
1- تحقيق سعادة الدارين ونيل رضا الله تعالى ومحبته ؛ لأنه إذا حاسب نفسه علم تقصيرها ، وأنه مهما عمل لم يقم بما طلب منه القيام به ، وأنه لو قام بما طلب منه احتاج إلى شكر الله الذي منّ عليه بأن وفقه للقيام بما أمر به ، وإذا أدرك تقصيره في جنب الله قاده ذلك إلى أن يبذل المزيد من الجهد ، وأن يتدارك النقص ، ويستعد أكمل الاستعداد ليوم المعاد ؛ ومَن هذه حاله ينال رضا الله ومحبته سبحانه.
2- يطلع على عيوب نفسه : لأنه بالمحاسبة لابد أن يجد في نفسه عيباً ، فإذا اطلع على عيبها مقتها في ذات الله تعالى ، وأما من لم يحاسب نفسه لم يطلع على عيوبها ، ومن لم يطلع على عيب نفسه لم يمكنه إزالته .
3- إخلاص النية لله : لأن المحاسبة وقفة خفية بينك وبين نفسك لا يعلمها إلا الله ، وأنت أدرى بنفسك وبحقيقة أعمالك ؛ تعرف هل عملت هذا العمل رياء أو سمعة أو عملته لله ، وهذا يقودك بإذن الله إلى أن تجعل أعمالك كلها خالصة لله.
4- استشعار المسلم للهدف الذي خلق من أجله : إذا حاسبت نفسك علمت أنك لم تخلق عبثاً ولن تترك سدى ، لم تخلق للأكل والشرب والنكاح وجمع الأموال ، خلقت لأمر عظيم وهيئت لأمر جسيم ، فحينها تستشعر الهدف الذي خلقت من أجله .
5- الاجتهاد في الطاعة : فإن الصائمين في حر النهار ما صاموا إلا بعد محاسبتهم لأنفسهم ، والقائمين الليل لماذا كانوا يقومون الليل ، والتالين للقرآن ، والباذلين أموالهم في سبيل الله ، وغيرهم ما فعلوا ما فعلوا إلا بعد محاسبتهم لأنفسهم .
6- البعد عن المعاصي صغيرها وكبيرها ؛ لأنه إذا حاسب نفسه على المعصية دعاه ذلك إلى أن لا يعملها مرة أخرى ، وبذلك يبتعد قدر الإمكان عن المعاصي .
7- الزهد في الدنيا : لأنه سيعرف حقيقة الدنيا وحقية نفسه وما تريد ، وسيدرك أن الدنيا دار ممر وفناء ، يزرع بها العبد ما يحب أن يراه غداً ، مما يجعله ينظر إلى الدنيا على أنها مزرعة للآخرة ؛ فلا ينافس أهلها عليها .
8- مراقبة الله ؛ لأنه كلما هم بمعصية حاسب نفسه ، وكلما هم بتقصير في واجب حاسب نفسه ، وهذه هي المراقبة لله حتى يصل إلى مرتبة الإحسان .
9- مقت الإنسان نفسه وإزراؤه عليها : وسيأتي مزيد كلام عن ذلك .
