المداخل إلى آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال
التصنيفات
الوصف المفصل
- المداخل
إلى آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال
- المدخل الأول موضوع هذا المشروع
- المدخل الثاني عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-
- المدخل الثالث أمثلة من أقواله السائرة
- المدخل
الرابع إِفادات شَتَّى عن كتبه
- الإِفادة الأولى: تاريخ بدايته للتأليف:
- الإفادة الثانية: عددها -لغة الأرقام لها-:
- الإِفادة الثالثة: موضوع تآليفه:
- الرابعة: مَزَايَاها:
- الخامسة: موارده فيها:
- السادسة: أَسماؤها:
- السابعة: الاختلاف في عدد مجلدات الكتاب الواحد.
- الثامنة: الإملاء من حفظه:
- التاسعة: ما أَلَّفه في قَعْدة واحدة:
- العاشرة: التكرار:
- الحادية عشرة: قراءتها عليه:
- الثانية عشرة: تبييضها:
- الثالثة عشرة: ما لم يَكْمُل منها:
- الرابعة عشرة: كتبه التي أُوذي بسببها (1):
- الخامسة عشرة: مكان تأليفها:
- السادسة عشرة: خطه:
- السابعة عشرة: مراسلاته:
- الثامنة عشرة: ترجمتها:
- التاسعة عشرة: هل رجع عن شيء من كُتْبه؟
- العشرون: الكتب المنحولة عليه:
- الحادية والعشرون: الجُنَاة على كتب شيخ الإِسلام وأَنواع جناياتهم:
- المدخل الخامس جهود المصلحين بطبعها
- المدخل السادس أُمنية العلماء بجمعها والمجاميع لها
المداخل إلى آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال
تَأْلِيف: بَكْر بن عَبْدِ الله أبو زَيْد (رَئيس المَجْمَع) دار عطاءات العلم - دار ابن حزم
(1/1)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد: فيسر مجمع الفقه الإسلامي بجدة المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي أن تكون طباعة هذه الأعلاق النفيسة من آثار هذا الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في سلسلة مطبوعاته؛ لأن ما فيها من العلم والتحقيق يلتقي مع أهداف المجمع الذي أسس من أجلها، ويبدي الشكر خالصًا لسعادة الشيخ سليمان بن عبد العزيز الراجحي على مبادرته الثمينة في الموافقة على تمويل هذا المشروع -أجزل الله له الأجر والثواب-. أمين المجمع - رئيس المجمع
(1/3)
- أ - مقدمة الطبعة الثانية لمشروع آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه أجمعين. أما بعد: فهذه الطبعة الثانية للمشروع المبارك "آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال 1 - 8" نخرجها بعد مضيّ بضع سنوات على صدور طبعته الأولى، وقد لقي المشروع - بفضل الله تعالى - قبولًا واسعًا وثناءً حميدًا، ونَفِدَت نسخُه في نحو شهر واحد، واشتد الطلب عليه جدًّا، لكن تأنينا في طباعته أَمَلًا في المزيد من التصحيح والتنقيح، وقد حصل ولله الحمد والمنة. فمما أُضيف إلى "المداخل": (المدخل الثالث: أمثلة من أقواله السائرة)، وبعض الإضافات اليسيرة، وصححنا جملة من الأخطاء المطبعية ونحوها. أما بقية الكُتب فقد صُحِّحت وروجعت كما هو مشروح في مقدماتها، والحمد لله رب العالمين. بكر بن عبد الله أبو زيد 16/ 4/ 1427 هـ
(1/4)
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى صحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يومِ الدِّين. أمَّا بَعْدُ: فأقول أَنا الفقيرُ إِلى عفو الله/ بكر بن عبد الله أَبو زيد آل غيهب القضاعي، ستر الله عيوبه، وغفر له ذنوبه: لقد بعثني باعث الوفاء لدين الله نشرًا له وذبًّا عنه، على وَصْلِ جهود المصلحين في نشرِ الآثارِ الغَرَّاء لمن أُلقِيَتْ إِليه مقاليد العُلوم الإسلامية والآلية شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- وكَفَى باسمه غُنية عن الإشادة بذكره -سَقى الله عَهْدَه- وذلك في إِنشاء هذا المشروع العلمي المبارك: "آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال" أَعظم مُجدِّد للملة الحنيفية بعد القرون المفضلة الزكية، التي تنتهي على رأس المائة الثالثة للهجرة النبوية؛ إِذْ كان سيفًا ماضيًا، وشهابًا ثاقبًا على كل ما يُخالف دين الله وشريعته، فخضد شوكة الوثنية بعد استشرائها، واكتسح الأهواء المضلة كَفِرَقِ سُبَّاب الصحابة بعد انتشارها، ومضى إلى الملل الكفرية كالنصرانية فَدَكَّ عُروشها، وَهَدَمَ بمِعْوَلِ تَبَخُّرِهِ شُبَه المبتدعة وأزالها، وقارع متعصبة المقلدة وإلى الدَليل رَدَّها، وبعد دعوة الأمة إِلى التخلِّي عن هذه العِمايات والتحذير منها، أَخذَ يُشَيِّدُ فيها صَرْح التحفي بأحكام الملة الإسلامية ونشر لوائها.
(1/5)
وإلى ما ذُكِر أَشار تلميذه الحافظ ابن القيم -رحمه الله تعالى- في "النونية" فقال في وصف شيخه: وله المقامات الشهيرة في الورى ... قد قامها لله غير جبان نصر الإله ودينَه وكتابَه ... ورسولَه بالسيف والبرهان أَبدى فضائحهم وبيَّن جهلَهم ... وأَرى تناقضهم بكل زمان وأَصارهم والله تحت نوال أَهـ ... ـل الحق بعد ملابس التيجان وأَصارهم تحت الحضيض وطالما ... كانوا هم الأعلام للبلدان ومن العجائب أَنه بسلاحهم ... أَرداهمُ تحت الحضيض الدانِ كانت نواصينا بأيَديهم فَمَا ... مِنَّا لهم إِلا أَسير عانِ فغدت نواصيهم بأَيدينا فلا ... يلقوننا إِلا بحبل أَمان ولهذا حُكي عن أبي عبد الله محمد بن قوَّام كما في: "الذيل لابن رجب: 2/ 393" مقولته: "ما أسْلَمت معارفُنا إلا على يد ابن تيمية" انتهى. وهذه تصلح سلفًا لما شاع في عصرنا من قولهم: "أسلمة العلوم". وهذا يذكِّرنا بالمقام المحمود لأبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- في حق أخيه في الصحبة والإسلام معاذ بن جبل -رضي الله عنه- إذ كان في مجلس عُطِّر بذكر معاذ، فقال ابن مسعود: "إنّ معاذًا كان أمة قانتًا لله حنيفًا" فقال بعضهم الآية: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ} فقال: "إنّ الأمة: معلم الخير، والقانت: المطيع، وإن معاذًا كان كذلك "كما في "السير: 1/ 451" للذهبي.
(1/6)
ورحم الله الأستاذ محمد كُرْد علي المتوفى سنة 1372 إِذْ قال في ترجمته من: "كنوز الأجداد. ص/ 350": "لو عمَّت دعوة ابن تيمية - ولدعوته ما يماثلها في المذاهب الإسلامية ولكنها عنده كانت حارة وعند غيره فاترة- لَسَلِمَ هذا الدِّين من تخريف المخرِّفين على الدهر، وَلَمَا سمعنا أحدًا في الديار الإسلامية يدعو لغير الله، ولا ضريحًا تُشدُّ إليه الرِّحال بما يخالف الشرع، ولا يُعتقد بالكرامات على ما ينكره دين، أتى للتوحيد لا للشرك، ولسلامة العقول لا للخبال والخيال. كان ابن تيمية في النصف الثاني من عمره سراجًا وهَّاجًا، أطفأ بعلمه وعمله شهرة أرباب المظاهر من القضاة والعلماء، وكان الصَّدْر المُقَدَّم كُلَّما دخل في موضوع ديني أو سياسي ... " انتهى. إذًا فكيف يطيب لأهل العلم أَن لا يصلوا جهود المصلحين في نشر آثار هذا الإمام وإِخراجها بيانًا للناس، وقد فعلوا، ولا أَعلم عالمًا في الإِسلام حظي بترجمته، ونشر آثاره، ودراسة اختياراته العلمية مثل ما حظي به هذا الإمام. وما هذا المشروع إِلا لبنة في تشييد هذا الصرح الكبير. ولئن كان لكل كتاب أو مشروع علمي مدخل، فإن هذا العمل له مداخل رأيت أن أُصدِّره بها:
(1/7)
المدخل الأول موضوع هذا المشروع
يشمل موضوع هذا المشروع: آثار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى- من كتبه ورسائله وفتاويه، وما لحقها من أَعمال من المختصرات والاختيارات ونحوها، وسيرته العطرة. وينحصر هذا الموضوع في أَربعة أَقسام:
القسم الأول: طَبعْ ما لم يسبق طبعه:
من نِعَمِ الله علينا وعلى الناس أَجمعين، انتشار فهارس مكتبات العالم حتى جمع منها عدد كبير في نحو مائة وأَربعين مجلدًا، ثم سهولة الاتصالات لاسيما عبر الشبكات وتبادل المعلومات ومراكز البحث والدراسات، فمن خِلالها وغيرها من الوسائل كسهولة السفر من بلد إِلى آخر، ظهر من آثار الأسلاف ما تقر به عيون أَهل العلم وتبتهج به نفوسهم. وكان منها أَن تم الوقوف في مطاوي الفهارس ومراسلة الخازنين على خبر كثير من كتب ورسائل وفتاوى هذا الإِمام وما لحقها من أَعمال مما لم يُنشر من قبل. ومن آثار ذلك اشتغال عدد من الباحثين والمحققين بها. فهذا هو القسم الأُم من هذا المشروع، وهو الجوهرة المفقودة
(1/9)
والدرة المنشودة من هذا العِقد الثمين.
القسم الثاني: تحقيق بعض ما سبق طبعه:
منذ مائة وخمسين عامًا تقريبًا بدأت طباعة آثار شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- من أُمَّهات كُتبه، ومجاميع رسائله وفتاويه، فانتشرت بين المسلمين، وتنافس الناس في طبعها ونشرها، وكان منها مَا قُرِّرَ درسه في المساجد وفي دور العلم ويتدارسه الناس في المجالس حتى إِن بعض رسائله لا تُحصى طبعاتها؛ لأن آثاره من الخير المبذول للمسلمين، مثل: "العقيدة الواسطية" وما لحقها في عصرنا من الشروح والتعليقات. لكن منها ما طبع وفيه أغاليط طباعية غير قليلة، ومنها ما طُبع على نسخة ناقصة ومنها ما طبع على الراقمة في رسائل جامعية على نسخة فريدة ناقصة، مثل: "نقض التأسيس" وقد تم الوقوف على نسخة مكملة لما فيها من نقص -بحمد الله تعالى- وهكذا.
القسم الثالث: ما لحقها من أعمال:
اشتغل أَهل العلم قديمًا وحديثًا بآثار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى- بمؤلفات مفردة على الوجوه الآتية: 1 - الاختصار والانتقاء والتهذيب، كما لتلميذه ابن عبد الهادي، وتلميذه الذهبي، وغيرهما مثل: البعلي، والسيوطي، وغيرهما، ومنها ما لم يُعرف اسم مختصِره كما في مختصر الرد على الإخنائي. وقد ذكر ابن قاسم -رحمه الله تعالى- في مقدمة "مجموع
(1/10)
الفتاوى": أنه فتش عن مختصراتها وأدخل بعضها في مجموعه. 2 - اختياراته -رحمه الله تعالى-: أفردها بالتأليف: تلميذه ابن عبد الهادي، والبرهان ابن القيم، وابن اللحام البعلي، وذكر جملة منها في ترجمته: تلميذه ابن عبد الهادي في: "العقود الدرية"، وابن رجب في: "الذيل"، والعليمي في: "المنهج الأحمد" وابن العماد في: "شذرات الذهب" والنواب صديق في: "التاج المكلل". وللشيخ سليمان بن سحمان نظم لبعضها من أول الطهارة إلى باب الصداق، وله نظم آخر لتسع عشرة مسألة انفرد بها شيخ الإسلام كما في: "ملتقى الأنهار من منتقى الأشعار" لابنه الشيخ صالح -رحمهما الله تعالى-. وقال تلميذه الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- في: "تاريخه: 14/ 69": "وله اختيارات كثيرة مجلدات عديدة أفتى فيها بما أدى إليه اجتهاده، واستدل على ذلك من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والسلف" انتهى. 3 - الشرح والتعليق: منها: "العَلَم الهَيِّب شرح الكلم الطيب" للبدر العيني، و"اللآلئ البهية شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية" لأحمد بن عبد الله المرداوي، وذَكَر أن هذه اللامية منسوبة لابن تيمية، وهي في ستة عشر بيتًا؟ و"الدرة البهية شرح القصيدة التائية في حل المشكلة القدرية" لابن سعدي. وشروح متعددة في عصرنا لكتابه: "العقيدة الواسطية" وغيرها. وإنما غابت أنظار العلماء عن الشرح لكتبه؛ لأنها ليست مؤلفة
(1/11)
على المتون كطريقة الماتنين من أَهل العلم؛ ولهذا لما كان كتابه: "الكلم الطيب" كالمتن تناوله العيني بالشرح، ولما كانت: "الواسطية" كذلك تناولها المعاصرون لنا بالشرح. 4 - الجمع الموضوعي: مثل جمع تلميذه ابن عبد الهادي للأحاديث الضعيفة التي في: "منهاج السنة"، وجمع محمد بن قاسم لمناقب أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- كذلك، وجَمَع آخرون تفسيره من كتبه المطبوعة. 5 - دراسة اجتهاداته في الفقه وغيره، وهذه سمة بارزة في كتابات المعاصرين.
القسم الرابع: سيرته المباركة:
إن سيرة هذا الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- تستفاد من خمسة مصادر هي: المصدر الأَول: كتب التراجم والسير العامة، وقد كفانا كتاب: "الجامع" من هذا المشروع المبارك، وقد حوى خمسًا وسبعين ترجمة من كتب التراجم العامة مخطوطها ومطبوعها. المصدر الثاني: الكتب المفردة في ترجمته، وهي خمسة عشر كتابًا حتى نهاية عام 1300، كما في مقدمة "الجامع". وكما كانت ترجمته لتلميذه ابن عبد الهادي في كتابه: "مختصر طبقات علماء الحديث" هي أَوْفى التراجم، فإِن كتابه المفرد: "العقود الدرية ... " ترجع إليه الكتب المفردة الأخرى، وأَرى إعادة تحقيق وطبع: "العقود الدرية ... " ويضم إِليه ما زاد عليه من كتب التراجم
(1/12)
المفردة المذكورة تحشية في محلها المناسب من هذا الكتاب، حتى يغني عنها، وهو في دور الأعداد من المشتغلين بهذا المشروع. المصدر الثالث: التقاط ترجمته الذاتية من خلال مؤلفاته، وقد انتدب لهذا العمل بعض أفاضل طلبة العلم، وهو في دور الترتيب بعد الاستقراء والجمع. المصدر الرابع: تتبع ترجمته من كتب تلاميذه أَمثال ابن القيم، وابن عبد الهادي، وابن مفلح، والصفدي، وابن الوردي، وغيرهم. المصدر الخامس: تتبع ترجمته من خلال تراجم أَنصاره وخصومه من تاريخ ولادته سنة 661 إِلى تاريخ وفاته سنة 728؛ بل إلى نهاية القرن الثامن. وهذان المصدران -الرابع والخامس- بحاجة إلى من ينشط لاستخراجهما. وبعد تكامل هذه المصادر الخمسة، سوف يُصاغ من مجموعها -بمشيئة الله تعالى- سيرة واحدة موثقة متسلسلة المعلومات، مستوعبة لجميع ما في هذه المصادر باسم: "السيرة الجامعة لشيخ الإِسلام ابن تيمية" -رحمه الله تعالى- وما ذلك على الله بعزيز. * * *
(1/13)
المدخل الثاني عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-
هو شيخ الإسلام، الإمام الحجة، المجدد للمحجة، وارث علم النبوة، الناصر للسنة، القامع للبدعة، المجتهد المطلق، الشهير بشيخ الإِسلام، وبابن تيمية، وبهما، وبإِمام الدنيا في زمانه، أَحد أذكياء العالم وأَفراده في الحفظ والعلم والعمل، المُحَلَّى قبل بلوغه الثلاثين من عمره بما يبلغ الصفحات بجميل الأوصاف في علمه وعمله واجتهاده، وتجديده وجهاده، وإِيمانه وصبره، وتألهه، وزهده، وورعه، وشجاعته، وكرمه، وأَمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وتعظيمه لحرمات الله، الملقب بتقي الدِّين، والمكنى بأبي العباس، أحمد ابن الشيخ الإمام المفتي شهاب الدِّين أَبي المحاسن عبد الحليم، ابن الشيخ الإمام شيخ الإِسلام مجد الدين أَبي البركات عبد السلام ابن أَبي محمد عبد الله بن أَبي القاسم الخضر بن محمد بن تيمية بن الخضر بن علي بن عبد الله، النُّمَيْري نسبًا، الحَرَّاني مولدًا، ثم الدمشقي منشأ ومدفنًا، الحنبلي مذهبًا، ثم المجتهد آخرًا، المشتهر بابن تيمية المجدد. المولود في يوم الاثنين 10 ربيع الأول 661، المتوفى في ليلة الاثنين 20 ذي القعدة 728، عن سبعة وستين عامًا وثمانية أَشهر وعشرة أَيام -رحمة الله تعالى عليه-. وقد ترجمه كثيرون تبعًا وإفرادًا، ومن النظر فيها تتبيّن الأُمور الآتية:
(1/15)
الأمر الأول: الوقوف على المعلومات الجامدة، التي تُساق لأي مُتَرْجَم، وإِن تفاوت المترجِمون فيها، كُلٌ حسب ما وهبه الله له. ومما يحسن ذكره هنا:
1 - أن سياق نسبه ثمانية آباء هي من سياق تلميذه ابن عبد الهادي دون غيره.
