×
فإن حاجة المسلمين اليوم تشتد إلى مُثلٍ عليا يقتدون بها، ويقتفون آثارها ويحذون حذوها، وذلك بسبب ضعف فهم الناس للدين، وقلة تطبيقهم له، ولغلبة الأهواء، وإيثار المصالح العاجلة، مع قلة العلماء العاملين والدعاة الصادقين؛ لذلك تضاعفت حاجة المسلمين في مختلف أوساطهم وطبقاتهم إلى قدوات وريادات تكون أنموذجًا واقعيًّا ومثالاً حيًّا، يرى الناس فيهم معاني الدين الصحيح علمًا وعملاً وقولاً، فيقبلون عليهم وينجذبون إليهم؛ حيث إن التأثير بالأفعال والأحوال أبلغ وأشد من التأثير بالكلام وحده. وهذه الرسالة تُلقِي الضوءَ على موضوع القُدوة وأهميتها.

 القدوة

أسماء بنت راشد الرويشد


بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

الحمد لله رب العالمين القائل في كتابة المبين: }وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ{ [السجدة: 24].

والصلاة والسلام على النبي الأمين، الذي جعله الله قدوة للمؤمنين، }لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا{ [الأحزاب: 21].

صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى ومصابيح الدجى، وعلى كل من اتبع آثارهم واقتفي. أما بعد:

فإن حاجة المسلمين اليوم تشتد إلى مثلٍ عليا يقتدون بها، ويقتفون آثارها ويحذون حذوها، وذلك بسبب ضعف فهم الناس للدين، وقله تطبيقهم له، ولغلبة الأهواء، وإيثار المصالح العاجلة، مع قلة العلماء العاملين والدعاة الصادقين؛ لذلك تضاعفت حاجة المسلمين في مختلف أوساطهم وطبقاتهم إلى قدوات وريادات تكون أنموذجًا واقعيًا ومثالاً حيا، يرى الناس فيهم معاني الدين الصحيح علمًا وعملاً وقولاً، فيقبلون عليهم وينجذبون إليهم حيث إن التأثير بالأفعال والأحوال أبلغ وأشد من التأثير بالكلام وحده، وقد قيل: شاهد الحال أقوى من شاهد المقال.

 حاجة واقعنا المعاصر للقدوة:

ونحن كما أسلفت في هذه الفترة العصيبة التي تمر على الأمة من الضعف والهزيمة، نحتاج أن نحقق في أنفسنا أنموذج التطبيق الصحيح لهذا الدين، لكي يحقق الله لنا النصر والتمكين، ونسد على المتربصين – أعداء الدين – منافذ تسلطهم وسطوتهم باسم الإصلاح وحفظ الحقوق.

فهذا خليل الله إبراهيم عليه السلام لما جعله الله إمامًا للناس يقتدي به قال: }وَمِنْ ذُرِّيَّتِي{ [البقرة: 124].

أخبره الله تعالى أن فيهم عاصيًا وظالمًا لا يستحق الإمامة فقال: }لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ{ [البقرة: 124].

فإذا أردنا أن يحفظ الله لنا ديننا ويستتب أمننا ونرد كيد أعدائنا فلنقم هذا الدين علمًا وعملاً ومنهجًا لحياتنا وسلوكنا.

إذ أن المسلم القدوة أشد على أعداء الدين من كل عدة، ولذلك لما تمنى الناس ذهبًا ينفقونه في سبيل الله كانت مقولة عمر بن الخطاب: «ولكني أتمنى رجالاً مثل أبي عبيد بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة، فأستعين بهم على إعلاء كلمة الله» فعسى إن كنا على مستوى حسن الأسوة والتأسي أن يمكن الله لنا في الأرض، وأن يجعلنا أئمة ويجعلنا الوارثين.

ويشهد لأهمية ذلك أن الله جل وعلا جعل نبيه ﷺ‬ أسوةً لمن بعده: }لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ{ [الأحزاب: 21].

كما أمره أن يقتدي بمن سبق من الأنبياء: }أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ{ [الأنعام: 90].

ورأس الأمر في القدوة والأسوة الحسنة أن ندعو الناس بأفعالنا مع أقوالنا.

