تيسير الوصول إلى شرح ثلاثة الأصول
التصنيفات
المصادر
الوصف المفصل
- تيسير الوصول إلى شرح ثلاثة الأصول
- مقدمة
- فصل في: [الأربع المسائل التي يجب تعلمها][2]
- فصل في: [الثلاث المسائل التي يجب تعلمها]
- فصل في: [أن الحنيفية ملة إبراهيم - عليه السلام]
- فصل في: [بيان الأصول الثلاثة]
- فصل في [أنواع العبادة]
- فصل [المرتبة الأولى: الإسلام وأركانه]
- فصل [المرتبة الثانية: الإيمان وأركانه]
- فصل [المرتبة الثالثة: مرتبة الإحسان]
- فصل في [البعث وحكم من أنكره]
- فصل في [أن جميع الرسل مبشرون ومنذرون، وبيان وجوب الكفر بالطاغوت]
تيسير الوصول إلى شرح ثلاثة الأصول
عبد الله بن حمود الفريح
مقدمة
الحمد لله الذي يجزل العطايا، ويتفضَّل على عبده بأنواع النِّعم، فبفضله نتنعم، وبنِعَمه نتقلَّب، فما تروح نعمةٌ إلا وتغدو أخرى، فله الحمد أولاً وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا على الوجه الذي يُرضيه عنا، ولو تأملنا النِّعم من حولنا لا نكاد نجد نعمةً هي أجلُّ وأعظم من نعمة التوحيد التي بها النجاة في الدنيا ويوم المعاد؛ ألم تقرأ قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن لَقِيَ اللهَ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، دَخَلَ الجنَّةَ))[1]؟
والصلاة والسلام على إمامِ وسيد الموحِّدين، الذي نافح ودافع ونشر رسالة التوحيد، حتى ذاعتْ في أصقاع الأرض، محمد بن عبدالله، عليه صلاة الله وسلامه إلى يوم الدين.
وبعد:
فأضع بين يديك - أخي المبارك - صفحاتٍ سطرت فيها فوائدَ في بيان وتوضيح هذه الرسالة الموجزة؛ رسالة "ثلاثة الأصول"، التي حوتْ عقائدَ هي أساس الدين، لمؤلِّفها الإمام المجدِّد محمد بن عبدالوهاب - رحمة الله عليه - وهي رسالة موجزة في ألفاظها؛ لكنها ثمينة في مضمونها؛ لما احتوتْه من موضوعات ينبغي لكل مسلم تفهُّمُها والعملُ بها، وحرَصتُ أن يكون الشرح متوسطًا، لا قصيرًا فيُخل، ولا طويلاً فيُمل، ولله الفضل والمنَّة، وإني أعوذ بالله من نفسي أن أتكل عليها بشيء؛ لضعفها وعجزها، ولقلة حيلتي وبضاعتي، فأنَّى لي أن أنسب لها فضلاً وعلمًا، فله الحمد والشكر، وأسأله النفع والاستزادة لي ولك أخي القارئ، إنه جواد كريم، وبالإجابة قدير جدير.
كتبه الفقير إلى عفو ربه
عبدالله بن حمود الفريح
الحدود الشمالية - رفحاء
للتواصل عبر البريد الإلكتروني:
forih@hotmail.com
ترجمة مختصرة للإمام محمد بن عبدالوهاب
- اسمه: هو الإمام محمد بن عبدالوهاب بن سليمان بن علي التميمي الحنبلي النجدي.
- مولده: ولد الشيخ - رحمه الله - سنة 1115 للهجرة النبوية في بلدة العيينة من بلاد نجد.
- نشأته: نشأ الشيخ في بيت علمٍ وشرف ودين؛ فقد كان أبوه عبدالوهاب قاضي العيينة ومفتيها، وجده سليمان كان مفتي الديار النجدية.
نشأ الشيخ في هذه البيئة العلمية وتأثَّر بها، فقرأ القرآن وحفِظه وأتقنه قبل بلوغ عشر السنوات، ثم اشتغل بطلب العلم، قال عنه أخوه سليمان بن عبدالوهاب: كان أبوه يتعجب من فهمه، ويعترف بالاستفادة منه مع صغر سنه.
- رحلاته في طلب العلم: حين بلغ الشيخ سنَّ الرشد، قدَّمه أبوه لإمامة الصلاة، ثم طلب من والده الحجَّ فأذِنَ له، ثم قصد المدينة، ثم رجع بلدة العيينة.
- سافر إلى الحجاز في طلب العلم، وأقام بها مدة يتردَّد بين مكة والمدينة، ثم رحل إلى البصرة في العراق لطلب العلم، وأقام بها مدة يأخذ عن العلماء، ويدعو إلى التوحيد، وضرورةِ الأخذ بالكتاب والسنة.
- ثم ذهب إلى الإحساء وأخذ عن علمائها، ثم توجَّه إلى حريملاء سنة (1140) للهجرة النبوية، وبعد ذلك ارتحل إلى العيينة عام (1153) للهجرة النبوية، ثم استقرَّ بالدرعية عام (1158) للهجرة النبوية.
- مؤلفاته: ألف الشيخ - رحمه الله - مؤلفات كثيرة، أغلبها في التوحيد، ومنها:
1- "كتاب التوحيد". 2- "كشف الشبهات". 3- "الأصول الثلاثة". 4- "مفيد المستفيد بكفر تارك التوحيد".
5- "نواقض الإسلام". 6- "مسائل الجاهلية". 7- "مختصر زاد المعاد".
- وفاته: توفي الشيخ - رحمه الله - في عام (1206) للهجرة النبوية، بعد عمر يقارب (91) سنة، عَمَرَه بالدعوة إلى التوحيد والجهاد، والعلم والتعليم - فرحمه الله رحمة واسعة.
- متن ثلاثة الأصول:
هي رسالة موجزة جامعة في موضوع توحيد الربوبية والألوهية، والولاء والبراء، وغيرها من مسائل التوحيد، ذات أسلوب سهل مقرون بالدليل، واسمها المعروف "ثلاثة الأصول"، ومن الناس من يسميها "الأصول الثلاثة"؛ ولكن الأصح والأشهر الأول، ويقال: إن للشيخ رسالةً أخرى اسمها "الأصول الثلاثة" غير التي بين أيدينا، وهي رسالة صغيرة أقل من هذه علمًا؛ ليعلمها الصغار والصبيان، وأما الرسالة التي سنشرع فيها، فاسمها "ثلاثة الأصول وأدلتها".
فصل في: [الأربع المسائل التي يجب تعلمها][2]
قال المؤلف - رحمه الله -:
"بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم - رحمك الله - أنه يجب علينا تعلُّمُ أربع مسائل:
الأولى: العلم، وهو معرفة الله، ومعرفة نبيِّه، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة، الثانية: العمل به، الثالثة: الدعوة إليه، الرابعة: الصبر على الأذى فيه؛ والدليل قوله - تعالى -: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: 1 - 3]، قال الشافعي - رحمه الله تعالى -: "لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة، لكفتْهم"، وقال البخاري - رحمه الله تعالى -: باب العلم قبل القول والعمل، والدليل قوله - تعالى -: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [محمد: 19]، فبدأ بالعلم قبل القول والعمل".
___________________
الشرح
- الكلام على قول المؤلف من عدة وجوه:
- الابتداء بالبسملة:
ابتداء المؤلف - رحمه الله - هذه الرسالة الموجزة بألفاظها، العظيمة بمعانيها، بالبسملة كسائر رسائل أهل العلم ومؤلفاتهم؛ وذلك لعدة أمور:
1- اقتداءً بكتاب الله - جل وعلا.
2- اقتداء بكتاب نبي الله سليمان - عليه السلام - قال الله - تعالى -: ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [النمل: 30].
3- اتِّباعًا لسُنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد ثبت في "صحيح البخاري" من حديث أبي سفيان - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب كتابًا إلى هرقل، ابتدأه بـ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، فالبداءة بها سُنة متَّبَعة، ومعناها:
(بسم): أي: أفعل أو أبدأ هذا الشيء، وهنا أبدأ بتوضيح الأصول الثلاثة وما يتبعها من مسائل، مستعينًا ومتبركًا بكل اسم لله - تعالى.
(الله): اسم من أسماء الله - تعالى - الخاصة به، ومعناه: المألوه حبًّا وتعظيمًا.
(الرحمن): اسم من أسماء الله - تعالى - الخاصة به، ومعناه: ذو الرحمة الواسعة.
(الرحيم): اسم من أسماء الله - تعالى - ومعناه: الموصل رحمته إلى من يشاء من خلقه، وهو ليس خاصًّا بالله - تعالى - فقد قال - تعالى - عن رسوله: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 128]، فالرحمن الرحيم؛ أي: ذو الرحمة الواسعة، الموصل رحمته لمن يشاء من عباده، واقتصر المؤلف على البسملة؛ لأنها أبلغ في الثناء والذِّكر.
- قال ابن القيم - رحمه الله -: "الرحمن دالٌّ على الصفة القائمة به - سبحانه - والرحيم دالٌّ على تعلُّقِها بالمرحوم، فكان الأول للوصف، والثاني للفعل، فالأول دال على أن الرحمن صفتُه، والثاني دال على أنه يرحم خلقَه برحمته، وإذا أردتَ فهم هذا فتأمَّل قوله: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: 43]، ﴿إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 117]، ولم يجئ قط: رحمن بهم، فعلم أن (رحمن) هو الموصوف بالرحمة، و(رحيم) هو الراحم برحمته"[3].
- قول المؤلف: "اعلم رحمك الله":
(اعلم): فعل أمر من العلم، وهي كلمة يؤتى بها عند ذِكر شيء مهم ينبغي أن يُصغى إليه، وما ذَكَره المؤلف في هذه الرسالة من أصول الدين والمسائل التي تتعلق بذلك جديرٌ بأن يُهتم به، ويُصغَى إليه.
(رحمك الله): هذا دعاء من المؤلف لطالب العلم وقارئ هذه الرسالة بالرحمة، وهذا من التلطف من المعلِّم بالمتعلم، وهكذا ينبغي لمن يدعو إلى الله - تعالى - ويخاطب غيرَه ليعلِّمه ويرشده إلى ما يقرِّبه إلى ربه - جل وعلا - أن يبدأ بعبارة تدلُّ على التلطف، ولنا في رسول الله أسوة، فحينما أراد أن يرشد ابنَ عمر لقيام الليل، قال له: ((نِعْمَ العبد عبدالله، لو كان يصلي من الليل))[4]، فوقعتْ هذه الكلمةُ في قلب ابن عمر، حتى قال ابنه سالم: فكان عبدالله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً، فالدخول للمدعو بكلمةٍ تناسبه مما ينبغي للداعي أن ينتبه له؛ لأن هذا أدعى لقَبوله، ودعاء المؤلف لمن يعلِّمه بالرحمة من التلطف، و(رحمك الله)؛ أي: غفر الله لك ذنوبَك، هذا إذا أُفردتِ الرحمة، وإذا قُرنتْ بالمغفرة كقول: (رحمك الله وغفر لك)، فالمغفرة لما مضى، والرحمة لما يستقبل بالتوفيق والسداد والسلامة من الذنوب.
* المسائل الأربع التي يجب تعلمها:
قول المؤلف - رحمه الله تعالى -: (اعلم - رحمك الله - أنه يجب علينا تعلُّم أربع مسائل)، الوجوب على قسمين:
1- وجوب عيني، وهو ما يجب على كلِّ فرد من أفراد الأمة.
2- وجوب كفائي: وهو ما يجب على عموم الأمة، فإذا فعله بعض من يكفي، سقط عن الباقين.
وما ذكره المؤلف من المسائل الأربع، منها ما يدخل تحت الواجب العيني، كالمسألة الأولى، وهي العلم، ومنها ما يدخل تحت الواجب الكفائي، كالمسألة الثانية، وهي الدعوة إليه على حسب أحوالها.
- المسألة الأولى: العلم:
والمقصود بالعلم في قول المؤلف هو العلم الشرعي، والعلم الشرعي منه ما هو واجب وجوبًا عينيًّا، كتعلم أحكام الصلاة، وواجباتها، وأركانها مثلاً، ومنه ما هو واجب كفائي، كتعلم مسائل الفرائض والمواريث، وقد يكون هذا الكفائي كفائيًّا في حال شخص، ويتعيَّن في حق آخر؛ فمثلاً تعلُّم أحكام البيع ومسائله التفصيلية فرضُ كفاية، لكنها للتاجر فرض عين، والعلم الذي يقصده المؤلف هو من الواجب العيني؛ لأنه قال: "المسألة الأولى: العلم، وهو معرفة الله، ومعرفة نبيه، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة".
وهذه هي الأصول الثلاثة التي سيأتي بيانها وتفصيلها - بإذن الله تعالى - وهي أصول الإسلام التي لا يمكن أن يقوم إلا عليها؛ فالحياة الطيبة في الدنيا لا تقوم إلا بها، وعنها يُسأل في قبره، وبها نجاتُه في الآخرة.
وقوله: "بالأدلة"، إشارة إلى أن مسائل العقائد إنما تُعرف بالدليل لا بالتقليد؛ فالتقليد لا ينفع في العقائد، وما ضلَّ مَنْ ضل في عقيدته إلا بسبب تقليده الأعمى العاري عن الدليل، أو بسبب تقديمه الاعتقادَ على الاستدلال، فيعتقد شيئًا، ثم يبحث عن دليل ليستدلَّ به على اعتقاده، فيجعل الكتاب والسنة تابعينِ، لا متبوعين، وهذا خطأ بيِّن، والصواب أن يستدل ثم يعتقد؛ ليكون اعتقاده مبنيًّا على ما جاء في الوحيَيْنِ: الكتابِ والسنة، وأما كلام أهل العلم، فهو موضِّح لما في الكتاب والسنة، وليس دليلاً بذاته، والقاعدة العقدية المهمة في هذا الباب أن يقال: "استدل ثم اعتقد، ولا تعتقد ثم تستدل فتزلَّ"، كما نقلها غير واحد من أهل العلم، ولله در ابن القيم حيث قال في "الكافية الشافية":
العِلْمُ قَالَ اللَّهُ قَالَ رَسُولُهُ = قَالَ الصَّحَابَةُ هُمْ أُولُو العِرْفَانِ
مَا العِلْمُ نَصْبَكَ لِلخِلاَفِ سَفَاهَةً = بَيْنَ الرَّسُولِ وَبَيْنَ رَأْيِ فُلاَنِ
- المسألة الثانية: العمل:
والعمل هو ثمرة العلم، وهو غايته الأولى، فلا يُطلَب العلمُ إلا للعمل؛ بل إن من يعمل يزداد علمًا؛ ولذا فالسلف - رحمهم الله - يقولون: "من عمل بما يعلم، ورَّثه الله عِلم ما لم يعلم".
ولأهمية العمل؛ كان حقًّا على كل إنسان أن يُسأل عن علمه: ماذا عمل فيه؟ فعن أبي برزة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع))، ومنها: ((وعن علمه: ماذا عمل فيه؟))[5].
وللإمام الآجري كتاب اسمه "أخلاق العلماء"، فيه فصل بعنوان: "ذكر سؤال الله لأهل العلم عن علمهم ماذا عملوا فيه؟"، ذكر تحته آثارًا كثيرة موقوفة في هذا الشأن، ثم قال: "من تدبَّر هذا، أشفق من علمه أن يكون عليه لا له، فإذا أشفق مَقَتَ نفسه، وبان بأخلاقه الشريفة التي تقدم ذكرنا لها، والله الموفق لنا ولكم إلى الرشاد من القول والعمل"[6].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "مَن انحرف من العلماء من أمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم يعمل بعِلمه، ففيه شبهٌ من اليهود، ومن انحرف من العبَّاد وعبد اللهَ على جهل، ففيه شبهٌ من النصارى".
فينبغي على العبد أن يكون مشفقًا على نفسه، فيعمل بما عَلِمَه، لا سيما ما أوجبه الله عليه، فكلُّ من علِم شيئًا بأي وسيلة كانت: خطبة، أو محاضرة، أو كلمة، أو نصيحة، ونحو ذلك مما هو مسموع أو مقروء، كان ذلك العلم حجةً عليه؛ ولذا فإن القرآن حجة على بعض الناس، وهم الذين لا يعملون بما فيه؛ ففي "صحيح مسلم" من حديث أبي موسى الأشعري مرفوعًا: ((والقرآن حجة لك أو عليك))، نسأل الله السلامة والعافية.
وللخطيب البغدادي رسالة نافعة في هذا الباب اسمها "اقتضاء العلم العمل"، يحسن الرجوع إليها، ذكر فيها آثارًا وأقوالاً كثيرة في هذا الباب، مما ذكر:
قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "لا يغرركم من قرأ القرآن، إنما هو كلام نتكلم به؛ ولكن انظروا من يعمل به".
وقول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "يا حملة العلم، اعملوا؛ فإنما العالم مَن عمل".
وقال الفضيل بن عياض: "إنما نزل القرآن ليُعمل به، فاتَّخذ الناس قراءتَه عملاً، قال: قيل: كيف العمل به؟ قال: أي: ليحلُّوا حلاله، ويحرِّموا حرامه، ويأتمروا بأوامره، وينتهوا عن نواهيه، ويقفوا عند عجائبه".
وقال يحيى بن معين:
وَإِذَا افْتَقَرْتَ إِلَى الذَّخَائِرِ لَمْ تَجِدْ = ذُخْرًا يَكُونُ كَصَالِحِ الأَعْمَالِ
وقال الخطيب فيها: "إني موصيك يا طالب العلم بإخلاص النية في طلبه، وإجهاد النفس على العمل بموجبه؛ فإن العلم شجرة، والعمل ثمرة، وليس يُعَدُّ عالمًا، من لم يكن بعلمه عاملاً".
وللصحابة والسلف - رحمهم الله - نماذجُ مشرقةٌ في هذا الباب، من أرادها فليراجعها في مظانها.
- المسألة الثالثة: الدعوة إليه:
وفي هذه المسألة انتقل المؤلف إلى مرتبة أعلى، وذلك بأن يتعلَّم العبد، ويعمل، ويدْعوَ غيرَه لذلك، وهذه المرتبة هي وظيفة الرسل - عليهم السلام - بأن يدعو إلى توحيد الله وطاعته؛ قال - تعالى -: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ [يوسف: 108].
وللدعوة إلى الله شأن عظيم، وثواب جزيل؛ فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لأنْ يهدي الله بك رجلاً واحدًا خيرٌ لك من حمر النعم))[7].
والأدلة على فضل الدعوة كثيرة، وينبغي للداعي أن يتصف بعدة صفات، أهمها:
1- الإخلاص:
بأن يكون الحامل على الدعوة ابتغاء وجه الله ورضاه، والإشفاق على المدعو والإحسان إليه، لا إظهارًا لجهل المدعو، ولا تمييزًا لحال الداعي وإظهار ما عنده من العِلم، والترفُّع على الخلق، ولا لأي غرض من أغراض الدنيا.
2- الدعوة إلى الله على بصيرة وعلم فيما يدعو إليه:
قال - تعالى -: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾.
وكثيرًا ما يقع الخطأ في هذه الأمر، والعلم سلاح للدعوة لا تصلح بدونه، فلا بد للداعي أن يكون عالمًا بما يدعو.
وقال المؤلف في "مسائل التوحيد" عن الآية السابقة: "أما قوله: ﴿إِلَى اللَّهِ﴾، فتنبيه على الإخلاص؛ لأن كثيرًا من الناس وإن دعا في الظاهر إلى الله، فهو في الحقيقة يدعو إلى نفسه".
3- الصبر:
وهذا ما سيأتي بيانه في المسألة الرابعة؛ ولأن الداعية سيواجه أصنافًا من المدعوين يختلفون في تقبُّلهم وردود أفعالهم.
4- أن يكون على بصيرة بحال المدعو:
لأن المدعوين تختلف أحوالُهم، فيخاطبهم بما يناسب حالهم، وحينما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذًا إلى اليمن، قال له: ((إنك تأتي قومًا أهل كتاب))[8]، فبيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ - رضي الله عنه - حالَهم، وأنهم أهل كتاب عندهم علم؛ ليكون على بيِّنة، فيستعد لهم.
4- أن يبدأ الداعي بالأهم فالأهم:
على حسب حال المدعوين، والبيئة التي يعيشون فيها؛ فمسائل العقيدة وأصول الدين تأتي في المقام الأول، وحينما بعث النبي معاذًا إلى اليمن، قال له: ((فليكن أولَ ما تدعوهم إليه شهادةُ أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله)).
5- أن تكون الدعوة بالرفق والحكمة والموعظة الحسنة:
وهذا هو منهج الأنبياء - عليهم السلام - في دعوتهم؛ قال - تعالى - عن نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: 159].
وقال لموسى وهارون - عليهما السلام - حينما بعثهما إلى فرعون: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [طه: 44].
قال ابن كثير: "إن هذه الآية فيها عبرة عظيمة، وهو أن فرعون في غاية العتو والاستكبار، وموسى - عليه السلام - صفوة الله من خلقِه إذ ذاك، ومع هذا، أمر ألاَّ يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين".
وقال - تعالى - مبينًا هذا المنهج: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: 125]، وفي السُّنة أخبار كثيرة تدل على هذا المنهج مِن فعلِه - صلى الله عليه وسلم - وقولِه.
المسألة الرابعة: الصبر على الأذى فيه:
فبعد العلم والعمل والدعوة إليه، تأتي مرتبة الصبر على الأذى في طريق الدعوة إلى دين الله - تعالى - فالداعي يحتاج إلى هذه المرتبة؛ لاختلاف حال المدعوين وتقبُّلهم لما يقول، وربما ناله منهم أذى وهمزٌ ولمز، وافتراء واستهزاء، وفي سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما دعاهم للتوحيد، ما يدلُّ على ذلك؛ وذلك لأن الداعيَ يدعو الناس إلى ما يخالف أهواءهم وشهواتِهم، فمن الطبيعي أن أكثر الناس سيخالف هذا المنهج، وربما حاربه؛ فيحتاج الداعي للصبر حينئذٍ.
والصبر على ما يلاقيه الداعي في دعوته هو منهج الأنبياء - عليهم السلام – أيضًا؛ قال الله - تعالى - تسليةً لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - وتبيانًا له أن هذا ما لاقاه الأنبياء قبله: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا﴾ [الأنعام: 34]، وأمره بالاقتداء بهم، فقال: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ﴾ [الأحقاف: 35].
وقال لقمان الحكيم في وصيته لابنه، مبيِّنًا له أن الدعوة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحتاج إلى صبر: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [لقمان: 17]، نقل ابن القيم في "مدارج السالكين" عن الإمام أحمد: "أن الصبر في القرآن في نحو تسعين موضعًا".
- على ماذا يصبر الداعي في دعوته؟
يصبر على عدة أمور، منها:
1- الصبر على إعراض الخلق عن دعوته:
وهذا هو دأب الأنبياء؛ قال نوح - عليه السلام - مناجيًا ربَّه: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا﴾ [نوح: 5 - 7].
2- الصبر على أذى المدعوين بأقوالهم وأفعالهم:
ولنا في رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أعظمُ أسوةٍ، فقد قالوا عنه: ساحر وكذاب ومجنون وشاعر، وضربوه وطردوه، فواجه منهم أصنافَ الأذى المعنوي والحسي، وهو يصبر على أذاهم، ولما طرده أهلُ الطائف، خرج وهو مهموم، وحينما ناداه ملك الجبال بقرن الثعالب وأخبره أن الله يبعثه إليه، وقال له ملك الجبال: ((إن شئتَ أن أطبق عليهم الأخشبين))، وهما جبلان محيطان بأهل الطائف، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - بلسان الصابر المشفق عليهم: ((بل أرجو أن يُخرِج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا))[9].
وفي "صحيح البخاري": قال ابن مسعود: كأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحكي نبيًّا من الأنبياء - عليهم السلام - ضربه قومُه حتى أدمَوْه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: ((اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون)).
والأدلة في هذا الباب كثيرة، تدل على صبرهم على ما يلاقونه من أذى.
3- الصبر على طول طريق الدعوة، وعدم استبطاء النصر والتأييد من الله - تعالى -:
قال - تعالى -: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة: 214]، وقال - تعالى -: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ [يوسف: 110].
فعلى الداعية أن يصبر أيضًا على طول الطريق، ويستشعر أنه على طريق الحق، وأن النصر قد يتأخر لحكمة أرادها الله - تعالى.
* استدل المؤلف على المسائل الأربع بسورة العصر:
استدل المصنف بسورة العصر، فقال: والدليل قوله - تعالى -: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: 1 - 3].
﴿وَالْعَصْرِ﴾: أقسم الله - تعالى - بالزمان الذي يقع فيه الأحداث من الخير والشر، ومن ذلك أعمال الناس وتصرفاتهم.
﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾: وهذا هو جواب القسم، أن الإنسان في هلاك وخسارة، إلا من اتَّصف بأربع صفات، وهي المسائل الأربع التي ذكرها المؤلف.
فقوله - تعالى -: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ يدل على المسألة الأولى والثانية: العلم والعمل.
وقوله - تعالى -: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ﴾ يدل على المسألة الثالثة، وهي الدعوة.
وقوله - تعالى -: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ يدل على المسألة الرابعة، وهي الصبر.
وتأمل تأكيد هذه الخسارة في هذه السورة، إلا من اتصف بالصفات الأربع السابقة، فجاء تأكيد هذه الخسارة بثلاثة مؤكدات: القسم، و(إن)، واللام في ﴿لَفِي خُسْرٍ﴾، وهذا يبيِّن لك أن الاتصاف بهذه الصفات الأربع في غاية الأهمية في أصول الدين وما يتعلق به.
- قول الشافعي: "لو ما أنزل الله حجةً على خلقه إلا هذه السورة، لكفتْهم".
الشافعي: هو أبو عبدالله محمد بن إدريس بن العباس، هاشمي قرشي، ولد في غزة سنة 150هـ، وتوفي في مصر سنة 204هـ، ومراده من قوله: "لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة، لكفتهم"؛ أي: إنها سورة عظيمٌ شأنُها لمن تأملها، ولو فكر فيها الناسُ لكفتْهم؛ لاشتمالها على الخير بمراتبه: العلم، والعمل، والدعوة إليه، والصبر على الأذى فيه، وهي الأسباب التي من اتَّصف بها، نال السعادة، واستمسك بطريق النجاة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "هو كما قال - يعني الشافعي في العبارة السابقة - فإن الله - جل وعلا - أخبر أن جميع الناس خاسرون، إلا ما كان في نفسه مؤمنًا صالحًا، ومع غيره موصيًا بالحق وموصيًا بالصبر"[10].
- قول البخاري:
قال المؤلف - رحمه الله -: "وقال البخاري - رحمه الله -: باب العلم قبل القول والعمل، والدليل قوله - تعالى -: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [محمد: 19]، فبدأ بالعلم قبل القول والعمل".
البخاري: هو أبو عبدالله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري، من بخارى، ولد سنة 194هـ، وتوفي سنة 256، نشأ يتيمًا في حجر والدته، وهو صاحب "الصحيح" الذي يُعد أصح الكتب بعد كتاب الله - تعالى.
ذكر المؤلف - تأييدًا لما يدعو إليه، وهو البدء بالعلم قبل العمل - قولَ البخاري واستدلاله بقوله - تعالى -: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾.
ووجه الدلالة في الآية: أنه بدأ بالعلم في قوله - تعالى -: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾، ثم العمل في قوله - تعالى -: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾.
وأيضًا يقال: إنه لا يمكن أن يكون العمل صحيحًا ومقبولاً، حتى يكون موافقًا لما جاء في الشرع، ولا يكون وفقًا لما جاء الشرع إلا بالعلم؛ فلا بد أن يسبق العلمُ العملَ.
مثال ذلك: شخص يريد أن يصلي صلاته على أكمل وجه كما هي صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يمكن ذلك إلا بالتعلُّم؛ فالعلم قبل العمل.
فصل في: [الثلاث المسائل التي يجب تعلمها]
قال المؤلف - رحمه الله -:
"اعلم - رحمك الله - أنه يجب على كل مسلم ومسلمة تعلُّمُ ثلاث هذه المسائل والعمل بهن:
الأولى: أن الله خلَقَنا ورزقنا، ولم يتركنا هملاً؛ بل أرسل إلينا رسولاً، فمَن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار؛ والدليل قوله - تعالى -: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا﴾ [المزمل: 15، 16].
