×
تذكير المسلمين بصفات المؤمنين : هذه الرسالة مقتبسة من كتاب الكواكب النيرات في المنجيات والمهلكات، ذكر فيها المؤلف بعض صفات المؤمنين.

 تذكير المسلمين بصفات المؤمنين

جمع وتحقيق

الفقير إلى الله تعالى

عبد الله بن جار الله بن إبراهيم الجار الله

غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين


 مقدمة

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ﷺ‬ وعلى آله وأصحابه أجمعين.

والحمد لله الذي حبب الإيمان إلى المؤمنين وزينه في قلوبهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان: }أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ{ سورة الحجرات.

أما بعد فإن الإيمان الصحيح هو ما حصل في القلب وصدقه العمل وله حقائق وأسباب ودوافع ومكملات وزيادة ونقصان، ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وله ثمرات عاجلة وآجلة وله شعب تزيد على السبعين فكل طاعة لله قولية أو فعلية فهي من شعب الإيمان كما أن كل معصية لله فهي من شعب الكفر، فجدير بالمؤمن أن يتفقه في الإيمان وأن يعرف أسبابه وما يزيده أو ينقصه، وأن يعرف شعبه فيطبقها على نفسه وعلى غيره ليكمل إيمانه ويقينه ويتم إسلامه وذلك من علامة إرادة الله بعبده الخير، قال عليه الصلاة والسلام: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» متفق عليه.

كما أن للمؤمنين صفات يتميزون بها عن غيرهم استحقوا بها البشارة من ربهم بالفوز والكرامة والسعادة في الدنيا والآخرة والحياة الطيبة في الدنيا والرزق الكريم والفوز بالجنة دار النعيم والكرامة في الآخرة والسلامة من عذاب الجحيم.

وقد تضمن القرآن الكريم صفات المؤمنين إجمالا وتفصيلا، وقد ضمنتها كتابي (الكواكب النيرات في المنجيات والمهلكات) مع تفسيرها وذكر ما يستفاد منها.

وقد أشار علي بعض المحبين الناصحين بأن أفردها برسالة لتكون خفيفة المحمل قريبة التناول فأجبته إلى ذلك سائلا الله تعالى أن ينفع بها من كتبها أو قرأها أو سمعها أو طبعها وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم ومن أسباب الفوز لديه بجنات النعيم. وسميتها «تذكير المسلمين بأوصاف المؤمنين» وهنا أجدني ملزما بتعريف الإسلام والإيمان وهل هما شيء واحد أو شيئان مختلفان وما الفرق بينهما؟!

والجواب على ذلك: أن الإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله.

والإيمان في اللغة هو التصديق وفي الشرع قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.

وإذا ذكر الإسلام وحده دخل فيه الإيمان وصار اسما للقول والاعتقاد والعمل وإذا ذكر الإيمان وحده دخل فيه الإسلام كذلك وإذا ذكر جميعًا كما في حديث جبريل حينما سأل النبي عن الإسلام والإيمان.

ففسر الإسلام بأركانه الخمسة التي هي من عمل الجوارح، وفسر الإيمان بأصوله الستة التي هي اعتقاد القلب.

والإسلام أوسع دائرة من الإيمان فكل مؤمن مسلمًا وليس كل مسلم مؤمنا، بدليل قول الله عز وجل: }قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ{ [الحجرات: 14].

وللمزيد من التفقه في الإيمان وأسبابه وشعبه وزيادته ونقصانه ومقوياته وفوائده وثمراته أحيل القارئ الكريم إلى رسالة «التوضيح والبيان لشجرة الإيمان»، للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي ومعها «مختصر شعب الإيمان» للبيهقي رحم الله الجميع وغفر لنا ولهم ولوالدينا ولجميع المسلمين.

وهذه الرسالة مستفادة من كلام الله تعالى وكلام رسوله ﷺ‬ وكلام المحققين من أهل العلم ولا يفوتني أن أنبه إلى أن من كرامة المؤمن على ربه أن حملة العرش من الملائكة يستغفرون للمؤمنين التائبين المتبعين للحق ويسألون الله أن يدخلهم الجنة ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم وأن يقيهم السيئات وأن ذلك من علامة رحمة الله بهم ([1]).

كما أن المؤمن الصالح القائم بحقوق الله وحقوق عباده يسلم عليه ملايين المسلمين في كل صلاة، ويشرع له السلام عليهم في التشهد «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين»، نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم فهنيئا للمؤمن الصادق في إيمانه بالفضل العظيم والثواب الجسيم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المؤلف في 15/11/1410 هـ


 أعمال المتقين وجزاؤهم

}الـم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ { [سورة البقرة 1-5].

قوله تعالى: }الـم{ قال بعض أهل العلم أن }الـم{ وسائر حروف الهجاء في أوائل القرآن من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه، وهي سر القرآن، فنحن نؤمن بظاهرها ونكل العلم فيها إلى الله تعالى.

وعن ابن عباس أنه قال: معنى: }الـم{ أنا الله أعلم، ومعنى }المص{ أنا الله أعلم وأفصل، ومعنى }الـر{ أنا الله أرى، ومعنى }الـر{ أنا الله أعلم وأرى، وقال مجاهد: هذه الحروف أسماء للسور وقال آخرون، إنما ذكرت هذه الحروف في أول السور بيانا لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، وإليه ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وقال الزمخشري: ولم ترد كلها مجموعة في أول القرآن، وإنما كررت ليكون أبلغ في التحدي والتبكيت كما كررت قصص كثيرة وكرر التحدي الصريح في أماكن.

وقال الشيخ ابن سعدي: وأما الحروف المقطعة في أوائل السور فالأسلم فيها السكوت وعدم التعرض لمعناها من غير مستند شرعي مع الجزم بأن الله تعالى لم ينزلها عبثا بل لحكمة لا نعلمها، انتهى والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

وقوله تعالى: }ذَلِكَ الْكِتَابُ{ أي هذا الكتاب العظيم، وهو القرآن الذي هو الكتاب على الحقيقة المشتمل على العلم العظيم والحق المبين من العقائد الصحيحة والأحكام العادلة والأخبار الصادقة والمواعظ النافعة والهدى الكامل والبيان التام }لا رَيْبَ فِيهِ{ أي لا شك فيه أنه من عند الله، وأنه الحق والصدق كما قال تعالى: }الـم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ{ [السجدة: 1].

وقوله تعالى: }هُدًى لِلْمُتَّقِينَ{ أي رشد وبيان لأهل التقوى خاصة لأنهم المنتفعون به الممتثلون لأوامره المنتهون عن نواهيه وزواجره كما قال تعالى: }قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ{ [فصلت: 44] وقال تعالى: }وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا{ [الإسراء: 82] }ومن{ لبيان الجنس لا للتبعيض.

والهدى ما تحصل به الهداية من الضلالة والشبه، وما به الهداية إلى سلوك الطرق النافعة، فالقرآن الكريم هدى لجميع مصالح الدارين، فهو مرشد للعباد في المسائل الأصولية والفرعية، ومبين للحق من الباطل، والهدى من الضلال ومبين لهم كيف يسلكون الطرق النافعة لهم في دنياهم وأخراهم، والتقوى هي طاعة الله بامتثال أمره واجتناب نهيه.

ثم وصف الله المتقين بالعقائد والأعمال الباطنة والأعمال الظاهرة لتضمن التقوى لذلك، فقال: }الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ{ حقيقة الإيمان هو التصديق التام بما أخبرت به الرسل المتضمن لانقياد الجوارح، فهؤلاء المؤمنون يصدقون بجميع ما أخبر الله به ورسوله من الغيوب الماضية والمستقبلة وأحوال الآخرة فيؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، ويؤمنون بعذاب القبر ونعيمه ويؤمنون بالبعث بعد الموت، ويؤمنون بالجزاء والحساب والثواب والعقاب والجنة والنار ويؤمنون بالوعد والوعيد.

}وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ{ أي يأتون بها على الوجه الأكمل في وقتها ويأتون بشروطها وأركانها وواجباتها ومستحباتها كاملة ويقيمونها ظاهرا بإتمام قيامها وقعودها وركوعها وسجودها والإتيان بالقراءة والأذكار المشروعة فيها، ويقيمونها باطنا بإقامة روحها وهو حضور القلب فيها وتدبر ما يقول ويفعل فيها: }وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ{ يدخل فيه النفقات الواجبة كالزكاة ونفقة الزوجات والأقارب والمماليك ونحوهم والنفقات المستحبة في جميع طرق الخير.

وفي قوله: }وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ{ إشارة إلى أن هذه الأموال التي بين أيديكم ليست حاصلة بقوتكم وقدرتكم وإنما هي رزق من الله الذي أعطاكم وأنعم به عليكم ورزقكم وفضلكم على كثير من خلقه فاشكروه بإخراج بعض ما رزقكم وواسوا به إخوانكم المحتاجين، وكثيرا ما يجمع الله تعالى بين الصلاة والزكاة في القرآن لأن الصلاة تتضمن الإخلاص للمعبود والزكاة والنفقة تتضمن الإحسان إلى العباد فعنوان سعادة الإنسان الإحسان في عبادة الله والإخلاص له والسعي في نفع الخلق.

ثم قال تعالى: }وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ{ أي يصدقون بما جئت به من الله وما جاء به من قبلك من المرسلين لا يفرقون بينهم ولا يجحدون ما جاءوا به من ربهم: }وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ{ أي يعلمون علما يقينا لا شك فيه أن الدار الآخرة حق، وهي اسم لما يكون بعد الموت، وخصه بالذكر بعد العموم لأن الإيمان به أحد أركان الإيمان الستة لأنه أعظم باعث على الرغبة والرهبة والعمل قال البغوي: سميت الدنيا دنيا لدنوها من الآخرة وسميت الآخرة لتأخرها وكونها بعد الدنيا.

}أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ{ أي المتصفون بالإيمان وإقام الصلاة والإنفاق مما رزقهم الله على نور من ربهم وبرهان وبصيرة، }وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{ أي الناجون الفائزون فازوا بالجنة ونجوا من النار، والفلاح هو الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب، وحصر الفلاح فيهم لأنه لا سبيل إلى الفلاح إلا بسلوك سبيلهم.

ما يستفاد من الآيات:

1- الرد على من زعم أن القرآن سحر أو شعر أو كهانة أو حديث. مفترى أو أساطير الأولين.

2- أنه لا ينتفع بالقرآن إلا المتقون لاختصاصهم بهدايته واستقامتهم عليه.

3- أنه لا يتم الإيمان إلا بالإيمان بالغيب الذي يتميز به المؤمن من الكافر.

4- أنه لا يكفي في أداء الصلاة مجرد الإتيان بصورتها الظاهرة وأنه لا يترتب الثواب عليها إلا بإقامتها ظاهرا وباطنا بالخشوع وحضور القلب وتدبر ما يقول ويفعل فيها وبذلك يترتب عليها الثواب وتنهى عن الفحشاء والمنكر.