* يقول عبد الواحد بن زياد: «ما بلغ الحسن البصري إلى ما بلغ إلا لكونه إذا أمر الناس بشيء يكون أسبقهم إليه، وإذا نهاهم عن شيء يكون أبعدهم عنه».

* وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: اتخذ النبي ﷺ‬ خاتمًا من ذهب فاتخذ الناس خواتيم من ذهب، فقال النبي ﷺ‬: «إني اتخذت خاتمًا من ذهب» فنبذه وقال: «إني لن ألبسه أبدًا» فنبذ الناس خواتيمهم ([1]).

 أهمية القدوة في حياة المسلمين وواقعهم:

1- إن القدوة هي ذلك التأثير الغامض الخفي الذي يمثله أفعال وأقوال ومواقف المثال الحي المرتقي في درجات الكمال، مما يثير في نفس الآخرين الإعجاب والمحبة التي تهيج معها دوافع الغيرة والتنافس المحمودة، ويتولد لديهم حوافز قوية تحفيزهم؛ لأن يعملوا مثله، وقد يكون ذلك دون توجيه مباشر.

2- القدوة الحسنة المتحلية بالفضائل والاستقامة تعطي الآخرين قناعة بأن بلوغ هذا المستوى من الأمور الممكنة، وأنها في متناول قدرات الإنسان ولا سيما في زمن الفتن وكثرة الصوارف.

3- مهما توسعت دائرة المعارف وانتشر العلم بين الناس فإن واقعهم لا يزال يشكو القصور والانحراف، ما لم يقم بذلك العلم عاملون مخلصون، يكونون قدواتٍ في مجتمعاتهم وطبقاتهم، يمتثلون أمره ويخطون على منهجه، ويترجمون ذلك العلم إلي وقاع عملي للحياة يفهمه الجميع، إذ أن مستوى فهم العلم والقول عند الناس يتفاوت، لكن الجميع يتساوى أمام الرؤية بالعين لمثالٍ حي، حيث إن ذلك أيسر وأقوى في إيصال المعاني وإحداث التغيير، ومن ذلك ما كان من تزويج النبي ﷺ‬ زينب بنت جحش ابنه عمته من زيد بن حارثه مولاه الذي أعتقه، لكي يكون قدوة ومثالاً حيًا للناس. لما تأصل في نفوسهم من الفوارق الطبقية التي جاء الإسلام بإلغائها، وأنه لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.

4- إن غياب القدوة في حياة المسلمين عامل رئيس في فشو الجهل وانتشار المنكرات واستفحالها، وذلك؛ لأن العاملين بالعلم والقائمين بدين الله هم في الحقيقة دعاة يعلنون الحق بأفعالهم، وينشرون الدين الحق حين ينتشرون بين الناس، فتنحسر المنكرات بتواجدهم الفعال المؤثر في الآخرين، وهكذا فكلما ازداد القدوات انتشر العلم واختفت المنكرات، وقد نقل عن إبراهيم بن أدهم أنه قال يوما لأصحابه: ادعوا الناس وأنتم صامتون، قالوا: كيف ذلك؟ قال: ادعوا الناس بأفعالكم.

5- الناس ينظرون إلى طالب العلم الشرعي والصالح نظرة دقيقة فاحصة، فرب خطأ يقوم به لا يلقي له بالاً يكون في حسابهم من الكبائر، وذلك؛ لأنه محسوب في مجتمعه قدوة لهم.

وهنا تمكن أهمية القدوة وخطورتها، إذ أن كل مفارقة بين أقوال القدوة وأفعاله تشكل مصدر حيرة وإحباط لدى عامة الناس، ولا سيما المبتدئين في الالتزام، ويكون مصدر فتنة لهم واستخفاف بالعلم الذي يحمله.