الثانية: أن الله لا يرضى أن يُشرَك معه أحدٌ في عبادته، لا ملَكٌ مقرَّب، ولا نبي مرسل؛ والدليل قوله - تعالى -: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ [الجن: 18].
الثالثة: أن من أطاع الرسول ووحَّد الله، لا يجوز له موالاة من حادَّ اللهَ ورسوله، ولو كان أقربَ قريب؛ والدليل قوله - تعالى -: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [المجادلة: 22]".
__________________________
الشرح
- الكلام على قول المؤلف من عدة وجوه:
- قوله: "واعلم - رحمك الله - أنه يجب على كل مسلم ومسلمة تعلُّم ثلاث هذه المسائل والعمل بهن".
قدَّم المؤلف لهذه المسائل الثلاث بما قدَّم للمسائل الأربع السابقة، وتقدَّم الكلام على هذه المقدمة، وبيان ذلك، وأهمية العلم والعمل، والمؤلف - رحمه الله - ذكر هذه المسائل الثلاث وحدها؛ لأهميتها، وهي مسائل تتعلق بالتوحيد؛ بل هي أصل من أصول التوحيد:
فالمسألة الأولى: في توحيد الربوبية، والمسألة الثانية: في توحيد الألوهية، والمسألة الثالثة: في الولاء والبراء.
وإليك بيانَها وتوضيحها:
- المسألة الأولى:
قال المؤلف - رحمه الله -: "الأولى: أن الله خلقنا ورزقنا، ولم يتركنا هملاً؛ بل أرسل إلينا رسولاً، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار؛ والدليل قوله - تعالى -: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا﴾ [المزمل: 15، 16].
هذه المسألة - وهي تتعلق بتوحيد الربوبية - تضمنت عدة أمور:
- (أن الله خلقنا):
والدليل على أن الله خلَقَنا النقلُ والعقل، وإذا قيل: النقل، فالمقصود به الكتابُ والسنة، فمن النقل: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾ [الأعراف: 11]، ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [فاطر: 3]، وهذه الآية تدلُّ على اختصاص الخلق بالله - تعالى - والآيات في هذا الباب كثيرة.
وأما دلالة العقل، فيؤخذ من قوله - تعالى -: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ [الطور: 35].
ووجه الدلالة: أنه عقلاً لا يمكن أن يخلق الإنسانُ نفسَه؛ لأنه قبل وجوده عدم، ولا يمكن أن يأتي صدفة لهذا الكون؛ بل لكل حادث مُحْدِث، ولكل موجود خالق، والله - جل وعلا - خالق كل شيء، وهذا ما حصل مع جبير بن مطعم - رضي الله عنه - حينما قرأ هذه الآية ووعاها بقلبه وعقله، فقد كان مشركًا وسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ﴾ [الطور: 35 - 37]، قال جبير: "كاد قلبي أن يطير، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي"[11].
- (ورزقَنَا):
وأيضًا دلَّ على أن الله رزقنا النقلُ والعقل:
فمن النقل: من الكتاب قوله - تعالى -: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ [الذاريات: 58]، وقوله - تعالى -: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: 37]، إلى غير ذلك من الآيات.
ومن السنة: حديث ابن مسعود المتفق عليه في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنين: ((إن الله يبعث إليه مَلَكًا، فيؤمر بأربع كلمات: بكتْبِ رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد)).
وأما العقل، فإن الإنسان لا يمكن أن يبقى في هذه الحياة إلا بطعام وشراب، والطعام والشراب خلقهما الله - تعالى - فهو خالق كل شيء - سبحانه.
- (ولم يتركنا هملاً):
دل على ذلك النقل والعقل:
فمن النقل: قوله - تعالى -: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ [القيامة: 36]، وقوله - تعالى -: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون: 115].
وأما العقل، فإن الله - تعالى - خلقنا ورزقنا، وأرسل إلينا الرسل، وأنزل علينا الكتب، وأمَرَنا بطاعته، ونهانا عن معصيته، فلو لم يكن هناك حسابٌ ولا عقاب ولا ثواب، لكان هذا من العبث الذي يُنزَّه الله - تعالى - عنه، ولكن شرع الله هذه الأمور لمعادٍ يجازي كل إنسان بما كسب، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، وفي هذا دلالة على أنه - سبحانه - لم يتركنا هملاً.
- (بل أرسل إلينا رسولاً، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار):
وهذا تقرير لما سبق بأنه - جل وعلا - لم يتركنا هملاً؛ بل أرسل إلينا رسولاً، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - (فمن أطاعه دخل الجنة)، وهذا مقتضى الحكمة، ولهذا أدلة كثيرة، منها:
- قوله - تعالى -: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [آل عمران: 132].
- وقوله - تعالى -: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء: 69]، وحديث أبي هريرة عند البخاري قال رسول الله: ((كل أمتي يدخلون الجنة، إلا من أبى))، قالوا: يا رسول الله، ومن يأبى؟! قال: ((من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)).
(ومن عصاه دخل النار)، وهذا مقتضى الحكمة أيضًا، وله أدلة كثيرة، منها:
- قوله - تعالى -: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [النساء: 14].
- وقوله - تعالى -: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب: 36]، وأيضًا حديث أبي هريرة المتقدم، وفيه: ((ومن عصاني فقد أبى)).
ثم استدل المؤلف على إرسال الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - والنتيجة فيمن أطاعه وعصاه، بقوله - تعالى -: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا﴾ [المزمل: 15، 16].
وفي هذه الآية عِظة وعِبرة بأن الله - تعالى - أرسل إلينا رسولاً، كما أرسل إلى فرعون رسولاً، لكن فرعون لم يطع الرسول؛ بل عصاه، فكان أمره إلى وبال؛ أي: أخذه الله أخذًا شديدًا، وفي آية أخرى قال الله - تعالى - عنه وعن قومه: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [غافر: 46]، وهكذا من عصى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فسنةُ الله واحدة لا تتغيَّر ولا تتبدَّل.
هذا ما يتعلق بالمسألة الأولى، والتي هي في توحيد الربوبية في جملتها، وآخرها الحث على اتِّباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - والبُعد عن معصيته.
المسألة الثانية:
قال المؤلف - رحمه الله -: "الثانية: أن الله لا يرضى أن يشرك معه أحد في عبادته؛ لا مَلَك مقرب، ولا نبي مرسل؛ والدليل قوله - تعالى -: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ [الجن: 18]".
وهذه المسألة تتعلق بتوحيد الألوهية، ولها تعلُّق بالمسألة الأولى؛ فالمؤلف ختم المسألة الأولى ببيان وجوب طاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتحذير من معصيته، وأعظم معصية يُعصى الله بها هي الشرك به؛ قال - تعالى -: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13]، ورسالة الأنبياء وأعظم شيء دَعَوْا إليه، هو التوحيد.
وهذه المسألة تضمنت عدة أمور:
- أن الله - تعالى - لا يرضى أن يُشرَك معه أحدٌ في عبادته، ولو كان عظيمَ الشأن.
والشرك: هو تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائص الله - تعالى.
والله - عز وجل - يوجب على عباده إفرادَه بالعبادة، فلا يرضى أن يشرك معه أحد، ولو كان ملكًا مقرَّبًا، أو نبيًّا مرسلاً، مع ما لهم من القرب والشأن العظيم عند الله - تعالى - إلا أن الله - جل وعلا - لا يرضى أن يكونوا شركاء له في العبادة، فكيف بغيرهم من الخلق ممن هو دونهم؟! لا شك أن ذلك أولى؛ وذلك لأن العبادة لا تصلح لغير الله - تعالى - من صَرَفها لغيره فقد وضعها في غير موضعها، وهذا هو الظلم؛ وضع الشيء في غير موضعه؛ ولذا قال الله - تعالى -: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13]، والأدلة على نبذ الشرك كثيرة.
- استدل المؤلف بقوله - تعالى -: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ [الجن: 18].
ووجه الدلالة: أن المساجد بيوت الله - تعالى - فكيف تدخل بيت الله - تعالى - وتدْعو معه غيره؟! وقوله - تعالى -: ﴿فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾، (أحدًا) نكرة في سياق النهي تفيد العموم، فيكون المعنى: فلا تدعوا مع الله أحدًا كائنًا من كان، لا ملكًا مقرَّبًا، ولا نبيًّا مرسلاً، ومن كان دون ذلك، فمن باب أولى.
فائدة: الشرك نوعان:
1- شرك أكبر: لا يغفره الله - تعالى - إلا بالتوبة، فإن مات ولم يَتُبْ، فهو خالد مخلَّد في النار؛ كمن يدعو غير الله؛ قال - تعالى -: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 48].
2- شرك أصغر: وصاحبه إن لقي الله على ذلك، فهو تحت مشيئة الله؛ إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة، وإن شاء عذَّبه؛ لكن مآله إلى الجنة؛ كمن يحلف بغير الله على غير وجه التعظيم؛ لأنه إن حلف بغير الله معظِّمًا لمن حلف به، دخل في الشرك الأكبر، ومثل الرياء؛ فهو شرك أصغر.
المسألة الثالثة:
قال المؤلف - رحمه الله -: "إن من أطاع الرسول ووحد الله، لا يجوز له موالاة من حاد الله ورسوله، ولو كان أقرب قريب؛ والدليل قوله - تعالى -: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [المجادلة: 22]".
والكلام عن الولاء والبراء وما ذكره المؤلف، يتضمن عدة أمور:
- تعريف الولاء والبراء:
الولاء لغة: قال ابن فارس: الواو واللام والياء: أصل صحيح، يدل على القرب، من ذلك الولي: القريب، والباب كله راجع إلى القرب[12].
وقال ابن منظور: "والموالاة: ضد المعاداة، والولِيُّ: ضد العدو... والوَلْيُ: القرب والدنو".
والولاء شرعًا: هو النصرة والمحبة والاحترام ظاهرًا وباطنًا.
- والبراء لغة: قال ابن فارس: "التباعد من الشيء ومزايلته، من ذلك البرء، وهو السلامة من السقم، يقال: برئت وبرأت"[13].
والبراءة شرعًا: البعد والخلاص والعداوة، بعد الإعذار والإنذار.
قال شيخ الإسلام في أصل الولاية والعداوة: "والولاية ضد العداوة، وأصل الولاية: المحبة والقرب، وأصل العداوة: البغض والبعد"[14].
- والولاء يكون للمؤمنين، والبراء يكون من المشركين:
قال حفيد المؤلف الشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب في شرح قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ووالى في الله)): "هذا بيانٌ للازم المحبة في الله، وهو الموالاة؛ إشارة إلى أنه لا يكفي في ذلك مجردُ الحب؛ بل لا بد مع ذلك من الموالاة، التي هي لازم الحب، وهي النصرة والإكرام والاحترام، والكون مع المحبوبين باطنًا وظاهرًا".
وقال في شرح قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وعادى في الله)): "هذا بيانٌ للازم البغض في الله، وهو المعاداة فيه؛ أي: إظهار العداوة بالفعل، كالجهاد لأعداء الله، والبراءة منهم، والبعد عنهم باطنًا وظاهرًا؛ إشارة إلى أنه لا يكفي مجرد بغض القلب؛ بل لا بد مع ذلك من الإتيان بلازمه"[15].
- جاءت نصوص كثيرة مستفيضة تدل على تحريم موالاة الكفار، منها:
1- ما استدل به المؤلف: قوله - تعالى -: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ [المجادلة: 22].
2- قوله - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ [المائدة: 51].
قال شيخ المفسرين ابن جرير الطبري في تفسير هذه الآية: "والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله - تعالى ذكره - نهى المؤمنين جميعًا أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصارًا وحلفاء على أهل الإيمان بالله ورسوله، وأخبر أن من اتَّخذهم نصيرًا وحليفًا ووليًّا من دون الله ورسوله والمؤمنين، فإنه منهم في التحزب على الله ورسوله والمؤمنين، وأن الله ورسوله منهم بريئان".
وقال ابن القيم: "إن الله حكم - ولا أحسن من حكمه - أنه من تولى اليهود والنصارى، فهو منهم؛ قال - تعالى -: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُ﴾ [المائدة: 51]"[16].
3- قوله - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ [النساء: 144].
قال الشيخ حمد العتيق: "فأما معاداة الكفار والمشركين، فاعلم أن الله - سبحانه وتعالى - قد أوجب ذلك، وأكَّد إيجابه، وحرَّم موالاتهم وشدَّد فيها، حتى إنه ليس في كتاب الله - تعالى - حكمٌ فيه من الأدلة أكثر ولا أبْين من هذا الحكم، بعد وجوب التوحيد، وتحريم ضده"[17]، وكذا السنة دلت على ذلك.
- هل كل موالاة للكفار كفرٌ وردَّة؟
هذا سؤال مهم للغاية، ولبيان ذلك؛ نقول ما يلي:
أولاً: أهل العلم لا يختلفون في أن هذا الباب باب عظيم، الداخل فيه قد أضرَّ بعقيدته وثوابته، وقد يهدمها بحسب ما والى فيه، فبالجملة هو بابٌ مَن تهاون فيه فقد تهاون في أصل عظيم من أصول الدين؛ فعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر - رضي الله عنه -: ((أيُّ عرى الإيمان أوثق؟))، قال: الله ورسوله أعلم، قال: ((الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله))[18].
- ويقول الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ: "والمرء قد يكره الشرك، ويحب التوحيد، لكن يأتيه الخلل من جهة عدم البراءة من أهل الشرك، وترْك موالاة أهل التوحيد ونصرتهم، فيكون متَّبعًا لهواه، داخلاً من الشرك في شعب تهدم دينَه وما بناه، تاركًا من التوحيد أصولاً وشعبًا لا يستقيم معها إيمانُه الذي ارتضاه، فلا يحب ولا يبغض لله، ولا يعادي ولا يوالي لجلال من أنشأه وسوَّاه، وكلُّ هذا يؤخذ من شهادة أن لا إله إلا الله"[19].
ثانيًا: موالاة الكفار بحسبها؛ فهي على مراتبَ، منها ما هو كفر وردَّة، ومنها ما هو دون ذلك.
ثالثًا: بناءً على أن موالاة الكفار تختلف باختلاف الحال؛ فهي على مراتب؛ قسَّم بعض أهل العلم الموالاة إلى قسمين: (موالاة كبرى، وموالاة صغرى)، أو (تولي، وموالاة) أو (موالاة عامة مطلقة، وموالاة خاصة)، أو (الموالاة المطلقة، ومطلق الموالاة)، وكلها مصطلحات تجمع بين قسمين، فمنهم من يُعبِّر بهذا اللفظ، ومنهم بهذا، ومقصودهم في ذلك - رحمهم الله - هو التفريق بين الموالاة التي يكون صاحبها كافرًا مرتدًّا حلالَ الدم والمال، وبين ما دون ذلك مما لا يُخرِج من الملة، وبعض أهل العلم لم يقسم هذا التقسيم، وجعلها مراتب، منها ما هو مخرِج من الملة، ومنها ما هو كبيرة من الكبائر لا يكفر فاعلها إلا إذا استحلَّها؛ أي: اعتقد جوازها، وقالوا: إن التولي والموالاة لفظان لمعنى واحد، وهو قول جمهور المفسرين.
- قال الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب: "مسمى الموالاة يقع على شُعب متفاوتة، منها ما يوجب الردة وذَهاب الإسلام بالكلية، ومنها ما هو دون ذلك من الكبائر والمحرمات"[20].
رابعًا: أمثلة على الموالاة الكبرى وعلى الموالاة الصغرى:
الموالاة الصغرى تسميتها صغرى ليس لأنها من الصغائر؛ ولكن للتفريق بينها وبين الكبرى، وإلا فإن الموالاة الصغرى شأنُها عظيم - كما تقدَّم - فهو باب لا يُستهان به.
ومن أمثلتها: تصديرُ الكفار في المجالس، وزيارتُهم زيارةَ مؤانسة لا دعوة، وتهنئتُهم بأفراحهم الدنيوية، وإفساحُ الطريق لهم، وتوليتُهم على المسلمين، وجعلُهم رؤساء، ورفعُهم على المسلمين ونحوها.
والموالاة الكبرى: وهي الموالاة المخرجة من الملة، فهي كفر وردَّة، ولها صور، منها: مودتهم لأجْل دينهم وسلوكهم، والرضا بأعمالهم، وتمني انتصارهم على المسلمين، وعدم تكفيرهم أو التوقُّف في كفرهم والشك فيه، وتصحيح مذهبهم، والتشبُّه المطلَق بهم، ومظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، وتُسمَّى النصرة.
ما تقدم هو بيان ما يتعلق بالولاء والبراء بإيجاز، والمسألة تحتاج إلى بسط، لعله يكون في غير هذا الموضع.
فصل في: [أن الحنيفية ملة إبراهيم - عليه السلام]
قال المؤلف - رحمه الله -: "اعلم - أرشدك الله لطاعته - أن الحنيفية ملة إبراهيم: أن تعبد الله مخلصًا له الدين، وبذلك أمر الله جميعَ الناس وخلَقَهم لها؛ كما قال - تعالى -: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، ومعنى يعبدون: يوحِّدون، وأعظم ما أمر الله به التوحيدُ، وهو إفراد الله بالعبادة، وأعظم ما نهى عنه الشرك، وهو دعوة غيره معه؛ والدليل قوله - تعالى -: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ [النساء: 36]".
________________________
الشرح
في هذه الرسالة، المؤلف - رحمه الله - يتكلَّم عن أصل عظيم، وهو التوحيد، ونبذ ضده، وهو الشرك، وذلك بالْتزام الملة الحنيفية، والكلام على قول المؤلف من عدة وجوه:
- قوله: "اعلم أرشدك الله لطاعته":
هذا دعاء من المؤلف - رحمه الله - فيه تلطُّفٌ للمدعو، وكل من يقرأ الرسالة بأن يرشده الله لطاعته.
والرشد: هو الاستقامة على طريق الحق، وهو ضد الغي؛ لأن الغي هو الضلال - نسأل الله السلامة والعافية.
والطاعة: هي موافقة أمر الشرع، بفعل المأمور، واجتناب المحظور.
- ما هي الحنيفية؟
يقول المؤلف - رحمه الله -: "اعلم - أرشدك الله لطاعته - أن الحنيفية ملة إبراهيم: أن تعبد الله مخلصًا له الدين".
* الحنيفية: أصلها مأخوذ من الحنف، والحنف في اللغة: هو الميل؛ فالحنيف: هو المائل عن الشرك قصدًا وإخلاصًا إلى التوحيد، ففي الحنيف معنى الإخلاص لله - تعالى - فهو المقبِل على الله - تعالى - المعرِض عما سواه؛ ولذا امتدح الله - عز وجل - إبراهيم - عليه السلام - بذلك، فقال: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا﴾ [النحل: 120]، والقانت هو الطائع الخاشع؛ ولذا قال المؤلف: "الحنيفية ملة إبراهيم".
* قوله: "أن تعبد الله": العبادة في اللغة: الذلُّ والخضوع، تقول العرب: طريق مُعبَّد؛ أي: مذلَّل، وفي الشرع كما عرَّفها شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: "العبادة: اسم جامعٌ لكل ما يحبُّه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال، الظاهرة والباطنة"[21].
فيدخل في التعريف الصلاةُ والزكاة والصيام والحج، والمحبةُ والخوف والرجاء، والتوكلُ والاستعانة، ونحو ذلك مما سيأتي بيانه - بإذن الله.
* وقوله: "مخلصًا له الدين":
والإخلاص: هو أن يقصد العبدُ بعمله رضا الله وثوابَه، لا شيئًا من حطام الدنيا، فمن جمع بين هذين الأمرين، وهما: العبادة والإخلاص لله - تعالى - فيها، فقد جاء بالحنيفية، ودل عليهما أدلة كثيرة، منها:
- قوله - تعالى -: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ [البينة: 5].
- وقوله - تعالى -: ﴿فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾ [الزمر: 2، 3].
- وقوله - تعالى -: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110].
- وقوله: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ [ النساء: 36].
ومن لم يأتِ بأحد هذين الأمرين، وهما العبادة والإخلاص، لم يأتِ بالحنيفية، وبناءً عليه عُرف أن من يدْعون غير الله، ويعبدون القبور والأضرحة، ويذبحون لها، ويطوفون بها، ونحو ذلك، وقعوا في الشرك الأكبر، وإن سمَّوا أنفسَهم مسلمين، فهم ليسوا كذلك؛ لأنهم ليسوا على الحنيفية، فهم جاؤوا بعبادات؛ ولكنهم لم يخلصوا بها لله - تعالى - فهم ليسوا حنفاء.
- بالحنيفية أمر الله - عز وجل - جميع الخلق، ولذلك خلقهم:
واستدل المؤلف لذلك بقوله - تعالى -: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، ومعنى يعبدون: يوحِّدون.
ففي هذه الآية دلالةٌ على أن الله خَلَقَ الخلقَ وأوجدهم؛ لأجل أن يأتوا بالملة الحنيفية، فيعبدوه ويخلصوا له العبادة، فأمر بذلك الجن والإنس.
والجن: عالم غيبي لا نراه؛ لأنه مخلوق من نار، بخلاف الإنس، فهم مخلوقون من طين؛ قال - تعالى -: ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ﴾ [الرحمن: 14، 15].
فعالم الجن عالم مخفي، واجتماع الجيم مع النون في لغة العرب يدلُّ على الستر، فلاستتارهم سُمُّوا جنًّا، وهم مكلَّفون بالعبادة والتوحيد، ومنهيُّون عن المعصية والشرك، يدل عليه ما استدل به المؤلف: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، وفسَّر المؤلف (يعبدون) بـ (يوحدون)، والتوحيد: هو إفراد الله بالعبادة - كما سيأتي.
وبالحنيفية أمر الله - تعالى - جميع الأمم؛ قال - تعالى -: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25].
- التوحيد أعظم ما أمر الله به عباده:
التوحيد في اللغة: مِن وحَّد يوحِّد توحيدًا؛ أي: جعله واحدًا لا ثاني له، وفي الشرع عرَّفه المؤلف بقوله: إفراد الله بالعبادة.
وتعريف المؤلف هنا تعريفٌ لتوحيد الألوهية، ولم يأتِ بغيره من أنواع التوحيد؛ لأنه أراد بيان التوحيد الذي حصل فيه النزاعُ والجدال، وشُرع من أجله الجهاد، والذي بُعثتْ من أجله الرسلُ - عليهم السلام - وهو توحيد الألوهية.
وقوله: "إفراد الله بالعبادة"؛ أي: تفرده - جل وعلا - بكل شيء: أقوالنا، وأفعالنا، ومقاصدنا.
وأما تعريف التوحيد بمعناه العام، فهو إفراد الله - تعالى - بالربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات.
وهذه هي أنواع التوحيد الثلاثة:
1- توحيد الربوبية: هو أفراد الله بالخلق والتدبير؛ قال - تعالى -: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الرعد: 16].
2-وتوحيد الألوهية: هو إفراد الله - تعالى - بالعبادة، وهو الذي ذكره المؤلف، وتقدَّم سبب إيراده؛ قال - تعالى -: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ﴾ [الحج: 62].
3- وتوحيد الأسماء والصفات: هو إفراد الله - تعالى - بما سمَّى به نفسَه، ووصف به نفسَه في كتابه، أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - وذلك بإثبات ما أثبته، ونفي ما نفاه، من غير تحريفٍ ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
- أعظم ما نهى الله عنه الشركُ:
الشرك في الأصل بمعنى النصيب، تقول: أشرك مع الله غيره؛ أي: جعل لغيره نصيبًا معه.
وفي الشرع - كما قال المؤلف -: هو دعوة غير الله معه، ومعنى ذلك أن يصرف شيئًا من العبادة لغير الله - تعالى - كأن يصرفها لمَلَكٍ، أو نبي، أو صالح من الصالحين، أو غيرهم من المخلوقات، فمن فعل ذلك، فقد وقع في الشرك، الذي هو أعظم ما نهى الله عنه.
- لماذا الشرك أعظم ما نهى الله عنه؟
الجواب: لأن أعظم حقٍّ على العبد في هذه الدنيا حقُّ الله - تعالى - وحقُّ الله - تعالى - إفرادُه بالعبادة، فإذا أشرك مع الله غيره، ضيَّع أعظمَ الحقوق، وارتكب أعظم ما نهى الله - تعالى - عنه؛ ويدل على ذلك حديثُ ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: سألت أو سئل رسول الله: أيُّ الذنب عند الله أعظم؟ قال: ((أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك))[22].
ولذا فإن الذي يترتب على الشرك أشياءُ عظيمة، منها:
1- أن الله - تعالى - لا يغفر لمن لم يتب منه؛ قال - تعالى -: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 48].
2- أن الله حرَّم عليه الجنة، فهو خالد مخلَّد في نار جهنم؛ قال - تعالى -: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ [المائدة: 72].
3- أنه بذلك حبطتْ أعمالُه؛ قال - تعالى -: ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 88].
وبناءً على ما تقدم؛ يتبيَّن أنه من أشرك فقد ظَلَمَ نفسه، وأوردها المهالك؛ قال - تعالى -: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13].
- استدل المؤلف بقوله - تعالى -: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ [النساء: 36].
وفي هذه الآية فائدتان:
1- أنها جمعتْ بين الأمر بالعبادة والإخلاص لله - تعالى - بقوله - تعالى -: ﴿وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾، وهذه هي الملة الحنيفية - كما تقدم.
2- قوله - تعالى -: ﴿شَيْئًا﴾ نكرة في سياق النهي؛ فهي تفيد العموم؛ أي: ولو كان أي شرك، ولو يسيرًا، ولو شركًا أصغر، فإن الله - تعالى - ينهاكم عن ذلك.
فصل في: [بيان الأصول الثلاثة]
قال المؤلف - رحمه الله -:
"فإن قيل لك: ما الأصول الثلاثة التي يجب على الإنسان معرفتُها؟
فقل: معرفة العبد ربَّه، ودينَه، ونبيَّه محمدًا - صلى الله عليه وسلم -".
_____________________________
الشرح
شرع المؤلف في تفصيل وبيان ما أجمله من قبل، وهي الأصول الثلاثة، فقدَّم لها هذه المقدمة؛ ليفصِّل بعد ذلك، والكلام على هذه المقدِّمة من عدة وجوه:
ما معنى الأصول؟
الأصول: جمع أصل، وهو ما يُبنى عليه غيرُه، ومن ذلك أصل الجدار، وهو أساسه؛ أي: قاعدته التي في الأرض التي بُني عليها الجدار، وكذلك أصل الشجرة الذي يتفرع منه الأغصان؛ قال - تعالى -: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾ [إبراهيم: 24]، وهذه الأصول الثلاثة التي أرادها المؤلف هي قواعدُ وأسسٌ عليها يدور الدِّين.
* ابتدأ المؤلف - رحمه الله - هذا الفصلَ بطريقة الاستفهام، وهذا من حُسن التعليم الذي وُفِّقَ له المؤلف، ولأن ما سيعرضه أمرٌ في غاية الأهمية؛ أراد المؤلف أن ينتبه الإنسانُ لما سيُلقى له، ولقد وُفِّقَ المؤلف في حسن تعليمه من وجهين:
الأول: أنه في أوَّل هذه الرسالة أجمل ما سيعرضه، ثم بدأ بالتفصيل؛ ليكون السامع والقارئ عارفًا لمحتوى هذه الرسالة أولاً، ثم يتعرف على تفاصيل ما تحتويه؛ كما قال - تعالى -: ﴿ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ [الأنعام: 143]، هذا مجمل، ثم جاء التفصيل: ﴿مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ﴾ [الأنعام: 143]، ﴿وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ﴾ [الأنعام: 144]، وكذلك السُّنة: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم)) ثم فصَّل.
الثاني: طريقة السؤال والجواب التي سلكها الشيخ - رحمه الله - والتي فيها لفتٌ لانتباهِ المتعلِّم، وشحذٌ لهمته ولما سيُلقي عليه، وهي طريقة نبويَّة؛ فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأل أصحابَه؛ حتى تتهيأ أذهانُهم للجواب، ثم يجيبهم، وهذا كثير في السُّنة، كقوله: ((أتدرون من المفلس؟))، وقوله لمعاذ: ((أتدري ما حقُّ الله على العباد، وحق العباد على الله؟))، وقوله: ((يا أبا المنذر، أتدري أيُّ آية من كتاب الله معك أعظمُ؟))، وغيرها من النماذج، وهذا من حسن تعليمه - صلى الله عليه وسلم - واقتفى أثرَه مؤلفُ الرسالة.