2 - نسبته النميري من إفادات تلميذ تلامذته ابن ناصر الدِّين (842)، وتابعه عليها العدوي في: "الزيارات"، بل هذه النسبة منصوص عليها في بعض رسائل الشيخ المخطوطة على طرر النسخ وقد ذكر الشيخ ابن قاسم في مقدمة "النقض" رسالتين رآهما في الظاهرية كذلك ص 35 حاشية 1، وهي نسبة إلى بني نمير، وهم بطن من عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن العدنانية، وذكر القلقشندي في "نهاية الأرب. ص/ 433" نقلًا عن ابن خلدون: أن منازل بني نمير في الجزيرة الفراتية والشام، فشيخ الإسلام إذًا عربي صريح نسبًا ولسانًا. 3 - و"تيمية" لقب لجده محمد، وهو الخامس من آبائه، وفي تعليلها قولان مشهوران، وكان -رحمه الله تعالى- يستفتح بعض رسائله بقوله: "من أحمد بن تيمية"، ويذيل بعضها بقوله: "كتبه ابن تيمية" واشتهر بها دون أَهل بيته، وفي الشعر قول العباس بن الأحنف: كنت مثل الكتاب أخفاه طي ... فاستدلوا عليه بالعنوان 4 - و"الحراني" نسبة إلى بلدة مشهورة في الجزيرة بين الشام
(1/16)
والعراق، ليست هي التي بقرب دمشق ولا التي في تركيا، ولا التي بقرب حلب. 5 - ونَعْتُهُ -رحمه الله تعالى-: كان أبيض البشرة، أسود الرأس واللحية قليل شيب اللحية، شعر رأسه إلى شحمة أُذنيه، رَبْعَة من الرجال، بعيد ما بين المنكبين، أبيض العينين، جَهْوَرِيَّ الصوت، فصيحًا، سريع القراءة، تعتريه حدة ثم يقهرها بحلم وصفح، كأَنّ عينيه لسانان ناطقان، إِذا أَخذ يتكلم ازدحمت العبارة في فمه. 6 - لم يرِث العلم عن كَلاَلَةٍ، وإِنّما نشأَ في بيت برز أهله في حلائب العلم، منهم أَبوه الشهاب وجده المجد. ويكفي في وصف جَدِّه قول ابن مالك النحوي صاحب الألفية -رحمه الله تعالى-: "أُلِيْنَ للمجد الفقه كما أُلين لداود الحديد". وأما أبوه الشهاب فهو شيخ حران وحاكمها وخطيبها ومفتيها الفارق بين الفرق فيها. 7 - والدته: الشيخة الصالحة ست النِّعم بنت عبد الرحمن بن علي ابن عبدوس الحرّانية المتوفاة بدمشق سنة 716. وقد ولد لها تسعة ذكور، ولم تُرزق بنتًا قطّ، منهم ثلاثة أَشقّاء شيخ الإسلام وهو أَكبرهم، وزين الدِّين عبد الرحمن، وشرف الدِّين عبد الله، ومن إخوته لأُمِّه بدر الدِّين قاسم بن محمد بن خالد المتوفى بدمشق سنة 717. 8 - تفرع آل تيمية إلى دوحتين: آل عبد الله، وآل محمد، وشيخ الإسلام من آل عبد الله، وقد أحصيت مُشَجَّرَهم في: "المدخل
(1/17)
المفصّل 1/ 532 - 536" وبينت وجود آل تيمية إِلى أَواخر القرن الثالث عشر الهجري. 9 - تُجْمِع التراجم على أَن الشيخ هاجر مع والده وأَهل بيته من حران إِلى دمشق أَثناء سنة 667 والشيخ في السابعة من عمره، وذلك بسبب جور التتار. 10 - نشأ -رحمه الله تعالى- في تصوُّن تام وعفاف وتألُّه واقتصاد في المأكل والملبس، بَرًّا بوالديه تقيًّا ورعًا عابدًا ناسكًا صَوَّامًا قَوَّامًا. 11 - أَخذ عن أَكثر من مائتي شيخ، كلهم دماشقة، وجُلُّهم حنابلة، وكان أَول سماعه من ابن عبد الدايم بدمشق، وهو في السابعة من عمره، ومجموع من سُمي منهم ستة وثلاثون شيخًا -فيما وقع لي-. 12 - أَوائل في حياته تدل على النبوغ المبكر: * حفظ القرآن وهو في الصِّغر، في سِنِّ تعلم الخط والحساب وهو في الكتاب. * أَتقن العلوم من التفسير والحديث والفقه والأُصول والعربية والتاريخ والجبر والمقابلة والمنطق والهيئة وعلم أَهل الكتابين، والملل الأُخرى، وعلم أَهل البدع، وغيرها في سِنٍّ مُبَكِّر، حتى أَنّه حذق العربية في أَيام، وفهم كتاب سيبويه في أَيام، وفي الحديث سَمِع "المسند" مرات وما ضُبطت عليه لحنة متفق عليها، وكان إِقباله على التفسير إِقبالًا كليًّا منقطع النظير.
(1/18)
وحقًّا إن التسلح بالعلم هو كما قال الباجي -رحمه الله تعالى- في وصيته لولديه: "والعلم ولاية لا يُعزل صاحبها، ولا يَعرى من جمالها لابسها". * نَاظَرَ واستدل وهو دون البلوغ. * أَفتى في سن السابعة عشرة من عمره أَي سنة 677. * دَرَّس في الحادية والعشرين من عمره أَي سنة 681 بعد موت أَبيه في المدرسة السكرية، وتولى مشيختها يوم الاثنين 2/ محرم/ 683. * بدأ درس التفسير بالجامع الأموي في 10/ صفر/ 691 أَي وهو ابن ثلاثين سنة، واستمر سنين طويلة. * حَجَّ مرة واحدة سنة 692 أَي وعمره 31 سنة، وبعد عودته من الحجِّ آلت إِليه الإمامة في العلم والدِّين. * نشر العلم في: دمشق، ومصر: في القاهرة، والإِسكندرية، وفي سجونها، وفي طريقه إلى مصر مَرَّ بغَزَّة، وعقد في جامعها مجلسًا علميًّا عظيمًا، فكان يومًا مشهَودًا. * درس بالمدرسة الحنبلية في يوم الأربعاء 17/ شعبان/ 695. * أول رحلاته إلى مصر في القاهرة والإسكندرية مرتان سنة 700، ثم عاد إلى دمشق، ثم رجع إلى مصر سنة 705، وكانت إقامته بها نحو سبع سنين وسبع جمع، أي إلى سنة 712 متنقلًا في جلها بين سجون القاهرة والإسكندرية.
(1/19)
* بدأ في التأليف وهو ابن سبع عشرة سنة. وهكذا من البدايات المبكرة، الدالة على نبوغه وتأهُّله للاجتهاد والتجديد والإمامة في العلم والدين.
الأمر الثاني: الوقوف على مواطن القوة في ترجمته:
في كتاب القدر من "صحيح مسلم" أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن". ومن نظر في ترجمة شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- وجد أن الله -سبحانه- قد منحه أسباب القوة التي تُبْنَى عليها قُبَّةُ النصر وهي: - الثبات، واللهج بذكر الله -تعالى-، وطاعة الله وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- والاتفاق مع أنصار الإسلام والسنة، والصبر، وقد قال الله - تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)} [الأنفال: 45 - 46]. ومن مظاهر القوة في شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: - ما رزقه الله من قوة البدن واعتداله، وقوة الأداء في صوته، فقد كان جَهْوريًّا، يستولي على قلوب سامعيه، وكان الناس يتعجبون من تأثير تكبيره في الصلاة على سامعيه كما ذكره تلميذه البزار في: "الأعلام العلية"، وكان يؤم الناس لصلاة التراويح فَيَعْلُوه عند القراءة خشوع ورِقَّة حاشية تأخذ بمجامع القلوب كما قاله تلميذه ابن الوردي في: "تتمة المختصر" وقال تلميذه الذهبي: "ويصلي
(1/20)
بالناس صلاة لا يكون أطول من ركوعها وسجودها" انتهى من: "الذيل" لابن رجب. - قوة الحفظ فقد بَهَرَ الفضلاء بذلك، وقَلَّما حفظ شيئًا فنسيه، وقد كان يحفظ "المحلى" لابن حزم ويستظهره، وكان أول محفوظاته في الحديث: "الجمع بين الصحيحين" للحميدي، وقَلَّ من يحفظ ما يحفظه من الحديث معزوًّا، مع شدة استحضاره له وقت الحاجة إلى الدليل. قال جمال الدين السُّرمري في "أماليه": "ومن عجائب ما وقع في الحفظ من أهل زماننا: أن ابن تيمية كان يمرُّ بالكتاب مطالعةً مرةً فينتقش في ذهنه وينقله في مصنفاته بلفظه ومعناه" كما في "الدرر الكامنة" لابن حجر. - قوته في فرط ذكائه، وسيلان ذهنه، وسرعة إِدراكه؛ ولهذا قيل عنه: "كأن عَيْنيه لسانان ناطقان". - تواريخ لها مدلولاتها على قوته ونبوغه المبكر. * ناظر وهو دون البلوغ، وكان يحضر المدارس والمحافل في صغره، فيتكلم ويناظر ويُفْحِم الكبار ويأتي بما يتحير منه أعيان البلد في العلم، ولا يعرف أنه ناظر أحدًا انقطع معه. * أفتى في سن السابعة عشرة من عمره، أي سنة 677، وكان الشرف أحمد بن نعمة المقدسي الحنبلي المتوفى سنة 694 هو الذي أذن له بالفتيا وكان يفتخر بذلك. * بدأ التأليف وهو في سن السابعة عشرة من عمره أي سنة 677.
(1/21)
* دَرَّس وهو في الحادية والعشرين من عمره، أي سنة 681. وكان أول دروسه بعد وفاة أبيه في مدرسة الحديث السكرية، وتولى مشيختها في يوم الاثنين 2/ محرم/ 683. * بدأ درس التفسير في 10/ صفر/ 691 أي وعمره ثلاثون سنة، واستمر مدة سنين متطاولة وقد انعقدت له الإمامة في التفسير وعلوم القرآن الكريم، وقد أَقبل عليه إِقبالًا كليًّا حتى حاز فيه قصب السبق، ويقال: إنه وضع تفسيرًا مطولًا أتى فيه بالغريب العجيب. - قوته في الطلب والتلقي والأخذ عن الشيوخ، حتى دار في دمشق على أكثر من مائتي شيخ. - قوته في البحث والقراءة والمطالعة، فلا تكاد نفسه تشبع من العلم، ولا تروى من المطالعة، ولا تمل من الاشتغال، ولا تكل من البحث. - قوته في ضبط النفس والسيطرة عليها من ملاذ الدنيا، فلا لذة له أكبر من نشر العلم وتدوينه والعمل به، والدعوة إلى إقامة دين الله والوقوف أمام المفسدين في الأرض على اختلاف انحرافاتهم وفسقهم وفجورهم. ولهذه القوة العلمية والعملية عند شيخ الإسلام مظاهر: * رفضه للأُعطيات. * قناعته بما له من المعلوم الذي يسدُّ حاجته على يد أخيه الشرف، وهو القائم بشؤونه ومصالحه.
(1/22)
ما تزوج ولا تسرَّى قط لا رغبة عن هذه السنة، ولكنه مثقل الظهر بهموم العلم والدعوة والجهاد. - قوته في مواقفه الجهادية، والمغازي الإسلامية، وكسر شوكة الملاحدة والباطنية، كما في وقعة شقحب- قرية قبلة دمشق 37 كيلًا، والكسروان، وموقفه مع "قازان"، حتى وصفت شجاعته بأنّها "خالدية". - قوته في حياته الجادة التي لا تعرف الهزل، فضلًا عن سافل الأخلاق من الغيبة والنميمة، فقد كان -رحمه الله تعالى- في غاية التنزه عنها، وما عرفت له عشرة في شيء من ذلك، وكانت مجالسه عامرة بالخير لا يجرؤ المغتابون على غشيانها. - قوته في مواقفه مع الولاة، في النصح والأمر والنهي. - قوته في تعبده، وتألهه، ومداومة الذكر، والأوراد، لا يشغله عن هذا شاغل ولا يصرفه صارف. فأين من يظهر القوة في الحق وإذا حضرت العبادات تثاقلت أعضاؤه، وأصيب بالخمول، على حد ما ذكره الإِمام الشافعي -رحمه الله تعالي- من العجائب التي شهدها وَعَدَّ منها: أنه رأى مغنيًا بالمدينة يُعَلِّم الجواري الغناء وعمره "90" عامًا وهو قائم فإذا حضر وقت الصلاة، صلى وهو جالس -نعوذ بالله من الحرمان-. - قوته في تفجير دلالات النصوص، وشق الأنهار منها، واستخراج كنوزها، وهذه وحدها تعطي طالب العلم دفعة إِلى إدامة النظر في كتبه وقراءتها مرة بعد أخرى.
(1/23)
-قوته في التأليف: بدأ -رحمه الله تعالى- التأليف وهو ابن سبع عشرة سنة، وكان من أفراد الدهر في كثرة تآليفه، فلا يُعْلم في الإِسلام من صنَّف نحو ما صنف ولا قريبًا منه إلا أفرادًا قليلين، وقد قدرت مؤلفاته بخمسمائة مجلد، وبأربعة آلاف كراس أو أكثر، وقد بلغ ما يكتبه في اليوم والليلة أربع كراريس وكان يكتب جُلَّ مؤلفاته من حفظه، وكان ذا قلم سريع الكتابة إذا رقم "يكاد يسابق البرق إذا لمع" لكن كان خطه في غاية التعليق والإِغلاق. وكانت مؤلفاته في غاية الإبداع وقوة الحجاج وحسن التصنيف والترتيب، غير مشوبة بكَدَرٍ، بل خالصة من الشَّبه والشُّبه، وكثير منها لم يبيض له نسخَة أخرى، وله في غير مسألة مصنف مفردٌ أو أكثر. ومن مؤلفاته ما ألفه في قَعْدة، مثل: "الحموية" ألفها بين الظهرين سنة 698 وعمره سبع وثلاثون سنة، وألَّف لأهل الآفاق عدة كتب، تَلْبيةً لطلبهم، منها: لأهل واسط: العقيدة الواسطية، والحموية لأهل حماة، والمراكشية لأهل مراكش، والتدمرية لأهل تدمر، وهكذا. وأَلَّف بعض كتبه وهو في السجن، منها: في السجن بمصر: "الرد على البكري"، وألَّف "منهاج السنة النبوية" وهو في مصر، وأَلَّف ما لا يُحصى في السجن بالقلعة بدمشق، منها "الرد على الإخنائي". وقد جرت له بسبب بعض مؤلفاته وفتاويه محن من السجن، والنيل من العرض بغير حق، كما جرى له بسبب "الحموية"، و"الواسطية"، وبسبب فتواه في الطلاق بالثلاث، وبالحلف بالطلاق،
(1/24)
وفتوى الزيارة وشد الرحال، وغيرها. هذا مع ما "حصل له في بعض سَجَنَاته من منع الدواة والقلم، وإِخراج ما عنده من الكتب والورق. والحاصل أن شيخ الإسلام قد جمع بين الحسنيين: القوة العلمية والقوة العملية فصار له بذلك قدم صدق في الإسلام وانتفعت به الأمة في حياته وبعد مماته وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ... وكأن ابن القيم -رحمه الله تعالى- لما تكلم عن فضل اجتماع هاتين القوتين في كتاب: "طريق الهجرتين ص 233" قصد شيخ الإِسلام فقال: "فمن الناس من يكون له القوة العلمية الكاشفة عن الطريق ومنازلها وأعلامها وعوارضها ومعاثرها، وتكون هذه القوة أغلب القوتين عليه، ويكون ضعيفًا في القوة العملية يبصر الحقائق ولا يعمل بموجبها، ويرى المتالف والمخاوف والمعاطب ولا يتوقاها، فهو فقيه ما لم يحضر العمل، فإذا حضر العمل شارك الجهال في التخلف، وفارقهم في العلم، وهذا هو الغالب على أكثر النفوس المشتغلة بالعلم والمعصوم من عصمه الله ولا قوة إلا بالله، ومن الناس من تكون له القوة العملية الإرادية، وتكون أغلب القوتين عليه، وتقتضي هذه القوة السير والسلوك والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، والجد والتشمير في العمل، ويكون أعمى البصر عند ورود الشبهات في العقائد والانحرافات في الأعمال والأقوال والمقامات، كما كان الأول ضعيف العقل عند ورود الشهوات، فداء هذا من جهله، وداء الأول من فساد إرادته وضعف عقله، وهذا حال أكثر أرباب الفقر والتصوف السالكين على غير طريق العلم؛ بل على طريق الذوق والوجد والعادة ... فمن كانت
(1/25)
له هاتان القوتان: استقام له سيره إلى الله ورجي له النفوذ، وقوي على رد القواطع والموانع بحول الله وقوته، فإن القواطع كثيرة، شأنها شأن شديد، لا يخلص من حبائلها إلا الواحد بعد الواحد، ولولا القواطع والآفات لكان الطريق معمورة بالسالكين، ولو شاء الله لأزالها وذهب بها، ولكن الله يفعل ما يريد، والوقت كما قيل سيف فإن قطعته وإلا قطعك. فإذا كان السير ضعيفًا، والهمة ضعيفة، والعلم بالطريق ضعيفًا، والقواطع الخارجة والداخلة كثيرة شديدة، فإنه جهد البلاء ودرك الشقاء، وشماتة الأعداء، إلا أن يتداركه الله برحمة منه من حيث لا يحتسب، فيأخذ بيده ويخلصه من أيدي القواطع والله ولي التوفيق" انتهى.
الأمر الثالث: مواطن الضعف في سيرته حسب ميول الناظرين؟!!
* ضعفه في نظر عشاق المناصب والولايات، فقد عرضت عليه مناصب علمية فأباها منها: "رآسة القضاء" -قاضي القضاة- و"رئيس المشيخة"، وقال: يقوم بها غيري، أما نشر العلم وتصحيح الاعتقاد، ورد الناس إلى الله ورسوله فالناس أحوج ما يكونون إليه. فآلت ميزة خلَّدت ذكره في العالمين، وغاب أصحاب الولايات بأبهتهم بما لهم وما عليهم -مَنَّ الله على الجميع بعفوه ومغفرته-. * ضعفه في نظر طلاب المادة، عُشَّاق الأصفر الرَّنّان، فقد عُرِضَت عليه المُرَتَّبَات، والأعطيات، فأباها ولم يتدنس بشيء من ذلك؛ لأنه -رحمه الله تعالى- يعلم أنه إذا أخذت اليد، ضعفت مقاومة الباطل، واهتز موقف الناصح. فليعتبر من يقول: "أنا لها".