أنواعها وكيفية كل نوع :
يمكن أن أقسم المحاسبة إلى نوعين :
أ ) محاسبة مطلقة ب ) محاسبة مقيدة
أولاً : المحاسبة المطلقة :
والمقصود أنها غير مقيدة بوقت أو بحالة ، بل تحدث يومياً ، وذلك أنه ينبغي أن يكون له وقفة مع نفسه : في أول النهار يوصيها بالأعمال الصالحة وينهاها عن الأعمال السيئة ، ويطالبها ببعض الأعمال في هذا اليوم ، فكأنه يضع لها جدول أعمال ينبغي تحقيقه ، ويمثل لنفسه أنه مات ثم يطلب أن يعاد إلى الدنيا ولو يوماً واحداً ، فكأنه أعيد ، وهذا اليوم هو الذي سيعيشه فقط ، فماذا يجب أن يعمل فيه ؟! ؛ ثم يكون له وقفة أخرى في آخر النهار : ينظر ماذا عمل ، وماذا أنجز ؛ فيبدأ بالفرائض : فيحاسب نفسه عليها هل أداها كما يريد الله منا ؟، هل هي خالصة لله ؟ ، هل اتبعنا فيها الرسول ؟ ، ما أثرها علينا ؟ ، هل ازددنا بها رفعة أو أديناها حركات صورية جوفاء ؟ ، هل فيها نقص فنتداركه إما بقضاء أو إصلاح ؛ ثم يحاسبها على المناهي : فإن عرف أنه ارتكب منها شيئا تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية ، ثم يحاسب نفسه على الغفلة فإن كان قد غفل عما خلق له تداركه بالذكر والإقبال على الله تعالى ؛ ويحاسبها ماذا قدمت للإسلام ؛ ويحاسبها على نعم الله : هل تذكرها واستشعرها أم أن حسه تبلد من ترادفها ؟، ينام ويقوم ، هل شعر بهذه النعمة أم لا ؟ ، وهل أسندها إلى المنعم سبحانه ؟ ، وهل قام بشكرها بصرفها في طاعة الله ولم يستعملها في معصية الله ؟ ، فمثلاً : النظر نعمة من الله هل قام بغضه عن الحرام ؟ وهل استعمله في ما يحبه الله من النظر إلى عجائب صنع الله بعين الاعتبار والنظر في كتاب الله وسنة رسوله ومطالعة كتب العلم ؟.
واللسان نعمة من الله هل حفظه عن الغيبة والكذب والنميمة وتزكية النفس واللعن وغير ذلك من آفات اللسان ؟ ، هل استعمله في ما يحبه الله من الذكر ونشر العلم والدعوة إلى الله وتلاوة القرآن وغير ذلك من الأعمال الصالحة ؟ وهكذا يحاسب نفسه على نعم اله عليه كما مثلنا .
ثانياً : المحاسبة المقيدة :
بمعنى أنها تكون في وقت معين أو عند حالة معينة ، وهي هنا يمكن تقسيمها إلى أربعة أقسام :
القسم الأول : محاسبة قبل العمل :
وذلك أنه إذا أراد أن يقدم على عمل ما يقف مع نفسه وقفة محاسبة : هل يقدم على هذا العمل أو لا ؟ : فينظر هل يستطيع أن يقوم بهذا العمل أو لا ؟ ، وهل الأفضل أن يعمله أو يتركه ؟ ، وهل الدافع لعمله ابتغاء مرضات الله أو له أهداف دنيوية ؟ ، قال الحسن رحمه الله : (رحم الله عبدا وقف عند همه فإن كان لله مضى وإن كان لغيره تأخر) ، فإذا نظر في هذه الأشياء أقدم على العمل أو أحجم عنه .
القسم الثاني : محاسبة بعد العمل :
وهي على أنواع أربعة:
النوع الأول : محاسبتُها على التقصير في الطاعات في حق الله ـ تعالى ـ وذلك يكون بأن يسأل نفسه: هل أديتُ هذه الفريضة على الوجه الأكمل مخلصاً فيها لله ووفق ما جاء عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم-؟ ثم يجبر نقصها بأداء النوافل .
النوع الثاني : محاسبتهاعلى معصية ارتكبتها: لماذا ارتكبتها ؟ ، وما الذي أغراني بها فيدفعه ذلك إلى أن يبتعد عن كل ما يمكن أن يعيده إليها بعد أن يتوب منها توبة نصوحاً ويستغفر ويعمل الحسنات الماحيةِ والمذهبة للسيئات ، كما قال الله ـ سبحانه ـ: (( إنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ)) (هود:114)
النوع الثالث : محاسبتها على أمرٍ كان تركه خيراً من فعله، فيسأل نفسه : لِمَ فعلتُ هذا الأمر؟ أليس الخير في تركه؟ وما الفائدة التي جنيتها منه؟ هل هذا العمل يزيد من حسناتي؟ ونحو ذلك من الأسئلة.