5- من صفات المؤمنين أنهم ينفقون مما رزقهم الله النفقات الواجبة والمستحبة.

6- من أصول الإيمان الإيمان بكل كتاب أنزله الله وبكل رسول أرسله الله.

7- من أصول الإيمان الإيمان بكل ما أخبر به الله ورسوله مما يكون بعد الموت من فتنة القبر وعذابه ونعيمه والحياة بعد الموت والحساب والميزان والصراط والجنة والنار.

8- أن من اتصف بالإيمان والعمل الصالح من صلاة وصدقة وغير ذلك فهو على هدى من ربه واستقامة على دينه.

9- بيان ثمرة تقوى الله والعمل بطاعته وهو الفوز بكل مطلوب والنجاة من كل محذور ومرهوب.

10- أن الدين والإيمان قول واعتقاد وعمل.

11- في قوله تعالى: }عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ{ رد على القدرية في قولهم أنهم يخلقون إيمانهم وهداهم، تعالى الله عن قولهم.

12- أن الإيمان والتقوى سبب التوفيق إلى الهداية إلى الحق في الدنيا وإلى الفوز في الآخرة بالنعيم والنجاة من عذاب الجحيم.


 أنواع البر التي اتصف بها المؤمنون الأبرار

قال الله تعالى: }لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ{ [البقرة: 177].

اشتملت هذه الآية الكريمة على جمل عظيمة وقواعد عميمة وعقيدة مستقيمة فقد اشتملت على أنواع البر كلها، فمن اتصف بهذه الآية فقد دخل في عرى الإسلام كلها، وأخذ بمجامع الخير كله، والبر كل عمل خير يقضي بصاحبه إلى الجنة، قال ابن كثير رحمه الله: إن الله تعالى لما أمر المؤمنين أولاً بالتوجه إلى بيت المقدس، ثم حولهم إلى الكعبة شق ذلك على نفوس طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين، فأنزل الله تعالى بيان حكمته في ذلك وهو أن المراد إنما هو طاعة الله عز وجل، وامتثال أوامره والتوجه حيثما وجه.

واتباع ما شرع، فهذا هو البر والتقوى والإيمان والكامل، وليس في لزوم التوجه إلى جهة من المشرق أو المغرب بر ولا طاعة إن لم يكن عن أمر الله وشرعه، وقال أبو العالية: كانت اليهود تقبل قبل المغرب، وكانت النصارى تقبل قبل المشرق، يعني في صلاتهم فقال الله تعالى: }لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ{ أي صدق بأنه إله واحد موصوف بكل صفة كمال منزه عن كل نقص }وَالْيَوْمِ الآخِرِ{ أي وصدق بكل ما أخبر الله به رسوله مما يكون بعد الموت من فتنة القبر وعذابه ونعيمه ويوم القيامة وأهواله }وَالْمَلائِكَةِ{ أي وصدق بوجود الملائكة الذين وصفهم الله لنا في كتابه ووصفهم رسوله ﷺ‬ وأنهم عباد مكرمون }يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ{}يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ{ وأن الله وكلهم بحفظ بني آدم، وكتابة أعمالهم، وقبض أرواحهم بعد الموت، ووكلهم بإعداد الجنة لأهلها، وإيقاد النار وتسعيرها لأهلها وغير ذلك من أعمالهم وأوصافهم وتدبيراتهم التي أمروا بها }وَالْكِتَابَ{ القرآن وجميع الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء فيؤمن بها وبما تضمنته من الأخبار الصادقة، والأحكام العادلة }وَالنَّبِيِّينَ{ أي وصدق بالنبيين عموما وخصوصا خاتمهم وأفضلهم محمد ﷺ‬ }وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ{ أي أعطى المال وهو محب له لحاجته إليه أو لنفاسته أو لقلته عنده، ثم ذكر المنفق عليهم وهو أولى الناس ببرك وإحسانك }ذَوِي الْقُرْبَى{ وهو قرابة الرجل من النسب والصهر والرحم الذين يتوجع لمصابهم ويفرح بسرورهم الذين يتناصرون.

فمن أحسن البر تعاهد الأقارب بالصلة والإحسان القولي والمالي على حسب قربهم وحاجتهم }وَالْيَتَامَى{ الذين فقدوا آباءهم وهم صغار دون البلوغ الذين لا كاسب لهم وليس لهم قوة يستغنون بها، فمن رحمة أرحم الراحمين أوصى بالإحسان إليهم والعطف عليهم وإكرامهم }وَالْمَسَاكِينِ{ وهم الذين لا يجدون ما يكفيهم في قوتهم وكسوتهم وسكناهم وهم الذين أسكنتهم الحاجة فلهم حق على الأغنياء بما يدفع مسكنتهم ويسد حاجتهم أو يخففها بما يقدرون عليه وبما تيسر }وَابْنِ السَّبِيلِ{ وهو الغريب المنقطع به في غير بلده.

فحث الله على إعطائه من الزكاة وغيرها ما يعينه على سفره، فعلى من أنعم الله عليه بوطنه وراحته وأعطاه من نعمه أن يرحم أخاه الغريب بقدر استطاعته بأن يخفف عليه مؤنة السفر ولو بتزويده أو إعطائه ما يوصله إلى بلده }وَالسَّائِلِينَ{ الذين تعرض لهم حاجة من الحوائج توجب السؤال كمن ابتلي بأرش جناية أو ضريبة عليه من ولاة الأمور أو يسأل الناس لتعمير المصالح العامة كالمساجد والمدارس ونحوها، فهذا له حق وإن كان غنيا }وَفِي الرِّقَابِ{ يدخل فيه عتق المماليك والإعانة عليه وبذل مال للمكاتب ليوفي سيده، وفداء الأسرى عند الكفار أو عند الظلمة.

}وَإِقَامَ الصَّلاةِ{ أي أنمها في وقتها على الوجه المرضي }وَآتَى الزَّكَاةَ{ أي زكى نفسه من الرذائل وطهرها من المآثم وأعطى زكاة ماله لمستحقيها طيبة بها نفسه، وكثيرا ما يقرن الله بين الصلاة والزكاة لكونهما أفضل العبادات وأكمل القربات القلبية والبدنية والمالية، وبهما يوزن الإيمان ويعرف ما مع صاحبه من الإيقان }وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا{ أي يوفون بما التزموه على أنفسهم لله ولعباده من الحقوق والواجبات والأيمان والنذور والعهود والمواثيق }وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ{ أي في حالة الفقر لأن الفقير يحتاج إلى الصبر من وجوه كثيرة لكونه يحصل له من الالآم القلبية والبدنية المستمرة ما لا يحصل لغيره.

فإن تنعم الأغنياء بما لا يقدر عليه تألم، وإن جاع أو جاعت عياله تألم، وإن عري تألم، وإن نظر إلى ما بين يديه وما يتوهمه من المستقبل تألم، وإن أصابه البرد الذي لا يقدر على دفعه تألم، فكل هذه ونحوها مصائب يؤمر بالصبر والاحتساب ورجاء الثواب من الله عليها.

والصابرين في الضراء، أي المرض على اختلاف أنواعه من حمى أو قروح ورياح ووجع عضو حتى الضرس والإصبع ونحو ذلك فإنه يحتاج إلى الصبر عليها لأن النفس تضعف والبدن يألم وفي ذلك غاية المشقة على النفوس خصوصا مع تطاول ذلك فإنه يؤمر بالصبر احتسابا لثواب الله }وَحِينَ الْبَأْسِ{ أي وقت القتال للأعداء المأمور بقتالهم لأن القتال يشق على النفس غاية المشقة ويجزع الإنسان من القتل والجرح أو الأسر فاحتيج إلى الصبر في ذلك.

}أُولَئِكَ{ المتصفون بما ذكر من العقائد الصحيحة والأعمال الصالحة التي هي آثار الإيمان وبرهانه ونوره والأخلاق التي هي جمال الإنسان وحقيقته الإنسانية فأولئك }الَّذِينَ صَدَقُوا{ في إيمانهم لأن أعمالهم صدقت إيمانهم }وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ{ لأنهم تركوا المحظور وفعلوا المأمور لأن هذه الأمور مشتملة على خصال الخير لأن الوفاء بالعهد يدخل فيه الدين كله ولأن العبادات المنصوص عليها في هذه الآية أكبر العبادات وأعظمها ومن قام بها كان بما سواها أقوم.

ما يستفاد من هذه الآية:

1- أن الدين والإيمان قول واعتقاد وعمل.

2- معرفة أصول الإيمان وهي الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين.

3- بيان أحق الناس بالبر والإحسان والصدقة وهم قرابة الرجل ويشمل الوالدين والإخوان والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات والأجداد والجدات واليتامى والفقراء والمساكين والمسافرين والسائلين وفي الرقاب.

4- وجوب إقام الصلاة في وقتها والإتيان بشروطها وأركانها وواجباتها وإتمامها على الوجه المشروع وهي أعظم العبادات البدنية.

6- وجوب إخراج الزكاة كاملة لمستحقيها وهي أعظم العبادات المالية.

7- وجوب الوفاء بالعهود والمواثيق وتحريم نقضها.

8- وجوب الصبر على ما يصيب الإنسان من المصائب والمشقات في حالة الفقر والمرض وقتال الأعداء المأمور بقتالهم.

9- فضل العمل بهذه الآية وأن من قام بما فيها من العقائد والأعمال والأخلاق فهو من الصادقين الأبرار ومن الأتقياء الأخيار.

10- أن في المال حق سوى الزكاة.

 من صفات المؤمنين الكمل

قال تعالى: }يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ{ [الأنفال: 1-4].

يخبر الله تعالى أن المؤمنين الكاملي الإيمان }الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ{ أي خافت ورهبت فأوجبت لهم خشية الله تعالى وفعل أوامره رغبة في الثواب، وترك محارمه خوفا من العقاب }وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا{ أي تصديقا لأنهم يلقون لها السمع ويحضرون قلوبهم لتدبرها، فعند ذلك يزيد إيمانهم ويظهر لهم معنى كانوا يجهلونه، ويتذكرون ما كانوا نسوه، أو يحدث في قلوبهم رغبة في الخير واشتياقا إلى كرامة ربهم أو وجلا من العقوبات، وازدجارا عن المعاصي، وكل هذا مما يزداد به الإيمان }وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ{ أي يعتمدون على الله وحده لا شريك له في جلب مصالحهم ودفع مضارهم الدينية والدنيوية ويثقون بأن الله تعالى سيفعل ذلك.

والتوكل شرط في الإيمان قال تعالى: }وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ{ [المائدة: 23] }الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ{ من فرائض ونوافل بأعمالها الظاهرة والباطنة كحضور القلب فيها الذي هو روح الصلاة ولبها وهذا تنبيه من الله على أعمالهم بعد ذكر اعتقادهم }وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ{.