(1/26)
* ما تزوج -رحمه الله تعالى- ولا تسرى، وهذه لذة لا يفوِّتها عامة أهل الدنيا؛ ولهذا لم يعرف أنه يُتحدّث عنده في هذه الملاذ ونحوها؛ كما قال الأحنف بن قيس -رضي الله عنه-: "جنبوا مجالسنا ذكر النساء والطعام إني أبغض الرجل يكون وصَّافًا لِفَرجه وبطنه" انتهى. وهذا خلق رفيع وشرف في النفس. الأمر الرابع: السَّبْق العلمي: وهذا من أبرز المزايا في حياة شيخ الإسلام العلمية والعملية، فكان له سَبْق التجديد في تحقيق التوحيد بعد طول غياب، وحماية جنابه، وحماية حماه بدقائق أصبحت نورًا يَقْتَدِي به المصلحون. وقابله الخصوم: بافتراآت على الشيخ من خلال دعاوي كاذبة، مثل: دعوى بغض النبي-صلى الله عليه وسلم- وأين الإِثبات!؟ ودعوى أنه يمنع زيارة القبور وإنما منع البدعية لا الشرعية. ودعوى أنه يمنع من زيارة قبر النبي-صلى الله عليه وسلم-وإِنما منع شدَّ الرِّحال إِليه. ودعوى أَنّه يُوالي النصارى، وأَنَّى يكون ذلك وله "الجواب الصحيح لمن بدَّل دينَ المسيح"؟! وكانت هذه التهمة الباطلة أَلقى بها المغرضون في حياته فبين -رحمه الله تعالى- سببها كما في: "الفتاوى: 2/ 118" في رسالته: "حقيقة مذهب الاتحاديين". وسَبْق التجديد في الفقهيات وهي لا تُحصى كثرة، وقابلها الخصوم بأَنّه خرق الإِجماع، وقد نافح عنه العلامة برهان الدِّين إبرإهيم ابن تلميذ شيخ الإِسلام ابن قيم الجوزية في رسالة محررة نافعة باسم: "اختيارات شيخ الإِسلام ابن تيمية". وسَبْق التجديد في علوم المنطق والفلسفة، هدم من خلال
(1/27)
ردوده عليهم عددًا من أقوالهم وقواعدهم. الأمر الخامس: استجلاء العِبَر والدروس: يمكن استجلاء الآتي: 1 - ما نال شيخ الإِسلام -رحمه الله تعالى- منزلة الإِمامة في العلم والدِّين إلّا من آثار التقوى واليقين والصبر فى ذات الله تعالى على المكاره؛ ولهذا قال: "بالصبر واليقين تُنال الإِمامة في الدِّين". 2 - من أعظم أسباب الفوز والنصر، الزهد في المناصب والولايات، والكف عن زخرفها، وكما كان شيخ الإسلام كذلك، فقد كان أئمة الإسلام على هذه الجادة منهم الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى- ولهذا قيل في ترجمته: "أتته الدنيا فأباها، والولايات فقلاها". فمسكين من يتطلع إليها ويقول: أنا لها، ومغبون -والله- من دفع ثمنها مُقّدمًا بالتنازل عن شيء من دينه، والملاينة على حساب علمه ويقينه، وكُلُّ امرئ حسيب نفسه. 3 - البذاذة من الإيمان، والاقتصاد في أُمور المعاش من وظائف أهل الإِسلام، وهكذا كان شيخ الإِسلام -رحمه الله تعالى- مجتنبًا التَّرَفُّه في المعاش، وتطلب الملاذ، فما أحلاه من أدب. 4 - إِنّها "العصامية لا العظامية". ليس الفتى من يقول كان أبي ... إن الفتى من يقول ها أنذا
(1/28)
فَسُحْقًا لعشاق: العصبية -الطبقية- الذين يتغنون بأَمجاد أَسلافهم وقد تسفلوا، ويستعلون على الناس بأهليهم وأذوائهم وقد تقذروا؛ ليُقال لهم: نعم الآباء ولكن بئس ما خلفوا، وإن افتخار المرء بوصف أَبيه، مثل افتخار الكوسج بلحية أخيه، أما من جمع بين الحسنيين، وفاز بالفضيلتين، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وهكذا كان شيخ الإِسلام -رحمه الله تعالى- فلم يركن إلى الدنيا، وأخذ يتغنى بآبائه فيقول: والدي مفتي الحنابلة، وجدِّي المجد شيخ الإِسلام ... بل سلك جادة العلم والإِيمان حتى صار زينة لأهل الإِسلام. 5 - لا تكاد نفسه تشبع من العلم، ولا تروى من المطالعة، ولا تمل من الاشتغال به، ولا تكل من البحث فيه، وقل أن يدخل في علم إلا ويفتح له فيه؛ ولهذا قال الذهبي: "ما رأيته إلا ببطن كتاب". قال السخاوي في: "الجواهر والدرر: 1/ 117" بسنده عن الشمس بن الديري قال: "سمعت علاء الدين البسطامي ببيت المقدس يقول: وقد سأله هل رأيت الشيخ تقي الدين بن تيمية؟ فقال: نعم، قلت: فكيف كانت صفته؟ فقال. هل رأيت قبة الصخرة؟ قلت: نعم، قال: كان كقبة الصخرة مُلِيء كُتبًا ولها لسان يَنْطِق" انتهى. هذا مع انصراف عن أُمور الدنيا انصرافًا كليًّا، إذْ ليس له من المعلوم إلا اليسير، وقد تكفّل أخوه شرف الدِّين بشؤونه. وهذا يفيد الدرس الآتي: وهو عدم اجتماع الضدِّين فكما أن:
(1/29)
حُبُّ الكتابِ وحبُّ ألحان الغنا ... في قلب عبد ليس يجتمعان فحب العلم وإشغال القلب والبدن بالمال وجمعه وتنميته، والمكاثرة فيه لا يجتمعان، فكلما منحت هذا من جهدك ووقتك ضاع من ذاك، فَلْنَبْكِ على حالنا؟. 6 - ولما سافر -رحمه الله تعالى- إلى مصر سنة 700 نزل عند عم تلميذه ابن فضل الله العمري، وكان سفره للحض على الجهاد، فَرُتِّبَ له مرتب، وأعطيات، فلم يقبل منها شيئًا. فهل يعتبر من ابتلوا بالتسول على مستوى رفيع، ويتنمر الواحد منهم على معارفه وإِخوانه، والرفعاء منهم يعلمون أنه في الظاهر: مطاع متبوع، وهو في الباطن عبد مطيع تابع ذليل. على أن الأرض لا تخلو من المتأسِّين بالصالحين، الذين تجردوا من هذه الحظوظ، ولم يتدنَّسوا بشيء منها. 7 - دروس وعبر مما ناله -رحمه الله تعالى- من الأذايا في ذات الله -تعالى-: إِنّ عالمًا يفتح الله عليه بميراث علم النبوة، وينظر في واقع الحياة فيرى من ظلمات الإعراض عن الوحي والتنزيل ما الله به عليم: حلولية، اتحادية، طرقية بدعية، جهمية، معتزلة، أَشاعرة، مقلدة متعصبة، وكل يرى أن ما هو عليه هو الحق، ثم يأتي حامل الضياء، فيكاسر هؤلاء وهؤلاء، لاشك سيكون له خصوم وخصوم مما أدّى إلى سَجْنِه تارة، والترسيم عليه تارة، ومناظرته تارة، وإذايته بالمحن الأُخرى تارة أُخرى، وإِغراء السفهاء، وتسليط
(1/30)
الدهماء، وهكذا من صنوف الأذى، ومن كل ذلك قد نال شيخ الإِسلام -رحمه الله تعالى-. ومن نظر في سِيَر المُصلحين وما أُلِّفَ من كتبٍ مُفردةٍ في إِذايتهم مثل كتاب "المحن" لأبي العرب وغيره لم يرَ عالمًا لحقه من صنوف الأذايا من سجن وغيره مثل شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-. وحسبي هنا أن استقرئ وقائع سجنه والترسيم عليه: لما بلغ -رحمه الله تعالى- الثانية والثلاثين من عمره وبعد عودته من حجته، بدأ تعرضه -رحمه الله تعالى- لأخبئة السجون، وبلايا الاعتقال، والترسيم عليه: "الإِقامة الجبرية". خلال أَربعة وثلاثين عامًا، ابتداء من عام 693 إِلى يوم وفاته في سجن القلعة بدمشق يوم الاثنين 20 ذي القعدة 728 وكان سجنه سبع مرات: أربع بمصر بالقاهرة وبالإسكندرية، وثلاث مرات بدمشق، وجميعها نحو خمس سنين وجميعها كذلك باستعداء السلطة عليه من خصومه الذين نابذ ما هم عليه من الانحراف في الاعتقاد والسلوك والتمذهب، عسى أَن يفتر عنهم، وأَن يُقصر لسانه وقلمه عَمَّا هُم عليه، لكنّه لا يرجِع. وهي مجملًا: السَّجْنَة الأولى: بدمشق بسبب واقعة عساف النصراني الذي سب النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي لمدة قليلة، وعلى أثرها ألف: "الصارم المسلول". السَّجْنَة الثانية: بمصر بسبب مسائل في الصفات، لمدة سنة
(1/31)
وستة شهور. السَّجْنَة الثالثة: بمصر بسبب مسألة الاستغاثة والتوسل، أيامًا قليلة. وفيها ألف: "الرد على البكري". السَّجْنَة الرابعة: بمصر وهي امتداد للثالثة، لمدة تزيد عن شهرين. السَّجْنَة الخامسة: بمصر وهي امتداد للرابعة، لمدة سبعة شهور وأيام. السَّجْنَة السادسة: بدمشق، بسبب مسألة الطلاق، لمدة خمسة شهور وثمانية وعشرين يومًا. السَّجْنة السابعة: بدمشق بسبب مسألة الزيارة، لعامين وثلاثة أشهر وأربعة عشر يومًا. وفيها أَلْف جملة من الكتب منها: "الرد على الإخنائي". وهذا بيان سجناته وأسبابها وآثارها مع شيء من التفصيل: السجنة الأولى: في دمشق عام 693 لمدة قليلة، بسبب واقعة عسّاف النصراني، الذي شهِدَ عليه جماعة أَنّه سَبَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما بلغ الخبر شيخ الإِسلام -رحمه الله تعالى- اجتمع هو والشيخ زين الدِّين الفارقي شيخ دار الحديث، فدخلا على نائب السلطان بدمشق، عز الدِّين أَيبك الحموي فطلب النائب إِحضاره، فحضر عسّاف ومعه مجيره "أَمير آل على" فضربهما الناس بالحجارة؛ لهذا طلب النائب الشيخين: ابن تيمية والفارقي، فضربهما بين يديه، ورَسَّمَ عليهما بالعذراوية ثم استدعاهما النائب وأَرضاهما،
(1/32)
وادّعى النصراني الإسلام، ثم قُتِلَ في طريقه إِلى الحجاز، قتله ابن أخيه. وعلى إِثر هذه الواقعة أَلَّفَ شيخ الإسلام: "الصارم المسلول على شاتمِ الرسول" فانظر إلى آثار رحمة الله. ويُستفاد من هذا أَن المُحتسب إِذا نصح بأَمر، فلم يقبل منه، وناله في سبيله بعض الأذى فليحتمل ذلك بنفس رضيَّة، ولن يخلو قيامه بالحق من أَثر بإِحسان. وقد نفع الله أهل الإسلام بهذا الكتاب وكسر به المرجئة ونصر به السنة والحمد لله، وما أحوج المسلمين اليوم إلى مدارسة هذا الكتاب وتنفيذ العقوبات الصارمة لكل من يسب الله -عز شأنه- أو رسوله -صلى الله عليه وسلم- أو الإِسلام وقد كثر ذلك -والعياذ بالله- في هذا العصر، وظهر بأشكال مختلفة، ولن يردع الفجار إِلا تنفيذ شرع الرحمن وذلك هو الإِيمان المأمور به، وهو النصر المشروط في قوله سبحانه: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)}. السَّجْنَة الثانية: في القاهرة لمدة عام وستة شهور من يوم الجمعة 26 رمضان 705 سُجن في برجٍ أَيامًا، ثم نُقِلَ إِلى الجُبِّ بقلعة الجبل ليلة العيد 1 شوال 705 ومعه أخواه الشرف عبد الله والزين عبد الرحمن، واستمر إِلى يوم الجمعة 23 ربيع الأول 707. وكان خادمه وتلميذه إِبراهيم الغياني من المرافقين له في سفره هذا إلى مصر. وسببها: ما ذكره ابن كثير في حوادث سنة 705 في المجلس الثالث فلينظر بطوله.
(1/33)
وهي بسبب مسألة العرش ومسألة الكلام ومسألة النزول، وفيها من المواقف البطولية، والصدق في ذات الله ما يملأ النفس بالإِيمان والجد في العمل. وكان مما جرى فيها أن أخاه الشرف، ابتهل، ودعا الله عليهم في حال خروجهم، فمنعه الشيخ وقال له: بل قل: "اللهم هب لهم نورًا يهتدون به إلى الحق". فلِلَّهِ ما أَعظمه من أَدب جمّ، وما أَعظمه من خُلُقٍ رفيع، وهضمٍ للنفسِ، وبحثٍ عن الحقِّ. وإِنّ هذه -وأَيم الله- فائدة تساوي رحلة، وأَين هذه من حالنا، إِذا نِيلَ مِن واحد مِنَّا غضِبَ وسخِطَ، وجلبَ أَنواع الدُّعاء على عدوِّه، فاللهم اجعل لنا ولمن آذانا فيك نورًا نهتدي به إِلى الحق. السَّجْنَة الثالثة: بمصر لمدة أَيام قليلة ابتداء من 3 شوال 707 بسبب استعداء السُّلطة عليه من المتصوفة بالقاهرة؛ لمنعه الاستغاثة والتوسل بالمخلوقين، وكلامه في ابن عربي الحاتمي الصوفي الملحد، فعقد له مجلس فاختلف الحضور بين براءته، وإدانته، وكان في طرف الإدانة القاضي البدر ابن جماعة. عندئذٍ خُيِّرَ بين أُمورٍ ثلاثة: العودة إِلى دمشق، أَو البقاء بالإسكندرية بشروط، أَو الحبس فاختار الحبس، فأَلحّ عليه جماعة من رفاقِه ليسير معهم إِلى دمشق ويقبل الشروط، فوافقهم فركب خيل البريد ليلة 18 شوال 707. وبسببها أَلّف كتابه في الاستغاثة المعروف باسم: "الردّ على البكري".
(1/34)
السَّجنَة الرابعة: بمصر في قاعة الترسيم من آخر شهر شوال سنة 707 إِلى أول سنة 708 أَي لمدة تزيد عن شهرين. ذلك أَنّه لما اختار بعد السجنة الثالثة السفر إِلى دمشق بشروط، رَدُّوهُ من مثانِي الطريق يوم ليلة سفره 18 شوال 707 بمشورة نصر المنبجي الحلولي، الذي له مكانة عند الوالي، فَعُرِضَ الشيخِ على قضاة المالكية، فاختلفوا، فلما رأى الشيخ ذلك قال: "أنا أمضي إِلى الحبس وأتبع ما تقتضيه المصلحة" فعكفَ عليه الناس، زيارة، وتعلّمًا، واستفتاءً. وفيه حصلت له قصة مع رهبان النصارى الثلاثة، وقد ساقها تلميذه الغياني مع وقائع أُخرى في نحو عشر صفحات، فلتُنظر في الجامع: "ص/ 132 - 150". السّجنة الخامسة: الترسيم عليه بالإسكندرية في 1 ربيع الأول 709 إلى 8 شوال 709 دون مرافق معه تحت نظر الولاية. وهذه مكيدة أخرى من نصر المنبجي، والجاشنكير، يتربصان من يغتاله، وفي هذه الحال جاء عنده بعد أيام شمس الدِّين بن سعد الدِّين الحراني، وأَخبره أنهم يسفرونه إِلى الإسكندرية وجاءت المشايخ التدامرة وأَخبروه بذلك، وقالوا له: كل هذا يعملونه حتى توافقهم، وهم عاملون على قتلك، أَو نفيك، أَو حبسك، فقال لهم: "أَنا إِن قتلت كانت لي شهادة، وإِن نفوني كانت لي هجرة، ولو نفوني إِلى قبرص دعوت أَهلها إِلى الله وأجابوني، وإِن حبسوني كان لي معبدًا، وأَنا مثل الغنمة كيفما تقلّبت، تقلّبت على صوف" فيئسوا منه وانصرفوا.
(1/35)
وما هي إِلا شهور ويتولى الملك الناصر محمد بن قلاوون سنة 709 فأفَرج عن الشيخ واستدعاه للقاهرة، وقتل الجاشنكير شَرَّ قِتْلة، وحَمَلَ نصرًا المنبجي ومات في زاويته. وأَراد الناصر أَن ينتقم من القضاة والفقهاء الذين كانوا يوالون الجاشنكير، فاستفتى شيخ الإِسلام ابن تيمية، ففهم الشيخ مقصوده، فشرع في مدحهم والثناء عليهم، وأَنّهم لو ماتوا لم تجد مثلهم في دولتك، أَما أَنا فهم في حل من جهتي. وكان القاضي ابن مخلوف المالكي يقول بعد ذلك: "ما رأينا أَتقى من ابن تيمية، لم نُبْق ممكنًا في السعي فيه، ولما قدر علينا عفا عنا". عندئذٍ نزل الشيخ القاهرة، وسكن بالقرب من مشهد الحسين، والخلق على اختلاف طبقاتهم يترددون عليه، وهو يقول: "أنا أحللت كل من آذاني ومن آذى الله ورسوله فالله ينتقم منه". وحصل له من الإِجلال والتعظيم ما يطول وصفه، وبَسَطَه ابن كثير في سنوات 709 - إلى سنة 712. واستمر إِلى أَن قدم دمشق صحبة السلطان لملاقاة التتر في 8 شوال 712 أَي بعد غيبة في مصر دامت نحو سبع سنين، سُجِنَ ورُسِمَ عليه خلالها أَربع مرات، استغرقت نحو سنتين ونصف، وكان أَخواه معه حتى عاد إِلى دمشق. وحصل خلال إِقامته هذه بمصر خير كثير، ونشر للعلم عظيم، وفيها كانت جملة كبيرة من مؤلفاته منها: "منهاج السنة النبوية" و"الاستقامة" و"تلبيس الجهمية" و"الفتاوى المصرية" وغيرها مما
(1/36)
ذكره ابن رجب في ترجمته. السَّجْنَة السادسة: بدمشق لمدة خمسة أشهر وثمانية وعشرين يومًا، من يوم الخميس 12 رجب 720 إلى يوم الاثنين 10 محرم 721 بسبب مسألة الحلف بالطلاق، وأَنتجت هذه مجموعة كبيرة من الكتب والفتاوى والردود الحافلة، منها: "الرد الكبير على من اعترض عليه في مسألة الحلف بالطلاق". السَّجْنَة السابعة وهي الأخيرة وفيها خاتمة حياته المباركة: بدمشق لمدة عامين وثلاثة أشهر وأربعة عشر يومًا، ابتداء من يوم الاثنين 6 شعبان 726 إلى ليلة وفاته -رحمه الله تعالى- ليلة الاثنين 20 ذي القعدة 728 بسبب مسألة الزيارة، وأنتجت تآليف كثيرة، منها: كتابه: "الرد على الإِخنائي". وفيها حصل له من الفتوح الربانية بالعلم، والعبادة، ما يبهر العقول، وصدر منه من الكتب والرسائل والفتاوى العجب العجاب، مع أنه في آخر وقته مُنِعَ القلم والدواة والكتب والرقاق. وهذه السياقات تفيد أن طريق الإِصلاح شاق وطويل، ومحفوف بالمخاطر، والأذايا، والمكاره، فلابد للدّاعي من الصبر والتحمل، ولكن ليس معنى هذا أن يشحن امرؤ نفسه بالمُشَاقَّة، وليس له رصيد من علم، ولا حصانة من إِخلاص ولا لسان صدق في الأُمة، ثم يقول: لي قدوة بشيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-!! فإِنّ هذا من التعرُّض للبلاء بما لا يُطاق، وله من المردودات السالبة على مسيرة الدعوة والعلم ما لا يخفى، والله لا يُضيع أَجر من أحسنَ عملًا.
(1/37)
ويذكِّرني في الوصية بالصبر في سبيل الدعوة: أنه لما تخرج فوج من الجامعة الإسلامية بمدينة النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد سنة 1385 أعد حفل التخرج وكانت كلمة الأساتذة لشيخنا العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي المتوفى سنة 1393 - رحمه الله تعالى- فأخذ في كلمته يوصي بتقوى الله والصبر على ما يلاقيه الدّاعي إلى الله من المشاق، وقال ما محصله: إن طريق الدعوة شاق وطويل، ومملوء بالشوك والحفر فتسلحوا بالإيمان والصبر والتحمل ... إلخ. فكانت وصية وقعت في القلوب موقعًا، ثم كان من الحضور الشيخ/ محمد محمود الصواف المتوفى سنة 1413 - رحمه الله تعالى- فعقب على ما ذكر، وقال ما محصله: إنّ طريق الدعوة سهل، ومفروش بالورود والرياحين، والعالم الإِسلامي يفتح ذراعيه لاستقبالكم ... إلخ. فَعَقَّب عليه الشيخ الأمين -رحمه الله تعالى- بقوله: إذا كان ما يقوله الصواف صحيحًا فليرجِع إلى مسقط رأسه العراق داعية إلى الله لينظر ماذا سيلاقيه؟! فضجَّت الصالة بالتكبير وانصرف الحضور وهم للأمين شاكرون؟!. 8 - من حياة هذا الإمام التجديدية، ودعوته الإِصلاحية، تعرف معنى التجديد، وأَنه قفو الأثر، وإِحياء السنن، والتوجه مع الدليل، وإِصلاح ما رثَّ من حال الأُمة بالعودة بها إِلى الكتاب والسُّنة، ولهذا صارت دعوته، ومؤلفاته منارًا لأهل الإِسلام. ومن هنا تعرف زيوف الدعوات التجديدية المعاصرة من بعض من شابتهم لوثة في الفكر والاعتقاد. الدعوة إِلى التجديد في الفقه، والتجديد في الأُصول، والتجديد في موازين قبول السنة، وهكذا من دعوات تهدم الدِّين، وتضر بالمسلمين.