النوع الرابع : محاسبتها على أمر مباح أو معتاد لم فعله ؟ وهل أردت به وجه الله والدار الآخرة فيكون ذلك ربحاً لي ؟ أو فعلتُه عادةً وتقليداً بلا نيّةٍ صالحة ولا قصدٍ في المثوبة؛ فيكون فعلي له مضيعة للوقت على حساب ما هو أنفع وأنجح ؟ ثم ينظر لنفسه بعد عمله لذلك المباح، فيلاحظ أثره على الطاعات الأخرى من هل قللها أو أضعف روحها، أو كان له أثرٌ في قسوة القلب وزيادة الغفلة .
القسم الثالث : محاسبة النفس عند نهاية الأسبوع أو الشهر أو السنة ؛ فتقف مع نفسك وقفة محاسبة تكون بمثابة جرد لأعمالك ، ما ذا قدمت ؟ ، وبما ذا قصرت ؟ ، هل ازددت من الله قرباً أو ازددت منه بعدا ؟ ، هل أنت خاسر أو رابح أو حافظت على رأس المال على الأقل ؟ .
القسم الرابع : محاسبة النفس عند الأوقات الفاضلة ، والأمكنة الفاضلة : في مواسم الخير كرمضان ، وعشر ذي الحجة ، ويوم الجمعة ، وآخر الليل ، هل اغتنمها بما يقربه إلى الله أو مرت عليك دون فائدة ؟، وكذلك إذا كنت في مكان فاضل كالحرم هل اغتنمت وجودك فيه بما يقربك إلى الله أو لم تلق لذلك بالاً ؟.
علاقة المحاسبة بالتوبة:
المحاسبة لها صلة وثيقة بالتوبة ؛ وذلك لأنه إذا حاسب نفسه تبين له تقصيره في حق الله فقاده ذلك إلى التوبة ، وعلى هذا تكون المحاسبة سابقة للتوبة فالتوبة تكون بعد المحاسبة ؛ كما أنه من وجه آخر المحاسبة لا تكون إلا بعد تصحيح التوبة ، وعليه فالمحاسبة تكون بعد التوبة ؛ وليس في هذا تناقض لأن التوبة بين محاسبتين : محاسبة قبلها تقتضي وجوبها ، ومحاسبة بعدها تقتضي حفظها ؛ فالتوبة محفوفة بمحاسبتين .
علاقة المحاسبة بمقت النفس :
من فوائد محاسبة النفس أن الإنسان إذا حاسب نفسه مقتها وأزرى عليها ؛
لأنه بالمحاسبة يطلع على عيوب نفسه ، وسينظر في حق الله عليه فيدرك مدى تقصيره في حق الله ، وأنه مهما عمل فلن ينجو بعمله ، وهذا سيفيده بأن لا يدل بعمله ، وسيخلصه من العجب ورؤية العمل ، ويفتح له باب الخضوع والذل والانكسار بين يدي ربه واليأس من نفسه ، وأن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته ؛ فإن من حقه سبحانه أن يطاع ولا يعصى وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر ؛ وإذا نظرت أيها الأخ الكريم في هذا الحق الذي لربك عليك علمت علم اليقين أنك غير مؤد له كما ينبغي ، وأنه لا يسعك إلا العفو والمغفرة ، وأنك إن أحلت على عملك هلكت .
وإذا رضي العبد بطاعته دل على جهله بما يستحقه الله جل جلاله ، وكون الإنسان يقصر فيمقت نفسه أفضل من أن يطيع ويعجب بعمله ، وكما قيل : ذنب تذل به لديه أحب إليه من طاعة تدل بها عليه ، وقيل : إنك أن تبيت نائماً وتصبح نادماً خير من أن تبيت قائماً وتصبح معجباً .
ولو تلاحظ أيها الأخ أن أهل العزائم والبصائر أشد ما يكونون استغفاراً عقيب الطاعات ؛ فالحج مثلاً أمر الله تعالى وفده وحجاج بيته بأن يستغفروه عقيب إفاضتهم من عرفات وهو أجل المواقف وأفضلها فقال : (( فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)) (البقرة:198-199) وفي صلاة الليل قال الله تعالى : (( وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ)) (آل عمران:17) هل أمضوا ليلهم عند الدشوش ؟، هل قضوا ليلهم في معصية الله ؟، أبدا ً كانوا يؤدون عملاً من أسباب دخول الجنة ومع ذلك عندما فرغوا منه أكثروا من الاستغفار ، وفي الصحيح أن النبي كان إذا سلم من الصلاة استغفر ثلاثاً ثم قال : اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام .
لماذا يستغفرون عقب الطاعة ؟ المتبادر للذهن أن الاستغفار يكون عقب المعصية وهؤلاء يستغفرون عقب الطاعة لماذا ؟ ؛ لأنهم أيها الإخوة يدركون تقصيرهم فيها ، وأنهم لم يقوموا بحق الله فيها حق القيام كما يليق بجلاله ، وأنه لولا توفيقه لهم بعملها لم يعملوها ، فكم عبد من عباده محروم من عملها .
وهذا يدلك على أن الله هو الذي يمتن على عباده ويوفقهم إلى طاعته ، وأن الإنسان لا يأمن على نفسه الزيغ ، يا أخي ألم يقل ربنا سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم وهو أفضل البشر (( وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً)) (الاسراء:74) ، وقال يوسف الصديق : (( وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ)) (يوسف:33) ، ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من قول : اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك .
ومما سبق ندرك أن الإنسان ينبغي أن يمقت نفسه في جنب الله ؛ لأن مقت النفس في ذات الله من صفات الصديقين ويدنو العبد به من الله تعالى في لحظة واحدة أضعاف أضعاف ما يدنو بالعمل .
روى الإمام أحمد عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : (لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله ، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتاً) وكان مطرف بن عبد الله يقول في دعائه بعرفة :(اللهم لا ترد الناس لأجلي) ، وقال بكر بن عبد الله المزني :( لما نظرت إلى أهل عرفات ظننت أنهم قد غفر لهم لولا أني كنت فيهم) ، وقال أيوب السختياني :( إذا ذكر الصالحون كنت عنهم بمعزل) ، وقال يونس بن عبيد :( إني لأجد مائة خصلة من خصال الخير ما أعلم أن في نفسي منها واحدة) ، وقال محمد بن واسع : (لو كان للذنوب ريح ما قدر أحد يجلس إلي) ، ولما سئلت عائشة رضي الله عنها عن قول الله عز وجل : (( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ)) (فاطر:32) قالت : هؤلاء في الجنة أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله شهد له رسول الله بالجنة والرزق ، وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق به ، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم فجعلت نفسها معنا .
قال ابن كثير : وهذا منها رضي الله عنها من باب الهضم والتواضع وإلا فهي من أكبر السابقين بالخيرات ؛ لأن فضلها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام .
نماذج من كلام السلف عن المحاسبة:
ذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا ؛ فإنه أهون عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم ، وتزينوا للعرض الأكبر ، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية) .
وقال أنس بن مالك سمعت عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه يوما وقد خرج وخرجت معه حتى دخل حائطا فسمعته يقول وبيني وبينه جدار وهو في الحائط : (عمرَ بنَ الخطاب أمير المؤمنين بخ بخ والله لتتقين الله أو ليعذبنك) .
وكتب عمر بن الخطاب إلى بعض عماله : حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة ؛ فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة عاد أمره إلى الرضى والغبطة ، ومن ألهته حياته وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة .
وذكر الإمام أحمد عن وهب قال : مكتوب في حكمة آل داود (حق على العاقل أن لا يغفل عن أربع ساعات : ساعة يناجي فيها ربه ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يخلو فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه ، وساعة يتخلى فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل ؛ فإن في هذه الساعة عوناً على تلك الساعات ، وإجماماً للقلوب .
قال إبراهيم التيمي : (مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها ، وأشرب من أنهارها ، وأعانق أبكارها ، ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها ، وأشرب من صديدها ، وأعالج سلاسلها وأغلالها ، فقلت لنفسي : يا نفس أي شيء تريدين ، فقالت أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحاً ، قلت فأنت في الأمنية فاعملي) .
وذكرعن الحسن قال : (لا تلقى المؤمن إلا يحاسب نفسه ، وماذا أردت تعملين ، وماذا أردت تأكلين ، وماذا أردت تشربين ، والفاجر يمضي قدماً قدماً لا يحاسب نفسه) .
وقال الحسن أيضاً : (إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه وكانت المحاسبة من همته) .