فالذين يعرفهم الناس بالصلاح والتدين، وهم في الحقيقة جمعوا مع تلك السمعة تناقضًا في الواقع، ومخالفة لما يفترض أن يكونوا عليه، فهؤلاء لا يقال فيهم: إنهم لا يصلح أن يكونوا قدوات، بل إنهم يمارسون دورًا تخريبيًا، إذ هم يشهون صورة الصالحين والفضلاء في أذهان العامة، ويعطونهم صورة مخالفة لحقيقة الدين التي قد لا يعرفونها إلا من خلالهم، كما أنهم يشجعون الناس بطريقة خفية على التميع والهشاشة الدينية، ويتسببون في تبخير ما بقي من هيبةٍ واحترامٍ للصالحين، ويكونون سببًا في فقد ثقة الناس بهم.

ولذلك فإن المسؤولية عظيمة وكبيرة على العلماء والدعاة والصالحين وذويهم وأهل بيوتهم بشكل خاص، إذ لا بد أن يؤهلوا تأهيلاً خاصا لإكمال وظيفتهم الدعوية في المجتمع عن طريق الاهتمام، وتحقيق القدوة والأنموذج الواقعي للصلاح والاستقامة، وهذا يلقي عليهم مسؤولية عامة تجاه الناس، فضلاً عن مسؤوليتهم الخاصة تجاه أنفسهم فيما بينهم وبين الله تعالى.

وكما يقول مالك ابن دينار: «إن العلم إذا لم يعمل بعمله زلت موعظته عن القلوب، كما يزل القطر عن الصخرة الصماء».

وعلى ذلك فإن على كل مسلم ومسلمة عرف طريق الحق وسلكه أن يجاهد نفسه؛ ليقترب ما استطاع من ذلك الأنموذج الإنساني الراقي، نعني به القدوة، وإذا نظرنا في تاريخ العلماء والصالحين وجدنا أدبياتٍ كثيرةً تحث المسلم على التميز والحرص على العمل بالعلم.

* إذ يقول سفيان بن عيينة: «إذا كان نهاري نهار سفيهٍ وليلي ليل جاهلٍ فما أصنع بالعلم الذي كتبت؟».

* وقال الحسن البصري: «لا تكن ممن يجمع علم العلماء وطرائف الحكماء ويجري في العمل مجرى السفهاء».

* وقال أيضا «كان الرجل يطلب العلم، فلا يلبث أن يرى ذلك في تخشعه وهديه ولسانه وبصره ويده».

فالرأس في الخير لا بد أن يسير في طريق المجاهدة ومنابذة الشهوات، ولا يرتضي لنفسه أن يكون من الخلوف الذين وصفهم الرسول ﷺ‬ بأنهم: «يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يأمرون» ([2]).

وإنما يحرص على أن يكون من أتباع المصطفي ﷺ‬ الذين وصفوا بأنهم: «يأخذون بسنته ويقتدون بأمره» ([3]).

 مقومات القدوة:

1- الإخلاص لله تعالى: وهو من أعظم المطالب إذ يجب أن يفتش عنه الإنسان المقتدي به، فيكون المقصود بالقول والعلم والعمل وجه الله عز وجل، بعيدًا عن أغراض النفس ونظر الناس، فيفعل الأمر ويترك النهي مع تمام الخضوع لله والتسليم له.

2- الاستقامة على الإيمان والعمل الصالح، إذ أن هناك الكثير من الصالحين، ولكن القليل من يستقيم على ذلك ويتمسك به في كل أحيانه وظروفه وفي كل مكان، فلا يتغير ولا يتلون ولا يحابي؛ فللقدوة في نفسه شغل بين إقامتها ومجاهدتها وسياستها، وهذا هو المطلب الأعلى والنهج الأسمى.

فعن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا بعدك وفي حديث أبي أسامة غيرك قال: «قل آمنت بالله ثم استقم» ([4]).

3- حسن الخلق: إذا كانت الاستقامة والصلاح يتوجه إلى ذات المقتدى به، ليكون صالحًا في نفسه مستقيمًا في علاقته مع ربه، فإن حسن الخلق يتوجه إلى علاقته بالناس وأصول تعامله معهم، ويحمل ذلك المنهج الوصية النبوية في قوله ﷺ‬: «وخالق الناس بخلقٍ حسنٍ» ([5]).

