×
الإخبار بأسباب نزول الأمطار : نظرا لتأخر نزول الأمطار مما نتج عنه غور المياه وقلة النبات وحيث إنه لا بد لنزول الأمطار من أسباب وأن لها موانع مذكورة في الكتاب العزيز والسنة المطهرة وكلام أهل العلم، لذا أحببت أن أذكر إخواني المسلمين بهذه الأسباب وتلك الموانع لعلهم أن يعملوا بأسباب نزول المطر وأن يبتعدوا عن موانعه.

 الإخبار بأسباب نزول الأمطار

جمعها الفقير إلى الله تعالى

عبد الله بن جار الله آل جار الله


بسم الله الرحمن الرحيم

 مقدمة

الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ﷺ‬ وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:

نظرا لتأخر نزول الأمطار مما نتج عنه غور المياه وقلة النبات وحيث إنه لا بد لنزول الأمطار من أسباب وأن لها موانع مذكورة في الكتاب العزيز والسنة المطهرة وكلام أهل العلم، لذا أحببت أن أذكر إخواني المسلمين بهذه الأسباب وتلك الموانع لعلهم أن يعملوا بأسباب نزول المطر وأن يبتعدوا عن موانعه فجمعت هذه الرسالة (الإخبار بأسباب نزول الأمطار) وليعلم أن من أهم أسباب نزول الأمطار الإيمان بالله الواحد القهار، وتقوى الله عز وجل بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، والتوبة إلى الله تعالى في جميع الأوقات من جميع الذنوب والسيئات والاستغفار طلب المغفرة من الله تعالى وصلاة الاستسقاء والدعاء بنزول المطر حيث إن الله تعالى أمر بالدعاء وتكفل بالإجابة، والصدقة والإحسان إلى الفقراء والمساكين وترك المعاصي والذنوب والسيئات المانعة من نزول المطر، وليعلم أن الله تعالى حكيم عليم يضع الأشياء مواضعها وينزلها منازلها اللائقة بها.

وأنه تعالى يبتلي عباده بالسراء والضراء لينظر من يطيع ومن يعصي ومن يشكر ومن يكفر، وليعلم أنه ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة وأن طاعة الله وطاعة رسوله سبب لسعادة الدنيا والآخرة وأن معصية الله ومعصية رسوله سبب لشقاوة الدنيا والآخرة، وهذه الرسالة مستفادة من كلام الله تعالى وكلام رسوله ﷺ‬ وكلام أهل العلم، وقد اشتملت على نصيحة بمناسبة صلاة الاستسقاء وعلى بيان أحكامها والحكمة فيها وهدي النبي ﷺ‬ فيها، كما اشتملت على التذكير بأسباب نزول الأمطار وموانعها وعلى نصيحة في التحذير من المعاصي التي هي سبب الجدب والقحط وعلى ذكر آثار وأضرار الذنوب والمعاصي المضرة بالقلب والبدن والدنيا والآخر، وعلى وجوب شكر الله على نعمه الظاهرة والباطنة ومنها نزول المطر لأن الشكر مقرون بالمزيد، أسأل الله تعالى أن ينفع بها من كتبها أو طبعها أو قرأها أو سمعها فعمل بها وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم ومن أسباب الفوز لديه بجنات النعيم، كما أسأله تعالى أن يغيث قلوبنا وقلوب المسلمين بالإيمان وأن يثبتنا وإياهم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

وأن يغيث بلادنا وبلدان المسلمين بالمطر النافع المبارك إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المؤلف


 نصيحة بمناسبة صلاة الاستسقاء

من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يطلع عليه من المسلمين، وفقني الله وإياهم لفعل الخيرات ومنَّ عليَّ وعليهم بالتوبة النصوح من جميع السيئات.. آمين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

أما بعد:

فتعلمون رحمني الله وإياكم أن المسلمين قد عزموا على الاستغاثة لتأخر الغيث عن وقته في كثير من البلاد، ولشدة حاجة المسلمين بل ضرورتهم إلى رحمة ربهم سبحانه وفضله وإحسانه، وقد أمرهم سبحانه أن يدعوه ويضرعوا إليه، ويرفعوا إليه حاجاتهم، وقد وعدهم سبحانه بالإجابة حيث قال عز وجل: ]وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ[ [غافر: 60].

وقال عز وجل: ]وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلهُمْ يَرْشُدُونَ[ [البقرة: 186] وقال سبحانه: ]ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ[ [الأعراف: 55، 56].

وكان النبي ﷺ‬ والمسلمون إذا اشتدت بهم الأمور لجأوا إلى الله سبحانه واستغاثوا به فيغيثهم ويمدهم بإحسانه وجوده، كما قال عز وجل في قصة غزوة بدر ]إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ[ [الأنفال: 9] ولما اشتد الجدب في المدينة وما حولها، طلب المسلمون من النبي ﷺ‬ أن يستغيث لهم، فرفع ﷺ‬ يديه في خطبة الجمعة، واستغاث ربه، وكرر الدعاء، وخرج بهم مرة أخرى إلى الصحراء فصلى بهم ركعتين كصلاة العيد، واستغاث ربه، ودعاه، ورفع يديه، وألح في الدعاء، وحول رداءه فأغاثهم الله ورحمهم، وأزال شدتهم، وأنزل عليه الغيث الكثير وقد قال الله عز وجل: ]لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا[ [الأحزاب: 21].

ومن أعظم أسباب الرحمة ونزول الغيث تقوى الله عز وجل، والتوبة إليه من جميع الذنوب، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى، والتناصح في الله، والتواصي بالحق والصبر عليه، ورحمة الفقراء والمساكين ومواساتهم والإحسان إليهم، كما قال عز وجل: ]وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ[ [الأعراف: 96] الآية، وقال سبحانه:]وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ[ [الطلاق: 2، 3] وقال تعالى: ]وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا[ [الطلاق: 4] وقال عز وجل: ]إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ[ [الأعراف: 56] وقال سبحانه: ]وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[ [التوبة: 71].

فأبان سبحانه في هذه الآيات الكريمات أن التقوى والإحسان إلى عباد الله، والاستقامة على أمر الله من أسباب رحمته لعباده، وإحسانه إليهم، وإنزال الغيث عليهم، وإزالة المشقة عنهم.

فاتقوا الله عباد الله، وأحسنوا إلى عباده، وتواصوا بالحق والصبر عليه، وتعاونوا على البر والتقوى، وتآمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، وتوبوا إليه من جميع الذنوب يرحمكم مولاكم سبحانه، ويمن عليكم بالغيث المبارك، ويعطيكم ما تحبون ويصرف عنكم ما تكرهون، كما قال تعالى: ]وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[ [النور: 31].

وقال النبي ﷺ‬ «من لا يرحم لا يرحم»([1]) وقال ﷺ‬ «الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء»([2]). والآيات والأحاديث الشريفة في الحث على التقوى والاستقامة ورحمة العباد والإحسان إليهم كثيرة معلومة.

وأسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين جميعا، وأن يمن عليهم بالتوبة النصوح من جميع الذنوب، وأن يغيثهم من فضله، وأن يجمع قلوبهم على التقوى والعمل الصالح، وأن يعيذ الجميع من شرور النفس، وسيئات العمل ومن مضلات الفتن، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يوفق ولاه أمرنا لكل ما فيه صلاح العباد والبلاد، وأن يصلح لهم البطانة، ويعينهم على كل خير إنه ولي ذلك والقادر عليه

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،


 ما جاء في صلاة الاستسقاء وأنها من أسباب نزول المطر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

روى مسلم في صحيحه عن يحيى بن يحيى أخبرنا سفيان بن عيينة عن عبد الله بن أبي بكر عن عباد بن تميم عن عمه قال: خرج رسول الله ﷺ‬ إلى المصلى فاستسقى واستقبل القبلة وقلب رداءه وصلى ركعتين.