* الأصول الثلاثة التي ذكرها الشيخ هي الأصول التي سيُسأل عنها المرءُ في قبره، وهي التي عليها مدار الدِّين - كما تقدم - فمن عرَفها في الدنيا حقَّ المعرفة، كان ثابتًا عند السؤال في قبره، وكان ناجيًا من أهوال ما بعده.
ويدل على ذلك: حديث أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن العبد إذا وُضع في قبره، وتولَّى عنه أصحابُه - وإنه لَيسمعُ قرع نعالهم - أتاه ملكان فيقعدانه، فيقولان له: ما كنتَ تقول في هذا الرجل؛ محمد - صلى الله عليه وسلم؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله))[23].
وعن البراء بن عازب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ﴾ [إبراهيم: 27]، قال: ((نزلتْ في عذاب القبر، فيقال له: من ربُّك؟ فيقول: ربي الله، ونبيِّي محمد - صلى الله عليه وسلم - فذلك قوله - عز وجل -: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾))[24].
وعن أبي داود من حديث البراء أيضًا: ((ويأتيه ملكانِ فيُجلسانه، فيقولان له: من ربُّك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم)).
[الأصل الأول: معرفة العبد ربه]
قال المؤلف - رحمه الله -:
"فإذا قيل لك: ما الأصول الثلاثة التي يجب على الإنسان معرفتُها؟
فقل: معرفة العبد ربَّه، ودينَه، ونبيَّه محمدًا - صلى الله عليه وسلم.
فإذا قيل لك: من ربُّك؟
فقل: ربي الله، الذي رباني وربى جميعَ العالمين بنِعَمه، وهو معبودي ليس لي معبود سواه؛ والدليل قوله - تعالى -: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: 2]، وكلُّ من سوى الله عالمٌ، وأنا واحد من ذلك العالم.
فإذا قيل لك: بِمَ عرفتَ ربَّك؟
فقل: بآياته ومخلوقاته، ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر، ومن مخلوقاته السموات السبع، والأرضون السبع، وما فيهن وما بينهما؛ والدليل قوله - تعالى -: ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [فصلت: 37]، وقوله - تعالى -: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: 54].
والرب هو المعبود؛ والدليل قوله - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 21، 22]، قال ابن كثير - رحمه الله تعالى -: "الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة".
_____________________________
الشرح
شرع المؤلف بالتفصيل في هذه الأصول، فبدأ بالأصل الأول، وهو معرفة العبد ربَّه، فسَاقَ هذا الأصلَ مع أدلته، والكلامُ على ما أورده المؤلف في هذا الأصل من عدة وجوه:
- استهلَّ المؤلف هذا الأصلَ كعادته بطريقته البديعة، وهي الاستفهام: "فإذا قيل لك: من ربُّك؟"، وتقدَّم ما لهذه الطريقة من لفتٍ للانتباه، وتحريكٍ للذهن، والسؤال هنا عن الرب، وأصل الرب في اللغة بمعنى المربي، ويتفرع من هذه الكلمة عدة معانٍ، كـ: (المالك، والمدبِّر، والمتصرف، والمتعهد، والمصلح، والسيد)، كل هذه تدخُل في معنى الرب؛ ولذا قال المؤلف في الجواب: "فقل: ربي الله، الذي رباني وربَّى جميع العالمين"، فربوبيتُه - سبحانه وتعالى - لجميع الخلق، وهي: قيامه - سبحانه - بجميع شؤونهم، وتدبيره لأمرِ خلْقه، لا غنى لأحدٍ عن فضله؛ بل الخلق كلهم فقراءُ إليه، وهو الغني الحميد، لا يستطيعون الانفكاك عنه، ولا الخلاصَ منه، وربوبيتُه - سبحانه - لا تختص بخلقٍ دون خلق؛ بل هي لجميع العالمين، ربَّاهم - جل وعلا - بنِعَمه، فأغدق عليهم نعمه الكثيرة؛ ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [النحل: 18].
ونِعَمُ الله على نوعين:
1- نعم محسوسة: وهي النِّعم التي تُحسُّ بلمس أو مشاهدة ونحوهما، مثل: نعمة الرزق من أكلٍ وشراب، وغير ذلك مما يُدرك بالحواس.
2- نعم معنوية: وهي النعم التي لا تدرك بالحواس، فليس لها شاخص يُرى، أو صوت يسمع، ونحو ذلك، مثل: نعمة الإيمان، ونعمة الفهم، وحسن النية، ونحو ذلك.
- قوله: "وهو معبودي، ليس لي معبود سواه":
بعد أن أثبت المؤلف الربوبيةَ العامة لكل مخلوق في هذا العالم، أتبَعَ هذا الأمرَ بحقِّ هذه الربوبية، وهو عبادته - سبحانه - على الوجْه الأكمل، فقال: "وهو معبودي"؛ أي: الذي أتقرَّبُ إليه بالعبادة، وبيَّن أن هذه العبادة لا بد أن تكون خاليةً من الشرك، فقال: "ليس لي معبود سواه"، مع أن لفظ "معبودي" يكفي في إفراد الله - سبحانه وتعالى - بالعبادة؛ لأنها لفظة معرَّفة بالإضافة، وهي مما يفيد الحصر في لغة العرب، إلا أنه أكَّد ذلك بالعبارة الأخرى، فهو المستحق للعبادة - سبحانه وتعالى.
* استدل المؤلف على هذين النوعين من التوحيد - الربوبيةِ والألوهية - بقوله - تعالى -: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: 2].
وفي هذه الآية شاهدان:
الشاهد الأول: قوله: ﴿لِلَّهِ﴾، ففيه الإثبات بأنه المعبود وحده لا شريك له، ففي هذا إثبات الألوهية، واللام في ﴿لِلَّهِ﴾ لام الاستحقاق، فهو المستحق لذلك - سبحانه - واللام في ﴿الْحَمْدُ﴾ للاستغراق؛ أي: تستغرق جميع الحمد، وأفضلُ تعريف للحمد ما ذَكَره شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" أن الحمد: هو الإخبار عن صفات المحمود على وجْه المحبة والتعظيم.
فلا بد من أمرين:
1- الإخبار عن صفات المحمود؛ أي: الأخبار التي يُثنى بها عليه.
2- أن يكون على وجه المحبة والتعظيم.
وهذا هو الفارق بين الحمد والمدح؛ لأنه إذا كان إخبارًا عن صفات المحمود من دون محبة وتعظيم، صار مدحًا؛ لأن الإنسان قد يمدح شخصًا وهو لا يحبُّه.
والشاهد الثاني: قوله: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، ففيه إثبات ربوبيته - سبحانه - والربوبيةُ هنا مضافة إلى العالمين، فهي عامة شاملة لكل أحد، سواء كان من العوالم المكلَّفة، وهم: بنو آدم، والجن، والملائكة، هؤلاء كلِّفوا من رب العالمين، فأُمروا بأشياء، ونُهُوا عن أشياء، أو كان من العوالم غير المكلَّفة، الذين عبادتهم تسبيح فطري، لا تكليفي بأمر ونهي؛ قال - تعالى -: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: 44].
- "فإن قيل لك: بِمَ عرفتَ ربَّك؟":
وهذا السؤال يراد به الدليل على ما تقدم؛ أي: بأي شيء عرفتَ الله - تعالى؟ فما هي البراهين التي جعلتْك تؤمن بالله الإيمان الذي تقدم بأنه هو الذي رباك وربى جميع العالمين بنعمه، وهو المعبود - سبحانه - ليس هناك معبود بحق سواه؟
فما الدليل على تفرده - سبحانه - بالربوبية والألوهية؟
ذكر المؤلف برهانًا لذلك الآيات والمخلوقات التي نصبها الله - تعالى - دلالةً على وحدانيته وتفرُّده بالربوبية والألوهية، وذكر أمثلة لكل واحدة منهما، واستدل لها:
أولاً: آياته:
والآيات جمع آية، والآية معناها في اللغة: العلامة، فإذا قيل: آية محمد - صلى الله عليه وسلم - نزول القرآن عليه، معناه: أن علامة النبي - صلى الله عليه وسلم - نزول القرآن.
وهنا المؤلف بيَّن أن العباد يعرفون الله - تعالى - بآياته، وهي دلالاته وبراهينه، وهي كثيرة جدًّا، قال الشاعر:
فَوَا عَجَبًا كَيْفَ يُعْصَى الإِلَـ = ـهُ أَمْ كَيْفَ يَجْحَدُهُ الجَاحِدُ
وَلِلَّهِ فِي كُلِّ تَحْرِيكَةٍ = وَتَسْكِينَةٍ أَبَدًا شَاهِدُ
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ = تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ
وآيات الله على نوعين:
1- آيات كونية:
وهي المخلوقات: كالسماء والأرض، والشمس والقمر والنجوم، والنبات والإنسان والحيوان، ونحوها.
2- آيات شرعية:
وهي الوحي الذي جاءتْ به الرسل، فهي آيات مقروءة، أنزلها الله - تعالى - على رسله؛ قال - تعالى -: ﴿هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ [الحديد: 9]، فالقرآن - وكذلك ما جاء في الإنجيل والتوراة والكتب السماوية من دلائل صحيحة قبل أن تُحرَّف - كل هذا داخل في الآيات الشرعية الدينية.
فهذه الآيات بما فيها من أشياء لا تناقض فيها، وبما جاءت به من مصالح العباد، وبيان طريق سعادتهم في دينهم ودنياهم برهانٌ ودليل على الله تعالى.
والمؤلف - رحمه الله - ذكر من آيات الله - سبحانه - التي تدل عليه: الليل والنهار، والشمس والقمر، فهو ذكر آيات شرعية، وكلا النوعين دالاَّن على الله تعالى - كما تقدم - واستدل بقوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [فصلت: 37].
ووجه دلالة الليل والنهار:
1- بتعاقبهما، فهذا يذهب، ويأتي هذا بعده، وهكذا، بانتظام كامل، وتناسق بديع؛ كما قال - تعالى -: ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [يس: 40].
2- اختلافهما في الطول والقصر، وأخْذ أحدهما من الآخر في وقت دون وقت، كالصيف والشتاء، بشكل مرتب لا عشوائية فيه.
ووجه دلالة الشمس والقمر عليه - سبحانه وتعالى -:
1- جريانهما باستمرار منذ أن خلق الله الشمس والقمر، إلى أن يأذن الله - تعالى - بنهاية الكون، فالشمسُ والقمر في سيرٍ دائم لا انقطاع فيه، وفي انتظام بديع يدلُّ على حسن خلق الله - جل وعلا - فالشمس تسير في فلكها في مدة سنة، وهي كل يوم تطلع وتغرب، والقمر يبدو كالخيط، ثم يتزايد نورُه ويتكامل، ثم يتناقص حتى يرجع كالخيط، في تغيُّر مرتب ومنظم.
2- ما فيهما من المنافع؛ فالشمس في نورها وإشراقها، والقمر في ضيائه؛ قال - تعالى -: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾ [يونس: 5].
ولما كان الشمس والقمر أكبرَ الأجرام، ومن أعظم المخلوقات؛ نبَّه الله - تعالى - إلى أنهما عبدانِ مخلوقان من عبيده، تحت قهره وتسخيره؛ فقال - تعالى -: ﴿لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [فصلت: 37].
ثانيًا: مخلوقاته:
والمخلوقات تدخل تحت الآيات؛ فإن مخلوقاته - سبحانه وتعالى - من آياته - جل وعلا - فيكون كلام المؤلف هنا من باب عطف الخاص على العام على سبيل الاهتمام بالخاص، وذكر للمخلوقات أمثلة، فقال: "ومن مخلوقاته: السموات السبع، والأرَضون السبع، ومن فيهن، وما بينهما".
وتقدَّم أن المخلوقات داخلةٌ في الآيات، ولكن لمزيد اهتمام بها ذَكَرها المؤلف؛ ولأن الإنسان يصبح وهو يرى الأرض والسماء على الدوام، فعينُه أَلِفَتْ ذلك، فأراد المؤلف أن يلفت الانتباه إليهما، وأنهما من الدلائل على الله - تعالى - لأن الإنسان قد يغفل عن كون السماء والأرض كذلك؛ لأن عينه ألفتْ ذلك فلا تتأملها، والله - عز وجل - يقول فيها: ﴿إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الجاثية: 3]، ويقول: ﴿لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [غافر: 57]، واستدل المؤلف بقوله - تعالى -: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الأعراف: 54].
ووجه دلالة السموات والأرض على الله - تعالى -: أما السموات السبع، فسعتُها وارتفاعها، ولطافتها واتساعها، وكواكبها التي فيها، وارتفاعها بغير عَمَدٍ من تحتها، ولا علائق من فوقها، وكِبَر خلقها، وغير ذلك عند التأمل.
وأما الأرَضون السبع، فكثافتُها وانخفاضها، وجبالها وبحارها، وقفارها وعراؤها، وما فيها من المنافع وسعة أرجائها.
(ومن فيهن) من أصناف المخلوقات من الحيوانات والنباتات، وسائر الموجودات، وما بين السموات والأرض من الأهوية والسحاب، وغير ذلك مما هو دالٌّ على الله - تعالى.
* الرب هو المعبود:
أي: هو المستحق للعبادة، أو هو الذي يُعبد لاستحقاقه للعبادة، وليس كل من عُبد فهو رب.
واستدل المؤلف بقوله - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 21، 22]، وفي هذا الاستدلال عدة فوائد، ومنها لفتتان:
اللفتة الأولى: أن هذه الآية هي أول أمرٍ في كتاب الله - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا﴾، فأول أمر في كتاب الله - تعالى - هو الأمر بإفراد الله بالعبادة، وأنها سببٌ لحصول الثمرة العظيمة، وهي التقوى.
اللفتة الثانية: أن الله - عز وجل - ذكر في الآية أوصافًا؛ ليبيِّن أن المستحق للعبادة هو الموصوف بهذه الصفات في الآيتين السابقتين، فهو الخالق المدبر الرازق، فكيف تجعلون لله أندادًا وشركاءَ وأنتم تعلمون ذلك؟! فهي أوصاف لا تصلح إلا لإلهٍ يستحق العبادةَ؛ ولذا أنكر الله - تعالى - على من لم يتَّصف بذلك كيف يُعبد؟ فقال - تعالى -: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا﴾ [الفرقان: 3].
ثم ذكر المؤلف قول ابن كثير؛ تأييدًا للمعنى السابق، وتفسيرًا لما استدل به المؤلف، حيث قال: "الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة"، وليس هذا هو كلام ابن كثير نصًّا؛ وإنما لخَّصه المؤلِّف بهذه العبارة التي تؤدِّي نفس المعنى الذي قاله ابن كثير - رحمه الله.
وابن كثير هو عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الشافعي، المتوفى سنة 774 من هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو من تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية، وممن استفاد من ابن القيم، وهو من أخص أصدقائه، له تفسير عظيم مشهور، عمدة التفسير اسمه: "تفسير القرآن العظيم".
فصل في [أنواع العبادة]
قال المؤلف - رحمه الله تعالى -: "وأنواع العبادة التي أمر الله بها مثل الإسلام والإيمان والإحسان، ومنه الدُّعاء والخوف والرَّجاء، والتوكل والرغبة والرهبة، والخشوع والخشية والإنابة، والاستعانة والاستعاذة والاستغاثة، والذبح والنذر، وغير ذلك من أنواع العبادة التي أمر الله بها - كلها لله – تعالى - والدليل قوله - تعالى -: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ [الجن: 18]، فمن صرف منها شيئًا لغير الله، فهو مشرك كافر، والدليل قوله - تعالى -: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ [المؤمنون: 117].
وفي الحديث: ((الدُّعاء مخُّ العبادة))، والدليل قوله - تعالى -: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر: 60]، ودليل الخوف قوله - تعالى -: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 175]، ودليل الرجاء قوله - تعالى -: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110]، ودليلُ التوكل قوله - تعالى -: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [المائدة : 23]، وقال: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: 3]، ودليل الرغبة والرهبة والخشوع قوله - تعالى -: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء: 90]، ودليل الخشية قوله - تعالى -: ﴿فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي﴾ [البقرة: 150]، ودليل الإنابة قوله - تعالى -: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ﴾ [الزمر: 54]، ودليل الاستعانة قوله - تعالى -: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5]، وفي الحديث: ((إذا استعنت فاستعن بالله))، ودليل الاستعاذة قوله - تعالى -: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ [الفلق: 1]، وقوله - تعالى -: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ [الناس: 1]، ودليل الاستغاثة قوله - تعالى -: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ﴾ [الأنفال: 9]، ودليل الذبح قوله - تعالى -: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، ومن السنة: ((لعن الله من ذبح لغير الله))، ودليلُ النذر قوله - تعالى -: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا﴾ [الإنسان: 7]".
الشرح
لما بين المؤلف - رحمه الله - وجوب إفراد الله - تعالى - بالعبادة، واستدل لذلك بما تقدم، شرع في بيان شيء من العبادة، وذكر أدلة لهذه الأنواع من العبادة، والكلام على قول المؤلف هنا على عدة وجوه:
الوجه الأول: تعريف العبادة:
العبادة في اللغة: الذُّل والخضوع، تقول: طريق معبَّد؛ أي: مذلل.
وفي الشرع: لها عدة تعاريف عند العلماء.
- قال العلامة ابن قاسم - رحمه الله -: "وللعلماء فيها تعاريفُ كثيرة، وأحسن وأجمع ما عرفت به هو ما عرفها به شيخُ الإسلام بقوله: "اسم جامع لكل ما يُحبُّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة"، وهو من أشمل ما عرفت به، فكل فرد من أفراد العبادة داخل تحت هذه العبارة".
وذكر المؤلف عِدَّة أنواعٍ من العبادة، وبدأ بذكرِ الإسلام والإيمان والإحسان لأهميتها، ولأنَّ جميعَ أنواع العبادة داخلةٌ فيها، ويدل على ذلك حديثُ جبريل الطويل، وفيه ذكر الإسلام والإيمان والإحسان، وفي آخر الحديث قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم))، فأرجع أمور الدين لهذه الثلاثة.
وسيأتي مزيد بيان وكلام عنها في الأصل الثاني بإذن الله، ثم ذكر أنواعًا من العبادة لا جميع أنواع العبادة، ولذلك قال: "ومنه الدُّعاء والخوف والرجاء..."، و(من) للتبعيض؛ أي: بعضها، وقبل ذلك قال: "مثل الإسلام والإيمان والإحسان"، وهذا إشعار منه بأنه أراد التمثيل، وذكر شيء منها لا استيعابها.
الوجه الثاني: أنواع العبادة التي ذكرها المؤلف:
ذكر المؤلف أنواعًا من العبادة وهي "الدعاء، والخوف، والرجاء، والتوكل والرغبة، والرهبة، والنذر"، هذه هي العبادة التي ذكرها المؤلف، وهي ترجع إلى ثلاثة أنواع:
- عبادات فعلية كالنذر.
- وعبادات قولية كالدعاء.
- وعبادات قلبية كالخوف، وهي أكثر ما ذُكر.
الوجه الثالث: بيان العبادات بالأدلة:
المؤلف بعدما عدَّد أنواعًا من العبادات أعاد ذكرها بالأدلة، وهي كما يلي:
أولاً: الدعاء ودليله:
بدأ به لأنه أعظمُ أنواع العبادة، والدعاء على نوعين:
الأول: دعاء عبادة:
ودعاء العبادة هو كل عمل يعبد الإنسان به ربه - جلَّ وعلا - فهو دعاء، فإنْ قيل: لماذا تسمى العبادة دعاءً؟
فالجواب: لأنَّ فيها معنى الطلب، فكل عمل يتعبد به الإنسان لربه يقصد من ورائه طلب رضا الله؛ ليدخل جنته، وينجو من ناره.
والثاني: دعاء المسألة:
وهو ما كان فيه سؤال، كأنْ يسألَ مغفرة أو شفاءً أو غرضًا من أغراض الدُّنيا والآخرة، فإن هذا طلب أيضًا، ولذا سُمِّي دعاءً، والدَّاعي حينما يرفع يديه، فإنَّه قد يَجمع في دعائه النوعين من الدعاء، فإذا رفع يديه يتضرع ويعدد أسماء الله الحسنى وصفاته العُلى من دون مسألة، فهذا دعاء عبادة، وإذا سأل فهذا دعاء مسألة.
- استدل المؤلف على العبادة بعدة أدلة:
1 - قوله - تعالى - :﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ [الجن: 18].
قوله: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ﴾ المساجد في الآية لها تفسيران:
الأول: أنَّ المقصودَ بها أماكن السجود، البقاع التي يُصلَّى فيها، والثاني: الأعضاء التي يسجد عليها، وهي الوجه واليدان والركبتان والقدمان، وكلا التفسيرين مُراد، فالبقاعُ لا نعبد فيها أحدًا غير الله - تعالى - ومواضع السجود لا يُسجد بها لغير الله - تعالى - وهذا نَهي عن الشرك، فلا يَجوز صرفها لغير الله - تعالى – وقوله: ﴿أحدًا﴾ نكره في سياق النهي تفيد العموم، فالنهي عن إشراك أيِّ أحد، سواء كان ملكًا أو نبيًّا أو وليًّا، أو شجرًا أو حجرًا، أو غير ذلك.
وهذه الآية يصلح الاستدلالُ بها على عدم جواز صرف أيِّ عبادة لغير الله - تعالى - لأنَّها تتضمن دعاءَ العبادة، ودُعاء المسألة، كما قال المؤلف، ومَن صرف شيئًا من العبادة لغير الله، فهو مشرك، وهذا لا إشكالَ فيه، فلو أشرك في عبادة واحدة، وأخلص في بقية العبادات لله – تعالى - فلن ينفعه ذلك، كمن يدعو غير الله - تعالى - كالأموات والغائبين، أو يرجوهم، أو يخافهم، أو يسألهم قضاءَ الحاجات وتفريجَ الكربات ونحو ذلك، فهو مُشرك الشرك الأكبر؛ لأنَّه أشرك مع الله غيره.
2 - قوله - تعالى - ﴿وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ [المؤمنون: 117].
في الآية أنَّ مَن دعا مع الله إلهًا آخر، فقد نال ثلاثةَ أمور: التهديد والوعيد في قوله - تعالى -: ﴿فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ﴾، وعدم الفلاح ﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ﴾، ووصفه بالكفر في آخر الآية.
فائدة: قوله: ﴿لا برهان له به﴾ ليس معناه أنَّ هناك مَن سيكون له بُرهان، بل هي صفة كاشفة مبيِّنة، فيها إشارة إلى أنه لا يُمكن أن يكون برهانًا على تعدد الآلهة.
3 - وفي الحديث: ((الدعاء مخ العبادة)).
ومخ الشيء: لبُّه وخلاصته وما يقوم به، ومعناه أنَّ العبادة لا تقومُ إلا بالدعاء، كما أن الإنسان لا يقوم إلا بالمخ، والحديث ضعيفٌ رواه الترمذي من حديث أنس وقال الترمذي: "إن هذا حديث غريب من هذا الوجه، لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة".
فالحديث فيه ابن لهيعة وهو ممن اختلط، وفيه أيضًا الوليد بن مسلم وهو مدلس وقد عنعن، وضعَّف الحديث المنذري في "الترغيب، 2/ 482".
لكن معنى هذا الحديث صحيح، ويشهد له ما أخرجه الإمام أحمد وأبو داوود والترمذي وابن ماجه، من حديث النعمان بن بشير: أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((الدعاء هو العبادة)).
4 - قوله - تعالى -: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر: 60]، قال: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾، ثم قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي﴾، سمي الدُّعاء هنا عبادة، وهذا فيه تأييد كون الدُّعاء هو العبادة؛ لأنَّ قوله "عبادتي" يرجع على الدُّعاء، والدعاء المأمور به في الآية دعاء العبادة ودعاء المسألة، فإذا كان دعاء عبادة، فإن استجابته - سبحانه - هو الإثابة على هذه العبادة وقَبولها، وإذا كان دعاء مسألة، فإنَّ استجابته – سبحانه - حصول المطلوب، وقد يتأخَّر حصول المطلوب أو لا يَحصل؛ لحكمةٍ أرادها الله - تعالى - قد تخفى على العبد.
ثانيًا: الخوف ودليله:
- تعريفه:
الخوف: هو الذعر، وهو انفعال يحصل بتوقع ما فيه هلاك أو ضرر أو أذى.
- الخوف على ثلاثة أنواع:
الأول: الخوف الطبيعي:
وهو الخوف الذي جُبل عليه الإنسانُ؛ كخوف الإنسان من عدو أو سبع، أو حية أو ضرر أو أذى، فالأصلُ في هذا النوع الإباحة؛ ولذا قال الله - تعالى - عن موسى - عليه السَّلام -: ﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ﴾ [القصص: 21]، لكن إن كان هذا الخوف خوفًا من شيء لا يخاف منه عادة، كالخوف الذي ينشأ عن الأوهام وغيره مما كان سببه ضعيفًا، فهو خوف مذموم.
الثاني: خوف السر:
ومنهم من يسميه "خوف العبادة"، وهو الخوف الذي يتقرَّب ويتعبد به الخائف للمَخُوف منه، وذلك بأن يستحضره في الغيب والشهادة وفي السر والعلن، ولذا أسموه خوف السر؛ لأنَّه إذا خافه في السر، فمن باب أولى أنْ يَخافه في العلن، وهذا النوع لا يكون إلا لله – تعالى - وصرفه لغير الله شرك أكبر، كأنْ يَخاف من ولي من الأولياء بعيدًا عنه أن يصيبه بمكروه، أو يَخاف من وثن أو صاحب قبر، وهذا النَّوع هو الواقع بين عباد القبور والمتعلقين بالأولياء؛ قال الله - تعالى - عن قوم هود: ﴿إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ﴾ [هود: 54]، فهم يعتقدون أن الآلهة يُخاف منها؛ لأنَّها قد تعتري الإنسان بسوء.
الثالث: الخوف المقعد عن الطاعة أو الحامل على المعصية:
وهذا النوع لا يصلُ إلى حد الشرك، ولكنَّه مَعصية يعاقب عليها الإنسان، كمن حمله الخوف على ترك الجهاد، أو ترك طلب العلم، أو الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، ونحو ذلك مما يَجب عليه، أو حمله الخوف فعل أي مَعصية، فهذه أنواع ثلاثة: الأول مباح، والثاني: محمود إن كان لله – تعالى - والثالث مذموم.
- ما استدل به المؤلف:
واستدل المؤلف لهذه العبادة بقوله - تعالى -: ﴿فلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ﴾ [آل عمران: 175]، وأول الآية: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ﴾ [آل عمران: 175]، وهذا نَهيٌ من الله - تعالى - لعباده ألا يعظِّموا في صدورهم تخويفَ الشيطان لهم، وحثٌّ وأمرٌ لهم بأن يصرفوا هذا له – سبحانه - فقال: ﴿وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 175]، فجعله علامة على صحة الإيمان.
ثالثًا: الرجاء ودليله:
- تعريف الرجاء:
الرجاء في الأصل يدل على الأمل الذي هو نقيض اليأس.
وفي الاصطلاح: هو تأمُّل الخير وقرب وقوعه، وله تعريفات أخرى:
قال ابنُ القيم: الرجاء: هو النظر إلى سعة رحمة الله.
وقيل: هو الاستبشار بجود وفضل الرب - تبارك وتعالى - والارتياح لمطالعة كرمه.
وقيل: هو الثقة بجود الرب تعالى.[25]
- الرجاء نوعان:
1 - رجاء محمود: وهو الرجاء الذي يصاحبه عمل، وكما استدل المؤلف: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110]، فالرجاء المحمود هو رجاء يكون معه عمل بطاعة الله - تعالى - رجاء ثوابه، وكذا رجاء رجل أذنب ذنوبًا ثم تاب منها صادقًا، رجاء مغفرة ربه وعفوه وإحسانه.
2 - رجاء مذموم: وهو الرجاء الذي يُصاحبه كسل، وهذا هو التمني والغرور، فهو رجاء رجل مُعتاد على التفريط والخطايا، ويرجو رحمةَ ربِّه بلا عمل، فهذا غرور وتَمنٍّ ورجاء كاذب، فالأول يسمى رجاء، والثاني يسمى تمنِّيًا.