وقال ميمون بن مهران : (لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه ، ولهذا قيل : النفس كالشريك الخوان إن لم تحاسبه ذهب بمالك) ، وقال ميمون بن مهران أيضا : (إن التقي أشد محاسبة لنفسه من سلطان عاص ومن شريك شحيح) .
قال مالك بن دينار :( رحم الله عبدا قال لنفسه : ألست صاحبة كذا ، ألست صاحبة كذا ، ثم زمها ، ثم خطمها ، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل فكان لها قائداً) .
كما نقل عن توبة بن الصمة ، وكان بالرقة ، وكان محاسباً لنفسه ، فحسب يوماً فإذا هو ابن ستين سنة ، فحسب أيامها ، فإذا هي أحد وعشرون ألف يوم وخمسمائة يوم ، فصرخ وقال : يا ويلتي ألقى الملك بأحد وعشرين ألف ذنب ، فكيف وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب ، ثم خر مغشياً عليه ، فإذا هو ميت ، فسمعوا قائلاً يقول : يا لك ركضة إلى الفردوس الأعلى .
وقال الحسن : ( المؤمن قوام على نفسه ، يحاسب نفسه لله ، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا ، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة ؛ إن المؤمن يفاجئه الشيء ويعجبه فيقول : والله إني لأشتهيك وإنك لمن حاجتي ، ولكن والله ما من صلة إليك ، هيهات هيهات حيل بيني وبينك ، ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول : ما أردت إلى هذا مالي ولهذا ، والله لا أعود إلى هذا أبداً ).
وقال عبد الله بن قيس: كنّا في غزاةٍ لنا فحضر العدو، فَصِيحَ في الناس فقاموا إلى المصافّ في يومٍ شديد الريح، وإذا رجلٌ أمامي وهو يخاطب نفسَه ويقول: أيْ نفسي! ألم أشهد مشهد كذا فقلتِ لي: أهلَكَ وعيالك؟!! فأطعتُك ورجعت! ألم أشهد مشهد كذا فقلتِ لي: أهلَكَ وعيالك؟!! فأطعتُكِ ورجعت! واللهِ لأعرضنّكِ اليوم على الله أخَذَكِ أو تَركَكِ. فقلت: لأرمقنّكَ اليوم، فرمقته فحمل الناسُ على عدوّهم فكان في أوائلهم، ثم إنّ العدو حمل على الناس فانكشفوا (أي هربوا) فكان في موضعه، حتى انكشفوا مرات وهو ثابت يقاتِل؛ فواللهِ ما زال ذلك به حتى رأيتُه صريعاً، فعددتُ به وبدابته ستين أو أكثر من ستين طعنة)
أيها الإخوة : هؤلاء ألم يكونوا بشراً ألم تكن لهم رغبات للدنيا كما تكون للناس رغبات أيريدون الجنة ولا نريدها ، ألا نقتدي بالصالحين لعلنا أن نكون منهم .
عقوبة النفس بعد محاسبتها :
يذكر بعض من تكلموا عن محاسبة النفس أنه ينبغي على المحاسب لنفسه أن يعاقبها إذا حدث منها تقصير ، يقول الغزالي :
( مهما حاسب (يعني العبد) مهما حاسب نفسه فلن تسلم عن مقارفة معصية وارتكاب تقصير في حق الله تعالى ، فلا ينبغي أن يهملها ؛ فإنه أن أهملها سهل عليه مقارفة المعاصي ، وأنست بها نفسه ، وعسر عليه فطامها ، وكان ذلك بسبب هلاكها ؛ بل ينبغي أن يعاقبها ، فإذا أكل لقمة شبهة بشهوة نفس ينبغي أن يعاقب البطن بالجوع ، وإذا نظر إلى غير محرم ينبغي أن يعاقب العين بمنع النظر ، وكذلك يعاقب كل طرف من أطراف بدنه بمنعه عن شهواته)
وذكر قصصاً لأناس عاقبوا أنفسهم : كقصة العابد الذي كلم امرأة فلم يزل حتى وضع يده على فخذها ، ثم ندم فوضع يده على النار حتى يبست .