(1/38)
ومن سيرة هذا الإِمام المصلح وغيره من أئمة الإِسلام السائرين على هدي الكتاب والسنة يتبين خطأ الموازنة بينهم وبين أصحاب الدعوات التي مسها من الضلالات والبدع ما الله به عليم وإن حقيقة هذه الموازنة إزراء بأئمة الإِسلام حقًّا. والله المستعان. * * *
(1/39)
المدخل الثالث أمثلة من أقواله السائرة
ومن مظاهر قوته في العلم ما له من الأقوال السائرة المتداولة بين العلماء، ومنها: • العلم إما نقل مصدَّق عن معصوم، وإما قول عليه دليل معلوم، وما سوى هذا فإما مزيف مردود، وإما موقوف لا يعلم أنه بهرج ولا منقود. مقدمة التفسير" (73). • العلم إما نقل مصدق، وإما استدلال محقق. مقدمة التفسير" (85). • العلم شيئان إما نقل مصدق، وإما بحث محقق، وما سوى ذلك فهذيان مسروق. الرد على البكري" (2/ 628). • المنطق اليوناني لا يحتاج إليه الذكي ولا ينتفع به البليد. "الرد على المنطقيين" (3). • الأنبياء يخبرون بمَحارات العقول، لا بمُحَالات العقول (1). "الفتاوي" (2/ 312، 11/ 244، 17/ 444)، "درء التعارض" __________ (1) للخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه": (1/ 354) عبارة قريبة من هذه وهي: (الشرع إنما يرد بمحوَّزات العقول، وأما بخلاف العقول فلا) ا. هـ.
(1/41)
(1/ 147، 5/ 297، 7/ 327)، "الجواب الصحيح" (4/ 309، 400)، "بيان تلبيس الجهمية" (1/ 333). • من أراد السعادة الأبدية، فليلزم عتبة العبودية. مدارج السالكين" لابن القيم (1/ 464). • إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة. مدارج السالكين" لابن القيم (1/ 488)، "الوابل الصيب" له. (109). • الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟ "الوابل الصيب" (96). • ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أين رُحْت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة. الوابل الصيب" لابن القيم (109). • المحبوس من حُبِس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه. "الوابل الصيب" لابن القيم (109). • ما ندم من استخار الخالق، وشاور المخلوقين، وثبت في أمره. الوابل الصيب" لابن القيم (158). • هذه غدوتي، ولو لم أتغدَّ هذا الغداء سقطت قوتي.
(1/42)
"الوابل الصيب" (96) وفيه: (وحضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر، ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفت إليَّ، وقال: هذه غدوتي، ولو لم أتغدَّ هذا سقطت قوتي. أو كلامًا قريبًا من هذا). • أنا ألتزم أنه لا يحتج عليَّ مُبْطِل بآية أو حديث صحيح على باطله إلا وفي ذلك الدليل ما يدلُّ على نقيض قوله. "حادي الأرواح" لابن القيم (369)، وينظر: "درء التعارض" (1/ 109). • الزهد ترك ما لا ينفعك، والورع ترك ما يضرك. "عدة الصابرين" لابن القيم (405)، وينظر: "الفتاوي" (10/ 21، 615، 641، 11/ 28). • الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما تخاف ضرره في الآخرة. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 10). • بالصبر واليقين تُنال الإمامةُ في الدين (1). ذكره الشيخ في عددٍ من كتبه. • من فارق الدليل ضل السبيل. __________ (1) عزاه ابن حجر في "الدرر الكامنة" (3/ 401) إلى ابن القيم، ومنشأ الخطأ أن ابن ناصر الدين ساقه في ترجمة ابن القيم في (الرد الوافر) ضمن الأقوال التي يحكيها عن شيخه، فظن الحافظ أنها له.
(1/43)
"مفتاح دار السعادة" لابن القيم (1/ 304). • أهل السنة والعلم والإيمان يعلمون الحق ويرحمون الخلق. "مجموع الفتاوي" (16/ 96). • أئمة السنة والجماعة وأهل العلم والإيمان فيهم العلم والعدل والرحمة. الرد على البكري" (1/ 380). • المتكلمون لا للإسلام نصروا، ولا لعدوه كسروا. "الفتاوى" (5/ 33) (13/ 157) وغيرها كالجهمية من سار على أصولهم، الذين أرادوا الرد على الفلاسفة فاستطالت عليهم الفلاسفة باللوازم الباطلة المرتبة على أصولهم الفاسدة. • إذا اتسعت العقول وتصوراتها اتسعت عباراتها، وإذا ضاقت العقول والعبارات والتصورات بقي صاحبها كأنه محبوس العقل واللسان. "الفتاوي" (9/ 158)، وقال: (كما يصيب أهل المنطق اليوناني، تجدهم من أضيق الناس علمًا وبيانًا وأعجزهم تصورًا وتعبيرًا، ولهذا من كان ذكيًّا إذا تصرف في العلوم وسلك مسلك أهل المنطق طول وضيق وتكلف وتعسف، وغايته بيان البين وإيضاح الواضح من العي، وقد يوقعه ذلك في أنواع من السفسطة التي عافى الله منها من لم يسلك طريقهم ... الخ) ا. هـ. • أقوال العلماء يُحتج لها بالأدلة الشرعية، ولا يحتج بها على الأدلة الشرعية.
(1/44)
"الفتاوي" (26/ 202). • إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 510)، وفيه: (ثم أخبر الناس والأمراء سنة اثنين وسبعمائة - لما تحرك التتار وقصدوا الشام - أن الدائرة والهزيمة عليهم، وأن الظفر والنصر للمسلمين، وأقسم على ذلك أكثر من سبعين يمينًا، فيقال له: قل إن شاء الله. فيقول: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا). "البداية والنهاية" لابن كثير (14/ 23)، وفيه: (وكان الشيخ تقي الدين بن تيمية يحلف للأمراء والناس إنكم في هذه الكرة منصورون، فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله. فيقول: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا. وكان يتأول في ذلك أشياء من كتاب الله قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج: 60] ا. هـ. • من أعظم التقصير نسبة الغلط إلى متكلم مع إمكان تصحيح كلامه. "الفتاوى" (31/ 114). • المؤمن للمؤمن كاليدين، تغسل إحداهما الأخرى، وقد لا ينقلع الوسخ إلا بنوع من الخشونة، لكن ذلك يوجب من النظافة والنعومة ما نحمد معه ذلك التخشين. "الفتاوي" (28/ 53 - 54). • الفتنة لها سببان: إما ضعف العلم، وإما ضعف الصبر، فإن الجهل
(1/45)
والظلم أصل الشر. "الفروع" لابن مفلح (6/ 106). • الرافضة (1) من أكذب الخلق في النقليات، ومن أجهل الخلق في العقليات. "منهاج السنة" (1/ 8). • الرافضة لا عقل صريح ولا نقل صحيح. "درء التعارض" (2/ 15). وينظر (8/ 59). • سفسطة في العقليات وقرمطة في السمعيات (النقليات). بغية المرتاد" (1/ 184، 327)؛ "درء التعارض" (1/ 218، 276، 279، 286، 2/ 15، 5/ 34، 256، 8/ 59)؛ "الصفدية" (1/ 160، 2/ 158) "الفتاوى" (3/ 9، 5/ 291، 552، 9/ 136، 12/ 287، 16/ 272)؛ "الرد على المنطقيين" (144)؛ "المنهاج" (2/ 134)؛ "النبوات" (2/ 625) وغيرها. وقال رحمه الله في "بيان تلبيس الجهمية" (1/ 150): (القرمطة: هي تحريف الكلم عن مواضعه وإفساد الشرع واللغة والعقل بالتمويه والتلبيس ... وسمِّي قرمطة لأن القرامطة هم أشهر الناس بادعاء علم الباطن المخالف للظاهر، ودعوى التأويلات الباطنة المخالفة للظاهر المعلوم المعقول من الكتاب والسنة). وقال أيضا: (السفسطة ... هي جحود الحقائق وجحود __________ (1) في "المنهاج": (القوم).
(1/46)
الخالق). وقال في "درء التعارض" (1/ 279): (هذان النوعان مجمع الكذب والبهتان). • على العباد أن ينظروا إلى القدر في المصائب، وأن يستغفروا من المعائب. "الفتاوى" (3/ 123، 8/ 77، 304، 4545، 11/ 259) "منهاج السنة" (3/ 78). • العبد لابد له من رزق وهو محتاج إلى ذلك، فإذا طلب رزقه من الله صار عبدًا لله فقيرًا إليه، وإذا طلبه من المخلوق صار عبدًا لذلك المخلوق فقيرًا له. "الفتاوى" (10/ 182). • قل أن تعوز النصوص من يكون خبيرًا بها وبدلالتها على الأحكام. "الفتاوى" (28/ 129). وبنحوه في "الاستقامة". • ليس لأحد من الناس أن يلزم الناس أو يوجب عليهم إلا ما أوجبه الله ورسوله. ولا يحظر عليهم إلا ما حظره الله ورسوله، ومن فعل ذلك فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله. "التسعينية" (1/ 175). • كلما كانت حاجة الناس إلى معرفة الشيء وذكره أشد وأكثر كانت معرفتهم به وذكرهم له أعظم وأكثر، وكانت طرق معرفته أظهر وأكثر، وكانت الأسماء المعرفة له أكثر، وكانت معانيه أدل.
(1/47)
"درء التعارض" (3/ 330). • الجاهل في كلامه على الأشخاص والطوائف والمقالات بمنزلة الذباب الذي لا يقع إلا على العقير (1) ولا يقع على الصحيح، والعاقل يزن الأمور جميعًا هذا وهذا. "منهاج السنة" (6/ 150). • إدخال صناعة المنطق في العلوم الصحيحة يطوِّل العبارة ويُبْعد الإشارة، ويجعل القريب من العلم بعيدًا، واليسير منه عسيرًا. "الفتاوى" (9/ 24). * * * __________ (1) أي الجريح.
(1/48)
المدخل الرابع إِفادات شَتَّى عن كتبه
هذه إِفادات منثورة في معارف متنوعة عن كتب هذا الإِمام، تفيد التعريف بها، وبمنزلتها، وتجلي المزيد عن مقامه الفريد في التأليف. ومنها:
الإِفادة الأولى: تاريخ بدايته للتأليف:
شرع في التصنيف وسنه دون العشرين، وحَدَّده تلميذه الحافظ ابن عبد الهادي في "العقود الدرية. ص 55" بنحو سبعة عشر عامًا، أَي عام 677؛ لأن ولادته كانت سنة (661) -رحمه الله تعالى-.
الإفادة الثانية: عددها -لغة الأرقام لها-:
التأليف الأَلْفِي عن اجتهاد مطلق، وتعدد معارف، وتجديد، بقلم مطبوع قائل لا ناقل جَمَّاع، هو من خصائص شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- فلا يعرف في علماء الإسلام من بلغ في كثرة التأليف على هذا المنوال مبلغه، كما ذكره غير واحد من أهل الاستقراء. منهم: تلميذه الحافظ ابن عبد الهادي إِذْ قال في: "العقود الدرية: ص/ 26": "ولا أَعلم أحدًا من متقدِّمي الأُمة ولا متأخريها
(1/49)
جمع مثل ما جمع ولا صنف نحو ما صنف". وقد جمع الحافظ الذهبي منها اسم أَلف مصنف، ثم حصلت له زيادات بعد ذلك كما في: "الرد الوافر لابن ناصر الدِّين ص/ 72" وقَدَّرها في: "خمسمائة مجلد" كما ذكره عنه ابن عبد الهادي في: "العقود الدرية: ص/ 25". وقَدَّرها تلميذه البرزالي في "أَربعة آلاف كراس وأَكثر" كما في: "العقود الدرية لابن عبد الهادي: ص/ 23". على أَن تلميذه ابن عبد الهادي أَشار في كتابه هذا: "ص/65 - 66" إِلى تعذُّر إِحصاء كتب شيخ الإِسلام -رحمه الله تعالى- وذكر أَسباب ذلك، ومما قاله: "لما حُبِسَ: تَفَرَّق أَتباعه وتفرقت كتبه، وخوَّفوا أَصحابه من أَن يُظهروا كتَبه، ذهب كل أَحد بما عنده وأَخفاه ولم يظهروا كتبه، فَبَقَى هذا يهرب بما عنده، وهذا يبيعه أَو يهبه، وهذا يُخفيه ويودعه، حتى إِنّ منهم من تُسرق كتبه، أو تُجحد فلا يستطيع أَن يطلبها ولا يقدر على تخليصها" انتهي. وثمّ أَسبابٌ أُخر، في نسبة بعض كتبه لغيره: منها: كيد أعدائه لإِخفاء فضله، يَنسبون كتابه لغيره. ومنها: خوف أَصحابه من مطاردة السلطة فيلجؤون إِلى تغيير اسم المؤلف. ومنها: جهل مفهرسي الكتب فقد ينسبون الكتاب إِلى ناسخه في حال عدم وجود الورقة الأُولى من الكتاب وهكذا.
(1/50)
وقد طُبعَ منها ما يزيد على مائتين ما بين كتاب في مجلد فأَكثر مثل: "منهاج السنة النبوية" في ثمانية مجلدات، و"درء تعارض العقل والنقل" في "عشر مجلدات" وغيرهما كثير. ومنها رسائل وهي كثيرة جدًّا، وفتاوى وهي أَكثر، وكان الكتاب الجامع الذي حفل بها: "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى" في سبعة وثلاثين مجلدًا منها اثنان للفهارس. جمع وترتيب الشيخ عبد الرحمن بن قاسم المتوفى سنة 1392 وابنه الشيخ محمد (1) -رحمهما الله تعالى- وقد أمضيا -رحمهما الله تعالى- في جمعه وترتيبه وطبعه ما يزيد على ثلاثين عامًا، وهو غرة في جبين الدَّهر. ثم إِنّ الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن قاسم المذكور -رحمه الله تعالى- استدرك عليه كتابًا باسم: "المستدرك على مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" في خمسة أجزاء يحوي عشر رسائل لم تطبع من قبل منها: "قاعدة في الاستحسان" لشيخ الإِسلام -رحمه الله تعالى- والتقاط ما وقع له من اختياراته وكلامه في كتب ابن القيم، والشمس ابن مفلح، والمرداوي. هذا عرض عن عدد مؤلفاته -رحمه الله تعالى- في عددها، __________ (1) توفي الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن قاسم في يوم الاثنين 27/ جمادى الثانية/ 1421 بحادث سيارة بمدينة الرياض. وقد ولد سنة 1345 في بلدة البير. كان رحمه الله تعالى عابدًا زاهدًا منصرفًا عن الناس، أخذ العلم عن والده وعن الشيخ محمد بن إبراهيم ولازمه مدة طويلة، وكان به برًّا فاعتنى بعلمه وفتاويه فنشرها للناس في 13 مجلدًا فجزاه الله خيرًا ورحمه وبارك في ذريته الباقين آمين.
(1/51)
وعدد مجلداتها، وعدد كراريسها، وقول بعضهم بتعذر إحصائها، وأسباب ذلك. نعم سبق ابن تيمية بالتأليف الألفي الإمام المشهور ابن الجوزي الحنبلي المتوفى سنة 597 - رحمه الله تعالى- ذكره شيخ الإِسلام ابن تيمية كما يأتي في: "الإفادة الرابعة: عن مَزَاياها" وسبقهما عبد الملك بن حبيب المالكي صاحب "الموضحة" المتوفى سنة 238 - رحمه الله تعالى- كما في: "ترتيب المدارك" للقاضي عياض -رحمه الله تعالى-. ثم من بعدهم: محمد بن أبي بكر بن جماعة الشافعي المتوفى سنة 819 أحد تلاميذ ابن خلدون -رحمه الله تعالى- ثم ثلاثة تعاصروا: يوسف بن عبد الهادي الحنبلي المعروف بابن المبرد المتوفى سنة 909 - رحمه الله تعالى- والحافظ الجلال السيوطي المتوفى سنة 911 - رحمه الله تعالى- وتلميذهما الشمس بن طولون المتوفى سنة 953 - رحمه الله تعالى- ولدي كتاب مخطوط باسم: "الفلك المشحون فيما انتحله الشمس ابن طولون". أي من كتب شيخه السيوطي لعبد العزيز الغماري. وابن المبرد الحنبلي دَأَبُه اختصار مؤلفات غيره، وابن جماعة جُلُّها شروح، وتعاليق، وحواشٍ، ونكت. والذين صار لهم حظ في نشر مؤلفاتهم وطبعها هم: ابن الجوزي، والسيوطي، وابن تيمية، لكن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- لا ينافسه أحد منهم في نفاسة مؤلفاته ومزاياها التجديدية المتعددة فهو من بينهم "بيت القصيد"، ولهذا تنافس العلماء في تحقيقها وطبعها لأنه الوحيد في علماء الإِسلام في التأليف الألفي على هذا المنوال -رحم الله الجميع-.
(1/52)
الإِفادة الثالثة: موضوع تآليفه:
في كل علومِ الشريعة قد كتب شيخ الإِسلام: في التوحيد وأَصل الدِّين، وما يضاده، والسنة وما يخالفها من البدع والمحدثات، وفي التفسير وأُصوله، والحديث وشرحه ومصطلحه، والفقه وأصوله وقواعدهما، وحكمة التشريع ومقاصد الشريعة ... ويُداخل ذلك من علوم الآلة واللسان والبلاغة والبيان، وأُصول البحث والنقد والمناظرة، والمنطق، ما لو جُمِعَ شتاته لجاء في كل علم منها مؤلفٌ شامل في مجلد أَو مجلدات. ومن نظر في فهارس مجموع الفتاوى رأى ذلك وأَكثر منه. ومن خلال النظر في تسمية مؤلفاته ومضامينها، ومما هو معلوم أن التأليف إِما أَن يكون ابتداءً أو لسبب اقتضاه يمكن أن نستخلص المعارف الآتية عن موضوع مؤلفاته: 1 - ابن تيمية لم يؤلف ابتداءً متونًا على الجادة المعهودة في الفقه مثلًا على الأبواب، وفي الأُصول على الأدلة، وفي التوحيد متنًا شاملًا لمسائل الاعتقاد بأَنواعه الثلاثة، وإِنّما هي فتاوى وأَجوبة وردود وبحوث في مسائل حقق فيها ودقق ومن مجموعها يخرج في كل فن مجلد أَو مجلدات. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في مناظرته حول الواسطية: "وأما الكتب فما كتبت إلى أحد كتابًا ابتداءً أدعوه به إلى شيء من ذلك، ولكنني كتبت أجوبة أجبت بها من يسألني من أهل الديار المصرية وغيرهم ... " انتهى من: "العقود الدرية: ص/ 208".