- ما استدل به المؤلف:
استدل المؤلف بقوله - تعالى -: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110].
- ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ﴾، اللقاء يومَ القيامة على نوعين:
1 - لقاء خاص: وهذا لا يكون إلا للمؤمنين، وهو لقاء الرضا والنعيم من الله - سبحانه وتعالى.
2 - لقاء عام: وهذا لجميع الناس؛ قال الله - تعالى - عنه: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا﴾ [الانشقاق: 6 - 11]، وأمَّا الآية التي استدل بها المؤلف، فالمقصود به لقاء النعيم والرضا، وأن من أراده، ﴿فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110].
وفي الآية التحذير من الشرك، فلا يُشرك في العبادة مع الله أحدًا، لا ملكًا مُقرَّبًا، ولا نبيًّا مرسلاً، ولا أحدًا كائنًا من كان.
رابعًا: التوكل ودليله:
- تعريف التوكل:
التوكل في الأصل هو الاعتماد.
وفي الاصطلاح: هو صدق الاعتماد على الله - عزَّ وجلَّ - في جلب المحبوب، ودفع المكروه مع فعل الأسباب المأذون فيها، فلا بُدَّ للتوكل من اعتقاد واعتماد وعمل.
فالاعتقاد أنْ يعلم أن الأمر كله لله – تعالى - ويعتمد بقلبه على ربه - جل وعلا - ويثق به ثقة كاملة، ويعمل الأسباب المأذون فيها شرعًا.
- التوكل وفعل الأسباب:
بيان ذلك من عدة أمور:
أولاً: لا بُدَّ من فعل السبب مع التوكُّل، وفعل السبب لا يقدح في التوكل، فالنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أعظمُ المتوكلين، وكان يأخذ بالأسباب يأخذُ زاده في السَّفر، ويلبس درعه في الحرب، ويستأجر من يدُلُّه على الطريق في غزواته ونحو ذلك.
ثانيًا: ادِّعاء التوكل بالاعتماد على الله من دون فعل الأسباب طعنٌ في حكمة الله - تعالى - لأنَّ الله جعل لكل شيء سببًا، فادَّعاء ذلك لا يسمى توكلاً بل تواكلاً.
ثالثًا: الاعتماد على الأسباب وحْدَها دون الالتفات إلى الله - تعالى - نوعٌ من أنواع الشرك بالأسباب.
رابعًا: جَعْلُ أكثرِ الاعتماد على الأسباب نقصٌ في التوكُّل على الله - تعالى - لأنه قدح في كفاية الله تعالى.
- التوكل على الغير له أنواع:
الأول: التوكُّل على الغير فيما لا يقدر عليه إلا الله - تعالى - من جلب المنافع ودفع المضار، فهذا شرك أكبر، كأنْ يعتمد على ميت في جلب منفعة أو دفع مَضرة، وهذا يسمى "توكُّلَ السر"، وهو شرك أكبر؛ لأنه يعتقد أنَّ لهذا الميت تصرفًا سريًّا في الكون.
الثاني: التوكُّل على الغير من الأحياء فيما يقدر عليه مع الشعور بعلو مَرتبته، فهذا شرك أصغر؛ بسبب قوة تعلُّق القلب بهذا الإنسان، واعتماده عليه مع إغفاله أنَّه سببٌ من الأسباب وأنَّ الله - عزَّ وجلَّ - أجرى على يديه هذه النِّعم، كمن يعتمد على ملك أو وزير أو مسؤول، أمَّا إذا اعتقد الإنسانُ أن هذا سبب، وأنَّ الله - تعالى - أقدره على هذه النعم وأجراها على يديه، فحينئذ لا بأسَ بهذا.
الثالث: التوكُّل على الغير في فعل ما يقدر عليه نيابة عنه، فهذا لا بأس به، كأن يقول وكَّلت فلانًا بكذا، وقد دَلَّ على جواز ذلك الكتابُ والسنة والإجماع، فقد قال تعالى عن يعقوب لبنيه: ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ﴾ [يوسف: 87]، ووكل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أبا هريرة - رضي الله عنه - على الصدقة؛ كما في صحيح البخاري، ووكل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عليًّا - رضي الله عنه - في ذبح بقية بُدنهِ، يذبُحها في حَجَّة الوداع؛ كما في "صحيح مسلم".
- ما استدل به المؤلف:
قوله - تعالى -: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: 23]، ﴿وَعَلَى اللَّهِ﴾ جار ومجرور متقدم، والأصل: "توكلوا على الله"، ومن صور الحصر عند البلاغيين تقديمُ ما حَقُّه التأخير؛ أي: على الله توكَّلوا لا على غيره.
قوله: ﴿فَتَوَكَّلُوا﴾ يقتضي الوجوب، ﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾، قال ابن القيم: "فجعل التوكل على الله شرطًا في الإيمان، فدَلَّ على انتفاء الإيمان عند انتفائه، فمن لا توكُّلَ له لا إيمان له"[26].
- الآية الأخرى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: 3]؛ أي: إنَّ الله كافيه، وهذا الجزاء لم يأتِ في عبادة من العبادات غير التوكل، وساق المؤلِّف آيتين، ومن عادته ألاَّ يسوق إلا آية واحدة في العبادة؛ ليُبيِّن في الآية الأولى الدليل على وجوب التوكل "فَتَوَكَّلُوا"، وفي الثانية على ثواب وجزاء التوكل "فَهُوَ حَسْبُهُ".
خامسًا: الرغبة والرهبة والخشوع ودليلها:
- الرغبة: محبة الوصول إلى الشيء المحبوب.
- الرهبة: الخوف المثمر للهرب من المخُوف، فهي خوف مقرون بعمل.
- الخشوع: الذل والتطامن لعظمة الله؛ بحيث يستسلم لقضائه الكوني والشرعي.
فالرغبة فيها صدق الرَّجاء، والرهبة عكسها فيها صدق الخوف، والخشوع هو الذل لله - تعالى - وهو ركن لا تستقيم العبادة إلا به.
واستدل المؤلف لهذه العبادات الثلاث بما أثنى الله به على نبي الله زكريا - عليه السَّلام - وأهل بيته، فقال فيهم: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء: 90].
سادسًا: الخشية:
- تعريفها:
الخشية نوع من الخوف، ولكنَّها أخص من الخوف، فهي الخوف مع التعظيم، فهي خوف مع علم بعظمة من يَخشاه، بخلاف الخوف فقد يكون مع عدم التعظيم، كأن يكون الخائف ضعيفًا حتى مع كون المخوف لا يستحقُّ الخوف منه.
- الفرق بين الخوف والخشية:
قال الفيروزآبادي: الخشية أخصُّ من الخوف، فإنَّ الخشية للعلماء بالله - تعالى - فهي خوف مقرون بمعرفة؛ قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنِّي أتقاكم لله وأشدكم له خشية))، فالخوف حركة، والخشية انجماع وانقباض وسكون، فالخوف لعامة المؤمنين، والخشية للعلماء العارفين، والهيبة للمحبين، والوجل للمقربين، وعلى قدر العلم والمعرفة تكون الخشية؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لو تعلمون ما أعلم، لضَحِكْتُم قليلاً، ولبَكَيْتُم كثيرًا، ولما تلذذتم بالنِّساء على الفُرُش، ولخرجتم إلى الصُّعُدات، تجأرون إلى الله تعالى))، فصاحب الخوف يلتجئُ إلى الهرب والإمساك، وصاحب الخشية يلتجئُ إلى الاعتصام بالعلم، ومثلهما كمثل من لا علمَ له بالطب، ومثل الطبيب الحاذق، فالأول يلتجئُ إلى الحمية والهرب، والطبيب يلتجئُ إلى معرفته بالأدوية والأدواء، وكلُّ واحد إذا خِفْتَه هَرَبْتَ منه، إلاَّ الله، فإنَّك إذا خِفْتَه هربتَ إليه، فالخائف هاربٌ من ربِّه إلى ربه.[27]
- ما استدل به المؤلف.
قوله - تعالى - ﴿فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي﴾ [البقرة: 150]، وفي هذه الآية النَّهي عن خشية غير الله، وكذلك عن خشية غير الله كخشية الله، فمن خشي غير الله - جل وعلا - كخشية الله، فقد أشرك شركًا يُخرجه من الملة.
سابعًا: الإنابة ودليلها:
- تعريفها:
الإنابة في اللغة: الرجوع، أناب إلى كذا؛ أي: رجع إليه.
وفي الشرع: هي التوبة مع رجوع إلى حال أحسن، فيعكف القلب على طاعة الله ومَحبته والإقبال عليه.
- ومن الفروق بينها وبين التوبة:
أنَّ الإنابة تزيد على التوبة بالرجوع على حال أفضل قبل الذَّنب والمعصية، فمن تاب وازداد من الصالحات، فهذا مُنيب، ومن تاب ولم يَزْدَدْ من الصالحات، فهذا تائب، وليس منيبًا، فالإنابة توبة مع إقبال.
- ما استدل به المؤلف:
قول الله - تعالى -: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ﴾ [الزمر: 54]، في الآية عدة أمور:
1 - الأمر بالإنابة لله – تعالى - فلا بد من إفراد هذه العبادة لله.
2 - قوله: ﴿وَأَسْلِمُوا لَهُ﴾ هو الإسلام الشرعي، وهو الاستسلام لأحكام الله الشرعية.
3 - في الآية دليلٌ عام على أنَّ الإنابة لا تكون إلا لله – تعالى - وهناك دليل خاص، وهو قول الله - تعالى - عن شعيب في معرض الثناء عليه: ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [هود: 88]، فقوله: ﴿إِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ تقدَّم الجار والمجرور، فالأصلُ "أنيب إليه"، والتقدُّم معناه أنَّ الجار والمجرور إذا تقدَّم، فإنه يفيد الحصر، وهذا أسلوب معروف عند البلاغيِّين.
ثامنًا: الاستعانة ودليلُها:
- تعريفها:
الاستعانة: هي طَلَبُ العون، وطلب العون من الله يكون في أمرٍ ديني، وكذلك دُنيوي والاستعانة بالله هي الاستعانة المتضمنة كمالَ الذُّلِّ من العبد لربه مع الثِّقة والاعتماد عليه.
- الاستعانة بالمخلوق على نوعين:
1 - استعانة شركية: مخرجة من الملة، وهي الاستعانة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله - تعالى - كأن يستعين بمخلوق؛ ليطلعَه على الغيب، وكمن يذهب إلى ساحر؛ ليطلعه على الغيب، فيصدقه ويؤمن بما قال، أو يستعين بالأموات على ذلك، فهذا قد صرف نوعًا من العبادة لغير الله، ووقع في الشرك الأكبر.
2 - استعانة غير شركية: وهي الاستعانة بالمخلوق فيما يقدر عليه، وهي على أنواع، فتارة تكون مُباحة، كأنْ يطلب من مَخلوق أنْ يعينه في حمل متاعه، فهي مباحة له، والمعين قد يثاب على ذلك بإحسانه على أخيه وإعانته له، وتارة تكون مشروعة، كالتعاوُن على أعمال الخير، كالتعاون على نشر الكتاب الشرعي، وتفطير الصائمين، وهذه يُثاب فيها المستعين والمعين؛ قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة: 2]، وتارة تكون مُحرمة، وذلك إذا كان التعاوُن على الإثم، كالتعاون على السرقة مثلاً، وهذه يأثَم فيها المستعينُ والمعين؛ قال تعالى: ﴿وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2].
- ما استدل به المؤلف:
قوله - تعالى -: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5]، في الآية عدة أمور:
1 – ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ تقدَّم الضمير المنفصل "إياك"، وهو في محل نصب مفعول به، والأصل "نعبد إياك"، وتقديم المفعول يفيد الحصر، وكذلك الاختصاص؛ مِمَّا يدل على أن العبادات من خصوصِيَّات الله تعالى؛ أي: لا نعبد إلا أنت.
2 – ﴿إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، يقال فيها ما قيل في ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، فالتقديم يفيد الحصر، فلا يستعان على وجه التعبد إلا له سبحانه.
3 - قوله - تعالى -: ﴿إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ يَشمل كلَّ عبادة بما فيها الاستعانة، وذَكَرَ الاستعانة بعد العبادة في ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾؛ لاحتياج العبد في جميعِ عباداته إلى الاستعانة بالله تعالى.
4 - ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ فيها إثبات توحيد الإلوهية، و﴿إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ فيها إثبات توحيد الربوبية؛ لأنَّه إنَّما يستعان بالخالق الرازق المدبر الذي بيده كل شيء، وقدَّم الله - تعالى - حقه وهو العبادة، على حق عبده وهو الاستعانة، فالحقُّ الأول فيه التبرُّؤ من الشرك، والثاني فيه التبرؤ من الحول والقوة.
- حديث: ((إذا استعنت فاستعن بالله)): استدل به المؤلف، وهو جزء من حديث عظيم رواه ابنُ عباس؛ أخرجه أحمد في مُسنده والترمذي في سننه، وفي الحديث أَمَرَ العبدَ إن أرادَ إعانةً أن يتوجَّه إلى الله - تعالى - بطلب العون.
- تاسعًا: الاستعاذة ودليلها:
- تعريفها:
الاستعاذة: طلب الإعاذة، وهي الاعتصامُ والالتجاء إلى من تعتقد أنَّه يُعيذك ويُلجئك، وإذا استعاذ العبد، فليستعذ بالله، والاستعاذة بالله التي لا تكون إلا له هي: الاستعاذة التي تتضمن كمالَ الافتقار إليه والاعتصام به، واعتقاد كفايته في كل شيء.
- الاستعاذة كما تكون بالله - تعالى - تكون بصفاته أيضًا:
كالاستعاذة بكلامه وبعظمته وبعِزَّته، وقدرته وبرضاه وبوجهه؛ ففي صحيح مسلم من حديث خولة مرفوعًا: ((أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق))، وفي سنن أبي داود من حديث ابن عمر مرفوعًا: ((أعوذ بعظمتك أنْ أُغْتَالَ من تحتي))، وفي "صحيح مسلم" من حديث عثمان بن أبي العاص مرفوعًا: ((أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر))، وفي صحيحه من حديث عائشة مرفوعًا: ((أعوذ برضاك من سخطك))، وفي "صحيح البخاري" من حديث جابر حين نزل قوله - تعالى -: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ﴾ [الأنعام: 65]، قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أعوذ بوجهك)).
- الاستعاذة بالمخلوق على نوعين:
1 - استعاذة شركية: وهي الاستعاذة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله - تعالى - كمن يستعيذُ بالأموات أو بالأحياء غير الحاضرين، أو يستعيذ بوَثَن.
2 - استعاذة غير شركية: وهي الاستعاذة بالمخلوق فيما يقدر عليه، كمن يهرب من عدو، ويلجأ إلى شخص؛ ليُعيذه ونحو ذلك، وهي بحسبها تارة تكون جائزة، وتارة مُحرمة، وتارة مشروعة، كما تقدم في الاستعانة بحسب الشيء المستفاد منه.
- ما استدل به المؤلف:
قوله - تعالى -: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ [الفلق: 1]، ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ [الناس: 1]، وفي الآيتين عدة أمور منها:
1 – ﴿الْفَلَق﴾: هو الصبح، وربُّ الفلق هو الله - جل وعلا - قال تعالى: ﴿فَالِقُ الْإِصْبَاحِ﴾ [الأنعام: 96]؛ أي: مظهر النور ومزيل الظلام، ولا يقدر على هذا إلا الله - تعالى - فأمر الله نبيه بأنْ يستعيذَ به، والأمر له أمر لأمته، والمعنى: أنَّ القادر على أنْ يزيلَ هذه الظلمة من العالم قادرٌ على أنْ يُعيذ المخلوق من كل شيء يَخافه.
2 - "رب الناس"؛ أي: خالقهم ومصلح شؤونِهم وأحوالهم، ومن كان كذلك، فهو الذي يُعيذ العبد من كلِّ شيء، ويطلب الالتجاء منه.
3 - في السورتين فضائلُ عديدة، منها ما جاء في "صحيح مسلم" من حديث عقبة بن عامر، قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ألم تر آيات أنزلت الليلة لم يُرَ مثلهن قطُّ؟ ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾، ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾)).
عاشرًا: الاستغاثة ودليلها:
- تعريفها:
الاستغاثة: طلبُ الغَوث، وهي أنْ تطلب الغوثَ ممن يستطيعُ إنقاذك من الشدة والهلاك، والاستغاثة بالله - تعالى - تتضمن كمالَ الافتقار إليه - سبحانه - واعتقاد كفايته في كل شيء، وهي بهذا التعريف لا تكون إلا لله تعالى.
- الفرق بين الاستغاثة والاستعانة:
أنَّ الاستعاذة تطلب منه أنْ يعصمَك، وأن يَحوطَك ويُحصِّنَك، والاستغاثة تطلب منه أن يزيل ما فيك من شِدَّة.
- الاستغاثة بالمخلوق على نوعين:
1 - استغاثة شركية: وهي الاستغاثةُ بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله - تعالى - كالاستغاثة بالأموات أو بالأحياء غير الحاضرين وغير القادرين على الإغاثة أو الاستغاثة بالجن، فهذا كله شرك.
2 - استغاثة غير شركية: وهي الاستغاثةُ بالمخلوق فيما يقدر عليه، فهذه جائزة، كمن يستغيث بصاحبه في الحرب ونحوه، وكما قال الله - تعالى - في قصة موسى: ﴿فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ﴾ [القصص: 15]، ونقول في الاستغاثة هنا كما قلنا في الاستغانة والاستعاذة، فإنَّها تكون مُباحة ومحرمة ومشروعة بحسب ما استغيث فيه.
- ما استدل به المؤلف:
قوله - تعالى -: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ﴾ [الأنفال: 9]، وهذه الآية نزلت لما كان يوم بدر، ونَظَرَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى أصحابه، فإذا هم ثلاثمائة ونَيِّف، ونظر إلى المشركين وهم ثلاثة أضعاف، استقبل القبلةَ ودعا ربَّه - جلَّ وعلا - فأنزل الله - تعالى - ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ﴾؛ أي: تستجيرون ربَّكم، وتطلبون منه الغَوْثَ، فاستجاب لكم، وهذا استدلال من المؤلف على هذه العبادة.
الحادي عشر: الذبح ودليله:
- تعريفه:
الذَّبح: هو إزهاق الروح بإراقة الدم على وجه مَخصوص، والذبح حين يكون عبادة لا بُدَّ أن يكون لله تعالى.
- الذبح على أنواع:
الأول: يقع عبادة، بأن يقصد الذابح تعظيمَ المذبوح له، والتذلُّل له والتقرُّب إليه، فهذا لا يكون إلا لله – تعالى - وصرفه لغير الله شرك أكبر، كمن يذبحُ للجنِّ من أجل السَّلامة من شرهم، أو شفاء المرضى، كما يفعله الكهان والمنجمون الذي يدعون العلاج، ويقولون للشاكي إليهم: اذبَحوا شاة أو نحو ذلك لأجل شفاء مريضكم، ولا تذكروا اسمَ الله عليه، فهذا شرك أكبر مُخرج من الملة، ومثله من يذبح لأصحاب القُبور كمن يذبح للسيد البدوي ونحو ذلك، أو كمن يذبح لعلي أو للحسين باسم الحسين أو للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أو لجبريل كل ذلك شرك أكبر.
الثاني: أنْ يقعَ الذبح إكرامًا للضيف أو لوليمة العرس، فهذا مأمور به في الشرع، إمَّا وجوبًا أو استحبابًا؛ لقولِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه))؛ مُتفق عليه من حديث أبي هريرة، ولقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لعبدالرحمن بن عوف: ((أَوْلِم ولو بشاة))؛ متفق عليه من حديث أنس.
الثالث: أنْ يقعَ الذَّبح للتمتُّع بأكله أو الاتِّجار به، فالأصلُ في هذا الإباحة؛ قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ﴾ [يس: 71 - 72].
فهذه هي الأنواع الثلاثة، فالأول شرك، والثاني مشروع، والثالث مباح.
- ما استدل به المؤلف:
• قوله - تعالى -: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: 162 – 163].
في الآية عدة أمور:
1 - قوله: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي﴾ الصلاة: قيل: المرادُ بها الدُّعاء، وقيل: المرادُ هنا الصلاة المعروفة المفتتحة بالتكبير والمختتمة بالتسليم، فالصلاةُ لله – تعالى - واللام في قوله: "لله" لام الاستحقاق؛ أي: صلاتي مستحقة لله.
2 - قوله: "وَنُسُكِي"، النسك: قيل: هو ما يتقرب به إلى الله - عزَّ وجلَّ - من الذبائح والقرابين، وهذا مَوطن الشاهد من إيراد المؤلف لهذه الآية، وقيل: المقصود به المناسك، وهو كل ما يُتعبد لله – تعالى - به، فيدخل فيه الذَّبح وغيره، والمقصود أنْ يكونَ النسك وهو التعبد بالذبح يكون لله - تعالى - هو المستحق للتعبد بذلك.
3 - قوله: ﴿وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي﴾؛ أي: إنَّ عمل حياتي وموتي كلٌّ منهما مُستحقٌّ لله رب العالمين، وتَقَدَّم أنَّ اللام في "لله" للاستحقاق.
4 – ﴿لاَ شَرِيكَ لَهُ﴾ فيه بيانُ انفراد الله - تعالى - بذلك لا شريكَ بذلك معه مخلصًا له ذلك.
5 – ﴿وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ﴾؛ أي: إنَّ هذا الإفراد والإخلاص هو ما أمرت به من الله - جل وعلا – ﴿وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾؛ أي: أول المبادرين المستجيبين لهذا الأمر؛ ليكونَ قدوةً لأمته بهذا التوحيد والإخلاص.
• قال المؤلف: "ومن السنة: ((لَعَن اللهُ مَن ذبح لغير الله))، نقول في الحديث عِدَّة أمور منها:
1 - أنَّ الحديث جزء من حديث علي - رضي الله عنه - قال: حَدَّثني رسولُ الله بأربع كلمات: ((لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى مُحدثًا، لعن الله من غيَّر منار الأرض))؛ رواه مسلم.
2 - اللعن: هو الطَّرد والإبعاد من رحمة الله - تعالى - وقوله: ((لعن الله من ذبح لغير الله)) يَحتمل أن يكون اللعن هنا خبرًا، فيكون المعنى أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُخبرنا بأن الله لعن من ذَبَحَ لغير الله، ويَحتمل أن يكونَ اللعن هنا إنشاءً، فيكون المعنى الدُّعاء؛ أي: إنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يدعو على من ذبح لغير الله بأن يطرده الله من رحمته.
الثاني عشر: النذر ودليله:
- تعريفه:
النذر في اللغة: هو الإيجاب، يقال: نذرت دَمَ فلان؛ أي: أوجبته.
وفي الشرع: هو إلزامُ المكلَّف المختار نفسَه شيئًا ممكنًا بأيِّ صيغة كانت، كأن يقول: لله عليَّ صومُ كذا إنْ فعلتُ كذا، أو لم أفعل كذا، ونحو ذلك.
والنذر لا بُدَّ أن يكونَ لله – تعالى - فيقول: لله عليَّ كذا إن فعلت كذا، وصرفه لغير الله شرك.
- حكم النذر:
- الأصل في النذر أنَّه مكروه، وبه قال جمهورُ العلماء؛ لأنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنه لا يأتي بخير، وإنَّما يستخرج به من البخيل))؛ مُتفق عليه، لكن إذا نذر الإنسان وجب عليه الإيفاء بنذره، ومنهم من فَرَّق بين النذر المطلق والمقيد، وقال الأول مَحمود، والثاني مكروه، والمطلق ما لم يكن عن مُقابلة، كأنْ يقول: لله عليَّ نذرٌ أنْ أصلي كذا أو أصوم كذا، من دون مقابلة، والمقيد: ما كان عن مُقابلة كأنْ يقول: إنْ شَفَى اللهُ مريضي، فلله عليَّ أن أصلي كذا أو أصوم كذا، فهذا هو المكروه؛ لأنَّ المؤمن إذا أراد عبادةَ ربِّه، فإنَّه لا يعبده بمقايضة، كشفاء مريض ونحوه، بل يعبد الله من دون مقابلة، وكلا النوعين يَجب الوفاء بهما، وللنذر أحكامٌ بسطها يكون في كتب الفقه.
- ما استدل به المؤلف:
قوله - تعالى -: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا﴾ [الإنسان: 7]، في الآية امتدح اللهُ المؤمنين بالنذر، وكل أمر مدحه الله - تعالى - فهو عبادة، وعليه فصرفه لغير الله شرك أكبر مُخرج من الملة، ولو كان المنذور به شيئًا يسيرًا، فالشرك الأكبر قليله وكثيره سواء، كله يُخرج من الملة، وبهذا انتهى ما ذكره المؤلف من أنواع العبادة.
فائدة: ما تقدَّم ذكره من أنواع العبادة التي ذكرها المؤلِّف، مَن صَرَفَ شيئًا منها لغير الله، فقد أشرك شركًا يُخرجه من الملة، هذا هو الحكم المطلق على مَن صرف شيئًا من العبادة لغير الله، وأمَّا الحكم العيني، فلا بُدَّ من انتفاء الموانع، وتَحقُّق الشروط، فيقال: لا بُدَّ من التفريق بين حكمين:
1 - حكم مُطلق، فيقال: كلُّ مَن نذر لغير الله أو ذبح لغير الله، فهو مشرك شركًا يُخرجه من الملة.
2 - حكم مُعين فيما لو وقع شخص، فصرفَ شيئًا من أنواع العبادة لغير الله، فلا يقال مباشرة: أنت خرجت من الملة، حتى نتحقَّق من انتفاء الموانع عنه، فنتحقق من عدم جهله، وكذا نتحقق من كونه مكلفًا ومُختارًا غير مكره، ومن الموانع التأويلُ في بعض الأمور التي يسوغ فيها اعتبار التأويل، وبسط الكلام عن موانع التكفير وشروطه يأتي في غير هذا الموضع بإذن الله.
[الأصل الثاني: معرفة دين الإسلام بالأدلة]
قال المؤلف - رحمه الله -: "الأصلُ الثاني: معرفةُ دين الإسلام بالأدلة، وهو: الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة، والبَراءة من الشرك وأهله، وهو ثلاث مَراتب: الإسلام، والإيمان، والإحسان، وكل مرتبة لها أركان".
الشرح
هذا هو الأصل الثاني الذي تضمنته هذه الرِّسالة، وهو معرفة دين الإسلام بالأدلة والكلام على قول المؤلف هنا من عدة وجوه:
الوجه الأول: معنى دين الإسلام:
دين الإسلام إذا أطلق يأتي على معنيين:
المعنى الأول: أنَّه دينُ الإسلام الذي أذعن له جميعُ النبيين، وهو التوحيدُ الذي كان دعوةَ جميعِ الأنبياء.
والمعنى الثاني: يُقصد به ما شَرَعَه الله - عزَّ وجلَّ - لنبيه محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبعثه به، وما تضمَّنته رسالته من التوحيد، وجعله شريعته خاتمةَ الأديان وأكملها لعباده، وأتم بها النعمة، وهذا المعنى الثاني هو مُراد المصنف، وهو أخص من الأول.
الوجه الثاني: قوله "معرفة دين الإسلام بالأدلة":
فيه إشارة إلى أنَّ معرفة الدين لا بُدَّ أن يكون مقرونًا بالدَّليل من الكتاب أو السنة، وهذا من الأشياء التي تُمَيِّز هذا الدين الرباني عن بقية الأديان الضَّالة ذات القوانين والأحكام الوضعية.
الوجه الثالث: دين الإسلام الذي بعث به محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقوم على ثلاثة أسس:
الأول: الاستسلام لله بالتوحيد:
وهو توحيد الله - تعالى - بأن يفرده في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، ففي الاستسلام تمام الذل والخضوع لله سبحانه.
الثاني: الانقياد له بالطاعة:
وهو يكون بفعل الأوامر، واجتناب النواهي؛ طاعةً لله - عزَّ وجلَّ - ولرسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال تعالى: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ﴾ [النور: 54].