وقال النووي رحمه الله: أجمع العلماء على أن الاستسقاء سنة، وعلى قوله: (خرج رسول الله ﷺ‬ إلى المصلى للاستسقاء) فيه استحباب الخروج للاستسقاء إلى الصحراء لأنه أبلغ في الافتقار والتواضع ولأنها أوسع للناس([3]).

وقال النووي أيضا: قال أصحابنا: الاستسقاء ثلاثة أنواع: أحدها الاستسقاء بالدعاء من غير صلاة، الثاني الاستسقاء في خطبة الجمعة أو في إثر صلاة مفروضة وهو أفضل من النوع الاول، والثالث وهو أكملها أن يكون بصلاة ركعتين وخطبتين ويتأهب قبله بصدقة وصيام وتوبة وإقبال على الخير ومجانبة الشر ونحو ذلك من طاعة الله تعالى ويشرع الاستسقاء عند الحاجة.

قال الشافعي رحمه الله: وإنما يشرع الاستسقاء إذا أجدبت الأرض وانقطع الغيث والنهر أو العيون المحتاج إليها ولو في بعض أوطان المسلمين، قال النووي في شرح المهذب: ولو انقطعت المياه عن طائفة دون طائفة أو أجدبت طائفة وأخصبت طائفة استحب لأهل الخصب أن يستسقوا لأهل الجدب بالصلاة وغيرها([4]) وكان السلف الصالح إذا أجدبت الأرض وقطحت وأمر ألوا الأمر بصلاة الاستسقاء في يوم معلوم هب الأئمة والوعاظ بحث المسلمين على التوبة والاستغفار وبذل الصدقات قبيل خروجهم إلى مصلى الاستسقاء فإذا حان موعد الصلاة خرج المسلمون إلى الصلاة شيوخا وشبابا ونساء بتذلل وخشوع وحضروا الصلاة وسمعوا الخطبة تسمع التسبيح والتهليل والاستغفار ونحيب الشيوخ وسرعان ما يستجيب الله لهم وقل أن يعيدوا الصلاة مرة أخرى في السنة الواحدة لتفضل الله عليهم بالغيث.

وفي هذه الأزمان يأمر ألوا أمر المسلمين بصلاة الاستسقاء ويحضر الموعد ولم يرفع أكثر الناس بذلك رأسا ولا يحضر الصلاة إلا ثلة من الشيوخ المسنين، وتكرر الصلاة مرة بعد أخرى في العام الواحد وتنتشر السحب في السماء حتى تسد الأفق وتنجلي وما أمطرت... إن في ذلك إعلام من الله للمسلمين أن يراجعوا أنفسهم ويتفقدوا أعمالهم ويصلحوا ما فسد منها لأن تأخير نزول الغيث لمانع قائم .

قال النووي: إذا أراد الإمام الخروج للاستسقاء وعظ الناس وأمرهم بالخروج من المظالم والتوبة من المعاصي لأن المعاصي والمظالم تمنع القطر، والدليل على ذلك ما روى أبو وائل عن عبد الله قال: إذا بخس المكيال حبس القطر وقوله ﷺ‬ «وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا»([5]).

ومن المؤسف أن الناس لم يفكروا في الموانع ولم يجددوا توبة نصوحا ويغيروا بعض أحوالهم حيث أنعم الله عليهم وفتح عليهم خزائن الأرض وجلبت إليهم خيرات الدنيا من أقصاها إلى أقصاها فاغتر بذلك الكثير من أهل هذا الزمان ورأوا أن صلاة الاستسقاء ليست ذات أهمية عند من أمن معيشته حسب لغة أهل هذا الزمان بعائد وظيفته أو ربح تجارته حيث فقدت عندهم المودة والرحمة والعطف بإخوانه المسلمين المحتاجين الذي تفرضه عليه أخوة الإسلام والذي وصفهم بها رسول الله ﷺ‬ بقوله: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»([6]).

ومن الموانع أيضا المكاسب غير الطيبة فإن خبث المطعم سبب لعدم قبول الدعاء، وقال ﷺ‬ لسعد بن أبي وقاص لما سأله أن يدعو الله أن يجعله مستجاب الدعوة فقال ﷺ‬: «اطب مطعمك يا سعد تكن مستجاب الدعوة والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليقذف بلقمة حرام في جوفه ما يتقبل الله منه أربعين يوما وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به»([7]).

ومن الأسباب التي تستجلب بها رحمة الله الصدقات فإن المسلمين في صلاة الاستسقاء يتوجهون إلى الله ويسترحمونه أن يرفع عنهم الجدب والقحط وأن لا يأخذهم بالسنين فإذا كانوا كذلك فالمقام يقتضي منهم أن يحسنوا إلى ضعفائهم ويواسوهم من فضول أموالهم لعل الله أن يرحمهم لأنه القائل في كتابه العزيز: ]إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ[ [الأعراف: 56] ]رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[ [الأعراف: 23].

وفي سنية قلب الرداء تفاؤلا بتغير الحال من القحط إلى نزول الغيث والخصب ومن ضيق الحال إلى سعته وفيه رمز إلى أن المسلم بدل حاله السابقة إلى حال أخرى بتجديد التوبة وكثرة الاستغفار مما سلف من الذنوب المسببة لمنع نزول الغيث فواجب كل مسلم أن يتمسك بسنن رسول الله ﷺ‬ في أقواله وأعماله وفي جميع حركاته وسكناته بنية واحتساب ولا تكون عنده كالعادة يفعلها بدون استشعار بأسرارها وفق الله المسلمين جميعا، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه والباطل باطلا وارزقنا اجتنابه ولا تجعله ملتبسا علينا وصلى الله وسلم على عبدك ورسولك محمد وآله وأصحابه والتابعين([8]).


 فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء([9])

ثبت عنه ﷺ‬ أنه استسقى على وجوه:

أحدها: يوم الجمعة على المنبر في أثناء خطبته، وقال: «اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا»([10]).

الوجه الثاني: أنه ﷺ‬ وعد الناس يوما يخرجون فيه إلى المصلى، فخرج لما طلعت الشمس متواضعا، متبذلا، متخشعا، مترسلا، متضرعا([11]) فلما وافى المصلى، صعد المنبر إن صح، وإلا ففي القلب منه شيء فحمد الله وأثنى عليه وكبره، وكان مما حفظ من خبطته ودعائه «الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا إله إلا الله، يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، تفعل ما تريد، اللهم لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلته علينا قوة لنا، وبلاغا إلى حين»([12]).

ثم رفع يديه وأخذ في التضرع، والابتهال، والدعاء، وبالغ في الرفع حتى بدا بياض إبطيه، ثم حول إلى الناس ظهره، واستقبل القبلة، وحول إذ ذاك رداءه وهو مستقبل القبلة، فجعل الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن، وظهر الرداء لبطنه، وبطنه لظهره، وكان الرداء خميصة سوداء، وأخذ في الدعاء مستقبل القبلة، والناس كذلك ثم نزل فصلى بهم ركعتين كصلاة العيد من غير أذان ولا إقامة ولا نداء ألبتة، جهر فيهما بالقراءة وقرأ في الأولى بعد فاتحة الكتاب: ]سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى[ وفي الثانية: ]هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ[.

الوجه الثالث: أنه ﷺ‬ استسقى على منبر المدينة استسقاء مجردا في غير يوم جمعة ولم يحفظ عنه ﷺ‬ في هذا الاستسقاء صلاة([13]).

الوجه الرابع: أنه ﷺ‬ استسقى وهو جالس في المسجد، فرفع يديه، ودعا الله عز وجل، فحفظ من دعائه حينئذ «اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريعا طبقا عاجلا غير رائث نافعا غير ضار»([14]).

الوجه الخامس: أنه ﷺ‬ استسقى عند أحجار الزيت قريبا من الزوراء وهي خارج باب المسجد الذي يدعى اليوم باب السلام نحو قذفة حجر، ينعطف عن يمين الخارج من المسجد([15]).