والكلام في حسن الخلق واسع ومتشعب، ولكن نجعله في أمور وكلياتٍ منها:

* الصدق: فيحذر القدوة الخداع والكذب والتحايل وكل خلق يضاد صفة الصدق، لأن المؤمن القدوة لا بد أن يطمئن إليه الناس ويثقوا به ولا يكون ذلك إلا لصادق.

* ومن ذلك الصبر وتحمل الأذى والصفح عن المسيء وسعة الصدر: إذ أن الناس يكتشفون معدن الإنسان ويمنحونه احترامهم وثقتهم عن طريق رؤيتهم لتصرفاته وتعامله وأخلاقياته الراقية التي تنشأ عن الصبر والاتزان.

* ومن أهم أنواع التعامل الحسن للقدوة التواضع وإنكار الذات وأن يألف ويؤلف: وكذلك العفو والتسامح وغض الطرف عن الهفوات، ومن مكارم الأخلاق التي هي مقومات القدوة عفة اللسان، والترفع عن القيل والقال، وترك الانشغال بسفاسف الأمور، وجنب الخوض مع الخائضين.

* ومن أخلاق القدوة البارزة الكرم والرحمة وأداء الأمانة ووفاء الوعد القناعة والعفة والرضا بالقليل، وغير ذلك من الخلال والصفات التي تجسدت في قدوتنا وأسوتنا النبي الكريم الأكرم سيد الخلق وقدوتهم، نبينا محمد ﷺ‬.

4- استقلال الشخصية: وذلك ركن رئيس في سمات القدوة، فيتحرر القدوة من التبعية، والتقليد الساذج، فيكون مؤثرًا لا متأثرًا، ما لم يكن متأسيًا يهدي الصالحين والمصلحين، فلا يليق بمن هو في موقع القدوة أن يكون إمعة يخضع لضغط الجهال والسفهاء، يميل معهم حيث مالوا، وقد ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه قوله «وطنوا أنفسكم: إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإذا أساؤوا أن تجتنبوا إساءتهم»؛ ولكي لا يفتتن به إمعة من رعاع الناس لا يرى الدين إلى من خلال تصرفاته، فكما تكون الإمامة والأسوة في الخير، فهناك قدوة الضلالة، ينظر الناس إليه على أنه مثلهم الأعلى، فإن زل زلوا معه، وإن عاد إلى الصواب بعد ذلك قد لا يعودون.

5- الاعتدال في أمور الحياة: ونهج منهج التوسط والاقتصاد، ومراعاة آداب الشريعة وتوجيهاتها في أمور الحياة والمعيشة، ولا سيما في اللباس والمظهر، وهما الامتداد المادي لحقيقة الذات، والعاكس المهم لكثير من كوامن الشخصية وصورها الباطنة، فمن المهم أن ينسجم مظهر القدوة مع منهج التدين الذي ينتسب إليه، والحذر من المفارقات والتناقض الذي يضعف أثر القدوة في نفوس الناس.

6- تنظيم الوقت وحفظه: وهو من أهم مقومات شخصية القدوة، بحيث يعطي كل ذي حق حقه، ولا يطغى جانب في حياته على جانب آخر فتضيع الواجبات والأولويات على حساب الاشتغال بالتوافه والثانويات.

ميادين القدوة:

1- العبادة والطاعات المحضة: وذلك بالمحافظة على الفرائض والواجبات، والتزود والإكثار من النوافل والقربات. فذلك ميدان مهم من ميادين الدعوة بالقدوة، وقد كانت هذه السمة قويةً وبارزةً في هدي المصطفي ﷺ‬ وقيامة بحق ربه، ومن ذلك أيضًا أمره لنسائه بقيام الليل حينما رأى تنزل الفتن والخزائن على أمته، ليقتدي بهن النساء خاصة والناس عامة في كل زمان، ولا سيما زمن كثرة الفتن.

2- علاقة القدوة بالناس وتعامله معهم: وكسبه لحبهم واحترامهم وثقتهم من خلال حسن تصرفه، وتحليه بمكارم الأخلاق والسماحة والكرم والعدل وطيب العشرة وطلاقة الوجه وحسن القول، إلى غير ذلك من مجالات الدعوة بالقدوة في التعامل؛ ولنا في رسول الله ﷺ‬ في هذا الميدان أعظم وأرقى أسوة.