الثالث: البراءة من الشرك وأهله:
فالواجب على المؤمن أن يتبَرَّأ من الشِّرك وأهله على اختلافِ دياناتِهم وعقائدِهم، فلا بُدَّ من البراءة من العمل وهو الشرك، والعامل وهو المشرك؛ قال تعالى مثنيًا على إمام أهل التوحيد إبراهيم بذلك: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ [الممتحنة: 4]، فالولاءُ والبَراء ثالث أصول ثلاثة ذكرها المؤلف، وهذه الأسس الثلاثة، من استقامتْ عنده، استقامَ دينه وتَمسك بحقيقة التوحيد، ثم ذكر المؤلفُ مراتبَ الدين الثلاثَ: الإسلام، والإيمان، والإحسان، وسيأتي تفصيلها بإذن الله تعالى.
فصل [المرتبة الأولى: الإسلام وأركانه]
قال المؤلف - رحمه الله -: "فأركانُ الإسلامِ خمسة: شهادةُ أنَّ لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام.
فدليلُ الشهادة قوله - تعالى -: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران: 18]، ومعناها: لا معبودَ بحق إلا الله، ﴿لا إله﴾ نافيًا جميع ما يعبد من دون الله، ﴿إلا الله﴾ مثبتًا العبادة لله وحده لا شريك له في عبادته، كما أنَّه لا شريك له في ملكه، وتفسيرها الذي يوضحها قوله - تعالى -: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الزخرف: 26 - 28]، وقوله: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 64]، ومعنى شهادة أنَّ محمدًا رسول الله: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نَهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع.
ودليل الصلاة والزكاة وتفسير التوحيد قوله - تعالى -: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: 5]، ودليل الصيام قوله - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183]، ودليلُ الحج قوله - تعالى -: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 97]".
الشرح
بدأ المؤلف بالكلام عن أركان الإسلام، والأركان هي الدعائم، وكعادته - رحمه الله - في طريقته البديعة يُجْمِل ثم يفصل، فعدَّد أركان الإسلام، وقال: "فأركان الإسلام خمسة: شهادة أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام".
ويدل على هذه الأركان الخمسة: حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان))؛ متفق عليه.
والمؤلف - رحمه الله - عرض هذه الأركان مع أدلتها وبيانها، والكلام على هذه الأركان وفق المباحث التالية:
أولاً: الشهادتان:
وهما شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله.
أ- شهادة أن لا إله إلا الله:
والكلام على "شهادة أن لا إله إلا الله" من عدة وجوه:
الوجه الأول: معنى الشهادة، وسواء كانت "شهادة أن لا إله إلا الله" أم "شهادة أن محمدًا رسول الله"، فإن الشهادة هي: الاعتقاد الجازم، والذي يخبر عن هذا الاعتقاد هو اللسان، فالشهادة هي الاعتقاد الجازم الذي يُعبِّر به اللسان.
وسميت شهادة لا اعتقادًا من باب التوكيد والجزم في تنزيل ما تعتقده منزلة ما تشاهده فتشهد به.
الوجه الثاني: لماذا اعتبرت الشهادتان ركنًا واحدًا مع أنَّها تتكون من شقين؟
الجواب على ذلك أن يقال من وجهين:
الأول: لأنَّ الشهادتين تنبي عليهما العبادات من حيث الصحة والقَبول، فلا يكون العمل صحيحًا مقبولاً إلا بأمرين: الإخلاص لله - تعالى - والمتابعة لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
والثاني: أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مبلِّغ عن الله - تعالى - فالشهادة له بالرسالة من تمام شهادة أن لا إله إلا الله.
الوجه الثالث: دليل الشهادة:
قال المؤلف - رحمه الله -: فدليلُ الشهادة قوله - تعالى -: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران: 18]، في الآية عدة أمور:
1 - أن فيها دلالة صريحة في أولها على أنَّ الشهادة ركن، شهادة الله لنفسه بأنه لا إله إلا هو، وشهادة الملائكة، وشهادة أهل العلم بذلك.
2 - قوله: ﴿وَأُولُوا الْعِلْمِ﴾ المراد بالعلم هنا: العلم الشرعي الذي هو نور القلب، و"أولوا العلم" هم الأنبياء والعلماء، وفي هذا دليلٌ واضح على فضل أهل العلم من جهتين:
الجهة الأول: أنَّ الله - تعالى - ذكرهم دون غيرهم من البشر، فخصَّهم بالذكر، فالله - جل وعلا - ذكر نفسه - سبحانه - والملائكة وهم ليسوا بشرًا، ولم يذكر إلا أهل العلم من البشر.
والجهة الثانية: أنَّ الله - تعالى - قرن شهادتهم بشهادته سبحانه.
3 - قوله: ﴿قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾ القسط العدل، فشهد سبحانه أنه قائم بالعدل في توحيده، والتوحيد والعدل هما جماع صفات الكمال، فيكون الله - تعالى - شهد لنفسه في هذه الآية بأمرين:
الأول: شهد لنفسه بالألوهية، والثاني: شهد لنفسه بأنه - جلَّ وعلا - قائم بالقسط.
4 - قوله: ﴿لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران: 18]، فيه تكرار الشهادة؛ ليؤكد الشهادة المتقدمة، وهو سبحانه عزيز لا يُمكن أن يكون له شريك، وحكيم لا يُمكن أن يساويه أحد.
الوجه الرابع: معنى الشهادة:
قال المؤلف في معناها: [لا معبود بحقٍّ إلا الله وحدَه، "لا إله" نافيًا جميع ما يعبد من دون الله، "إلا الله" مثبتًا العبادة لله وحْدَه، لا شريكَ في عبادته، كما أنه لا شريكَ في ملكه].
والكلام على قول المؤلف من عدة أمور:
1 - "لا إله"؛ أي: "لا معبود" كما ذكر المؤلف؛ لأنَّ التأله في لغة العرب هو التعبُّد، ولا بُدَّ من إيضاح ذلك من حيث الإعراب؛ لننبِّه على تقدير يقدره بعض النحويين، وهو تقدير غير ملائم أبدًا، فنقول: "لا" نافيه للجنس، وتسمى في بعض كتب النَّحو "لا التبرئة"؛ أي: تبرأ من جميع المعبودات، ولا النافية للجنس لها اسم منصوب وخبر مرفوع، "إله" اسمها، وخبرها محذوف تقديره "حقٌّ"، أو "بِحَقٍّ"، فتكون "لا إلهَ حقٌّ"، أو "لا إله بِحَقٍّ"، والنحويون يُخطِئون في التقدير هنا، ويقدِّرون الخبر بكلمة "موجود"؛ أي: "لا إلهَ موجودٌ"، وهذا معنى باطل، فالآلهة الموجودة كثيرة غير الله - سبحانه - كالأشجار والأحجار والأشخاص وغير ذلك، "إلا" أداة استثناء، "الله" بدل من الضمير المستتر في الخبر؛ لأنَّ خبر "لا" إذا قلنا: "لا إله حق" أو "بحق" فيه ضمير مُستتر تقديره "هو"، وموقعه الرفع، و"الله" بدل مرفوع.
2 - كلمة التوحيد لا تتم إلا بركنين:
الأول: النفي "لا إله"؛ أي: نفي وجود معبود بحق إلا الله - تعالى.
الثاني: الإثباتُ "إلا الله" إثبات العبادة لله وحده.
فلا يتم التوحيد إلا بهذين الرُّكنين؛ لأنَّ النفيَ المحض تعطيل محض لكل آلة، والإثبات المحض لا يَمنع المشاركة، فالنفي المحض ليس توحيدًا، وكذلك الإثبات المحض.
3 - "لا شريكَ له في عبادته، كما أنه لا شريكَ له في ملكه"، هذا استدلالٌ وبيان لهم بالثابت عندهم الذي لا خلافَ فيه، وهو "توحيد الربوبية" على المختَلَف فيه عندهم، الذي وقع فيه الإشراك، وهو "توحيد الإلوهية"، فالمؤلف يقول: كما أنَّكم مقرون بتوحيد الربوبية بأنه لا شريكَ له في ملكه، فهذا دليل على أنه لا شريكَ له في ألوهيته، فلا يُعبد أحدًا غير الله - تعالى.
الوجه الخامس: تفسير كلمة التوحيد الذي يوضحها:
استدل المؤلف على ذلك بآيتين:
الآية الأولى: قوله - تعالى -: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الزخرف: 26 - 28].
والكلام على هذه الآية من عده وجوه:
الوجه الأول: النفي والإثبات الذي لا بُدَّ من وجوده في كلمة التوحيد، فهو مَوجود في قول إبراهيم في هذه الآية: فالنَّفي: في قوله: ﴿إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ﴾، والإثبات: في قوله: ﴿إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾.
الوجه الثاني: في الآية أعظم صور البراءة من الشرك وأهله، ولو كانوا أقاربَه، فإبراهيم - عليه السَّلام - تَبَرَّأ من أبيه ومن قومه، وهذه أعظم براءة؛ لأنَّه قد يتبرأ الإنسان من أهل الشرك جملة وتفصيلاً، لكنَّها في مقام الأبوة تكون أعظم؛ لصعوبة الموقف.
الوجه الثالث: قوله: ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً﴾؛ أي: جعل كلمة التوحيد التي تقدمت ﴿فِي عَقِبِهِ﴾؛ يعني: في ذريته، فإبراهيم - عليه السَّلام - دعا لكلمةِ التوحيد، وحاول أن يَجعل هذه الكلمة باقية في الذرية؛ لعلَّهم من الشركِ إلى كلمة التوحيد يرجعون، وجاءت أدلةٌ أخرى تبين أن إبراهيم - عليه السَّلام - دعا أبناءه لهذه الكلمة، وهي كلمة التوحيد، ومن ذلك قول الله - تعالى -: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 132].
الوجه الرابع: في الآية دلالة على أهمية حرص الأب على أبنائه وعشيرته وذريته ودعوتهم إلى التوحيد؛ حيثُ جعل إبراهيم - عليه السَّلام - هذه الكلمة باقية في ذريته.
الوجه الخامس: الآية دليلٌ على أنَّ الإنسان لا بُدَّ أن يقدِّم حق الله - تعالى - على حق أهله وقومه، وهنا إبراهيمُ - عليه السَّلام - قدم كلمةَ التوحيد على كلمة أبيه وعلى كلمة قومه، وهذا يدل على أنَّ الإنسان إذا كان على حق لا بُدَّ له من الثبات، حتى لو خالف أهله وقومه وأهل بلده.
الآية الثانية: قول الله - تعالى -: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 64].
والكلام على هذه الآية من عده وجوه:
الوجه الأول: الآية تضمنت ركني التوحيد النَّفي والإثبات.
فالنفي: في قوله: ﴿ألا نعبد﴾، والإثبات: في قوله ﴿إلا الله﴾، وهي كلمة السواء التي في الآية؛ أي: الكلمة التي استوى فيها أهلُ الإسلام مع أهل الكتاب؛ لأنَّ دعوة المرسلين على اختلافهم واختلاف أزمانهم وأماكنهم وأقوامهم واحدة، وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله.
الوجه الثاني: الآية فيها التأكيد على البُعد عن الشرك، فإنَّ الله - عزَّ وجلَّ - قال: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ﴾ [آل عمران: 64]؛ أي: نوحِّد الله، ثم بعد ذلك أكَّد ذلك بالبعد عن الشرك، مع أنَّ المعنى الأول يكفي، ولكن من باب أنَّ هذه القضية قضية مهمة، أكَّدها الله - عزَّ وجلَّ - بقوله: ﴿وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا﴾ [آل عمران: 64].
الوجه الثالث: الآية فيها تحذير من اتِّخاذ العظماء أربابًا بأن يعظمونهم، كما يعظمون الله - تعالى - ويطيعونهم في الحلال والحرام، فقال تعالى: ﴿وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: 64].
ب- شهادة أنَّ محمدًا رسول الله:
والكلام على "شهادة أنَّ محمدًا رسول الله" من عدة وجوه:
الوجه الأول: الدليل على هذه الشهادة:
استدل المؤلف على هذه الشهادة بقول الله - تعالى -: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة: 128].
قوله: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾: ﴿من أنفسكم﴾؛ يعني: من بني جلدتكم؛ يعني: أنه بشر من البشر هذا قول، والقول الثاني عند أهل التفسير أنَّ الخطاب لقريش، فيكون معنى ﴿من أنفسكم﴾؛ أي: من العرب، وهذا قول جمهور المفسرين.
ثم قال بعد ذلك: ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾ عزيز عليه، إذا عُدِّيَت "عزيز" بعلى، فإنَّ معناها الثقل والشدة، فقوله: ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾؛ أي: شديد عليه، وثقيل عليه أنْ يَرى فيكم حرجًا أو يرى فيكم تعبًا.
﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُم﴾ الحرصُ شدة الرغبة في الشيء؛ أي: حريص على هدايتكم وإنقاذكم من النار.
﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾، وهذه صفه للدَّاعي، وهو محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأنه رؤوف بهم، وأنه رحيم عليهم أيضًا، وهذا خاص بأهل الإيمان تَميَّزوا به عن غيرهم، فهو - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالمؤمنين رؤوف رحيم يرحمهم، لكنه مع الكفار غير ذلك؛ ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: 73]، وينبغي للداعية أنْ يتحلَّى بهذين الخلقين، وهما: الحرصُ على هداية الناس ودعوتهم برفق.
الوجه الثاني: معنى شهادة أن محمدًا رسول الله:
ذكر المؤلف - رحمه الله - أربعة أمور لا تتم شهادةُ أن محمدًا رسولُ الله إلا بها، فهي معنى هذه الشهادة، وهي:
أولاً: طاعته فيما أمر.
ثانيًا: تصديقه فيما أخبر.
ثالثًا: اجتناب ما نَهَى عنه وزجر.
رابعًا: وألا يعبد الله إلاَّ بما شرع.
أولاً: طاعته فيما أمر:
وهذه أولى الأمور التي تتضمنها هذه الشهادة، وهي طاعته - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما أمر؛ قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [النساء: 64]، وقال: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ [المائدة: 92]، ومخالفة مثل هذه الطاعة الواجبة توقع العبد في المحظور، سواء كان شركًا أم بدعة أم معصية كبيرة أم صغيرة، وأمَّا إذا كانت الطاعة في مستحب، فمخالفتها لا يترتب عليها محظورٌ يأثم عليه العبد.
ثانيًا: تصديقه فيما أخبر:
فهو - صلَّى الله عليه وسلَّم - لا ينطق عن الهوى، بل ما جاء به وحي من الله - تعالى - سواء كان من الغيبيات أم غيرها مما يكون محسوسًا مشاهدًا لا بد من الإيمان به والتصديق بما أخبر؛ ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 3 – 4]، فمن لم يصدق النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما أخبر، فليس بمؤمن ولا صادق بشهادته أنه محمد رسول الله.
ثالثًا: اجتناب ما نهى عنه وزجر:
وهذا داخل في الأول، ومتضمن له، فمن طاعته اجتناب ما نهى عنه وزجر، فالأول في المأمورات وهذا في المنهيات؛ ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ [الحشر: 7]، والزجر هو التحريم؛ أي: يَجب اجتناب ما نهى عنه وما حرَّم.
رابعًا: ألاَّ يعبد الله إلاَّ بما شرع:
فلا يعبد الله إلا بما شرع وأوحاه إلى نبيه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأخبر به النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - والتعبُّد بخلاف ما جاء به النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُوقع الإنسان في البدعة، وقد يوقعه في الشرك أيضًا، وقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))؛ رواه مسلم، وقال الله - تعالى - ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى: 21]، فالعبادات توقيفية، فيجب الوقوف عند ما جاء به النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعدم الزيادة على ما جاء به، فليس العبادة بالأهواء، ولا بالبدع، ولا بالاجتهاد الذي لم يُبنَ على دليل صحيح.
ونقول: هذه الأربعة ترجع إلى أمرين، نقول: ما جاء به النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - لا يخلو من أمرين، إمَّا خبر، فيجب التصديقُ به، وإمَّا حكم، فالواجبُ فيه امتثاله إن كان أمرًا يفعل، وإن كان نهيًا يبتعد عنه، وأيضًا يتعبد لله - عزَّ وجلَّ - بما شرع في هذه الأحكام فقط.
ثانيًا: الصلاة والزكاة:
استدل المؤلفُ لهذين الركنين، ولتفسير التوحيد بدليلين، والكلام على ما استدل به المؤلف من عدة وجوه:
الوجه الأول: تعريف الصلاة والزكاة:
الصلاة هي: عبادة ذات أقوال وأفعال مُفتتحة بالتكبير مُختتمة بالتسليم.
والزَّكاة لها عدة تعريفات، من هذه التعاريف نقول: هو جزء واجب في مال مَخصوص يخرجه الإنسان لطائفة أو جهة مَخصوصة في وقت مخصوص.
فقولنا: "هو جزء واجب" يخرج صدقة التطوع، وقولنا "في مال مخصوص" يخرج الأموال التي ليس فيها زكاة، وحينما نقول: المال ليس فقط الأوراق النقدية، وإنَّما أيضًا الأنعام تسمى مالاً، والزُّروع تسمى مالاً، وما أعدَّ للتجارة أيضًا ونحوها، وقولنا: "لطائفة أو جهة مخصوصة" يخرج مَن كان من غير أصناف الزَّكاة الثمانية، فإذا أراد الإنسانُ أن يُخرجَ الزكاة إلى المساجد، فلا يصلح؛ لأن المساجد ليست من أصناف الزكاة الثمانية، لا بُدَّ أن تكون لجهة أو طائفة مخصوصة، "في وقت مخصوص" بعد مُضِيِّ الْحَوْل إن كان مما يَجب فيه الحول، أو في وقته إن كان سوى ذلك، كبدو الصلاح، واشتداد الحب في الزُّروع والثمار.
الوجه الثاني: ما استدل به المؤلف:
استدل المؤلف لذلك بآيتين: الأولى: قوله - تعالى -: ﴿وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: 5]، وهذه الآية تضمنت ثلاثة أمور:
الأول: الدلالة على وجوب الصلاة؛ قال: ﴿ويقيموا الصلاة﴾.
والثاني: الدلالة على وجوب الزكاة، فقال: ﴿ويؤتوا الزكاة﴾.
الثالث: هو تفسير كلمه التوحيد، فقال: ﴿وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾، وهذه الآية تدل على أن الدين عقيدة وعمل، فالعقيدة تؤخذ من تفسير التوحيد، والعمل يؤخذ من الأمر بالصلاة والأمر بالزكاة؛ ولذا نقول: الدينُ عقيدة وعمل، ثم قال بعد ذلك: ﴿وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾؛ أي: ما تقدَّم من العقيدة والعمل هو الدِّين القويم الذي هو على الصِّراط المستقيم.
والآية الثانية التي استدل بها المصنف قال: "ودليل الصيام قوله - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183]، والكلام على هذه الآية من عدة وجوه:
الوجه الأول: تعريف الصيام:
الصيام: هو الإمساك عن المفطرات من طلوع الشمس إلى غروب الشمس؛ تعبدًا لله تعالى.
الوجه الثاني: قوله - تعالى -: ﴿كتب عليكم﴾.
الكتابة على نوعين:
النوع الأول: كتابة قدرية، وهي كتابة الله - تعالى - لما يقدِّره – سبحانه - فأعمال الخلق مكتوبة قبل أن يخلق الله السموات والأرض بخمسين ألف سنة.
ودليلُ هذه ما جاء في "صحيح مسلم" من حديث عبدالله بن عمرو أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((كتب الله مقادرير الخلائق قبل أن يَخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة)).
والنوع الثاني: كتابة شرعية: ويقصد بها الأمر، يقال: كتب الله على عباده كذا؛ أي: أوجب عليهم كذا.
ومثال هذه الآية التي استدل بها المؤلف: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183]؛ أي؛ إنَّ الصيامَ مشروعٌ عليكم، وأنتم مأمورون به، كما أمر به الذين من قبلكم.
الوجه الثاني: دلت الآية على أن الصيام ليس من خصائص أمة محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - والشاهد ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾، وهذا دلالة على أن الصيام مكتوب على الأمم السابقة أيضًا، ولكن هل الصيام في الأمم السابقة على هذه الصفة التي نصومها اليومَ من طلوع الفجر إلى غروب الشمس؟ الجواب: لا، فهذا صفة خاصة بهذه الأمة، فالصيام في الأمم السابقة يَختلف، تَأَمَّلْ صيامَ مريم - عليها السلام - قالت: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا﴾ [مريم: 26]، إذًا الصوم عندها هو الإمساك عن الكلام.
الوجه الثالث: في الآية دلالة على وجوب الصيام؛ لقوله - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾؛ أي: شُرع وأُمرتم به.
والوجه الرابع: في قوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.
فهذا في دلالة على أنَّ الصيام وقاية للإنسان، فالذي منع نفسه من الشهوات التي لا يستغني عنها كلَّ يوم من باب أَوْلَى يستغني عن الشهوات غير الأكل والشرب التي ربَّما لا تكون كل يوم كالكذب مثلاً، كالغِيبَة هذه شهوات في النفس إذًا الصيام وقاية للإنسان، ولذلك أرشد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا معشرَ الشباب، مَنِ استطاعَ منكم الباءة، فليتزوج، ومن لم يستطع، فعليه بالصوم، فإنه له وجاء))؛ مُتفق عليه؛ يعني: وقاية، ولذا نقول: الصيام وقاية، وإذا كان وقاية، كان الإنسان من المتقين، إذا تحقق الصيامُ بحقيقته، كان من المتقين، ولذلك يقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كما في صحيح البخاري: ((من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه)).
ثالثًا: الحج:
قال رحمه الله: "ودليلُ الحج قوله - تعالى -: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 97]".
والكلام على قول المؤلف هنا من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: تعريف الحج:
الحج: هو قصد مكة لأداء مناسك الحج في زمن مَخصوص.
الوجه الثاني: في الآية دلالة على وجوب الحج.
ووجه ذلك أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - قال: ﴿ولله على الناس﴾، و"على" من صيغ الوجوب، وقوله: ﴿على الناس﴾ المراد بهم بنو آدم مؤمنهم وكافرهم، وهذه الآية من الأدلة على أن الكفار مُخاطبون بفروع الشريعة، فهم مخاطبون هنا بالحج.
الوجه الثالث: قوله - تعالى -: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 97].
بعدما بيَّن الله - عزَّ وجلَّ - إيجابَ الحج قال: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 97]، وبهذا استدلَّ بعضهم على أنَّ تاركَ الحج كافرٌ خارج من الملة، خلافًا لجمهور العلماء الذين قالوا: إنَّه كفر لا يخرج من الملة، وهو الأظهر والله أعلم، أما من ترك الحج وهو منكر لوجوبه، فهو كافر كفرًا يخرجه من الملة.
فصل [المرتبة الثانية: الإيمان وأركانه]
قال المؤلف - رحمه الله -: "المرتبة الثانية: الإيمان، وهو بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان، وأركانه ستة: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، والدليل على هذه الأركان الستة قوله - تعالى -: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: 177]، ودليل القدر قوله - تعالى -: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: 49]".
الشرح
المؤلف - رحمنا الله تعالى وإياه - شرع في المرتبة الثانية من مَراتب الدين، وهي مرتبة الإيمان، والكلام عن الإيمان من عدة وجوه:
الوجه الأولى: تعريف الإيمان:
الإيمان لغة: هو التصديق والإقرار.
وشرعًا هناك تعريف مشهور للإيمان، وهو: قولٌ باللسان، وتصديق بالجنان؛ يعني: بالقلب، وعمل بالأركان؛ يعني بذلك الجوارح، وهناك أيضًا تعريفٌ آخر مَشهور عند السَّلف ذكره البخاري - رحمه الله - قال: "أدركت ألفًا من العلماء كلهم يقولون: الإيمان قول وعمل"، القول باللسان، والعمل بالجوارح، وأيضًا عمل القلب، فالإخلاص والرجاء وغيرها من الأعمال القلبية هي عمل قلب، ولذلك يُخطئ مَن يقول: إنَّ المقصود بالقول فقط باللسان، وإنَّ العمل فقط بالأركان غير مُستحضر أنَّ القلب جارحة لها عمل كسائر الجوارح.
ويدل على تعريف الإيمان ما يلي:
أمَّا الاعتقاد بالقلب، فإنَّ مثالَه ودليله حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عند مسلم في سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام والإحسان، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الإيمان أنْ تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره))، فالنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حين سُئِل عن الإيمان، عدَّد أشياءً قلبية، هذا دليلٌ على أن الإيمان يقع على الأمور القلبية.
وأمَّا القول باللسان، فيدل عليه حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند مسلم أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول لا إله إلا الله...))، فجعل القول من الإيمان أيضًا.
وأمَّا عمل الأركان، فحديث أبي هريرة السابق، فإنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: "الإيمانُ بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" فجعل إماطة الأذى عن الطريق من الإيمان وهي عمل.
وقوله: ((والحياء شعبة من الإيمان)) دليل على أنَّ من الإيمان ما هو قلبي، فالحياء أصله عمل قلبي قد يقول قائل: هو عمل ظاهر، والجواب: إنَّ ما يظهر من الانكفاف عن المحرمات وما يُخالف المروءات، والاندفاع إلى فعل الخيرات إنَّما هي ثمرات للحياء، وإلاَّ فأصل الحياء من القلب.
فائدة: البضع من العدد ثلاثة إلى العدد تسعة هذا على أشهر الأقوال، وهناك أقوال أخرى والشعب هي الخصال.
الوجه الثاني: نقول: ما ذكره المؤلف من أمر الإيمان دليلٌ على أنَّ الإيمان يتفاوت، والمؤلف أخذ ذلك من حديث أبي هريرة عند مسلم، وقد تقدَّم، قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان))، فقوله: أعلاها وأدناها دليلٌ على أن الإيمان يتفاوت، وأن له مراتب، وأن الأعمال تتفاوت.
والحديث رواه مسلم بلفظ: ((بضع وسبعون شعبة))، ورواه البخاري بلفظ: ((بضع وستون شعبة))، وأيضًا رواه مسلم بالشك: ((بضع وستون أو سبعون شعبة)).
قال ابن حجر: "إنَّ المعوَّل على المتيقن وهو الأقل وهو بضع وستون"؛ "انظر: الفتح 1/52"، ومنهم من قال: إنَّما يؤخذ بالزيادة، وهي "بضع وسبعون"؛ لأنَّ زيادةَ مَن هو ثقة، فهي مقبولة، واختاره النووي، والحديث فيه بيان أنَّ الإيمان يتفاوت، فقول النبي بعدما بيَّن عدد شُعَب الإيمان، قال: "فأعلاها" و"أدناها"، وهذا يدل على أنَّ الإيمان يتفاوت فيه ما هو أعلى المراتب، وفيه ما هو أدناها؛ إذًا هو درجات.
الوجه الثالث: كيف نَجمع بين قول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن خصال الإيمان أنه "بضع وستون أو سبعون شعبة"، وبين عدد أركان الإيمان ستة؟ كيف نَجمع بين العددين، فبينهما تفاوت كبير؟
والجواب: أنَّ الأركانَ غير الخصال، فالخصال شيء، والأركان شيء آخر، ويتلخَّص هذا في الفروقات التالية:
الفرق الأول: فالمقصود بالخصال خصال الخير وأعمال الخير، وأعمال الخير كثيرة جدًّا، وأما الأركان فهي ستة، والفرق الثاني: أنَّ الأركان لا بُدَّ منها، ومن أَخَلَّ بواحد من الأركان، فقد كفر، وأمَّا الخصالُ فتختلف بحسبها، منها ما هو واجب، ومنها ما هو مُستحب، فمثلاً لو ترك الإنسانُ إماطةَ الأذى عن الطريق هل يأْثَم بذلك؟ لا يأثم بذلك، لكن تعتبر حسنة لو فعلها، وهي من خصال الإيمان، فترك خصلة من خصال الإيمان لا تستوجب كُفْرًا بخلاف الأركان، فمن زال عنه ركنٌ من أركان الإيمان، زال عنه الإيمان، بخلاف شعب الإيمان، فتختلف بحسبها.
والفرق الثالث: أنَّ أركان الإيمان اعتقادية كلها في الاعتقاد بخلاف خصالِ الإيمان، فهي عامة في أعمال الإيمان، وهي عامَّة في أعمال الخير.
وبناءً عليه نقول: الإيمان له مقصودان، مقصود عام وهو شعب الإيمان، ومقصود خاص وهي أركان الإيمان.
الوجه الرابع: الحديث عن أركان الإيمان:
أولاً: أن تؤمن بالله.
والإيمان بالله يتضمن أربعة أمور:
الأول: الإيمان بوجود الله – تعالى.