النفقات الواجبة: كالزكوات، والكفارات، والنفقة على الزوجات والأقارب وما ملكت أيمانهم، والمستحبة، كالنفقة في جميع طرق الخير }أُولَئِكَ{ أي المتصفون بتلك الصفات الخمس وهي: وجل القلوب وخوفها عند ذكر الله، وزيادة الإيمان إذا تليت عليهم آيات الله، والتوكل على الله وحده، وإقامة الصلاة، والإنفاق مما رزقهم الله }هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا{ المتصفون بهذه الصفات هم المؤمنون حق الإيمان لأنهم جمعوا بين الإسلام والإيمان وبين الأعمال الباطنة والظاهرة وبين العلم والعمل وبين أداء حقوق الله وحقوق عباده، ثم ذكر ثواب المؤمنين حقا فقال: }هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ{ أي منازل ودرجات عالية في الجنات }وَمَغْفِرَةٌ{ لذنوبهم }وَرِزْقٌ كَرِيمٌ{ وهو ما أعد الله لهم في دار كرامته من النعيم المقيم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر نسأل الله الكريم أن لا يحرمنا ما عنده بشر ما عندنا وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ما يستفاد من هذه الآيات الكريمات:

1- من أوصاف المؤمنين الكمل خوف الله عند ذكره وزيادة الإيمان عند سماع آياته واعتمادهم على الله في كل شيء وإقام الصلاة والإنفاق مما رزقهم الله.

2- أن الإيمان يزيد بالطاعة كما ينقص بالمعصية.

3- أن الإيمان يشمل قول اللسان واعتقاد القلب وعمل الجوارح.

4- أنه ينبغي للعبد أن يتعاهد إيمانه وينميه بالكلم الطيب والعمل الصالح وتدبر كتاب الله والتأمل لمعانيه.

5- ثواب المؤمنين حق الإيمان مغفرة ذنوبهم ورفع درجاتهم وحسن نعيمهم في الجنة.

6- أن طاعة الله ورسوله شرط في الإيمان كما قال تعالى في الآية التي قبلها }وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ{ ثم ذكر أوصافهم.

اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين ولا عن بابك مطرودين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


 معاوضة المؤمنين المجاهدين في سبيل الله عن أنفسهم وأموالهم في الجنة

قال الله تعالى: }إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ{ [التوبة: 111، 112].

يخبر الله تعالى أنه عاوض عباده المؤمنين عن أنفسهم وأموالهم التي بذلوها في سبيله بالجنة، وهذا من فضله وكرمه وإحسانه فإنه قبل العوض عما يملكه بما تفضل به على عبيده المطيعين له بتوفيقه بالجنة التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وصفة العقد والمبايعة بأن يبذلوا لله نفوسهم وأموالهم في جهاد أعدائه لإعلاء كلمته وإظهار دينه يقاتلون في سبيل الله }فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ{ أي سواء قتلوا أو قتلوا أو اجتمع لهم هذا وهذا فقد وجبت لهم الجنة }وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ{ التي هي أشرف الكتب وأعلاها وأكملها، وهو تأكيد لهذا الوعد الصادق وأخبر بأنه قد كتبه على نفسه الكريمة، وأنزله على رسله في كتبه الكبار وهي: التوراة المنزلة على موسى، والإنجيل المنزل على عيسى، والقرآن المنزل على محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. }وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ{ فإنه لا يخلف الميعاد }فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ{ أي فليستبشر من قام بمقتضى هذا العقد، ووفى بهذا العهد بالفوز العظيم والنعيم المقيم }وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ{ الذي لا أعظم منه، لأنه يتضمن السعادة الأبدية والرضا من الله الذي هو أكبر من نعيم الجنات، وقوله تعالى: }التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ{ هذا نعت المؤمنين الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بهذه الصفات الجميلة والخلال الجليلة كأنه قيل: من هم المؤمنون الذين لهم البشارة من الله بدخول الجنة ونيل الكرامات فقال هم }التَّائِبُونَ{ أي الملازمون للتوبة في جميع الأوقات من جميع السيئات }الْعَابِدُونَ{ المتصفون بالعبودية لله، والاستمرار على طاعته من أداء الواجبات والمستحبات في كل وقت }الْحَامِدُونَ{ لله في السراء والضراء، والعسر واليسر، المعترفون بنعم الله الظاهرة والباطنة، المثنون على الله بذكرها، وذكره في آناء الليل والنهار }السَّائِحُونَ{ قيل: هم المجاهدون، وقيل: هم طلبة العلم، وقيل: الصائمون، واختاره الحافظ ابن كثير في تفسيره، وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله- في تفسيره: والصحيح أن المراد بالسياحة السفر في القربات: كالحج والعمرة والجهاد وطلب العلم وصلة الأقارب ونحو ذلك }الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ{ المكثرون من الصلاة المشتملة على الركوع والسجود }الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ{ ويدخل فيه جميع الواجبات والمستحبات }وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ{ وهو جميع ما نهى الله عنه ورسوله من محرمات ومكروهات }وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ{ العاملون بشرع الله وأوامره ونواهيه، الملازمون لها فعلا وتركا، فانتفعوا بأنفسهم ونفعوا خلق الله بإرشادهم إلى طاعته وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر مع العلم بما ينبغي فعله ويجب تركه وهو حفظ حدود الله في تحليله وتحريمه علما وعملا فقاموا بعبادة الله ونصح عباده }وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ{ بكرامة الله لهم لأن الإيمان يشمل جميع ما ذكر من العلم والعمل والدعوة والسعادة كل السعادة لمن اتصف به.

ما يستفاد من هذه الآيات الكريمة:

1- أن بذل الأنفس والأموال في سبيل الله هو ثمن الجنة مع الإيمان.

2- أن القاتل والمقتول في سبيل الله في الأجر سواء وكلاهما في الجنة.

3- أن عهد الله حق ووعده صدق وهو لا يخلف وعده ومن أصدق من الله قيلاً.

4- عظمة التوراة والإنجيل والقرآن المتضمنة لكلام الله وشرعه وأخباره الصادقة وأحكامه العادلة وعظمة الرسل المنزلة عليهم.

5- من أوصاف المؤمنين بالله التوبة الصادقة والعبادة المستمرة وكثرة الحمد لله والثناء عليه والصيام له والجهاد في سبيل الله وكثرة الصلاة والمداومة عليها والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحفظ حدود الله.

6- بشارة المؤمنين المتصفين بهذه الأوصاف الحميدة بالفوز العظيم والثواب الجسيم والسعادة الأبدية وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.


 الفرق بين أهل العلم والعمل وأهل الضلال والجهل

قال تعالى: }أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ * وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ{ [الرعد: 19-24].

يقول الله تعالى مفرقا بين أهل العلم والعمل وبين أهل الضلال والجهل: }أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ{ ففهم ذلك وعمل به، كمن هو أعمى لا يعلم الحق ولا يعمل به فبينهما من الفرق كما بين السماء والأرض فحقيق بالعبد أن يتذكر ويتفكر أي الفريقين أحسن حالا فيؤثر طريقه، ولكن ما كل أحد يتذكر ما ينفعه ويضره }إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ{ أصحاب العقول الرزينة }الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ{ الذي عاهدهم عليه من القيام بحقوقه كاملة موفرة فالوفاء بها توفيتها حقها من التكميل لها والنصح فيها }وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ{ أي العهد الذي عاهدوا الله عليه فدخل في ذلك جميع العهود والمواثيق والأيمان والنذور التي يعقدها العباد، فلا يكون العبد من أولي الألباب الذين لهم الثواب العظيم إلا بأدائها كاملة وعدم نقضها وبخسها }وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ{ أي يصلون كل ما أمر الله بوصله: من الإيمان به وبرسوله ومحبته ومحبة رسوله والانقياد لعبادته وحده لا شريك له والطاعة لرسوله ويصلون آباءهم وأمهاتهم ببرهم بالقول والفعل، وعدم عقوقهم يصلون الأقارب والأرحام بالإحسان إليهم قولا وفعلاً.

ويصلون ما بينهم وبين الأزواج والأصحاب والمماليك بأداء حقهم كاملا موفرا من الحقوق الدينية والدنيوية، والسبب الذي يجعل العبد واصلا ما أمر الله به أن يوصل خشية الله وخوف يوم الحساب لهذا قال: }وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ{ أي يخافونه فيمنعهم خوفهم منه ومن القدوم عليه يوم الحساب أن يتجرأوا على معاصي الله، أو يقصروا في شيء مما أمر الله به، خوفا من العقاب ورجاء للثواب.

والذين صبروا على المأمورات بامتثالها، وعن المنهيات بالانكفاف عنها والبعد منها، وعلى أقدار الله المؤلمة بعدم تسخطها ولكن بشرط أن يكون ذلك الصبر }ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ{ لا لغير ذلك من المقاصد والأغراض الفاسدة فإن هذا الصبر النافع الذي يحبس به العبد نفسه طلبا لمرضات ربه، ورجاء للقرب منه، والحظوة بثوابه، وهو الصبر الذي من خصائص أهل الإيمان، وأما الصبر المشترك الذي غايته الجلد ومنتهاه الفخر، فهذا يصدر من البر والفاجر، والمؤمن والكافر فليس هو الممدوح على الحقيقة }وَأَقَامُوا الصَّلاةَ{ بأركانها وشروطها ومكملاتها ظاهرا وباطنا }وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً{ دخل في ذلك النفقات الواجبة، كالزكوات والكفارات، والنفقات المستحبة، وأنهم ينفقون من حيث دعت الحاجة إلى النفقة سرا وعلانية.

}وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ{ أي من أساء إليهم بقول أو فعل، قابلوه بالإحسان إليه، فيعطون من حرمهم ويعفون عمن ظلمهم، ويصلون من قطعهم، ويحسنون إلى من أساء إليهم }أُولَئِكَ{ الذين تقدمت صفاتهم الجليلة ومناقبهم الجميلة }لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ{ وهي العاقبة الحميدة فسرها بقوله: }جَنَّاتُ عَدْنٍ{ أي بساتين إقامة مشتملة على ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، لا يزولون منها، ولا يبغون عنها حولا، لأنهم لا يرون فوقها غاية لما اشتملت عليه من النعيم والسرور الذي تنتهي إليه المطالب والغايات.

ومن تمام نعيمهم وقرة أعينهم أنهم }يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ{ من الذكور والإناث، وكذلك النظراء والأشباه والأصحاب والأحباب الصالحين، فإنهم من قبيل أزواجهم وذرياتهم، والملائكة يدخلون عليهم من كل باب يهنئونهم بالسلامة من العذاب وكرامة الله لهم بالثواب، ويقولون }سَلامٌ عَلَيْكُمْ{ أي حلت عليكم السلامة والتحية من الله وحصلت لكم وذلك متضمن لزوال كل مكروه ومستلزم لحصول كل محبوب }بِمَا صَبَرْتُمْ{ أي بسبب صبركم، وهو الذي أوصلكم إلى هذه المنازل العالية والجنات الغالية }فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ{ أي نعم عاقبة الصبر على طاعة الله في الدنيا وجنات النعيم في الآخرة فحقيق بمن نصح نفسه وكان لها عنده قدر وقيمة أن يجاهدها، لعلها تأخذ من أوصاف أولي الألباب بنصيب، ولعلها تحظى بهذه الدار التي هي أمنية النفوس، وسرور الأرواح الجامعة لجميع اللذات والأفراح، فلمثلها فليعمل العاملون، وفيها فليتنافس المتنافسون وبالله التوفيق.