(1/53)
2 - جُلُّ تآليفه في دائرة الردود وهي غير مردودة، والفتاوى وأَجوبة السائلين والمعترضين وهي أجوبة مسددة محمودة. وتقرير القواعد، والأَمالي في تفسير سورة أو آيات أو آية أَو حديث أَو أَثر. وعامتها تَسْبحُ في فلك التوحيد والاعتقاد والرد على أَهل الملل والفرق المخالفين. كما بيَّن تلميذه البزّار في كتابه: "الأعلام العلية ص/ 35 - 37" وتلميذه ابن عبد الهادي في: "العقود الدرية ص/ 38" وغيرها مما هو في دائرة الفقه ومسائله. 3 - ربما كتب تأليفًا للتذكُّر كما ذكره ابن عبد الهادي. ص/ 21 قال: "قال الشيخ أبو عبد الله بن رُشَيِّق ... ورأيت له سورًا أو آيات يفسرها يقول في بعضها: كتبته للتذكُّر" انتهى. 4 - ويكتب ابتداء رسائله وهو في السجن إلى والدته، وإِلى إِخوانه، ومناصحاته للولاة، ووصاياه للعلماء وهكذا. 5 - ويكتب ابتداء بعض الشروح وهي محدودة: - شرح المحرر. وهي تعليقة في مجلدات. - شرح العمدة للموفق ابن قدامة. ربع العبادات فقط. - شرح رسالة ابن عبدوس في كلام الإِمام أحمد في الأصول. - شرح قصيدة في الجبر والاختيار. - شرح أول المحصل للرازي. - شرح أول كتاب الغزنوي في أُصول الدِّين.
(1/54)
- شرح العقيدة الإِصفهانية. 6 - بلغت فتاويه مبلغًا عظيمًا في الفقهيات وتحرير الخلاف فيها مما شمل جميع أَبواب الفقه. وكان أمره في الفتيا عجبًا يأتيه الاستفتاء ويعد الفتوى عليه حالًا كأنه قاعد للفتيا يعدها.
الرابعة: مَزَايَاها:
إِن كتب شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- لفتت أَنظار العلماء، فلابد أَن يلفتوا النظر إِلى مزاياها وخصائصها، ومنها: 1 - أنه -رحمه الله تعالى- في تآليفه مطبوع قائل لا ناقل، وإنما النقل عنده؛ للتدليل والإِسناد، لا أنه مادة الكتاب؛ ولهذا يستشعر قارئ كلامه أنه كماء منهمر، وغيث منسجم. 2 - ليس له فيها على غير الدليل مُعَوَّل، فلا يستشكل نصوص الوحيين، بل يستشكل الآراء المخالفة لها بأَيٍّ من المعارضات الأَربع: المعقول. القياس. الذوق. السياسة فَيُهْدِرُها، ويُخَلِّصُ النصوص من شائبة إِيرادها؛ ولذا كان في الترجيِح والاختيار ينشد الدليل، ويجرد المتابعة له، ولمدلوله، وأنّ الحق في واحد من القولين، وأَنّ كل إِنسان عند نفسه مصيب لا أَن كل واحد مصيب، وهذا شأن من ينصر الله ورسوله، ويخاف مقامه بين يدي الله -تعالى-. وصدق تلميذه الواسطي حين قال في: "التذكرة والاعتبار": "تستجلى النبوة المحمدية من دعوته" ولسان حاله يُنشد قول أبي محمد بن حزم رحمه الله تعالى:
(1/55)
مُناي من الدُّنيا علوم أَبثها ... وأنثرها في كل بادٍ وحاضر دعاء إلى القرآن والسنن التي ... تناسى رجال ذكرها في المحاضر 3 - تقديم أَقوال الصحابة -رضي الله عنهم- على من سواهم؛ لدلالة الكتاب والسُّنة والقياس عليها. 4 - عنايته -رحمه الله تعالى- بِعِلَل الأَحكام وأَوصافها المناسبة ومداركها، ووجوه الاستدلال منها. 5 - تميزها بالفقه المقاصدي للتشريع، ونشر محاسن الشريعة وحِكمها. والتميز بالفقه المقاصدي هو في دائرة الضروريات الخمس، لا على جادة بعض من ينادي به في عصرنا فيفتح باب العبارة الفاجرة: "حرية التعبير" وتشمل "حرية الدين، حرية الفكر، حرية المعتقد، حرية اللسان"، ويلغي علل الأحكام وأوصافها بما بدايته ونهايته خروج عن الشريعة -والله المستعان-. 6 - السعة والشُّمول التي فاق بها غيره من ذكر الخلاف وأَدلته ووجوه الاستدلال منها وإِجراء الحِجاج بين طرفي الخلاف، أو أَطرافه، وتمحيص الأَدلة صحةً وضعفًا. والسعة والشمول في تعدد معارفه وعلومه، فليست كتاباته -رحمه الله تعالى- جافة؛ بل وأنت تقرأ له في أي علم تستفيد علومًا أخرى: علوم شريعة، وعلوم آلة، وما إلى ذلك، وكان -رحمه الله تعالى- يطرز ما يكتبه بالأحداث والوقائع التاريخية، وهذا من نفاذ بصيرته بالتاريخ، وإذا علمنا أن شيخ الإِسلام ابن تيمية
(1/56)
-رحمه الله تعالى- هو المحدِّث الشهير، فإِن التاريخ إنما وُلِدَ في أحضان المحدِّثين، ولهذا قال تلميذه ابن عبد الهادي نقلًا عن تلميذه الذهبي: "ومعرفته بالتاريخ والسير فعجب عجيب" أحداثًا، ودولًا، ورجالًا، ومللًا، ونحلًا. وقال محمد كُرد علي في: "كنوز الأجداد. ص/ 349": "ولو لم يكن له إلَّا: "منهاج السنة" لكفاه على الأَيام فخرًا لا يبلى، ففيه مثال من علمه وقوة حجته ومعرفته بالملل والنحل، وإذا قلنا: إنّه لم يؤلف نظيره في الرد على المخالفين لأهل السنة؛ لَصدَّقَنا كل منصف من أهل القبلة. وكتاب: "منهاج السنة" من أصح الشهادات على علو كعبه في معرفة الشرع وما تقلب عليه، وما حاول بعض أهل الأهواء من العبث به، وفيما أورده الموافقون والمخالفون من صحيح الآراء وبهرجها، وكان عنوان مداركه الواسعة بتاريخ الإِسلام وتاريخ الملل والنحل، ولو ادَّعينا أنه لم يأتِ عالم يعرف ما طرأ على الدين ومذاهب أهله فيه ساعة ساعة ويومًا يومًا ما قدر أحد على رد دعوانا" انتهى. وصدق من قال: ليس بإنسان ولا عاقل ... من لا يعي التاريخ في صدره ومن حوى التاريخ في صدره ... أضاف أعمارًا إلى عمره ولهذين البيتين نظائر في: "الإِعلان بالتوبيخ" للسخاوي. 7 - تنوع الفوائد في بحث المسألة الواحدة بالاستطراد التناسبي، وهذه الميزة لا يقدر عليها إلا كَمَلَةُ الحفظةِ، وأَوعيةُ العلم من
(1/57)
كل طبقة، وهي من تمام نصحه وجُوْده بالعلم. وهذه طريقة الكتاب والسنة، فقد سُئِلَ النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الوضوء من ماء البحر فقال: "هو الطّهور ماؤه الحل ميتته" رواه أصحاب السنن. 8 - ومنها حُسْنُ التَّرتيب، وجودة التصنيف، وانظر مثالًا لذلك: "اقتضاء الصراط المستقيم". 9 - ومنها مزية التكرار، فله في المسألة الواحدة: الرسالة، والرسالتان، وله الفتوى فأَكثر وتجد في كل واحدة ما ليس في الأُخرى من زيادة العلم والبيان، وهذه حسب أَحوال السائلين وتفاوت الأزمان، وغير ذلك من الأسباب. وطريقة القرآن الكريم التكرار كما في قصص الأنبياء -عليهم السلام-، وقد اشتهر بهذه الطريقة البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه؛ ولهذا قالوا في المفاضلة بينه وبين صحيح مسلم: قالوا المكرر فيه ... قُلت المكرر أَحلى 10 - العدل والإنصاف والدقة في بحث المسائل العلمية وحال مقارعة الخصوم وعدم الافتراء عليهم، حتى صارت كتبه مرجعًا أمينًا يطمئن إليها العلماء ويبنون عليها أحكامهم، وهذا أثر من آثار الاستمساك بالكتاب والسنة ومحبة الحق ورحمة الخلق والتجرد عن الهوى، وهذه الميزة تستحق أن تفرد بالبحث والدرس. 11 - نفسه التواقة إلى إِصلاح أَحوال الناس، فيتلمس فيما يكتب
(1/58)
واقع الناس وحاجاتهم، وهذا من تمام التأسِّي والاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وشريعته الغَرَّاء. 12 - السجية المتدفقة بالجاذبية في صياغته وأُسلوبه؛ لما فيها من الجزالة من جهة، والعذوبة من جهة أُخرى وإحياء الألفاظ الموروثة عن أصائل صدر هذه الأمة، كارهًا الموَلَّد والدَّخيل، وهما من مفردات المعبر عنه في عصرنا بـ "حرية التعبير"؛ لما تؤدِّي إليه من الهجنة والبدعة. 13 - وهذه الميزات أَولًا وآخرًا مؤسسة على الاتِّباع، والضراعة والابتهال، وحسن النية والصدق، مما نرجو أَن يكون له نصيب كبير من: "العلم اللدني" وأَنّه من حَمَلة القلوب الطاهرة. وفي هذا القدر كفاية، ولا أُريد إِثقاله بالنقول، وأَكتفي بشذرات من كلام تلميذيه الحافظين ابن عبد الهادي وابن القيم -رحمهما الله تعالى-: قال ابن عبد الهادي -رحمه الله تعالى- في: "العقود الدرية/ ص 7": "له اليد الطولى في حُسن التصنيف وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتبيين" انتهى. وأَشار -رحمه الله تعالى- في ص/7: إِلى قدرته على مَدِّ النَّفَس، فيؤلِّف في فرعية مجلدة كبيرة دون الخروج عنها. وقال في: "الصارم المنكي: ص/ 71": "وقَد عَلِمَ الخاص والعام أَن كلام شيخ الإسلام في سائر أَنواع علوم الإسلام فيه من التحرير والتحقيق وغاية البيان والإيضاح وتقريب المعاني إِلى
(1/59)
الأفهام وحسن التعليم والإِرشاد إِلى الطريق القويم ما يضيق هذا الموضع عن ذكره" انتهى. وقال تلميذه الإمام الحافظ ابن القيم -رحمه الله تعالى- في: "مدارج السالكين: 2/ 293، 295": (و"الجود" عشر مراتب، ثم قال: الرابعة: الجود بالعلم وبذله. وهو من أَعلى مراتب الجود. والجود به أَفضل من الجود بالمال. لأَن العلم أَشرف من المال. والناس في الجود به على مراتب متفاوتة. وقد اقتضت حكمة الله وتقديره النافذ: أَن لا ينفع به بخيلًا أبدًا. ومن الجود به: أن تبذله لمن يسألك عنه، بل تطرحه عليه طرحًا. ومن الجود بالعلم: أَن السائل إِذا سألك عن مسألة: استقصيت له جوابها جوابًا شافيًا، لا يكون جوابك له بقدر ما تدفع به الضرورة، كما كان بعضهم يكتب في جواب الفتيا "نعم" أو "لا" مقتصرًا عليها. ولقد شاهدت من شيخ الإِسلام ابن تيمية -قدّس الله روحه- في ذلك أَمرًا عجيبًا: كان إِذا سُئِلَ عن مسألة حُكمية، ذكر في جوابها مذاهب الأئمة الأربعة، إِذا قدر، ومأخذ الخلاف، وترجيح القول الراجح. وذكر متعلقات المسألة التي ربما تكون أَنفع للسائل من مسألته. فيكون فرحه بتلك المتعلقات، واللوازم: أَعظم من فرحه بمسألته. وهذه
(1/60)
فتاويه -رحمه الله- بين الناس. فمن أَحب الوقوف عليها رأى ذلك. فمن جود الإنسان بالعلم: أنه لا يقتصر على مسألة السائل؛ بل يذكر له نظائرها ومتعلقها ومأخذها، بحيث يشفيه ويكفيه. وقد سأل الصحابة رضي الله عنهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عن المتوضئ بماء البحر؟ فقال: "هو الطهور ماؤه، الحِلُّ ميتته" فأَجابهم عن سؤالهم. وجاد عليهم بما لعلهم في بعض الأحيان إليه أَحوج مما سألوه عنه. وكانوا إِذا سألوه عن الحكم نبههم على علته وحكمته. كما سألوه عن بيع الرطب بالتمر؟ فقال: "أينقص الرطب إذا جَفَّ؟ قالوا: نعم. قال: فلا. إِذًا" ولم يكن يخفى عليه -صلى الله عليه وسلم- نقصان الرطب بجفافه، ولكن نبههم على علة الحكم. وهذا كثير جدًّا في أجوبته -صلى الله عليه وسلم- مثل قوله: "إن بعتَ من أخيك ثمرة فأصابتها جائحة فلا يحل لك أن تأخذ من مال أخيك شيئًا، بمَ يأخذ أحدكم مال أخيه، بغير حق؟ " وفي لفظ: "أرأيت إِن منعَ الله الثمرة: بم يأخذ أحدكم مال أخيه، بغير حق؟ " فصرح بالعلة التي يحرم لأجلها إِلزامه بالثمن. وهي مَنْعُ الله الثمرة التي ليس للمشتري فيها صنع. وكان خصومه -يعني شيخ الإِسلام ابن تيمية- يعيبونه بذلك. ويقولون.: سأله السائل عن طريق مصر -مثلًا- فيذكر له معها طريق مكة، والمدينة، وخراسان، والعراق، والهند، وأي حاجة بالسائل إلى ذلك؟. ولعمر الله ليس ذلك بعيب، وإنما العيب: الجهل والكبر. وهذا موضع المثل المشهور:
(1/61)
لقبوه بحامضٍ وهو خل ... مثل من لم يصل إِلى العنقود" انتهى. ومن هذا الفقه المقاصدي كان رأيه أنه لا يجوز لمالك الكتب منع إعارتها، ويقول: "لا ينبغي أن يمنع العلم من يطلبه" كما في: "الأعلام العلية: ص/ 66، والكواكب الدرية: ص/ 87".
الخامسة: موارده فيها:
حسبي من ذكر موارده ما يلفت نظر المشتغل بتحقيق كتبه لمراعاته عند التحقيق وهي: 1 - القرآن الكريم: دَأَبُهُ -رحمه الله تعالى- الاستدلال على الأحكام عقدية أَو فقهية أَو غيرهما بآيات القرآن الكريم، والاستكثار من سياقها، وهو عجيب في انتزاعها، واستجلاء جلائل المعاني منها. ومما يجدر التنبيه عليه هنا أن القراءة السائدة في بلاد الشام، ومصر، واليمن في عصره هي قراءة أَبي عمرو بن العلاء البصري المتوفى سنة 154 - رحمه الله تعالى-، لقول ابن الجزري المتوفى سنة 833 - رحمه الله تعالى- في: "النهاية في طبقات القراء: 1/ 292". فلينظر فإنّه مهم. وهي الآن السائَدة في السودان والحبشة. فينبغي عند تحقيق كتبه وبخاصة التي بخطِّه -رحمه الله تعالى- أو التي يقتضيها السياق عدم التصرف في الرسم للآيات التي يستشهد بها؛ حتى تكون على وفق رسم المصاحف السائدة في عصرنا
(1/62)
لأهل المشرق حفص عن عاصم، ولأهل المغرب وَرْش وقالون عن نافع، بل تبقى على رسمها الموافق لقراءة من القراآت المتواترة لأهل ذلك القطر. ومن أمثلة ذلك أن شيخ الإِسلام في كتابه: "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" -قال: "وقال تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23)} أي: رأى جبريل عليه السلام {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِيْن} أي: بمتهم، وفي القراءة الأخرى: {بِضَنِينٍ (24)} أي: ببخيل ... " وهنا لا بد من رسم القراءة الأولى بالظاء المشالة؛ لأنها قراءة أبي عمرو وغيره السائدة في بلاد الشام آنذاك، ورسم القراءة الأخرى يكون بالضاد وإلا لم يظهر الفرق بين القراءتين!!. وقد جاء في بعض طبعات الكتاب رسم القراءتين برسم واحد؟! ولكنها على الصواب في طبعة ابن قاسم -رحمه الله- المدرجة في "مجموع الفتاوى: 10/ 274"، وطبعة ابن مانع -رحمه الله- المدرجة في "مجموعة التوحيد: ص/ 787". وكان الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله تعالى- أَشار إِلى مثل ذلك في مقدمة تحقيقه لكتاب: "الرسالة" للشافعي -رحمه الله تعالى- ص 14/ حاشية 4، فله -رحمه الله تعالى- فضل التنبيه عليه، وإن كان يعسر القيام به. 2 - الحديث الشريف: كشأنه في الاستدلال بآيات القرآن، لكن مع خبرته التامة بكتب الحديث صحاحًا وسُننًا ومعاجم ومسانيد وأَجزاء وغيرها، فإِنّ سياقه للسنن يكون في الكثير الغالب عن عُمد كتب السنة ومشاهيرها ليس كمن يتلقف غرائب الروايات من
(1/63)
مكان بعيد ويهجر الصحيح من مكان قريب. وينبغي لمن يعاني تحقيق شيء من كتبه الالتفات إِلى ما يأتي: أ- أمر معلوم تعدد روايات كتب الحديث؛ ولهذا تعدد كثير من أَلفاظها، كما في كتب اختلاف الموطآت وغيرها، وأَن عددًا من كتب الحديث المطبوعة الآن هي من رواية واحدة فحسب، كسنن أَبي داود فإِنّ النسخة المطبوعة هي على رواية اللؤلؤي مع أَن رواية ابن داسَّة كانت مشهورة متداولة في عصر شيخ الإِسلام -رحمه الله تعالى-. ب- أَن شيخ الإِسلام -رحمه الله تعالى- قد يسوق الحديث بالمعنى. لهذين الأمرين فإِنّ بعض من يشتغل بتحقيق أيٍّ من كتبه يجد الاختلاف في لفظ الحديث بين ما هو في المخطوط وبين ما في يده من كتب الحديث المطبوعة فيعدل النص في أصل الكتاب؟! وهذا تصرف غير مقبول، والمسلك الصحيح إِثبات النص كما وجده، والتنبيه على ما لديه في الحاشية. 3 - كتب العلم: شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- وإن كان يملي أكثر تصانيفه من حفظه، ويؤلف الكتاب في قعدة واحدة، أو في ليلة واحدة، وكثير منها صنفه في الحبس وليس عنده ما يحتاج إليه من الكتب، فإِنّه -رحمه الله تعالى- يحيط خُبرًا بكتب أهل العلم إحاطة عظيمة.