فمن أنكر وجودَ الله كما يوجد من بعض الملاحدة، فإنه لا يُعدُّ مؤمنًا بالله - تعالى.
الثاني: الإيمان بربوبية الله – تعالى.
الثالث: الإيمان بألوهية الله – تعالى.
والإيمان بربوبيته - تعالى - وألوهيته تقدَّم الكلامُ عنها في شرح أول هذه الرِّسالة.
الرابع: الإيمان بأسماء الله - تعالى – وصفاته.
والكلام على هذا لم يتقدَّم، فإنْ قيل: كيف يؤمن الإنسان بأسماء الله - عزَّ وجلَّ - وصفاته؟ فالجوابُ: أنْ يثبت ما أثبته الله - عزَّ وجلَّ - لنفسه في كتابه أو في سنة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من الأسماء والصِّفات على ما يليق بجلاله وعظمته - سبحانه وتعالى - من غير تحريف ولا تَمثيل ومن غير تعطيل ولا تَكْيِيف، فلله – تعالى - يد، وله وجه، وهما من صفاته، ولكن من غير أنْ نُكيِّف أيَّ صفة، كأن نقول: كيف كانت؟ أو مثل مَنْ؟ أو أن نعطل هذه الصفة، فننكرها من غير ذلك كلِّه، ومن غير تأويلٍ أيضًا، كأنْ نفسر اليدَ بالنعمة أو القدرة، كما يقول أهل التأويل، من غير ذلك كله، بل نثبت ما أثبته الله - عزَّ وجلَّ - لنفسه في كتابه أو في سنة رسولِه - صلَّى الله عليه وسلَّم - من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تَمثيل.
- لو آمن الإنسانُ بالربوبيَّة، وآمن بالألوهية، وآمن بالأسماء والصفات، هل نَحتاج إلى أن نذكر آمن بوجود الله تعالى؟ الجواب: الأصل أنَّه لا يلزم أنْ نقول ذلك؛ لأنَّك إذا أقررت بالثلاثة الأمور، لزم منها أنْ يكونَ موجودًا من تثبت له الألوهية والربوبية والأسماء والصفات.
فلا تثبت الأوصاف إلاَّ لموجود، لكن يذكرونه في كتب العقائد ردًّا على الملاحدة الذين يقولون: لا وجودَ للإله، ولذلك اعلمْ أنَّ ما في كتب العقائد من تفصيل وتفريع، فإنَّ له مغزى، فقد يكون ردًّا على فئة من الفئات الضَّالة، عرفنا مما سبق أنَّ الإيمانَ بالله تضمن هذه الأمور الأربعة.
ثانيًا: أن تؤمن بملائكته:
والملائكة هم عالم غيبي، خلق من نور، مأمورون بطاعة الله - عزَّ وجلَّ - عابدون لله - تعالى - لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يُؤمرون، وهم خلق كثير لا يَعلم عددَهم إلا الله - تعالى - ولذلك قال الله - تعالى -: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾ [المدثر: 31]، وفي الصحيحين قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ البيت المعمور في السماء السابعة حيالَ الكعبة يزوره كلَّ يومٍ سبعون ألف ملك لا يعودون إليه)).
فإن قيل: ما الذي يتضمنه الإيمان بالملائكة؟
فالجواب: أنَّ الإيمانَ بالملائكة لا بُدَّ أن يتحقق فيه أربعة أمور:
الأول: أنْ يؤمنَ بوجودهم، فمن اعتقد أنَّهم غيرُ موجودين، فهو لم يؤمن بهم.
الثاني: الإيمان بما علمنا اسمه باسمه، ومن لم نعلم اسمه، فنؤمن به إجمالاً، فهناك جملة كبيرة جدًّا من الملائكة لا نعلم أسماءهم، فنؤمن بما علمنا اسمه، ونؤمن بما لم نعلم اسمه إجمالاً، وقد جاءت الأدلة ببيان أسماء بعضهم كجبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وغير ذلك من الملائكة.
الثالث: الإيمان بصفاتهم وهيئاتِهم التي جاءت في النصوص، فقد جاء في الأحاديث بيانٌ لصفاتهم وهيئاتهم، منها ما جاء في مسند الإمام أحمد من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: "رأى رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - جبريلَ في صورته وله ستمائة جناح، كل جناح منها قد سد الأفق، يسقط من جناحه من التهاويل والدُّرِّ والياقوت ما الله به عليم"، والمراد بالتهاويل الأشياء المختلفة الألوان.
الرابع: الإيمان بما علمنا من أعمالهم ووظائفهم التي دلَّت عليها النُّصوص، فجبريل - عليه السَّلام - على سبيل المثال موكَّل بالوحي، وملك الموت موكَّل بخطف الأرواح، وأيضًا هناك ملك موكل بالجنين في بطن أمِّه يكتب رزقه وأجله، وشقي أو سعيد، وهناك ملائكة موكَّلون بكتب أسماء الناس يومَ الجمعة قبل دخول الخطيب، إلى غير ذلك من الوظائف والأعمال التي ذُكرت في السنة.
ثالثًا: أن تؤمن بكتبه:
والمراد بها الكتب السماوية التي أنزلها الله - عزَّ وجلَّ - على رسله؛ هدايةً للبشرية ورحمةً بهم؛ ليصلوا بذلك إلى سعادة الدارين، والإيمان بالكتب يتضمن عدة أمور لا بُدَّ منها:
الأول: الإيمان بأنها منزلة من عند الله - تعالى - حقًّا.
الثاني: الإيمانُ بما علمنا اسمه من الكتب السماوية المنزلة، كالقرآن والتوراة والإنجيل والزَّبور وصحف موسى، والإيمان أيضًا بما لم نعلم من هذه الكتب نؤمن به إجمالاً، كما قلنا في الملائكة، نقول هنا أيضًا.
الثالث: التصديق بما صح من أخبارها.
فالقرآن نؤمن به جملةً وتفصيلاً؛ لأنَّ الله - عزَّ وجلَّ - تكفَّل بحفظه، فلا يوجد فيه شيءٌ محرَّف، والتوراة والإنجيل نؤمن بالأحكام التي لم تحرَّف، كالرجم على سبيل المثال جاء في الأخبار السابقة، وأُثبت في الأخبار السالفة، وجاء في السنة ما يُبين ذلك، وأقره النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأخبر أنه موجود في التوراة.
الرابع: الإيمانُ بالأحكام، سواء التي نسخت والتي لم تنسخ.
وهذا من حيث الإيمان، ومن حيث العمل لا شَكَّ أنَّه يعمل بما لم ينسخ، ولا شك أن القرآن الكريم نَسَخَ جميع الكتب السابقة.
رابعًا: أن تؤمن برسله:
والرسول غير النبي، والفرق بينهما كما هو مشهور، أنَّ الرسول هو: الذي أُنزل عليه كتابٌ أو لم يُنزل عليه كتابٌ، لكن أُوحي إليه بحكم لم يكن في شريعة مَن قبله، وأمَّا النبي فهو مَن أُمر بتبليغ شرعِ مَن قبله دون أن ينزل عليه كتابٌ، وكذلك إذا أُمر بتبليغ حكم مَن قبله، فكلُّ رسول نبي، وليس كل نبي رسول؛ [انظر: "كتاب النبوات"، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص "172"، وانظر: "أضواء البيان"، 5/735].
فإن قيل: الإيمانُ بالرُّسل ماذا يتضمن؟
فالجواب: أنه يتضمن أربعة أمور:
الأول: الإيمان بأنَّ رسالتهم حق من عند الله - تعالى - ولذلك التكذيب برسولٍ هو تكذيب بجميع الرُّسل؛ ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الشعراء: 105]، ومع أنَّهم لم يرسل إليهم إلاَّ نوح - عليه السَّلام - إلا أنَّ تكذيبَ نوح - عليه السَّلام - تكذيب لجميع الرسل الذين يأتون بعده.
الثاني: الإيمانُ بما علمنا اسمه منهم، وما لم نعلم اسمه منهم نؤمن بهم جملة أيضًا.
فهناك من الرُّسل مَنْ لا نعرف أسماءهم؛ لأنَّه لم يذكر من أسماء الرُّسل إلا قليل؛ قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ﴾ [غافر: 78].
الثالث: تصديق ما صحَّ من أخبارهم.
الرابع: العمل بشريعة مَن أرسل إلينا، وهو محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم.
خامسًا: أن تؤمن باليوم الآخر، والمراد باليوم الآخر يوم القيامة، وسمي بالآخر؛ لأنه لا يومَ بعده، فهو آخر الأيام، والإيمانُ باليوم الآخر لا يتمُّ إلاَّ بثلاثة أمور:
الأول: الإيمان بالبعث:
والإيمان بالبعث يتضمَّن الإيمان بحياة البرزخ، فبمجرد ما يَموت الإنسان، فقد دَخَلَ في هذه الحياة.
الثاني: الإيمان الحساب والجزاء.
الثالث: الإيمان بالجنة والنار.
ولا شَكَّ أنَّ هذه على وجه الإجمال، وإلاَّ فهناك تفصيل لمثل هذه الأمور يترتب على كل واحدة منها عدة أشياء.
سادسًا: الإيمان بالقدر خيره وشره.
والمقصود بالقدر هنا: المقدور؛ أي: بما قدره الله من الخير والشر، حسب ما سبق به علمه واقتضته حكمته - سبحانه وتعالى.
وللقدر أربعة مَراتب لا يتم الإيمانُ بالقدر إلاَّ بها:
أولاً: العلم: الإيمان بعلم الله – تعالى.
ثانيًا: الكتابة: الإيمان بأنَّ الله - تعالى - كتب ما علم أنه كائن إلى يوم القيامة.
ثالثًا: المشيئة: الإيمان بأن لا يَحصل في هذا الكون شيء إلا ما شاء الله.
رابعًا: الخلق: الإيمان بأن الله - تعالى - خلق الخلق وأعمالهم وأفعالهم.
قال الناظم جامعًا هذه الأمور:
عِلْمٌ كِتَابَةُ مَوْلاَنَا مَشِيئَتُهُ = وَخَلْقُهُ وَهْوَ إِيجَادٌ وَتَكْوِينُ
وهذه المراتب الأربع: مَرتبتان قبل وقوع المقدور، وهما: العلم والكتابة، ومَرتبتان مع وقوع المقدور ملازمتان له، وهما المشيئة والخلق.
- ثم المصنف بعدما عدد أركانَ الإيمان الستة دلَّل عليها، وقال: والدليلُ على هذه الأركان الستة قوله - تعالى -: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾ [البقرة: 177]، هذه الآية فيها تعداد خمسة من أركان الإيمان، ثم استدل للقدر بقوله - تعالى -: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ ﴿القمر: 49﴾، وجاء بهذا الدليل؛ لأنَّ الآية الأولى ليس فيها الاستدلال على القدر.
فصل [المرتبة الثالثة: مرتبة الإحسان]
قال المؤلف - رحمه الله -: "المرتبة الثالثة: الإحسان، ركن واحد، وهو: أنْ تعبدَ الله كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنَّه يراك، والدَّليل قولُه - تعالى -: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل: 128]، وقوله: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الشعراء: 217 - 220]، وقوله: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [يونس: 61]، والدَّليلُ من السنة حديثُ جبرائيل المشهور عن عمر - رضي الله عنه - قال: "بينما نحن جلوس عند رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذ طلع علينا رجلٌ شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منَّا أحد، حتى جلس إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا مُحمد، أخبرني عن الإسلام؟ قال: ((أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً))، فقال: صدقت، فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: ((أنْ تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره))، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك، قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسؤول عنها بأعلمَ من السائل، قال: فأخبرني عن أماراتِها؟ قال: ((أن تلدَ الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العُراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان))، قال: فمضى، فلبثنا مليًّا، فقال: ((يا عمر، أتدري من السائل؟))، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((هذا جبرائيل أتاكم يعلمكم أمر دينكم))".
الشرح
الإحسان هي آخر مرتبة في الأصل الثاني، والكلام عليها من عدة وجوه:
الوجه الأول: أصل الإحسان على نوعين:
إحسان في عبادة الخالق، وهذا هو المراد هنا، وإحسان في التعامُل مع الناس، حينما يتعامل الإنسان مع الناس، فإنَّهم ماذا يقولون له أحسنت علينا، وحينما نقول لك: تصدق على الفقراء والمساكين؛ يعني: أحسن عليهم، والإحسان في التعامُل مع الناس على نوعين، منه ما هو واجب كالبر بالوالدين؛ قال تعالى: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [البقرة: 83]، وكقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلَة))؛ رواه مسلم، وفي هذا رفق بالبهائم، ومن الإحسان ما هو مُستحب، كالقرض الحسن ونحوه، والمرادُ في مَرتبة الإحسان هو النوع الأول، وهو الإحسان في عبادة الخالق، وهو ركن واحد الإحسان ركن واحد، فهو ليس كالإسلام والإيمان عدة أركان، وإنَّما هو ركن واحد: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك.
الوجه الثاني: للإحسان مقامان:
مقام المشاهدة ومقام المراقبة:
المقام الأول: مقام المشاهدة، ولك أن تقول المعاينة؛ يعني: أن تعبد الله - عزَّ وجلَّ - كأنَّك تراه كأنَّك تشاهده، وهذه أعلى من المرتبة الثانية، فهذه تسمى "الرَّغَب"، والثانية تسمى "الرَّهَب"، فالأولى أن يعبد الإنسانُ اللهَ - جلَّ وعلا - عبادة من يراه ومن يشاهده، أن يعبد الله كأنه يراه، فإذا كان الإنسان يعبد الله - عزَّ وجلَّ - كأنه يراه كيف يكون حال صلاته؟ كيف يكون حال إقباله؟ كيف يكون حاله حينما يستشعر سعة رحمة الله - عزَّ وجلَّ - وما عند الله - عزَّ وجلَّ - من النعيم، وما عند الله - - عزَّ وجلَّ - - من المراتب والجنان، فلا شك أنه سيقبل، فهذه رغبة هذه الحال الأولى.
المقام الثاني: مقام المراقبة، فإنْ لم تكن تراه، فإنه يراك، فإنْ عجزتَ عن المرتبة الأولى، فاعلم ولا تنس ولا تغفل أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - مطلع عليك، فإذا علمت ذلك، فخف من ذلك، خف من أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - مطلع على سرائرك، مُطلع على أعمالك، وهذه مرحلة فيها رهبة، والمحروم كل الحرمان مَن فقد المرحلتين، تأمَّل في واقعنا، وتأمَّل في حياتنا، تَجد اليومَ كثيرًا من الأعمال لا نستشعر الأولى ولا الثانية، لا نُصلي على سبيل المثال كأنَّنا نرى الله - جل وعلا - وأيضًا لا نستشعر أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - يرانا، وأنَّه مُطلع علينا، انظر ذلك في حال السرائر حينما تكون وَحْدَك، حينما يقترف الإنسان بعضَ المعاصي، فهو من أبعد الناس عن مرتبة الإحسان، ولذلك مرتبة الإحسان مرتبة عزيزة.
الوجه الثالث: ما استدل به المؤلف:
وهو قول الله - تعالى -: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾ [النحل: 128]، "مع" تدل على المعيَّة والمعيَّة على نوعين:
النوع الأول: معية عامَّة: وهي لجميع الخلق حتى الكفار، ماذا تقتضي هذه المعية؟ تقتضي أن الله - عزَّ وجلَّ - عليم بكل شيء، وأن الله - عزَّ وجلَّ - مُحيطٌ بكل شيء، فلا يَخفى عليه شيء من أمر المسلمين ومن أمر الكفار.
النوع الثاني: معية خاصَّة: وهي لا تكون إلا للمؤمنين، وهذه تقتضي عدة أمور منها النصرة والتأييد للمؤمنين، ولا شَكَّ أن هذه المعية هي المعية المرادة هنا في الآية السابقة.
ثم استدل أيضًا بقوله - تعالى -: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ﴾ [الشعراء: 217 – 218]؛ يعني: حينما تتعبد لله - جلَّ وعلا - فاعلم أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - يراك، فهذه مَرتبة عظيمة، وهي مَرتبة الإحسان، اعلم أنَّ الله يراك حينما تقوم بكلِّ شيء من أمور حياتك، ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾ [الشعراء: 219]، وليس المقصود فقط السجود وإنَّما سائر العبادات؛ لأنَّ المراد بالتقلُّب: الركوع والسجود والقيام، ثم ختم بصفتين له بأنه - سبحانه وتعالى - مُطلع يسمع ويعلم، فقال تعالى: ﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الأنفال: 61].
ثم استدل بقوله - تعالى -: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ [يونس: 61]، وكلمة "شأن" نكرة جاءت في سياق النَّفي، والنكرة إذا جاءت في سياق النفي، فإنَّها تفيد العموم، وكذلك إذا جاءت في سياق النهي، فأيُّ شأن تكون فيه، وأي حال تكون فيه، لو دقَّ أو كَبُر، لو كنت أمام الناس، أو وحْدَك في أي مكان في أشد الظلمة، فإنَّ الله - عزَّ وجلَّ - مُطلع عليك؛ قال الله – عَزَّ وجل -: ﴿إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا﴾ [يونس: 61]، وهذا بيان أنَّ الله – - عزَّ وجلَّ - - مطلع علي كل شيء.
ثم ذكر المصنف استدلالاً لهذه المراتب الثَّلاث: الإسلام، والإيمان، والإحسان - حديثَ عمر بن الخطاب، قال: "بينا نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم، إذْ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أَثَرُ السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا مُحمد، أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسولُ الله، وتقيم الصلاةَ، وتؤتي الزكاة، وتصومُ رمضان، وتحج البيتَ، إن استطعت إليه سبيلاً))، قال: صدقت، قال فعجبنا له، يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: ((أنْ تؤمنَ بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره))، قال: صدقت.
قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: ((أنْ تعبدَ الله كأنَّك تراه، فإنْ لم تكن تراه، فإنَّه يراك))، قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ((ما المسؤول عنها بأعلمَ من السائل))، قال: فأخبرني عن أمارتِها، قال: ((أنْ تلدَ الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة، العالة، رعاء الشاء يتطاولون في البنيان))، قال: ثم انطلق، فلبثت مليًّا، ثم قال لي: ((يا عمر، أتدري من السَّائل؟))، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإنه جبريل، أتاكم يعلمكم دينكم))".
وتكلمنا عن مرتبة الإسلام والإيمان والإحسان، والذي يهمُّنا آخر الحديث ما لم نتكلم عنه، وهو الحديث عن الساعة وأماراتِها، ودلَّ الحديث على عدة أمور بشأن الساعة، وهي:
الأمر الأول: معنى الساعة.
الساعة بمعنى الوقت أو الزَّمن الحاضر، ومن خلال الحديث والسُّؤال عن الإمارات عُرف أنَّ المرادَ بالساعة زمن قيام الساعة يومَ القيامة، وجبريل - عليه السَّلام - يسأل متى الساعة؟
الأمر الثاني: لا يعلمُ وقت الساعة إلا الله - تعالى - ولذا قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حينما سأله جبريل عن الساعة: ((مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ))، ودل على ذلك الكتاب بعدة أدلة منها قوله - تعالى -: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ [لقمان: 34]، وقوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ﴾ [الأعراف: 187]، وقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ)) فيه دلالة على أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لا يعلم متى الساعة، وكذا جبريل وأنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كأنه قال: أنا وأنت في منزلة واحدة لا نعلم ذلك.
الصوفية من عقائدهم الفاسدة الباطلة أنَّهم يقولون: إنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يعلم متى الساعة، وأنَّ جبريل - عليه السَّلام - يعلم متى الساعة، وأن الإجابة هنا حينما قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لجبريل: ((مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ))؛ يعنى: كأنَّه قال: أنا أعلم مثل علمك أنت، كما أنت تعلم الساعة أنا أعلم الساعة، وهناك نصوص كثيرة ترد على هذا الاعتقاد الباطل، ولكنهم لما غلو بالنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنزلوه منزلةً لا تنبغي إلاَّ لله - جل وعلا - جعلوه يعلم الغيب أيضًا.
الأمر الثالث: من علامات الساعة:
في الحديث ذكر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - علامَتين من علامات الساعة:
أولاهما: ((أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا)).
وجاء في لفظ آخر أنَّ "ربَّها" بالتذكير، وفي لفظ آخر "بعلها"، وكلها بمعنى سَيِّدها، واختُلف في معنى هذه العلامة:
فقيل: هو إخبار عن كثرة السراري في آخر الزَّمان، فيكون ولد الأمة من سيدها بمنزلة سيدها، لا سيما إذا كثرت الأموال، وبدأ الولدُ يتصرف في المال، فيكون هو السيِّد المطاع، مع أنَّها هي التي ولدته.
وقيل: المقصودُ بذلك الإماء اللاتي عند الملوك فقط لا عامَّة الإماء، فإماء الملوك في آخر الزمان يلدْنَ أبناء الملوك، والابن يلحق بأبيه، وسيتولى الملكَ بعد أبيه، وستكون أُمُّه أمةً عنده وهو سيدها.
وهذان القولان بناء على أنَّ الأمة ستلد ولدًا يلحق بأبيه، وسيرث أباه، ومن جملة ما يرث ما عند أبيه من الإماء، منهن أمُّه.
وهذا من أهل العلم مَن قال: إنَّ هذا بعيد؛ لأنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أخبر أنَّ هذا علامة من علامات الساعة، وهذا الشيء قد وجد في أول الأزمان، فكانوا يتسرون، وكان عندهم إماء، ومن الشيء الطبيعي أن يَموت الإنسان، ويرثه ابنه الحر، ومن جملة ما يرثه تلك الأم التي لا زالت رقيقة.
وقيل: وهو قول قوي له حظ من النظر أنَّ المقصود أنَّه في آخر الزمان يكثر عقوق الوالدين، فيعامل الابنُ أباه وأمه، كما يعامل عبده وأَمَته، وهو السيد المطاع، وهذا مال إليه ابنُ حجر - رحمه الله.
وهذا ربَّما يكون مشاهدًا في آخر الأزمان، وهذا موجود أيضًا في دول الكفر جلي وظاهر، وموجود مع الأسف الشديد في بلاد المسلمين وهو كثير، وربَّما تجده أيضًا ممن ظاهرهم الصلاح، وممن حرصهم على الخير وعلى العلم إلاَّ أنَّهم يغفلون عن هذه الأمور، وربَّما يقدم أشياءً مثل العلم وغيره على بر الوالدين، فهذا من قلة الفقه؛ لأنَّ طاعة الوالدين واجبة، ومثل هذه الأمور تعتبر سنة، ولا تُقَدَّم السنة على الواجب.
ثانيهما: ((أَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ، الْعَالَةَ، رِعاءَ الشَّاءِ، يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ)).
الحفاة: جمع حافٍ وهو مَن لا نعالَ له، والعراة: جمع عارٍ، وهو من لا لباسَ له، والعالة: والمقصود بهم الفقراء، وهم مَن لا مالَ لهم، والمال أمر عام، وليس فقط الأموال النقدية، وإنَّما أي مال؛ لأنَّه قال بعد ذلك: ((رعاء الشاء يتطاولون في البنيان))، قيل: خصَّ الشاء، وهي جمع شاة؛ لأنَّه لا يرعى الشاة إلاَّ مَن هو أقل حال، بخلاف صاحب الإبل، فهو أحسن حال من صاحب الشاة، لكن هذا مردود؛ لأنَّه جاء في رواية أخرى "رعاة الإبل"، فدل هذا على أنه ليس المقصود الشاة بذاتها ورعاة الشاة بذواتهم، "يتطاولون في البنيان"، والتطاول له عدة أمور ومن أهل العلم من جعله على نوعين:
النوع الأول: التطاوُل بعد ضيق، فإنَّ هذا مباح، كأنْ يكونَ الإنسانُ عنده مساحة بسيطة وصغيرة لا تكفيه لأهله، فيبدأ يطيلُ بُنيانَه إلى العلو؛ لأجل أنْ تكفيه، كما يوجد في بعض البلدان والمناطق - على سبيل المثال في مصر أو في مكَّة - المساحات ضيقة، فتجد أنَّ الإنسانَ يبني له بيتًا من ثلاثة أدوار، يقول: لأن المساحة ضيقة، قالوا: إنَّ هذا مباح، فالأصل فيه الإباحة؛ لأنه لم يتطاول في ذلك تفاخرًا.
والنوع الثاني: التطاوُل في البنيان من دون ضيق، وذلك حينما يكون الإنسانُ يرفع بيتَه فوق ما يحتاجه، فإنَّ هذا هو المقصود في حديث الباب، واشتهر مثل هذا في زماننا، تجده يفاخر في بيته وهو قليل ذات اليد، ركبته الديون في ذلك، وأيضًا هذا النوع الثاني من التطاوُل مِن أهل العلم مَن قال: إنَّ المقصود به الارتفاع، ومنهم من قال: إنَّ التطاوُلَ يدخل فيه ما في جوف هذا البيت من الزَّخارف ونحوها مما كان فيه تفاخُر بين الناس، إذًا هناك تطاول في النوعية، وهناك تطاول في البناء، حينما نقول: الزخارف والأشياء الثمينة جدًّا، ويبذخ في شأن بيته من الداخل، هذا تطاوُل في النوعية، وحينما يرفع بيته هذا تطاول في البناء.
قال في الحديث: "ثُمَّ انْطَلَقَ، فَلَبِثْتُ مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ لِي: ((يَا عُمَرُ، أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟))، قُلْتُ: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ((فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ، أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ))"، وفي هذا إشارة إلى أنَّ الإنسان قد يكون معلمًا لغيره، وناشرًا للعلم لغيره، ولو لم يأمر بهذا، أو لم يرشد للخير، فجبريل - عليه السَّلام - حينما جاء، فقد كان من شأنه السؤال فقط: ما الإسلام؟ ما الإيمان؟ ما الإحسان؟ وكان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يعلمُ، ثُمَّ ماذا، قال عنه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أخبر أنه مُعلِّم، وعليه قد يكون الإنسان معلمًا حين يكون مثلاً يأتيه أحدٌ من أهل العلم، أو أحد من المشايخ، أو أحد مَن كان عنده علم أيًّا كان، فهو يعلم هذه المعلومة، ولكن يعلم أنَّه لو صدرت منه ربَّما الناس لا يستقبلونها، فيسأل هو عنها، ثم بعد ذلك يُجيب هذا المعلم؛ من أجل أنَّ الناس يستقبلون منه أكثر، ثم بعد ذلك يكون السائل هو مُعلم أيضًا، يأخذ ثواب التعليم في ذلك، وهذا من فضل الله - عزَّ وجلَّ - الواسع.
[الأصل الثالث: معرفة نبيك محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - ]
قال المؤلف - رحمه الله -: "الأصل الثالث: معرفة نبيكم محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم، وهاشم من قريش، وقريش من العرب، والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل - عليه وعلى نبينا أفضلُ الصلاة والسلام - وله من العمر ثلاث وستون سنة، منها أربعون قبل النبوة، وثلاث وعشرون نبيًّا رسولاً، نُبِّئ باقرأ، وأرسِل بالمدثر، وبلده مكة، وهاجر إلى المدينة، بعثه الله بالنذارة عن الشرك، ويدعو إلى التوحيد، والدليل قوله - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾ [المدثر: 1 - 7]، ومعنى ﴿قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ ينذر عن الشرك، ويدعو إلى التوحيد، ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾؛ أي: عظَّمه بالتوحيد، ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾؛ أي: طهر أعمالك عن الشِّرك، ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ الرجْز: الأصنام، وهجرها: تركها والبَراءة منها وأهلها، أخذ على هذا عشرَ سنين يدعو إلى التوحيد، وبعد العشر عُرِجَ به إلى السماء، وفرضت عليه الصلوات الخمس، وصلى في مكة ثلاث سنين، وبعدها أمر بالهجرة إلى المدينة.
والهجرة: الانتقالُ من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، والهجرة فريضة على هذه الأمة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، وهي باقية إلى أنْ تقومَ الساعة، والدَّليل قوله - تعالى -: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ [النساء: 97 - 99]، وقوله - تعالى -: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾ [العنكبوت: 56]؛ قال البغوي - رحمه الله تعالى -: "سببُ نزول هذه الآية في المسلمين الذين بمكة لم يهاجروا ناداهم الله باسم الإيمان"، والدليلُ على الهجرة من السنة قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "لا تنقطعُ الهجرة حتى تنقطعَ التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلعَ الشمس من مغربها".