ما يستفاد من هذه الآيات الكريمات:

1- عدم التسوية بين العالم والجاهل والمهتدي والضال.

2- تشبيه عادم العلم والعمل بالأعمى لأنه تائه في ظلمات الجهل والضلال.

3- أنه لا يتذكر ولا يتعظ إلا أصحاب العقول الحية الواعية.

4- من أوصاف المؤمنين الوفاء بالعهد وعدم الغدر لأن ذلك من صفات المنافقين.

5- من أوصاف المؤمنين امتثال أمر الله وصلة ما أمر بوصله فيبرون الوالدين ويصلون الأرحام ويحسنون إلى الأقارب والجيران والمماليك من الآدميين والبهائم.

6- من أوصاف المؤمنين خشية الله في السر والعلانية والخوف من سوء الحساب فلذلك يؤدون الواجبات ويتركون المحرمات.

7- من أوصاف المؤمنين الصبر على طاعة الله والصبر على أقدار الله والصبر عن محارم الله ابتغاء وجه ربهم.

8- من أوصاف المؤمنين إقامة الصلاة فرضا ونفلا بجميع مكملاتها.

9- من أوصافهم النفقة مما رزقهم الله في الواجبات والمستحبات والسر والعلانية.

10- من أوصافهم مقابلة الإساءة بالإحسان فيصلون من قطعهم ويعطون من حرمهم ويعفون عن من ظلمهم.

11- حسن عاقبة المؤمنين وجزاؤهم وعظم ثوابهم حيث فازوا بالجنة والخلود فيها وما اشتملت عليه من النعيم المقيم في جوار الرب الكريم ونجوا من النار.

12- أن من كمال نعيم أهل الجنة إلحاق الصالحين بهم من أقاربهم وأولادهم.

13- أن الملائكة يسلمون على المؤمنين إذا دخلوا الجنة ويهنئونهم بسلامة الله وكرامته لهم في الجنة بسبب صبرهم في الدنيا على طاعة الله، اللهم أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.


 من أوصاف المؤمنين التي نالوا بها جنات النعيم

قال تعالى: }قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ{ [المؤمنون].

روى الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي ﷺ‬ قال: «لقد أنزل علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ثم قرأ }قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ{ حتى ختم العشر».

وقوله تعالى: }قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ{ أي فازوا وسعدوا ونجحوا وحصلوا على الفلاح، وهم المؤمنون الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، المتصفون بهذه الأوصاف }الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ{ خائفون ساكنون، والخشوع في الصلاة هو حضور القلب بين يدي الله تعالى مستحضرا لقربه، فيسكن لذلك قلبه وتطمئن نفسه، وتسكن حركاته، ويقل التفاته متأدبا بين يدي ربه، مستحضرا جميع ما يقوله ويفعله في صلاته من أولها إلى آخرها، فتنتفي بذلك الوساوس والأفكار الرديئة.

وهذا هو روح الصلاة ولبها والمقصود منها، وهو الذي يكتب للعبد فليس له من صلاته إلا ما عقل منها، والصلاة بلا خشوع كبدن ميت بلا روح، وهي وإن كانت مجزئة فإن الثواب بحسب ما يعقل منها والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرغ قلبه واشتغل بها عما عداها وآثرها على غيره، وحينئذ تكون له راحة وقرة عين كما قال النبي ﷺ‬ «حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة»([2]) وكما قال ﷺ‬ «يا بلال أرحنا بالصلاة»([3]) }وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ{ اللغو الباطل وهو يشمل الشرك والمعاصي وما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال كما قال تعالى: }وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا{ [الفرقان: 72] وإذا ملك العبد لسانه في الخير، كان مالكا لأمره، كما قال النبي ﷺ‬ لمعاذ لما وصاه بوصايا: «ألا أخبرك بملاك ذلك كله» قال قلت: بلى يا رسول الله قال: «كف عليك هذا»([4]).

فمن صفات المؤمنين الحميدة كف ألسنتهم عن اللغو والمحرمات }وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ{ أي مؤدون لزكاة أموالهم على اختلاف أجناسها، مزكون لأنفسهم عن أدناس الأخلاق ومساوئ الأعمال التي تزكوا النفوس بتركها كما قال تعالى: }قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا{ [الشمس: 9] فلما أحسنوا في عبادة الخالق بالخشوع أحسنوا إلى خلقه بأداء الزكاة }وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ{ أي الذين قد حفظوا فروجهم من الحرام فلا يقعون فيما نهاهم الله عنه من زنا ودواعيه كالنظر واللمس والخلوة بالأجنبية واللواط ولا يقربون سوى أزواجهم التي أحلها الله لهم، أو ما ملكت أيمانهم من السراري المملوكات ومن تعاطى ما أحله الله فلا لوم عليه ولا حرج، ولهذا قال: }إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ{}فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ..{ الآية أي من طلب غير الأزواج والإماء، فأولئك الذين تعدوا ما أحل الله إلى ما حرمه }وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ{ أي مراعون لأماناتهم وعهودهم ضابطون لها، حريصون على القيام بها وتنفيذها فإذا ائتمنوا لم يخونوا، وإذا عاهدوا وفوا ولم يغدروا، وهذا عام في جميع الأمانات التي هي حق الله والتي هي حق للعباد فجميع ما أوجبه الله على عبده أمانة عليه حفظها بالقيام التام بها، وكذلك يدخل في ذلك أمانات الآدميين: كالأموال والأسرار ونحوهما.

فعلى العبد مراعاة الأمرين وأداء الأمانتين }إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا{ [النساء: 58]. وكذلك العهد يشمل العهد الذي بينهم وبين العباد، والتي يلتزمها العبد لله فعليه مراعاتها والوفاء بها }وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ{ يداومون عليها في أوقاتها وشروطها وأركانها، فمدحهم بالخشوع في الصلاة وبالمحافظة عليها، لأنه لا يتم أمرهم إلا بالأمرين فمن يداوم على الصلاة من غير خشوع أو على الخشوع من غير محافظة عليها فإنه مذموم ناقص.

ولما وصف الله المؤمنين بالقيام بهذه الصفات الحميدة والأفعال الرشيدة قال: }أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ{ والفردوس أعلى الجنة ووسطها وأفضلها لأنهم حلوا من صفات الخير أعلاها وذروتها، والمراد بذلك جميع الجنة، ليدخل بذلك عموم المؤمنين على حسب درجاتهم في مراتبهم كل بحسب حاله }هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ{ لا ينتقلون ولا يموتون ولا ينقطع عنهم نعيمها ولا يبغون عنها حولا، لاشتمالها على أكمل نعيم وأفضله وأتمه من غير مكدر ولا منغص، وثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ‬ قال: «إذا سألتم الله الجنة، فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة وفوقه عرش الرحمن».

ما يستفاد من هذه الآيات الكريمات:

1- فلاح المؤمنين وفوزهم بالمطلوب ونجاتهم من المرهوب.

2- الحث على الاتصاف بصفات المؤمنين والترغيب فيها.

3- الحث على الخشوع في الصلاة وحضور القلب فيها.

4- من صفات المؤمنين الإعراض عن اللغو من الكلام الباطل وما لا خير فيه ولا فائدة.

5- من صفاتهم الحميدة تزكية النفوس والأموال.

6- من صفاتهم حفظ الفروج عن الحرام والزنا ودواعيه كالنظر واللمس ونحوهما.

7- تحريم نكاح المتعة.

8- تحريم نكاح المحلل والمحلل له.

9- تحريم العادة السرية وهي الاستمناء باليد ونحوها.

10- يشترط في حل المملوكة أن تكون كلها في ملكه فلو كان له بعضها لم تحل لأنها ليست مما ملكت يمينه بل هي ملك له ولغيره فكما أنه لا يجوز أن يشترك في المرأة الحرة زوجان فلا يجوز أن يشترك في الأمة المملوكة سيدان.

11- الحث على مراعاة الأمانات والعهود بحفظها وتنفيذها وعدم الخيانة فيها سواء في ذلك حقوق الله وحقوق عباده التي ائتمنوا عليها وأخذ عليهم العهد فيها.

12- الحث على المحافظة على الصلوات في أوقاتها مع الجماعة في المسجد والمداومة عليها بشروطها وأركانها وواجباتها ومستحباتها.

13- التنبيه على فضل الصلاة وعظم شأنها حيث افتتح الله بها أعمال البر واختتمها بها فدل ذلك على أفضليتها كما قال ﷺ‬ «استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن» رواه مالك وأحمد وابن ماجه والدارمي وصححه الحاكم والمنذري ([5]).

من صفات المؤمنين

الجمع بين الإحسان في عبادة الله والخوف من عقابه:

قال تعالى: }إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ{ [سورة المؤمنون: 57-61]

لما ذكر الله تعالى الذين جمعوا بين الإساءة والأمن الذين يزعمون أن إعطاء الله إياهم في الدنيا دليل على كرامتهم وفضلهم ذكر الذين جمعوا بين الإحسان والخوف فقال: }إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ{ أي هم مع إحسانهم وإيمانهم وعملهم الصالح مشفقون من ربهم خائفون أن لا يقبل منهم وسوء ظن بأنفسهم أن لا يكونوا قد قاموا بحق الله تعالى وخوفا على إيمانهم من الزوال ومعرفة منهم بربهم وما يستحقه من الإجلال والإكرام وخوفهم وإشفاقهم يوجب لهم الكف عن الذنوب وعدم التقصير في الواجبات }وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ{ أي يصدقون بآيات الله الشرعية والكونية.

وإذا تليت عليهم آيات الله زادتهم إيمانا وتفكرا ويقينا }وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ{ أي لا يعبدون معه غيره، بل يوحدونه ويعلمون أنه لا إله إلا الله أحدا فردا صمدا، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، فلا يشركون شركا جليا كاتخاذ غير الله معبودا يدعوه أو يرجوه أو يخافوه أو يحبه كمحبة الله، ولا شركا خفيا كالرياء ونحوه، بل هم مخلصون لله في أقوالهم وأفعالهم وسائر أحوالهم.

}وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ{ أي يفعلون ما يفعلون وهم خائفون، ويعطون من أنفسهم مما أمروا به ما آتوا من كل ما يقدرون عليه من صلاة وزكاة وحج وصدقة وقراءة وذكر وغير ذلك ويخافون أن لا يقبل منهم: }أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ{ أي يخافون عند رجوعهم إلى الله أن لا تكون أعمالهم مقبولة وهم يسارعون في أعمال الخير، همهم فيما يقربهم إلى الله، وإرادتهم مصروفة فيما ينجي من عذابه، فكل خير سمعوا به بادروا إليه فهم يسارعون في كل خير وينافسون في الزلفى عند ربهم.