(1/64)
قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- في ترجمة شيخ الإِسلام من: "الذيل: 2/ 387": "وقد أَمَدَّه الله بكثرة الكتب". ووصفه عامة مترجميه بأنه قرأ بنفسه كثيرًا من الكتب ونسخ الطِّباق والأثبات. وقال ابن رجب في ترجمة ابن الجوزي في: "الذيل: 1/ 415": إن شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- قال: "له مصنفات في أمور كثيرة حتى عددتها فرأيتها أكثر من ألف مصنف ورأيت بعد ذلك ما لم أره". انتهى. وقال -رحمه الله تعالى- في: "الفتاوى: 6/ 394": "وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة وما رووه من الحديث ووقفت من ذلك على ما شاء الله من الكتب الكبار والصغار، أكثر من مائة تفسير فلم أجد إلى ساعتي هذه عن أحد من الصحابة أنه تأول شيئًا من آيات الصفات ... " انتهى. وقال تلميذه الصفدي -رحمه الله تعالى- في: "الوافي: 7/ 15 ": "حكى لي من سمعه يقول: إني وقفت على مائة وعشرين تفسيرًا، أستحضر من الجميع الصحيح الذي فيها، أو كما قال" انتهى. ولذا فهو يعتمد الرجوع إِلى كتب أَهل العلم في المسألة التي يكتب فيها حتى إنه وهو في مصر يطلب إرسال بعض الكتب من مكتبته في دمشق، ففي: "العقود الدرية. ص/ 188 - 189" ساق ابن عبد الهادي -رحمه الله تعالى- كتاب الشيخ إِلى أَقاربه بدمشق، وفيه ما نصه: "وقد أرسلت إِليكم كتابًا أطلب ما صنفته في أمر الكنائس، وهي كراريس بخطي قطع النصف البلدي، فترسلون ذلك -إن شاء الله
(1/65)
تعالى- وتستعينون على ذلك بالشيخ جمال الدين المزي، فإِنه يُقَلِّب الكتب ويخرج المطلوب. وترسلون أيضًا من تعليق القاضي أَبي يعلى، الذي بخط القاضي أبي الحسين، إن أمكن الجميع، وهو أحد عشر مجلدًا، وإلا فمن أوله مجلدًا أو مجلدين أو ثلاثة، وذكر كتبًا يطلبها منهم" انتهى. وله هنا مواقف (1) : 1 - أَحيانًا يعتذر عن عدم الوقوف على مصنف فيها. قال في "الفتاوى: 13/ 49": (وأقوال الخوارج إِنما عرفناها من نقل الناس عنهم ولم نقف لهم على كتاب مصنف) انتهى. 2 - وأَحيانًا يفيد أن للمسألة موارد كثيرة لكن حين كتابتها لم يكن لديه منها شيء. قال في: "الفتاوى: 10/ 765": (وحين كتبت هذا الجواب لم يكن عندي من الكتب ما يستعان به على الجواب فإِن له موارد واسعة) انتهى. 3 - وأحيانًا يطالع على الآية الواحدة مائة تفسير، كما في: "العقود الدرية ص/ 21". 4 - وإذا نقل من كتاب ليس لديه منه إِلَّا نسخة واحدة وفي النص اشتباه نَبَّه على ذلك كما قال في المناسك من: "شرح العمدة: 2/ 345" .. "وهو إن لم يكن غلطًا في النسخة فإنّه وهم والله أعلم". انتهى. __________ (1) النقول الآتية مستفادة بوساطة مقدمة كتاب: "العقوبات التعزيرية عند ابن تيمية" للشيخ عبد العزيز الضويحي.
(1/66)
5 - وإِذا اختلفت النسخ التي بين يديه بَيَّن ذلك. ومنه قوله في: "درء تعارض العقل والنقل: 5/ 176": "ولا يكون شيئين مختلفين، وفي نسخة: ولا يُوصف بوصفين مختلفين" انتهى. 6 - وإذا كانت النسخة التي يرجع إليها متميزة في الصحة أَشار إِلى ذلك. ومنه قوله في المناسك من: "شرح العمدة: 2/ 531": "فإِنِّي نقلت رواية حرب من أَصل متقن قديم من أَصح الأُصول" انتهى. لهذا فعلى المشتغل بتحقيق كتابٍ ما لشيخ الإِسلام أَو لغيره إِذا كان الكتاب الذي نقل منه ابن تيمية مطبوعًا، والنص المنقول منه يخالف المطبوع فلا يُغَلِّط المطبوع ولا يُغَلِّط شيخ الإِسلام بل عليه أن يثبت نص المخطوط في أصل الكتاب، ويشير إِلى الاختلاف الذي وجده، وإِن كان له رأي بَيَّنَهُ، علمًا أن بعض العلماء قد يتسمح باختصار النقل بما لا يغير المعنى والله أعلم ..
السادسة: أَسماؤها:
إِنَّ القليل من مؤلفات ابن تيمية -رحمه الله تعالى- هو الذي يضع له اسمًا، وإِذا أَشار إِليه في كتاب آخر، ذكره باسم يفيد موضوعه، وقد يسميه على طرة كتابه ولا يسميه في مقدمته مثل: "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح"، قال ابن عبد الهادي في: "العقود الدرية ص/ 22": "ومنها كتاب الرد على النصارى
(1/67)
الذي سمّاه: الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح"، وقد يسميه في بعض مؤلفاته ولا يسميه في مقدمة ذلك الكتاب نفسه، مثل: "الصارم المسلول على شاتم الرسول -صلى الله عليه وسلم- " فإِنّه لم يسمه في مقدمته وإنما وجدت التسمية مثبتة على النسخ الخطية وقد سمَّاه هو بذلك في كتابه: "منهاج السنة النبوية: 4/ 442". أَما الكثير منها لا سيما أَجوبته وفتاويه، ورسائله الصغيرة ووصاياه، فيندر تسميتها؛ لهذا فإِنّ تلاميذه أَو من بعدهم على تتابع القرون قد يضعون اسمًا لها، وقد يوضع لها أَكثر من اسم. كما في الردّ على ابن سبعين تُسمى السبعينية وتُسمى بأسماء أُخر، كما في مقدمة تحقيق: "الصارم المسلول". ومن هنا يحصل الغلط في جعل الكتاب الواحد كتابين، ويصعب حصرها نظريًّا بلا تكرار. ولما عَدَّ ابن عبد الهادي مؤلفاته في: "العقود الدرية ص/ 26" قال: "وكتاب تحرير الكلام في حادثة الأقسام" وسماه بعضهم: "كتاب التحرير في مسألة حفير". وقال: ص/27: "وكتاب مسائل الإِسكندرية في الرد على الملاحدة والاتحادية" وتعريف بـ "السبعينية". وعلى العكس من ذلك فإِن له في المسألة الواحدة عدة مصنفات وقواعد، وفتاوى، ولا يسميها، فيظن بعضهم أنها اسم لكتاب واحد. قال ابن عبد الهادي في: "العقود الدرية ص/ 28": "وله في الرد على من قال: إن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين، عدة مصنفات، وله في الرد على منكري المعاد، قواعد كثيرة".
(1/68)
ثم ذكر من هذا مؤلفات كثيرة في الموضوع الواحد.
السابعة: الاختلاف في عدد مجلدات الكتاب الواحد.
أشار تلميذه الحافظ ابن عبد الهادي -رحمه الله تعالى- في: "العقود الدرية ص/23" إِلى أن كثيرًا من كتبه الكبار تختلف النسخ بأَعداد مجلداتها، وهذا بحسب حجم الورق وعدد السطور فيه وعدد الكلمات في كل سطر، وذكر منها: "بيان تلبيس الجهمية" في ست مجلدات وبعض النسخ منه في أكثر من ذلك، "جواب الاعتراضات المصرية" في أَربع مجلدات وبعض النسخ منه في أقل، "منهاج السنة النبوية" في ثلاث مجلدات، وبعض النسخ في أربع مجلدات. وهكذا مما تراه في ثبت كتبه عند ابن عبد الهادي وغيره.
الثامنة: الإملاء من حفظه:
كان -رحمه الله تعالى- يكتب من حفظه لا سيما وهو في السجن، وينسب الأقوال إلى قائليها، ثم تأتي بعد المقابلة كما نقل (1). قال ابن عبد الهادي في: "العقود الدرية ص/ 47": "قال الشيخ أبو عبد اللّه: لو أراد الشيخ تقي الدِّين أو غيره حصرها -يعني مؤلفات الشيخ- لما قدروا لأنه ما زال يكتب، وقد مَنَّ الله عليه بسرعة __________ (1) انظر: مقدمة كتاب: "موقف ابن تيمية من الأشاعرة: 1/ 202" للشيخ عبد الرحمن بن صالح المحمود.
(1/69)
الكتابة ويكتب من حفظه من غير نقل. وأَخبرني غير واحد أَنّه كتب مجلدًا لطيفًا في يوم، وكتب غير مرة أربعين ورقة في جلسة وأَكثر، وأَحصيت ما كتبه وبيّضه في يوم فكان ثمان كراريس في مسألة من أشكل المسائل، وكان يكتب السؤال الواحد مجلدًا ... " انتهى. ومنها إِجازته لأولاد صاحب سبْتَة وهي أكثر من ستمائة سطر أملاها من حفظه بأسانيده وهو في سجن الإِسكندرية كما في: "الذيل لابن رجب: 2/ 391". وفي الإفادة بعدها زيادة دلائل.
التاسعة: ما أَلَّفه في قَعْدة واحدة:
مضى في: "الإفادة الثامنة" بعض من هذا، وذكر شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في: "الفتاوى: 3/ 194": أنه كتب "العقيدة الواسطية" وهو قاعد بعد العصر. وذكر فيها أيضًا: (28/ 244) أنه كتب كتاب: "السياسة الشرعية" في ليلة واحدة. وذكر فيها: (12/ 116) أنه كتب "مسألة الأحرف التي أنزلها الله على آدم" في قعدة واحدة وهي في (80) صفحة. ومثله في (12/ 416) في المسألة "الكيلانية": (12/ 323 - 501). وذكر تلميذه الحافظ ابن عبد الهادي -رحمه الله تعالى- في: "العقود الدرية ص/ 49": أنه أملى "الحموية" بين الظهرين سنة 698، أي وعمره سبع وثلاثون سنة.
(1/70)
وهذه الأمثلة الثلاثة غاية في سرعة التأليف، وقوة الحافظة، وهي في عصرنا تُدَرَّس في المعاهد والجامعات، ولحقها من الشروح، والتعليقات، الخير الكثير.
العاشرة: التكرار:
التكرار من أَساليب القرآن الكريم في قصص الأنبياء والمرسلين، وفي جملة من أحكام الدين وفي آيات التوحيد، والترغيب والترهيب، ومثله في السنة المطهرة، وهو ظاهر جدًّا في صحيح البخاري. والتكرار عند شيخ الإِسلام يكون من ثلاث جهات: تكرار المسألة في الكتاب الواحد، أو في كتاب آخر فأكثر، أو جعل مصنفين فيها فأكثر. وهذا التكرار بأنواعه الثلاثة سمة بارزة في آثار شيخ الإِسلام؛ لأنه قل أن يكتب ابتداءً، فكتابته إِما فتيا لسائل، أو جوابًا على معترض، أَو ردًّا على مخالف فيحصل تكرر المسألة بحكم تكرر هذه الأسباب وغيرها. ولهذا قال تلميذه ابن عبد الهادي في: "العقود الدرية: ص/ 20": "وله في غير مسألة مصنف مفرد في مجلد" انتهى. وقال في: ص/27: "وله في مسألة القرآن مؤلفات كثيرة وأجوبة وغير ذلك ... ". وذكر من مكرراته في التصنيف أَشياء كثيرة جدًّا تُعرف من النظر في ثبت مصنفاته ص/ 21 - 47.
(1/71)
الحادية عشرة: قراءتها عليه:
قال تلميذه الحافظ ابن عبد الهادي -رحمه الله تعالى- في: "العقود الدرية ص/327": "كان يُقرأ عليه في تلك المدة من كتبه، وهو يصلح فيها ويزيد وينقص" انتهى. وقال تلميذه الإِمام الحافظ ابن القيم -رحمه الله تعالى- في: "النونية" كما في: "الجامع: ص/278": بعد أن عَدَّ جملة من كتبه الكبار: وقرأت أكثرها عليه فزادني ... والله في علم وفي إيمان وقد شرح العلامة محمود شكري الآلوسي ما نظمه ابن القيم في أثناء رده على النبهاني الضال في كتابه النفيس المسمى بـ: "غاية الأماني في الرد على النبهاني: 1/ 379 فما بعدها".
الثانية عشرة: تبييضها:
يُراد بتبييض الكتاب نقله من خط مؤلفه لتكثر نسخه وينتشر حتى لا يضيع ولا يفتقد، كما يفهم ذلك من كلام تلميذه الحافظ ابن عبد الهادي -رحمه الله تعالى- في: "العقود الدرية": في المواضع الآتية: 1 - قوله في: ص/29: "وله في الطلاق، ومسائل الخلع وما يتعلق بذلك من الأحكام شيء كثير، ومصنفات عديدة، بَيَّض الأصحاب من ذلك كثيرًا، وكثير منه لم يبيض، ومجموع ذلك نحو العشرين مجلدًا" انتهى. 2 - وقوله في: ص/29: "وله قواعد كثيرة في فروع الفقه لم تبيض بعد، ولو بيضت كانت مجلدات عدة" انتهى.
(1/72)
3 - وقال في: ص/ 45: "وله في الأحاديث وشروحها شيء كثير جدًّا، منها ما بيض، ومنها ما لم يبيض، ولو بيض لبلغ مجلدات عديدة" انتهى. 4 - ومنها قوله في: ص/48: "وله تصانيف كثيرة وتعاليق مفيدة في الفروع والأُصول، كمل منها جملة وبيضت وكتبت عنه، وجملة كثيرة لم يكملها، وجملة كملها ولكن لم تبيض" انتهى.
الثالثة عشرة: ما لم يَكْمُل منها:
في آخر الإفادة قبل هذه قول ابن عبد الهادي وفيه: "جملة كثيرة -أي من كتبه- لم يكملها, ولكن لم تبيض" انتهى. وهذه الكتب الكثيرة التي لم يكملها, لم أقف منها إلا على الآتي كما في: "العقود الدرية: ص/ 37". 1 - شرح العمدة في الفقه للموفق ابن قدامة. ربع العبادات فقط. 2 - شرح المحرر، وهو تعليقة في مجلدات لم تكتمل. 3 - نقض التأسيس، لم يكمله إلى الآخر. 4 - شرح أول كتاب الغزنوي في أصول الدِّين. 5 - شرح أول المحصل للرازي.
الرابعة عشرة: كتبه التي أُوذي بسببها (1):
مضى ذكر شيء من ذلك في بيان سجناته من: "المدخل __________ (1) في كتاب: "موقف ابن تيمية من الأشاعرة: 1/ 174 - 197" للشيخ عبد الرحمن بن صالح المحمود، عرض مفصل عنها.
(1/73)
الأول"، ويمكن بيان فتاويه التي أوذي بسببها فيما يأتي: 1 - الحموية الكبرى, جرت له بسببها أُمور ومحن كما في: "العقود الدرية. ص/ 132 - 170، 249". 2 - العقيدة الواسطية، كما في مواضع من: "العقود الدرية". 3 - مسألة منع شد الرحال إلى القبور، كما في: "العقود الدرية ص/217 - 240". 4 - فتاويه في الطلاق لا سيما جعل الطلاق الثلاث بلفظ واحد واحدة. "العقود الدرية ص/ 215 - 216".
الخامسة عشرة: مكان تأليفها:
أَلَّف -رحمه الله تعالى- بعضها في دمشق، وبعضها في مصر، وبعضها في السجن فيهما، وكان أكثر سَجْنَةٍ أَلَّف فيها هي السَّجْنَةُ الأخيرة التي توفي فيها بدمشق. وقد وعد تلميذه ابن عبد الهادي -رحمه الله تعالى- في بيان ذلك فقال في: "العقود الدرية: ص/ 47" بعد سَرْد مؤلفاته: "وله من الأجوبة والقواعد شيء كثير غير ما تقدّم ذكره، يشق ضبطه وإِحصاؤه، ويعسر حصره واستقصاؤه. وسأَجتهد -إِن شاء الله- في ضبطها ما يمكنني من ضبط مؤلفاته في موضع آخر غير هذا، وأُبين ما صنفه منها بمصر، وما أَلَّفه منها بدمشق وما جمعه وهو في السجن، وأُرتبه ترتيبًا حَسَنًا غير هذا الترتيب بعون الله تعالى وقوته ومشيئته" انتهى. ولعل الأُمنية لم تتحقق لهذا التلميذ البار؛ إِذ عاجلته المنية
(1/74)
وهو في الأربعين من عمره فتوفي سنة 744 - رحمه الله تعالى- وكانت ولادته سنة 705. وهذه إِشارة إِلى بعض من ذلك وهو في السجن: قال الحافظ ابن رجب في: "الذيل: 2/ 403": "ولنذكر نبذة من أَسماء أعيان المصنفات الكبار: "كتاب الإِيمان" مجلد. كتاب "الاستقامة" مجلدان. "جواب الاعتراضات المصرية على الفتوى الحموية" في ستة مجلدات كبار. كتاب "المحنة المصرية" مجلدان. "المسائل الإسكندرانية" مجلدان. "الفتاوى المصرية" سبع مجلدات. وكل هذه التصانيف ما عدا كتاب الإيمان كتبه وهو بمصر في مدة سبع سنين، صنفها وهو في السجن. وكتب معها أَكثر من مائة لَفَّةِ ورق أيضًا" انتهى. وفي السَّجْنة الثالثة بمصر ألَّف كتابه: "الرد على البكري" وفي "السَّجْنة السابعة بدمشق ألّف كتابه: "الرد على الإخنائي". وفي أذيال السَّجْنة الأولى ألَّف كتابه: "الصارم المسلول". قال الحافظ ابن عبد الهادي في: "العقود الدرية: ص/ 21" عن أَبي عبد اللّه بن رُشَيِّق: "ثم لما حُبسَ في آخر عمره كتبت له أَن يكتب على جميع القرآن تفسيرًا مرتبًا على السور فكتب يقول: إِنّ القرآن فيه ما هو بيِّن في نفسه، وفيه ما قد بيَّنه المفسِّرون في غير كتاب، ولكن بعض الآيات أَشكل تفسيرها على جماعة من العلماء، فربما يطالع الإنسان عليها عدة كتب ولا يتبين له تفسيرها، وربما كتب المصنف الواحد في آية تفسيرًا، ويفسر غيرها بنظيره، فقصدت تفسير تلك الآيات بالدليل؛ لأنه أهم من غيره، وإِذا تبين
(1/75)
معنى آية تبين معنى نظائرها. وقال: وقد فتح الله عليَّ في هذه المرة من معاني القرآن ومن أُصول العلم بأَشياء كان كثير من العلماء يتمنونها، وندمت على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن. أو نحو هذا. وأَرسل إِلينا شيئًا يسيرًا مما كتبه من هذا الجنس، وبقي شيء كثير في سَلَّةِ الحكم عند الحكام لَمَّا أَخرجوا كتبه من عنده، وتوفي وهو عندهم إِلى هذا الوقت نحو أَربع عشرة رزمة. ثم ذكر الشيخ أَبو عبد اللّه ما رآه ووقف عليه من تفسير الشيخ" انتهى.
السادسة عشرة: خطه:
مَرَّ في: "الإفادة الثامنة": أنه -رحمه الله تعالى- كان سريع الكتابة. وكان خَطُّهُ -رحمه الله تعالى- في غاية التعليق والإِغلاق، كما وصفه بذلك تلميذه ابن الوردي في: "تتمة المختصر"، حتى إِنّه يشكل عليه أحيانًا فيدعو تلميذه أبا عبد اللّه ابن رُشَيِّق المغربي المتوفى سنة 749 - رحمه الله تعالى- لِحَلِّه؛ ولهذا قال ابن كثير في: "تاريخه: 14/ 229 ": "وكان أبصر بخط الشيخ منه". ومن أدلته في المعاصرين: أن كتابه -رحمه الله تعالى-: "قاعدة في الاستحسان" كان لدى الشيخ ابن قاسم -رحمه الله تعالى- منذ البدء في جمع: "مجموع الفتاوى" ولم يستطع إدخالها لاستغلاق خطها؛ لأنها بخط شيخ الإِسلام -رحمه الله تعالى- وبعد زمن أخذ بحله شيئًا فشيئًا حتى طبعها ضمن "المستدرك على مجموع الفتاوى". وفي هذه الأثناء كان الشيخ/ محمَّد عزير شمس قد تحصل
(1/76)
على نسخة منها بخط شيخ الإِسلام -رحمه الله تعالى- فطبعها مفردة، وذكر أنه لاقى الألاقي في حَلِّ خطبها.