فلما استقرَّ بالمدينة، أمر ببقية شرائع الإسلام مثل الزَّكاة والصوم والحج والجهاد والأذان، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وغير ذلك من شرائع الإسلام، أخذ على هذا عشر سنين، وبعدها تُوفي صلوات الله وسلامه عليه، ودينه باق، وهذا دينه لا خَيْر إلا دلَّ الأمةَ عليه، ولا شرَّ إلا حذرها منه، والخير الذي دل عليه التوحيد وجميع ما يُحبه الله ويرضاه، والشر الذي حذر منه الشرك وجميع ما يكرهه الله ويأباه.
بعثه الله إلى الناس كافَّة، وافترض الله طاعته على جميع الثقلين الجن والإنس، والدَّليل قوله - تعالى -: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: 158]، وأكمل الله به الدين، والدليل قوله - تعالى -: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3]، والدليل على موته - صلَّى الله عليه وسلَّم - قوله - تعالى -: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾ [الزمر: 30 - 31]".
الشرح
لا شَكَّ أن معرفة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - هو أصل أصيل من أصول الدين، وأكبر دلالة على ذلك أنَّ الإنسان في قبره يسأل عن هذا الأصل العظيم، ومما يبين أيضًا معرفة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فضلاً على أمته، فهو - صلَّى الله عليه وسلَّم - الواسطة في تبليغ شرع الله - جل وعلا - وهو الذي أخرج الناس بفضل الله - عزَّ وجلَّ - من الضلالة إلى الهدى، ومن الظَّلام إلى النور، فلا شكَّ أن معرفة هذا الأصل والتأمُّل فيه من أهم الأمور التي ينبغي للعبد أن ينظر فيها، ولا شك أن الرسالة التي جاء بها النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - إنَّما جاء بها لأُمته ومعرفة الرسالة تتضمن معرفة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم.
والكلام على هذا الأصل من عشرة أوجه:
الوجه الأول: نسبه - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
ومعرفة نسبه - صلَّى الله عليه وسلَّم - هو من تمام المعرفة به - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأفادنا بذلك المؤلف، فقال: "وهو مُحمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم، وهاشم من قريش، وقريش من العرب، والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام"، إذًا نسب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في العلية من النسب، فهو في ذِرْوة النسب وأشراف الناس، فلا شكَّ أن قريشًا من علية القوم، وكذا النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - من قريش، ولذلك ابنُ القيم - رحمه الله - يذكر هذا النسب الشريف، فيقول: "وهو خير أهل الأرض نسبًا على الإطلاق، فلنسبه من الشرف أعلى ذِروة، وأعداؤه كانوا يشهدون له بذلك، ولهذا شهد له به عدوه إذ ذاك أبو سفيان بين يدي ملك الرُّوم، فأشرف القوم قومه، وأشرف القبائل قبيلته، وأشرف الأفخاذ فَخِذُه" إلى نهاية كلامه رحمه الله؛ "انظر: زاد المعاد، 1/71م".
والنبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - له عدة أسماء، وجاء في حديث جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قَالَ: ((إن لِي أَسْمَاءً، أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِيَ الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمَيَّ، وَأَنَا الْعَاقِبُ الذِي لَيْسَ بَعْدَهُ أَحَدٌ))؛ متفق عليه.
فأحمد ومحمد لا شك أنه لم يسمَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بذلك إلا لأنَّه يحمد أكثر مما يحمد غيره، فسُمي محمدًا وأحمد، فلا شَكَّ أن في هذا الاسم أيضًا معاني أخرى.
أما بقيةُ الأسماء، فقد جاءت في الحديث نفسه، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر))؛ لأن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد بعث لينشر التوحيد، ويُبطل كل كفر، ثم قال: ((وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على عقبي))، فله النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - الشفاعة يومَ القيامة، وهو من قريش، وقريش لا شك أنَّها من أعلى أنساب العرب، وهو من ذريه إسماعيل، لا من ذرية إسحاق، بخلاف أنبياء بني إسرائيل، فكلهم من ذرية يعقوب بن إسحاق، أمَّا النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فهو من ذريه إسماعيل، وكلتا الذريتين ترجعان إلى إمام الحنفاء إبراهيم - عليه السَّلام - وجاء في "صحيح مسلم" من حديث وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ، يقول: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((إن اللهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ)).
الوجه الثاني: معرفة عمره - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومعرفة مولده.
قال المؤلف: "وله من العمر ثلاث وستون سنة، منها أربعون قبل النُّبوة، وثلاث وعشرون نبيًّا رسولاً".
- النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولد في شعب بني هاشم في مكة صبيحةَ يومِ الاثنين التاسع من شهر ربيع الأول عام الفيل، وقيل: في يوم الثاني عشر من ربيع الأول وهو الأشهر؛ "انظر: البداية والنهاية، 1/259".
- له من العمر ثلاث وستون، دلَّ على ذلك حديث عائشة - رضي الله عنها - أنَّها قالت: "توفي النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو ابن ثلاث وستين"؛ متفق عليه، وهذا محل خلاف بين أهل السير والتواريخ إلاَّ أن الصحيح الذي عليه جمهورُ المؤرخين أنه توفي وله من العمر ثلاث وستون سنة.
- منها أربعون قبل النبوة، دلَّ على ذلك حديثُ أنس - رضي الله عنه - وفيه: "أنزل عليه وهو ابن أربعين"؛ رواه البخاري، وإذا عرفنا أنَّ عمره ثلاث وستون سنة، فهذا يدل دلالة قاطعة في أن مدة النبوة والرسالة ثلاث وعشرون سنة.
الوجه الثالث: معرفة حياته - صلَّى الله عليه وسلَّم - من حيث النبوة والمنشأ، والكلام على هذا الوجه من أمرين:
الأمر الأول كما قال المؤلف: "نُبِّئ باقرأ، وأرسل بالمدثر".
وقول المؤلف هذا يفيدنا بأن هناك فرقًا بين النبوة والرِّسالة كما تقدم بيانه، وأول ما أُنزل عليه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وحصلت نبوته بـ ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: 1]، وأما رسالته، فأول ما حصلت فإنَّها حصلت بقوله - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ﴾ [المدثر: 1].
أولاً: نقول: نبئ باقرأ؛ يعني: بقوله - تعالى -: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: 1]، وذلك أنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - حبب إليه الاختلاء، فكان يَختلي بغار حراء، فجاءه جبريلُ وهو في غار حراء، وقال له: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: 1- 5]، وذلك يوم الاثنين في رمضان وهو في غار حراء؛ "انظر: البداية والنهاية، 3/6".
ثانيًا: نقول: أُرسل بالمدثر؛ أي: صار رسولاً بهذا النداء: ﴿يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ [المدثر: 1 – 2]، فهذا أولُ أمر أُمر به النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - مقرونًا برسالته، والنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حينما أُرسل بقوله - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ﴾ إنَّما كان ذلك بعدما رجع من غار حراء بعدما نزل عليه الملَك باقرأ، قال له: ﴿يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ﴾، وسيأتي بيانُ هذه الآيات بإذن الله - تعالى - في الوجه الرابع.
الأمر الثاني: قال المؤلف "وبلده - صلَّى الله عليه وسلَّم - مكة".
ولد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في مكة، ونشأ فيها، ولم يَخرج منها إلاَّ تلك الأيام التي أرضعته حليمة السعدية بنت أبي ذؤيب السعدية في بادية بني سعد، ثم رجع إلى مكة في حضانة جده عبدالمطلب ثم عمه أبي طالب؛ لأنَّ أمه آمنة بنت وهب ماتت وعمره ست سنين، وبعدما أوحي إليه وهو في سن الأربعين بَقِيَ في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو إلى التوحيد؛ حيث بعثه الله - تعالى - بالنِّذارة عن الشرك، ويدعو إلى التوحيد، دلَّ على ذلك قوله - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ [المدثر: 5].
الوجه الرابع: وقفة مع آيات المدثر:
هذه الآيات التي جاء بها المؤلف - رحمنا الله وإياه تعالى - فيها دلالة على الأمر بنشر التوحيد، والبدء بالدَّعوة إليه، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ﴾؛ أي: يا أيها المتدثر بثيابه والمتزمل بها قم فأنذر قومك مما هم عليه من الإشراك والبعد عن الله - عزَّ وجلَّ - روى جابر بن عبدالله الأنصاري، قال: قال رَسُولُ اللهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ قَالَ فِي حَدِيثِهِ: ((فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوتًا مِنَ السمَاءِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا الْمَلَكُ الذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسًا عَلَى كُرْسِي بَيْنَ السمَاءِ وَالأَرْضِ))، قال رَسُولُ اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فَجُئِثْتُ مِنْهُ فَرَقًا فَرَجَعْتُ، فَقُلْتُ: زَمِّلُوني زَملُونِي، فَدَثَّرُونِي، فَأَنْزَلَ الله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى -: ﴿يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ [المدثر: 5]؛ متفق عليه، وهذا فيه بيانُ أن ﴿يا أيها المدثر﴾ ليست أول ما أنزل، وإنَّما ﴿اقرأ﴾.
قال تعالى: ﴿قُمْ فَأَنْذِرْ﴾؛ أي: انهض وخوِّف المشركين، وادعُهم وحذرهم من العذاب، وأنَّهم إذا لم يدخلوا في التوحيد فإنَّهم لا بد أنْ ينالهم من عذاب الله ما ينالهم؛ لأنَّ قوله: "فأنذر" النِّذارة لا بد أن تكون من شيء مَخُوف وشيء فيه عذاب وعقاب.
ثم قال بعد ذلك: ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾؛ أي: عظمه بالتوحيد، وصِفْهُ بالكبرياء والعظمة - جل وعلا - وأنه أجلُّ وأكبر من أنْ يكونَ له شريك كما يقول الكفار.
ثم قال: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾، وهذه الآية اختلف المفسرون فيها على تفسيرين:
قيل: كما أورده المصنف؛ أي: طهرها من أنجاس الإشراك مع الله - عزَّ وجلَّ - والبعد عن التوحيد إلى التوحيد وإلى عبادة الله - عزَّ وجلَّ - وإفراده بالعبادة، وبه قال جمهور المفسرين.
وقيل: المقصود الطهارة الحسية؛ أي: ثيابك الملبوسة طهرها، وبه قال بعض المفسرين كابن جرير الطبري والشوكاني.
فالأولى طهارة المعنوية والثانية طهارة الحسية، وكلا التفسيرين مراد كما ذكر ابن كثير؛ حيث قال: "وقد تشمل الآية جميعَ ذلك مع طهارة القلب، فإن العربَ تطلق الثياب عليه"؛ "انظر: تفسير هذا الآيات في تفسير ابن كثير، وانظر: فتح القدير، 5/324، وانظر: فتح الباري، 8/679".
ثم قال: ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾، ﴿المدَّثر﴾، والمقصود بالرجز الأصنام وهي الأوثان.
ثم بعد ذلك قال: ﴿وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾، ولهذه الآية أيضًا تفسيران:
التفسير الأول: أي لا تَمنن على ربِّك بما تبذله من الدَّعوة إلى التوحيد بأنك قد تعبت في هذا المقام، وهذا المجال العظيم، وهو الدعوة إلى التوحيد.
والتفسير الثاني: معناه لا تعطِ العطية، وتلتمس أكثر منها؛ لأنَّ من الناس مَن ربَّما يعطي عطية، وهو يلتمس أكثر من هذه العطية، وهذا فيها منة، ليست قولية، وإنَّما منة فعلية؛ "انظر: المرجعين السابقين: تفسير ابن كثير، وفتح القدير".
ثم قال: ﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾، أخبره الله - عزَّ وجلَّ - أن هذا الطريق يحتاج إلى صبر، وأنه لا بُدَّ أن يواجه مخالفة في ذلك؛ لأنه بهذا يخالف أهواء الناس.
الوجه الخامس: مدة دعوة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى التوحيد وعروجه إلى السماء؛ يقول المؤلف - رحمه الله -: "أخذ على هذا عشر سنين يدعو إلى التوحيد، وبعد العشر عُرِجَ به إلى السماء وفُرِضَت عليه الصلوات الخمس، وصلى في مكة ثلاث سنين، وبعدها أُمر بالهجرة إلى المدينة"، إذا أضفنا هذه العشر السنين إلى الأربعين صارت خمسين، وقلنا: إنَّه مكث في مكة ثلاث عشرة سنة، وليس في هذا تعارض مع قول المؤلف؛ لأنَّه قبل هذه العشر سنوات، مكث ثلاثَ سنين يدعو بخفاء، وهذه تسمى الدعوة الخفية - الدعوة في السر - قبل أن يؤمر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بأن يدعوَ جهرًا، فمقصود المؤلف الدعوة الجهرية، كانت عشر سنين، وقيل: إنَّه دعا عشر سنين، ثم مكث ثلاث سنين في مكة يصلي، ثم هاجر إلى المدينة.
بعد هذه العشر سنين عُرج به إلى السماء، وفرضت عليه الصلواتُ الخمس، فالصلوات الخمس إنما فرضت في مكة.
والإسراء والمعراج لا شَكَّ أنهما أمران ثابتان، وهما لا يثبتان عن طريق العقل، ولذلك هذا الذي جعل قريشًا يكذبون النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في هذا؛ لأنَّهم حكَّموا عقولهم، والصحيحُ أنَّهما ثابتان بالنص والإجماع، ثابتان بالكتاب والسنة؛ قال تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى﴾ [الإسراء: 1]، وفي السنة كما في "صحيح البخاري"، وأيضًا هو ثابت بإجماع العلماء.
والإسراء لغة: هو السير بالشخص ليلاً.
وأما شرعًا: فهو سير جبريل - عليه السَّلام - بالنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - من مكة إلى بيت المقدس بدابة يقالُ لها: "البُراق: وهي دابة دون البغل وفوق الحمار أبيض"، فمن مكة إلى بيت المقدس يُسمى إسراءً، ومن بيت المقدس إلى السماء يُسمى عروجًا، ولَمَّا حكَّمت قريشٌ عقولَها، لَم تصدقْ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكانوا يؤمنون بالمنامات، ويقولون: لا بأسَ، نَحن نصدقك بأن هذا كان منامًا قد نصدقك، لكن أنْ يكون ذلك حقيقة، فإن هذا لا نصدقك عليه، ولذلك كانت هذه المسالة من مسائل العقائد، التي ينبغي للإنسان أنْ يؤمنَ بها ويجزم بها، والصحيح أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عرج بجسده وروحه حقيقةً لا منامًا.
والمعراج في اللغة: هي الآلة التي يُعرج بها وهي المصعد.
وأمَّا شرعًا: فهو السلم الذي عرج به النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهذه الآلة لم يأتِ بيانها وكيفيتها، فالله أعلم بها.
والإسراء والمعراج كانا في ليلة واحدة، وفي معراجه فرضت الصلوات الخمس، ثم مكث النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعد ذلك بمكة ثلاث سنوات يُصلي، فأربعون سنة، ثم النبوة، ثم عشر سنين يدعو إلى التوحيد وثلاث سنوات مكث في مكة يُصلي، هذه كلها ثلاث وخمسون سنة، بقي من عمره - صلَّى الله عليه وسلَّم - عشر سنوات قضاها في المدينة، وعليه فإن الإسراء والمعراج يكون قبل هجرة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - للمدينة بثلاث سنين.
الوجه السادس: هجرته - صلَّى الله عليه وسلَّم - وتعريف الهجرة:
والكلام على هذا الوجه من عدة أمور:
أولاً: متى هاجر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم؟
تبيَّن لنا مِمَّا تقدم أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعدما أتمَّ ثلاثًا وخمسين سنة هاجر عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم إلى المدينة.
ثانيًا: تعريف الهجرة:
الهجرة في اللغة: هي التركُ والخروج من بلد أو أرض أو نحو ذلك.
وشرعًا عرفها المؤلف، وقال: الهجرة الانتقال من بلد الشرِّك إلى بلد التوحيد.
ثالثًا: ما مناسبة مَجيء الهجرة في هذا الأصل أو في هذه العقيدة؟ لماذا جاء بها المؤلف؟
لا شَكَّ أن لها مناسبة وثيقة في الولاء والبَرَاء، فحينما يتبرَّأ الإنسان من الكفار والمشركين، فإنَّه يتبرأ من الشرك وأهله، وإذا تبرأ من الشرك وأهله، وكان لا يستطيعُ أن يقيم شعائر الدين، كان لزامًا عليه ومن متمِّمات البراءة أن يَخرج من بلده إلى بلاد الإسلام مهاجرًا إلى الله ورسوله؛ ليعبدَ الله - جل وعلا - ويُقيم شعائر الله - جلَّ وعلا - ويتبع ما أمر به النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - والهجرة شأنها عظيم كما سيأتي، ولكن هذه الهجرة الواجبة لا تكون واجبة إلا بشروط كما سيأتي.
رابعًا: ما بلدُ الإشراك التي يهاجر منها، وما بلد الإسلام التي يهاجر إليها؟
هناك تعاريف كثيرة في تحديد بلاد الإسلام، وفي تحديد بلاد الشرك، ومن أفضل التعاريف أنْ يقالَ: بلاد الإشراك هي البلاد التي لا يقام بها شعائر الإسلام، فهذه تسمى بلاد إشراك، فقد يقيم أقلية من المسلمين في بلاد الإشراك يستطيعون أنْ يقيموا بعضَ الدين، لكنه إذا لم يكن الإسلام شاملاً وعامًّا في هذه البلاد، فالبلاد تسمى بلادَ إشراك، فلا يقول قائل على بلاد فرنسا - على سبيل المثال - أو على أي بلاد من بلاد الإشراك: إنَّ هذه بلاد إسلام، وإنَّها فيها مسلمون، ويستطيعون أنْ يقيموا شعائر الدين، لا بل هي بلاد إشراك، لكن من حيث حكم الهجرة ووجوبها سيأتي بعد قليل شروط الوجوب.
خامسًا: حكم الهجرة:
المؤلف بيَّن أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أُمِرَ بالهجرة، الأمر يقتضي الوجوب، وبيَّن أنها فريضة على هذه الأمة، وهذا يُفيدنا بأنَّ أصل هذه العبادة من حيث التشريع الوجوب، ولكنَّها قد تكون مستحبة، قد يكون البقاء في بلاد الإشراك مستحبًّا، وكل هذا بحسب الحال، ولبيان حكم الهجرة نقول ما يلي:
نقول: دل على وجوب الهجرة الكتاب والسنة والإجماع، وأمَّا من الكتاب فما استدل به المؤلف قول الله - تعالى -: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ [النساء: 97]، فلامهم الله - جل وعلا - لعدم هجرتهم، وبيَّن أنَّهم أوقعوا الظلم على أنفسهم، فأثموا بذلك.
قال الله - تعالى -: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ [النساء: 97 – 99].
س: من خلال الآيات السابقة نقول: ما شروطُ وجوب الهجرة؟
1 - القُدرة على الهجرة: فإذا كان لا يستطيعُ أن يهاجر، كأنْ يكونَ في بلاد إشراك، ويكون الخروج من هذه البلاد ممنوعًا، أو كأنْ يكونَ عليه حظرٌ أو نحو ذلك، فإنه يسقط في حقه الوجوب؛ لأنَّه عاجز عنه، والواجبات تسقط بالعجز، ويدُلُّ على قول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الحديث المتفق عليه: ((إذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم))، وموطن الاستدلال على هذا الشرط من الآيات السابقة هو قوله: ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ [النساء: 97]، وهذا فيه بيان أن الأمر مفسوح وواسع في الهجرة بخلاف العاجز، فليس معه سعة يستطيع معها الهجرة.
2 - أن يكون غير مستطيع على إظهار دينه، قد يكون الإنسانُ يستطيع الهجرة، ولكنه في الوقت نفسه يقول: أستطيع أن أُظهر ديني، أصلي في المساجد، وآتي بجميع شرائع الدين، ولا يكون هناك شيءٌ يعيقني عن تطبيق الدين، فالهجرةُ غير واجبة حينئذٍ،، فينتقل من الوجوب إلى الاستحباب، سواء كانت البلاد بلاد إشراك أم فسق، لكن إذا قال: أنا أستطيعُ الهجرة وفي الوقت نفسه لا أستطيع أنْ أظهر ديني، فحينئذ نقول: لا زالَ الأمر عليك واجبًا من حيث الهجرة، وموطن الاستدلال على هذا الشرط من الآيات السابقة هو قوله: ﴿قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ﴾ [النساء: 97]، ومستضعفين؛ يعني: أذلاء لا يستطيعون أن يقيموا شعائر الدين.
عرفنا مما سبق أن الهجرة لا تجب إلا بشرطين: القُدرة على الهجرة، وعدم التمكن من إظهار شعائر الدين، حينئذ تكون الهجرة واجبة، أمَّا إذا اختل شرط من هذين الشرطين، فإنَّها تنتقل إلى الاستحباب.
قال ابن كثير: "نزلت هذه الآية الكريمة عامَّة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكنًا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه، مرتكب حرامًا بالإجماع وبنص هذه الآية"؛ "انظر: تفسير الآية في تفسير ابن كثير، سورة النساء، آية 97".
ومن خلال ما سبق نستطيع تصنيف الناس في الهجرة من بلاد الإشراك إلى ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: من تَجب عليه الهجرة، وهو من توفر فيه الشرطان السابقان: القدرة على الهجرة، وعدم التمكن من إظهار شعائر الدين.
الصنف الثاني: من لا هجره عليه، وهو العاجز عن الهجرة، والعاجز عن الهجرة عدة أصناف، إمَّا لمرض فلا يستطيع، أو ليس عنده مال يذهب به، أو مُكرهٌ على الإقامة في بلاد الشرك، فحينئذ لا تَجب عليه الهجرة؛ لأنَّ الله - عزَّ وجلَّ - قال: ﴿إِلَّا المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً﴾ [النساء: 97].
الصنف الثالث: من تستحب له الهجرة: وهو مَن يقدر على الهجرة، لكنه مُتمكن من إظهار دينه، كما تقدم بيانه.
إذًا عرفنا أنَّ الهجرة إمَّا أن تكون واجبة أو مُستحبة، وقد يكون عدم الهجرة مستحبًّا في حق أشخاص مُعينين، كأن يَحتاج المسلمون عينًا لهم هناك؛ يعني: يَحتاجون مَن يتفقد أحوالَ المشركين، ويُخبرهم ويعطيهم أخبار المشركين أولاً بأول، وخططهم ومكائدهم، فحينئذ يكون الأمر مستحبًّا أمَّا إذا كان أمر البقاء لا ينطبقُ إلا عليه، وكان الأمر حتمًا للمسلمين، فحينئذ يكون البقاءُ واجبًا على حسب وجوب أو احتياج المسلمين؛ "انظر: المغني، لابن قدامة، 10/515، والفتح، لابن حجر، 6/190".
سادسًا: حكم من ترك الهجرة الواجبة:
لو أنَّ شخصًا تحققت فيه شروطُ وجوب الهجرة ولم يهاجر، فلا شكَّ أنه يعد عاصيًا ظالمًا لنفسه، كما ذكر الله - تعالى - ولكنه لا يَخرج من دائرة الإسلام بتركه للهجرة، وهذا ما أراد بيانه المؤلف حينما جاء بقول البغوي، قال المؤلف: " قال البغوي - رحمه الله تعالى -: "سبب نزول هذه الآية في المسلمين الذين بمكة لم يهاجروا ناداهم الله باسم الإيمان"، "وهذا هو المحكي عن جماعة من السَّلف - رحمهم الله.
وبعدما ذَكَر المؤلف الدَّليلَ من الكتاب على الهجرة، جاء بما يدُلُّ على الهجرة من السنة فقال: "والدليل على الهجرة من السنة قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها))، والحديث رواه أحمد وأبو داود، وبهذا يكون دلَّ على الهجرة الكتابُ والسنة والإجماع".
مسألة: كيف نجمع بين هذا الحديث الذي أورده المؤلف في شأن الهجرة وبين قول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا هجرةَ بعد الفتح))، والحديث مُتفق عليه، ومعناها لا هجرة بعد فتح مكة، وقد فتحت مكة؟
والجواب: أنَّ المقصود بقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "لا هجرةَ بعد الفتح"؛ أي: لا هجرةَ من مكة بعد فتحها، وذلك أنه بالفتح تحولت مكةَ من كونِها دار كفرٍ إلى دار إسلام، ولما صارت دار إسلام، انتهى وجوب الهجرة منها، أو استحباب الهجرة منها، وأما الهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، فهي مستمرة؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلعَ الشمس من مغربها))؛ رواه أحمد وأبو داود، وللعموم في قوله: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾ [العنكبوت: 56].
الوجه السابع: استقرارُه - صلَّى الله عليه وسلَّم - في المدينة، واكتمال الشريعة.
بعدما دعا النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى التوحيد، هاجر إلى المدينة، واستقر بها، ثم أُمِر ببقية شرائع الدِّين، جاءت الزكاة وتحديد أنصبتها والصيام والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والأذان وغيرها من شرائع الدِّين، أما الصلاةُ فتقدم أن مشروعيتها كان في مكة حينما عُرِج بالنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - الصلاة هي الوحيدة التي كانت في مكة، وأمَّا ما سواها من شرائع الإسلام إنَّما كان بالمدينة؛ لأنَّ الأهم هو الانشغال بأساس الأعمال وهي العقيدة، فهي التي دعا لها النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - طيلة هذه السنوات، وبعدما استقرت، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، وحققوا التوحيدَ جاءت بقية شرائع الدِّين، وهذا يُبين لنا أن أمر العقيدة وشأنها شأن عظيم، فالصَّلاة كانت قبل الهجرة، وأمَّا البقية فهي بعد الهجر، وليس معنى هذا أن دعوة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - للتوحيد توقَّفت عند هذا، بل ظل - صلَّى الله عليه وسلَّم - يدعو إلى التوحيد حتى توفاه الله - تعالى - لكنه في أول رسالته كان شأنه الأكبر والأول هو تحقيق التوحيد ونبذ الشرك، حتى حقَّق الله - تعالى - له ذلك، ثم هاجر إلى المدينة.
مسألة: كيف يُجمع بين أنَّ الزكاة فرضت في المدينة بعد ما استقر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيها، وبين هذه الآية التي نزولها كان في مكة، وهي قوله - تعالى -: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ﴾ [المؤمنون: 4]؟
قد يُشْكل أمر الزكاة، فقد قال الله - تعالى -: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ﴾ [المؤمنون: 4]، والمراد بالزكاة في هذه الآية على قول أكثر العلماء، كما ذكر ابنُ كثير هي زكاة الأموال، والآية لا شكَّ أن نزولها في مكة، وهذا يدُلُّ على أن الزكاة كانت قبل الهجرة، والجواب على هذا أنْ يقالَ: الزكاة التي فرضت في مكة لم تكن مقدَّرة بأنصبة معينة، وكان تحديد أنصبتها بالمدينة، كما دلَّ على ذلك الآياتُ المدنية، كقوله - تعالى -: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ [الأنعام: 141].
فأصلُ الزكاة كان في مكة من دون مقادير، أمَّا بيانُ المقادير والأنصبة، كان في المدينة بعد ذلك.
وأمَّا الصومُ فقد فرض في السنة الثانية من الهجرة، وأمَّا الحجُّ ففيه خلاف، قيل: سنة ست، وقيل: سنة عشر، وقيل: سنة تسع، وهي أرجح الأقوال؛ "انظر: زاد المعاد، 2/101".
والجهادُ كذلك فرض بعد الهجرة، وأمَّا قبلها، فلم يأذن الله - تعالى - للمسلمين أنْ يجاهدوا؛ لأنَّهم ضعفاء ليس لهم شوكة وقوة، والآذان كذلك فرض في المدينة في السنة الأولى من الهجرة على القول الراجح، ووردت أحاديثُ تدل على أن الأذان فرض قبل الهجرة، لكنَّها أحاديث معلولة؛ "انظر: زاد المعاد، 3/69، وانظر: فتح الباري، 2/78، 79".