ولما كان السابق لغيره قد يسبق بجده وتشميره وقد لا يسبق لتقصيره أخبر أن هؤلاء من القسم السابقين فقال: }وَهُمْ لَهَا{ أي للخيرات }سَابِقُونَ{ قد بلغوا أعلاها، وقد سبقت لهم من الله سابقة السعادة أنهم سابقون.

وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت يا رسول الله: }وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ{ هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله عز وجل قال: «لا يا ابنة الصديق، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو يخاف الله عز وجل»، وفي رواية: «وهم يخافون أن لا يتقبل منهم }أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ{» رواه الإمام أحمد والترمذي وابن أبي حاتم ([6]).

ما يستفاد من هذه الآيات الكريمات:

اشتملت هذه الآيات على عدة أوصاف للمؤمنين:

1- خشية الله وخوفه في السر والعلانية.

2- الإيمان بآيات الله والعمل بها.

3- عدم الشرك بالله شيئا.

4- توحيد الله وإخلاص الدين له.

5- فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه.

6- الجمع بين الإحسان والخوف من عدم القبول والرجاء لرحمة الله الغفور الرحيم.

7- الإيمان بالبعث والجزاء على الأعمال.

8- المسارعة إلى الخيرات والمنافسة في الأعمال الصالحات.

9- سبق هؤلاء المؤمنين إلى مطلوبهم وفوزهم بمرغوبهم.


 صفات المؤمنين المتقين عباد الرحمن وجزاؤهم

قال تعالى: }وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا * وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابًا * وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا * أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا{ [الفرقان: 63-77].

هذه صفات المؤمنين المتقين عباد الرحمن الذين وصلوا إليها واتصفوا بها برحمته، فذكر من صفاتهم أكمل الصفات فوصفهم بأنهم }الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا{ أي ساكنين متواضعين لله وللخلق فهذا وصف لهم بالوقار والسكينة والتواضع لله ولعباده }وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ{ أي خطاب جهل وإساءة وقلة أدب }قَالُوا سَلامًا{ أي خاطبوهم خطابا يسلمون فيه من الإثم، ويسلمون من مقابلة الجاهل بجهله }وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا{ أي يكثرون من صلاة الليل مخلصين فيها لربهم متذللين له خوفا من عقابه وطمعا في ثوابه كما قال تعالى: }تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ{ [السجدة: 16، 17] }وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا{ أي من صفات المؤمنين الخوف من الله ومن عذابه وأنهم يدعون الله أن يصرف عنهم عذاب النار، وأن عذابها ملازما لأهلها كملازمة الغريم لغريمه.

فهم يسألون الله أن يدفعه عنهم بالعصمة من أسبابه ومغفرة ما وقع منهم من أسباب العذاب }إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا{ أي بئست النار مسكنا ومستقرا هذا على جهة التضرع إلى الله وشدة الحاجة إليه في صرف هذا العذاب وأنه ليس في طاقتهم احتماله }وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا{ أي إذا انفقوا النفقات الواجبة والمستحبة }لَمْ يُسْرِفُوا{ بأن يزيدوا على الحد فيدخلوا في قسم التبذير وإهمال الحقوق الواجبة }وَلَمْ يَقْتُرُوا{ يضيفوا على أنفسهم وأولادهم ومن تلزمهم نفقته }وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا{ كان إنفاقهم بين الإسراف والتقتير وسطا بقدر الحاجة فبذلوا في الواجبات من الزكوات والكفارات والنفقات الواجبة فيما ينبغي على الوجه الذي ينبغي من غير ضرر ولا إضرار }وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ{ بل يعبدونه ويوحدونه مخلصين له الدين حنفاء مقبلين عليه معرضين عما سواه في جميع شئونهم }وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ{ وهي نفس المسلم والكافر المعاهد }إِلا بِالْحَقِّ{ كقتل النفس بالنفس والزاني المحصن والكافر الذي يحل قتله }وَلا يَزْنُونَ{ لا يفعلون جريمة الزنا، بل يحفظون فروجهم }إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ{ }وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ{ الشرك أو قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق أو الزنا }يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا{ أي يخلد في العذاب ويلقى الذل والإهانة فيه.

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: فالوعيد بالخلود على فعلها كلها ثابت لا شك فيه، وكذلك لمن أشرك بالله، وكذلك الوعيد بالعذاب الشديد على كل واحد من هذه الثلاثة، لكونها إما شرك وإما من أكبر الكبائر، وأما خلود القاتل والزاني في العذاب فإنه لا يتناوله الخلود لأنه قد دلت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية أن جميع المؤمنين يخرجون من النار، ولا يخلد فيها مؤمن ولو فعل من المعاصي ما فعل ونص تعالى على هذه الثلاثة، لأنها أكبر الكبائر فالشرك فيه فساد الأديان والقتل فيه فساد الأبدان.

والزنا فيه فساد الأعراض والأنساب اهـ }إِلا مَنْ تَابَ{ عن هذه المعاصي وغيرها، بأن أقلع عنها في الحال، وندم على ما مضى من فعلها، وعزم عزما جازما أن لا يعود إليها أبدا في المستقبل }وَآمَنَ{ بالله إيمانا يقتضي ترك المعاصي وفعل الطاعات }وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا{ خالصا لله جاريا على سنة رسوله ﷺ‬ }فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ{ أي تتبدل أقوالهم وأفعالهم التي كانت مستعدة لعمل السيئات تتبدل حسنات فيتبدل شركهم إيمانًا ومعصيتهم طاعة وتتبدل نفس السيئات التي عملوها ثم أحدثوا لكل ذنب منها توبة وإنابة وطاعة، تبدل حسنات كما هو ظاهر الآية }وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا{ لمن تاب يغفر الذنوب العظيمة، رحيما بعباده المؤمنين حيث دعاهم إلى التوبة، ثم وفقهم لها ثم قبلها منهم.

}وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابًا{ فليعلم أن توبته في غاية الكمال، لأنها رجوع إلى الطريق الحق المستقيم الموصل إلى الله الذي هو عين سعادة العبد وفلاحه فليخلص فيها وليخلصها من شوائب الأغراض الفاسدة }وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ{ أي لا يحضرون الزور، وهو القول والفعل المحرم، فيجتنبون جميع المجالس المشتملة على الأقوال المحرمة والأفعال المحرمة، كالخوض في آيات الله، والجدال بالباطل والغيبة، والنميمة، والسب، والقذف، والاستهزاء، والغناء، وشرب الخمر، وفرش الحرير، والصور، ونحو ذلك، وإذا كانوا لا يشهدون الزور، فمن باب أولى وأحرى أن لا يقولوه ولا يفعلوه، وشهادة الزور داخلة في قول الزور }وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ{ وهو الكلام الذي لا خير فيه ولا فائدة دينية ولا دنيوية }مَرُّوا كِرَامًا{ نزهوا أنفسهم عن الخوض فيه ورأوا أنه سفه ونقص للإنسانية والمروءة وفي قوله: }وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ{ إشارة إلى أنهم لا يقصدون حضوره ولا سماعه ولكن عند المصادفة التي من غير قصد يكرمون أنفسهم عنه }وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ{ التي أمرهم باستماعها والاهتداء بها }لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا{ أي لم يقابلوها بالإعراض عنها.

وعدم سماعها وصرف النظر والقلوب عنها، كما يفعله من لم يؤمن بها ويصدق، وإنما حالهم أنهم يقابلونها بالقبول والافتقار إليها والانقياد والتسليم لها وتجد عندهم آذانا سامعة وقلوبا واعية، فيزداد بها إيمانهم ويتم بها إيقانهم وتحدث لهم نشاطا، ويفرحون بها سرورا واغتباطا.

}وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ{ أي الذين يسألون أن يخرج من أصلابهم وإخوانهم وأزواجهم من ذرياتهم من يطيعه ويعبده وحده لا شريك له، فتقر أعين والديهم بهم }وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا{ أي أوصلنا يا ربنا إلى هذه الدرجة العالية درجة الصديقين والكمل من عباد الله الصالحين وهي درجة الإمامة في الدين، وأن يكونوا قدوة للمتقين في أقوالهم وأفعالهم يقتدى بأفعالهم ويطمئن لأقوالهم، ويسير أهل الخير خلفهم فيهدون ويهتدون، ودرجة الإمامة في الدين إنما تنال بالصبر واليقين كما قال تعالى: }وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ{ [السجدة: 24] ولما كانت هممهم ومطالبهم عالية، كان الجزاء من جنس العمل، فجازاهم الله بالمنازل العالية فقال: }أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا{ أي المنازل الرفيعة الجامعة لكل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وذلك بسبب صبرهم كما قال تعالى: }وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ{ [الرعد: 23، 24] ولهذا قال هنا: }وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا{ من ربهم ومن ملائكته الكرام ومن بعضهم على بعض ويسلمون من جميع المكدرات }قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ{ أي لولا دعاؤكم إياه وعبادتكم له لم يبال بكم }فَقَدْ كَذَّبْتُمْ{ أيها الكافرون فلا يبالي الله بكم إذا لم تعبدوه }فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا{ والله سبحانه وتعالى أعلم.

ما يستفاد من الآيات الكريمات:

1- من صفات المؤمنين عباد الرحمن التواضع والسكينة والوقار.

2- حسن الأدب والحلم وسعة الخلق والعفو عن الجاهلين والإعراض عنهم ومقابلة إساءتهم بالإحسان.

3- قيام الليل والإخلاص فيه.

4- الخوف من النار والتضرع لربهم أن ينجيهم منها.

5- إخراج الواجب والمستحب في النفقات والاقتصاد في ذلك وغيره.

6- السلامة من كبائر الذنوب والاتصاف بالإخلاص لله في عبادته والعفة عن الدماء والأعراض والتوبة عند صدور شيء من ذلك.

7- أنهم لا يحضرون مجالس المنكر والفسوق القولية والفعلية ولا يفعلونها بأنفسهم.

8- أنهم يتنزهون عن اللغو والأفعال التي لا خير فيها وذلك يستلزم مرؤتهم وإنسانيتهم وكمالهم ورفعة أنفسهم عن كل خسيس قولي وفعلي.

9- أنهم يقابلون آيات الله بالقبول لها والتفهم لمعانيها والعمل بها والاجتهاد في تنفيذ أحكامها.

10- أنهم يدعون الله تعالى بأكمل الدعاء لهم ولمن يتعلق بهم وينتفع به المسلمون من صلاح أزواجهم وذرياتهم.

1- تكميل التوبة على أكمل الوجوه وأجلها.