3- تكوين النفس وتربيتها علمًا وأدبًا وسمتًا ومظهرًا، وهذا كما أِشرنا سابقًا بأن القدوة لا تتحقق إلا به، وهو في ذات الوقت مجال من مجالات الدعوة، وأسلوب مؤثر من أساليبها، فيقع التأثر في نفوس الناس بمظهر القدوة وسمته ووقاره موقعًا بليغًا، يفوق أحيانًا الاستفادة من أقواله وعلمه، وقد ورد أن الذين كانوا يجلسون على الإمام أحمد بن حنبل في مجلس درسه بلغوا المئات مع أن الذي يطلب عليه ويدون علمه قليل من ذلك الحشد الكبير، الذي إنما حضر انتفاعًا بهدي الشيخ واقتداءً بسمته وأدبه.

 أهمية القدوة في أوساط النساء:

إننا في ظل الظروف الحالية والمرحلة الخطيرة المقبلة بحاجة ماسة إلى قدوات من نساء فقهن دينهن ووعين دورهن في المجتمع، إذ أن هناك مجالاتٍ وميادين نسائية كثيرة تفتقر إلى التوجيه القيادي العملي، ولا سيما في مجالي التربية في البيوت، والتعليم في المدارس والجامعات، ومع ذلك فهناك من النساء الرائدات من كان لهن التأثير الكبير بفضل الله على أزواجهن وأسرهن وطالباتهن من خلال أسلوب القدوة الفعال.

ومع أن الصحوة العلمية والحركة الدعوية في أوساط النساء قد بلغت في وقتنا الحاضر من القوة والنشاط ما لم يسبق له مثيل فيما مضى، إلا أنه لا يزال الأمر محصورًا في طبقة المتدينات والراغبات في الخير إجمالاً.

بينما هناك في أوساط النساء جموع كثيرة وشريحة ضخمة لم يبلغهن ذلك الخير، ولا تصلهن الدعوة، وذلك في الغالب بسبب الغفلة والانشغال بأمور الدنيا.

 فكيف يمكن إيصال الدعوة إليهن والتأثير عليهن؟

إنه عن طريق القدوة لتلك المرأة الواعية الفاضلة، التي لا بد أن تكون موجودةً بين صفوف أولئك النسوة.

عندها يفهم الجميع هذا الدين ويدركون المطلوب منهم والمحذور عليهم من خلال النساء الصالحات القدوات.

نصائح وتوجيهات لكل موفقة اصطفاها الله جل وعلا لتكون أسوة تحتذى ومنارة للهدى

إن الذي ينحدر للتهافت على الملذات ذلك الذي رضي لنفسه أن يعيش دائمًا في القاع، وأما من يرقى في سلم الطاعات ومجاهدة الملذات فذلك صاحب الإمامة في الدين وقدوة المتقين ومضرب الأمثال للعالمين، وإن كانت امرأة.

أيتها الموفقة يا من هداك الله إلى طاعته وبين لك سبيله، يا طالبة العلم الشرعي، يا من نشأت في بيوت الصلاح والدعوة، يا أم وزوجة وأخت وبنت الداعية، يا نساء بيوت العلم والصحوة.

إلى المثل الذي يحتذي به غيرها من النساء، إلى القدوة الصالحة لغيرها من المؤمنات، إلى المثال الحي الواقعي لحياة ملأتها المغريات والملهيات، حتى ظن بعض المفتونات أن بلوغ ذلك المستوى من تكوين الذات وإنشاء مثل تلك البيوت من الأمور المستحيلة.