الوجه السادس: أنه ﷺ‬ استسقى في بعض غزواته لما سبقه المشركون إلى الماء، فأصاب المسلمين العطش، فشكوا إلى رسول الله ﷺ‬ وقال بعض المنافقين: لو كان نبيا، لاستسقى لقومه كما استسقى موسى لقومه، فبلغ ذلك النبي ﷺ‬ فقالك «أوقد قالوها؟ عسى ربكم أن يسقيكم» ثم بسط يديه، ودعا، فما رد يديه من دعائه، حتى أظلهم السحاب وأمطروا فأفعم السيل الوادي فشرب الناس فارتووا.

وحفظ من دعائه في الاستسقاء: «اللهم اسق عبادك وبهائمك وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت([16]) اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريئا نافعا غير ضار، عاجلا غير آجل»([17]) وأغيث ﷺ‬ في كل مرة استسقى فيها.

واستسقى مرة فقام إليه أبو لبابة فقال: يا رسول الله إن التمر في المرابد فقال رسول الله ﷺ‬ «اللهم اسقنا حتى يقوم أبو لبابة عريانا، فيسد ثعلب مربده بإزاره» فأمطرت فاجتمعوا إلى أبي لبابة، فقالوا: إنها لن تقلع حتى تقوم عريانا، فتسد ثعلب، مربدك بإزارك كما قال رسول الله ﷺ‬ ففعل فاستهلت السماء([18]).

ولما كثر المطر، سألوه الاستصحاء، فاستصحى لهم، وقال «اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والجبال، والظراب، وبطون الأودية، ومنابت الشجر»([19]).

وكان ﷺ‬ إذا رأى مطرا قال: «اللهم صيبا نافعا»([20]).

وكان يحسر ثوبه حتى يصيبه من المطر، فسئل عن ذلك، فقال: «لأنه حديث عهد بربه»([21]).

قال الشافعي رحمه الله: أخبرني من لا أتهم عن يزيد بن الهاد، أن النبي ﷺ‬ كان إذا سال السيل قال: «اخرجوا بنا إلى هذا الذي جعله الله طهورا فنتطهر منه، ونحمد الله عليه»([22]).

وكان ﷺ‬ إذا رأى الغيم والريح، عرف ذلك في وجهه، فأقبل وأدبر فإذا أمطرت سري عنه، وذهب عنه ذلك، وكان يخشى أن يكون فيه العذاب، قال الشافعي: وروي عن سالم بن عبد الله عن أبيه مرفعا أنه كان إذا استسقى قال: «اللهم اسقنا غيثا مغيثا هنيئا مريئا مريعا غدقا مجللا عاما طبقا سحا دائما، اللهم اسقنا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إن بالعباد والبلاد والبهائم والخلق من اللأواء والجهد الضنك ما لا نشكوه إلا إليك، اللهم أنبت لنا الزرع، أدر لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء، وأنبت لنا من بركات الأرض، اللهم ارفع عنا الجهد والجوع والعري واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا، فأرسل السماء علينا مدرارا»([23]).

قال الشافعي رحمه الله: وأحب أن يدعو الإمام بهذا قال: وبلغني أن النبي ﷺ‬ كان إذا دعا في الاستسقاء رفع يديه([24]) وبلغنا أن النبي ﷺ‬ كان يتمطر في أول مطرة حتى يصيب جسده، قال: وبلغني أن بعض أصحاب النبي ﷺ‬ كان إذا أصبح وقد مطر الناس قال: مطرنا بنوء الفتح ثم يقرأ: ]مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا[ [فاطر: 2]([25]).

قال: وأخبرني من لا أتهم عن عبد العزيز بن عمر، عن مكحول، عن النبي ﷺ‬ أنه قال: «اطلبوا استجابة الدعاء عند التقاء الجيوش، وإقامة الصلاة، ونزول الغيث»([26]).

وقد حفظت عن غير واحد طلب الإجابة عند: نزول الغيث، وإقامة الصلاة، قال البيهقي: وقد روينا في حديث موصول عن سهل بن سعد عن النبي ﷺ‬ «الدعاء لا يرد عند النداء، وعند البأس، وتحت المطر»([27]) وروينا عن أبي أمامة، عن النبي ﷺ‬ قال: «تفتح أبواب السماء، ويستجاب الدعاء في أربعة مواطن: عند التقاء الصفوف، وعند نزول الغيث، وعند إقامة الصلاة، وعند رؤية الكعبة»([28]).

 من حكمة صلاة الاستسقاء([29])

الاستسقاء لغة: طلب السقيا، وشرعا: طلب السقيا من الله تعالى عند حصول الجدب بالثناء عليه والفزع إليه بالاستغفار والصلاة.

وسبب الجدب والقحط ارتكاب المخالفات كما أن الطاعة سبب للبركات قال تعالى: ]وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[ [الأعراف: 96] وقال تعالى: ]وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا[ [الجن: 16] وفي السنة عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي ﷺ‬ قال: «وما نقص قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا» أخرجه ابن ماجه وعند أحمد والحاكم والبزار عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ‬ قال: قال ربكم عز وجل: «لو أن عبادي أطاعوني لأسقيتهم المطر بالليل، وأطلعت عليهم الشمس بالنهار، ولما أسمعتهم صوت الرعد» مصداق قوله تعالى: ]وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا[.

فأنت تعلم مما تقدم لك من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية أن الجدب وقلة الأمطار وعدم نزول الغيث الذي هو حياة كل شيء كارثة من الكوارث ومن عظمى المصائب سببه التجرؤ على الله تعالى بارتكاب المخالفات فلا يكشفها إلا العالم بأحوال عباده الرحيم بهم.

لهذا وجب اللجوز إليه والوقوف بين يديه والتضرع والتذلل له وطلب الغوث والمدد منه ليكشف عنهم ما حل بهم.


 بمناسبة تأخر نزول المطر

الحمد لله الغني الحميد، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ]يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ[ [الشورى: 28] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، بعثه رحمة للعالمين، وحجة على الخلائق أجمعين فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم، الدين، وسلم تسليمًا.

أما بعد:

أيها المسلمون اتقوا الله تعالى وأطيعوه: ]يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ[ [فاطر: 15-17] وهو مع غناه عنكم يأمركم بدعائه ليستجيب لكم، وسؤاله ليعطيكم، واستغفاره ليغفر لكم وأنت مع فقركم وحاجتكم إليه تعرضون عنه وتعصونه وأنتم تعلمون أن معصيته تسبب غضبه عليكم وعقوبته لكم، ففي سنن ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: كنت عاشر عشرة رهط من المهاجرين عند رسول الله ﷺ‬ فأقبل علينا رسول الله ﷺ‬ بوجهه فقال: «يامعشر المهاجرين خمس خصال أعوذ بالله أن تدركوهن، ما ظهر الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولا نقص قوم المكيال إلا ابتلوا بالسنين وشدة المؤنة، وجور السلطان، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولا خفر قوم العهد، إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله في كتابه إلا جعل الله بأسهم بينهم»([30]) .

فذكر ﷺ‬ في هذا الحديث خمسة أنواع من المعاصي كل نوع منها يسبب عقوبة من العقوبات، ومن ذلك منع الزكاة ونقص المكيال يسببان منع المطر وحصول القحط وشدة المؤنة وجور السلطان وأنتم في هذه الأيام ترون تأخر المطر عن وقته وإجداب المراعي، مما يترتب عليه تضرر العباد والبلاد والبهائم.

قال أبو هريرة رضي الله عنه: (إن الحبارى لتموت في وكرها من ظلم الظالم).

وقال مجاهد: إن البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا اشتدت السنة وأمسك المطر، تقول هذا بشؤم معصية ابن آدم، أما منع الزكاة فقد ابتلي كثير من الناس اليوم بتضخم الأموال في أيديهم وصاروا يتساهلون في إخراج الزكاة إما بخلا بها إذا نظروا إلى كثرتها، وإما تكاسلا عن إحصائها وصرفها في مصارفها، وأما نقص المكاييل فالبعض من الناس حملهم الطمع والجشع على الغش في المعاملات ونقص المكاييل والموازين وبخس الناس أشيائهم فيأتي على الأكياس والصناديق ويفرغ منها ويبيعها على الناس على أنها تامة، وعلى شد بلادها، وهي منقوصة مبخوسة، وبائعي الخضار والفواكه والتمور، يغشون الناس في الصناديق فيضعون الرديء في الأسفل والجيد في الأعلى ويقولون كله من النوع الجيد.