12- الدعاء ببلوغ أعلى الدرجات الممكنة وهي درجة الإمامة في الدين.

13- عدم مبالاة الله بعباده إذا لم يعبدوه.


 أعمال المؤمنين والمؤمنات وأخلاقهم وثوابهم

قال تعالى: }إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا{ سورة الأحزاب.

عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: يا نبي الله، ما لي أسمع الرجال يذكرون في القرآن ولا يذكر النساء فأنزل الله: }إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ{ الآية رواه النسائي.

فقوله تعالى: }إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ{ أي المستسلمين لأمر الله المطيعين له القائمين بأركان الإسلام الظاهرة، الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويصومون رمضان ويحجون البيت الحرام، ويسلم المسلمون من أذيتهم بالقول والعمل }وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ{ وهذا في الأمور الباطنة من عقائد القلب وأعماله فيصدقون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر من البعث بعد الموت والجزاء والحساب والثواب والعقاب والميزان والصراط والجنة والنار ويصدقون بالقدر خيره وشره }وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ{ المطيعين لله ولرسوله.

والقنوت هو الطاعة في سكون فالإسلام بعده مرتبة يرتقى إليها وهي الإيمان، ثم القنوت ناشئ عنهما }وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ{ الصادقين في أقوالهم وأفعالهم، فإن الصدق خصلة محمودة وهو علامة على الإيمان، كما أن الكذب علامة النفاق ومن صدق نجا، وفي الحديث الصحيح «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا»([7]).

}وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ{ أي الصابرين على الطاعات بعدم تركها، والصابرين عن المعاصي والمحرمات بعدم فعلها والصابرين على الأقدار والمصائب بعدم تسخطها }وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ{ الخشوع (الكسون) والطمأنينة والتؤدة والوقار والتواضع، فيخشعون لله في جميع أحوالهم خصوصا في عباداتهم ولا سيما في الصلوات.

والحامل على الخشوع الخوف من الله تعالى ومراقبته كما في الحديث «اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» ([8]) }وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ{ أي فرضا ونفلا والصدقة هي الإحسان إلى الناس المحاويج الضعفاء الذين لا كسب لهم ولا كاسب يعطون من فضول الأموال طاعة لله وإحسانا إلى خلقه.

وقد ثبت في الصحيح: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فذكر منهم رجلا تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه»([9] وفي الحديث الآخر: «والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار»([10])، والآيات والأحاديث في فضل الصدقة والحث عليها كثيرة جدا.

}وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ{ الفرض والنفل، وفي الحديث الذي رواه ابن ماجه: «الصوم زكاة البدن» أي يزكيه ويطهره وينقيه من الأخلاق الرديئة طبعا وشرعا، ولما كان الصوم من أكبر العون على كسر الشهوة كما قال ﷺ‬ «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» ([11]) ناسب أن يذكر بعده حفظ الفروج فقال: }وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ{ أي عن الزنا ومقدماته وعن جميع المحارم والمآثم إلا عن المباح كما قال تعالى: }وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ{ ([12]).

وقوله تعالى: }وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ{ أي في أكثر الأوقات خصوصا أوقات الأوراد المقيدة بالصلوات والصباح والمساء وعند النوم والانتباه ودخول المنزل والخروج منه، ودخول المسجد والخروج منه، وعند الأكل والشرب والفراغ منهما وغير ذلك }أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا{ هذا خبر عن هؤلاء المذكورين كلهم بأن الله قد هيأ لهم مغفرة لذنوبهم وثوابا عظيما وهي الجنة.

لأن الحسنات يذهبن السيئات ولاشتمال هذه الأعمال على أعمال القلوب وأقوال اللسان وأعمال الجوارح من واجب ومستحب، فمن قام بهذه الصفات المذكورة في هذه الآية، فقد قام بالدين كله ظاهره وباطنه وقوله واعتقاده وعمله وقد قام بالإسلام والإيمان والإحسان فجازاهم الله أوفر الجزاء، نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم بمنه وكرمه.

ما يستفاد من هذه الآيات الكريمات:

1- أن الإيمان غير الإسلام وأخص منه فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا ووجوب الإسلام والإيمان وفضلهما.

2- أن دين الإسلام قول واعتقاد وعمل.

3- الحث على طاعة الله ورسوله والمداومة عليها.

4- الحث على الصدق في الأقوال والأفعال والأخبار.

5- فضل الصبر على طاعة الله والصبر عن معاصي الله والصبر على أقدار الله المؤلمة.

6- الترغيب في الخشوع لله في عبادته وفضله والحث عليه.

7- فضل الصدقة والإحسان إلى الفقراء والمساكين.

8- وجوب حفظ الفروج عن المحرمات والفواحش ودواعيهما.

9- فضل الصوم الواجب والمستحب والحث عليه.

10- فضل الذكر لله كثيرا في جميع الأوقات والأحوال والمناسبات في الليل والنهار والصباح والمساء.

11- مغفرة الله للمؤمنين والمؤمنات المتصفين بما ذكر الله وأجرهم العظيم وثوابهم الجسيم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.


 التجارة الرابحة للمؤمنين

قال الله تعالى: }إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ * وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ * ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ{ [فاطر: 29-32].

يخبر الله تعالى عن عباده المؤمنين الذين يتلون كتابه ويؤمنون به، ويعملون بما فيه من الأوامر فيمتثلونها والنواهي فيتركونها والأخبار فيصدقونها ولا يقدمون عليه ما خالفه من الأقوال، فيمتثلون أوامره ونواهيه، ويتلون ألفاظه بدراسته ومعانيه، ويعملون بما فيه من إقام الصلاة التي هي عماد الدين ونور المسلمين وميزان الإيمان وعلامة صدق الإسلام، والنفقة مما رزقهم الله تعالى على الأقارب والمساكين وغيرهم من الزكاة والكفارات والصدقات في جميع الأوقات ليلاً ونهارًا سرًا وجهارا }يَرْجُونَ{ بذلك }تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ{ أي لن تكسد أو تفسد بل تجارة لا بد من حصولها وهي أجل التجارات وأعلاها وأفضلها ألا وهي رضا ربهم والفوز بجزيل ثوابه والنجاة من سخطه وعقابه، ثم ذكر أنهم حصل لهم ما رجوه فقال: }إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ{ أي يوفيهم ثواب ما عملوه ويضاعفه بزيادات عن أجورهم لم تخطر ببالهم }لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ{ غفر لهم السيئات.

وقبل منهم القليل من الحسنات، ثم أخبر تعالى أن الكتاب الذي أوحاه إلى رسوله وهو القرآن }هُوَ الْحَقُّ{ لكثرة ما اشتمل عليه من الحق والصدق والعدل، فإذا كان هو الحق لزم أن يكون كل ما دل عليه مطابق للواقع }مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ{ لما قبله من الكتب والرسل لأنها أخبرت به وهو صدقها }إِنَّ اللهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ{ أي خبير وعليم بعباده بصير بمن يستحق التفضيل على من سواه فيعطي كل أمة وكل شخص ما هو اللائق بحاله ولهذا فضل الله الأنبياء والرسل على سائر البشر، وفضل النبيين بعضهم على بعض، ورفع بعضهم درجات وجعل منزلة محمد ﷺ‬ فوق منزلة جميعهم، وجعله خاتم الرسل، وأرسله إلى الناس كافة.

فجاء بهذا الشرع الشريف والدين القويم الذي تكفل بمصالح الخلق إلى يوم القيامة، وجعل أمة محمد ﷺ‬ خير الأمم وأكرمها على الله ولهذا اصطفاهم الله تعالى واصطفى لهم دين الإسلام وأورثهم هذا الكتاب المهيمن على سائر الكتب ولهذا قال: }ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا{ أي جعلنا القائمين بهذا القرآن علما وعملا واعتقادا ودعوة الذين اخترنا من عبادنا، وهم هذه الأمة ثم قسمهم إلى ثلاثة أنواع فقال: }فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ{ وهو المفرط في بعض الواجبات المرتكب لبعض المحرمات والمعاصي التي هي دون الكفر }وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ{ وهو المؤدي للواجبات وتارك للمحرمات }وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ{ أي سارع فيها، واجتهد فسبق غيره، وهو المؤدي للواجبات والمستحبات، التارك للمحرمات والمكروهات، فيؤدي الفرائض ويكثر من النوافل.

فكل هذه الأقسام الثلاثة اصطفاه الله لوراثة هذا الكتاب وإن تفاوتت مراتبهم وتنوعت أعمالهم فلكل قسط من وراثة الكتاب حتى الظالم لنفسه فإن ما معه من أصل الإيمان من وراثة الكتاب، لأن المراد من وراثة الكتاب وراثة علمه وعمله ودراسة ألفاظه واستخراج معانيه وذلك بتوفيق الله ومعونته، وأغبط الناس بهذه النعمة وأولاهم بهذه الرحمة هم العلماء بالله وبأمره ودينه والعاملون بعلمهم كما قال تعالى: }إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ{ [فاطر: 28] وقال تعالى: }يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ{ [المجادلة: 11] }ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ{ أي وراثة الكتاب لمن اصطفى الله تعالى من عباده هو الفضل الكبير والنعمة العظمى، فأجل النعم على الإطلاق وأكبر الفضل وراثة هذا الكتاب وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

ما يستفاد من هذه الآيات الكريمات:

1- فضل من قرأ القرآن وعمل بما فيه.

2- الحث على إقامة الصلاة والمحافظة عليها والعناية بها.

3- الترغيب في الإنفاق من رزق الله في الواجبات والمستحبات بالليل والنهار سرا وعلانية.

4- الحث على الإخلاص في العمل لله ابتغاء مرضاته ورجاء ثوابه.

5- أن من رجى شيئًا وسعى في تحصيله بنية صالحة نال مطلوبه.

6- أن تجارة الآخرة رابحة حيث يفوز طالبها بالنعيم المقيم وينجو من العذاب الأليم.


 الأشياء التي ينال بها ما عند الله

قال الله تعالى: }فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ{ [الشورى].

يقول الله تعالى محقرا لشأن الدنيا وزينتها وما فيها من الزهرة والنعيم الفاني ومرغبا في الآخرة بذكر الأعمال الموصلة إليها }فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا{ أي مهما حصلتم في هذه الحياة من ملك ورئاسة وأموال وبنين وصحة وعافية بدنية، فلا تغتروا به فإنما هو متاع الحياة الدنيا، وهي دار دنيئة فانية زائلة، ولذاتها منغصة منقطعة }وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى{ أي ما عند الله من الثواب الجزيل والأجر العظيم والنعيم المقيم خير من لذات الدنيا وهو باق سرمدي فلا تقدموا الفاني على الباقي، فيشغلكم هذا عن ذاك.