السابعة عشرة: مراسلاته:
شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-؛ إِما أن يراسل ابتداء وذلك في رسائله من السجن إلى والدته وإِخوانه، وطلبه بعض الكتب من الشام وهو في مصر، ومثل رسائله في نصح الولاة، ووصاياه التي يبعث بها إِلى آخرين مثل وصيته لنصر المنبجي، ولابن المهاجري، وللتجيبي، ولأتباع عدي بن مسافر، وغيرهم. وإِما أن تكون مراسلاته جوابًا على ما ورد إِليه، فقد راسله عامة أَهل الأمصار مشرقًا ومغربًا، عربًا وعجمًا، يستفتونه ابتداءً، أَو يراسلونه اعتراضًا على فتيا ونحوها، أَو طلبًا للإِجازة، فيجيبهم -رحمه الله تعالى- وكان هذا النوع من المراسلات ينسب إِلى بلد السائل، فيُقال: "الفتوى الحموية" نسبة إِلى حماة، وقد يسميها المؤلف -رحمه الله تعالى- في كتاب آخر منسوبة إِلى البلد الذي ورد منه السؤال، كما سَمَّى جوابه على السؤال الوارد إِليه من: "صفَد" باسم: "الصفدية" في مواضع من كتبه، كما في مقدمة التحقيق لها: (1/ 3 - 4)، ومن هذه الأمصار: جزيرة العرب: رسالة إِلى ملوك العرب. المدينة. البحرين. الشام: حلب. حماه. ماردين. زرع. الرَّحْبَة. كسروان. بعلبك. طرابلس. تدمر. القدس. صفد. الصلت- الصلط-. العراق: بغداد. البصرة. واسط. إِربل.
(1/77)
مصر: القاهرة. الإِسكندرية. الأزهر. الصعيد. تركيا: قبرص. بلاد العجم: أصبهان. طبرستان. جيلان. المغرب: مراكش. الأندلس. فهو بحق مفتي العالم. * ومن إِجازاته لأهل الأمصار: توريز. غرناطة. أصبهان. سَبْتَة التمسها منه صاحب سبتة فكتبها في عشر ورقات بأسانيدها من حفظه بحيث يعجز أن يعمل بعضه أكبر محدِّث كما في "العقود الدرية: ص/ 81". فهو بحق محدِّث العالم الإِسلامي في زمانه؛ ولهذا قال تلميذه الحافظ الذهبي: "كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث".
الثامنة عشرة: ترجمتها:
كما كان لعلماء الحديث في شبه القارة الهندية فضل السبق بطباعة كتب شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- فقد كان لهم فضل السبق في ترجمة ما يزيد على أربعين كتابًا منها إِلى اللغة الأردية، بداية من أول كتاب طبعوه مع الترجمة عام 1291 وهو كتاب: "الفتوى الحموية" في المطبع المحمدي بلاهور، تلاه في عام 1295 طبع كتاب: "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" في المطبع المذكور بلاهور.
(1/78)
وفي عام 1306 طبع مترجمًا إلى اللغة التركية كتاب: "السياسة الشرعية" ترجمه: بير محمَّد بن علي عاشق للسلطان سليم خان، وسماه: "معراج الإِيالة ومنهاج العدالة" وزاد فيه أشياء تتعلق بالحرب وبيت المال. وقبل ذلك بسبع سنين نشر المستشرق جويار في مجلة الجمعية الآسيوية بباريس. المجلد / 18 (سنة 1288/ 1871 م. ص / 158 - 198): "فتوى النصيرية" مع ترجمتها إلى اللغة الفرنسية. وفي عصرنا تُرجم من كتبه ورسائله الشيء الكثير إلى عدد من اللغات: الإنكليزية وغيرها. ومنها ترجمة ثمانية مجلدات من: "مجموع فتاوى شيخ الإِسلام" جمع ابن قاسم إِلى اللغة التركية، وقد توقف المترجم لعدم حصوله على من يُمول هذا المشروع!!.
التاسعة عشرة: هل رجع عن شيء من كُتْبه؟
علماء أهل السنة والجماعة، هم الهداة القادة، وشأنهم الإنصاف والإِصلاح، ومنه مناشدة الدليل، والأوبةُ إليه متى استبان. وشيخ الإِسلام -رحمه الله تعالى- يذكر في مواضع متعددة من كتبه كما في: "الفتاوى: 2/ 464 - 465، 6/ 258، 10/ 418 - 419، 21/ 516، 22/ 71، 35/ 319" وفي: "جامع الرسائل: 2/ 56" وفي: "اقتضاء الصراط المستقيم: 2/ 802" رجوعه عن بعض القضايا لما تبين له الدليل على خلافها. ومعلوم أن شيخ الإِسلام -رحمه الله تعالى- نبغ مبكرًا، وتفتحت له أنوار الوحيين منذ نعومة أَظفاره كما تدل عليه الوقائع والقصص التي ذكرها مترجموه في ترجمته فلذلك نَجَا قبل الشروع في التأليف.
(1/79)
ولا أعلم أَنّه أَلَّف شيئًا ورجع عنه سوى ما أشار إليه في منسكه الأخير بقوله: "فقد تكرر السؤال من كثير من المسلمين أن أكتب في بيان مناسك الحج ما يحتاج إليه غالب الحجاج في غالب الأوقات، فإنِّي كنت قد كتبت منسكًا في أوائل عمري فذكرت فيه أدعية كثيرة، وقلدت في الأحكام من اتبعته قبلي من العلماء، وكتبت في هذا ما تبين لي من سنة رسوله الله -صلى الله عليه وسلم- " انتهى من "مجموع الفتاوى: 26/ 98". أَمَّا رجوعه في المسألة: والمسألتين والتصحيح والتضعيف عن تحقيق وتدقيق فهذا يقع له -رحمه الله تعالى- كما يقع لغيره من المحققين. والله أعلم.
العشرون: الكتب المنحولة عليه:
على الرَّغم من كثرة مؤلفات هذا الإِمام، وكثرة خصومه من شتى الملل والطوائف والفرق فإِنّ انتحال الكتب عليه قليل، وهذا من حفظ الله لِعِلْمِ هذا الإِمام. ومنها: 1 - منظومة في العقائد. 2 - رسالة في أن الجهاد للدفاع ولا يكون ابتداء على الكفر. ذكرهما ابن قاسم -رحمه الله تعالى- في مقدمة الجزء الثامن من: مجموع الفتاوى. ص/ 1 - 2. 3 - دعاء ختم القرآن. المشهور بين الناس اليوم. ذكره الشيخ عبد الرحمن ابن قاسم -رحمه الله تعالى- في وصيةٍ له كما نبهت على ذلك في أول رسالتي: "مرويات دعاء ختم القرآن"،
(1/80)
ولهذا فيستغرب إدخال ابنه الشيخ محمَّد -رحمه الله تعالى- له في "المستدرك: 3/ 108 - 111". أَمَّا الانتحال عليه، والتحريف في كلامه في حياته وبعد مماته -رحمه الله تعالى- في مسألة أو قضية، فقد وقع من ذلك أمور كثيرة بَيَّن زَيْفَ ما وقع منها في حياته، وكشف عنها وعن غيرها تلاميذه، والمناصرون له على امتداد الدهر، منها: 1 - زُوِّرَ عليه في حياته -رحمه الله تعالى- كتاب- رسالة- إلى الأمير الجاشنكير المقتول سنة 709 يتضمن عقيدة له محرفة "العقود الدرية: ص/ 208". 2 - زُوِّر عليه في حياته كتاب -رسالة- موجه إلى التتر، يناصحهم فيها ومعه آخرون، وقد فضح المزورون عليهم "البداية والنهاية: 14/ 22". 3 - الكذب عليه في حياته بأنه رجع عن عقيدته. "العقود الدرية: ص/204 - 209". 4 - الكذب عليه في حياته بأنه أنكر تحريف التوراة. "القول الجلي: ص/ 57 - 67". 5 - الكذب عليه في حياته في مسألة الزيارة في القبور وشد الرحال إليها. "العقود الدرية: ص/ 340 - 341". "الكواكب: ص/ 157". 6 - الكذب عليه في مسألة النزول، ونسبتها إلى رحلة ابن بطوطة. "الدرر الكامنة: 1/ 164". "رحلة ابن بطوطة: ص/ 120" وهي كذبة صلعاء يبطلها التاريخ فإن ابن بطوطة لم يدخل
(1/81)
دمشق إلا في 9 رمضان 726 أي: بعد اعتقال شيخ الإِسلام في سجنه الأخير الذي توفي فيه -رحمه الله تعالى-. 7 - الكذب عليه بأنه طعن في الخليفتين عمر وعلي - رضي الله عنهما-. "القول الجلي. ص/ 57 - 67 ". 8 - الكذب عليه بأنَّه يوالي النصارى، وَأَنَّى يكون ذلك وله كتاب: "الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح"، وانظر: "الفتاوى: 2/ 118". وهذه الوقائع من الكذب والتزوير ليس لها ما يسندها من كلامه -رحمه الله تعالى- لكن هذا دأب الخصم المفلس!؟!.
الحادية والعشرون: الجُنَاة على كتب شيخ الإِسلام وأَنواع جناياتهم:
ليس الجُناة الذين يخالفونه في الاعتقاد والمذهب فيردون عليه بالباطل، فهؤلاء عداوتهم مكشوفة جارية على سنة الصراع بين الخير والشر، والحق والباطل، وقد تكون جنايتهم من أسباب ظهور الحق وانتشاره وتأييده على أيديهم، ومنهم في عصرنا من أشقى نفسه وآذاها بالصَّدِّ عنها والحَطِّ عليها: محمَّد زاهد الكوثري المتوفى سنة 1371. وليس الجُناة الذين احترقوا بها، وضاقوا بها ذرعًا فَشَالَت نَعَامَتُهم بالإِقدام على كتبه إتلافًا بالحرق وغيره، كما نُسب ذلك إِلى الأمير عبد القادر الجزائري المتوفى سنة 1300 كما ذكر ذلك زهير الشاويش في مقدمة نشر: "الكلم الطيب" و"شرح الطحاوية" و"هوامش دفتر المخطوطات: ص/11 - 12": وما هذا من الجزائري إلا لخبث مشربه ونصرته لمذهب ابن عربي الملحد.
(1/82)
أَما أبو اليسر عابدين فقد جَهَّل نفسه كما تراه في: "المقدمة الرابعة". وإحراق كتبه داء قديم طالما فعله أعداؤه أعداء الكتاب والسنة، قال المقريزي المتوفى سنة 845 - رحمه الله تعالى- في: "المقفى الكبير": "وأكثر ما يوجد منها الآن بأيدي الناس قليل من كثير، فإنّه أحْرِقَ منها شيء كثير، ولا حول ولا قوة إلا بالله" انتهى. ومضى في أول "المدخل الثالث" مُثُلٌ من -استعداء علماء السوء للسلطة الظالمة عليها، ومن آثار ذلك أيضًا ما ذكره ابن حامد في رسالته لابن رُشَيِّق كما في: "العقود الدرية": "سبق الوعد الكريم منكم بإنفاذ فهرست مصنفات الشيخ -رضي الله عنه- وتأخر ذلك عني اعتقدت أن الإضراب عن ذلك نوع تقية أو لعذر لا يسعني السؤال عنه، فسكتُّ عن الطلب خشية أن يلحق أحدًا ضرر -والعياذ بالله- بسببي؛ لما كان قد اشتهر من تلك الأحوال ... " انتهى. وهؤلاء وأولئك مجاهرون بالعداوة معلنون لها فلا تخفى حالهم -وعليهم من الله ما يستحقون-. لكن الجُناة: هم المستخْفُون الذين يقولون: قال شيخ الإِسلام، وهم يميلون به عن الحق الذي قاله ميلًا عظيمًا، هم الذين يحرفون كلامه، وقد عانى شيخ الإِسلام من خصومه شيئًا من ذلك في حياته، كما في كتابه: "الرد على الإخنائي: ص/13" إذ قال: "وكان ينبغي أن يذكر لفظ المجيب بعينه، ويبين ما فيه من الفساد، وإِن ذكر معناه فيسلك سبيل الهدى والسنة، فأما أن يذكر
(1/83)
عنه ما ليس فيه فهذا خروج عن الصدق والعدل إلى الكذب والظلم" انتهى. وحرفوا عليه في مسألة الزيارة في حياته كما بينه مبسوطًا تلميذه ابن كثير في: "تاريخه" في أحداث سنة 726. ومنها الكذبة الصلعاء في: "رحلة ابن بطوطة" التي يكذبها التاريخ, وانظر التنبيه على هذه وأمثالها في كتاب: "موقف ابن تيمية من الأشاعرة: 1/ 179 - 180، 193" للشيخ/ عبد الرحمن بن صالح المحمود. والجُناة: هم الذين يقدمون على تغيير نسبة مؤلفاته إلى غيره؛ لإِخفاء فضله وعلمه كما فعل من فعل بنسبة كتاب "الصفدية" للحافظ ابن الصلاح على أحد الاحتمالين، كما في مقدمة التحقيق، وكما وجد في نسخة من كتابه "نقض التأسيس" منسوبة إلى ابن فورك؟. أَما الجناة كل الجناة: فهم في عصرنا طُلَّاب الطروس، الذين يظهرون الانتساب إلى الحديث وأهله، وينادون بالسُّنة ونصرتها، ثم يَمدُّوْن إِلى الباطل أنبوبًا, وللتضليل يستدلون عليه بكلام لشيخ الإِسلام -رحمه الله تعالى- حتى يغرر واحدهم بالناس ويضلل أهل السنة والجماعة ويعدل بهم عن الحق الذي قرره شيخ الإِسلام، وهذه فتنة عمياء وانشقاق في صف أَهل السنة والجماعة، وبذر للشقاق وغرس لحنظل الخلاف. وهكذا يكون الفتون -نسأل الله السلامة والعافية-. ولهم في ذلك من الباطل طرق شتى منها:
(1/84)
1 - الأخذ بالمتشابه وهجر المحكم. 2 - التقاط العبارات المجملة أو المحتملة أو الموهمة، والإعراض عن الصريحة الواضحة. 3 - المغالطة في دلالة بعض العبارات. 4 - قطع الكلام المستدل به عن السِّباق واللحاق الذي لا يتضح إلا بهما. 5 - بتر الكلام في أوله أو مثانيه أو آخره .... 6 - إبدال لفظة بأُخرى. 7 - توظيف النص على غير المراد منه. 8 - توظيف لفظة في غير ما يدل عليها السياق في واحدة من دلالات الألفاظ الثلاث: اللغوية. والشرعية. والعرفية. 9 - يكون له كلام مجمل في موضع، لكنه مفصَّل مبسوط في موضع آخر فيأخذ بالمجمل ويترك المفصل. 10 - العدول عن المذهب الحق المنصور الذي شَهَّره هذا الإِمام ودافع عنه ونصره إلى مشتبه العبارات أو القول المهجور. 11 - يكون له قولان أو فتويان تصادم إحداهما الأخرى، إِحداهما هي الحق الذي تناقله الوارثون لعلمه عنه، والأخرى مهجورة لأنها خلاف قوله المنصور، وإِن لم يصرح بالرجوع عنه، فيأتي مبتغي الفتنة فيأخذ بالمهجور دون المتوارث المنصور. ومنها -مثلًا- فتوى شيخ الإِسلام المشهورة أن الخضر نبي
(1/85)
وأنه قد مات وهذا هو الحق المؤيد بالدليل، وله كلام على أنه ولي وأنه حي، لكنه مهجور، فيأتي مبتغي الفتنة فيأخذ بالمهجور ويترك المنصور المشهور. 12 - ومن أهمها: أن يسوق شيخ الإِسلام كلامًا على لسان المخالف، فيأخذه صاحب الهوى على أنه قوله واختياره؟!. وكثيرًا ما يغلط في هذا أصحاب الجمع الموضوعي لكلامه، فيسوقون تفسير آية من كتاب الله بما ساقه شيخ الإِسلام على لسان المخالف، ثم هؤلاء يسوقونه على أنه من تفسيره لهذه الآية. وهذا من تضييع الحق الذي حذر منه شيخ الإِسلام بقوله كما في: "الفتاوى: 25/ 129": "وكثيرًا ما يضيع الحق بين الجهال الأُميين وبين المحرفين للكلم الذين فيهم شعبة من نفاق، كما أخبر سبحانه عن أهل الكتاب حيث قال: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)} [البقرة/ 75] " انتهى. وقال -رحمه الله تعالى- في: "الجواب الصحيح: 4/ 44": "يجب أن يفسر كلام المتكلم بعضه ببعض، ويؤخذ كلامه ههنا وههنا، وتعرف ما عادته يعنيه ويريده بذلك اللفظ إذا تكلم به، وتعرف المعاني التي عرف أنه أرادها في موضع آخر، فإِذا عُرِف عُرْفه وعادته في معانيه وأَلفاظه كان هذا مما يُستعان به على معرفة مراده" انتهى. وإِن جميع هذه الجنايات لا يفعل شيئًا منها من يخاف مقامه
(1/86)
بين يدي ربه. وإِن المصلحين لهم بالمرصاد، وقد فضحوهم على تتابع الأزمان، وإِن من ينصر الكتاب والسنة يهيء الله له من يحفظ علمه وينصره في حياته وبعد مماته، والحمد لله رب العالمين. قال الحافظ ابن عبد الهادي في: "العقود الدرية: ص/ 48": "ولقد رأيت من خَرْق العادة في حفظ كتبه وجمعها، وإِصلاح ما فسد منها، ورد ما ذهب منها مالو ذكرته لكان عجبًا، يعلم به كل منصف: أن لله عناية به وبكلامه؛ لأنه يذب عن سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين" انتهى. * * *
(1/87)
المدخل الخامس جهود المصلحين بطبعها
منذ اشتهار ظهور المطابع في العالم الإِسلامي تنافس المصلحون من العلماء والولاة والأثرياء بطبع مؤلفات هذا الإِمام وتلميذه ابن القيم -رحمهما الله تعالى- فوضع العلماء أيديهم على ما شاء الله منها ودفعوها إِلى الطبع، وكان فضل السبق في ذلك لعلماء الحديث في شبه القارة الهندية، لكن غابت عنا أسماء كثير منهم لأنهم -رحمهم الله تعالى- لتواضعهم لم يكونوا يضعون على الغلاف اسم من قام بالتصحيح والمقابلة والاعتناء، وإِنما يشيرون إليه في آخره تصريحًا أو مبهمًا. ولعل أول كتاب طبع لشيخ الإِسلام -رحمه الله تعالى- في الهند هو كتاب: "الفتوى الحموية" مع ترجمتها إلى اللغة الأردية بالمطبع المحمدي سنة 1291 باعتناء العلامة النواب صديق حسن خان القنوجي المتوفى سنة 1307 - رحمه الله تعالى-. ثم تأتي الأقطار الإِسلامية بعد شبه القارة الهندية: مصر، فالعراق، فالشام، فالجزيرة العربية. وهذا بيان بتسمية ما تيسر الوقوف عليه من أَعلامهم على آفاقهم:
(1/89)
في شبه القارة الهندية: 1 - النواب صديق حسن خان القنوجي. 2 - محمَّد بن عبد الله الغزنوي. 3 - تلطف حسين العظيم آبادي. 4 - أبو محمَّد إبراهيم الآروي. 5 - عبد العلي عبد الحميد الأعظمي. 6 - عبد الصمد شرف الدين الكتبي. 7 - محمَّد عطاء الله حنيف الفوجياني في لاهور بباكستان. في مصر: 1 - إبراهيم بن حسن الفيومي. 2 - إسماعيل بن إبراهيم الإسعردي. 3 - محمَّد حامد الفقي. 4 - محمَّد محيي الدين عبد الحميد. 5 - محمَّد منير الدمشقي. صاحب المطبعة المنيرية بالقاهرة. 6 - محمَّد رشيد رضا. صاحب مجلة ومطبعة المنار. 7 - محمَّد عبد الرزاق حمزة. 8 - محمَّد حسنين مخلوف. 9 - محمَّد رشاد سالم.