إليك أختي القدوة هذه التوصيات والتنبيهات:

1- الحذر من التساهل الذي يفتن العامة ويلبس عليهم، مثل: الأخذ بالرخص وبعض أقوال أهل العلم الشاذة أو المرجوحة، ومن ذلك عندما نهى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عن لبس الخفين في الحج – آخذًا بالرخصة في ذلك – لخشية عمر أن يتوسع الناس في ذلك، فقال له: «عزمت عليك إلا نزعتهما، فإني أخاف أن ينظر الناس إليك فيقتدون بك»، ومن ذلك في الوقت الحاضر تساهل كثير من الخيرات بل وبعض طالبات العلم الشرعي في ركوب السيارة مع السائق لوحدها، وحصول الخلوة بذلك أخذًا بقول بعض من رخص، وكذلك التساهل في الوقوع ببعض الأمور المستحدثة التي ترجح تحريمها كما في مسألة تشقير الحاجبين ليبدوا أدق، وذلك مما أفتت اللجنة الدائمة للإفتاء بعد جوازه.

بل إن صاحبة الأسوة الحسنة قد تحتاج إلى ترك بعض المباحات أو التقليل منها، احتياطًا لأمر دينها، وبعدًا عن الشبهات، وصيانةً لنفسها عن مواطن سوء الظن، لأن ذلك ينفر الناس من الاقتداء، بها ككثرة المزاح والضحك وكثرة الخروج والزيارات، وامتدادها لساعات طويلة بغير حاجة ولا مبررٍ شرعي.

2- إن مما يساعد المرأة المسلمة على الارتقاء بذاتها إلى درجة القدوة أن تتخذ – مع اقتدائها بنبيها وسلفها الصالح – من بعض من تلقاه من الصالحات العالمات بدينهن مثلاً تقتدي به؛ لأنها لا بد وأن تجد فيمن عاشرته وتلقت عنه، سمتًا وهدى فائقًا يجذبها إليه، فتستطيع من خلال التأمل أن تقف على أفضل ما يحمله من حولها من الصالحين والصالحات من صفاتٍ، ثم تستلهم من ذلك الواقع القوي لتربية ذاتها، فقد تجد عند البعض حسن التعامل مع الآخرين، كالصفح عن المسيء وحسن الظن ولطف الخطاب وسعة الصدر والتواضع وإنكار الذات، وقد تلمح عند أخريات الإسراع إلى فعل الطاعات وبذل الصدقات، ثم قد يجذبها عند الأخرى من حسن مظهرها المتلائم مع تعاليم دينها. مع احتفاظها ببهائها وجمالها ونظافتها كل ذلك من غير إسراف ولا مخيلة.

ولهذا التوجيه أصل عظيم في كتاب الله تعالى حيث قال الله تعالى آمرًا نبيه ﷺ‬ بالنظر في أحوال وأوصاف الأنبياء قبله متخذًا هديهم أسوة له، فقال تعالى: }أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه{ [الأنعام: 90].

3- لا بد أن تكوني واضحة وصادقة مع نفسك لاكتشاف نوعية التصرف والخطأ الذي لا يصلح معه أن تكوني قدوة، ويسقط هيبتك الدينية، ومن ثم يقل انتفاعهم بكلامك، بل قد يكون ذلك سببًا في فتنة الآخرين، وضلالهم متأسيًا بخطاك، وذلك الأمر يتطلب الوقوف على النفس بالمحاسبة ومراجعة الذات، ثم العمل على تهذيبها ومجاهدة ما شق عليها.

4- الحذر من بعض المحاذير الدارجة في هذا العصر، والتي تهافت عليها الكثير من النساء ممن نقص علمهن وديانتهن، فأصبحت في بعض المجتمعات والأسر من المشاهد والظواهر المألوفة مع مخالفتها الصريحة للدين ووضوح حكم تحريمها، ولكن لغلبة ممارستها وكثرة الوقوع فيها استسهلها وتأثر بها كثير من الصالحات والقدوات وشاكلن الجاهلات في ذلك. فاختلط الأمر على العامة وتلبس الباطل والمنكر بلبوس الحق والمعروف.

ومن ذلك:

أ- ما يتعلق بالمظهر واللباس: سواء في لبس الحجاب عند الخروج أو لبس الثياب والزينة عند النساء، فأما مظاهر القصور والخلل في الحجاب متنوعة، منها التساهل في لبس النقاب الواسع والبرقع وانتشار ذلك، ولبس العباءة على الكتف، والجلبات الذي يفصل جسم المرأة، والتساهل في ستر القدمين بالجوارب، ولنا في عائشة رضي الله عنها أسوة حسنة عندما كانت تشد خمارها حياءً من عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو ميت في قبره، عندما كانت تدخل البيت الذي دفن فيه.