الوجه الثامن: وفاته - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
مكث النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعد هجرته في المدينة عشر سنين، وإذا أضفنا هذه العشر السنين للثلاث والخمسين سنة في مكة كانت ثلاثًا وستين، وهو عمر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثم توفي بعدها بعد عمر حافل بتأسيس العقيدة، وقمع الشرك وأهله، ونشر التوحيد، وشرائع الدين وتطبيقها، لا خير إلاَّ دل الأمة عليه، ولا شر إلاَّ حذَّرها منه، دلَّ على ذلك ما جاء في "صحيح مسلم" من حديث عبدالله بن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنه لم يكُن نَبِيٌّ قَبْلِي إلا كان حَقًّا عليه أن يَدُلَّ أُمَّتَهُ على خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ))، وفسَّر المؤلفُ هذا الخير، وهذا الشر بكلام وافٍ، فقال: "والخير الذي دَلَّ عليه التوحيدُ، وجميع ما يُحبه الله ويرضاه، والشر الذي حذر منه الشركُ وجميعُ ما يكرهه الله ويأباه".
- توفي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ودينه باقٍ إلى قيام الساعة، توفي يومَ الاثنين على المشهور من أقوال أهل العلم في الثاني عشر من ربيع الأول؛ قال ابن كثير: "لا خلافَ أنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - توفي يومَ الاثنين، والمشهور أنَّه في الثاني عشر من ربيع الأول"؛ "انظر: السيرة النبوية، لابن كثير، 4/505".
الوجه التاسع: وجوب طاعته - صلَّى الله عليه وسلَّم - على الجن والإنس:
حيث بعثه الله - تعالى - إلى الناس كافَّة، وهذا فيه بيان أن دينه باقٍ وشامل لجميع الناس العرب والعجم، فليس لليهودي أن يقول: أنا أتَّبع موسى - عليه السَّلام - وليس للنصراني أن يقول: أنا أتَّبع عيسى - عليه السَّلام - في هذا الزمن؛ لأنه مأمور باتباع محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - جاء في "صحيح مسلم" من حديث أبي هريرة عن رَسُولِ اللهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أَنَّهُ قَالَ: "وَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ من هذه الأمة يهوديٌّ ولا نصْرَانِي، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بالذي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلا كان مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ))، وهذا فيه دلالة على وجوب اتِّباع محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - ودينه - صلَّى الله عليه وسلَّم - لجميع الناس، وافترض الله طاعته على جميع الثقلين الإنس والجن، والدليل قوله - تعالى -: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: 158]، و"جميعًا" تفيد العموم، وكمَّل الله به الدين، والدليل: ﴿اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3].
الوجه العاشر: الدلالة على موته - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
استدل المؤلف على موته - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقوله - تعالى -: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾ [الزُّمر: 30 – 31]، وهذا فيه بيان أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قد مات حقًّا، وهناك من الصحابة من أنكر ذلك؛ لشدة الوقع عليهم إلاَّ أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - قال كلمة عظيمة: "من كان يعبد محمَّدًا فإنَّ محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت"، وهذه الكلمة ليست سهلة، تصوَّر الرجل الذي كانوا يرجعون إليه في فتاويهم، في أمورهم، في مشكلاتهم، في كل شؤونهم، يأتي المهموم، ويأتي المستفتي، ويأتي الناس ويُحاربون معه، ويعلمهم التوحيدَ، ويعلمهم الدين، ويعلمهم ما ينزل عليه، ثُمَّ ينقطع عنهم، ثم ماذا يكون، تكون فاجعة، لكن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ربَّى أصحابه خير تربية، فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: "من كان يعبد محمدًا، فإنَّ محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإنَّ الله حي لا يَموت"، وهذا فيه تعليق بالله - جل وعلا - لا تعليق بالأشخاص، ولذلك يُخطئ أهل الضلالة من الصوفية وغيرهم الذين يعلقون الناس بساداتِهم ونحو ذلك.
وفي "صحيح البخاري" من حديث عائشةَ - رضي الله عنها - قالت: "... دخلَ عليَّ عبدالرحمن وبيده السِّواك، وأنا مسنِدةٌ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فرأيته يَنظُرُ إليه، وعرفتُ أنه يحبُّ السواكَ، فقلت: آخذهُ لك؟ فأشار برأسه أنْ نعم، فَتناولتهُ فاشتدَّ عليه، وقلتُ أُليِّنهُ لك؟ فأشار برأسهِ أنْ نعم، فلينته، فَأَمَرَّهُ وبينَ يَدَيه رَكوة فيها ماءٌ، فجعلَ يُدخِل يديهِ في الماء، فيمسحَ بهما وجههَ، يقول: لا إله إلا الله، إنَّ للموت سكراتٍ، ثم نصبَ يدَه فجعلَ يقول: اللهُمَّ الرفيق الأعلى، حتى قُبِضَ ومالت يده".
فصل في [البعث وحكم من أنكره]
قال المؤلف - رحمه الله -: "والناس إذا ماتوا يبعثون، والدليل قوله - تعالى -: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ [طه: 55]، وقوله - تعالى -: ﴿وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا﴾ [نوح: 18]، وبعد البعث محاسبون ومجزيون بأعمالهم، والدَّليل قوله - تعالى -: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾ [النجم: 31]، ومن كذب بالبعث كفر، والدليل قوله - تعالى -: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [التغابن : 7]".
الشرح
بعد ما انتهى المؤلفُ من الكلام على الأصول الثلاثة وما يتعلق بها، عرَّج على مسائل مهمة ينبغي للمسلم أنْ يتنبه لها منها: وجوب الإيمان بالبعث وحكم من أنكره، ومنها بيان مهمة الرُّسل، وأنَّهم مبشرون ومنذرون، ومنها أن التوحيد لا يتحقَّق بالعبادة لله – تعالى - فقط، بل لا بد من الكفر بالطواغيت، وبيَّن رؤوسَ الطواغيت، وختم بذكر رأس الأمر وعمود الإسلام، وختم بذِروة سنامه، وهو الجهاد في سبيل الله - تعالى.
والكلام على قول المصنف في هذا الفصل من عدة وجوه:
الوجه الأول: معنى البعث.
البعث لغة: الإرسال والنشر.
وشرعًا: إحياء الأموات يومَ القيامة، وهو خروجهم من القُبور ليوم البعث والنُّشور، حين ينفخ في الصور النفخة الثانية.
الوجه الثاني: دلَّ على البعث الكتابُ والسنة والإجماع، أمَّا من الكتاب، فمِمَّا استدل به المؤلف قوله - تعالى -: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ [طه: 55]، وقوله - تعالى -: ﴿وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا﴾ [نوح: 17 – 18]، وأمَّا من السنة، فالأدلَّة كثيرة، منها قول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يُحشر الناس يومَ القيامة حفاةً عُراةً غرلاً))، وهذا مَرَّ بنا في حديث جبريل، وهذا فيه دلالة على أنَّهم يبعثون أيضًا، وأمَّا الإجماعُ، فقد أجمع أهلُ العلم على ذلك.
الوجه الثالث: وجوب الإيمان بالجزاء والحساب بعد البعث:
لأنَّ المؤلف قال بعد ما بيَّن وجوب الإيمان بالبعث: "وبعد البعث محاسبون ومجزيون بأعمالهم، والدليل قوله - تعالى -: ﴿وَللهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالحُسْنَى﴾ [النَّجم: 31]، وهذا فيه دلالة على وجوب الإيمان بالحساب، والحساب معناه: إيقاف الله - تعالى - العبادَ على أعمالهم التي عملوها وما كانوا عليها في الدُّنيا.
الوجه الرابع: هل الكفار يحاسبون، أو يدخلون النار مباشرة؟
هذا فيه خلاف بين أهل العلم، منهم مَن قال: إنَّهم لن يُحاسبوا، ومنهم من قال: إنَّهم سيحاسبون، وهذا هو أرجح الأقوال، ومما يدُلُّ على أنَّهم سيحاسبون قول الله - تعالى -: ﴿يَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ [القصص: 62]، هذا حساب لهم يناديهم، ويقول: ﴿أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾، تزعمون وهذا فيه حساب لهم، ولا شَكَّ أنَّ المنادى هنا هم المشركون، وأيضًا قوله - تعالى -: ﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ﴾ [المؤمنون: 103]، والخلود إنَّما يكون للكافر، وقد عُرض على الميزان، فخفت موازينه، وهذا يدل على حسابه.
الوجه الخامس: من كذب بالبعث فقد كفر:
لأنَّه كذب بشيء جاء به النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولأنه كذب بشيء يتعلَّق بأركان الإيمان، فهو مكذب لله ورسوله، والله - عزَّ وجلَّ - بَيَّن ذلك، وكذَّب المشركون بالبعث، فقال الله - عزَّ وجلَّ - مبيِّنًا تكذيبهم: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ﴾ [التغابن: 7]، هذا هو قول الله - تعالى - في إثبات هذه الحقيقة حقيقةِ البعث، وأمر رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بأن يقسم على البعث، وذلك لأهميته وجلالة قدره، وأنَّه من الأمور التي تَحتاج إلى تأكيد بالقسم؛ حتَّى يذهب الريب والشك من قلوب الكفار، وأيضًا يدل على كفرهم قوله - تعالى -: ﴿وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ [الأنعام: 29 – 30]، وأجمع العلماء على أن من أنكر البعث فقد كفر.
- ولعظم أمر البعث جاء إثباته في القرآن والسنة بطرق كثيرة.
- فتارة بالتصريح: كما في الآية السابقة.
- وتارة بتذكير الإنسان بنشأته الأولى، كقوله - تعالى -: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ [يس: 78 – 79].
- وتارة بالاستدلال بإنبات النبات على إحياء الأموات، كقوله - تعالى -: ﴿فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الروم: 50]
- وتارة بالإشارة والتأمُّل في خلق السموات والأرض، كقوله - تعالى -: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الأحقاف: 33].
- وتارة بتنزيه الله عن العبث؛ إذ إنَّه لو لم يكن هناك بعث، لكانت الأوامر والنواهي والجزاء من العبث، كقوله - تعالى -: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون: 115].
- وتارة بذكر القصص والوقائع التي تدُلُّ على البعث، كقصة الذي مرَّ على قرية، وهي خاوية على عروشها، فأماته الله مائة عام ثم بعثه، وقصة قتيل بني إسرائيل، وقصة الذين أخرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وقصة إبراهيم والطُّيور الأربعة، وقصة أصحاب الكهف.
فصل في [أن جميع الرسل مبشرون ومنذرون، وبيان وجوب الكفر بالطاغوت]
قال المؤلف - رحمه الله -: "وأرسل الله جميعَ الرسل مبشرين ومنذرين، والدليل قوله - تعالى -: ﴿رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: 165]، وأولهم نوح - عليه السَّلام - وآخرهم مُحمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - والدليل على أنَّ أولهم نوح - عليه السَّلام - قوله - تعالى -: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [النساء: 163]، وكل أمة بعث الله إليها رسولاً من نوح إلى محمد، يأمرهم بعبادة الله وحْدَه وينهاهم عن عبادة الطاغوت، والدَّليل قوله - تعالى -: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36].
وافترض الله على جميع العباد الكفرَ بالطاغوت والإيمان بالله؛ قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "الطاغوت ما تجاوز به العبد حدَّه من معبود أو متبوع أو مطاع"، والطواغيت كثيرة ورؤوسهم خمسة: إبليس لعنه الله، ومن عبد وهو راضٍ، ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه، ومن ادَّعى شيئًا من علم الغيب، ومن حكم بغير ما أنزل الله، والدليل قوله - تعالى -: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 256]، وهذا معنى لا إله إلا الله، وفي الحديث: ((رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذِروة سنامه الجهاد في سبيل الله))، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم".
الشرح:
والكلام على قول المصنف هنا من عدة وجوه:
الوجه الأول: معنى التبشير والإنذار:
أمَّا التبشير، فمعناه: ذكر الجزاء والثَّواب لمن أطاع.
والإنذار: العكس من ذلك ذكر العقاب، وتخويف العاصي، والكافر من عقاب الله - تعالى - وسخطه.
مسألة: وهل يكون التبشيرُ في شيء مكروه، أو أن البشارة تكون دائمًا محمودة؟
الأصل أنَّها تستخدم في الشيء المحمود، وهذا هو المعهود عند الناس، ولكن قد تأتي على شيء مذموم؛ قال الله - عزَّ وجلَّ – ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الانشقاق: 24]، والعذاب لا شَكَّ أنَّه شيء مذموم، وسماه الله - عزَّ وجلَّ - بشارة.
الوجه الثاني: ما استدل به المؤلف:
استدل المؤلف على إرسال الرسل مبشرين ومنذرين بقوله - تعالى -: ﴿رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: 165]، دلَّت هذه الآية على أمرين:
أولاً: دلت على وظيفة الرسل والأنبياء بأنهم مبشرون ومنذرون.
والثانية: دلَّت على أن الله - عزَّ وجلَّ - لم يُبقِ للخلق حجةً عليه - جل وعلا - بعد الرسل، فلما أرسل الرسل، كان ذلك حجة على الخلق في أنَّهم يعبدونه - جلَّ وعلا.
الوجه الثالث: أول الرسل وآخرهم:
أول الرسل نوح - عليه السَّلام - ولماذا لم يكن آدم - عليه السَّلام؟
الجواب: أنَّ آدم - عليه السَّلام - نَبِيٌّ، وليس برسول، ودلَّ الكتاب والسنة على أن نوحًا - عليه السَّلام - هو أول الرسل، فمن الكتاب قوله - تعالى -: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [النساء: 163]، كما أوحينا: الوحي يكون إلى الرَّسول، فأوحي إلى نوحٍ - عليه السَّلام - وأوحي إلى النبيين من بعده، فهو أول الرسل، ودلَّ على ذلك من السنة ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة حديث الشفاعة الطويل، وفيه قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فَيَأْتُونَ نُوحًا فسَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ، أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُل إِلَى الأَرْضِ)).
وخاتم النبيين محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - كما دل على ذلك نصوص كثيرة منها قول الله - تعالى -: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ [الأحزاب: 40].
الوجه الرابع: جميع الأنبياء أمروا بتوحيد الله واجتناب الطواغيت:
والدَّليل على ذلك قوله - تعالى -: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36]، هذا فيه استدلال على أنَّ كل الأنبياء أمروا بأن يعبد الله - عزَّ وجلَّ - وحْدَه، وأن يكفر بالطاغوت، لا بد من هذين الأمرين، فالتوحيد لا يتم إلا بهما.
بدأ يذكر أشياء لا بُدَّ أن يتنبه لها الإنسان في عقيدته، فقال بعد ذلك في بيان هذه العقيدة وهذه الرسالة:
الوجه الخامس: معنى الطاغوت وأصنافه:
الطاغوت في الأصل مشتق من الطغيان، والطُّغيان هو: مُجاوزة الحد في كلِّ شيء، ومنه قوله - تعالى -: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ﴾ [الحاقة: 11]؛ أي: جاوز حدَّه.
وأمَّا في الاصطلاح، فأفضل تعريف ما ذكره المؤلف نقلاً عن ابن القيم في كتابه "إعلام الموقعين،1/50"؛ حيث قال: "قال ابن القيم - رحمه الله -: معنى الطاغوت ما تجاوز به العبد حده من معبود، أو متبوع، أو مطاع"، ومن خلال هذا التعريف نستطيع أنْ نعرفَ أصناف الطواغيت، فلا تكاد تخرج الأصنافُ عن هذه، وحينما نقول: ثلاثة أصناف، فليس معناه أنَّهم ثلاثة أشخاص، بل يدخل تحت كل صنف عدة أمثلة:
الصنف الأول: معبود: فإذا تعدَّى العبد قدره الذي ينبغي له؛ أي: جاوز الحدَّ، فصار هذا العبد معبودًا من دون الله - تعالى - فهو طاغوت؛ لأنَّ الأصل أن يكون عابدًا لا معبودًا، فمن عُبد وهو راضٍ، فهو طاغوت.
الصنف الثاني: متبوع: وهذا يدخل فيه الكهان والسَّحرة الذين يُتبعون فيما يقولون، وكذلك يدخل فيه علماءُ السوء الذين يزينون الكفر والضَّلال والبدع، فيحللون ذلك ويزينونه، ويزينون للحكام الخروج عن شريعة الإسلام؛ ليستبدلوها بالقوانين الوضعية، فهولاء طواغيت؛ لأنَّهم تجاوزوا حدَّهم.
الصنف الثالث: مطاع: وهذا يدخل فيه الحكام والأمراء الخارجون عن طاعة الله، فيحرمون ما أحل الله، أو يُحلون ما حرم الله، فهم طواغيت لمجاوزتهم الحد.
الوجه السادس: رؤوس الطواغيت:
تقدَّمت أصناف الطواغيت، وسنوضح الآن رُؤوس الطواغيت، فما الفرق بين الاثنين؟
الجواب: أصناف الطَّواغيت يدخل تَحتها عدة أمثلة، كما تقدَّم، فالأصنافُ كثيرون، بخلاف الرؤوس، فهي معدودة، وهي خمسة، وما عداها فهو متفرع منها، فمثلاً إبليس طاغوت هذا رأس من رؤؤس الطَّواغيت لا نستطيع أن ندخلَ معه صنف من جنسه هو رأس من رؤؤس الطواغيت، والرُّؤوس خمسة، وهذا ثابت بالتتبُّع والاستقراء وهم:
الرأس الأول: إبليس لعنه الله: فهو أول الطواغيت وهو أكبر الطَّواغيت، وأعظمها شرًّا، وأخطرها أمرًا؛ لأنه الداعي لعبادة غير الله - تعالى - قال تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ [يس: 60].
الرأس الثاني: من عبد وهو راضٍ، فهو طاغوت وهذا تقدَّم التمثيلُ به في أصناف الطواغيت، وهو من علم أنَّ الناس يصرفون له شيئًا من العبادة، وهو راضٍ بما يفعلونه، فهو طاغوت، ولو لم يدع الناس لعبادته أو صرف شيء من العبادة له، فهو طاغوت لرضاه بذلك؛ قال الله - تعالى -: ﴿وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 29]، وبذلك نخرج من عُبد وهو غير راضٍ، كعيسى - عليه السَّلام.
الرأس الثالث: من دعا الناس إلى عبادة نفسه، حتى وإن لم يعبد، وإنَّما فقط دعا الناس إلى أن يعبدوه أو يصرفوا له شيئًا من العبادة، فهو رأس من رؤوس الطَّواغيت، ومثل هذا بعض مشايخ الضلال من الصوفية وغيرهم الذين يدعون الناس لأنْ يصرفوا لهم شيئًا من العبادة.
الرأس الرابع: من ادَّعى شيئًا من علم الغيب، يَدخل فيه المنجمون والعرافون والكهنة والسحرة الذين يدَّعون الغيب، فهؤلاء أيضًا طواغيت؛ لأنَّهم نازعوا الله - تعالى - فيما يَختص به؛ قال الله - تعالى -: ﴿عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ [الجن: 26 - 27].
الرأس الخامس: من حكم بغير ما أنزل الله، كمن يحكم بالقوانين الوضعية، نابذًا حكم الله - تعالى - فهو رأس من رؤوس الطَّواغيت؛ قال الله - تعالى -: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ﴾ [المائدة: 44]، فسماهم الله - عزَّ وجلَّ - كفارًا.
- فإن قيل: كيف نجمع بين هذه الآية الدالة على كفر من حكم بغير ما أنزل الله، وبين قوله - تعالى -: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [المائدة: 45]، وقوله - تعالى -: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [المائدة: 47]؟
أهل العلم على قولين في ذلك:
منهم من قال: إنَّ كل من حكم بغير ما أنزل الله، فهو كافر فاسق ظالم، فتنطبق عليه الآيات الثلاث.
ومنهم من قال بالتفريق في الوصف بحسب الحال الذي حكم فيها بغير ما أنزل الله، قالوا:
إنَّ حكم بغير ما أنزل الله مُعتقدًا أنَّ حكمه أصلح وأنفع، أو اعتقد أنَّه مثل حكم الله - تعالى - فهذا لا شكَّ في كفره، فهو كافر كفرًا أكبر مُخرجًا من الملة.
أمَّا إذا لم يَحكم بما أنزل الله، ولم يستخف به، ولم يعتقد أنَّ غير حكم الله أحسن، فهذا يكون ظالمًا.
أمَّا إذا حكم بغير ما أنزل الله، وهو يعتقد أن حكم الله أنفع وأصلح، وأن غيره لا خير فيه، ولكنَّه حكم من أجل مجاراةٍ للمحكوم له، أو من أجل رشوة أو نحو ذلك، فهذا يكون فاسقًا، فالأوصاف الثلاثة الكفر والظُّلم والفسق تتنزل تبعًا لحال الحامل لهذا الحكم؛ "للاستزادة انظر: رسالة: تحكيم القوانين، للشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله – ومدارج السالكين، 2/266"
الوجه السابع: ما استدل به المؤلف:
وهذا هو الذي ختم به المؤلف وبعده حديث فقط، قال: والدَّليل قوله - تعالى -: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 256]، لا إكراهَ في الدين؛ أي: إنَّه لا يُكره أحد للدخول في دين الإسلام، والرُّشد هو: الهدى الموصل إلى سعادة الدارين، والغي ضده: الظلام المفضي إلى البُعد وإلى الشقاء وإلى الخسران، والعروة الوثقى هي "لا إله إلا الله" كلمة التوحيد، التي لا انقطاعَ لها، وهذا لمن آمن بالله - تعالى - وكفر بالطاغوت، فقد استمسك بالعقد المحكم البيِّن الذي يريده الله جل وعلا.
مسألة: كيف نجمع بين أنَّه لا يُكره أحد في الدُّخول في دين الإسلام، وبين قتال المشركين؟ أليسَ هذا فيه نوعٌ من الإكراه قد يأتينا أحد بهذه الشبهة، فيقول: أنتم تأمرون بالجهاد، وتقاتلون المشركين، وهذا فيه إكراه ومعارض لقوله - تعالى -: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾؟
والجواب: إنَّه وقع خلاف بين أهل العلم في الجمع بين الحالين:
فقيل: إنَّ قوله - تعالى -: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ منسوخة بآيات القتال، وضعَّف هذا المحققون كابن جرير وابن العربي والشوكاني وغيرهم؛ "انظر: تفسير ابن جرير الطبري، وتفسير الشوكاني فتح القدير لهذه الآية، وانظر: أحكام القرآن لابن العربي، 1/275".
وقيل: إنَّ الآية محكمة وليست بمنسوخة، ولكنَّها خاصَّة باليهود والنصارى والمجوس، فلا يُكرهون على الدُّخول في الإسلام، بخلاف الوثنيين فإنَّهم يكرهون واختاره ابن جرير وبعض المحققين.
وقيل: إنَّ الآية محكمة وليست بمنسوخة ولا يوجد تعارض فيها مع قتالِ المشركين والأمر بالجهاد، فإنَّ القتالَ والجهاد إنَّما هو لكل من وقف وأصبح عائقًا في وجه الإسلام، فإنه يقاتل، بخلاف من لم يكن كذلك، فالأصلُ ألا يكره في اعتناق الإسلام.
الوجه الثامن: قول المؤلف "وفي الحديث: ((رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذِروة سنامه الجهاد في سبيل الله ))".
وهو جزء من حديث معاذ بن جبل رواه الترمذي في جامعه وقال: "حديث حسن صحيح"، وقد صححه جماعة كالنووي - رحمه الله - وضعفه جماعة كابن رجب - رحمه الله - في شرحه للأربعين النووية.
"رأس الأمر الإسلام"، وهذا فيه بيان أنَّ لكل شيء رأسًا، والأمر هنا المراد به الدين، يعني: رأس الدين الإسلام.
"وعموده الصلاة"، وهذا فيه بيان عَظمة وفضل الصَّلاة في هذا الدين، وأنَّها من هذا الدين، كالعمود للخيمة، وليس للخيمة قيام بلا عمود، وكذا الإسلام ليس له قيام في الشخص بلا صلاة.
((وذِروة سنامه الجهاد في سبيل الله))، وذروة الشيء أعلاه، ولذا يقال لذروة البعير وأعلاه: سنامه، وكذلك يقال في الإسلام، فإنَّ ذِروةَ سنامه الجهاد في سبيل الله، وهذا يُفيد أن أعلى خصال الدين الجهاد في سبيل الله.
والجهاد والصلاة هما العبادتان اللتان جاء الحثُّ عليهما، والأمر بهما مكررًا، بل نقل شيخ الإسلام - رحمه الله -: بأنه لم يرد من الأحاديث قدر ما ورد في الصلاة والجهاد حثًّا وأمرًا وفضلاً، وهذا يجعل الإنسان يَحرص على أن يكون نصيبه وافرًا في الأمرين، والجهاد في سبيل الله يكون له مراتب، ذكرها ابن القيم في كتابه القيم "زاد المعاد" يَحسن الرجوع إليها، فمن الجهاد ما يكون جهادًا للكفار، ومنه ما يكون للمنافقين، ومنه ما يكون للعُصاة، ومنه ما يكون بالسيف والسنان، ومنه ما يكون بالعلم والبيان.
الوجه التاسع: خاتمة المؤلف:
قال المؤلف في ختام هذه الرِّسالة الوجيزة بكلماتها، والوفيرة بمضمونها: "والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم".
وهو ختام عظيم ختم به المؤلف هذه الرِّسالة، فهو بعد بيان ذلك كله ردَّ العلم لله - تعالى - وهكذا ينبغي للمؤمن دومًا أن يتبرأ من حوله وقوته، وأنه ليس له ذلك إلا بالله - تعالى - ويردُّ العلم لله - تعالى - فهو المتفضل – سبحانه - ثم الصلاة على النبي، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
وبهذا نكون قد انتهينا من المرور على هذه العقيدة الثمينة، وتوضيح ما منَّ الله به علينا وتفضل به في الحديث على متن ثلاثة الأصول، فله – سبحانه - المنُّ والفضل أولاً وآخرًا وظاهرًا وباطنًا، وعليه التكلان، ولولاه - جلَّ في علاه - لكنا في خيبة وخسران، أسأل الله - عزَّ وجلَّ - أن يجعلنا من أهل العلم، وأن يجعلنا هُداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، وأسأله - سبحانه وتعالى - أن يحيينا على العقيدة الصحيحة، ويميتنا عليها، وأسأله - سبحانه وتعالى -- أن يغفر لنا ولوالدينا، ويرحمنا، وأن يجعلنا من عباده المصلحين الصالحين، كان تمام هذه الدروس عبر دورة قصيرة في شهر شعبان لعام 1430من الهجرة النبوية، صلى الله على صاحبها وسلم، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
[1] أخرجاه.
[2] العناوين الموجودة بين القوسين المعقوفين [ ] من وضع الشارح، وليست من وضع الماتن.
[3] انظر: "بدائع الفوائد"، 1/24.
[4] الحديث متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب.
[5] رواه الترمذي وقال: حديث صحيح، وصححه الألباني؛ انظر: "الصحيحة"، رقم 946.
[6] انظر: "أخلاق العلماء"، ص (87).
[7] متفق عليه من حديث سهل بن سعد.
[8] متفق عليه من حديث ابن عباس.
[9] الحديث متفق عليه عن عائشة.
[10] انظر: "مجموع الفتاوى"، 28/152، ونقلت هذه العبارة عن الشافعي بلفظ آخر قريب من الأول أنه قال: "لو تدبر الناس هذه السورة، لوسعتهم".
[11] رواه البخاري.
[12] انظر: "مقاييس اللغة"، لابن فارس (6/ 141)، وانظر بنحوه: "لسان العرب"، لابن منظور، تحت مادة (ولي).
[13] انظر: "مقاييس اللغة" 1/ 136.
[14] انظر: "الفرقان"، ص 53.
[15] انظر: "تيسير العزيز الحميد"، ص 480.
[16] انظر: "أحكام أهل الذمة"، 1/67.
[17] انظر: "مجموعة التوحيد"، ص 636.
[18] رواه أحمد وابن أبي شيبة، وقال الألباني في "السلسلة الصحيحة" (1728،998): "فالحديث بمجموع طرقه يرتقي إلى درجة الحسن على الأقل - والله أعلم".
[19] انظر: "الدرر السنية"، 8/396.
[20] انظر: "الدرر السنية"، 7/159.
[21] انظر: كتاب "العبودية"، ص 38.
[22] متفق عليه.
[23] رواه البخاري.
[24] رواه مسلم.
[25] انظر: "مدارج السالكين"، 1/ 37.
[26] انظر: "المدارج"، 2/ 129.
[27] انظر: "موسوعة نضرة النعيم"، إعداد: مجموعة من المختصين، "5/1838 - 1839".