ثم ذكر لمن يكون هذا الثواب الدائم فقال: }لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ{ أي جمعوا بين الإيمان الصحيح المستلزم لأعمال الجوارح وأعمال الإيمان الظاهرة والباطنة وبين التوكل وهو اعتماد القلب على الله في جلب المنافع ودفع المضار ليعينهم على فعل الواجبات وترك المحرمات }وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ{ وهي موجبات الحدود، وقيل: كبائر الإثم كل ذنب تعظم عقوبته، كالقتل والزنا والسرقة وشبه ذلك، والفواحش ما عظم قبحه من الأقوال والأفعال.

وقيل: هما بمعنى واحد، فذكر الفواحش بعد كبائر الإثم من عطف البعض على الكل والله أعلم، }وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ{ أي إذا أغضبهم أحد بقوله أو فعله كظموا ذلك الغضب، فلم ينفذوه وقابلوا المسيء بالإحسان والعفو والصفح، قد تخلقوا بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم فصار الحلم لهم سجية، وحسن الخلق لهم عادة وطبيعة }وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ{ أي أجابوه إلى ما دعاهم إليه من طاعته وطاعة رسوله فامتثلوا الأوامر واجتنبوا النواهي، ومن الاستجابة لله إقامة الصلاة فلهذا عطفها على ذلك من باب عطف الخاص على العام الدال على شرفه وفضله فقال: }وَأَقَامُوا الصَّلاةَ{ أي باطنها وظاهرها وفرضها ونفلها بجميع واجباتها وحقوقها وهي أعظم العبادات لله تعالى بعد توحيده }وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ{ يعني يتشاورون فيما يبدو لهم من الأمور المشتركة، ولا ينفردون بأمر لم يجتمعوا عليه.

وذلك كالرأي في الحرب والجهاد وتولية الموظفين الوظائف الهامة كالإمارة والقضاء ونحو ذلك من المصالح العامة الدينية والدنيوية فيتساعدون بآرائهم كما قال تعالى: }وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ{ [آل عمران: 159] ولهذا كان ﷺ‬ يشاور أصحابه في الحروب ونحوها، ليطيب بذلك قلوبهم، وهكذا لما حضرت عمر بن الخطاب الوفاة جعل الأمر بعده شورى في ستة نفر حين طعن، وهم عثمان وعلي وطلحة وعبيد الله والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنهم- فاجتمع رأي الصحابة على تقديم عثمان رضي الله عنهم أجمعين.

وقد قيل: ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم }وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ{ يتصدقون في الواجبات والمستحبات بالإحسان إلى خلق الله }وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ{ أي إذا وصل إليهم الظلم من أعدائهم والعدوان ينتقمون ممن ظلمهم من غير تعد ولم يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم الفساق وفيهم قوة الانتصار ممن ظلمهم واعتدى عليهم ليسوا بالعاجزين ولا الأذلين بل يقدرون على الانتقام ممن بغى عليهم وإن كانوا مع ذلك في الغالب إذا قدروا عفوا فحصل لهم العز بذلك العفو كما قال ﷺ‬ «ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا» رواه مسلم.

ما يستفاد من هذه الآيات الكريمات:

1- التزهيد في الدنيا الفانية والترغيب في الآخرة الباقية.

2- عدم الاغترار بالحياة الدنيا وزهرتها.

3- أن ما عند الله من الثواب في الآخرة خير من الدنيا وأبقى للمؤمنين.

4- الجمع بين الإيمان بالله والتوكل عليه وتفويض الأمور إليه.

5- وجوب اجتناب كبائر الذنوب وفواحشها كالسبع الموبقات وهي الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، ومثل الزنا واللواط والسرقة وشرب الخمر ونحو ذلك من كبائر الذنوب التي ورد فيها حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة والتي وعد الله مجتنبها بالمغفرة في قوله: }إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا{ [النساء: 31] ومن الكبائر: ترك الصلاة، ومنع الزكاة، وإفطار يوم من رمضان بدون عذر، وترك الحج مع القدرة عليه، ومن ذلك عقوق الوالدين، وقطيعة الأرحام، نعوذ بالله من ذلك كله ونسأله العفو والعافية في الدنيا والآخرة.

6- استحباب كظم الغيظ والعفو عند الغضب ومقابلة المسيء بالإحسان.

7- وجوب الاستجابة لله بطاعته وامتثال أوامره واجتناب نواهيه.

8- الحث على إقام الصلاة والمحافظة عليها والعناية بها.

9- الحث على المشاورة في كل الأمور التي لم يتبين الحق فيها وأن ذلك من صفات المؤمنين.

10- الأمر بالإنفاق من رزق الله في الواجبات والمستحبات.

11- وجواز الانتصار من الباغي الظالم بقدر ظلمه وإساءته وتحريم ظلمه والترغيب في العفو عنه بترك معاقبته الله تعالى قال تعالى: }وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ{ سورة الشورى.

12- الحث على الاتصاف بهذه الأوصاف التي وصف الله بها المؤمنين في القول والعمل والاعتقاد لأن الجزاء من جنس العمل ومن تشبه بقوم فهو منهم.


 من أوصاف المتقين وثوابهم

قال الله تعالى: }إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ{ [الذاريات: 15-23].

يقول الله تعالى مخبرا عن ثواب المتقين لله بطاعته بفعل ما أمر واجتناب ما نهى، وذكر أعمالهم التي وصلوا بسببها إلى ذلك فقال تعالى: }إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ{ أي جازاهم الله من فضله بسبب تقواهم بدخول جنات النعيم المشتملة على ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين والمشتملة على العيون الجارية التي يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا }آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ{ أي في الجنة من النعيم والسرور والغبطة، ويحتمل أن هذا وصف المتقين في الدنيا وأنهم آخذين ما آتاهم الله من الأوامر والنواهي يمتثلونها ويعملون بما فرض الله عليهم فيها }إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ{ أي كانوا في الدار الدنيا محسنين في عبادة الله مخلصين له فيها محسنين إلى عباد الله بالقول والفعل والمال والجاه والعلم والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من طرق البر وأنواع الإحسان.

ومن أفضل أنواع الإحسان في عبادة الخالق صلاة الليل الدالة على الإخلاص ولهذا قال: }كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ{ أي كان قليلا من الليل هجوعهم أي نومهم بالليل قليلا، وأما أكثر الليل فإنهم قانتون لربهم ما بين صلاة وقراءة وذكر الله واستغفار ودعاء وتضرع }وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ{ أي يطلبونه المغفرة لذنوبهم، والأسحار آخر الليل، وللاستغفار بالأسحار خصوصية وفضيلة ليست لغيره كما قال تعالى في وصف أهل الإيمان والطاعة }وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ{ }وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ{ [آل عمران: 17] }وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ{ أي جزء مقسوم من واجب ومستحب }لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ{ أي للذي يتعرض للسؤال وله حق كما في الحديث «للسائل حق وإن جاء على فرس» رواه أبو داود وصححه السيوطي في الجامع الصغير.

وأما المحروم فهو الفقير المحتاج المتعفف الذي لا يجد ما يغنيه }وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ{ أي فيها من العبر و الآيات الدالة على عظمة خالقها وقدرته الباهرة مما خلق فيها من جبال وأنهار وأشجار ونبات وحيوانات وبحار وغير ذلك }* وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ{ أي أفلا تتفكرون في أنفسكم وما أودع الله فيها من العبر والحكمة والرحمة واختلاف ألسنتكم وألوانكم ففي خلقكم آيات وعجائب كالسمع والبصر والنطق والعقل }وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ{ أي مادة رزقكم من الأمطار وأنواع الأقدار للرزق الديني والدنيوي، وما توعدون من الجزاء في الدنيا والآخرة فإنه ينزل من عند الله كسائر الأقدار والجنة التي وعد بها المؤمنون فإنها فوق السموات وسقفها عرش الرحمن ثم أقسم سبحانه بنفسه الكريمة أن ما وعدهم به من أمر القيامة والبعث والجزاء كائن لا محالة، وحق لا شك فيه، فلا تشكوا فيه كما لا تشكون في نطقكم حين تنطقون شبه تحقق ما أخبر به بتحقق نطق الآدمي.

ما يستفاد من الآيات الكريمات:

1- الحث على تقوى الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه.

2- فضل تقوى الله وحسن عاقبتها.

3- الحث على الإحسان في عبادة الله والإحسان إلى خلقه بما أمكن.

4- الترغيب في قيام الليل وفضله.

5- الحث على الاستغفار وخصوصا وقت الأسحار آخر الليل.

6- الترغيب في الصدقة على المحتاجين من السائلين والمتعففين المحرومين.

7- الحث على التفكير في آيات الله ومخلوقاته الدالة على عظيم قدرته.

8- دعوة الإنسان إلى التفكير في نفسه وما فيها من عجائب الخلق وبديع الصنع.

9- أن مصدر الرزق والجزاء ينزل من السماء بالمطر والقدر والقضاء وإجابة الدعاء.

10- أن وعد الله بالبعث والجزاء حق لا شك فيه ولا امتراء.

11- أن الجزاء يكون من جنس العمل.


 من أوصاف المؤمنين التي نالوا بها الكرامة

قال تعالى: }إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ{ [المعارج: 19-35].

يقول الله تعالى مخبرا عن الإنسان وما هو مجبول عليه من الأخلاق الدنيئة أنه هلوع، وفسر الهلوع بقوله: }إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا{ أي إذا أصابته مصيبة فزع وجزع وانخلع قلبه من شدة الرعب وأيس ألا يحصل له بعد ذلك خير، فيجزع إن أصابه فقر أو مرض أو ذهاب محبوب له من مال أو أهل أو ولد، ولا يستعمل في ذلك الصبر والرضا بما قضى الله }وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا{ أي إذا حصلت له نعمة من الله بخل بها على غيره، ومنع حق الله فيها فلا ينفق مما آتاه الله، ولا يشكر الله على نعمه وبره، فيجزع في الضراء ويمنع في السراء }إِلا الْمُصَلِّينَ{ أي الإنسان من حيث هو متصف بصفات الذم إلا من عصمه الله ووفقه وهداه إلى الخير ويسر له أسبابه وهم المصلون الموصوفون بتلك الأوصاف فإنهم إذا مسهم الخير شكروا الله وأنفقوا مما خولهم، وإذا مسهم الشر والضر صبروا عليهم فاثابهم، وقوله تعالى في وصفهم: }الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ{ أي يداومون عليها في أوقاتها بشروطها وبكمالاتها والخشوع فيها، وليسوا كمن لا يفعلها أو يفعلها في وقت دون وقت أو يفعلها على وجه ناقص }وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ{ أي نصيب مقسوم من زكاة وصدقة حق مقرر لذوي الحاجات }لِلسَّائِلِ{ الفقير الذي يتعرض للسؤال }وَالْمَحْرُومِ{ المسكين الذي لا يجد ما يغنيه ولا يسأل الناس فيعطوه ولا يفطنوا له فيتصدقوا عليه.

}وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ{ أي يؤمنون بما أخبر الله به وأخبرت به رسله من البعث والحساب والجزاء، ويتيقنون ذلك فيستعدون للآخرة، فيسعون لها سعيها، ويعملون عمل من يرجو الثواب ويخاف العقاب ولهذا قال تعالى: }وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ{ أي خائفون وجلون فيتركون لذلك كل ما يقربهم من عذاب الله }إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ{ أي لا يأمنه أحد ممن عقل عن الله أمره إلا بأمان من الله تبارك وتعالى: }وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ{ أي يكفونها عن الحرام ويمنعونها أن توضع في غير ما أذن الله فيه فلا يطئون بها وطأ محرما من زنا أو لواط أو وطء في دبر أو حيض ونحو ذلك ويحفظونها أيضا من النظر إليها ومسها ممن لا يجوز له ذلك، ويتركون أيضا وسائل المحرمات الداعية لفعل الفاحشة كالسماع المحرم والنظر المحرم }إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ{ من الإماء المملوكات }فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ{ لا لوم عليهم في وطئهن في المحل المأذون فيه }فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ{ أي غير الزوجة وملك اليمين }فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ{ أي المتجاوزون ما أحل الله إلى ما حرم }وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ{ أي إذا ائتمنوا لم يخونوا وإذا عاهدوا لم يغدروا وهذا شامل لجميع الأمانات التي بين العبد وبين ربه والتي بينه وبين الخلق في الأموال والأسرار وكذلك العهد شامل للعهد الذي عاهدوا الله عليه، والعهد الذي عاهدوا الخلق عليه فإن العهد يسأل عنه العبد هل قام به ووفاه أم رفضه وخانه ولم يقم به وهذه صفات المنافقين التي هي ضد صفات المؤمنين «إذا حدث كذب، وإذا ائتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر» ([13]) عياذًا بالله من ذلك.

وقوله تعالى: }وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ{ أي لا يشهدون إلا بما يعلمون من غير زيادة ولا نقص ولا كتمان }وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ{ [البقرة: 283] ولا يحابون بها قريبا ولا صديقا ونحوه ويكون القصد بإقامتها وجه الله تعالى: }وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للهِ{ [الطلاق: 2] }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ{ [النساء: 135].

}وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ{ بالمداومة عليها على أكمل الوجوه على مواقيتها وأركانها وواجباتها ومستحباتها فافتتح الكلام بذكر الصلاة، واختتمه بذكرها، فدل على الاعتناء بها والتنويه بشرفها كما تقدم في أول السور }قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ{ سواء ولهذا قال هناك: }أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ{ وقال هنا: }أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ{ أي الموصوفون بتلك الصفات قد أوصل الله لهم من الكرامة والنعيم المقيم وأنواع الملاذ والمسار ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وحاصل هذا أن الله وصف أهل السعادة والخير بهذه الأوصاف الكاملة والأخلاق الفاضلة من العبادات البدنية كالصلاة والمداومة عليها، والأعمال القلبية كخشية الله الداعية لكل خير، والعبادات المالية والعقائد النافعة والأخلاق الفاضلة ومعاملة الله ومعاملة خلقه أحسن معاملة من إنصافهم وحفظ حقوقهم وأماناتهم والعفة التامة بحفظ الفروج عما يكرهه الله تعالى.

ما يستفاد من هذه الآيات الكريمات:

1- ذم الإنسان من حيث كان متصفا بالهلع والجبن والجزع عند المصائب ومنع الحقوق عند النعم إلا من عصمه الله بالإيمان والتوفيق للعمل الصالح.

2- عظم شأن الصلاة والتنويه بشرفها وفضلها.

3- الحث على المحافظة والمداومة عليها بجميع واجباتها ومكملاتها.

4- الحث على إخراج الزكاة والحقوق الواجبة والمستحبة لذوي الحاجات شكرًا لنعمة المال.

5- أن للسائل حق وأحق منه الفقير المتعفف الذي لا يجد ما يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس.

6- فضل الصدقة والترغيب فيها لدفع حوائج المحتاجين والسائلين.

7- من أوصاف المؤمنين التصديق بالبعث والحساب والجزاء والاستعداد لذلك.

8- من أوصافهم حفظ الفروج عن الحرام كالزنا واللواط والوطء في الدبر والحيض والبعد عن وسائل ذلك كالنظر المحرم والسماع المحرم والكلام المحرم.

9- من أوصافهم الخوف من عذاب الله والبعد عن أسبابه وعدم الأمن من العقاب.

10- تحريم نكاح المتعة والتحليل لكونها غير زوجة مقصودة ولا ملك يمين.

11- من أوصاف المؤمنين حفظ الأمانات والعهود ومراعاتها وعدم الخيانة فيها.

12- من أوصافهم القيام بالشهادة تحملا وأداء وتأديتها كما علموها من غير زيادة ولا نقص ولا كتمان.

13- من أوصافهم المحافظة على الصلوات الخمس في أوقاتها مع الجماعة في المسجد وكذلك يحافظون على النوافل المكملة للفرائض.

14- وجوب الطمأنينة في الصلاة لأن الذي لا يطمئن في ركوعه وسجوده ليس بدائم على صلاته لأنه لم يسكن فيها ولم يدم بل نقرها فلم يفلح فيها.

15- حسن عاقبة المؤمنين وكمال جزائهم وإكرامهم بجنات النعيم.

16- أن الجزاء من جنس العمل.


 أوصاف المؤمنين الجامعة

لما كان الإيمان أصل كل خير وفلاح في الدنيا والآخرة ويفقده يفقد كل خير ديني ودنيوي وأخروي، أكثر الله من ذكره في القرآن آمرا به ونهيا عن ضده وترغيبا فيه وبيانا لأوصاف أهله وما لهم من الجزاء الدنيوي والأخروي.

وصف الله المؤمنين في كتابه بتصديقهم وإذعانهم لجميع عقائد الدين وبحب ما يحبه الله ويرضاه بالعمل به والتباعد والحذر من كل ما يبغضه الله، وبإدامة الإنابة والرجوع إلى الله في كل حال، وكان لإيمانهم أطيب الثمرات في الأعمال والأخلاق، فوصف المؤمنين بالإيمان بالأصول الجامعة وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره وأنهم يؤمنون بكل ما جاء به الرسل كلهم ويؤمنون بالغيب ووصفهم بالسمع والطاعة والانقياد ظاهرا وباطنا لأوامر الله ورسوله، ووصفهم بأنهم }إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ{ [الأنفال] ووصفهم بأنعم وأطيب البشرى }وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ{ [الحج: 34، 35].

ووصفهم بأن جلودهم تقشعر وعيونهم تفيض من الدمع وقلوبهم تلين وتطمئن لآيات الله وذكره وبأنهم يخشون ربهم بالغيب والشهادة وأنهم يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون، ووصفهم بالخشوع في أحوالهم عموما وفي الصلاة خصوصا وأنهم عن اللغو معرضون، وللزكاة فاعلون ولفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم، وأنهم بشهاداتهم قائمون ولأماناتهم وعهدهم راعون.

ووصفهم بأنهم يمشون على الأرض هونا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، وأنهم يبيتون لربهم سجدا وقياما، وأنهم يقولون بدعائهم وأعمالهم وأخلاقهم }وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ{ [الفرقان: 65] وأنهم مقتصدون وسط في كل شئونهم وإذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما، وأنهم لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون، وأنهم لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما، وأنهم إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا، بل }خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا{ }وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ{ وتزيدهم رؤية آيات الله وسماعها خشوعا وإخباتا، وأنهم يطلبون السمو والعلو دائما فلا يرضون إلا أن يكونوا أئمة الهدى والإيمان والتقوى ومكارم الأخلاق وأنهم يقدرون الواجب عليهم ومسئوليتهم أمام الله عما استرعاهم من الأولاد والزوجات وغيرهم فيحسنون القيام عليهم في تأديبهم وتربيتهم ليكونوا قرة عين لهم، ووصفهم باليقين الكامل الذي لا ريب فيه، وبالجهاد بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، ووصفهم بالإخلاص لربهم في كل ما يأتون ويذرون.

ووصفهم بمحبة المؤمنين والدعاء للسابقين واللاحقين منهم، وأنهم مجتهدون في إزالة الغل من قلوبهم على المؤمنين، وبأنهم يتولون الله ورسوله وعباده المؤمنين، ويتبرءون من موالاة جميع أعداء الدين، وبأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويطيعون الله ورسوله في كل أحوالهم فجمع الله لهم بين العقائد الحقة واليقين الكامل، والإنابة التامة التي آثارها الانقياد لفعل المأمورات وترك المنهيات والوقوف على الحدود الشرعية.


 فوائد الإيمان وثمراته

فهذه الأوصاف الجليلة هي وصف المؤمن المطلق الذي سلم من أسباب العقاب، ويستحق جميل الثواب، ونال كل خير ترتب على الإيمان، فإن الله رتب على الإيمان في كتابه من الفوائد والثمرات ما لا يقل عن مائة فائدة، كل واحدة منها خير من الدنيا وما فيها، رتب على الإيمان نيل رضاه الذي هو أكبر من كل شيء، ورتب عليه دخول الجنة والنجاة من النار والسلامة من عذاب القبر ومن أهوال القيامة، والبشرى الكاملة في الحياة الدنيا وفي الآخرة، والثبات في الدنيا على الإيمان والطاعات، وعند الموت وفي القبر، ورتب عليه الحياة الطيبة في الدنيا والرزق الكريم وتيسيره لليسرى وتجنيبه للعسرى وطمأنينة القلوب وراحة النفوس والقناعة التامة وصلاح الأحوال وصلاح الذرية والصبر عند المحن والمصائب وحمل الله عنهم الأثقال ومدافعة الله عنهم جميع الشرور، والنصر على الأعداء ورفع المؤاخذة عند النسيان والخطأ وأن الله قد وضع عنهم الآصال والأغلال التي تكبل بها المقلدون الغافلون الأشقياء المعذبون في الدنيا والآخرة بكفرهم وشركهم، فالإيمان أكبر وسيلة للقرب من الله والقرب من رحمته ونيل ثوابه وأكبر وسيلة لمغفرة الذنوب وإزالة الشدائد وتخفيفها ([14]).

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.



([1]) انظر الآيات من سورة غافر 7-9.

([2]) رواه النسائي وأحمد في المسند وسنده حسن وصححه الحاكم وجوده العراقي وحسنه ابن حجر زاد المعاد (1/265) بتحقيق الأرنؤوط.

([3]) رواه أبو داود في الأدب وأحمد في المسند وسنده صحيح المصدر السابق في نفس الجزء والصفحة.

([4]) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.

([5]) انظر مشكاة المصابيح 1/96.

([6]) انظر تفسير ابن كثير (3/248).

([7]) رواه البخاري ومسلم.

([8]) رواه مسلم.

([9]) رواه البخاري ومسلم.

([10]) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

([11]) رواه البخاري ومسلم.

([12]) سورة المؤمنون.

([13]) حديث صحيح متفق عليه.

([14]) من القواعد الحسان لتفسير القرآن للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي (102-106).