وأما التساهل في المظهر واللباس والزينة بشكل عام فقد عمت بها البلوى في أوساط بيوت الصالحين، وتقلد حملها ووزرها كثير ممن هم مظنة القدوة لغيرهن، فلبسن الملابس الضيقة المحجمة لأجسادهن، بشكل تأباه الفطر السليمة ويحرمه الدين القويم، كما صح في حديث (الكاسيات العاريات)، وقد كان النكير من قبل على عامة النساء اللواتي وقعن في المظاهرة الخداعة والتقليد الساذج للغرب، ولكن للأسف نجد هذه المظاهر الخداعة والتقليد الساذج للغرب، ولكن للأسف نجد هذه المظاهر انتقلت إلى كثير من الصالحات وتساهلن بها في أنفسهن وفي أهليهن.

ب- كثرة الخروج للأسواق والتجول بها: وكذلك الملاهي والمطاعم التي يكثر فيها المنكرات، وتجمع الفساق، والأصل قرار المرأة في بيتها، كما قال تعالى: }وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ{ [الأحزاب: 33].

ج- السفر بغير محرم: وفي الحديث الذي رواه مسلم «لا يحل لامرأةٍ تؤمن بالله واليوم الآخر، تسافر مسيرة يومٍ، إلا مع ذي محرم» ([6]).

د- الخلوة مع الرجل الأجنبي: كالبائع في المحل، والطبيب في العيادة، والسائق في السيارة، لحديث عن النبي قال: «لا يخلون رجل بامرأةٍ، إلا كان ثالثهما الشيطان» ([7]).

ﻫ- التعطر عند الخروج من المنزل: وتقديم العطر وبالخور في الحفلات والزيارات النسائية، ومنهن من ستركب السيارة مع سائق أجنبي يجد ريحها، ونسيت قول النبي ﷺ‬ «أيما امرأةٍ استعطرت فمرت على قومٍ ليجدوا من ريحها فهي زانية ...» ([8]).

و- الاختلاط بالرجال غير المحارم في البيوت: والجلسات الأسرية، وإقرار ذلك أثناء جلوسها معهم، والسماح للبنات بمخالطة الشباب الذكور من الأسر القريبة، مع غياب الغيرة على الأعراض وعدم مراقبة الله عز وجل.

ز- الإسراف العام في شؤون الحياة: والمبالغة في الاهتمام بالتوافه من أمور الدنيا، كتزيين المنازل واقتناء الأواني، والإسراف في الملابس والحلي والولائم على وجه التفاخر والتكاثر المحرم، والذي غرق فيه أرباب الدنيا نسأل الله العافية.

إن الفرق الذي بيننا وبين أسلافنا وقدواتنا الصالحة أن المسلمات كن جميعًا قدوات لبعضهن البعض: }وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ{ [التوبة: 71].

وذلك بسبب قوة علاقتهن بالله تعالى، «ومن كان بالله أعرف كان منه أخوف»، كانت القلوب بالله متصلة وحريصة على تأدية أمانة هذا الدين، وكلما بعد الناس عن زمن المصطفي ﷺ‬ ازداد الجهل، وتساهل الناس في أداء الأمانة، وغابت قيادة القدوة.

وقد قال ﷺ‬: «... فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة». قال – يعني السائل -: كيف إضاعتها؟ قال:«إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة» ([9]).

ما هي أسباب غياب القدوة؟

شارك في الإجابة على هذا السؤال مجموعة كبيرة ومتفاوتة من النساء من خلال هذا السؤال:

في رأيك: ما أسباب غياب القدوة، أو ضعف أثرها في المجتمع؟

فكان مجمل الإجابات كالتالي:

1- ضعف الإخلاص لله: يولد مظاهر الازدواجية والتناقض في شخصية القدوة «وهو ما يسمى بالنفاق».

2- الغفلة والانشغال في أمور الحياة: وعدم إعطاء الأولويات حقها.

3- عدم إدراك أهمية القدوة وتأثيرها في المجتمع: وخطورة غيابها.

4- ضعف الخوف من الله عز وجل.

5- التأثر بالحضارات الغربية: التي ثبتتها القنوات الفضائية.

6- غياب القدوات في مجال الأسرة والعمل.

7- الافتقار إلى الأخوات الصالحات والرفقة الصالحة.

8- ضعف استشعار القدوة لدوره, وعدم الاهتمام بأنه يشكل قدوة، مما يجعله لا ينظر إلى أفعاله ولا يقيس تصرفاته.

9- غياب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

10- غلبة المغريات وشهوات النفس وإتباع الهوى.

11- التقليد الأعمى والإفراط في اتباع الموضات مما يجعلها غير صالحة لأن تكون قدوة.

12- ضعف هم الآخرة في القلب.

13- أن من كان في مقام القدوة لا يدرك خطورة أثر زعزعة الثقة بالقدوة وما يؤدي إليه من خلل وفساد في المجتمع والدين.

14- سوء خلق القدوة من أسباب غياب تأثيره على الناس وقبولهم له.

15- غياب التوازن في أمور الدين والاقتصار على العبادات والطاعات فقط، دون الالتفات إلى الأخلاق الحسنة وأهميتها.

16- ترأس الشخص التافه غير المؤهل للقيادة.

17- الضعف في تطبيق الدين بمبرر الحياء من قبل بعض الصالحين والصالحات، يتسبب في غياب الأنموذج الحي للقدوة الصالحة.

18- ضعف الإيمان بالله تعالى ونسيان اليوم الآخر ومواقف السؤال فيه.

19- تنازل القدوة ومجاراته لرغبات الآخرين.

20- إهمال المربين تفعيل دور القدوة بين طبقات المتربين، وزرع فكرة القدوة ونشرها بينهم، وخصوصًا في المراكز التعليمية والمساجد.

21- تفشي الظلم بصور متعددة في المجتمع وخاصة ممن هم محل القدوة، فيحمل ذلك على بغضهم وسقوط منزلتهم.

22- المفهوم الخاطئ للحرية الشخصية لدى بعض القدوات عند تبريرهم بعض التصرفات التي تتعارض مع القدوة.

23- إهمال النظر في كنوز السيرة النبوية واستلهام خطوات القدوة العملية.

24- وكذلك عدم النظر في سير الصالحين والقدوات الناجحة في ميادين الحياة، مما يبعث في النفس القوة والمبادرة في المواقف القيادية والمؤثرة في المجتمع.

وفي الختام أخاطب أختي المسلمة فأقول:

اغتنمي وقتك، واستزيدي من العمل الصالح، واضربي أروع الأمثلة وأرقى النماذج للمسلمات من بنات عصرك.

تأملي سيرة نبيك محمد ﷺ‬ القدوة، ادرسيها لعلها تكون زادك إلى الله والدار الآخرة، وكذلك سير أسلافك من الصالحين العابدين العاملين من رجال ونساء طلبًا لشحذ همتك ودفعًا لنفسك للتأسي بهم.

سائلين ربنا ومولانا جل وعلا أن يتولانا فيمن تولى من عباده الصالحين، ويدخلنا برحمته في أوليائه أئمة الهدى ونسأله جل وعلا أن يجعلنا للمتقين إماما.

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الأمين.



([1]) صحيح البخاري باب الاقتداء بأفعال النبي ﷺ‬، ج15 ص 204.

([2]) صحيح مسلم كتاب الإيمان ج2 ص23.

([3]) صحيح مسلم كتاب الإيمان ج2 ص23.

([4]) صحيح مسلم كتاب الإيمان، باب جامع أوصاف الإسلام ج2ص8.

([5]) مسند الإمام أحمد ج6 ص312.

([6]) صحيح مسلم، كتاب الحج، باب سفر المرأة مع المحرم.

([7]) سنن الترمذي ج6 ص 323 قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب.

([8]) صحيح أبي خزيمة باب التغليظ في تعطر المرأة ج4 ص419.

([9]) صحيح البخاري، كتاب العلم، باب من سئل علم وهو مشتغل بغيره، ج1 ص192.