وقصة الرجل من بني إسرائيل وكان يتعبد في صومعته ، فمكث كذلك زماناً طويلاً ، فأشرف ذات يوم فإذا هو بامرأة فافتتن بها وهم بها ، فأخرج رجله لينزل إليها ولكنه انتبه وقال : ما هذا الذي أريد أن أصنع فندم ، فلما أراد أن يعيد رجله إلى الصومعة قال : هيهات هيهات رجل خرجت تريد أن تعصى الله تعود في صومعتي لا يكون والله ذلك أبداً ، فتركها معلقة في الصومعة تصيبها الأمطار والرياح والثلج والشمس حتى تقطعت فسقطت .
وقصة الذي أصابته ليلة جنابة فاحتاج أن يغتسل ، وكانت ليلة باردة فوجد في نفسه تأخراً وتقصيراً فحدثتنه نفسه بالتأخير حتى يصبح ويسخن الماء ، ثم إنه عاتب نفسه ، فعاقبها بأن اغتسل بملابسه في البرد دون أن ينزعها أو يجففها . وكقصة الذي فقأ عينه لأنها نظرت إلى جارية وقصة الذي عاقب نفسه بعدم شرب الماء البارد بسبب أنه نظر مرة نظرة حرام ، وقصة الذي عاقب نفسه بصيام سنة لأنه سأل عن شيئ لا يعنيه ، وغيرها من القصص .
وأقول أيها الإخوة هل هذا صحيح ؟ بمعنى هل إذا حاسبت نفسك فوجدت منها تقصيراً هل تعاقبها بمثل ما ذكر أو تتركها وتهملها أو ما ذا تعمل ؟
الذي أراه والله أعلم أنك إذا وجدت تقصيراً فعليك بما يلي :
1- إزالة السبب الذي من أجله حصل التقصير ؛ فمثلاً : إذا كان عدم قيامك لصلاة الليل لأن الفراش وثير فبإمكانك أن تقلل من ذلك ، وإذا كان السبب إكثارك من العشاء فقلل منه ، وهكذا .
2- الإكثار من الحسنات ؛ وذلك لأن الحسنات يذهبن السيئات ، وتعرفون الحديث في ذلك .
3- التوبة : إن كان تقصيراً في واجب أو عملاً لمعصية .
4- استدراك ما فات إن كان مما يستدرك ، كالوتر فإن لم تصل بالليل صليته ضحى ، وهكذا .
أما كونك تعاقب نفسك بإتلاف عضو منها ، أو بحرمانها مما أحله الله ـ ولو لم يكن سبباً للتقصير ـ ، فهذا تصوف غير مشروع .
كما لا يفهم من الكلام : الدعة والكسل ، وترك النفس تفعل ما تشاء ، ولكن عليه أن يحاسبها ويعاقبها على التقصير ، ويفعل ما ذكرناه من النقاط السابقة .
كلمة أخيرة...
أيها الأخ الكريم : إن ربك لبالمرصاد ، وسيناقش الحساب ، ويطالب بمثاقيل الذر من الخطرات واللحظات ، ولن ينجي من هذه الأخطار إلا لزوم المحاسبة ، وصدق المراقبة ، ومطالبة النفس في الأنفاس والحركات ، ومحاسبتها في الخطرات واللحظات ، فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خف في القيامة حسابه ، وحضر عند السؤال جوابه ، وحسن منقلبه ومآبه ، ومن لم يحاسب نفسه دامت حسراته ، وطالت في عرصات القيامة وقفاته ، وقادته إلى الخزي والمقت سيئاته .
أيها الأخ الكريم : ما الذي يمنعك من المبادرة إلى التوبة والأعمال الصالحة ؟ ما الذي يجعلك تسوف فيهما ؟ ، هل لأن فيهما مشقة ؟ ، وهل تنتظر يوماً تزول فيه هذه المشقة ؟ ، هذا لا يمكن أن يكون لأن الجنة محفوفة بالمكاره ، والمكاره ليست خفيفة على النفوس .
أيها الأخ : منذ متى وأن تقول : غداً أتوب ، السنة القادمة أتوب ، جاء الغد ، وجاءت السنة القادمة ، وأنت على ما أنت عليه ، اقترب الموت وورد النذير ، فمن ذا يصلى عنك بعد الموت ، ومن ذا يصوم عنك بعد الموت .