(1/90)
10 - محب الدين الخطيب. صاحب المطبعة السلفية بالقاهرة. 11 - أبو الوفاء محمَّد درويش. 12 - محمَّد عبد اللّه السمان. 13 - علي السيد صبح المدني. تنبيه: كان من الذين اشتغلوا في مصر بطبع ونشر كتب شيخ الإِسلام: فرج الله زكي الكردي طبع كتاب: "الفتاوى الكبرى" في خمسة مجلدات، وغيره. وهذا الكردي أَشار غير واحد منهم محمَّد منير الدمشقي في كتابه: "نموذج من الأعمال الخيرية" ومحمد حامد الفقي في مقدمة طبع "الاختيارات" إلى أنه ينتحل مذهب الفرقة الضالة: "البابية" لهذا نفي من الأزهر. ولا غرابة فعمله هذا تجارة كشأن المستشرقين؟ وفي العراق: 1 - محمود شكري الآلوسي. 2 - محمَّد بهجت الأثري. وكان من خبرهما ما ذكره محمَّد بهجت المذكور في ترجمة شيخه محمود الآلوسي. ص/123 بعنوان: "عنايته بإحياء آثار السلف" قال: "أذكر أول ما أذكر منها قصة: "كتاب نقض أساس التقديس" من تأليف تقي الدِّين أحمد بن تيمية الحراني الدمشقي الإِمام المجدد المشهور، وهو كتاب عظيم حقًّا ينقض به ابن تيمية كتاب "أَساس التقديس" لفخر الدين الرازي العالم الكلامي
(1/91)
المشهور، وقد سمع الآلوسي وجود بعض أجزاء منه في دمشق ونجد، فجدَّ في استكتابها حتى ظفر بها، ووافق وصولها إليه طلبي أخذ العلم عنه، فجعل شرطه عليَّ نسخ هذا الكتاب وقراءته عليه؛ لأُفيد منه الأنظار الصحيحة في العلم وأُصول البحث وطرائق الجدل والاحتجاج، وكان شيخ الإِسلام أعظم فرسان هذا الميدان في الإِسلام" انتهى. وقال: "لكن أعظم جهده كان مصروفًا إلى كتب الإصلاح الديني، ولا سيما كتب الإِمامين ابن تيمية وابن القيم فإن تقصِّيه لها في خزائن الكتب بالعراق والشام ومصر والحجاز ونجد والهند، واستكتابه إياها أو نسخه لها بيده، وجدّه في تحقيقها وسعيه في طبعه هو فوق الوصف ... " ثم ذكرَ منها: "منهاج السنة" عام 1321 وبهامشه "العقل والنقل" وغيرهما. وفي الشام: 1 - جمال الدين القاسمي. 2 - طاهر بن صالح الجزائري. 3 - عبد القادر بدران. 4 - محمَّد كُرد علي. 5 - محمَّد بهجت البيطار. 6 - جميل أفندي الشطي، طبع مقدمة في أُصول التفسير. مع أنه كان منابذًا لمعتقده. 7 - بدر الدين النعساني.
(1/92)
8 - محمَّد ناصر الدين الألباني. 9 - زهير الشاويش. صاحب المكتب الإِسلامي ببيروت. وكان من خبر الشيخ طاهر الجزائري -رحمه الله تعالى- كما في ترجمته من "كنوز الأجداد ص/ 12" لتلميذه محمَّد كُرد علي، قال بعد كلام سبق: "أنه أولع في صباه بكتب شيخ الإِسلام ابن تيمية، وكان جمهرة الفقهاء في عصره تُكفِّر ابن تيمية تعصبًا أو تقليدًا لمشايخها، فلم ير الشيخ لتحبيب ابن تيمية إليهم إلا نشر كتبه بينهم من حيث لا يدرون، فكان يستنسخ رسائله وكتبه، ويرسلها مع من يبيعها إليهم في سوق الوراقين بأثمان معتدلة؛ لتسقط في أيدي بعضهم فيطالعونها، وبذلك وصل إلى غرضه من نشر آراء شيخ الإِسلام التي هي لباب الشريعة" انتهى. ونحوه في: "تنوير البصائر في سيرة الشيخ طاهر ص/37" لتلميذه محمَّد سعيد الباني المتوفى سنة 1353 - رحمه الله تعالى-. وفي الحجاز: 1 - عبد الرحمن بن يحيى المعلمي المتوفى سنة 1386 - رحمه الله تعالى-. وهو من العلماء الأفذاذ، والمحققين المتميزين. 2 - محمَّد حسين نصيف المتوفى سنة 1391 - رحمه الله تعالى- كان عالمًا ثريًا، كريمًا، مُمَدَّحًا، محبًّا للعلم والعلماء، جَعَلَ داره نُزُلًا لهم، كثير المراسلة في الخير والمعروف، والنهي عن المنكر. وكان من خبره أن أبا اليسر عابدين نشر مقالًا في مجلة المجمع
(1/93)
العلمي العربي بدمشق في الجزء الأول من العدد/ 36 ص/58 لعام 1336 ادَّعى فيه أن كتب ابن تيمية دخلت في غيابة الجب، وأنها مقطوعة السند، وما أوجدها إلا الحكومة السعودية ... إلخ. فرد عليه الشيخ نصيف ردًا مقنعًا راسل به كلًّا من/ محب الدين الخطيب، ومحمد بهجت الأثري، وعرضه من قبل على الشيخ محمَّد بن مانع، وقد أقام الأدلة فيه على أن هذه دعوى عرية عن الدليل، وأن مؤلفات ابن تيمية قد عمرت بها خزائن المخطوطات في مكتبات العالم، وأن العلماء من بعده اشتغلوا بها بالنقل منها والاختصار، والنسخ لها وتحملها بالإِسناد نصًّا في عدد من الأثبات والأسانيد، وأن طبعها ونشرها يُعد من مناقب الدولة السعودية ... إلخ كما تجد النص مطوَّلًا في كتاب: "محمَّد نصيف حياته وآثاره ص/174 - 175"، وفي: "مجلة حضارة الإِسلام". وفي نجد: نستطيع أن نقول: إن عامة علماء نجد لهم مشاركات في طبع ونشر آثار هذا الإِمام كما كان علماء الحديث في شبه القارة الهندية، وهكذا كل من كان على جادة السلف الصالح التي جددها شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- و: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ}. ومن الذين لهم جهود في ذلك: 1 - عبد الرحمن بن قاسم. 2 - ابنه محمَّد بن عبد الرحمن بن قاسم.
(1/94)
3 - محمَّد بن مانع. 4 - سليمان الصنيع النجدي ثم المكي. كما كان الولاة في هذه الديار يدًا واحدة مع العلماء، فقد تتابع آل سعود ملوكًا وأمراء على بذل المال لطبعها، وكان في الآونة الأخيرة لجامعات المملكة جهود مباركة لا سيما جامعة الإِمام محمَّد بن سعود الإِسلامية بإدارة مديرها السابق الشيخ/ عبد الله بن عبد المحسن التركي. وفي قطر: قاسم درويش فخرو. أمراء آل ثاني حكام قطر. وكان للشيخ محمَّد بن مانع المتوفى سنة 1385 في الزبارة من قطر، والشيخ عبد الله بن زيد آل محمود المتوفى بقطر سنة 1417 يد حافلة في ذلك -رحم الله الجميع-. تنبيه: بيان هذه الكتب المطبوعة من أولها إلى الآخر، وما أدخل منها في "مجموع الفتاوى" لابن قاسم، وما لم يدخل فيها، وما طبعه فيها ابتداءً، محله -إن شاء الله تعالى- الثَّبَتُ البخاري إعداده من بعض المشاركين في هذا المشروع. * * *
(1/95)
المدخل السادس أُمنية العلماء بجمعها والمجاميع لها
العلماء الذين لآثارهم قدم صدق في الأُمة، يحفها إخوانهم واللاحقون بهم بالعناية بها والدلالة عليها؛ ولهذا قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في مقدمة: "إعلام الموقعين": إن فتاوى حبر الأُمة ابن عباس -رضي الله عنهما- لو جمعت لكانت ثلاثين مجلدًا. ومن هذا الباب اشتغال تلاميذ الإِمام أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى- بجمع مسائله، حتى جاء تلميذ تلامذته الخلال فجمعها في ثلاثين مجلدًا باسم: "الجامع لمسائل الإِمام أحمد" كما بينت ذلك مفصلًا في "المدخل المفصل". وشيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- قد نهض تلامذته فمن بعدهم إلى يومنا هذا بجمع آثاره وإِعدادها بمجاميع لها، فإنَّ له -رحمه الله تعالى- في المسألة الواحدة مؤلفات كثيرة، وقواعد، وأَجوبة، إِذا اجتمعت بلغت مجلدات كثيرة كما نبه على ذلك تلميذه ابن عبد الهادي في: "العقود الدرية: ص/ 27 - 48". منها: في مسألة القرآن، وفي الرد على منكري المعاد. وفي فروع الفقه، وفي زيارة القبور وفي شد الرحال إليها، وفي الطلاق والخلع نحو عشرين مجلدًا، وفي مسألة العلو مجلدات كثيرة.
(1/97)
وفي أجوبة لشرح أحاديث وبيان درجتها. وكان أول جمع ما ذكره ابن عبد الهادي بقوله: ص/28: "وقد جمع بعض أصحابه قطعة كبيرة من فتاويه الفروعية، وبوبها على أبواب الفقه في مجلدات كثيرة تُعرف بالفتاوى المصرية، سمّاها بعضهم: "الدرر المضية من فتاوى ابن تيمية" انتهى. وهذه الفتاوى المصرية طبعت باسم: "الفتاوى الكبرى" في خمسة مجلدات غير منسوبة لجامع لها، طبعها فرج الله الكردي، وهي التي كانت تسمى: "القواعد النورانية من الفتاوى المصرية" وهذا الاسم: "القواعد النورانية" ليس هو كتاب: "القواعد النورانية" المطبوع في مجلد والذي أدخل في: مجموع ابن قاسم. ثم إن: "الدرر المضية ... " مختصر الفتاوى المصرية هي للبعلي وقد طبعت باسم: "مختصر الفتاوى المصرية". وإِذا قابلت بين هذا المختصر للبعلي وبين ما طبعه الكردي باسم: "مجموع الفتاوى الكبرى" يتبين لك أن ما طبعه الكردي باسم: "الفتاوى الكبرى" يمشي مع مختصرها للبعلي في المجلد الأول، وبعض الثاني، والرابع (إلى ص/ 297) من الكبرى هي الكبرى فقط، أما الباقي فهو مضموم إليها من كتبه الأخرى. ثم لا أعلم بعد ذلك من قام بالجمع والترتيب لها في مجاميع من القرن الثامن حتى ظهور المطابع في العالم الإِسلامي، فقد طبع نحو عشرين مجموعًا، منها ما يتكون من رسالتين فأكثر، مثل: طبع تسع رسائل ملحقة بكتاب: "جامع البيان في تفسير القرآن" لمعين بن صفي بالمطبع الفاروقي بدلهي "الهند" سنة 1296،
(1/98)
ومنها: "مجموعة الرسائل والمسائل" تحتوي على رسائل كثيرة لشيخ الإِسلام وهي في خمسة أجزاء طبعت 1341، ومنها: "مجموعة الرسائل الصغرى" نشرها محمَّد بدر الدين النعساني طبعت سنة 1323 فيها تسع رسائل. ومنها: "شذرات البلاتين" بتحقيق محمَّد حامد الفقي. طبعت 1375 هـ. ومنها ما طبع ضمن رسائل لعلماء آخرين مثل: "مجموعة الرسائل المنيرية" فيها تسع رسائل لشيخ الإِسلام -رحمه الله تعالى- طبعت سنة 1343. ثم اجتمعت همة الشيخ/ عبد الرحمن بن قاسم المتوفى سنة 1392 - رحمه الله تعالى- لهذا العمل فأخرج كتابه: "مجموع فتاوى شيخ الإِسلام ابن تيمية" في خمسة وثلاثين مجلدًا وساعده ابنه محمَّد على ذلك. ثم الشيخ محمَّد رشاد سالم المتوفى 1407 - رحمه الله تعالى- في كتابه: "جامع الرسائل" طبع منه مجلدان، وهذا العالم الفاضل هو صاحب الجهود العظيمة في تحقيق عدد من كتب شيخ الإِسلام، ولو لم يكن له إلا تحقيق "منهاج السنة" لكفاه فخرًا على الدهر. ثم الشيخ محمَّد بن عبد الرحمن بن قاسم في: "المستدرك" ضمنه عشر رسائل. وجَمْعُ آثار هذا الإِمام في مجموع مرتب على أبواب العلم أُمنية العلماء من تلامذته إلى عصرنا، وهذه بعض كلماتهم في ذلك: فهذا ابن مُرِّي المتوفى بعد سنة 728 يكتب رسالة لتلاميذ شيخ الإِسلام ابن تيمية وقد ضمنها الوصية بكتب هذا الإِمام
(1/99)
ونشرها وإشاعة نسخها من غير تصرف فيها ولو كانت مكررة، والحرص على مقابلتها، وجَمْع الأشباه والنظائر في مكان واحد، ويشير إلى الشيخ أبي عبد الله -أي ابن رُشَيِّق- فيوصي بالاحتفاظ به وتزويده من المال كفايته وبذل الأموال الكثيرة لهذا المطلب؛ لأنه قليل ذات اليد حتى يتم له هذا الأمر، ويوصيهم بالتصحيح والمقابلة، ومراجعة رؤوس تلامذة الشيخ مثل: ابن القيم، والمزي، وشرف الدين بن عبد اللّه، في كلام طويل نحو خمس صفحات من ص 87: من "الجامع لسيرة شيخ الإِسلام" ثم ختمه بقوله: "ووالله -إن شاء الله- ليقيمن الله سبحانه لنصر هذا الكلام ونشره، وتدوينه وتفهمه، واستخراج مقاصده، واستحسان غرائبه وعجائبه، رجالًا هم إلى الآن في أصلاب آبائهم ... " انتهى. وقد بَرَّت يمين ابن مُرِّي -بحمد الله ومنته- فقام الشيخ عبد الرحمن بن قاسم المتوفى سنة 1392 رحمه الله تعالى بمساعدة ابنه محمَّد المتوفى سنة 1421 - رحمه الله تعالى- بعد نحو ستة قرون بهذه المهمة الجليلة في: "مجموع فتاوى شيخ الإِسلام ابن تيمية". وقد ذكر ابن قاسم أن هذا الجهد هو بدءٌ، ويستحث همم العلماء لإكماله فيقول في مقدمة: "المجموع: أ/ د": "ولعظيم النفع بفتاويه، والثقة منها، واعتماد مبتغي الصواب عليها، فتشت عن مختصراتها في بعض مكتبات نجد والحجاز والشام وغيرها، فجمعت منها أكثر من ثلاثين مجلدًا ورتبتها: وهو بدءٌ. وإلا فعسى الله -سبحانه- أن يقيض لفتاويه من يجمعها من
(1/100)
مشارق الأرض ومغاربها، ومن المكتبات التي لم نطلع عليها ويلحقه بما جمعته منها. والله المستعان" انتهى. مجموع ابن قاسم: أقول: إن هذا المجموع المبارك: "مجموع فتاوى شيخ الإِسلام ابن تيمية" لابن قاسم هو غُرَّة في جبين الدهر، زينة لأهل الإِسلام، لسان صدق للعلماء، عمدة للباحثين، نفع الله به أَقوامًا بعد آخرين، وقد انتشر في العالمين انتشار العافية، وكتب الله له من القبول والانتشار ما يعز نظيره في جهود المتأخرين، فالحمد لله رب العالمين. وقد نص الشيخ محمَّد بن قاسم المتوفى سنة 1421 - رحمه الله تعالى- في مقدمته: 1/ ب على أن هذا المجموع يشتمل على كتب ورسائل وفتاوى سبق طبعها، سمى منها في المقدمة: 1/ ن أربعين كتابًا، منها ما يجمع عددًا من الرسائل والفتاوى، وأُخرى لم يسبق طبعها، وهذه تقدر بأكثر من الثلث في هذا المجموع، أي أن الذي سبق طبعه وأدخل في هذا المجموع نحو الثلثين. وكان جُهد الشيخين فيما سبق طبعه لا يقل عن جهدهما فيما لم يسبق طبعه؛ لأنهما استحصلا على الأُصول الخطية لها فقابلاها مع المطبوع فأصلحا ما وقع من غلط وتصحيف وسقط وفوت وهكذا، والكمال عزيز. هذا المشروع: إِذًا فهذا المشروع الكبير: "آثار شيخ الإِسلام ابن تيمية وما
(1/101)
لحقها من أعمال" من كتبه ورسائله وفتاويه، ومختصرات كتبه واختياراته ونحوها، وسيرته المباركة، مما لم يسبق طبعه، أو سبق ولكن اعتراه نقص، هو وصل لجهود المصلحين، وتحقيق لأمنية العلماء العاملين، وهو لا يقوم إلا على أمور ثلاثة: * الأمر الأول: التمويل: لئن قعد الحظ ببعض من مضى عن جمعها ونسخها وترتيبها لقلة المال كما أشار إليه ابن مُرِّي -رحمه الله تعالى- في كلامه المتقدم، فإنه بنعمة من الله وفضل قد تيسر ذلك في أول لقاء مع الوجيه السَّرِي الشيخ سليمان بن عبد العزيز الراجحي صاحب اليد الطولى في فعل الخير والإحسان والبذل في المشاريع الخيرية الكثيرة، وموافقتُه على تمويل هذا المشروع المبارك هو من توفيق الله له؛ لأن هذا المشروع مما يعم نفعه ويمتد أثره، فتلهج الألسنة بالدعاء له. أجزل الله مثوبته ونسأل الله لنا وله صلاح النية وحسن العمل. * الأمر الثاني: تَوفُّر المحققين: تَوَفَّر -بحمد الله تعالى- ثلة من طلبة العلم المشتغلين بالتحقيق؛ بل الذين لهم مزيد بصيرة في كتب شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-، وذلك بتحقيق هذه الآثار والأعلاق النفيسة وفق أصول التحقيق وخططه المعلومة، ولا داعي للإطالة بذكرها هنا. * الأمر الثالث: الإخلاص: الإخلاص هو الدُّرَّة المنشودة، التي بها تميزت علوم الصحابة
(1/102)
-رضي الله عنهم- وفهومهم عمن بعدهم، والله أعلم حيث يجعل مواقع فضله ومن يختصهم برحمته. والعلم والإيمان مكانهما إلى يوم القيامة من ابتغاهما وجدهما عند معلم آدم وإِبراهيم -عليهما السلام- فاللهم يا معلم آدم وإبراهيم علِّمنا ومُنَّ علينا جميعًا بالإخلاص في جميع أمورنا؛ والله ذو فضل على العالمين، وسبحان من يختص برحمته من يشاء. {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى صحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. انتهى "المداخل إلى آثار شيخ الإِسلام ابن تيميَّة وما لحقها من أعمال". المؤلِّف بكر بن عبد الله أبو زيد رئيس مجمع الفقه الإسلامي 2/ شوال/ 1421
(1/103)