وقد أنكر النبي ﷺ‬ على من فعل مثل هذا وزجره حينما مر على بائع طعام فأدخل يده ﷺ‬ فيه فأدرك في أسفله بللا فقال: «ما هذا يا صاحب الطعام؟» قال أصابته السماء يا رسول الله يعني المطر فقال ﷺ‬: «أفلا جعلته ظاهرا حتى يراه الناس، من غشنا فليس منا»([31]).

فقد اعتبر ﷺ‬ إخفاء المعيب وإظهار السليم غشا للمسلمين وتبرأ من فاعله وبعض الباعة يغررون بالمشترين الذين لا يعرفون أقيام السلع ويثقون بهم فيرفعون عليهم القيمة ويغبنونهم غبنا فاحشا، وكل هذه الجرائم وغيرها مما يجري في أسواق المسلمين تسبب العقوبات الخاصة والعامة، ومن ذلك ما تشاهدون من تأخر المطر الذي به حياتكم وحياة بهائمكم وحياة زروعكم وأشجاركم، قال تعالى: ]وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا[ [الفرقان: 48-50].

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله:

وقوله تعالى: ]وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا[ أي أمطرنا هذه الأرض دون هذه وسقنا السحاب يمر على الأرض ويتعداها ويتجاوزها إلى الأرض الأخرى فيمطرها ويكفيها ويجعلها غدقا والتي وراءها لم ينزل فيها قطرة من ماء وله في ذلك الحجة البالغة والحكمة القاطعة، قال ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم ليس عام بأكثر مطرا من عام ولكن الله يصرفه كيف يشاء ثم قرأ هذه الآية: ]وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا[ أي ليذكروا بإحياء الله الأرض الميتة أنه قادر على إحياء الأموات والعظام الرفات، أو ليذكر مع منع المطر إنما أصابه ذلك بذنب أصابه فيقلع عما هو فيه، فالمطر نعمة من الله على عباده قال تعالى: ]أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ[ [الواقعة: 68-70].

فهو الذي أنزل هذا المطر بمنه وفضله ولو شاء لحبسه فتضرر العباد وهو الذين جعله عذبا سائغا شرابه، ولو شاء جعله ملحا أجاجا لا يصلح للشرب.

عباد الله:

إن الله أرشدنا عند احتباس المطر إلى أن تستغفره من ذنوبنا التي بسببها حبس عنا المطر، قال تعالى حكاية عن هود عليه السلام: ]وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ[ [هود: 52].

فالإكثار من الاستغفار والتوبة سبب لنزول المطر والزيادة من القوة وقال تعالى: ]فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا[ [نوح: 10-12] أي إذا تبتم إلى الله واستغفرتموه وأطعتموه كثر الرزق عليكم وأسقاكم من بركات السماء وأنبت لكم من بركات الأرض وأنبت لكم الزرع وأدر لكم الضرع وأمدكم بأموال وبنين وجعل لكم جنات فيها أنواع الثمار وتتخللها الأنهار الجارية وقد شرع النبي ﷺ‬ لأمته الاستسقاء عند احتباس المطر وذلك بالصلاة والدعاء والتضرع إلى الله تعالى، فقد ثبت عنه ﷺ‬ أنه استسقى على وجوه:

منها: أنه استسقى يوم الجمعة على المنبر في أثناء خطبته.

ومنها: أنه وعد الناس يوم يخرجون فيه إلى المصلى، فصلى بالناس ركعتين وخطب ودعا، مما يدل على أنه مطلوب من المسلمين جميعا عند امتناع المطر أن يحاسبوا أنفسهم ويتوبوا إلى ربهم، لأن ذلك سبب ذنوبهم كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع بلاء إلا بتوبة، قال تعالى: ]وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلهُمْ يَذَّكَّرُونَ[ [الأعراف: 130] وقال تعالى: ]وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[ [الأنعام:42، 43] فاتقوا الله عباد الله وتوبوا إلى ربكم وخذوا على أيدي سفهائكم بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ]وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[ [الحجرات: 10]([32]).


 نصيحة في التحذير من المعاصي التي هي سبب الجدب والقحط

إلى من يراه من المسلمين، رزقنا الله وإياهم قلوبا صاغية وآذانا للحق واعية، آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد:

قال الله تعالى: ]ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ[ [الروم: 41].

قال ابن عباس رضي الله عنهما الفساد: القحط وقلة النبات وذهاب البركة وقال أبو العالية: من عصى الله في الأرض فقد أفسد في الأرض لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة، وقال تعالى:]وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ[ [الأعراف: 96].

قال: البركات المطر والنبات وقال تعالى في أهل الكتاب ]وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ[ [المائد: 66] .

قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير ]مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِم[ يعني المطر والنبات، وقال هود لقومه: ]وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ[ [هود: 52] ذكر المفسرون أن قوم هود حبس الله عنهم المطر بسبب ذنوبهم ثلاث سنين فقال لهم هود إن آمنتم أحيا الله بلادكم وزادكم عزا على عزكم وقال نوح لقومه: ]اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا[ [نوح: 10-12].

قال قتادة علم نبي الله أنهم أهل حرص على الدنيا فقال: هلموا إلى طاعة الله فإن في طاعة الله سعادة الدنيا والآخرة، وقال تعالى: ]وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا[ [الجن: 16] ومعنى الآية لو استقام القاسطون على طريقة الإسلام وعدلوا إليها واستمروا عليها لاسقيناهم ]مَاءً غَدَقًا[ أي كثيرا يعني سعة الرزق، وضرب الماء الغدق مثلا لأن الخير والرزق كله من المطر.

هذه الآيات تدل على أن المعاصي سبب لحبس المطر وذهاب البركات وأن طاعة الله سبب للمطر والبركات وقد روى الإمام أحمد بن حنبل عن أبي مخدع أنه قال وجد رجل في زمان زياد أو ابن زياد صرة فيها حب يعني من بر مثل النوى مكتوب فيها هذا نبت في زمان كان يعمل فيه بالعدل وجاءت في هذا المعنى أحاديث، روى ابن ماجه والبزار والبيهقي، واللفظ لابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال أقبل علينا رسول الله ﷺ‬ فقال: «يا معشر المهاجرين خمس خصال إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشي فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم، إلامنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله تعالى إلا جعل الله بأسهم بينهم»، ورواه الحاكم من حديث ابن بريدة بنحوه ورواه مالك. بنحوه موقوفا على ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ «ما ظهر الغلول في قوم إلا ألقى الله في قلوبهم الرعب، ولا فشى الزنا في قوم إلا كثر فيهم الموت، ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا قطع الله عنهم الرزق، ولا حكم قوم بغير حق إلا فشى فيهم الدم ولا خفر قوم العهد إلا سلط الله عليهم العدو».

ورفعه الطبراني إلى النبي ﷺ‬ في معجمه من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ‬ «ما طفف قوم كيلا، ولا بخسوا ميزانا إلا منعهم الله القطر، وما ظهر في قوم الزنى إلا ظهر فيهم الموت، وما ظهر في قوم الربا إلا سلط الله عليهم الجنون ولا ظهر في قوم القتل يقتل بعضهم بعضا إلا سلط الله عليهم عدوهم ولا ظهر في قوم عمل قوم لوط إلا ظهر فيهم الخسف وما ترك قوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا لم ترفع أعمالهم ولم يسمع دعاؤهم»وروي الإمام أحمد عن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله ﷺ‬ يقول: «ما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أخذوا بالسنين وما من قوم يظهر فيهم الرشا إلا أخذوا بالرعب» السنة: العام المقحط.

عباد الله: إنه ليس في الدنيا شر إلا سببه الذنوب والمعاصي فما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء وطرده ولعنه ومسخ ظاهره وباطنه فجعلت صورته أقبح صورة أشنعها، وباطنه أقبح من صورته وأشنع وبدل بالقرب بعدا، وبالرحمة لعنة وبالجمال قبحا، وبالجنة نارا تلظى، وبالإيمان كفرا، وبموالا الولي الحميد أعظم عداوة ومشاقة، وبزجل التسبيح والتقديس والتهليل بزجل الكفر والشرك والكذب والزور والفحش، وبلباس الإيمان لباس الكفر والعصيان والفسوق فهان على الله غاية الهوان وسقط من رحمته غاية السقوط وحل عليه غضب الرب تعالى فمقته أكبر المقت وأرداه.

وما الذي أغرق أهل الأرض حتى علا الماء فوق رءوس الجبال، وما الذي سلط الريح العقيم على عاد حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض كأنهم أعجاز نخل خاوية ودمرت ما دمرت عليهم من ديارهم وحروثهم وزروعهم ودوابهم حتى صاروا عبرة للأمم إلى يوم القيامة، وما الذي أرسل على ثمود الصيحة حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم وماتوا عن آخرهم، وما الذي رفع قرى قوم لوط، حتى سمعت الملائكة نبح كلابهم ثم قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها فأهلكهم جميعا ثم أتبعه حجارة من سجيل السماء أمطرها عليهم فجمع عليهم من العقوبة ما لم يجمعه على أمة غيرهم ولإخوانهم أمثالها وما هي من الظالمين ببعيد.

وما الذي أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب كالظلل فلما صار فوق رءوسهم أمطر عليهم نارا تلظى، وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر ثم نقلت أرواحهم إلى جهنم فالأجساد للغرق والأرواح للحرق([33]) وما الذي خسف بقارون وداره وماله وأهله، وما الذي أهلك القرون من بعد نوح بأنواع العقوبات ودمرها تدميرا، وما الذي أهلك قوم صاحب يس بالصيحة حتى خمدوا عن آخرهم، وما الذي بعث على بني إسرائيل قوما أولى بأس شديد فجاسوا خلال الديار فقتلوا الرجال وأخربوا الديار ونهبوا الأموال ثم بعثهم إليهم مرة ثانية فأهلكوا ما قدروا عليه وتبروا ما علوا تتبيرا وما الذي سلط عليهم أنواع العذاب والعقوبات مرة بالقتل والسبي وخراب البلاد ومرة بجور الملوك ومرة بمسخهم قردة وخنازير وآخر ذلك أقسم الرب تبارك وتعالى: ]لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ[ [الأعراف: 167]([34]).

وقد روى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال: لما فتحت قبرص فرق بين أهلها فبكى بعضهم إلى بعض فرأيت أبا الدرداء جالسا وحده يبكي فقلت: يا أبا الدرداء ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله ؟ فقال: ويحك ما أهون الخلق على الله إذا أضاعوا أمره بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى وروى النسائي بإسناد صحيح وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح الإسناد عن ثوبان رضي الله عنه أن النبي ﷺ‬ قال: «إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه».

واعلموا أن كل معصية من المعاصي هي ميراث أمة من الأمم التي أهلكها الله عز وجل، فاللواط ميراث عن قوم لوط، وأخذ الحق بالزائد ودفعه بالناقص ميراث عن قوم شعيب، والعلو في الأرض والفساد ميراث عن فرعون، والتكبر والتجبر ميراث عن قوم هود، فالعاصي لابس لباس بعض هذه الأمم، وقد روى عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب الزهد لأبيه عن مالك بن دينار قال: أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل أن قل لقومك لا تدخلوا مداخل أعدائي وتلبسوا ملابس أعدائي، ولا تطعموا مطاعم أعدائي، فتكونوا أعدائي كما هم أعدائي والمعنى لا تشبهوا بهم فإن من تشبه بقوم فهو منهم فتوبوا إلى الله واحذروا من الاغترار بنعمه عليكم فقد روى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر عن النبي ﷺ‬ قال: «إذا رأيت الله عز وجل يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج» ثم تلا قول الله عز وجل ]فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ[ [الأنعام: 44] .

قال بعض السلف: إذا رأيت الله عز وجل يتابع عليك نعمه وأنت مقيم على معاصيه فاحذره فإنما هو استدراج منه يستدرجك وقد قال تعالى: ]وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ[ [الزخرف: 33-35] .

وقد رد سبحانه على من ظن هذا الظن بقوله: ]فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلا[ [الفجر: 15، 16] وفي جامع الترمذي عن النبي ﷺ‬ «إن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الإيمان إلا من يحب»([35]).

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.


 أضرار المعاصي

قال ابن القيم رحمه الله: وللمعاصي من الآثار القبيحة المذمومة المضرة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا الله.

1- فمنها حرمان العلم فإن العلم نور يقذفه الله في القلب والمعصية تطفئ ذلك النور قال تعالى: ]وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ[ [البقرة: 282] وقال العالم العارف([36]).

فأرشدني إلى ترك المعاصي

شكوت إلى وكيع سوء حفظي

ونور الله لا يؤتى لعاص

وأخبرني بأن العلم نور

2- ومنها حرمان الرزق وفي المسند: «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه»([37]).

3- ومنها: وحشة يجدها العاصي في قلبه لا يوازيها ولا يقارنها لذة أصلا ولو اجتمعت له لذات الدنيا بأسرها لم تف بتلك الوحشة، وهذا أمر لا يحس به إلا من في قلبه حياة وما لجرح بميت إيلام.

4- الوحشة التي تحصل بينه وبين الناس لا سيما أهل الخير منهم وتقوى هذه الوحشة حتى تستحكم فتقع بينه وبين امرأته وولده وأقاربه وبينه وبين نفسه فتراه مستوحشا من نفسه، وقال بعض السلف: إني لأعصي الله فأرى ذلك في خلق ابني وامرأتي.

5- ومنها: تعسير أموره وعدم اهتدائه إلى الطريق الأقوم.

6- ومنها: ظلمة يجدها في قلبه حقيقة يحس بها كما يحس بظلمة الليل البهيم.

7- ومنها: أن المعاصي توهن القلب والبدن وتحرم الإنسان من الطاعة وتقصر العمر وتمحق بركته ويذهب هباء منثورًا.

8- ومنها: أن المعاصي تزرع أمثالها ويولد بعضها بعضا حتى يعز على العبد مفارقتها والخروج منها كما قال بعض السلف: إن من عقوبة السيئة السيئة بعدها، وإن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها.

9- ومنها: وهو من أخوفها على العبد أنها تضعف القلب عن إرادته فتقوي إرادة المعصية وتضعف إرادة التوبة شيئا فشيئا إلى أن تنسلخ من قلبه إرادة التوبة بالكلية.

10- ومنها: أن ينسلخ من القلب استقباحها فتصير له عادة فلا يستقبح من نفسه رؤية الناس له ولا كلامهم فيه.

11- ومنها: أن كل من معصية من المعاصي فهي ميراث عن أمة من الأمم التي أهلكها الله عز وجل كالعلو في الأرض والفساد فيها فإنها ميراث عن فرعون وقومه وهكذا.

12- ومنها: أن المعصية سبب لهوان العبد على ربه وسقوطه من عينه قال الحسن البصري: هانوا عليه فعصوه ولو عزوا عليه لعصمهم وإذا هان العبد على الله لم يكرمه أحد، قال الله تعالى في سورة الحج: ]وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ[ [الحج: 18].

وإن عظمهم الناس في الظاهر لحاجتهم إليهم أو خوفا من شرهم فهم في قلوبهم أحقر شيء وأهونه.

13- ومنها أن العبد لا يزال يرتكب الذنوب حتى تهون عليه وتصغر في قلبه وذلك علامة الهلاك.

14- ومنها: أن غيره من الناس والدواب يعود عليه شؤم ذنبه فيحترق هو وغيره بشؤم الذنوب والظلم.

15- ومنها: أن المعصية تورث الذل فإن العز كل العز في طاعة الله تعالى قال تعالى في سورة فاطر: ]مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَللهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا[ [فاطر: 10] أي: فليطلبها بطاعة الله فإنه لا يجدها إلا في طاعته وكان من دعاء بعض السلف: اللهم أعزني بطاعتك ولا تذلني بمعصيتك قال الحسن البصري: إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين([38]) فإن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم أبى الله إلا أن يذل من عصاه.

16- ومنها: أن المعاصي تفسد العقل فإن للعقل نورا والمعصية تطفئ نور العقل كما أن الذنوب إذا تكاثرت طبع على قلب صاحبها فكان من الغافلين كما قال بعض السلف في قوله تعالى في سورة المطففين: ]كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[ [المطففين: 14]([39]).

17- ومنها: حرمان دعوة رسول الله ﷺ‬ ودعوة الملائكة فإن الله سبحانه أمر نبيه أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات وقال تعالى: ]الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ[ [غافر: 7-9].

18- ومنها: ذهاب الحياء الذي هو مادة الحياة للقلب وهو أصل كل خير، وذهابه ذهاب كل خير بأجمعه وفي الصحيح عنه ﷺ‬ أنه قال: «الحياء خير كله»([40]) وقال: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت»([41]).

19- ومنها: أنها تضعف في القلب تعظيم الرب جل جلاله وتضعف وقاره في قلب العبد ولا بد شاء أم أبى، ولو تمكن وقار الله وعظمته في قلب العبد لما تجرأ على معاصيه.

20- ومنها: أنها تستدعي نسيان الله لعبده وتركه وتخليته بينه وبين نفسه وشيطانه وهنالك الهلاك الذي لا يرجى معه نجاة، قال الله تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[ [الحشر: 18، 19].

21- ومنها: أنها تزيل النعم وتحل النقم فما أزالت النقم عن العبد نعمة إلا بسب الذنب، ولا حلت به نقمة إلا بذنب، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع بلاء إلا بتوبة وقد قال تعالى: ]وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ[ [الشورى: 30].

22- ومنها: أنها تصرف القلب عن صحته واستقامته إلى مرضه وانحرافه فلا يزال مريضا معلولا لا ينتفع بالأغذية التي بها حياته وصلاحه فإن تأثير الذنوب في القلوب كتأثير الأمراض في الأبدان، بل الذنوب أمراض القلوب وداؤها ولا دواءً لها إلا تركها، وقد أجمع السائرون إلى الله أن القلوب لا تعطى مناها حتى تصل إلى مولاها ولا تصل إلى مولاها حتى تكون صحيحة سليمة ولا تكون صحيحة سليمة حتى ينقلب داؤها فيصير دواءها ولا يصح لها ذلك إلا بمخالفة هواها وهوها مرضها وشفاؤها مخالفته فإن استحكم المرض قتل أو كاد..

وكما أن من نهى نفسه عن الهوى كانت الجنة مأواه كذلك يكون قلبه في هذه الدار في جنة عاجلة، لا يشبه نعيم أهلها ألبتة بل التفاوت بين النعيمين كالتفاوت الذي بين نعيم الدنيا والآخرة وهذا لا يصدق به غلا من باشر قلبه هذا ولا تحسب أن قوله تعالى: ]إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ[ [الانفطار: 13، 14] مقصور على نعيم الآخرة وجحيمها فقط بل في دورهم الثلاثة كذلك: أعني دار الدنيا، ودار البرزخ ودار القرار، فهؤلاء في نعيم وهؤلاء في جحيم وهل النعيم إلا نعيم القلب، وهل العذاب إلا عذاب القلب، وأي عذاب أشر من الخوف والهم والحزن وضيق الصدر وإعراضه عن الله والدار الآخرة وتعلقه بغير الله وانقطاعه عن الله؟ بكل واد منه شعبة، وكل شيء تعلق به وأحبه من دون الله فإنه يسومه سوء العذاب، ثم يختم ابن القيم رحمه الله حديثه بقوله: فيا من باع حظه الغالي بأبخس الثمن وغبن كل الغبن في هذا العقد وهو يرى أنه قد غبن، إذا لم تكن لك خبرة بقيمة السلعة فاسأل المقومين فيا عجبا من بضاعة معك الله مشتريها وثمنها جنة المأوى، والسفير الذي جرى على يده عقد التبايع وضمن الثمن عن المشتري هو الرسول ﷺ‬ وقد بعتها بغاية الهوان انتهى([42]).

وابن القيم هنا يشر إلى آية من كتاب الله حددت البائع والمشتري والمبيع والثمن والسفير بين البائع والمشتري وهو قوله تعالى: ]إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[ [التوبة: 111] والله يقول الحق وهو يهدي السبيل والحمد لله رب العالمين([43]).


 من أسباب نزول المطر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: فمن أسباب نزول الأمطار ما يلي:

1- الإيمان بالله وأسمائه وصفاته وأمره ونهيه ووعده ووعيده وثوابه وعقابه، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والحساب والجزاء والثواب والعقاب والصراط والميزان وصحف الأعمال والجنة لمن أطاع الله والنار لمن عصاه والإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى.

2- وتقوى الله عز وجل بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، والدليل على ذلك قول الله تعالى: ]وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[ [الأعراف: 96].

3- ومن أسباب نزول الأمطار التوبة إلى الله تعالى في جميع الأوقات من جميع الذنوب والسيئات.

4- والاستغفار -طلب المغفرة من الله تعالى- لما مضى من الذنوب والسيئات فهو تعالى يتوب على من تاب ويغفر لمن استغفر، والدليل على ذلك قول الله تعالى عن نبيه ورسوله نوح عليه السلام: ]فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا[ [نوح 10-12] فدلت الآيات الكريمات على أن الاستغفار من أسباب المغفرة ونزول المطر والإمداد بالأموال والبنين وإنبات الأشجار وإجراء الأنهار فلله الحمد على ذلك.

وقوله تعالى عن نبيه هود عليه السلام: ]وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ[ [هود: 52] دلت الآية الكريمة على أن التوبة والاستغفار من أسباب نزول المطر ومن أسباب الزيادة من القوة، نستغفر الله ونتوب إليه، اللهم اغفر لنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

5- ومن أسباب نزول المطر صلاة الاستسقاء كما كان النبي ﷺ‬ يستسقي على وجوه عديدة ويدعو ربه وأغيث في كل مرة استسقى فيها فينزل الله المطر وكذلك الخلفاء الراشدون كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «اللهم إنا كنا نستسقي إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا -أي بدعائه- فاسقنا فيسقون» رواه البخاري، وهكذا أئمة العلم والدين كانوا يستسقون فيسقون حينما كانوا مطيعين لله ورسوله في كل شئون دينهم ودنياهم وآخرتهم لذا كان الله يستجيب دعواتهم ولنا فيهم أسوة حسنة بأن نطيع ربنا في كل ما أمرنا به ونهانا عنه ثم ندعوه فيستجيب لنا.

6- ومن أسباب نزول المطر الدعاء بحصوله حيث إن الله تعالى أمرنا أن ندعوه ووعد بأن يستجيب لنا قال الله تعالى: ]وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ[ [غافر: 60] وقال عز وجل: ]وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلهُمْ يَرْشُدُونَ[ [البقرة: 186] .

فمن أسباب إجابة الدعاء الاستجابة لله تعالى بطاعته وترك معصيته والإيمان الصادق به سبحانه وتعالى فإذا استجبنا لله فأطعناه ثم دعوناه استجاب لنا لأنه سبحانه لا يخلف الميعاد وقال: ]أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ[ [النمل: 62] فلا يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء غيره سبحانه وتعالى فكم داع دعاه فأجابه وكم دعاه مضطر فكشف عنه السوء وأزال عنه الاضطرار، وكم من تائب تاب إلى الله فتاب عليه وكم من مستغفر استغفره فغفر له وكم من مريض دعاه فشفاه من مرضه فمن وفق لكثرة الدعاء فليبشر بقرب الإجابة ومن أنزل حوائجه كلها بربه فليطمئن بحصولها من فضله وثوابه فلله الحمد والشكر والثناء على ذلك.

7- ومن أسباب نزول المطر أداء الزكاة إلى مستحقيها والصدقة على الفقراء والمساكين ورحمتهم والعطف عليهم ففي الحديث الذي رواه ابن ماجه والبيهقي والبزار عن ابن عمر رضي الله عنهما: «ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا»، وفي الحث على رحمة المخلوقين وأن الله يرحم من رحمهم قال رسول الله ﷺ‬ «ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء» رواه الطبراني في الكبير والحاكم في المستدرك وهو حديث صحيح، وقوله عليه الصلاة والسلام: «من لا يرحم لا يرحم» رواه أحمد في مسنده حديث صحيح فالجزاء من جنس العمل.

8- ومن الأسباب الجالبة لنزول المطر ترك الذنوب التي تميت القلوب، والمعاصي التي تمنع الرزق، وتورث الذل والهوان، وظهور الفساد والمصائب قال الله تعالى: ]ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلهُمْ يَرْجِعُونَ[ [الروم: 41] وقال تعالى: ]وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ[ [الشورى: 30] وفي الحديث: «إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه» رواه أحمد وابن ماجه والبغوي في شرح السنة وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


 وجوب شكر الله على نزول الغيث

الحمد لله رب العالمين، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ]وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ[ [الشورى: 28] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تنفي الشرك بجميع أنواعه وتثبت التوحيد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله رحمة للعالمين وقدوة للعاملين، وحجة على المعاندين وصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما.

أما بعد:

أيها المسلمون اتقوا الله تعالى واشكروه، فقد كنتم في الأيام الماضية في ضيق وشدة من تأخر نزول المطر الذي منه تشربون وتسقون حروثكم وأشجاركم وتتوفر به المراعي لأنعامكم ثم فرج الله شدتكم ورحم ضعفكم فأنزل عليكم الغيث بفضله ورحمته فارتوت الأرض وسالت الأودية وامتلأت السدود.

فاحمدوا الله واشكروه على هذه النعمة العظيمة قال الله تعالى: ]وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا[ [النبأ: 14-16] وقال تعالى: ]أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ[ [الواقعة: 68-70].

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ثم تأمل الحكمة البالغة في نزول المطر على الأرض من علو ليعم بسقيه وهادها وتلوها وظرابها وآكامها ومنخفضها ومرتفعها ولو كان ربها تعالى إنما يسقيها من ناحية من نواحيها لما أتى الماء على الناحية المرتفعة إلا إذا اجتمع في السفلى وكثر، وفي ذلك فساد، فاقتضت حكمته أن سقاها من فوقها، فينشيء سبحانه السحاب وهي روايا الأرض ثم يرسل الرياح فتلقحها كما يلقح الفحل الأنثى ثم ينزل منه على الأرض.

ثم تأمل الحكمة البالغة في إنزاله بقدر الحاجة حتى إذا أخذت الأرض حاجتها وكان تتابعه عليها بعد ذلك يضرها أقلع عنها وأعقبه بالصحو.

عباد الله: اشكروا الله على هذه النعمة العظيمة بالتحدث بها وإضافتها إليه، والثناء على الله، واعتقاد أنها منه وحده، والاستعانة بها على طاعته، فإن كثيرا من الناس لا يشكرون الله على هذه النعمة، كما أنهم لا يشكرونه على غيرها من النعم فبعضهم لا ينسب نزول المطر إلى الله وإنما ينسبه إلى الطبيعة، ويقول هذا يرجع إلى المناخ فبلاد أوروبا مثلا كثيرة الأمطار نظرا لمناخها وموقعها الجغرافي، وبلادنا قليلة الأمطار نظرا لمناخها وموقعها الجغرافي.

فينسى هذا الجاهل أو الملحد أن هذا راجع إلى قدرة الله وحكمته، وأنه هو الذي ينزله ويحبسه كما يشاء، ولم ير هذا الجاهل أن كثيرا من بلاد أوروبا وإفريقيا الآن يشكون من الجفاف وقلة الأمطار ولم ينفعها مناخها وموقعها الجغرافي لأن الله حبس المطر عنها قال تعالى: ]وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا[ [الفرقان: 50].

وبعض الناس ينسب نزول المطر إلى النجوم والطوالع أو الانخفاض الجوي كما يسمونه وينشرون في بعض الصحف أن في هذا العام ستكثر الأمطار أو تقل نظرا لكذا وكذا، وهذا من الجرأة على الله وادعاء علم الغيب والتشويش على العوام الذين لا يعرفون كذبهم وتخرصهم، وفي مثل هؤلاء يقول الله تعالى: ]وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ[ [الواقعة: 82] أي بدل أن تشكروا الله تعالى على إنزاله المطر عليكم (تكذبون) فتنسبون ذلك إلى غيره من الكواكب والمخلوقات التي لا قدرة لها.

وفي الصحيحين عن زيد بن خالد الجهني قال: صلى بنا رسول الله ﷺ‬ صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء (أي نزول مطر) كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس قال: «أتدرون ماذا قال ربكم؟» قالوا الله ورسوله أعلم: «قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب» ومعنى الحديث: أن من نسب المطر إلى الله واعتقد أنه أنزله بفضله ورحمته من غير استحقاق من العبد على ربه، وأثنى على الله بذلك فقال: «مطرنا بفضل الله ورحمته» فهذا مؤمن بالله شاكر لنعمته كافر بما سواه، وأما من نسب نزول المطر إلى غير الله من الكواكب أو الطبيعة وتغير المناخ، فذلك كافر بالله تعالى مؤمن بغيره.

فإذا اعتقد أن لغير الله تأثيرا في إنزال المطر فهذا كفر أكبر لأنه شرك في الربوبية والمشرك كافر، وإن لم يعتقد ذلك، وأضاف المطر إلى السبب فهو من الشرك الأصغر والكفر الأصغر لأنه نسب نعمة الله إلى غيره حيث نسب المطر إلى السبب والواجب نسبته إلى الخالق، فالواجب أن ينسب نزول المطر وجميع النعم إلى الله تعالى قال تعالى: ]وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ[ [النحل: 53].

وإنزال الغيث من أعظم نعم الله وإحسانه إلى عباده لما اشتمل عليه من منافعهم فلا يستغنون عنه أبدا فيجب عليهم أن يشكروه عليه ومن شكره أن يضيفوه إليه وحده ويحمدوه عليه فإن النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها، والله جل وعلا هو المحسن المطلق الذي يجب أن تضاف إليه النعم كلها ويشكر عليها وحده لا شريك له في ذلك.

عباد الله: ومن الناس في هذا الزمان من يستغل وقت نزول الأمطار للنزهة والترفيه عن النفس فيخرجون إلى البراري والأودية بعوائلهم ونسائهم فيسرفون في المآكل ويضيعون الصلوات ويزاولون أنواعها من الملاهي بالأغاني والدفوف والمزامير، وربما يشربون المسكرات ويتعاطون المخدرات ويختلط الرجال بالنساء وتحصل أنواع من المفاسد والمعاصي والفسوق ويقابلون نعمة الله بكفرها ويستغلونها في معاصيه.

فاتقوا الله يا من تفعلون ذلك واحذروا أن يصيبكم من أخبر به النبي ﷺ‬ في الحديث الذي رواه عبد الله ابن الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ‬ قال: «والذي نفسي بيده ليبيتن أناس من أمتي على أشر وبطر ولعب ولهو فيصبحوا قردة وخنازير باستحلالهم المحارم واتخاذهم القينات وشربهم الخمر وبأكلهم الربا ولبسهم الحرير» ووردت بمعناه أحاديث أخر.

فاتقوا الله عباد الله: إن الخروج إلى البر للفسحة ومشاهدة السيول مع المحافظة على طاعة الله والابتعاد عن فعل المحرمات أمر لا بأس به ولكن قليل من الناس من يتقيد بذلك فاتقوا الله في أنفسكم واحذروا أن تكونوا ممن قال الله فيهم: ]أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ[ [إبراهيم: 28، 29].([44]).




([1]) رواه البخاري ومسلم.

([2]) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

([3]) انظر شرح صحيح مسلم للنووي (6/ 187،188).

([4]) انظر شرح المهذب (5/ 68) للنووي.

([5]) رواه البزار والبيهقي ورواه الطبراني في الأوسط ورواته ثقات والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم.

([6]) رواه البخاري ومسلم.

([7]) رواه الطبراني في الصغير وأشار المنذري في الترغيب والترهيب (3/ 207) إلى ضعفه.

([8]) عن مجلة الدعوة.

([9]) زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم رحمه الله بتحقيق شعيب وعبد القادر الأرنؤوط (1/ 456).

([10]) أخرجه البخاري (2/ 417، 321، 423) ومسلم (897) في الاستسقاء: باب الدعاء في الاستسقاء والنسائي (3/ 160، 161) في الاستسقاء باب ذكر الدعاء من حديث أنس بن مالك.

([11]) رواه أبو داود (1165) في الصلاة باب جماع أبواب صلاة الاستسقاء وابن ماجة (1266) والطحاوي (1/ 191، 192) والنسائي (3/ 156) في الاستسقاء باب الحال التي يستحب للإمام أن يكون عليها إذا خرج والترمذي (558) في الصلاة: باب ما جاء في صلاة الاستسقاء وإسناده حسن وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وصححه ابن خزيمة (1405) و(1408) وابن حبان (603) من حديث ابن عباس.

([12]) رواه أبو داود بطوله وبنحوه (1173) من حديث عائشة رضي الله عنها وفي سنده يونس بن يزيد الأيلي قال في التقريب ثقة إلا أن في روايته عن غير الزهري خطأ وهذا منها، ومع ذلك فقد صححه ابن حبان (604) والحاكم (1/ 328) ووافقه الذهبي وقال أبو داود: هذا حديث غريب إسناده جيد وروى بعضه الحاكم (1/ 326) والدارقطني (2/ 66) من حديث ابن عباس، وفي سنده محمد بن عبد العزيز قال فيه البخاري منكر الحديثن وقال النسائي: متروك الحديث، وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث وأبو عبد العزيز مجهول الحال وأخرج البخاري في صحيحه( 2/ 415) من حديث عبد الله بن زيد أن النبي ﷺ‬ خرج إلى المصلى، فاستسقى فاستقبل القبلة، وحول رداءه، وصلى ركعتين.

([13]) انظر سنن ابن ماجه (1270) في إقامة الصلاة، باب ما جاء في الدعاء في الاستسقاء.

([14]) رواه أبو داود (1169) في الصلاة: باب رفع اليدين في الاستسقاء، والبيهقي (3/ 355) من حديث جابر بن عبد الله، وإسناده صحيح وصححه الحاكم (1/ 327) ووافقه الذهبي، وقوله: مريعا أي: ذا مراعة وخصب، يقال: أمرعت البلاد: إذا أخصبت ويروى مربعا بالباء أي: منبتًا للربيع.

([15]) رواه أبو داود (1168) في الصلاة: باب رفع اليدين في الاستسقاء وأحمد (5/ 223) عن عمير مولى أبي اللحم، وسنده صحيح، وصححه الحاكم (1/ 327) وافقه الذهبي ورواه النسائي (3/ 159) والترمذي (557) عن عمير مولى أبي اللحم عن أبي اللحم وهو وهم من أحد رواته.

([16]) رواه أبو داود (1176) في الصلاة: باب رفع اليدين في الاستسقاء من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده وإسناده حسن، ورواه مالك في الموطأ (1/ 190، 191) في الاستسقاء: باب ما جاء في الاستسقاء من حديث عمرو بن شعيب مرسلا، أن رسول الله ﷺ‬ وذكر الحديث

([17]) تقدم قبل قليل، وإسناده صحيح.

([18]) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 215) وقال: رواه الطبراني في الصغير وفيه من لا يعرف، وثعلب مربده ثعلبة ثقبه الذي يسيل منه ماء المطر، المربد: موضع يجفف فيه التمر.

([19]) تقدم تخريجه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عند البخاري ومسلم والنسائي ومالك في الموطأ والظراب، الجبال الصغار جمع الظرب والآكام جمع الأكمة، وهي التل المرتفع من الأرض.

([20]) رواه البخاري (2/ 430) في الاستسقاء باب ما يقال إذا أمطرت والنسائي (3/ 164) في الاستسقاء: باب القول عند المطر من حديث عائشة رضي الله عنه.

([21]) رواه مسلم (898) في الاستسقاء: باب الدعاء في الاستسقاء، وأبو داود (510) في الأدب: باب ماجاء في المطر.

([22]) رواه الشافعي في الأم (1/ 252، 253) في الاستسقاء والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 359) قال البيهقي هذا منقطع وروي فيه عن عمر وإسناده فإن يزيد بن عبد الله بن الهاد لم يرو عن رسول الله ﷺ‬.

([23]) هو في الأم (1/ 251) وفيه انقطاع بين الشافعي وسالم بن عبد الله.

([24]) ذكره مالك في الموطأ (1/ 192) وفي الأم بلاغا (1/ 223) وأخرجه البخاري (4/ 429) ومسلم (895) من حديث أنس بن مالك قال: كان النبي ﷺ‬ لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء وأنه يرفع حتى يرى بياض إبطيه، وروى أبو داود (1171) من حديث أنس: كان يستسقى هكذا ومد يديه، وجعل بطونهما مما يلي الأرض حتى رأيت بياض إبطيه، وإسناده صحيح.

([25]) رواه مالك في الموطأ (1/ 192) في الاستسقاء: باب الاستمطار بالنجوم بلاغا وإسناده معضل.

([26]) رواه الشافعي في الأم (1/ 223) في الاستسقاء باب طلب الإجابة في الدعاء وهو مرسل لأن مكحول لم يدرك النبي ﷺ‬.

([27]) رواه أبو داود (2540) في الجهاد باب الدعاء عند اللقاء والبيهقي (3/ 360) بلفظ ثنتان لا تردان أو قلما تردان: الدعاء عند النداء، وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضا، وسنده حسن، وصححه ابن حبان (297) و(298) وأما لفظة وتحت المطر فهي عند أبي داود والبيهقي بسند فيه مجهول.

([28]) رواه البيهقي (3/ 360) وفي سنده عفير بن معدان وهو ضعيف.

([29]) من حكم الشريعة وأسرارها ص71 للشيخ حامد بن محمد العبادي.

([30]) رواه الطبراني في الكبير عن ابن عباس ورمز السيوطي لصحته بلفظ خمس بخمس.

([31]) رواه مسلم.

([32]) خطب الشيخ الدكتور صالح الفوزان (2/ 389- 293).

([33]) الذي عليه أهل السنة والجماعة أن عذاب القبر للبدن والروح معا انظر شرح الطحاوية (ص348).

([34]) انظر الجواب الكافي، لابن القيم (ص44، 45).

([35]) هذه النصيحة للشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله انظر الدرر السنية (11/ 147).

([36]) وهو الإمام الشافعي رحمه الله.

([37]) رواه أحمد وابن ماجه والبغوي في شرح السنة وإسناده حسن.

([38]) الطقطقة حكاية صوت وقع حوافر البغال، والهملجة السير السريع في حسن وتبختر.

([39]) وانظر تفسير ابن كثير لهذه الآية (4/ 484).

([40]) رواه مسلم.

([41]) رواه البخاري.

([42]) انظر الجواب الكافي لمن سأله عن الدواء الشافي في آثار وأضرار وعقوبات الذنوب والمعاصي العاجلة والآجلة في الدنيا والآخرة لابن القيم.

([43]) انظر رسالة أثر الذنوب في هدم الأمم والشعوب للشيخ محمد محمود الصواف.

([44]) المصدر السابق: خطب الشيخ صالح الفوزان (2/ 294).