كان عبيد الله البجلي كثير البكاء يقول في بكائه طول ليله : (إلهي أنا الذي كلما طال عمري زادت ذنوبي ، أنا الذي كلما هممت بترك خطيئة عرضت لي
شهوة أخرى ، واعبيداه ! خطيئة لم تبل ، وصاحبها في طلب أخرى ، واعبيداه إن كانت النار لك مقيلا ومأوى ، واعبيداه إن كانت المقامع برأسك تهيأ ، واعبيداه قضيت حوائج الطالبين ، ولعل حاجتك لا تقضى .
وقال منصور بن عمار : سمعت في بعض الليالي بالكوفة عابدا يناجي ربه وهو يقول : ( يا رب وعزتك ما أرد بمعصيتك مخالفتك ، ولا عصيتك إذ عصيتك وأنا بمكانك جاهل ، ولا لعقوبتك متعرض ، ولا لنظرك مستخف ، ولكن سولت لي نفسي ، وأعانني على ذلك شقوتي ، وغرني سترك المرخى علي ، فعصيتك بجهلي ، وخالفتك بفعلي ، فمِن عذابك الآن مَن يستنقذني ، أو بحبل من أعتصم إن قطعت حبلك عني ، واسوأتاه من الوقوف بين يديك غدا إذا قيل للمخفين جوزوا وقيل للمثقلين حطوا ، أمع المخفين أجوز أم مع المثقلين أحط ، ويلي كلما كبرت سني كثرت ذنوبي ، ويلي كلما طال عمري كثرت معاصي ، فإلى متى أتوب ، وإلى متى أعود ، أما آن لي أن أستحيي من ربي).
فهذه طرق القوم في مناجاة مولاهم وفي معاتبة نفوسهم فيا ليتنا كنا مثلهم .
أيها الإخوة : أقول هذا ونفسي الأحق بالمعاتبة وحري بي أن أعاتبها بما قيل : أتأمرين الناس بالخير وأنت متلطخة بالرذائل ، تدعين إلى الله وأنت عنه فارَّة ، وتذكرين بالله وأنت له ناسية ، أما تنظرين إلى أهل القبور كيف كانوا جمعوا كثيراً ، وبنوا مشيداً ، وأملوا بعيداً ، فأصبح جمعهم بوراً ، وبنيانهم قبوراً ، وأملهم غروراً ، ويحك يا نفس أما لك بهم عبرة ، أما لك إليهم نظرة ، أتظنين أنهم دعوا إلى الآخرة وأنت من المخلدين ، هيهات هيهات ساء ما تتوهمين .
ويحك يانفس أين تلاوة القرآن ؟ ، وأين معاني الآثار ، وأين الشكر لمن لا تعرفين منه إلا الإحسان ؟ ، رضيت بأحوال الجاهلين ، ومنازل الغافلين ، وأعمال الفاسقين .
ويلي وويحي من تتابع جرمي لو قد دعاني للحساب حسيبي
والويل لي ويلٌ دائمٌ إن كنت في الدنيا أخذت نصيبي
واستيقظي يانفس ويحك واحذري حذراً يهيج عبرتي ونحيبي
اسألي ربك أن يعفو عنك ، فالمطلوب منه كريم ، والمسئول جواد ، والمستغاث به بر رءوف ، والرحمة واسعة ، والكرم فائض ، والعفو شامل ، وقولي : يا أرحم الراحمين ، يا رحمن يا رحيم ، يا حليم يا عظيم ، يا كريم ، أنا المذنب المصر ، أنا الجرىء الذي لا أقلع ، أنا المتمادي الذي لا أستحي ، هذا مقام المتضرعِ المسكينِ ، والبائسِ الفقير ، والضعيفِ الحقير ، والهالكِ الغريق ، فعجل إغاثتي وفرجي ، وأذقني برد عفوك ، وعاملني بما أنت أهله : أنت أهل التقوى وأهل المغفرة ، اللهم ربنا هب لنا من أزواجنا ، وذرياتنا قرة أعين ، واجعلنا للمتقين إماماً .
ربنا أتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار .
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ، وهب لنا من لدنك رحمة ، إنك أنت الوهاب.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .