شرح كشف الشبهات
التصنيفات
الوصف المفصل
شرح كشف الشبهات في التوحيد
لفضيلة الشيخ
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
25 جمادى الآخرة 1416للهجرة
سؤال: ما رأيك يا شيخ في من ينكر أهمية هذا المتن [كشف الشبهات] ويقول إن كان له أهمية تذكر فهي للدعاة في الخارج ونحن تكفينا قراءته؟
الجواب: هذا كلام الشيخ فيه (ومعرفة أن قول الجاهل: التوحيدَ فهمناه. أن هذا من أكبر الجهل ومكايد الشيطان) فليحذر على نفسه .[صالح آل الشيخ]
[16 شريطا مفرغا]@
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فبين يدي شرح هذا الكتاب العظيم وهو كتاب كشف الشبهات نقدم مقدمة مهمة بين يدي هذا الموضوع ألا وهو الدعوة إلى التوحيد وكشف الشبه فيه.
من المعلوم والمتقرر في كتاب الله وفي سنة رسوله ﷺ أنّ الله جل وعلا بعث المرسلين جميعا وأرسل الأنبياء لعبادة الله وحده لا شريك له، وخلق السموات والأرض وخلق الأفلاك وخلق كل شيء ولم يأذن بعبادة أحد سواه، ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾[مريم:93]، وقال جل وعلا ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾[الإسراء:44]، فمن نظر إلى دلائل توحيد الله جل وعلا في الآفاق وفي الأنفس تيقّن أن هذا الملكوت له مدبر واحد، وله خالق واحد، وله متصرف واحد، وهو الله جل جلاله ولا بد من ذلك، وهذه الضرورية التي لا يحتاج معها المرء إلى برهان مفصل؛ لأنه يُحِسُّها في نفسه ويحسها في ما حوله لا بد أن تقوده إلى أن هذا الذي خلق وحده، وأن هذا الذي تصرف في الملكوت وحده أنه هو الذي يجب أن يذل له وأن يخضع له وأن يعبد وحده دون ما سواه، ولهذا كان من براهين توحيد الإلهية توحيد الربوبية، فدلائل توحيد الله جل وعلا في ربوبيته في الآفاق كلُّ دليل منها يصلح أن يكون دليلا على استحقاق الله جل وعلا العبادة وحده لا شريك له؛ لأنه جل وعلا هو الواحد في خلقه في رَزقه وفي ربوبيته، فكذلك يجب أن يوحد في إلهيته سبحانه وأن يعبد ويفرد بالعبادة، لهذا قال جل وعلا ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ(172)أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾[الأعراف:172-173]، وقول المحققين من علمائنا في هذا الميثاق أنّه هو الفطرة هو دليل وحدانية الله جل وعلا في الأنفس وفي الآفاق، فكل مولود يولد على الفطرة، وهذه الفطرة هي توحيد الله جل وعلا، وهذا هو الميثاق الذي أُخذ عليهم، وهذا الميثاق ليس هو استخراج ذرية آدم من ظهره كما قاله طائفة؛ لأن هذا غلط في فهم الآية، وفيما نقل من تفاسير السلف أيضا بأن الله جل وعلا قال (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) فليست مسالة الميثاق الذي في هذه الآية والإشهاد عليهم هي الأخذ من هذا بل هي الأخذ من بني آدم (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ) والظهور ليست هي ظهر آدم بل ظهور ذرية آدم، (ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) وهذا الإشهاد هو بلسان الحال لا بلسان المقال كما هو قول المحققين من أهل العلم، وهذا الذي بهذه الآية غير ما ورد باستخراج ذرية آدم من ظهره كهيئة الذَّر كما جاء في بعض الأحاديث.
دلائل وحدانية الله جل وعلا قائمة في الآفاق وفي الأنفس، ودليل الربوبية قائم ظاهر بيّن، من نظر أدنى نظر وصل إليه، ولهذا لم يجعل الله جل وعلا النظر في توحيده في ربوبيته مطلوبا من أتباع الرسل، ولا أَمرت به الرسل بجعل دعوتهم في ذلك، وإنما أمر الله جل وعلا بتوحيده في عبادته، وبعث المرسلين جميعا لهذا الأمر العظيم.
لهذا نقول إنّ دليل وحدانية الله جل وعلا في الربوبية هذا ليس من منهج أهل السنة والجماعة الذي تبعوا فيه طريقة الأنبياء والمرسلين أنهم يفيضون فيه ولا جعلوه غاية، كما جعله طائفة من المعاصرين غاية في ذلك، والمتكلمون طريقتهم في هذا الباب أنّ التوحيد المطلوب هو توحيد الربوبية، ولهذا يجعلون أو واجب على العباد النظر أو القصد إلى النظر أو الشك كما هي أقوال عندهم، فإثبات توحيد الربوبية وأنّ الله جل وعلا هو الواحد في ربوبيته هذا هو التوحيد عندهم، وهذا ليس بالأمر عندنا، وبهذا أتباع الأنبياء والمرسلين الذين قَفَوا أثر السلف الصالح تجد عندهم من براهين توحيد الإلهية ما فيه التفصيل والتفصيل والكلام والمكرر فيه الذي يعيدون فيه ويبدؤون ويكررون لأجل تثبيته وإقامة الحِجاج والحجة عليهم، أما غيرهم فإنهم يتوسعون في أبواب توحيد الربوبية، ومَن عبد الله جل وعلا وحده لا شريك له فتضمن ذلك أنه مقر بربوبيته وحده دون ما سواه، بخلاف من وحد الله في ربوبيته فإنه قد يعبد معه آلهة أخرى، كما فعل أهل الجاهلية فإنهم موحدون في أكثر أفراد الربوبية ولكنهم مع ذلك مشركون ما قادهم توحيد الربوبية إلى توحيد الإلهية، قال جل وعلا ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾[لقمان:25]، وقال سبحانه ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ﴾ إلى أن قال في آخر آية سورة يونس ﴿فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ﴾[يونس:31]، والآيات في ذلك كثيرة.
المقصود من هذا أن الغاية بعد الأنبياء والمرسلين هو تحقيق توحيد العبادة وإقامة الحجة فيه وكشف الشبه عنه وإيضاح الدلائل فيه بتفصيل وإيضاح أفراده، ولا يخفى عليكم قول الربّ جل وعلا ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَن اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ﴾[النحل:36].
الدعوة إلى التوحيد هي ميراث الأنبياء والمرسلين؛ لكن هذه الدعوة من لم يعشها ولم يتوسع فيها لا يعرف كيف يدعو إلى التوحيد، بل قد يأتي من يظن أنه لا حاجة إلى ذلك، وعبودية الخلق لله جل وعلا التي هي غاية وجود الخلق إنما تكون بأن يُدْعَوا إلى الله جل وعلا بتوحيده وفهم ذلك والعلم به وتطبيقه، فإذا هديتَ الناس إلى أن يوحدوا الله في أقوالهم وأعمالهم وبما تعتقده قلوبهم انبعث ذلك الاعتقاد وذلك التوحيد عن عمل صالح وعن نفس مخبِتة منيبة لله جل وعلا، وهذه النفس هي التي تحوز فضل تكفير الذنوب «يا ابن آدم لو بلغتْ ذنوبك عنان السماء ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لقيتك بقرابها مغفرة»، «يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة، يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي» هذا لأهل التوحيد، والنفس المشركة أو المترددة أو التي في ريب في أمر التوحيد لا تحصل على فضائل الإسلام ولا على فضل الإسلام على أهله ولا على فضل التوحيد على أهله، ولهذا نعجب أنه مع اشتداد الحاجة إلى دعوة الناس إلى توحيد الله فإنّ من الناس من يقول لا حاجة إلى ذلك، وهذا من جرّاء عدم معرفتهم لعظم حق الله جل وعلا وكيف يعظم ربنا جل وعلا، وإنما تعظيمه بتحقيق التوحيد من حقق التوحيد فقد عظّم، ومن أضاع التوحيد فقد أضاع حق الله، ولو كان السجود في جبهته مؤثرا، ولو كان جلده على عظمه من الصيام مؤثرا، فلا قيمة لذلك؛ بل قد قال جل وعلا لنبيه ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ﴾[الزمر:65]، بهذا تعجب أشد العجب أن هناك أناسا كثيرين بلغوا في أمر العلم ما بلغوا، وبلغوا في أمر الدعوة ما بلغوا، وعندهم من الكلمات الشركية ومن عدم معرفة حق الله ومن الغلو المذموم ومن تعلق القلوب أو تعليق القلوب بغير الله ما رأيتموه وسمعتموه في كتب وفي غيرها، وهذا من اشتداد الفتنة التي ستبقى إلى أن تقوم الساعة.
الدعوة إلى التوحيد تكون على جهتين:
الأولى: مجملة.
والثانية: مفصلة.
أما المجملة: فهي ببيان معنى التوحيد وحق الله جل وعلا، وبيان أنه سبحانه هو المستحق للعبادة وإقامة الدلائل على توحيد الله جل وعلا، وعلى أن التوحيد أهم المهمات، وعلى أنه دعوة الأنبياء والمرسلين، وعلى أن ذلك فيه من الفضل من تكرير الذنوب ومحو السيئات ما فيه، إلى آخر ما في بيان التوحيد وفضله مجملا بلا تفصيل.
وهذا القدر وهو الدعوة إلى التوحيد مجملة دون تفصيل يشترك فيها كثيرون من الدعاة في هذا الزمن؛ لأن الدعوة إلى التوحيد مجملة يتفق عليها الجميع؛ لأن تفسير التوحيد يكون عند المتلقي وليس من جهة الملقي، وإذا أحيل الكلام على فهم المتلقي كان حمّال أوجه يمكن أن يفسر بحسب ما يتلقاه المتلقي، فطوائف المشركين إذا أمرتهم بتوحيد الله مجملا لم ينتقدوا عليك؛ يعني في هذا الزمن، لأن التوحيد عندهم هو توحيد الربوبية، وطوائف الغلاة في عبادة الأولياء والصالحين إذا أمرتهم بالتوحيد ولم تشخص المسألة التي هم فيها ما أنكروا عليك، فكثيرون دعوا إلى التوحيد في أماكن فيها قبور للصالحين وتعبد من دون الله ولم ينكر عليهم أحد ممن هم في حضرة تلك المشاهد التي شُيدت لعبادتها من دون الله أو مع الله جل وعلا لأنها مجملة.
وهذا القدر لا يميّز القائل بأنه من أهل التوحيد أو أنه من الدعاة إلى توحيد الله؛ لأن هذا فيه عموم وإجمال، والإجمال لا يصلح بقدر إصلاح التفصيل، لكن إن كان الإجمال خطوة في الطريق فإنّ هذا يكون مناسبا، لهذا قلنا الدعوة إلى التوحيد تكون بإجمال وتكون بتفصيل، فمن أجمل ثم فصل فكان إجماله خطوة لينقل بها الناس أو ليمهد بها لبيان حق الله جل وعلا، ولو كان التمهيد في أسبوع أو أسبوعين أو شهر، بحسب الحال التي في بلده، فإن هذا مناسب، لكن أن يقال دعا إلى التوحيد، وإنما دعوته بإجمال دون تفصيل هذه ليس من منهجنا ولا من منهج أئمة هذه الدعوة، ولا أئمة الإسلام المتقدمين في الدعوة إلى توحيد الله.
النوع الثاني الدعوة إلى التوحيد مفصّلا: والتوحيد هو إفراد الله بالعبادة، وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والتوحيد يكون بإفراد الله بأعمال القلوب وأعمال الجوارح.
وأعمال القلوب متنوعة منها المحبة والرغب والرهب والرجاء والخوف والتوكل والإنابة والخشوع إلى غير ذلك من أفراد أعمال القلوب وعبادات القلوب، فمن دعا إلى كل مسألة من هذه مفصلا فإنه دعا إلى مسألة من مسائل التوحيد بتفصيلها، فيتكلم عن الرّغب والرّهب، يتكلم عن التوكل، ويتكلم عن المحبة بعلم، فإذا تكلم على هذه بعلم وفصّل على كلام أهل العلم فيها فإنه دعا إلى نوع من أنواع التوحيد مفصلا، هذا من جهة أعمال القلوب، وأعظم أعمال القلوب الإخلاص، وأن يتوجه القلب إلى الله وحده وأن لا يكون في القلب من جهة القصد والتوجه إلا واحد وهو الله جل جلاله وتقدست أسماءه، فالدعوة إلى الإخلاص؛ إخلاص الدين وتوحيد القصد والتوجه وألاّ يكون في القلب إلا الله جل وعلا، إذا كانت من طالب علم يضبط الكلام فهذه دعوة مفصلة في توحيد الله جل وعلا، وهذا له تفاصيل.
أعمال الجوارح من جهة الصلاة والدعاء بأنواعه الاستغاثة والاستعاذة والنداء إلى آخره، وكذلك الذبح وما شابه ذلك، أخذ كل مسألة منها وبيان إفراد الله جل وعلا بهذه العبادة هذا من الدعوة إلى التوحيد مفصلا، تَأخذ الدعاء فتبين الدعاء ما هو ومعنى الدعاء والآيات التي فيه وإفراد الله جل وعلا بالدعاء إلى آخره، كذلك تأخذ الاستغاثة والآيات التي فيها وإفراد الله جل وعلا بها ووجوب ذلك وما جاء في هذا، وكذلك تأخذ بقية المسائل بالذبح والنذر إلى آخره.
كذلك ما يتعلق بإفراد النبي عليه الصلاة والسلام وإفراد شريعته بالحكم والتحاكم بين العالَمين هذا نوع من أنواع توحيد الله جل وعلا أو فرد من أفراد التوحيد، فالدعوة إليه مع غيره هي طريقة أئمتنا وعلمائنا، وبعض الناس يطرق من التوحيد هذه المسألة دون غيرها وهو ما يسمونه بتوحيد الحاكمية، أو الدعوة إلى تحكيم شريعة الإسلام وإبطال تحكيم القوانين، وما جاء في ذلك من النصوص وبيان كلام أهل العلم في ذلك، هذا لا شك أنه من التوحيد، ولكن ليس هو التوحيد فقط، بل توحيد الله جل وعلا -كما هو واضح مما سبق من الكلام- هو إفراد الله بالعبادة، إفراد الله بالعبادة، هذا هو التوحيد، وهذه من التوحيد لأنها تحقيق شهادة أن محمدا رسول الله، فأهل التوحيد يدعون إلى هذه جميعا، وأما غيرهم أو من كانت في قلبه شبهة، أو من كان عنده طريقة أخرى، فإنهم يدعون إلى التوحيد مجملا، وإذا أتى التفصيل فإنما يفصلون في مسألة الحاكمية، وهذا خلاف طريقة أهل التوحيد وأئمة هذه الدعوة، لهذا تجد في كتاب التوحيد كانت مسائل الحكم والتحاكم متأخرة في الكتاب، وكان قبلها ما يتعلق بالدعوة إلى التوحيد مجملا وفضل التوحيد، ثم بيان ضد ذلك ومسائله إلى آخره، فهي جزء من الكلام على التوحيد، فشمولية الدعوة إلى التوحيد تؤخذ من كتاب التوحيد؛ لأن فيه بيان التوحيد مجملا ومفصلا، ولأن فيه بيان ضده مجملا ومفصلا.
يُضاد التوحيد الشرك، والشرك كما هو معلوم أكبر وأصغر، والدعوة إلى التوحيد لا بد وأن يكون معها نهي عن الشرك؛ لأن الدعوة إلى التوحيد هي دعوة إلى لا إله إلا الله، ولا إله إلا الله كُفِرٌ بالطاغوت وإيمان بالله، فلا بد من النهي من الشرك، فأهل التوحيد عندهم دعوة إلى التوحيد مجملا ومفصلا، وعندهم أيضا نهي عن الشرك مجملا ومفصلا.
والإجمال ببيان شناعة الشرك وأنه أعظم ما عصي الله به وحكم المشرك وصورة الشرك ونحو ذلك مما فيه بيان الشرك بإجمال دون ذكر الصور؛ صور الشركيات الموجودة، هذا قد تجده -كما ذكرنا في التوحيد مجملا- قد تجده عند كثيرين إذا تكلم ونهى عن الشرك كان نهيه مجملا ولا تجد أنه يفصل قبل الكلام ولا بعده، وإنما يحب الدعوة إلى التوحيد أو يدعو إلى التوحيد بإجمال وينهى عن الشرك بإجمال، وهذا لا يفيد الفائدة المرجوة؛ لأن النهي عن الشرك بالإجمال يفسره المتلقي بحسب فهمه، ولكن إذا فصّلتَ وحددتَ فإنه يكون مستوعبا للمراد من الكلام، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله:
عليك بالتفصيل والتبيين فَالْـ إطلاقُ والإجمالُ دون بيانِ
قد أفسدا هذا الوجود........ ......................... ([1])
أو كما قال.
الإجمال موجود في الكتاب والسنة ولكنه إجمال وثَمّ تفصيل له، فمن اقتصر على الإجمال دون التفصيل فهو على غير السبيل، فالنهي عن الشرك مجملا عرفته.
ومفصلا بأن يذكر الشرك الأكبر الأصغر والأصغر منه الخفي ومنه ما هو ظاهر شرك الرياء أو الأعمال الظاهرة مثل التمائم ولبس الحلقة والخيط الحلف بغير الله ونحو ذلك، الشرك الأكبر أنواعه معروفة مشهورة عندكم فيفصل الداعية كل واحدة، فيأتي إلى دعاء غير الله ويبين أنه من الشرك ويفصل ويقيم الدلائل في ذلك بتفصيلها، ثم يذكر صور دعاء غير الله، كذلك الخوف من غير الله يذكر صور هذا الخوف من غير الله والصورة التي شرك أكبر بالله جل وعلا، يأتي إلى الشرك الأصغر ويعرضه بتفصيل، التمائم يكون الكلام عليها يحتاج إلى جلسة أوجلستين أو خطبة جمعة أو خطبتين أو ثلاثة؛ لأن صور التمائم كثيرة قد تقول للناس إن التمائم شرك، وتأتي في الحديث في ذلك ولكن لا تبين للناس صورة التمائم، فهذا يقع فيه كثيرون ممن ينهون مجملا عن الصورة ولا يفصلون الكلام عليها، الناس لا يتصورن المراد بالتمائم إما بالصور التي كانت في الجاهلية القديمة، لكن الصور الحاضرة اليوم التي تجدها في الشوارع وفي كثير من البيوت لا يتصور أنها من الشرك الأصغر، وهم ربما عملوها ونظروا إليها واستأنسوا لها، فلا بد أن يكون ثَم تشخيص للصورة الشركية، وإعطاء الصور الكثيرة بإعطاء تأصيل لهذه المسألة الشركية، هذه هي الدعوة إلى التوحيد والنهي عن الشرك مفصلة.
تأخذ الشرك شرك الرياء أيضا تفصل الكلام فيه تأخذ الذبح لغير الله وتفصيل الكلام فيه، النذر لغير الله وتفصيل الكلام فيه تأخذ شرك الألفاظ بنسبة النعم لغير الله جل وعلا وتفصل الكلام فيه، تأخذ الحكم بغير ما أنزل الله وتفصل الكلام فيه وأنّه ليس به حالة واحدة بل له أحوال وأحكام مختلفة ونحو ذلك، بحسب ما قرره أهل العلم.
إذن الدعوة سارت هكذا، وهكذا كانت دعوة الأنبياء ودعوة المرسلين، والشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من نظر في دعوته وجد أنه سار هذا المسير، وهكذا الأئمة من بعده رحمهم الله تعالى وجزاهم عنّا وعن المسلمين خيرا.
لاشك أن الداعية بتفصيل في التوحيد ستَرِدُ عليه شبه، وأما الداعية بإجمال فلن تطرح عليه الشبه، ولهذا تكثر الشبه إذا ازداد التفصيل، فشبه المشبعين في توحيد الله تزداد بازدياد التفصيل في مسائل التوحيد، فإذا شخصت له أن دعاء غير الله شرك ابتدأك بالاستشكالات، إذا شخصتَ له أن دعاء النبي ﷺ شرك أتى بالشبه إذا قلت له أن دعاء الصالحين شرك أتى بالشبه، إذا قلت إن الذبح لغير الله جل وعلا شرك أكبر أتى بشبه، من الدعاة المنتسبين إلى الإسلاميين وإلى الدعوات الموجودة من يقول في بعض هذه الصور أنها شرك ولكن يجعلها شرك أصغر، وهذه أيضا شبهة عظيمة راجت على كثيرين من أتباع الجماعات الإسلامية في غير هذه البلاد؛ يجعلون الذبح لغير الله شرك لكن يقولون شرك أصغر لا يُخرج من الملة، النذر لغير الله شرك ولكن شرك أصغر، وهكذا في مسائل كثيرة، متى يكون عندهم شرك أكبر؟ يأتي لك بالشبه التي تطعن فيما قررت من توحيد الله جل وعلا النهي عن الشرك مجملا ومفصلا في النوعين، فبقدر فهمك للتوحيد ونهيك عن الشرك مجملا ومفصلا تَرِدُ الشبهات، والشيخ رحمه الله الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله لما دعا بدعوته مجملة ومفصلة جاءته الرسائل والكتب وكُتبت الأوراق ونُشرت المناشير في زمنه في تضليله وإيراد الشبه على أقواله، ولأجل تلك الشبه التي كانت رائجة في عصره في وقتٍ ما صنّف رسالة كشف الشبهات التي نحن بين يدي شرحها.
والشبهات ليست مقتصرة على ما أورده الشيخ، بل تجد أن الشبهات في التوحيد، كلما ذهبت إلى بلد وجدت عند علماء الشرك والضلال من الشبهات ما ليس عند غيرهم، والشبهة ترد على القلوب وقد تؤثر فيها ولو بالتردد، ولو أن تجعل من سمعها مترددا في داخله، وهذه مصيبة أنْ تأتي الشبهة ولن يقتنع بها ولكن في داخله يكون مترددا، وهذا تجده عند كثيرين وحتى في المنتسبين للعلم في الجامعات أو ممن درسوا دراسات عصرية في هذا العصر حتى في هذه البلاد من أهل الفطرة، تجد عندهم عدم قناعة بالشرك ولا بالدعوة إليه وعندهم قناعة بضده وبالتوحيد، ولكن في القلب تردد بعض التردد من أن ما يصنع عند قبور الأولياء والصالحين أنه شرك وكفر بالله جل وعلا، ويعظم التردد إذا قلت لهم ما قاله الإمام رحمه الله في رسالة كشف الشبهات هذه: إنّ شرك المعاصرين -في زمن الشيخ وفي هذا الزمن من جهة المتعلقين بالأولياء والأموات ونحو ذلك- أعظم من شرك أهل الجاهلية. يعظم التردد ويعظم لأجل ورود الشبهات، ومن الشبهات كيف يقال ذلك وهؤلاء مسلمون يصلون ويزكون يحجون، وقد ترى على بعضهم أثر السجود وأثر الطاعة والزّهادة والبكاء من خشية الله جل وعلا، فتعظم الشبهة، ويبقى من لم يكن متحصنا بالتوحيد دائم التَّكرار له في تردد في هذه الأصل العظيم.
أنتم ولله الحمد في هذه البلاد قد ما تلاحظون أو قد ما تحتاجون إلى كثرة ردّ الشبهات، لكن من كان في غير هذه البلاد يجد الصدام عنيفا، يجد أنّ المواجهة إنما هي مع هؤلاء، فالمواجهة مع أهل الشرك والضلال، من سافر منكم إما أن يكون سافر للدعوة فسينظر وسيحاجّ وسيدعو بإجمال وتفصيل فسترِدُه الأقوال والأعمال والغرائب، إذا لم يتحصن فربما زل الزلة التي بعدها سيكون في أعظم خسارة، ولهذا الشيخ رحمه الله كتب كشف الشبهات هل كتبها للمشركين؟ لا، كشف الشبهات عن المسلمين، صنّفها للمسلم للموحد، لهذا كانت مختصرة كما سترى، الموحد يحتاج إلى أن يكون مكشوف الشبهة؛ يعني أن لا تبقى الشبهة معه، لا شك أن منهج الصحيح ألا تورد الشبهات لأن بعض الناس قد لا يكون عنده في قلبه شبهة أصلا، فإذا وردت الشبهة وبعدها الرد قد تعلق الشبهة ولا يفهم الرد خاصة أن الشبهات هذه التي يوردها خصوم التوحيد تجد أنها عاطفية، ورد الشبهة علمي ومن القواعد المقررة في الدعوة في معرفة نفسيات الناس أن إثارة الناس والتأثير عليهم بالعاطفة يقوى، وبالعلم لا يكون إلا لمن يكون متأهلا للفهم والإدراك، مخاطبة العقل، مخاطبة القلب بالبراهين هذه ما يفهمها إلا الخاصة، أما العاطفة الهياجة والأخذ بالعواطف وبالمد وبالجزر وبتحريك النفوس دون البرهان، هذا يقلب النفوس ويؤثر على النفس أعظم، ولهذا ليس من المنهج الصحيح أن يستفاض في ذكر الشبهات ويرد عليها؛ لأن الشبهات قد تعلق في القلوب، لأن كثيرا من الشبهات مبناها على العاطفة، كقول من يقول هؤلاء الذين تحكمون عليهم بالشرك مصلون مزكون يعبدون الله وحده وما دعوا استقلالا هذه الأموات، وعندهم خشية وتلاوة للقرآن، هذا يحتم كل ثلاث، وهذا يصوم يوم ويفطر يوم، وهذا كثير الصدقة، وهذا كثير العمل، وهذا مجاهد وهذا فعل للإسلام ما فعل إلى آخر الكلمات التي تحرك بها العواطف، البرهان لا يفهمه إلا من كن عقله مستعدا لقبول البرهان، وكما هو القانون العام أن البراهين لا تصلح إلا لذوي العقول، أما العواطف فتصلح للجمهور.
هذا واضح، لكن من الأمثلة التي قد يمثل بها أن خطبة خطيب ما يخطب في موضوع وعظي مثلا يتكلم فيه بكلام ليس بذي أدلة في الشرع، بكلام فيه مشاهدات أو بكلام عام وخوّف وروّع والكلام نصفه أو أكثر من نصفه غلط في الشرع، كم الذين سيتأثرون بهذا الوعظ الذي حرك العواطف وهذا الخطيب واعظ جيد يحرك النفوس؟ كم الذين سيتأثرون؟ الأكثرون سيتأثرون، والقلة سيقولون هذا خلاف العلم هذا غلط فلان غلط والشرع والوعظ، لا بد أن يرتبط بالشرع، وهكذا، ولكن هؤلاء سيتأثرون لم؟ لأن أكثر الناس جهال، حتى الشباب ليس كل الشباب في مستوى واحد من العلم وإدراكات العلوم، فقد يقنعون بمسائل العلم خلافها، وخاصة في مسائل التوحيد، وهذا الكلام ليس مخاطبا به أهل هذه البلاد وإنما نرجوا أن ينتشر الكلام فيها وفي غيرها، ولهذا أعظم ما يعتني به طالب العلم والشاب الذي رغب فيما عند الله جل وعلا وتوجّه إلى الله وحده وتجافى عن دار الغرور وضحى بما يشتهيه ويلتذ له بما عند الله جل وعلا يتوجه إليه بأن يكون همه في دراسة هذا الأمر العظيم همًّا عظيما، ولن يدرك إلا إذا أكمل، في البدايات لن يدرك، لكن إذا أكمل عرف أنه على خطأ، إلا لما يتابع ويتابع ويتابع.
أحد مشايخنا الذين قرأت عليهم في التوحيد مرة قال له أحد طلاب العلم وهو بجنبه وكان يريد أن نقرأ كما هي العادة رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأئمة الدعوة قُرئت مرة وكررت فقال: هذه سمعناها وكررناها. فمن غضبه وكزه وكزة، يعني فيها مباشرة الحرارة ظهرت في وجهه، وكز هذا وهذا طالب علم أيضا وكان بجنبه وأنا كنت أمامهم، وهذا ما يستقيم مع كل نفس؛ لكن مع النفس التي عرفت عِظم حق الله جل وعلا في هذا الأمر العظيم؛ لأنه إذا ما كُرر نسي لهذا في هذا الكتاب كشف الشبهات في أواخره قول الشيخ رحمه الله بعد أن قرر مسائل، قال: وبمعرفة هذا -يعني ما تقدم ذلك الكلام- تعلم أن قولهم التوحيد فهمناه من أكبر مكايد الشيطان. وهذا لاشك أنه حاصِل حاصل، وتأمل قول الله جل وعلا مخبرا عن دعاء إبراهيم ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾[إبراهيم:35]، قال العلماء خاف على نفسه وهو إبراهيم خليل الله خاف على نفسه عبادة الأصنام وخالف على بنيه، قال إبراهيم التيمي في تفسيرها: ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم. إذا كنت لا تأمن البلاء فلا بد أن تضع حماية قوية وسور منيع أن يتطرّق إليك ذلك، بعضهم يقول يعني يمكن -أعوذ بالله- أن نعبد الأوثان أو الأصنام؟ نقول ربما لم يكن ممكنا بفضل الله وبنعمته في جيلك، ولكن تساهلك عشرين في مائة (20%) بعد زمن يتساهلون عشرين، ثم تصل إلى مرحلة لا تتواصى فيها الأجيال على الحفاظ على التوحيد.
وخُذ مثلا من الأمثلة فيما شاهدت بنفسي وذكرته لبعض الإخوان مرة أنه في مكان قريب من الدار التي أسكنها، مرة بعد صلاة الظهر إذا بأحد البيوت التي بنيت حديثا واحد بل اثنين من الباكستانيين يذبحون عند عتبة الباب خروف والدم يسيل بشدة على العتبة، أنا أسمع بهذه الصورة هذه في كلام أهل العلم، لكن رؤيتها واقعا ما رأيتها إلا في الرياض في حي المحمدية، والذي حصلت له من حيث السلسلة هو من أهل نجد، من أين جاءت هذه؟ هو من التساهل؛ التوحيد فهمناه، فينشأ أجيال ما يعرفونه ولا تغرس في قلوبهم حرارة التوحيد، فيدخل الداخل بهذه الأمور.
من جهة أخرى، من جهة ما يوجب الخوف أنه لا يكون من الحاضرين من يتوجه إلى غير الله والعياذ بالله يعني من هذا الزمن في هذا البلاد، ولكن بعد زمن يمكن أن يكون ذلك لأن الله جل وعلا ما أعطى أهل هذه البلاد ولا غيرهم عصمة، أهل الجزيرة في عهد النبي عليه الصلاة والسلام أسلموا ثم حصل من بعضهم ردة، لكن قد يكون شيء وهو المصيبة -وفتّش نفسكَ- وهو التردد في قَبول ما قاله العلماء في مسائل التوحيد، وهذا يعرض على كثير من القلوب يتردد، والله مشددين، بدأ النقص، والله المسألة فيها نص العلماء هذا فيه شدة، هنا بدأ النقص الفعلي، وإذا تردد القلب ولم يكن على علم ويقين بحق الله جل وعلا بالتوحيد وبالحكم على المشرك بأنه مشرك وهذه الصورة الشركية أنها شرك، فبداية التردد هذه يكون معه القلب في ريب، يكون يتعبد ويتعبد لكن القلب ليس بسليم، فيه تردد في هذا الأمر العظيم، وهذا دخل على قلوب كثيرين وحرك ترى.
نخلص من هذا إلى أن هذه الرسالة كشف الشبهات فيها أصول؛ أصول الشبهات التي كانت رائجة في ذالك العصر في زمن من دعوة الشيخ رحمه الله([2])... التوسع في فهم حال أهل الجاهلية الذين بُعث النبي عليه الصلاة والسلام فيهم، كيف كان شركهم؟ وما كانت أحوالهم في العبادة وفي الديانة؟ ما أصنامهم؟ ما هي أوثانهم؟ عبدوا الملائكة، كيف عبدوها؟ عبدوا الجن كيف عبدوها؟ ﴿بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ﴾[سبإ:41] في آية سبأ، كيف كانت عبادة الجن؟
لابد لمن أراد أن يكون قويا في رد الشبهات أن يتوسع أولا في معرفة حال العرب في الجاهلية بعبداتهم المختلفة، ما هي آلهتهم ؟ ما هي اعتقاداتهم؟ إلى آخره، وهذه يخدمك فيها طائفة من الكتب:
منها كتاب بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب للأديب الموحد محمود شكري الألوسي، بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب.
منها أي من المراجع في هذا الباب الكتب التي كتبت عن تاريخ العرب قبل الإسلام، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، كتاب تاريخ العرب قبل الإسلام، كتب أديان العرب فيمن بحثوا أديان العرب، إلى آخره.
فالتوسع فيما كان قبل مجيء محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام بهذا النور وهذا الهدى يُفهمك الحالة الدينية التي كانوا فيها، ما هو الشرك الذي كانوا يمارسونه؟ لأنك إذا عرفت الحال عرفت معنى الآيات، عرفت معنى أقوال النبي عليه الصلاة والسلام، عرفت معنى دعوته، وتهتم بأشعار العرب فيما ورد في ذلك؛ لأن كثيرا من الصور جاءت في الشعر، الشعر العربي.
النوع الثاني من المراجع: كتب التفسير عند الآيات التي فيها ذكر الشرك أو الأمر بالتوحيد أو ذكر أهل الجاهلية من الأميين أو الكتابيين، الآية تنظر ما قاله السلف فيها؛ لأن المتأخرين من المفسرين صرفوا الآيات عن تفاسير السلف؛ لأن المتأخرين عندهم أن التوحيد وعبادة غير الله هو باعتقاد أنّ الخالق هو غير الله، وأما تفاسير السلف تجد أنها بخلاف ذلك.
الأصنام والأوثان ما هي؟ المتأخرون يفسرونها بتفسير، والمتقدمون –السلف- يفسرونها بتفسير آخر، ولهذا ترى الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله توسع في فهم تفاسير السلف، فهو في التفسير في آيات التوحيد حجة، فقد توسع توسعا يعلمه من طالع كتاباته في التفسير -هي موجودة ضمن المجموع- ويجعلها الشيخ رحمه الله على شكل مسائل وفوائد.
النوع الثالث من الكتب: كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وشيخ الإسلام في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم في أواخره، وفي أواخر التدمرية وفي التوسل والوسيلة، وفي الاستغاثة الكبرى المعروفة بالرد على البكري، وفي الرد على الإخنائي، هذه الكتب أصّل فيها شيخ الإسلام مسائل توحيد العبادة، وحال المشركين الذين بُعث إليهم رسول الله ﷺ.
النوع الرابع: مصنفات الإمام الجليل محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ومصنفات أبنائه وتلامذته ومن سلك سبيلهم.
النوع الخامس: فتاوى علمائنا المعاصرين؛ سماحة الشيخ عبد العزيز وبقية العلماء حفظهم الله.
بهذا التسلسل يكون عندك وضوح في رد الشبهات، أما إذا عكست، وكنت تعرف التوحيد ولكن لا يكون عندك ملكة في رد الشبهات.
فهذه الكتب التي ذكرنا منها كتب مخصصة في رد الشبهات، وهي كتب الردود منها عند شيخ الإسلام الرد على البكري وهو كتاب عظيم في هذا الباب، ومنها في كتب أئمة الدعوة الرد على عثمان بن منصور للشيخ عبد الرحمن والشيخ عبد اللطيف، وكذلك كشف الشبهات، وكفر تارك التوحيد مفيد والمستفيد للشيخ وغير هذه من الكتب التي فيها ردود ولغير علماء هذه البلاد أيضا.
فكتب الردود تلخص عندك الشبهات وتلخص الرد، وقد كلفت بعض الإخوة أو اقترحت عليه بالأصح أن يكون عنده جمع لنفسه للشبهات التي يحتج بها الخصوم، حتى يكون هناك مؤلف في الشبهة وفي ردها بنشرها عند إخواننا الذين يدعون إلى توحيد الله في الأمصار جميعا، ولكن كثرت، وبعضها فيه طول في ردها، فصار من جراء الجمع شُبه كبيرة قد ما تكون خطرت في بعض البلاد فأرجئ الموضوع بعض الشيء، لأن بعض الشبهات في بلد قد ما تكون في بلد أخرى، قد يِجِي واحد يأخذ الشبهة ويرد عليها في بلد الثاني فتكون شبهة جديدة لا يعرفها أهل تلك البلاد.
فإذن يهمنا في هذا الأمر وكشف الشبهات أن تتوسع -إذا أردت يعني هذا باعطيك إياه إن شاء الله تعالى في الشرح- لكن تتوسع في فهم حال العرب قبل الإسلام فإنها من أنفع الأشياء ولهذا من الأغلاط العظيمة التي يندد بها أئمة الدعوة قول من يقول إن هذه الآيات التي تذكرون وهذه الأحكام إنما هي في المشركين وليست في هؤلاء، ويُردّ عليهم بما قاله العلماء بأن الحال هي الحال «لتتبعن سنن من كان قبلكم»، «قلتم والذي نفسي بيده كما قال أصحاب موسى لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة»، فما أشبه الليلة بالبارحة، هذا يتوارد لأن الأفكار محدودة، شبهات الشيطان ليست لا حد لها محدودة، فيتوارثها الناس جيل بعد جيل.
نختم هذه المقدمة ببيان أن هذه الرسالة ثَمّ تردد في شرحها عندي، وذلك لأجل أن مستوى الحضور متفاوت وتفاوت هذا يُحرج الملقي؛ المتكلم، من جهة أن مستوى الكلام قد يفهمه البعض وقد لا يفهمه بعضٌ آخر، وإذا لم يفهم رد الشبهة، قد تبقى الشبهة عنده بلا رد وهذا فيه حرج، لكن نوصي الجميع بأن يدرسوا كتاب التوحيد دراسة مفصلة حتى يستفيدوا من هذه الرسالة، ومن لم يدرس كتاب التوحيد دراسة مفصلة بدقة فقد يكون ورود بعض الشبهات وورود الرد عليها يكون عنده غير واضح، وهذا لا نريده؛ لأننا نسير في منهجية في طلب العلم.
والأصل أن كشف الشبهات يكون بعد كتاب التوحيد، ولما كان حضور كثيرين منكم الأكثر معنا في كتاب التوحيد سواء الشرح الكامل الذي تم في الدورة وربما حضروه أو سمعوه، وكذلك الشرح الذي في فتح المجيد ونحن الآن في أواخره، هؤلاء يمكن أن ينتقلوا إلى هذه الرسالة، وغيرهم من رغب في الحضور فلا بأس؛ لكن إن أحس أن الشبهة تبقى، والرد غير مستوعب، فيؤمر بأن لا يحضر ولو كان درس توحيد؛ لأنه يحصل عنده إشكالات والردود سترون أنها ستكون مفصلة، إلا إذا أخذنا بشيء -هذا نستشيركم فيه- وهو أن يُكتفى بتوضيح مراد الشيخ؛ لأن الشيخ رحمه الله ردّ بردود تناسب المتوسطين فإذا اقتصرنا على إيضاح ما ذكره الشيخ رحمه الله فهذا يقصر مدة شرح الكتاب ويسهل الفهم، ولكن لا يكون الانتفاع به عامًّا في غير هذه البلاد؛ لأن من الشبهات ما يحتاج إلى تفصيل وإلى تقعيد وإلى إحياء روح ردّ الشبه في نفوس إخواننا.
نجيب على بعض الأسئلة إذا عندكم اقتراحات فيما ذكرت في أي الطريقتين ممكن نسمعها.
1/ يقول أرجو ألا يطول هذا الدرس في هذا الكتاب المختصر عن عام يعني سنة.
طيب.
2/ لم أستطع أن أخرج من كلامك بتعريف الدعوة إلى التوحيد المفصلة أي التعريف الجامع المانع.
تسمعون كلمة التعريف لابد أن يكون جامعا مانعا تُريدونها في كل شيء، ما يصلح هذا، الدعوة إلى التوحيد المفصل تأخذ كل مسألة من مسائل التوحيد، التوحيد المتعلق بالقلب بالاعتقاد، يتعلق باللسان، يتعلق بالجوارح، يتعلق بالمجتمع، تأخذ كل مسألة منه وتفصل الكلام عليها، هذا المقصود مثل ما مثلت لك، تتكلم على التوكل، الخوف من الله جل وعلا، المحبة، الرجاء، الرغب، الرهب، ونحو ذلك من عبادات القلوب، الإخلاص، هذا من جهة أعمال القلوب، وأعمال الجوارح كذلك.
3/ هذا سؤال جيد يقول: هل تقسيم الدعوة إلى التوحيد تقسيم لكَ أم هناك من سبقكَ؟
وهو التقسيم ليس حكما، التقسيم للإفهام، فالتقسيم الذي هو حُكم هذا يحتاج أن يكون هناك من يسبق المرء؛ لأنّ الأحكام لا تكون مستأنفة، لا تقلْ في مسألة ليس لك فيها إمام، أما التقسيم الذي هو للإيضاح فإنّ هذا وظيفة المعلم، والقرآن فيه هذا وهذا ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ﴾[البقرة:256]، هذا إجمال فيه تفصيله في آيات أخر، النبي عليه الصلاة والسلام أجمل وفصل، دعوة العلماء، دعوة الشيخ محمد إجمال وتفصيل، كتاب التوحيد إجمال وتفصيل في النوعين جميعا، فالتقسيم هذا من جهة الاستقراء وهو تقسيم للإفهام لا للحكم.
4/ هل بيان الشبهات للعامة والرد عليها أسلوب من أساليب حفظ التوحيد وصيانته؟
لا، -مثل ما ذكرت لكم- الشبهة لا تورد، الشبهة بلاء، وردها بلاء، فأنت ما تأتي بالبلاء وترده، واحد يجيب المرض ويقول بعالجه، ما يصلح، فالشبه لا توردها، وليست هي من المجالات التي يتعالم فيها بعض الناس، الشبهة هذه إيش ترد عليها كيف؟ بعض الناس يورد شبهة هو ما فيه حاجة للكلام أصلا، إلا إذا احتيج إليها عند أهل العلم وعند طلاب العلم، وأصل كتاب كشف الشبهات كان يمكن أن يمر إمرارا سريعا؛ يسمع سماعا مع تعليقات وجيزة، لكن كثير في الناس اليوم وطائفة من الشباب من عنده شبهات في التوحيد، عنده شبهات في الشرك، عنده شبهات في تكفير المشركين، فلا بد من إيضاح المقام.
5/ نقترح أن يكون ثَم شرحان شرح موجز وشرح مفصل.
6/ نعم من أراد أن يحفظ ويسمع يبلغني هو يكون في الأمام ونخليه إن شاء الله يسمع الكتاب.
7/ هل هناك مفهوم قاصر للتوحيد لأني سمعت أحد الإخوة في كلمة له يقول لا نفهم التوحيد بالمفهوم القاصر؟
لا أدري أُوش مراده بالكلمة، لكن أنا مثلا سمعت مرة في مسجد الرياض صليت العشاء في مكان، كان أحد الإخوة يتكلم يشرح نواقض الإسلام، بدأ في أولها وعرض للتوحيد في كلمتين؛ يعني الشرك بالله يعني عبادة غير الله، ثم ربع ساعة وهو يتكلم عن تحكيم القوانين وغيرها، ما أدري يعني إيش مناسبة هذا. هل هذا المنهج صحيح؟
أولا الجواب أنه غير صحيح لأن تحكيم القوانين مثلا في هذه البلاد الناس ما عندهم محاكم وضعية قانونية يتوجهون إليها في خصوماتهم حتى تقول لهم انتبه لا تذهب إلى هذه المحاكم، إنما يجب أن تُقِرَّ في قلوبهم الاعتقاد بوجوب تحكيم شرع الله وأن تحكيم غير شرع الله جل وعلا كفر بالله جل وعلا بشروطه، لكن هم بحاجة إلى أنواع من التوحيد مفصلة أخر؛ التوكل الآن أصابه ما أصابه، المحبة؛ محبة الله جل وعلا، والرغب فيما عنده، الإخلاص، المتابعة، هذه مسائل التوحيد التي الآن بحاجة إليها، أنواع الشرك تروح حتى طلبة العلم تجد عندهم من شرك الألفاظ ما يستغرب تجد نسبة النعم لغير الله، فلان ما شاء الله فلان هذا لو لا فلان كان رُحنا، إيش هذا؟ هذا كلام أهل التوحيد لولا فلان رحنا؟ وأين الله جل وعلا؟ أين فضل الله؟ ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا﴾[النحل:83]، فلان فعل وفعل وفعل، هذا فلان لو راح لكذا لحصل كذا وكذا، مثل هذه الكلمات، صار فيه الآن خلل الناس بحاجة إلى تبيين التوحيد المفصل وإيضاحه والاستدلال عليه، الشمولية مطلوبة، وكل يُعطى ما يناسبه، فكونه يتكلم على بعض مسائل التوحيد في دقيقة، ويجعل ربع ساعة في الكلام على مسائل أخرى، هذا يُفهم منه أن المقصود ليس هو إفهام الناس التوحيد بشموله وإنما التركيز على نقطة منه وهذا قصور.
8/ التدرج في كتب العقيدة إلى آخره.
يطلب من المقدمة لأحد الدروس سجلت بعنوان المنهجية في طلب العلم.
9/ كم مقدار الحفظ؟
هذا بحسب المقطع، تأخذ مقطع متكامل، ما أدري بحسب الوقت، مقطع متكامل وتشوف مناسبته تكون درس، قد نزيد عنه وقد ننقص.
10/ نودّ فرق بين الإشكال والشبهة.
الإشكال شيء يرد على فهم الكلام، لكن الشبهة شيء يرد يصرف الحكم إلى غيره، الشبهة ترد تقول الحكم ليس كذا بل كذا، أما الإشكال مع بقاء الأصل تقول أنا مقتنع بكذا وكذا لكن إشكال يراد أن يجاب عنه، فالإشكال من الموافق والشبهة من غير الموافق.
11/ هل الكتيبات التي أمامكم للتوزيع؟
نعم الذي يأتي يأخذ كشف الشبهات بعد أن ننتهي من الدرس يأخذه.
12/ هل سيعاد شرح كتاب التوحيد؟
الله أعلم.
13/ هل يكفي كقاعدة لهذا الدرس حفظ الأصول الثلاثة وشرحها؟
لا، الأصول الثلاثة سهلة، أذكر الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله ذكرتُ له مرة كان يتكلم في كشف الشبهات وأسأله عن بعض الأشياء قال: كشف الشبهات هي رسالة صغيرة لكن هي أصعب كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب. هذا صحيح ولذلك هي النهاية.
14/ -ما شاء الله- يقترح أن يكون الدرس بعد أذان العشاء بساعة شتاء وصيفا، لكي يستفيد الذي يأتي من بُعد.
ودّي الفائدة للجميع لكن يكون فيه مشقة على آخرين، الصيف مثلا ننتهي من الصلاة التسع نبدأ العشر نخلص الحادي عشر وربع.
14/ يقترحون أن يكون مقتصر على ما أورد الشيخ.
هذا ممكن إذا كنا اقتصرنا على ما أورد الشيخ ممكن أن يكون ثلاثة أشهر، فنحتاج تقريبا إلى اثنتا عشر ساعة؛ اثنتا عشرة درس.
15/ هذا بالعكس يطلب الإسهاب.
16/ وهذا يقول لا المختصر المخل ولا الطويل الممل.
17/ أيضا هذا يقول نريد فترة من الزمن حتى يتمكن من يحضر من بُعد.
18/ شرح مبسط ثم بعد المظان اشرح شرح مطول.
طيب
19/ يقترح أن يغير الكتاب إلى كتاب التوحيد.
20/ بعض المناهج الدراسية الجامعية تذكر الشبهات في علوم القرآن أو غيرها.
هذا صحيح نعم لأنكم طلاب علم تحتاجون إلى...
21/ نقترح أن يكون درس الخميس بعد الساعة التاسعة حتى نتمكن من حضور درس سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز بعد الفجر.
نشوف إن شاء الله.
نكتفي بهذا القدر، وأسأل الله جل وعلا أن يلهمنا الرشد والسداد وأن يجزيكم خيرا وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
[كشف الشبهات عن التوحيد]
[المتن]
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم رحمك الله أنّ التوحيد هو إفراد الله سبحانه بالعبادة، وهو دين الرسل، الذين أرسلهم الله به إلى عباده، فأولهم نوح عليه السلام أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين: ودّ، وسواع ويغوث ويعوق ونَسرٍ، وآخر الرسل محمد ﷺ وهو الذي كسر صور هؤلاء الصالحين أرسله الله إلى أناس يتعبدون ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله يقولون نريد منهم التقرب إلى الله، ونريد شفاعتهم عنده مثل الملائكة وعيسى ومريم وأناس غيرهم من الصالحين.
[ الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي بعث محمدا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما مزيدا.
أما بعد:
فهذا شروع منا في هذه الرسالة؛ في شرح هذه الرسالة العظيمة كشف الشبهات للإمام المصلح المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة، ونستعين الله جل جلاله وتقدست أسماؤه ونسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أنْ يعلمنا منها علما نافعا وأن يقينا في فهمها الزلل والخطل وأن يجعل أفهامنا صائبة وقلوبنا ذات بصيرة.
هذه الرسالة سُميت كشف الشبهات، وقد ذكر طائفة من العلماء منهم ابن غنام في تاريخ نجد أنه أرسلها للناس في القرى لأجل أن يكشف بعض الشبه التي شبّه بها على التوحيد أعداء دعوة الإمام رحمه الله، فهي مصنّفة لأهل التوحيد الذين نُشرت فيهم بعض الشبه، نَشر تلك الشبه بعض العلماء الذين ورثوا علوم المشركين وحبذوا الشرك بالله وأيدوه ودعوا الناس إليه ودافعوا عنه نعوذ بالله من الضلال.
اسم هذه الرسالة كشف الشبهات
والكشف هو حسر الشيء عن الشيء، كشف الرأس يعني حسره؛ حسر ما عليه حتى ظهر، وكشف البأس إذا أزاله وهذه المادة في القرآن كثيرة (فلما كشفنا عنهم السوء)([3]) كما قال جل وعلا في الآية الأخرى ﴿وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ﴾[النمل:62]، ﴿لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ﴾[النجم:58] ونحو ذلك، فالكشف بمعنى الإزالة.
والشبهات جمع شبهة، وهي المسألة التي جُعلت شبها بالحق؛ لأن الحق عليه دليل بيّن واضح، والشبهة سميت شبهة لأنها مسألة من مسائل العلم أورد عليها أصحابها بعض الأدلة التي يظنونها علما، فالشبهة عبارة عن تشبيه الباطل بالحق، فإذا شبّه الباطل بالحق من جهة أن الباطل له دليل وله برهان صارت هذه المسألة -إذا عُورض بها الحق- صارت شبهة، والشبهة والمُشَبَّهة هي المسائل المعضلة أو المشكلة التي تلتبس على الناس كما جاء في بعض ألفاظ حديث النعمان بن بشير المشهور قال «الْحَلاَلَ بَيِّنٌ، والْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشَبَّهات» أو «مُشْتَبِهَاتٌ» سميت مشبَّهة ومشتبهة لأنّ الأمر فيها يشتبه على الناظر فيه، وهكذا الشبهة تُلقى؛ يلقيها الشيطان أو يلقيها أعوانه أو تأتي في الذهن فيشتبه معها الحق ويشتبه الباطل معها بالحق، فيصبح الأمر غير واضح بها، ولا شك أنّ إزالة الشبهات وكشف الشبهات من أصول هذا الدين؛ لأن الله جل وعلا رد على المشركين في القرآن ودحض شبهاتِهم وأقوالَهم، قال جل وعلا ﴿وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ﴾[الشورى:16]، وكل من يجادل بالباطل له حجة وله علم لكن حجته داحضة، وكون الحجة تُدحض هذا أصل في إزالة الشبهة في الدين، فإزالة الشبه التي شبه بها أعداء الملة وأعداء الدين فرض من الفروض في هذه الشريعة وواجب من الواجبات، لا بد أن يوجد من يقوم به وإلا للتبس الباطل بالحق، وصار هذا يُشبه هذا وضل الناس .
وقد ذكر إمام هذه الدعوة في مسائل كتاب التوحيد حينما عرض لحديث إرسال معاذ بن جبل إلى اليمن قاتل له «إِنّكَ تَأْتِي قَوْما مِنْ أَهْلِ كِتَابِ فليكن أول ما تدعوهم إليه شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله وأنّ محمداً رسولُ اللّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ» الحديث، قال في المسائل ما حاصله: في هذا ردّ الشبه عن الدين؛ لأنه مهد له عليه الصلاة والسلام بقوله (إِنّكَ تَأْتِي قَوْما مِنْ أَهْلِ كِتَابِ)، وكونهم من أهل الكتاب هذا يعني أن يستعد لمناظرتهم وللحجاج معهم، ثم قال (فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ)، فنَفْهَم من قوله (أَطَاعُوا لِذَلِكَ) أنه سيكون بينه وبينهم حجاج ونقاش وأخذ ورد ولإزالة الشبه التي قد تكون عندهم في رد التوحيد ورد رسالة النبي عليه الصلاة والسلام، فقوله (فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ) فيه رد الشبه وأنها من وظائف العلماء الدعاة، ثم قال (فَأَعْلِمْهُمْ أَنّ الله افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ, فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ) وهذا كله دليل على ما ذكر.
المقصود أن إزالة الشبه عن الدين فرض من الفرائض قام به أهل العلم، وصُنِّفت فيه المصنفات في القرون التي شاع فيها التصنيف في القرن الثاني والثالث وما بعده إلى زماننا هذا.
وكشف الشبه يكون عن طريقين:
@ الطريق الأول: طريق عقلي.
@ والطريق الثاني: الطريق الشرعي السمعي.
أما الأول وهو الطريق العقلي: فهذا قد يكون بإيجاد البراهين العقلية البحتة التي تبطل شبه المشبهين، وقد يكون بإيجاد الأمثلة العُرفية التي تضعف حجة الخصم، وهذا وهذا موجود في القرآن.
والقسم الثاني الأدلة أو الطريق الشرعي السمعي: بأن يكشف ما شبه به الخصوم بأن تُزال الشبه وتقام الحجة بالأدلة الشرعية، وفي الكتاب والسنة من إقامة الأدلة في مسائل العلم خاصة التوحيد ما يُغني عن غيرها؛ لكن طالب العلم قد يحتاج إلى بعض البراهين العقلية، لذلك جاءت في القرآن آيات كثيرة فيها إقامة البرهان العقلي في التوحيد كقوله جل وعلا ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾[الأنبياء:22]، وكقوله جل وعلا ﴿قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا(42)سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾[الإسراء:41-42]، فهذا من جعْل الحجة العقلية، وقوله جل وعلا (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) فيه دِلالة بينة أنّ وجود إله يعبد مع الله جل وعلا لو كان موجودا لفسدت السموات والأرض؛ لأنه لا بد أن يأتي هذا بما يريد وأن يأتي الآخر بما يريد، ومعنى ذلك أنه لن يكون هذا الملكوت على هذا الانتظام لا بد من المغالبة، ولهذا قال في آية الإسراء (قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا) لابد أن يكون ثم مغالبة حتى يستقيم الأمر فلو كان ثم معبود مع الله جل وعلا بحق لكان لا بد من المغالبة، وإذا انتفت المغالبة وكان هذا الكون والمكلوت يمشي على منوال واحد وبإرادة واحدة دلّ ذلك البرهان العقلي؛ البرهان المحسوس المضبوط على أن المعبود بحق واحد وهو الله جل جلاله.
قال الإمام رحمه الله تعالى في أول رسالته (بسم الله الرحمن الرحيم ) وتفسير البسملة وما فيها من العلم معروف يؤخذ من الشروح الكثيرة لكتب أهل العلم.
قال بعدها (اعلم رحمك الله) هذه البداية تكثر في كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وفي كتب كثير من أهل العلم، فقد قال العلماء فيها من الفائدة أنّ هذا العلم أي علم الشريعة مبني على التراحم، فأعظم رحمة تسديها للناس أن تنشر بينهم العلم، فإذا علمتهم العلم فهي أعظم رحمة ترحمهم بها، ولهذا كان محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام مبعوثا رحمة للعالمين كما قال جل وعلا ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾[الأنبياء:107]، والشريعة كلها عقيدة وأحكاما، خبرا وأمرا ونهيا رحمة، وبعثة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام رحمة، وكل تشريع رحمة، وكل إخبار اعتقاده رحمة بالعبد؛ لأنه إن لم يعتقد الخبر فإنه سيضل وذاك هلاك، وإنقاض الناس من الهلكة رحمة بهم، وإن لم يتبع الأمر والنهي ولم يفعل ما أمر به وينتهي ما نُهي عنه فإنه قد سعى في فساد نفسه وما لا يُحمد له وفي ظلم نفسه فتخليصه منه رحمة، فمبنى العلم على التراحم، المعلم ينشر العلم رحمة مع أمور أُخر، والمتعلم يتلقى العلم وهو مرحوم به أو وهو مرحوم بنشر هذا العلم، ولهذا قال العلماء إنّ الحديث الذي اختاره طائفة من أهل العلم ليكون الحديث المسلسل بالأولية هو حديث «الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» وهذا هو الحديث المعروف في رواية الحديث وعند المهتمين بالإسناد بالحديث المسلسل بالأولية؛ لأنّ الرواة فيه يقول كل واحد منهم: وهذا أول حديث سمعته. يعني من شيخه فالشيخ أول ما يقرئ الأحاديث هذا الحديث (الراحمون يرحمهم الرحمن) ذكر طائفة من أهل العلم منهم الذهبي وغيره أن سبب تسلسل هذا الحديث بالأولية أنّ هذا العلم علم الحديث وعلم السنة بل علم الشريعة جميعا مبناه على التراحم، فيعلم المعلم هذا الحديث أولا (الراحمون يرحمهم الرحمن) ويكون أول ما يسديه إلى التلميذ أن يعلمه الرحمة والتراحم؛ لأنه لا يكون العم إلا عند رحيم، أما من لم يكن رحيما بالخلق فلا يكون العلم مستقرا في قلبه، يكون أكثر استقرارا إذا كان أرحم بعباد الله جل وعلا، وكلما ازدادت الرحمة في قلبه كلما زاد العلم ثباتا في صدره لأن الرحمة مأمور بها (ارحموا من في الأرض)، والله جل وعلا ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا﴾[النساء:66]، ومن التّثبيت التثبيت في العلم، فهذا من رحمة الشيخ رحمه الله بالمسلمين حيث يدعو لهم بهذه الدعوة.
قال (اعلم رحمك الله أن التوحيد هو إفراد الله سبحانه بالعبادة) التوحيد مصدر وحّد يوحد توحيدا، وقد جاء في السنة لفظ التوحيد وقد جاء أيضا لفظ وحّد يوحد، فمادة هذه الكلمة جاءت في السنة، خلافا لمن زعم أن هذا اللفظ إنما اهتم به شيخ الإسلام ابن تيمية ومن تابعه، هذا غلط كبير؛ لأن هذا اللفظ قد جاء في السنة في أحاديث كثيرة، وقد جاء في مثل ما رواه البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب الحج أن النبي عليه الصلاة والسلام ”أهل بالتوحيد“ وثبت أيضا في مسلم وفي غيره أن النبي عليه الصلاة والسلام قال «بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسَةٍ. عَلَى أَنْ يُوَحَّدَ اللهُ» وفي حديث جبريل أيضا المعروف قال عليه الصلاة والسلام «الإِسْلاَمُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله وَأَنّ مُحَمّدا رَسُولُ اللّهِ»، في رواية «الإِسْلاَمُ أَنْ تُوَحّدَ اللهُ»، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يُهِلُّ بالتوحيد؛ يعني يقول لا إله إلا الله وكان يهل في الحج بالتوحيد؛ بمعنى يقول لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك. لأن نفي الشرك وإثبات الوحدانية لله جل وعلا هو التوحيد.
المقصود أن هذه الكلمة (التوحيد) جاءت في السنة في أحاديث كثيرة وكذلك لفظ (وحَّد) فهي كلمة مستعملة ومشهورة ومن ألفاظ حديث معاذ المعروف «فليكن أول ما تدعوهم إليه إلى أن يوحِّدوا الله» والبخاري بوّب أو جعل من كتبه في صحيحه كتاب التوحيد.
فالمقصود من هذا بيان أن هذه اللفظة كثيرة في السنة وهي وإنْ لم ترد في القرآن لكن جاءت في السنة وأهل العلم من أهل السنة اعتمدوها وذكروها وصنفوا فيها كتبا.([4]) فاهتمام الشيخ رحمه الله بهذه الكلمة هو اهتمام بأصل الدين وليست كلمة محدثة خلافا لمن زعم ذلك بجهله.
قال (التوحيد هو إفراده سبحانه بالعبادة)، (التوحيد) يعرف بعدة تعريفات أما من جهة اللغة فهو جعل الشيء واحدا، وحد توحيدا يعني جعله واحدا، فوحّد المتوجه إليه في العبادة توحيدا؛ يعني جعل المعبود بحق واحدا، و(التوحيد) عرّفه الشيخ رحمه الله هنا وهو (هو إفراده سبحانه بالعبادة) إفراد الله يعني أن يكون التوجه بالعبادة لله وحده هو فرض في ذلك فلا يجعل من دون الله إلها ولا يجعل مع الله جل وعلا إله.
قال (إفراده سبحانه بالعبادة) و(سبحان) تنزيه كما هو معلوم، (بالعبادة) هذه العبادة ما هي؟
العبادة في اللغة خضوع وتذلل معه حب عن طواعية ورغب ورهب وحسن ظن وما أشبه ذلك من أعمال القلوب، وأصلها الذل؛ ذلل الشيء يعني جعله متطامنا، جعله ذليلا، جعله غير وعر غير مستكبر، فيكون هذا في الناس، ويكون في الطريق ومنه سمي العبد الرقيق عبدا؛ لأنه جعل ذليلا غير متكبر متطامن لسيده، وقيل أيضا للطريق معبد لأنه ذُلل للسير كما قال طرفة
تُبارِي عِتاقاً ناجِياتٍ وأَتْبَعَتْ وَضيفًا وَضيفًا فَوْقَ مَوْرٍ مُعَبَّدِ
وقوله أيضا في البعير
إلى أنْ تحامَتْني العَشيرةُ كُلُّها وأُفرِدْتُ إِفْرادَ البَعيرِ المُعَبَّـدِ
إلى آخر شواهد هذه المادة.
أما العبادة في الشرع فالعلماء عرّفوها بعدة تعريفات نختار منها في هذا المقام ثلاثة:
¨ الأول: أن العبادة هي ما طُلب فعله في الشرع ورُتب الثواب على ذلك وهذا ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية لما تكلم عن الوضوء، فإذا كان الشيء طلب فعله في الشرع ولم يكن مطلوبا قبل ذلك ورتب على ذلك الفعل الثواب فهذا الفعل عبادة.
¨ التعريف الثاني: أيضا كلي أيضا ذكره شيخ الإسلام في أول رسالة العبودية هي أن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
¨ وعرفه أيضا طائفة من العلماء ومنهم الأصوليون بأن العبادة هي ما أمر به من غير اضطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي.
فنخلص من هذا إلى أن العبادة شيء جاء بالشرع لم يكن قبل ذلك، لم يكن قبل ذلك ليس من جهة الفعل والحصول، ولكن من جهة كونه مأمورا به لهؤلاء الناس المعينين، فجاء الشرع بالأمر بأشياء كانت موجودة عند العرب، ولكن كانوا يفعلونها من غير أمر خاص شرعي بذلك، وإنما ورثوها هكذا فلما أمر بها الشرع ورتب عليها الثواب كانت مما يحبه الله ويرضاه، وكانت مأمور بها من غير اقتضاء عقلي لها ولا اطّراد عرفي بها([5])، وإنما كانت باطّراد أمر الشارع بها، فخرجت عن كون مقتضى بها جاءت عرفا فقط.
لهذا الأقوال هذه الثلاثة لتعريف العبادة تلتقي ولا تختلف.
فإفراد الله سبحانه بالعبادة معناه أن يفرد الله سبحانه بكل ما أمر به الشرع؛ بكل ما أمر به الشرع من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فيدخل في ذلك أعمال القلوب مثل الإخلاص والرغب والرهب والخوف والتوكل والإنابة والمحبة والرجاء والاستعاذة؛ استعاذة القلب إلى آخره، ويدخل فيه أيضا الأفعال الظاهرة مثل الدعاء وأنواعه الاستعانة والاستغاثة والاستسقاء والاستعانة الظاهرة إلى غير ذلك، ويدخل فيها الذبح والنذر والصلاة والزكاة والدعاء والحج والعمرة والصلة؛ صلة الرحم وغير ذلك، فالعبادة اسم يعم هذا جميعا، فكما أنه لا يصلي المصلي إلا لله كذلك لا يستغيث إلا بالله فيما لا يقدر عليه المخلوق، وهكذا في مظاهرها كما أُوضح ذلك مفصلا في كتاب التوحيد وفي ثلاثة الأصول.
قال (وهو -يعني التوحيد- دين الرسل الذين أرسلهم الله به إلى عباده)
(هو دين الرسل) يعني جميعا فالرسل جميعا أرسلوا بالتوحيد وهو إفراد الله بالعبادة، فلم ترسل الرسل أصلا بالشرائع، لم ترسل الرسل أصلا ببيان ما يجب من الأعمال من الذي هو دون التوحيد، أو ما يحرم إنما أرسلت لتوحيد الله جل وعلا؛ لأن توحيد الله جل وعلا هو العلة المطلوبة من خلق الجن والإنس، كما قال جل وعلا ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[الذاريات:56]؛ يعني إلا ليوحدونِ، فالعلة المطلوبة من خلقهم أنهم يوحدون الله جل وعلا لهذا أرسلت الرسل بذلك.
هذا التوحيد مفطور عليه العباد للميثاق قال جل وعلا ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا﴾[الأعراف:172] وهذا الذي أخذ عليهم هو التوحيد وهو الفطرة، فؤخذ على الناس جميعا هذا الميثاق وهو توحيد الله جل وعلا، ولكن هذا الميثاق خرجوا عليه وهم في ظهور آبائهم أُخذ وعرفوا ذلك وشهدوا به، ثم خرجوا على هذا التوحيد خرجوا على الفطرة، خرجوا وهم يوحدون الله جل وعلا؛ لكن تجتالهم الشياطين عن دينهم كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق على صحته «كلّ مولودٍ يولَدُ على الفِطرةِ, فأبَواهُ يُهوّدانهِ أو يُنصّرانِه أو يُمجّسانِه, كما تجرجُ البهيمةُ جمعاء هل تحسون فيها من جَدْعاءَ»؟ يعني أن البهيمة تخرج سليمة، ثم بعد ذلك أهلها يقطعون شيئا من أذنها أو شيئا من بدنها إلى آخره، الكمال يخرج المولود عليه، من جهة التوحيد يعني على الفطرة، ثم تتغير هذه الفطرة، معلوم أن ذلك الميثاق الأول لا يُذكر، وأن دلائل إقامة الحجة بذلك الميثاق موجودة في الآفاق وفي الأنفس، والرسل جاءت لإقرار ذلك وجعل الناس يرجعون إلى هذا الأصل الذي ولدوا عليه وهو توحيد الله جل وعلا ثم إضافة بعض الشرائع التي تختلف من رسول إلى رسول.
المقصود من ذلك أن دين الرسل جميعا هو التوحيد، والرسل جمع رسول وهو من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه إلى قوم مخالفين له. أما إذا كانوا موافقين فيكون ذلك نبي من الأنبياء كأنبياء بني إسرائيل ونحو ذلك، فالرسل الذين بُعثوا إلى قوم مخالفين هم على التوحيد أمروا بالتوحيد ودعوا إليه قال جل وعلا ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾[النحل:36]، وفي سورة الأعراف في ذِكر نوح عليه السلام وذِكر هود وذِكر صالح وذِكر شعيب وذِكر موسى عليه السلام، كلهم يدعون إلى توحيد الله جل وعلا ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾([6]) إذا كان كذلك فإن الدعوة تكون إلى هذا الأصل،الدعوة تكون إلى توحيد الله لأن به صلاح القلوب وصلاح الأعمال.
قال (وهو دين الرسل الذين أرسلهم الله به إلى عباده)، (به) يعني بالتوحيد إلى عباده، فما هو دين الرسل الذي أجمعوا عليه، اتفقوا عليه كل واحد بعث به؟هو توحيد الله جل وعلا وهو إفراد الله سبحانه بالعبادة، لهذا نعلم أن كل من عبد غير الله جل وعلا فهو مخالف لكل رسول ومن عبد غير الله بأي نوع من أنواع العبادة فإنه لم يوحد إنه مشرك وإنه مكذب بجميع المرسلين، قال جل وعلا ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ﴾[الشعراء:105]، فمن لم يوحد الله جل وعلا فقد كذب بالمرسلين جميعا؛ لأن الرسل جميعا أمروا بالتوحيد، فإذا أشرك المشرك فلا يحتج يقول أنا على دين موسى أو على دين عيسى، نقول هو مكذب بجميع الرسل وخارج عن دين جميع الرسل.
قال (فأولهم نوح عليه السلام) نوح هو أول الرسل، وهو من أولي العزم من الرسل، وهو عليه السلام الذي جَعل الله جل وعلا ذريته هم الباقين في الأرض، أما آدم فإنه نبي مكلم وليس برسول، كما جاء في بعض الأحاديث أنه عليه الصلاة والسلام قال «آدم نبي مكلم».
نوح عليه السلام بعث إلى قوم أشركوا بالله جل وعلا وشركهم كان في الصالحين.
قال (أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين) الغلو هو مجاوزة الحد، غلا في الشيء جاوز الحد فيه، وتأليه البشر مجاوزة للحد، وهؤلاء الصالحون أولهم ودّ، وودّ هذا من عباد الله الصالحين، وهو أول من أُشرك به على الأرض لما مات صوَّروا صورته كما يأتي في حديث ابن عباس، فقوم نوح هم تتابعوا من ذرية آدم وذرية آدم على التوحيد حتى أتى هؤلاء الصالحون ودّ وسواع ويغوث ونسرا كانوا قوما صالحين، فهنا شاع في الناس الرغبة في الدنيا والبعد عن تذكر الآخرة، فكانوا إذا أرادوا أن يتشجعوا في العبادة ذهبوا إلى هؤلاء؛ إلى قبورهم إلى ود وإلى سواع وإلى يغوث وإلى يعوق وإلى نسر، فنظروا في قبورهم وبكوا عندها، فتشجعوا في العبادة ورجعوا، فجاء الشيطان فتكلم عند قبرهم قال: ألا تصنعون أو ألا أصنع لكم صورة تتذكرون بها ودّا وتتذكرون بها سواعا. فصنع لهم صورة على هيئته، فجعلوها على قبورهم وثنا وصنما، ثم بعد ذلك يعني هم حينما جعل ذلك أولا ليس معبودا ولكن للتذكر ينظرونه فيتذكرونه وأعمارهم كانت طويلة، ثم بعد ذلك قال ألا تجعلون من كل واحد صورة في بيت كل واحد منكم حتى يتذكر، ثم نقلهم بعد ذلك إلى أن يصحبوه في السفر إلى آخره، شاع في ذلك لأجل التذكر لأجل الحث على العبادة، ولم يكن أول ذلك الجيل لم يكن مشركا، فيما بعدهم ذهب ذلك العلم، وقالوا ما اتخذ آباؤنا هذه الصور إلا لأنها آلهة إلا لأنها معظمة، فتوجهوا إليها بطلب التوسط، قالوا هؤلاء لهم مكانة عند الله؛ لأنهم صالحون، فنتوسط بهم فيما نريد فصار شرك قوم نوح من جهة التوسط بالأرواح؛ أرواح صالحي بني آدم.
ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر ذكرهم الله جل وعلا في القرآن في سورة نوح حيث قال جل وعلا ﴿وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا(23)وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا﴾[نوح:23-24]، قال العلماء (وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ) فيها أن ودّ هو الأول، وسواع هو الثاني، ويغوث هو الثالث، وفيها أيضا تنبيه على أن هذه الآلهة متفاضلة عندهم؛ بأنه أتى في الثالث الأول بحرف (لَا) وفي الآخرة بلا حرف (لَا) فقال (وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) فلم يأتِ بحرف (لَا) لأجل أن يفاضلوا بين أولئك وبين هذه، فهذه الآلهة كانت متفاضلة عندهم، وهذا التفاضل عندهم الذي يُشعر به اللفظ كما ذكره طائفة من المفسرين، هذا التفاضل إنما بتفاضل مصلحتهم من هذه الآلهة، والتوجه بها، وهذا هو الموجود بهذا الزمن وفي زمن الشيخ وفي زمن انتشار الشركيات، فإنّ عباد القبور عباد الأولياء أولئك ليسوا متساوين فبعضهم أقطاب وبعضهم أوتاد وبعضهم غوث وهكذا، فإذن التفاضل من جهة الروحانيات من جهة التوسط كان موجودا في زمن نوح عليه السلام، فصرنا على أنّ ما كان فير زمن نوح عليه السلام أنّ هؤلاء صالحون، وأنهم لم يعبدوا باتخاذ قبورهم أوثانا من أول الأمر، وإنما عبدوا بعد زمن، لما نُسي أول الأمر من اتخاذ صورهم للتنشيط في العبادة وعُبد بعد ذلك، ففيه أن الشيطان أتاهم بأن لا تسد الذرائع في هذا الباب، فجاء الأمر شيئا فشيئا حتى عبدوا تلك الآلهة، وفيه أن هؤلاء متفاضلون في الصلاح عندهم، وفيما ذكرنا أيضا أن تفاضلهم إنما هو من جهة أثر توسطهم بهذه الآلهة على ما يريدون من إنجاح حوائجهم، ولهذا ذكر البخاري في كتاب التفسير في تفسير صورة نوح قال باب ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وذكر الحديث المعروف حديث ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح. وهذا القدر -وهو أنهم أسماء رجال صالحين- هو الذي يعرض فيه كثير من المعارضين اليوم، ويقولون إن هذه الأسماء أن تعدّ أسماء رجال صالحين لم تأتِ إلا في هذا الحديث عن ابن عباس.
وهذا الحديث رواه ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس، وابن جريج له تفسير معروف، وفي تفسيره ذكر التصريح بأن عطاء هذا هو عطاء الخُرساني، كذلك ذكره عبد الرزاق في تفسيره وهو مطبوع؛ طبع مؤخرا، قال: عن ابن جريج عن عطاء الخرساني عن ابن عباس. والعلماء يقولون -علماء الجرح والتعديل-: إن عطاء الخُرساني لم يسمع عن ابن عباس. لهذا قال أولئك هذه الرواية ضعيفة وليست بصحيحة وإن رواها البخاري؟
والجواب عن ذلك أن ابن عباس رضي الله عنهما حينما ذكر أنها أسماء رجال صالحين جعلها البخاري رحمه الله تعالى -يعني جعل تلك الرواية- جعل البخاري رحمه الله تعالى تلك الرواية أصل في تفسير الآية، ورواها بإسناده المتصل لابن عباس، وكون عطاء أتى عند البخاري بلا نسبة، لا يعني أنه عند البخاري عطاء الخُرساني، ودلّلوا على ذلك بأن التفريق في روايات ابن جريج عن عطاء بأن منها عن عطاء الخرساني خاصة بالتفسير إنما هو عن علي بن المديني، وعلي بن المديني معروف بأنه إمام في العلل وله كتاب في العلل وكتبه مشهورة في ذلك والبخاري رحمه الله تلميذه، فلا يخفى عليه تعليل علي ابن المديني لهذه الرواية -أنا أُفَصِّل هذا لأن الدعاة إلى عبادة القبور أو إلى أن التوسط بالصالحين ليس هو شرك المشركين؛ الدعاة قالوا عمدتكم في ذلك هو رواية ابن عباس، ورواية ابن عباس ضعيفة، ولو رواها البخاري في صحيحه، فهذا رد لهذه الشبهة- نقول: البخاري قال عن ابن جريج قال: قال عطاء عن ابن عباس. ومن المتقرر في علم الرجال أن ابن جريج إذا قال: قال عطاء. وهو يعني ابن جريج ممن عرف بالتدليس، فإن قوله قال عطاء محمول على السماع وسماعه إنما هو من عطاء بن أبي رباح وليس من عطاء الخرساني، فنستدل بذلك على أن هذه الرواية عند البخاري إنما هي عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس، وإسنادها متصل في غاية الصحة، وابن حجر رحمه الله حينما عرض لهذه المسألة قال وهي عندي -يعني هذه المسألة- عن عطاء الخرساني وعن عطاء ابن أبي رباح جميعا؛ لأن البخاري رحمه الله مشترط في صحيحه أن لا يروي الحديث إلا إذا كان متصلا، وهو لا يخفى عليه أن ابن جريج يروي عن عطاء الخرساني بانقطاع، وأن عطاء الخرساني راويته عن ابن عباس [منقطعة] لا يخفى عنه ذلك؛ لأنه من مشاهير العلم، ولأنه لم يروِ بهذه الترجمة مما يظن أنه عن عطاء الخرساني لم يروِ إلا حديثين، فهو رواها مسندة متصلة، فمن نازع في صحتها ينازع البخاري رحمه الله في تصحيحه له هذا واحد.
الثاني أن عطاء في الرواية هو عطاء ابن أبي رباح ولو كان روي في تفسير عبد الرزاق وتفسير ابن جريج التصريح بأنه عطاء الخرساني فإنّ ابن جريج قد يسمع من هذا وهذا، يعني قد يأخذ من هذا وهذا؛ قد يأخذ من عطاء بن أبي رباح، وقد يأخذ بواسطة عن عطاء الخرساني فهذا محتمل, وتغليط البخاري رحمه الله في تصحيحه للحديث هذا غير وارد.
الثالث أن الذين ذكروا هذه العلة ليسوا من المتقدمين من حفاظ الأحاديث، وإنما هم من المتأخرين، والمتقدمون من أهل الحديث أدرى بالبيت؛ لأن فهمهم بالعلل أعظم من فهم من بعدهم.
فنخلص من ذلك إلى أن رواية ابن عباس هذه هي الأصل في هذا الباب، وأنّ ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر أنها أسماء رجال صالحين صارت في العرب، وأن أولئك لم يعبدوها أول الأمر وإنما آتاهم الشيطان فمثّل لهم -كما ذكرتُ لكم- مثّل لهم صورا فلما تمسخ العلم وفي رواية فلما نسي العلم عبدت يعني لما نسي التوحيد وتمسخ العلم ورثها أناس لم يعرفوا حقيقة الأمر فعبدت، يدل على ذلك أن ودّا وسواع ويغوث ويعوق ونسرا هذه صارت في العرب معروفة وأبيات الشعر التي حفظت في ذلك عن العرب في ذكر هذه الأصنام مشهورة، الله جل وعلا ذكرها عن قوم نوح وهي موجودة العرب بهذه الأسماء والأشعار بها محفوظة، ويؤيد ذلك أيضا أنها في العرب أن العرب فيهم التعبيد لهذه الآلهة، فيهم من اسمه عبد ودّ، وفيهم من اسمه عبد يغوث، وفيهم من اسمه عبد نسر وهكذا، فالتعبيد لها يدل على أنها موجودة في العرب، وهي موجودة في قوم نوح بنص القرآن، فلما كان كذلك صارت هذه الرواية متفقة مع ظاهر القرآن، ومتفقة مع واقع العرب المعروف الذي حفظ، فمن طعن فيها فإنما هو من جهة عدم استيعابه للمسألة.
قال (وآخر الرسل محمد ﷺ ) ذكرتُ لكم أن عبادة أولئك كانت من جهة الأرواح، وكل شرك في العالم كان راجعا إلى أحد نوعين لا ثالث لهما: الشرك بالله:
الأول: راجع أرواح الناس؛ أرواح الصالحين.
والثاني: راجع إلى أرواح الكواكب.
فالشرك بأرواح الصالحين كان في قوم نوح.
والشرك بأرواح الكواكب كان في قوم إبراهيم، وهل الكوكب له روح؟ الجواب: لا، ولكن جعلوا لكل كوكب صورة وصنما صوروا فيه الكوكب فلما كان كذلك، زعموا أن روحانية الكوكب وروح الكوكب تحل فيه فتتقبل مما يأتي لها ويطلب فترفع الحوائج إلى الكوكب، وعند هؤلاء الصابئة أن الكواكب تُسَيَّر العالم، وأن كل كوكب له أثر في العالم والصابئة الذين هم قوم إبراهيم كان شركهم من جهة الكواكب كما هو معروف، قال جل وعلا ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ(75)فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا﴾[الأنعام:65-66] الآيات، فشركهم كان من جهة الكواكب، لم أشركوا بالكواكب؟ لأنهم لما وضعوا الأوثان لهذه الكواكب جاءت الشياطين فتكلمت عند صورة الوثن عند الوثن عند الصنم، فلما تكلمت طلبوا منها أشياء فتحقق لهم ذلك، فظنوا أن الكواكب مسيرة لأحداث هذا العالم.
فإذن نخلص من ذلك إلى أن الشرك وقع من جهة الشياطين في الجهتين:
¨ شياطين تكلّمت بلسان الصالحين، تكلمت على أنها روح الصالح، فطُلب منها وأجابت وعملت أشياء.
¨ وشياطين تكلمت على لسان كما يزعم أصحابه لسان الكوكب.
وكل شرك متفرع على أحد هذين النوعين؛ إما شرك بالعلويات أو شرك بالسفليات.
حقيقة الأمر أن الشياطين حينما تقول ذلك هي عبادة الجن، حينما يُطلب منها فإن المعبود هو الجني وليس هو الإنسي.
قال (وآخر الرسل محمد ﷺ وهو الذي كسر صور هؤلاء الصالحين)، (وهو الذي كسر) بنفسه أو بمن أَرسل، محمد عليه الصلاة والسلام لما دخل مكة عام الفتح دخل وكان حول الفتح أصنام كثيرة فجعل يمكُتُهم بعصاه عليه الصلاة والسلام ويقول ﴿جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾[الإسراء:81] وكان من الأصنام إساف ونائلة، صنم إساف ونائلة وكانت موجودة بجنب الكعبة، ومنها هبل وكان هبل من الأصنام التي في داخل الكعبة؛ لأن الكعبة كانت بداخلها صور وأصنام، وكان أيضا بقربها يعني على حافة الكعبة كانت ثَم أصنام وهناك أيضا أصنام بعيدة حول المطاف، فالنبي عليه الصلاة والسلام كسر هذه جميعا.
من العجائب في ذلك أن المؤرخين اتفقوا على أن إساف ونائلة؛ إساف رجل ونائلة امرأة، وأن إساف كان يتعشق نائلة وأنهما قدما حاجين وأنه لم يتمكن منها إلا في غفلة من الناس أتاها في الكعبة -والعياذ بالله-، قال المؤرخون فمسخا حجرين في داخل الكعبة فلما نظر الناس إليهما عرفوا أن هذه صورة إساف وصوره نائلة في الكعبة، فعلم أنهما أحدثا حدثا فأخرج الناس الحجرين إلى خارج الكعبة ليعتبر الناس بحال من عصى في الحرم، يكون ذلك أبلغ في إبعاده، أتى الزمان حتى عبد إساف وعبدت نائلة، هبل كان في داخل الكعبة وكان هو أعظم الأصنام والصور التي في داخلها وهكذا.
أما ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر فهذه لم تكن من الأصنام التي حول الكعبة وكانت متفرقة في العرب فقوله (وهو الذي كسر صور هؤلاء الصالحين) يعني بمن أرسل، فإنه لما انتشر الإسلام فكل قوم فيهم هذا الوثن أو هذا الصنم كسره أصحابه بأمر النبي عليه الصلاة والسلام، وقولنا بأمر النبي ليس أمرا خاصا بهذا الصنم ولكن أمرا عاما بكسر الأصنام والأوثان.
ومن أصنامهم اللات والعزى ومناة كما هو معروف.
تعبير الشيخ بقوله (صور هؤلاء الصالحين) هذا مقصود؛ لأن أولئك جعلوا الصورة، وهل جعلهم الصورة لقصدها أم لأجل أنها توصل إلى صاحبها؟ معلوم أنّ المشركين ليسوا قاصدين للصور من حيث هي، بل يقصد الصنم من حيث هو، وإنما عندهم الصنم وسيلة إلى روح صاحبه، الوثن وسيلة إلى ما يحل بالبقعة أو يحل بالشيء من أرواح.
فإذن هم قصدهم الأرواح التي تصعد إلى الملأ الأعلى فتوصل طلباتهم وتوصل حوائجهم وما يريدون إلى الله جل وعلا، فيستجيب الله جل وعلا بهذه الوساطة، هذه خلاصة شرك المشركين.
وأولئك الذين أشركوا هذا الشرك لم يكونوا بعيدين عن التعبد، بل كما ذكر الشيخ رحمه الله هنا قال (أرسله الله إلى أناس يتعبدون) نعم كان أهل الجاهلية كانوا يتعبدون، كان منهم أهل الصيام، كان منهم أهل الصلاة، ومنهم أهل الدعاء، ومنهم أهل الحج، منهم أهل الزكاة، منهم أهل الصدقة، منهم أهل الصلة، منهم أهل الذبح، ومنهم أهل التقرب إلى الله بالطواف والتحنث والاعتكاف إلى آخره والطهارة الكبرى وما أشبه ذلك، فأولئك لم يكونوا يقرّون بأن الله جل وعلا هو الخالق وحده وأفراد الربوبية فحسب، بل كانوا مع ذلك يتعبدون لهم صلاة ولهم زكاة ولهم حج ولهم صيام، وهذا ذكره الشيخ بعد ذلك بقوله ويحجون ويتصدقون.
أما الطهارة فقد ذكر من صنف في أديان العرب أنّ العرب كانت عندهم طهارة من الحدث، فكانوا يتطهرون من الجنابة، وإذا أجنب المرء بمعنى أنزل الماء، فإنه يبعد عن مواقع العبادة ولهذا سموه جنبا، سموه جنبا أي بعيدا ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾[النساء:36] يعني البعيد، فسموا من أخرج الماء يعني من أنزل، سموه جنبا لأنهم كانوا يأمرون بالابتعاد عن الكعبة، بالابتعاد عن مواطن العبادة حتى يتطهر، وتطهره من الجنابة شائع معروف، أما التطهر من الحدث الأصغر فهذا إنما عند طائفة قليلة منهم، حتى النساء كن يغتسلن من الحيض، وهذا معروف عنهم في عدة أحوال وعدة أبيات، ومنها قصة امرأة كانت مع زوجها في سفر وكان معهما ماء قليل، فلما كانت في السفر انقطع عنها الحيض فأرادت أن تغتسل، فأخذت الماء فاغتسلت به وكان قليلا فلم يبلغ أن يعممها وبقيا عطاشا ليس معهما ماء، قيل إنهما هلك في ذلك، فضرب بهما مثل في هذا، وقد قال في ذلك الفرزدق في بعض أبيان نسبت إليه، قال وكنت –يذم رجلا:
وكنت كذات الحيض لم تُبقِ ماءها ولا هي من ماء العذابة طائل
فكان العرب يعتنون بمسألة الطهارة؛ طهارة الجنب وطهارة الحائض، فهذا النوع تعبد منهم بذلك، كذلك الصيام، كان منهم من يصوم وصيامهم مختلف منهم من يصوم يوما، كما كان أهل الجاهلية يصومون عاشوراء، كما جاء في الصحيح «إن عاشوراء يوم كانت تصومه العرب في الجاهلية» وكان لهم صيام من الفجر إلى غروب الشمس، أو من طلوع الشمس إلى غروبها، ومنهم من كان يصوم أكثر من ذلك.
هذه كلها ميراث مما ورثوه من الأديان الصحيحة قبلهم.
وكان منهم أيضا من يصلي وصلاته تكون بركوع وذكر ودعاء ويسمونها صلاة، معروفة عندهم في ذلك، لكن هذه الهيئة والسجود لم يكن عندهم في ذلك.
كذلك كانوا يعتكفون تعبدا، ومنهم حديث عمر المعروف: إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام. فقال له النبي عليه الصلاة والسلام «أوفِ بنذرك».
وكان طائفة منهم يتحنثون ويتخلَّون في الخلاء يتأملون ويذكرون الله جل وعلا، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يتحنث في غار حراء الليالي ذوات العدد والتحنث يعني العزلة عن الناس والتعبد بذلك والخلوة كانت معروفة عندهم.
وكذلك الصدقة مثل ما ذكر الشيخ هنا (ويتصدقون) كان فيهم الصدقة كثيرا كما قالت خديجة لما جاءها النبي عليه الصلاة والسلام وقد فاجأه الوحي بحراء فقالت له بعدما قصّ عليها ما حصل قالت: كلا والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتُقري الضيف وتعين الملهوف وتعين على نوائب الحق. أو كما جاء في كلامها، فكانت الصلة والصدقة وتسمى عندهم أيضا زكاة كانت موجودة كثيرا.
وكذلك ذكر الله جل وعلا أيضا كانوا أهل ذكر لله جل وعلا، يذكرون بأنواع من الذكر هذه محفوظة في أشعارهم، ومحفوظة في كتبهم؛ يعني في الكتب التي ذكرت ذلك.
واستقصاء ذلك يصعب في مثل هذا الشرح؛ لكن نذكر لك بعض الكتب التي ذكرت منها كتاب بلوغ الأرب للألوسي، ومنها كتاب أديان العرب لعلي الجارم، ومنها تاريخ العرب المفصل قبل الإسلام وغير هذا من الكتب التي شرحت ديانات العرب تطهرها وصلاتها وزكاتها وحجها.
أما الحج والعمرة فهذا معروف مشهور حجهم للبيت تعظيمهم إياه وعمرتهم إليه.
المقصود من هذا أن العرب لم تكن بعيدة عن العبادة، يتعبدون بأشياء ورثوها من دين إبراهيم عليه السلام، ومن بعض الأشياء من دين موسى عليه السلام، إذن هم مقرون بالربوبية لله جل وعلا وأن الله هو الخالق وهو الرازق وهو الرّزّاق وحده، وهو الذي يحيي وهو الذي يميت ويقولون ”ما شاء الله“ ويؤمنون بالله ولكن مع ذلك لم يكونوا مسلمين، بل بعث الله إليهم محمد بن عبد الله يدعوهم إلى أن يوحدوا الله، كيف يكون الحال إذن؟ الحال أننا لا بد أن ننظر فيما كان أولئك على الشرك؟ بما كان أولئك مشركين؟ موحدون في الربوبية؛ الله الخالق وهو الرزاق وهو الذي يحيي ويميت ونحو ذلك، فهل هذا جعلهم مسلمين؟ كذلك عندهم صدقات ودعاء وذكر لله، فهل هذا جعلهم مسلمين؟ إنما الذي جعلهم مشركون أنهم يعبدون الله ويعبدون معه غيره، لم يفردوا الله بالعبادة، يتقربون إلى تلك الأوثان وتلك الأوثان منها صور الصالحين فحصل من هذا برهان عظيم ومقدمة([7]) مهمة لهذا الكتاب، وهي أن المشرك الذي كان في زمن النبوة لم يكن بعيدا من التعبد تماما؛ بل كان يتعبد، كان عنده نوع تعبد، نوع صلاح، من جهة أنه في الناس صاحب خير وصاحب صدقة، صاحب ذكر إلى آخره؛ لكنه صار مشركا لأنه عبد مع الله جل وعلا غيره، فإذا كان الأمر كذلك كان قتال النبي عليه الصلاة والسلام لأولئك وكان تكفيرهم لأجل أنهم أشركوا تلك الآلهة الباطلة مع الله جل جلاله فعبدوا الله وعبدوها.
إذا وصلنا إلى هذه، جاء السؤال المهم وهو كيف عبدوا تلك الآلهة؟ هل ادعوا في اللاّت وفي العُّزى ومناة وهبل وودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسرا وإساف ونائلة، هل ادعوا أنها تخلق ؟ فالجواب لا، هل ادعى أنه ترزق استقلالا؟ الجواب:لا، قال جل وعلا﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ﴾[يونس:31] بلا جدال، يقولون الذي يرزق ويحيي ويميت هو الله، فإذن حين يسألون تلك الآلهة الباطلة الرّزق، حين يسألونها أن ترزقهم هل يعتقدون فيهم أنها تملك الرِّزق استقلالا؟ الجواب: لا؛ لأن الله جل وعلا أخبرنا بأنهم لو سئلوا من يرزقكم من السماء والأرض لقالوا الله يرزقنا، فإذن لم صاروا مشركين؟ لأنهم جعلوا تلك الآلهة وسائط في طلب الرزق، شفعاء في طلب الرزق ولهذا قال الشيخ رحمه الله بعدها (ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله) هذه الوساطة لها جهات:
الجهة الأولى جهة التوجه يعني نوع التقرب لها بالعبادة.
والجهة الثانية مكانتها عند الله حتى ترفع الحاجات.
سيأتي تفصيلها في الكتاب بعد ذلك.
قال (ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات) ما هذا البعض؟ سيأتي تفصيله إن شاء الله.
(وسائط بينهم وبين الله) لفظ الوساطة هذا دقيق من الشيخ رحمه الله، وهو الموافق لما جاء في القرآن في أول سورة الزمر حيث قال جل وعلا ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾[الزمر:3]، قال العلماء قوله (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا) هذا حصر قلب إضافي -معلوم في علم المعاني في علم البلاغة- يعني ما نعبدهم لعلة من العلل أبدا فيهم وأنهم متصفون بأشياء من صفات الإله أبدا، لكن نعبدهم ليقربونا إلى زلفى فقط، وهذا يستفاد من قوله (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) فهو حصر قلب إضافي؛ يعني ما نعبدهم لعلة من العلل إلا لأجل التقريب، فليس لهم شيء وليس من صفاتهم أنهم يرزقون وأنهم يحيون أو أنهم يميتون أو أنهم يفيضون الخير، وإنما لأجل التقرب، وهذا هو معنى اتخاذ أولئك شفعاء عند الله جل وعلا.
فإذن حصرت المسألة في أن اعتقاد المشركين في أوثانهم وفي أصنافهم وفي أصنامهم من جهة الأرواح الشيطانية، ومن جهة التوجه لها لأجل أن ترفع الحاجات إلى الله جل وعلا، فما كانوا يطلبون منها استقلالا، فالتشفع كان هو ديدنهم، فطلب الشفاعة كان هو ديدنهم كان هو بغيتهم، كان كل واحد عنده في بيته وثن أو صنم يزعم أنه إذا توجه له بالعبادة حلّ روح صاحب هذه الصورة فيها فقَبل الطلب ورفعه إلى مكانه في الملأ الأعلى، يعني أن فائدة الصورة، وجود الصورة في البيت أنها تحل فيها الروح روح صاحب هذه الصورة فتقبل الطلب، وليست هي عندهم أصنام محضة؛ لأنهم أعقل من أن يعبدوا حجرا محضا؛ لكن هم عبدوا حجرا معه الروح فصار أيضا ذلك قدح، صار ذلك أيضا قدح في عقلهم من جهة أنهم توجهوا إلى خشب أو إلى تمر أو إلى حجر، إلى آخره زعما بأنّ الروح تحل فيهم فهو قدح في عقلهم لكن أخص من أن يعتقدوا في صنم مجرد يعني في حجر مجرد ليس فيه حلول الروح لتُناجَى ويطلب منها التوسط، فإذن قول الإمام رحمه الله هنا (ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله) هذا هو حقيقة الوصف.
قال (يقولون نريد منهم التقرب إلى الله، ونريد شفاعتهم عنده) ماذا يريدون؟ التقرب إلى الله، ليسوا ملاحدة، إنما في ألسنتهم ذكر الله جل وعلا، وعندهم صدقة وتعبد، لكن يريدون بذلك التقرب إلى الله، من هذا تعلم جهل طائفة ممن ظنّ أن تعبد المتعبد وصلاته وصيامه وزكاته يمنع من الحكم عليه بالشرك؛ لأنّ أولئك كانوا على دين إبراهيم، يعني لأن المشركين في زمن النبي عليه الصلاة والسلام كانوا على دين إبراهيم، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال «إنما بعثت لأتمم محاسن الأخلاق» هم كانوا على خلق، كانوا على حسن في التعامل وكانوا وكانوا، ولكن لم يكونوا موحدين، فإذن العبرة كل العبرة في التوحيد، وليست في أنهم يحجون أو لا يحجون، يعتمرون أو لا يعتمرون، يتصدقون أو لا يتصدقون، في ألسنتهم ذكر الله أو ليس في ألسنتهم ذكر الله، ليس هذا هو البرهان، لهذا في بعض هذا الزمن تجد أنه لما فشى الجهل بالتوحيد، تجد أن كثيرين إذا وجدوا ومن يتكلم وفي لسانه ذكر الله جل وعلا، أو أنه يقول الحمد لله أو يقول الله أكبر أو يقول ما شاء الله، أو يذكر الله بلسانه أو يتصدق أو يحضر المسجد أو يقرأ القرآن يزعمون أنه مسلم ولو عبد غير الله جل وعلا، وهذا ليس هو المقصود، وإنما هذه الشرائع جاءت بعد التوحيد، فإذا كان التوحيد لم يقم في قلب صاحبه، فلا تقبل هذه الشرائع.
قال (يقولون نريد منهم التقرب إلى الله، ونريد شفاعتهم عنده) وهذه سيأتي بسط الكلام عليها في أثناء الرسالة في مسألة الشفاعة.
قال (مثل الملائكة وعيسى ومريم وأناس غيرهم من الصالحين) هذا نرجئه إلى الدرس القادم.
أنا أريد من هذه الجملة التي مرّت معنا التأصيلية المهمة أن يتوسّع طالب العلم في معرفة أديان العرب في الجاهلية،كيف كانت؟ لأن هذا من العلم المهم الذي به يتضح قيمة التوحيد، تنظر في تفاسير المفسرين حين يتكلمون عن أحوال العرب وشرك المشركين ونحو ذلك، يتعرضون لأحوال العرب، كذلك في الكتب التي ذكرنا، في كتب الحديث إذا مرت مثل الأحوال التي ذكرنا، منهم من يصلي، ومنهم من يتصدق، أظن في حديث أيضا الذي رواه مسلم أظنه عن أبي ذر أنه كان في الجاهلية قبل أن يبعث النبي عليه الصلاة والسلام هكذا لفظه ”كنتُ أصلي ثلاث سنين قبل بعثة رسول الله ﷺ“ فهذه المسائل تقعيدية حتى إذا جاءت شبه المشبهة فيما سيأتي يكون عند طالب العلم فرقان، يكون عنده فرقان بيّن بما تميزت به بعثة النبي عليه الصلاة والسلام ودينُه عن دين المشركين الذين بعث إليهم وقاتلهم وكفَّرهم ولم يقبل منهم صرفا ولا عدلا، فتوسَّع في ذلك وانظر فيه فإنه تقعيد تنتفع به في رد كثير من الشبه التي يشبه بها أعداء التوحيد.
نكتفي بهذا القدر، وأسأل الله جل وعلا لي ولكم العلم النافع والعمل الصالح وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
[المتن]
يقولون نريد منهم التقرب إلى الله ونريد شفاعتهم عنده مثل الملائكة، وعيسى ومريم، وأناس غيرهم من الصالحين فبعث الله محمد ﷺ يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محض حق الله لا يصلح منه شيء لغير الله لا لملَك مقرب ولا لنبي مرسل فضلا عن غيرهما وإلا فهؤلاء المشركون يشهدون أن الله هو الخالق وحده لا شريك له، وأنه لا يرزق إلا هو، ولا يحيي إلا هو، ولا يميت إلا هو، ولا يدبر الأمر إلا هو، وأن جميع السموات ومن فيهن والأراضين ومن فيها كلهم عبيده وتحت تصرفه وقهره .
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
اللهم نسألك علما نافعا وعملا صالحا، وقلبا خاشعا، ودعاء مسموعا، اللهم لا تكلنا لأنفسنا طرفة عين، واغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا ظالمين، اللهم وفقنا إلى ما وفقت به عبادك الصالحين، أما بعد:
فهذه صلة لما تقدم من الكلام على أول هذه الرسالة العظيمة كشف الشبهات، وقد ذكرنا فيما مضى في بيان كلام المصنف رحمه الله أن مشركي العرب كانوا يتعبدون بأنواع من العبادات، كانوا يتصدقون في أنواع من الصدقات العظيمة في الحج وفي غيره، وكانوا أيضا يغتسلون من الجنابة، وكانت المرأة أيضا تتطهر من الحيض، وكانوا يصلون بعض الصلوات على طريقة ما، وكانوا يدعون الله جل وعلا في الضراء وأحيانا في السراء، وكان لهم أنواع من العبادات، ولم يكونوا غير متعبدين أصلا بل كان لهم عبادة وتقرب على الله جل وعلا، ولكنهم أشركوا بالله جل وعلا وعبدوا مع الله جل وعلا غيره؛ اتخذوا آلهة من دون الله جل وعلا أو معه، فتوجهوا إليهم ببعض أنواع العبادة، فاتخذوا اللاتّ وهو رجل صالح كان يلتّ السويق فمات وهو يوزعه على الحاج، فرأوا من صلاحه، فمات فعكفوا على قبره، أو أنها صخرة كان يتعبد عندها ذلك الرجل، فرأوا أن ذلك المكان مبارك فتعبدوا عندها وعظموها وتبركوا بها، وكذلك العزى ومناة وكذلك الأصنام الأخر والأوثان ودّ وسواع ويغوث وبعوق ونسر إلى آخر ما يتصل بعبادات المشركين وتوجهاتهم إلى الآلهة المختلفة.
قرر الشيخ رحمه الله فيما سبق أن التوحيد هو إفراد الله بالعبادة، وأنّ أول الرسل هو نوح عليه الصلاة والسلام وأن آخر الرسل هو محمد ﷺ، وهؤلاء مع بقية الرسل جاءوا بالتوحيد يأمرون الناس بعبادة الله وحده ويبطلون التعلق بالعبادة بغير الله جل وعلا.
بعدما ذكر ذلك ذكر حقيقة شرك المشركين، فقال (ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله، يقولون نريد منهم التقرب إلى الله ونريد شفاعتهم عنده) وهذا سبق بيان صفاته وأن شرك المشركين كان على نوعين:
¨ إما شرك بأرواح الكواكب على حد زعمهم.
¨ وإما شرك بالأصنام التي تحل فيها أرواح الصالحين بحسب زعمهم، أو الأوثان كالقبور ونحوها بحسب زعمهم أنها تتصل أرواحهم بأرواح الموتى فينفعون أو يضرون.
مثل للمعبودين بقوله (مثل الملائكة، وعيسى، ومريم):
أما الملائكة: فإن طائفة من العرب وغير العرب كانت تعتقد في الملائكة أنها بنات الله جل جلاله سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا، ويقولون إن أرواح الملائكة منتشرة فإذا طلب من الملائكة أجابت، والملائكة عندهم لم يكن لها أوثان وأصنام كما جعلوا للكواكب، أو كما جعلوا للموتى أو للصالحين، وإنما أرواح الملائكة عندهم منتشرة، والاتصال بهذه الأرواح يكون بندائها وبعبادتها إذا احتاجت، فتجيبهم الجن إذا نادوا الملائكة، وتغيثهم الجن فيما أقدرهم الله عليه وظنوا أن ذلك من جهة الملائكة، قال جل جلاله ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ(40)قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ﴾[سبإ:40-41]، فكانت حقيقة عبادة الملائكة هي عبادة الجن؛ لأنهم ظنوا ذلك ظنا، قال جل وعلا ﴿وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتْ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ﴾[الصافات:158]، وفي قوله هنا (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا) وجهان من التأويل:
¨ إما أن يكون الجنة هنا الملائكة، والنسب كون الملائكة بنات الله جل جلاله، وسميت الملائكة جِنَّة لما في صفتهم من الإجتنان وهو الاستتار.
¨ والوجه الثاني أن يكون الجنة هنا هم الجن كما قال ﴿مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾([8]) يعني الجن، والجن يقال لهم جِنّة لأنهم مستترون، فيكون حقيقة قول المشركين أنهم جعلوا بين الله جل جلاله وبين الجن نسبا لأنهم جعلوا بين الله وبين الملائكة نسبا.
وفي الحقيقة إنما أوقعهم في ذلك الجن، كما قال جل وعلا ﴿بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ﴾[سبإ:41]، فدل ذلك على أن عبادة الملائكة كانت موجودة وأن اعتقادهم في الملائكة لأجل أن الملائكة أرواح ظاهرة فاستغاثوا بها وطلبوا منها فأغاثتهم الجن فعظم تعلقهم بالملائكة وعظم تصحيح اعتقادهم في الملائكة أنها بنات الله جل جلاله.
المقصود من ذلك أن تعلمَ أن سبب الشرك؛ شرك المشركين بالملائكة هو التعلق بالأرواح الطاهرة، الملائكة أرواح طاهرة بالاتفاق، وذلك عند الأمم جميعا، فجعلوا تلك الأرواح الطاهرة وسيلتهم إلى الله جل جلاله والله جل وعلا بين أن حقيقة عبادة الملائكة إنما هي عبادة للجن لأنهم لما تعلقوا بالملائكة واستغاثوا بها ليست للملائكة في الحقيقة وإنما هي للجن؛ لأن الجن هي التي أضلتهم بذلك كما ذكر في سورة سبإ في الآية التي ذكرتها لكم قوله جل وعلا ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ(40)قَالُوا سُبْحَانَكَ﴾[سبإ:40-41], يعني ننزهك عن جميع ما لا يليق بجلالك وعظمتك، ننزهك عن أن نعبد معك ونعظمك جل وعلا بما أنت أهله ﴿أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ﴾[سبإ:41] تبرؤوا من أولئك ثم قالت الملائكة ﴿بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ﴾[سبإ:41] (بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ) هذه هي الحقيقة، وإذا نظرت في حال الذين تعلقوا بالصالحين أو تعلقوا بالموتى، فإنهم لهم شبه من جنس شبه المشركين في عبادتهم للملائكة وعبادتهم للاتّ أو لودّ وسواع إلى آخر أوثانهم، وذلك أنهم يخاطبون ذلك الميت فإذا خاطبوه ظهر لهم إما في سورة أو سمعوا صوته الذي يعلمونه، فإذا سمعوا صوته ظنوا أن هذا هو غوث ذلك الآدمي، أو ظنوا أن المخاطِب لهم الملائكة، أو المجيب لهم الملائكة، فعظم تعلقهم بتلك الأرواح، وفي الحقيقة إنما كان ذلك من جهة الجن؛ لأنّ شياطين الجن تعهد أبوهم إبليس بأن يُضِلَّ ذرية آدم إلا القليل، قال جل وعلا مخبرا عن قول إبليس ﴿لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا ﴾[الإسراء:62]، وقال جل وعلا ﴿إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ﴾([9]) فاستثنى أهل الإخلاص الذين خَلَصوا من الشرك، فأخلصوا عملهم لله جل وعلا.
فإذن حقيقة الشرك متماثلة، ليس ثَم فرق بين الشرك في الملائكة والشرك بالأموات والشرك بروحانية الكواكب، الحقيقة واحدة وهي أنه تعلقٌ من بني آدم بأرواح غائبة، وهذه الأرواح الغائبة عظُمت الشبهة بها لمَّا كلمتهم، والشياطين؛ الجن لهم القدرة على التكليم، وعلى أن يتشبهوا بصورة ابن آدم، كما جاء إبليس للمشركين في سورة رجل نجدي، ويسمع الآدمي صوتا يظنه صوت آدمي وهو صوت جني؛ يقلد صوت الآدمي، ومعلوم أنّ مثل هذه الغائبات إذا تعلق بها المرء وقع في إضلال نفسه؛ لأنه تعلّق بشيء ما يدري ما حقيقته، والمعلوم المتقرر عند أهل الشرائع جميعا وعند أهل العقول الصالحة؛ العقول السليمة أنّ الميت لا تخاطب روحه روح الآدمي، حتى في هذا العصر فيما يسمونه تحضير الأرواح في أرواح الموتى ونحو ذلك هذا إنما من جهة شياطين الجن يخدمون ذلك الساحر المحضر للأرواح، فإذا خدموه بعد خدمته لهم وتعبده لهم، فإنهم يتشكلون له بالصورة التي يريد ويسمعونه الصوت الذي يريد، ومعلوم أن أعمار الجن أطول من أعمار الإنس كثيرا بل الموت فيهم بالنسبة لابن آدم قليل، لهذا قال جماعة من الجن لأحد العرب وسمع صوتهم قالوا له:
لقد فُضِّلْتُم بالأكل فينا ولكن ذاك يعقبكم سقاما
يعني أن حقيقة الآدمي غير حقيقة الجني، الجني خُلق من نار وابن آدم خلق مما وصف لكم، فالجني له مقدرة، فالتعلق بالملائكة، التعلق بالصالحين، التعلق بالموتى، كان بعد أشياء سمعوها، كان بعد أشياء أجيبت لهم، فاستغاثوا بالميت فأغاثهم، استغاثوا بالملائكة فأغاثتهم فيما لا يقدر عليه إلا الله جل وعلا، وكان في الحقيقة أن الذي أعطاهم الجن، وأن الذي يسّر لهم ذلك أو أغاثهم إنما هم الجن، وذلك ليوقعوا الشرك والبلاء العظيم فيهم بعد إذن الله جل جلاله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في أكثر من موضع في كتبه: إن الشياطين شياطين الجن تتشكل بصورة الآدمي، يقول حتى إنها تتشكل بصور الأحياء والأموات، ومرة وقع بعض أصحابي في شدة؛ طائفة من تلامذة ابن تيمية يقول وقعوا في شدة فكانوا بعيدين عني، قال فظهرت لهم فيما قالوا فاستغاثوا بي، فلما أتوني وأخبروني الخبر قالوا استغثنا بك فأغثتنا فقال إني لم أبرح مكاني، ذاك شيطان تمثل في صورتي.
وهذا يحصل أيضا عند كثيرين حيث يزعمون أن فلانا رئي في دمشق، أو رئي في مصر، أو رئي في بغداد، أو رئي في المدينة وفي الوقت نفسه رئي حاجا في مكة ورئي معتمرا، ومن المعلوم القطعي عند أهل العقول الصحيحة أنّ الجسم الواحد لا يكون في مكانين متباعدين في الزمن نفسه، ومن قال إنه رآهم هنا ورآهم هنا فهو صادق؛ رآهم في المدينة ورآهم في مكة في الوقت نفسه، يقول رأيناه حاجا، وهل البلد الفلاني يقولون يوم عرفة رأيناه عندنا، فيكون هؤلاء صادقون وهؤلاء صادقون ولكن جاء الاشتباه من جهة تمثل الجني بالإنسي، فمن أخبر بالرؤية فهو صادق، ولكن لا يمكن أن يكون ابن آدم في مكانين متباعدين في وقت واحد، ولكن الجني تمثل بصورته ليضل الناس.
إذن فهذا الباب باب الشرك يدخل منه شياطين الجن الذين قال إمامهم ومقدَّمهم لله جل وعلا ﴿لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا﴾[الإسراء:62]، فالجن أعني شياطين الجن مهمتهم أن يقع بهم الابتلاء في هذا الأمر، وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي ﷺ قال«قال الله تعالى إني خلقت عبادي حنفاء فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم».
قال بعدها (وعيسى ومريم) يعني مثل عيسى ومريم، عيسى عليه السلام ومريم أمه وقع بهما الشرك واتخذ إلهين مع الله جل وعلا قال سبحانه وتعالى في سورة المائدة ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ(116)مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[المائدة:116-118]، وهذا تبرُّؤ من عيسى عليه السلام وإثبات من الله جل وعلا أنه عبد واتخذ إلها مع الله جل وعلا، فطائفة من الأنبياء والمرسلين ضل أتباعهم فاتخذوهم آلهة من جهة الغلو والإطراء، قال عليه الصلاة والسلام «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله» قال عيسى عليه السلام لاتباعه ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾[المائدة:72]، فالأنبياء والرسل تحذر من هذا الشرك وتنهى عنه بل رسالاتهم في هذا الأمر العظيم، وإخلاص القلب لله وتوجهه لله وحده هو زبدة الرسالات الإلهية وهو مدار بعثة الأنبياء والمرسلين، فعيسى ومريم أتخذا إلهين من دون الله جل وعلا، فكيف أُتخذ عيسى إلها؟ الألوهية غير الربوبية أتخذ معبودا بأن يستغاث به بأن يطلب منه بأن يسأل بأن يدعا، والله جل وعلا كفر النصارى باتخاذهم عيسى إلها وجعلهم عيسى ابنا لله أو ثالث ثلاثة، ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾[المائدة:73]، ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾[المائدة:72]، وهذا كله لأجل أنهم اتخذوا المسيح وأمه إلهين، ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ﴾[المائدة:75] فالآيات في القرآن في هذا الأمر كثيرة، الذي حصل في هذه الأمة أنهم ما نظروا في كيف صار عيسى عند أتباعه المنحرفين عن سبيله كيف صار إلها؟ اتخاذ عيسى إلها من جنس اتخاذ الأوثان آلهة، ومن جنس اتخاذ الصالحين هذه الأمة آلهة، فالذين اتخذوا عبد القادر الجيلاني إلها أو معبودا من جنس تلك الشبهة، الذين اتخذوا العيدروس إلها ومعبودا هو من جنس تلك العبادات، الذين اتخذوا البدوي أو الحسين أو زينب أو سكينة أو غير هؤلاء من جنس شرك أولئك؛ لأنه تعلقٌ بالأرواح واعتقاد أن هؤلاء لهم مقامات عظيمة عند الله جل وعلا، وحصل لهم ما يريدون في بعض استغاثاتهم من جهة الجن، فصارت الشبهة في الشرك في هذه الأمة من جنس الشبهة التي أحدثت حصول الشرك من جنس الشبهة عند المشركين فضل المتأخرون بما ضل به الأولون، والقرآن من أولهم إلى آخره في رد هذا وبيان ضلال المشركين وبعدهم عن ما يرضي الله جل جلاله وما يحبه سبحانه وتعالى.
قال (وأناس غيرهم من الصالحين) عُبد صالحون كثير، وعبادة الصالحين من جهة أنّ أرواح الصالحين طاهرة لها المقام العظيم الله جل جلاله، وأنّ الله جل وعلا لا يرد لهم طلبا، يظنون أن مقام الصالح عند الله من جنس مقام المقرب عند الملوك، والملوك؛ ملوك الأرض إذا صار عندهم من هو مقرب ويحترمونه ولهم فيه مصلحة يكون إجابة لطلبه، إذا توسط وطلب أجابوا طلبه لأنهم يرهبونهم لأنهم يريدون أن يبقى على صلته بهم ولأن لهم فيه مصلحة، فاعتقاد المشركين في الصالحين من جنس هذا الاعتقاد، ظنّوا أن العباد مع الله جل وعلا من جنس الوزراء عند الملوك أو المقربين عند الملوك، فجعلوا هذا هو هذا، والله جل وعلا في سورة سبإ أبطل ذلك بقوله ﴿قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ(22)وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾[سبإ:22-23]، وقال جل وعلا في سورة الإسراء ﴿قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا(56)أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾[الإسراء:56-57]، فالصالحون عند الله جل وعلا يرجون الرحمة ويخافون العذاب، والله جل وعلا هو مالك الملك.
فإذن الشبهة التي من أجلها أشرك من أشرك بالصالحين من جهة التعلق بالأرواح، والظن بأن هذه الأرواح مقربة فإذا كانت مقربة عند الله فإنها إذا سئلت فتسأل الله جل وعلا فيجيب الله طلبها ولا يرد طلبها ولهذا من الأدعية البدعية أن يقول القائل أسألك بحرمة نبيك أو بحرمة الولي الفلاني أو بجاه أهل بدر عندك أن تعطيني كذا وكذا، والله جل جلاله ليس لأحد عنده حق بحيث لا يرد ما سأل، حتى الأنبياء عليهم السلام ربما رُدّت أسئلتهم وردت دعواتهم في حياتهم، فالله جل وعلا رد دعاءً إبراهيم ردّ دعاء لإبراهيم وردّ دعاء لنوح إن ابني من أهلي وردّ أيضا دعاء للنبي عليه الصلاة والسلام «سألت ربي ثلاثا فأعطاني واحدة ومنعني اثنتين»ونحو ذلك، فدعواتهم في الحياة على رجاء الإجابة هم أعظم من تجاب لهم الدعوة لكن ليس لأحد المقام عند الله جل وعلا بحيث أنه إذا طلب فإنه لا يُرد سؤاله خلاف ما عليه كل [....] بالقبور والصالحين والأرواح المختلفة.
قال (يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم) وهذا فيه أن مشركي العرب كانوا على أثر من الرسالة، وأنهم لم يكونوا بلا رسول قبل محمد ﷺ بل كانت رسالة إبراهيم عليه السلام فيهم، لهذا كان فيهم بقايا من دين إبراهيم كما ذكرنا من أمور الفطرة من الغسل من الجنابة وغسل المرأة من الحيض والصدقات وبعض الأدعية والصلوات ونحو ذلك، (فبعث الله محمدا ﷺ يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم) قول الشيخ رحمه الله (يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم ) أخذه من قوله جل وعلا ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(120)شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(121)وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ(122)ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ﴾[النحل:120-123]، فالنبي عليه الصلاة والسلام يجدد للعرب دين أبيهم إبراهيم، والله جل وعلا قال ﴿لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ﴾[يس:6]، وقوله جل وعلا (لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ)، (مَا أُنذِرَ) فيها وجهان من التفسير في هذه الآية:
¨ إما أن تكون موصولة يعني لتنذر قوما الذي أنذر آباؤهم فهم غافلون عما أنذر آباؤهم.
¨ والثانية (مَا) نافية (لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ) يعني لتنذر قوما لم ينذر آباؤهم، والمقصود يكون هنا بآبائهم الآباء القريبون المقصود الآباء القريبون؛ لأن أولئك غفلوا عن دين إبراهيم وملة إبراهيم إلا بقايا من العرب أفراد كانوا يسمون الحنفاء اتبعوا ملة إبراهيم في كثير منها.
فإذن لفظ التنديد هنا لأجل ما ذكرت، وهذا يدل على أن مشركي العرب كانت لهم رسالة قبل محمد ﷺ، وذلك ظاهر بين والحجة عليهم قائمة به، ووجود الكعبة عندهم وبإقرارهم أنهم من نسل إبراهيم عليه السلام، ورسالة إسماعيل ورسالة إبراهيم عليهما السلام فيهم، والنبي عليه الصلاة والسلام جدد لهم دينهم.
قال (فبعث الله محمد ﷺ يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم) دين إبراهيم هو التوحيد والقنوت لله جل جلاله قال سبحانه وتعالى في سورة الزخرف ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ(27)وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾[الزخرف:26-28] (عَقِبِهِ) من نسل إسحاق، و(عَقِبِهِ) أيضا من نسل إسماعيل وهم العرب، (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) يعني إلى هذه الكلمة فدين إبراهيم عليه السلام هو التوحيد والبراءة من الشرك والإخلاص العمل والدين لله جل جلاله، وهو الذي بعث الله به محمدا ﷺ، كما قال ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ﴾[النحل:128]، وكما قال جل وعلا ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ﴾[الأنعام:90] في سورة الأنعام.
المقصود من ذلك أن العرب قامت عليهم الحجة، وبُيِّن لهم الأمر ببعثة إبراهيم عليه السلام، ومحمد ﷺ بعث مجددا لهم دين أبيهم إبراهيم، ولكن الشريعة مختلفة فإبراهيم عليه السلام جاء بدين الإسلام العام، ومحمد ﷺ ([10]) جاء بدين الإسلام الخاص.
قال (ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محض حق الله، لا يصلح منه شيء[لغير الله] لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل فضلا عن غيرهما) يخبرهم محمد ﷺ أن هذا التقرب وهو التقرب إلى الأرواح، التقرب إلى الصالحين، التقرب إلى الأنبياء، التقرب إلى الملائكة، سؤال أولئك الشفاعة، هذا التقرب والاعتقاد فيها، قال (والاعتقاد) يعني والاعتقاد في تلك الأرواح أنها تنفع أو أنها تضر أو أنها تملك شيئا من الأمر، قال ذلك( محض حق الله)، محض حق الله يرجع إلى المسألتين:
الأولى: التقرب.
والثانية: الاعتقاد.
لأن هناك من يعتقد ولا يتقرب، وهناك من يتقرب ويعتقد، فكل المسألتين محض حق الله جل جلاله، فنفهم من هذا أن من اعتقد الشرك ولم يفعله فإنه مشرك كالذي فعله؛ لأن الاعتقاد لا بد أن يكون -الاعتقاد بأن هذه الروح تنفع أو تضر أو أن أحدا يغيث فيما لا يقدر عليه إلا الله جل وعلا- هذا يجب أن يكون في الله جل وعلا لا يعتقد في أحد أنه يملك من الأمر شيئا، ولا أنه يملك الشفاعة كما قال جل وعلا ﴿قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا﴾[الزمر:44]، الذي يشفع الشفاعة مِلك لله جل وعلا هو الذي يتكرم بها وهو الذي ينيلها من يرضى عنه جل وعلا.
(لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل فضلا عن غيرهما) هذه رسالة محمد عليه الصلاة والسلام أنّ العبادة لله وحده، وأن التقرب إنما هو لله وحده لا استغاثة فيما لا يقدر عليه إلا الله إلا بالله، لا استغاثة بالأموات لا استغاثة بالأرواح لا استغاثة بالغائبين كذلك لا عبادة بأي نوع من أنواع العبادة إلا لله جل جلاله، فتتعلق القلوب بالله وحده، ويبطل أمر الجاهلية بالتعلق بغير الله جل جلاله.
قال (وإلاّ فهؤلاء المشركون يشهدون أن الله هو الخالق وحده لا شريك له، وأنه لا يرزق إلا هو، ولا يحيي إلا هو، ولا يميت إلا هو ولا يدبر الأمر إلا هو، وأن جميع السموات ومن فيهن والأراضين ومن فيها كلهم عبيده وتحت تصرفه وقهره) كما ذكرنا مرارا وتعلمون أنّ المشركين يقرون بالله جل وعلا بالربوبية؛ يعني أكثر أفراد الربوبية يثبتها المشركون لله جل جلاله، فإذا سألت المشرك من العرب من أهل الجاهلية أو من غيرهم من الذي يحيي؟ فسيقول الله، من الذي يميت؟ فسيقول الله، من الذي يدبر الأمر؟ فسيقول الله، من الذي يرسل الغيث؟ فسيقول الله، من الذي يجير ولا يجار عليه؟ فسيقول الله، من الذي يعافي من المرض؟ فسيقول الله، فإذن هذه الأفعال على جهة الحقيقة إنما هي لله جل وعلا، المشركون يعتقدون ذلك، ومع هذا الاعتقاد وكونهم يتصدقون ويدعون ويتقربون إلى بأنواع من القربات ويغتسلون من الجنابة تغتسل المرأة من الحيض ويصلون الأرحام ويتفاخرون بذلك، مع ذلك لم يكونوا مؤمنين ولا مسلمين لم؟ لأن هذا لم يبتلوا به إنما اُبتلوا بأن يكون الله جل جلاله هو المعبود وحده، وهم عبدوا مع الله غيره فمن عبد الله غيره لم تنفعه صلاته ولم ينفعه صيامه، وإن كان زائدا متعبدا ولم ينفعه إقراره لله بالربوبية، وقد قال جل وعلا عن أكرم الخلق محمد ﷺ ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ﴾ يا محمد ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ﴾[الزمر:65] الله جل وعلا ليس بينه وبين عباده نسب، وليس بينه وبين عباده مجاملة، وليس بينه وبين عباده رعاية، وإنما هو جل جلاله القهار الجبار سبحانه الذي يستحق العبادة وحده، فلو أشرك أكرم الخلق عليه لحبط عمله ولكان من الخاسرين، فكيف بمن هو دونه ؟ كيف بمن هو دون محمد ﷺ ؟ لاشك أنهم لو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ولبطل ما كانوا يعملون، قال جل وعلا عن المشركين في سورة [الفرقان] ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾[الفرقان:23]، لهم أعمال ولهم طاعة ولهم أنواع خير، ولكن لما لم يوحدوا الله جل وعلا؛ لم يعبدوا الله وحده دونما سواه، لما توجهوا إلى تلك الأرواح، لما لم يجعلوا الأمر كله لله جل جلاله، فإنهم صاروا مشركين لم ينفعهم ذلك لم يعصم دماءهم ولا أموالهم، وإنما كانوا مشركين مكذّبين للرسل جميعا.
وهذه في الحقيقة مسألة عظيمة وهذا الأمر، والله المستعان بالناس إلى أن كثيرين إذا سمعوا من يقول لا حول ولا قوة إلا بالله، أو سمعوا من يقول ما شاء الله، أو سمعوا من يقول الحمد لله سموه مؤمنا ولو كان على غير عمل أصلا، بل لو رأوه مجاهدا في سبيل الله كما يقولون، رأوه يقارع المشركين في الميدان، رأوه يقرع الكفار، رأوا عنده من الأعمال والصالحات أمرا عظيما، ونظروا في أمره بهذا الاعتبار عظموه تعظيما وجعلوه من الأئمة ومن المقتدى بهم، وقد يكون في حقيقة الأمر مشركا بالله جل وعلا، إما من جهة الاعتقاد يعتقد في أولئك الصالحين أو لا يكفر بالطاغوت، أو أنه يشرك في الحقيقة؛ يتوجه للموتى بأنواع القربات.
المسألة هذه فيها غربة في هذا الزمن وفي كل زمن، وأصبحت مسألة التوحيد وأصبح هذا الأمر في هذا الزمن محل نظر عند الأكثرين، وصار الشرك إنما هو نفي وجود الخالق جل جلاله، من هو الكافر؟ عند طائفة هو الملحد الذي لا يؤمن بوجود الله/ وجعلت طائفة النصارى من المؤمنين، والصابئين من المؤمنين؛ لأنهم يعبدون الله على طريقتهم، وآخرون قالوا بتوحد الأديان السماوية، وآخرون يردون على من قال بتوحيد الأديان السماوية، ولكنهم إذا نظروا إلى شرك المشرك وتعلقه بالصالحين وما يحصل عند المشاهد والقبور من أنواع عبادة غير الله، أو ما يفعله الضالون من تحكيم القوانين واعتقاد أنها جائزة أن يحكم بها ولم يجعلوا ذلك من المخرج عن دين الإسلام وهذا من الغربة المتحققة في هذا الزمن والله المستعان.
ولهذا يجب على طلاب العلم أن يكونوا متبصرين بهذا الأمر أعظم تبصر، وتبصرك فيه لا يعني الحكم على الأفراد، الحكم على المعيّنين، الحكم ذاك بحث فقهي يرجع فيه إلى أهله يحتاج إلى فتوى لكن اعتقادك بالتوحيد واعتقادك أن الشرك مردود مهما كان من جاء به، وإبطال منزلة المشرك مهما كان فهذا نبينا ﷺ يقول الله جل وعلا عنه ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾[الزمر:65]، واليوم تجد من يقول بحال بعض ما يضر شركهم، هؤلاء لا تتكلم في هذه الأمور، هؤلاء عندهم من المقامات العظيمة كذا وكذا وكذا، والله جل وعلا يقول عن نبيه ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ﴾[الزمر:65]، وهؤلاء يقولون إن أولئك الذين لهم أعمال صالحة لما أشركوا لا يضرهم ذلك الشرك ولا عبادة غير الله جل جلاله ولا ما يعتقدون في غير الله جل جلاله، وهذا لا شك يحتاج منك إلى الاهتمام بهذا الأمر اهتماما عظيما.
بعد ذلك ذكر الشيخ رحمه الله أدلة على ذلك؛ يعني على أن الله جل جلاله متوحد في الربوبية عند المشركين؛ يعني اعتقادهم في توحيد الربوبية، قال (فإذا أردت الدليل على أن هؤلاء قاتلهم رسول الله ﷺ يشهدون بهذا فاقرأ قوله جل وعلا ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾[يونس:31]، وقوله ﴿ قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(84)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ(85)قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ(86)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ(87)قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(88)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ﴾[المؤمنون:84-89]، وغير ذلك من الآيات) هذه من الأدلة الظاهرة على أن الموحد لله في الربوبية لا ينفعه توحيده إلا إذا وحد الله في الإلهية توحيد الله بأفعاله لا ينفع، إلا لمن وحد الله جل وعلا بأفعال العبد، إذا وحدتَ الله بأفعالك نفعك توحيدك لله جل وعلا بأفعاله؛ يعني الموحد لله في الألوهية ينفعه توحيد الربوبية ويعظم؛ لأنّ توحيد الربوبية له آثار عظيمة وواجب من الواجبات لأنه أحد أنواع التوحيد، لكن من وحّد الله في الربوبية ولم يوحّده في العبادة فلا ينفعه ذلك، وإنْ كان يتكلم في ذلك بعلوم عجيبة وتفاصيل غريبة، حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وحتى يعتقد أنّ عبادة ما سواه باطلة، وحتى يؤمن بالله ويكفر بالجن والطاغوت بأنواع ذلك.
نقف عند هذا، هذه مقدمة لما يأتي إنْ شاء اللهُ تعالى.
[الأسئلة]
1/ يقول عبادة الهوى من الشرك بالله، فكيف نجمع بين هذه العبارة وقولك أن الشرك راجع إلى أرواح الصالحين وأرواح الكواكب فقط؟
الحقيقة بعض الأسئلة ما تكون دقيقة.
عبادة الهوى من التأليه؛ من تأليه، يعني تؤله، ولكن ليس كل طاعة للهوى شرك أكبر أو شرك أصغر قد تكون طاعة الهوى معصية فقط، فإذا صارت طاعة الهوى في عبادة غير الله مع ظهور الحجة حجة التوحيد صارت هنا شركا أكبر، وذلك برجوعها إلى عبادة غير الله جل جلاله ﴿أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا﴾[الفرقان:43]، تأليه الهوى، أنواع المعصية من طاعة الهوى ولكن لا تسمى شركا.
2/ متى يكون إيقاف الدرس لأنه قرب وقت الاختبارات، ويقترح أن يكون هذا الدري آخر درس؟
لا الدرس القادم لأني أظن أن الاختبارات تنتهي يوم (15) يعني بدايتها، الأسبوع القادم يكون عندنا إن شاء الله دروس.
3/ ما هو الإسلام العام الذي ذكرت أن إبراهيم أتى به، وما الإسلام الخاص الذي أتى به محمد ﷺ؟
الدين عند الله جل جلاله الإسلام كما قال سبحانه ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾[آل عمران:19]، والله جل وعلا لا يرضى إلا الإسلام ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ﴾[آل عمران:85]، فآدم عليه السلام كان مسلما وجميع أرسل كانوا مسلمين وجاءوا بالإسلام العام، والإسلام العام معناه التوحيد والاستسلام لله جل وعلا بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله. وهذا هو الذي تشترك فيه جميع الرسل، والإسلام الخاص المقصود به ما شمل الاستسلام ذلك، ما شمل الإسلام الذي هم للتوحيد والعقيدة والشريعة أيضا التي جاء بها محمد ﷺ.
وهذا الكلام الإسلام العام والخاص تجده في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع كثيرة، وفي أوائل الفتاوى تجد ذلك ماثلا، يعني الإسلام الخاص هو العقيدة والشريعة التي جاء بها محمد عليه الصلاة والسلام، والإسلام العام هو الذي لا يرضى الله جل وعلا من أي أحد من الخلق حتى قبل محمد ﷺ إلا أن يكون مسلما ذلك الإسلام العام ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا﴾[آل عمران:83].
3/ من تقرّب إلى الله بدون اعتقاد، فما حكمه في الإسلام؟
هو مجنون كيف يتقرب بدون ما يعتقد يعني يتحرك حركات وهو لا يعتقدها، ما الذي حركه؟ ما يمكن حركة تصدر من عاقل إلى بحركة قلب، إرادة القلب هي المحركة محبة القلب للشيء وإرادته هي المحركة، معلوم أنه لا يحصل أي عمل من الأعمال إلا بشيئين:
¨ بإرادة متميزة خاصة بهذا العمل.
¨ وقدرة تامة.
إذا صار عنك لأي عمل تريده إرادة واضحة متميزة وعندك قدرة حصل العمل، وأما إذا تخلفت الإرادة وثَم قدرة لم يحصل العمل، حصل عندك قدرة وليس ثَم إرادة ما حصل العمل أصلا، فإذا حصل عمل ما من المكلف علم أنه أراده وكلن قادرا عليه فأحدثه.
إذا عمل عملا وصار غير مؤاخذ به:
¨ إما أن يكون من جهة أن إرادته لم تكن متمحضة؛ يعني إما أن يكون مجنون أو ساهي أو غافل أو نائم إلى آخره من عوارض الأهلية التي تكون، يعني لا يرفع معها الحكم التكليفي.
¨ وإما أن يكون من جهة عدم إرادته للفعل، وأما القدرة فكانت من جهة الإكراه، والمكره أيضا معروف عنه الحكم التكليفي في أكثر المسائل.
5/ الذين يحضّرون الأرواح هل هم كفار؟ وهل يختلفون عن السحرة؟
تحضير الأرواح هذا باب واسع، يُزعم أنه يحضرون الأرواح في الشرق والغرب، وتحضير الأرواح يأتي واحد مثلا ويقول لك أريد أن أرى أبي وأسمعه وأسأله، فيُحضر له روح أبيه فينظر تارة إلى شكل أبيه شكل روح لا شكل جسم، وتارة يسمع صوت أبيه دون رؤية، يسمع صوت أبيه المعروف، وهذا يكون من جهة الشياطين، هو تحضير للأرواح، لكن لأرواح الشياطين التي تعلم ذلك من قديم.
6/ هل الذي يخاف من الجن ومن أذيتهم يعتبر مشركا؟
هذا فيه تفصيل، الخوف الطبيعي لا حرج للمرء فيه، لكن إذا خافهم خوف السر أنْ يصيبوه بشيء سرا بقدرتهم عليه وبقدرتهم على ذلك؛ أن يميتوه بدون أسباب بشيء سري كما يقدره عليه الله جل وعلا هذا هو الشرك، أما الخوف الطبيعي من أن يضروه فهو ليس بشرك؛ الخوف الطبيعي، لكن الخوف الطبيعي يكون له أسبابه الظاهرة، لكن هو يخاف هكذا من دون شيء، إنما خوف من أراح الجن بدون أسباب ظاهرة تدل على ذلك، هذا لا شك أنه قد يكون شركا أصغر، وقد يكون شركا أكبر بحسب الحال، والشرك الأكبر في الخوف هو خوف السر؛ يعني أن يخاف أن يصيبه ذاك سرا بما لا يقدر عليه إلا الله جل وعلا.
7/ هل قصة صنفي إساف ونائلة صحيحة أم لا؟
مذكورة في السير في كتب السير معروفة.
7/ هذه مقولة لشيخ الإسلام نريد توجيهها؟
لا بد أن يأتي بالكتاب الذي قرأ فيه هذه المقولة.
8/ هناك من الصالحين من يكون في دياره في يوم عرفة ويُرى في عرفة في نفس الوقت، وإذا سئل عن ذلك يقول نعم ذهبت إلى مكة فكيف يكون أحدهم جِنِّي علما بأنه يثبت الذهاب إلى مكة؟
هو إذا أثبت هل يُصدَّق، يحكى أن ثلاثة من هؤلاء الذين يزعمون أنهم يذهبون في وقت قصير مع خادم لهم غلام، فأحضر لهم طعاما فأكلوه كلَّه ولم يبقوا له شيئا، وبقيت الفاكهة، فقالوا بعدما شبعوا نترك الفاكهة إلى الصباح، وهذا الغلام ما دَعَوه ليأكل ولا أبقوا له شيئا، فلما كان بالليل جاء ذاك تناول الفاكهة كلها لأنه جائع، فلما أتى الصباح أتى الغلام لهؤلاء المشايخ من جنس هذا الذي يقول أنا ذهبت إلى مكة وهو في دياره، اجتمعوا فصار كل واحد يُظهر فضيلته.
قال أحدهم أنا اليوم -هم كانوا أظن في الشام بحسب القصة موجودة في بعض الكتب- قال أحدهم: أنا صليت الفجر اليوم وصليت الفجر الليلة في مكة في مقابلة الكعبة.
وقال آخر: أنا صليت اليوم في مسجد رسول الله ﷺ.
والآخر أراد أن يفضلهم فأبعد قال: أما أنا فصليت الفجر اليوم في مسجد كذا في المغرب.
وهذا الغلام ينظر إليهم وهم يريدون أن يقنعوه بذاك أو بعضهم يقنع بعضا، فلما انتهوا من هذا، قالوا: يا غلام هات الفاكهة. فقال: الفاكهة سرقت البارحة. فقالوا: لِمَ لم تطلبنا؟ فقال: أحدكم في مكة، والثاني في المدينة، والثالث في كذا، ناديت، ناديت فما جاءني أحد.
المقصود أن هؤلاء يُختبرون فإذا اختبروا بان صدقهم اختبارهم بالدنيا، تختبرهم بالدنيا، أما وجود جسم في مكانين في وقت واحد فهذا محال.
9/ لماذا كانت عقوبة قوم نوح بسبب فعل الفاحشة؟
لا قوم نوح عوقبوا بسبب الشرك بالله، أظنه يقصد قوم لوط لكن المكتوب قوم نوح.
10/ هل إذا طلب إنسان الدعاء من إنسان آخر وذلك بنية أن الذي طلب منه الدعاء دعوته مجابة بخلاف الأول، هل ذلك من الشرك؟
طلب الدعاء من المخلوق جائز في أصله إذا كان ذلك المخلوق حيا يقدر على الدعاء، وجاء في السُّنن في حديث يحتج به أهل العلم وإنْ كان في إسناده ضعيف أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لعمر «لا تنسنا يا أخي من دعائك»، وثبت أيضا في صحيح مسلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال عن أويس القرني «من استطاع منكم أن يدعو له فليفعل»، وهذا يدل على أنّ جنس الطلب طلب الدعاء من الحي جائز، والنبي عليه الصلاة والسلام طلب منه الصحابة الدعاء فدعا لهم.
لكن هناك قول لشيخ الإسلام بن تيمية وهو أن طلب الدعاء؛ طلب الحي الدعاء من الحي تركه أولى، إلا في حال أن يكون من طلب من الآخر يأمل نفعه ونفع الداعي معه، يقول إذا كان الطالب يأمل نفع الداعي ونفع المدعو له جميعا جاز، لكن إذا كان يطلب نفعه وحده في اعتقاد في ذاك المسؤول، فإنّ هذا تركه أولى.
وقول السائل هنا من دعوتهم مجابة هذه الكلمة دعوة فلان مجابة، أو فلان من مجابي الدعوة، المقصود منها الغالب ليس المقصود منها أنه لا يدعو بدعوة إلا أن يجاب، المقصود منها أكثر أموره؛ يعني إذا دعا أجيب في أكثر ما يدعو به، وإلاّ كما ذكرت لك فإن الأنبياء وهم من مجابي الدعوة؛ بل هم أفضل من مجابي الدعوة من أقوامهم رُدت بعض دعواتهم كما ذكرت، فإجابة الدعاء منوطة بأسباب شرعية وقدرية ولله جل وعلا الحكمة البالغة.
قد روى ابن جرير رحمه الله في تهذيب الآثار وفي غيره أيضا أنّ حذيفة لما سئل من قبل بعضهم أن يدعو حذيفة لذاك فدعا له، ثم سئل مرة فنفض يديه وقال أنبياء نحن؟ إنكار بتكرر السؤال من هو دون الأنبياء، طلب الدعاء ممن هو دون الأنبياء هذا ظاهر.
فالاعتقاد في فلان أنه مجاب الدعوة يسأل، أدعو لنا يا فلان، هذا قد يكون من أسباب الاعتقاد فيه بعد مماته فإذا سئل مرة مرتين ونحو ذلك، أما أن يجعل فلان يقال له دائما أدعو لنا يا فلان هذا غير طريقة السلف.
11/ أليس الإقرار بتوحيد الربوبية يستلزم الإقرار بالألوهية، فلماذا لم يؤمن المشركون بتوحيد الألوهية؟
نعم، توحيد الربوبية يلزم منه أن يوحد المرء في الإلهية، هذا لازم قطعي، لكن أولئك ما التزموه، ولذلك في القرآن جعل جل وعلا من البراهين الدالة على توحيد الألوهية إقرار المشركين بتوحيد الربوبية:
كما جاء في الآية -آية يونس التي ذكرنا- قال جل وعلا ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾إلى قوله ﴿فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ﴾ يعني مرتِّبا على قولهم على تلك الإجابة ﴿فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾[يونس:31]، يعني الشرك.
وقال جل وعلا في سورة الزمر ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾[الزمر:38].
وفي سورة النمل قال جل وعلا ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ(60) أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾[النمل:60-61] إلى أن قال ﴿أَإِلََهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾[النمل:64].
فدليل وجوب توحيد الله جل وعلا في العبادة أنه جل وعلا هو الواحد في الربوبية وأنه لا رب معه ولا رب سواه سبحانه وتعالى، فمن أيقن بذلك على الحقيقة فإنه يقوده إلى توحيد العبادة، لكن ما قاد أكثر العرب وإنما قاد ذاك من آمن بالنبي ﷺ، والأكثرون أعرضوا عن تلك الحجة.
توحيد الإلهية متضمن بتوحيد الربوبية، وتوحيد الربوبية لمن نظر فيه وعقل مستلزم لتوحيد الإلهية، تنظر إلى السموات من خلقها، تنظر إلى الأرض من خلقها، إلى نفسك من خلقك، إلى من حولك كذا، فليس ثم جواب إلا الله جل وعلا، دليل حتمي ضروري، لا يستطيع عاقل أن يخرج منه فهو متجرد من الهوى لا يستطيع أن يخرج منه دليل حتمي على أن الله جل وعلا هو الرب سبحانه وتعالى.
إذا كان كذلك، وأن الخلق لم يخلقوا شيئا وإنما هو جل وعلا الخالق وحده وهو الذي يملك الأمر وحده فيجب أن تتعلق القلوب به جل وعلا وحده دونما سواه، وأنْ يكون الحكم إليه جل وعلا دون ما سواه في العقيدة وفي الشريعة.
نكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
¹
[المتن]
فإذا أردت الدليل على أن هؤلاء قاتلهم رسول الله ﷺ يشهدون بهذا فاقرأ قوله جل وعلا ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾[يونس:31]، وقوله ﴿قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(84)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ(85)قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ(86)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ(87)قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(88)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ﴾[المؤمنون:84-89]، وغير ذلك من الآيات.
فإذا تحققت أنهم مقرُّون بهذا وأنه لم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله ﷺ، وعرفت أن التوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة هو الذي يسميه المشركون في زماننا (الاعتقاد) كما كانوا يدعون الله سبحانه ليلا ونهارا.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله حق الحمد وأوفاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، أما بعد:
فأسأل الله جل وعلا لي ولكم العلم النافع والعمل الصالح والقلب الخاشع، وأن يستعملنا فيما يحب ويرضى، وأن يقينا فتنة الدنيا وفتنة الممات، اللهم ثبتنا على دينك حتى نلقاك.
هذا الكلام صلة لما سبق، وقول الإمام رحمه الله تعالى في أوائل هذه الرسالة العظيمة كشف الشبهات، قوله (فإذا تحققت أنهم مقرُّون بهذا) إشارة إلى إقرارهم بما جاء في الآيات السابقة وهو الإقرار بتوحيد الربوبية، وقد ذكرتُ لك أنّ إقرار المشركين بالربوبية يختلفون فيه:
¨ فمنهم من يقر بأفراد منه كثيرة.
¨ ومنهم من يقر بأكثره.
¨ ومنهم من يقر بأنواع الربوبية لله جل وعلا، وأنه واحد في ذلك.
فإقرار المشركين بتوحيد الربوبية مختلف ليسوا جميعا فيه على مرتبة واحدة، لكن يجمعهم أن جميع من أرسل إليهم الله جل وعلا إليهم الرسل، لم يكونوا منكرين لوجود الصانعـذ، لم يكونوا منكرين لوجود الرب الخالق الرزاق الذي يدبر هذا الملكوت ويجري الأفلاك ويجري ما به صلاح العباد، لم يكن أحد ينكر هذا، إلا طائفة كما قال الشهرستاني في بعض كتبه قال: إلا طائفة لا يصح أن تنسب إليهم مقالة. لأنهم كانوا أفرادا متفرقين، كلّ من بعثت غليهم الرسل كانوا يقرون بأن الله جل وعلا هو الذي خلق هذا الخلق، وهو الذي خلق الأفلاك والسماء، وهو الذي خلق الأرض، وهو الذي أجرى المياه، وهو الذي خلق الإنسان والحيوان، وهو الذي قسم الأرزاق، وهو الذي من توكل عليه لم يَخِبْ، وهو الذي يجير ولا يجار عليه، وهو الذي إذا فتح رحمة فلا ممسك لها، وهو الذي جل وعلا بيده ملكوت كل شيء يدبر الأمر، يحيي ويميت، ويمرض ويصح، ويفقر ويُغني، كما شاء جل وعلا، هذا الإقرار لا يُدخل المرء في دين الله لا يدخل المرء في التوحيد، ولهذا عظمت الشبهة بهذه المسألة في كل زمان، وتحقيق هذه الشبهة التي أراد الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أراد كشفها هي شبهة من يقول: كيف يُحكم بالشرك على من يقر بوجود الله وأنه هو الذي يتصرف في الملكوت، ويقول ما شاء الله، ويقول لا حول ولا قوة إلا بالله وربما دعا وصلى وتصدق إلى غير ذلك مما ذكرنا سابقا من أنواع العبادات؟ فما الذي جعل أولئك كفارا؟ ما الذي جعلهم مشركين؟ ما الذي جعلهم يشركون؟ ما الذي جعلهم ليسوا بأتباعا لمحمد ﷺ؟ لا بد من تحقيق ذلك، إذا تحققت أنهم مقرون بأفراد الربوبية وأنهم يعظمون الله جل وعلا في بعض ما يستحق سبحانه وتعالى تقرَّر ذلك في قلبه وعرفته معرفة يقين، فلا بد أن تعلم أن ذلك الإقرار لم يدخلهم في توحيد الله جل وعلا، ولهذا قال هنا (فإذا تحققت أنهم مقرون بهذا -يعني بما سبق إيضاحه وأنه يعني ذلك الإقرار- لم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله ﷺ) لا بد أن تبحث وأن تعلم ما الذي جحدوه؟ ما الذي به صاروا مشركين؟ وإذا تأملت حالهم وجدت أنهم صاروا مشركين بعبادة غير الله جل وعلا.
فإذن صارت الأفعال قسمين:
¨ القسم الأول: أفعال الرب جل وعلا.
¨ والقسم الثاني: أفعال العباد.
أفعال الرب: توحيده بها لا يكفي؛ لأنّ المشركين كانوا موحّدين لله جل وعلا بأفعاله؛ يعني كل فعل لله يعلمون أنه ليس له شريك فيه على الكمال والحقيقة.
والقسم الثاني من الأفعال أفعال العباد: هي التي من جهتها صاروا مشركين فالواجب في التوحيد الذي دعت إليه الرسل أن يوحَّد الله جل جلاله بالنوعين من الأفعال أفعاله سبحانه وأفعال العباد أيضا، وإنما صار ابتلاء الناس بالرسل من جهة توحيد العباد ربهم جل وعلا بأفعالهم وليس بأفعاله سبحانه وتعالى.
لابد أن نعلم ما التوحيد الذي جحدوه علمنا التوحيد الذي أقروا به وهو توحيد الربوبية، لكن ما التوحيد الذي جحدوه؟ قال الإمام رحمه الله هنا (وعرفت أن التوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة) توحيد العبادة هو الذي جحده المشركون لم؟ لأنه قال لهم عليه الصلاة والسلام قولوا لا إله إلا الله فقالوا ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا﴾[ص:5]، ومن المتقرر المعروف أن معنى الإله في لغة العرب المعبود؛ لأن كلمة إله مشتقة من أله يأله إلهة وألوهة، وهذا بمعنى العبادة، فالإله هو المعبود، وقول لا إله إلا الله يعني لا معبود حق إلا الله، ويدل على تفسير العبادة بذلك قول الله جل وعلا ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ(1)أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ﴾[هود:1-2]، هذه وصية الله جل وعلا لجميع المرسلين ولجميع الناس، (لا تعبدوا إلا الله) مساوية لـ(لا إله إلا الله)، فصار بالمطابقة الإله هو المعبود، والإلهة هي العبادة، لا إله إلا الله يعني لا معبود إلا الله، يعني لا تعبدوا إلا الله المشركون يفهمون اللغة ويفهمون معاني الكلام في زمن النبوة، فلما قال لهم قولوا لا إله إلا الله؛ دعاهم إلى لا إله إلا الله علموا أن المعنى أن يدعوا جميع الآلهة وأن لا يتوجهوا بنوع من أفعالهم إلى شيء من تلك الآلهة، فقال الله جل وعلا عنهم في سورة الصافات ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ(35)وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ﴾[الصافات:35-36]، يعني النبي ﷺ، وقال جل وعلا عنهم أيضا في سورة ص ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا﴾[ص:5].
أما الأرباب بمعنى الربوبية الخلق والرزق والإحياء والإماتة فهم لم يجعلوا لهم أربابا مختلفين، لكن الرب بمعنى المربوب بالتلازم هذا يكون بالمعنى الأول يعني المعبود كما ذكرنا في نحو قوله ﴿ءَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ﴾[يوسف:39]، وفي نحو قوله﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا﴾[التوبة:31].
إذن المشركون صاروا مشركين بعبادتهم غير الله جل وعلا، وذكرنا لك فيما مضى أن تلك العبادة لغير الله كانت من جهة الاعتقاد في الأرواح الطيبة؛ الأرواح الخيّرة، اعتقدوا في الملائكة لأن الملائكة أرواح خيّرة، اعتقدوا في الأنبياء لأن الأنبياء أرواح طاهرة، اعتقدوا في الصالحين لهم أرواح طيبة، فمن جهة خيرية الأرواح وزكاء الأرواح وطهرتها وقربها من الله جل وعلا اعتقدوا في تلك الآلهة، فصار سبب شرك المشركين؛ صار سبب شرك المشركين الاعتقاد في الأرواح، –خلُّوكم معي- صار شرك المشركين الاعتقاد في الأرواح، هذه الحقيقة هي حقيقة الشرك بالله جل وعلا في جميع رسالات الرسل جاءت لدحض هذه المسألة؛ وهي بيان أنّ من جعل للأرواح تأثيرا، من جعل أن للأرواح خواص ليست بشرية([11]) وإنما خواص من جهة خواص الآلهة فهذا هو الشرك بعينه فنوح عليه السلام [أُرسل] إلى قوم يعتقدون في أرواح الصالحين وقالوا ﴿وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾[نوح:23] قال ابن عباس: أسماء رجال صالحين. الملائكة اعتقدوا فيها لطهرة أرواحها، اعتقد المشركون في الصالحين وفي بعض الرسل والأنبياء لأجل طهرة أرواحها.
إذا تقرر هذا وصار عندك حقيقة واضحة؛ لأنّ أعظم مسألة أنْ تعلم لما صار المشركون مشركين في دعوة كل نبي وكل رسول، علمت حقيقة الشرك ما هو، فإذا علمت حقيقة الشرك، فأي شيء سمي به ذلك الشرك فلا يغير الحقيقة؛ لأن الأشياء تعرف بحقائقها وبمعانيها لا بألفاظها، المشركون في الزمن المتأخر في القرون الماضية غيّروا الأسماء فسموا الشرك في العبادة الاعتقاد، كما ذكر الشيخ هنا قال ( الذي يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد) يعني توحيد العبادة (يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد) يعتقد في الولي، هذه كلمة تسمعها إلى الآن بكثير من الأمصار يقول هذا له روح فيها سر، والروح يسمونها السر أيضا، فيعدلون مثلا عن قدس الله روحه إلى قدس الله سره، ما الفرق بين الروح والسر؟ السر عندهم هو الروح التي يُعتقد فيها فتغيث، فصار لها سر من الأسرار.
تسمية الشرك بالاعتقاد، تسمية الشرك بالتوسل، تسمية الاستغاثة بالتوسل، وتغيير حقائق الأسماء وحقائق الألفاظ، هذا لا يعني تغير حقائق الأشياء وحقائق المعاني؛ لأن العبرة بالمعاني لا بالألفاظ، فالخمر لو سميت بغير اسمها لو سميت شرابا روحيا بقيت خمرا محرمة، ولو سميت بأحسن الأسماء وبأقرب الأسماء للنفوس، لو سمي الربا بتسمية جائزة يعني بتسمية لائقة سمي فائدة أو سمي مكسبا أو سمي مضاربة وحقيقته هي حقيقة الربا يبقى الربا، فالعبرة في الشرع بالمعنى وليست العبرة بالألفاظ، قد جاء في الحديث أن قوما يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها.
الألفاظ لا تغير الحقائق فلما كان المشركون في زمن الإمام المصلح الشيخ محمد رحمه الله غيروا الأسماء إلتبس هذا على كثير من أهل العلم كيف يكون هذا هو الشرك الذي به صار أهل الجاهلية مشركين، لأجل تغير الأسماء، إذا قلت إنهم يستغيثون بغير الله قالوا هذا توسل والتوسل بالصالحين جائز، كما هو مذكور في كتب الفقه، ذاك التوسل شيء وهذه الاستغاثة التي أسميتوها توسلا اشتباها هذه حقيقتها شيء آخر، إذا قلت إن الذبح لغير الله شرك الأكبر من جنس تقرب المشركين لأولئك بالقرابين لتلك الأصنام والأوثان بالقرابين قالوا ليس هذا ذبحا للميت وإنما هو تقرب لله لكن باسم الميت حتى يشفع الميت عند الله وإلا فإن المقصود هو الله جل جلاله، فغيروا الأسماء وبقيت حقيقة الاعتقاد.
ولهذا الشيخ سماه هنا (الذي يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد) والاعتقاد هو تعلّق القلب بمن تقرب إليه ذلك المتقرب، فإذا تعلق قلب المسلم بالميت –تعلق به من جهة كشف ضرٍّ أو من جهة جلب نفع أو بالتوجه إليه بأي نوع من أنواع العبادة- صار ذلك شركا منه مخرجا له من الملة ولو كان مصليا صائما.
فإذن حقيقة التوحيد وحقيقة الشرك لا بد أن تتضح كمقدمة لكشف الشبهات، بما صار المشركون مشركين؟ من جهة الاعتقاد في الأرواح، بما صار الموحدون وأتباع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام صاروا موحدين ومسلمين؟ من جهة تعلقهم واعتقادهم بالله وحده دونما سواه ونبذ التعلق بالمخلوقين وبالأموات والأوثان والأصنام الذي حقيقته التعلق بالأرواح.
ذكرتُ لك أن المشرك ليس عادما العقل حيث إنه يتعلق بحجر لا معنى له، أو يتعلق بشجر لا معنى له، أو يتعلق بخشب لا معنى له، وإنما يتعلق بهذه الأشياء لما لها من الخاصية، من جهة حلول الأرواح فيها إما أرواح الصالحين أو أرواح الكواكب أو أرواح الملائكة باعتقادات مختلفة، صاروا مشركين لأجل اعتقادهم، سواءً أكان ذلك الاعتقاد في نفسه موافقا لحقيقة الأمر أم لم يكن موافقا.
مثال ذلك ما يحصل الآن عند قبر الحسين في مصر، من المعلوم عند المؤرخين أن رأس الحسين لم يحمل إلى مصر، وإنما حمل رأسه إلى الشام، ومصر لم يصلها رأس الحسين فجعل هناك قبر ومدفن فمن تعلق بذلك القبر تعلق بالحسين، وإن كان المدفون ليس بالحسين أصلا، فصار مشركا ولو لم يوافق اعتقاده الحقيقة؛ لأنه تعلق قلبه بغير الله جل وعلا في هذه البقعة.
فإذن مدار الشرك والاعتقاد في المخلوق أن له بعض خصائص الإله؛ له أن يشفع عند الله جل وعلا بدون إذنه ورضاه، يجعلون له خاصية أنّ الله جل وعلا لا يردّ له طلبا، ويجعلون له خاصية أنه يسمع ما يُتكلم به وأنه يغيث من استغاث به وأن أكثر الناس تقربا إليه هو يكون أقرب الناس من غيره، فيشفع له ويعطيه طلبته وحاجته.
إذن من المهمات في هذا الباب قبل الدخول في الكتاب ما قدم به الشيخ هذه الرسالة هذه المقدمات المهمة أن تعلم أولا حقيقة شرك المشركين، تعلم حقيقة عبادة أولئك، وأنهم كانوا يتعبدون، لم يكونوا خالين من التعبد كما ذكر بأول الكتاب؛ أنهم كانوا يصلون ويتصدقون ويحجون و[يتفاخرون] بالمعروف، ولكن صاروا لم يكونوا موحدين وصاروا مشركين من جهة أنهم اعتقدوا بغير الله جل جلاله وأنهم تقربوا إلى تلك الآلهة بأنواع القرابين والعبادات، واعتقادهم في الآلهة كان من جهة الاعتقاد في الأرواح، الاعتقاد في أسماء تلك الآلهة وتمثيل تلك الأسماء بأرواح طاهرة لها عند الله جل وعلا المقام الأعظم.
فإذا كان كذلك فمن أشرك بالله جل وعلا بأي نوع من أواع الشرك الأكبر فإنه حابطٌ عمله ولو كان مصليا صائما؛ لأنه كما قال جل وعلا ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾[الزمر:65] وهو النبي عليه الصلاة والسلام فكيف بمن دونه.
قال الشيخ رحمه الله بعد ذلك (عرفت أن التوحيد الذي جحدوه) يعني جحده المشركون (هو توحيد العبادة) يعني أن لا يعبد إلا الله، وأن لا يتوجه إلا إلى الله، أن لا يدعا إلا الله وأن لا يستغاث إلا بالله جل وعلا بما لا يقدر عليه إلا الله وسائر أنواع العبادة، قال (هو الذي يسمه المشركون في زماننا الاعتقاد كما كانوا يدعون الله سبحانه ليلا ونهارا) فهل المشركون لم يكونوا يدعون الله؟ كانوا يدعون الله وكانوا يتقربون لله، ومع ذلك هم مشركون، لم؟ لأنه أشركوا؛ دعوا الله ودعوا معه غيره، ذبحوا لله وذبحوا مع ذلك لغيره، نذروا لله ونذروا مع ذلك لغيره، استغاثوا بالله ومع ذلك استغاثوا بالأرواح الملائكة بالجن بالصالحين الأنبياء إلى غير ذلك، فصارت هنالك شركة؛ جعلوا لله عبادات وجعلوا أيضا تلك الأرواح شيئا من أنواع العبادة.
قال رحمه الله بعد ذلك (ثم منهم من يدعو الملائكة لأجل صلاحهم وقربهم من الملائكة ليشفعوا له) من المشركين من يدعو الملائكة كما قال جل وعلا في سورة سبأ ﴿وَيَوْمَ نحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ﴾[سبإ:40]، لأنهم عبدوهم، فهل كانوا يعبدون الملائكة في الحقيقة؟ أجابت الملائكة بما أخبر الله جل وعلا به في قوله قالوا يعني الملائكة ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ﴾[سبإ:41] يعني تنزيها لك عن أن يكون معك معبود بحق، تنزيها لك أن نستحق العبادة تنزيها لك عن ذلك الظلم الذي وقع من الناس بإشراكهم من الملائكة مع الله في الدعاء وفي العبادة، ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ﴾[سبإ:41]، فحقيقة أولئك في اعتقادهم أنهم سألوا الملائكة، في اعتقادهم أنهم توسلوا بالملائكة، في اعتقادهم أنهم استغاثوا بالملائكة، لكن حقيقة الأمر أنهم استغاثوا بالجن؛ أنهم عبدوا الجن؛ لأن الجن تأتي وتتكلم عند ذلك الوثن، تتكلم عند القبر، تتكلم عند الصنم، فيظنون أن الذي كلّمهم الملك، يظنون أن الذي خاطبهم وخاطبوه وأجابهم وسألوه إنما هم الملائكة، وفي الحقيقة إنما هم شياطين الجن؛ لأن الجن مهمتهم أن يغووا الإنس لأنّ إبليس قال لربنا جل وعلا ﴿لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا﴾[الإسراء:62]، وقال جل وعلا عنه في آية أخرى ﴿إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ﴾([12]) فدلّ على أن الذين استثنى الله جل وعلا من أن يقعوا في حبائل إبليس إنما هم عباد الله المخلَصون، وهم الذين أخلصوا لله جل وعلا دينهم فخلصوا لله سبحانه وتعالى وأخلصهم الله جل وعلا من الشركة في العبادة والتوجه.
قال (منهم من يدعوا الملائكة لأجل صلاحهم وقربهم من الله) هذه مقدمات مهمة يعني لم عبدوا الملائكة؟ هل رأى الناس الملائكة؟ ما رأوا الملائكة، هل اعتقدوا في الملائكة اعتقاد وهم لا يعرفون الملائكة؟ لا، وإنما اعتقدوا في الملائكة لأنهم يعلمون أنّ الملائكة:
¨ أولا: الأرواح طاهرة صالحة لا يعصون الله ما أمرهم، وأنهم لم يعصوا الله جل وعلا ما أمرهم ولم يرتكبوا خطيئة.
¨ والثاني: أنهم مقربون عند الله جل وعلا.
فإذن شرك المشركين بالملائكة كان من جهة شبهتين:
الشبهة الأولى: أنهم أرواح طاهرة صالحة لم تعصِ، ولذلك كانت أرفع من البشر، أرفع من المخطئين من العصاة، فإذا أراد العاصي أن يتقرب إلى الله ضعفت نفسه فذهب يتقرب بأرواح طاهرة إلى الله، بظنه أنه لأجل معصيته لا يستطيع أن يصل إلى الله جل جلاله، هذا واحد.
الثاني: لأجل قرب الملائكة من الله جل وعلا.
فتعلق المشركون بالملائكة لأجل هاتين العلتين؛ صلاح الملائكة وطهرة أرواحهم ثم لأجل قربهم من الله جل وعلا إذا تأملت وجدت أن هذه الحقيقة هي الموجودة في المشركين في كل زمان ومع تغير الأحوال وتغير المتعلقات إذا سألت النصارى لم دعوا مريم؟ لم يستغيثون بمريم عليها السلام؟ لم يستغيثون بالرسل رسل المسيح؟ لم يتغيثون ببطارقتهم الأموات والأحياء؟ لم يصورون التصاوير ويجعلونها في كنائسهم؛ تصاوير الرجال الصالحين أو مريم وعيسى؟ لم يعبد اليهود بعض البشر ويتعلقون بأرواحهم؟ لم عبد قوم نوح تلك الأرواح؟ لم عبد قوم إبراهيم تلك الأصنام والأوثان؟ وهكذا إلى زمن المشركين في الجاهلية؛ جاهلية العرب إلى زمننا هذا، وجدت أن الشبهة هي الشبهة الشبهة هي الشبهة في الملائكة:
أولا أرواح طاهرة.
ثانيا قربها من الله جل وعلا.
فمن أراد أنْ يجعل لله جل وعلا شريكا في العبادة يُتوجه إليه بأي نوع من أنواع العبادة، فنقول له الملائكة أحق، الملائكة أحق بأن تكون آلهة؛ لأن الملائكة أرواح طاهرة بالاتفاق وهي مقربة عند الله جل وعلا بالاتفاق، ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [وَيُؤْمِنُونَ بِهِ]([13]) وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾[غافر:7] الله جل وعلا يخبرنا عن الملائكة بأنهم صالحون لا يعصون الله ما أمرهم، وأنهم مقربون عنده، وأنهم يستغفرون للذين آمنوا، فسؤال الملائكة أولى من سؤال غيرهم؛ لأن طهرة أرواحهم متفق عليها ولأن صلاحهم متفق عليه ولأن قربهم من الله جل وعلا متفق عليه ولأنهم يستغفرون عند الله للذين آمنوا باتفاق، وهذا معناه إذا كان ذلك الشيئان صحيحين فمعنى ذلك أن الشرك بالملائكة جائز، إذا كان التعلق بأرواح الصالحين واعتقاد أنه لقربهم من الله يكون لهم بعض العبادة فمعنى ذلك أن سؤال الملائكة والشرك بالملائكة جائز، والله جل وعلا أخبرنا في القرآن بأنه يقول للملائكة يوم القيامة ﴿أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ﴾[سبإ:40]، فتقول الملائكة ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ﴾[سبإ:41]، فمن أجاز الاستغاثة بالأولياء أو بالصالحين فقل له الملائكة أليست الملائكة أرواح طاهرة صالحة وأليست الملائكة مقربة عند الله جل وعلا، فإذا قال: بلى هي كذلك. فقل فلم لا تقول بجواز الاستغاثة بالملائكة؟ لم لا تقول بأن الملائكة لها الأحقية بأن يطلب منها؛ لأن السبب الذي من أجله توجه للموتى للصالحين والرسل والأنبياء متحقق في الملائكة. والعرب ومن قبلهم من أجل قوة أذهانهم في مسائل العبادة وحرصهم عليها جعلوا المسألة واحدة بدون تفريق؛ عبدوا الملائكة وعبدوا الصالحين وعبدوا الأنبياء؛ لأن القدر المشترك بين هؤلاء موجود وهو أنهم صالحون وأرواح طاهرة ومقربون عند الله جل جلاله، لكن المشركون من هذه الأمة لم يعبدوا الملائكة وإنما عبدوا من زعموهم صالحين أو من هم صالحون في نفس الأمر.
وبهذا نعلم أنّ حقيقة شرك المشركين في كل زمان إنما هو راجع إلى هاتين الشبهتين:
¨ شبهة صلاح المستغاث به صلاح المعبود.
¨ والشبهة الثانية قربه من الله جل جلاله.
قال هنا (لأجل صلاحهم وقربهم من الله ليشفعوا له) هذه الغاية، ذاك سبب لم تؤله الملائكة؟ للسببين اللذين ذكرنا، ما الغاية من سؤال الملائكة؟ ما الغاية من عبادة الملائكة؟ غايتها أن يشفع الملك عند الله للسائل، نفهم من ذلك أن سؤال أولئك للملائكة لم يكن عن اعتقاد بأنّ الملك يعطيه مباشرة وأنه يستقل في الإعطاء ويستقل بالإمضاء وإنما هو اعتقاد في الملك بأنه لأجل صلاحه وقربه يملك أن يشفع عند الله، ولأجل قربه وجاهه لا يرد الله جل وعلا طلبه.
إذا تقرر ذلك، فبه تعلم أنَّ: ليس من شرط الشرك أن يكون السائل لتلك الأرواح وللأموات وللملائكة أنْ يعتقد أنها تنفع السائل استقلالا، كما زعم أكثر مشركي هذا العصر أنهم -يعني عباد القبور وعباد الأوثان- لا يسألون الموتى باعتقاد أنهم ينفعون استقلالا وإنما يقولون: نسألكم لما لهم من المقام عند الله حتى يشفعوا لنا. إذا كان هذا الأمر واقعا من أهل العصر ومن عصر الشيخ ومن قرون، فالملائكة أشركت العرب بها وأشرك المشركون بالملائكة لأجل الشفاعة فقط، ومع ذلك قال الله جل وعلا ﴿أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ﴾[سبإ:40]، فالغاية وإن كانت ربما تكون يُعذر بها المرء لكن الوسيلة كانت بالشرك، فالطمع في رضا الله جل وعلا هذه غاية طيبة، وكل العباد يطمعون في رضا الله جل وعلا، لكن لا بد أن يكون طلب رضا الله جل وعلا بوسيلة مشروعة، وعبادة الملائكة وعبادة الصالحين لا يحصل بها رضا الله جل وعلا ولو كان الذي عبد قال ما عبدتهم إلا لأجل أن يعفو الله عني، وإلا فالله جل وعلا هو الذي يعفو هؤلاء وسائط، يقول هذا هو الذي من أجله حُكِم على أهل الإشراك بالشرك، كما قال جل وعلا ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا﴾ في أول سورة الزمر ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾[الزمر:3]، فإذن غاية أن يقرب المسؤولُ السائلَ إلى الله زلفى، ليست غاية المشرك في الزمن الأول أنْ يعبد المسؤول لقصد أن يعبده، هذا غير موجود؛ يعبد الصنم لغاية أن يعبد الصنم لذاته أو يعبد الملك لغاية أن يعبد الملك في ذاته؟ لا، وإنما يتقرب بالقرابين حتى يعطف عليه الملك ويرفع حاجته إلى الله، يتقرب بالقرابين للميت حتى يعطف عليه الميت بروحه، وكلما تقرب أكثر ازدلف منه وقرب منه فيرفع حاجته إلى الله جل وعلا.
فإذن غاية المشركين في عبادتهم غير الله جل وعلا أن يصِلُوا إلى الله جل جلاله، وهذه هي الغاية الموجودة في أهل هذا الزمان يقولون: ما نعبد هذه ما نتوجه هذه التوجهات بأننا نعتقد في هذه الأموات أوفي الأرواح أنها تملك الأشياء استقلالا حاشا وكلا، وإنما لأجل أن تتوسط عند الله جل وعلا فهي أرواح طاهرة وهم مقربون عند الله. يقول هذا هو عين شرك الأولين، هو عين الإشراك الذي وقع في كل أمة بعث إليه رسول ينهاهم عن الشرك ويأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له.
مهمٌّ أن تفهم الحقائق لأن تغير الصور وتلبيس الأمور وتسمية الأشياء بغير اسمها هذا لا يغير الحقائق في الشرع وما جاء التلبيس إلا من جهة الألفاظ أنْ تسمى الأشياء بغير اسمها.
قال بعد ذلك في صورة ثانية مثل آخر، قال (أو يدعو رجلا صالحا مثل اللاتّ) قال جل وعلا ﴿أَفَرَأَيْتُمْ اللَّاتَ وَالْعُزَّى(19)وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى﴾[النجم:19-20]. وفي قراءة ﴿ أَفَرَأَيْتُمْ اللَّاتَّ وَالْعُزَّى﴾ واللاتَّ رجل –كما قال ابن عباس- كان يلتُّ السويقَ، رجل صالح كان يلت السويق ويُطعمه الحاج وكان يجلس ويفرق ذلك عند صخرة، فلما مات جعلوا قبره عند ذلك المكان، وصروا يتناوبون عليه لصلاحه، ويستغيثون به ويسألونه لأجل أنه أمضى حياته في صلاح وفي نفع للناس، فاعتقدوا فيه، فهذا اللاتّ أشرك به العرب لأجل أن روحه طاهرة وأن أعماله في الدنيا صالحة فقالوا هو إذن مقرّب عند الله جل وعلا، فإذا كان كذلك فلنتقرب إليه بالقرابين بالذبح والنذر، فلنستغث به، فلندعه ليرفع الحاجات إلى الله جل وعلا، وهذا هو عين الشرك المشركين الآلهة المختلفة، بالموتى، بالأنبياء، بالحسين، وبزينب، وبالبدوي وبالعيدروس وبعبد القادر وأنواع الموتى من الأنبياء والصالحين لأجل هذه الشبهة؛ الصلاح والقرب من الله جل وعلا.
قال (أو نبيا مثل عيسى) مثل الشيخ رحمه الله بثلاثة أمثلة:
الأول: الملائكة.
الثاني: رجل صالح اللاتّ.
الثالث: بالأنبياء عيسى.
وعيسى اتخذ إلها يسأل ويطلب منه ويستغاث به وتنزل الحاجات به.
النصارى مختلفون في عيسى:
¨ إما أنه يرفع الحاجات إلى الله جل وعلا ولا يرد الله جل وعلا طلبه، كما هو اعتقاد طائفة من النصارى.
¨ أو لأنه تَشَخُّص للإله، أو كما يقولون أحد الأقانيم الثلاثة يعني صفة وصورة من صور الإله في بعض أحواله حيث إتحد كما يقولون اللاهوت في الناسوت في هذه الصورة، فصورة حلول الإله في البشر متمثلة في عيسى عند طائفة من النصارى.
فالنصارى يستغيثون ويسألون عيسى إما على أنه بعض الإله أو على أنه مقرب عند الله الواحد ويسأل لأجل قرب مقامه عند الله.
هذه ثلاثة أمثلة:
استغاثة أو تأليه الملائكة بسؤالهم ودعائهم والاستغاثة بهم وإنزال الحاجات بهم والتعلق بهم ورفع ما يريده العباد عن طريقهم يعني أن يكونوا وسطاء.
الثاني في الصالحين الرجال الصالحين مثل اللاتّ.
وبعيسى.
فهذه الأمثلة الثلاثة، إذا تأملتها وتدبرت وفهمت لما أشرك من توجه إلى الملائكة؟ وبما وكيف أشرك من توجه إلى الرجل الصالح اللات؟ وبما أشرك من توجه إلى عيسى؟ علمت حقيقة الشرك، ولم يلبّس عليك أو يقول قائل هذا الذي يمارَس اليوم ليس بشرك وإنما من سماه شركا أكبر مخرجا من الملة تشديد من المتشددين أو من الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ودعوته ومن اتبعه على ذلك؛ لأن حقائق الأشياء هي التي تفصح لك عن [الغرور].
قال رحمه الله بعد ذلك (وعرفت)، طبعا قوله (أو نبيا مثل عيسى) دليله قول الله جل وعلا في سورة المائدة في آخرها ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ﴾[المائدة:116]...([14]), مع قول عيسى عليه السلام ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ]([15]) إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾[المائدة:72].
قال بعد ذلك (وعرفت أن رسول الله ﷺ قاتلهم على هذا الشرك) لِمَ قاتل النبي عليه الصلاة والسلام قريش والعرب؟ لأنهم كانوا مشركين، بما كانوا مشركين؟ بما ذكرنا سالفا بعبادة غير الله، هل كانوا يعبدون غير الله لقصد ذلك الغير أم لأجل الوساطة والتوسل؟ لأجل الوساطة والتوسل بنص القرآن؛ ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾[الزمر:3]، لم يكونوا يتوجوه إلى الله أو الرجل الصالح أو الأنبياء بقصد أن يتوجهوا إليهم استقلالا إنما كان من أجل التقرب لله جل وعلا فكل يريد التقرب إلى الله وهذا التقرب يكون عن طريق واسطة ولأجل هذه الواسطة صاروا مشركين لما توجهوا إلى الموتى وإلى الغائبين وإلى الملائكة بأنواع العبادات، قال (وعرفت أن رسول الله ﷺ قاتلهم على هذا الشرك) قاتلهم استحل دماءهم وأموالهم وجعل من يقاتل أولئك شهيدا إن مات في قتالهم وجعله موحدا وأولئك جعلهم مشركين ومن قُتل من أولئك شهد عليه بالنار ومن قتل من المسلمين شهد له بالجنة إن كان قتاله لله وهكذا، لم قوتلوا ولم استحلت أموالهم ودماؤهم؟ لأجل أنهم مشركون ذلك الشرك، ولهذا الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله قال في رسالة له ”وعرضت ما عندي من التوحيد على علماء الأمصار فوافقني طائفة والأكثرون وافقوني على التوحيد لكن عَظُم عليهم التكفير والقتال“ وهاتان المسألتان ترتيب حتمي لما قدمناه، يعني إذا ثبت أنهم مشركون فلا بد أن تترتب أحكام المشركين، لا بد أن يقاتلوا مع القدرة على ذلك، لا بد أن يقاتلوا إذا قوتلوا لابد أن يكون هناك تميز، هؤلاء موحدون وهؤلاء مشركون، ولا بد أن يكون هناك نشر للتوحيد ودحض للشرك وإقرار لما يحب الله جل وعلا ويرضى من الإخلاص وعبادته وحده لا شريك له في القتال، قال ”خالفوني في القتال والتكفير“ لأن التخلص من تأثير الناس في حقائق الأشياء يحتاج إلى علم راسخ وإلى تجرد من [.....] الناس وشبهاتهم.
الشيخ رحمه الله في هذه الرسالة يريد منها أن يكشف الشبهات ويبين أن التوحيد هو حق الله جل وعلا، وأن ما يمارس الناس في هذه الأزمنة بما يسمونه الاعتقاد والتعلق بالأرواح ونحو ذلك والاعتقاد في الميت، ويسمونه السيد أن هذا عين الشرك، يترتب على ذلك الأحكام بقية الأحكام من التكفير أولا، ثم قتالهم على أنهم كفار ومشركون.
وشرح الله جل وعلا صدر الشيخ وصدر أئمة الدعوة في أول هذا الزمان حتى انتشرت دعوة التوحيد ولله الحمد بهذه الدعوة المباركة وبتأليف من نصرها وأيدها بالسيف والسنان وهو الإمام المجاهد محمد بن سعود رحمه الله تعالى وكذلك أبناؤه من بعده، وبقيت هذه الدعوة في الناس إلى اليوم لتساند السنان مع القرآن في ذلك، وهذا لابد منه لا يمكن أن تنتشر إلا بقوة تحميه، شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله دعوته وعلمه كان واسعا ونشر التوحيد ودعا إلى ذلك وصنف المصنفات، لكن لم يكن له سيف يحميه فسجن ولم يتمكن من نشر التوحيد في الناس، لكن الإمام المصلح محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أيده الله جل وعلا بالأئمة بآل سعود المبارك، ونشروا هذه الدعوة في الناس وبقيت إلى هذا الزمان.
الناس الذين اعترضوا على هذه الدعوة قالوا هذه الدعوة قاتلت الناس، تجد في كتب تواريخ نجد يقولون قاتل المسلمون المشركين، ويستعظم الناس كيف يسمى أتباع الدعوة مسلمين وكيف يسمى الآخرون مشركين، نقول هذه حتمية؛ لأن توحيد الله ليس فيه مجاملة إنما هو حق وباطل ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ﴾[يونس:32]، فلا بد من ترتب الأحكام ترتب أحكام التوحيد والشرك في الأرض، فإذا وجد الشرك لا بد أن توجد المناطة بذلك، وهو أن يوصف أولئك بأنهم مشركون وأنهم كفار، ولابد من قتالهم مع القدرة حتى يكون الدين كله لله جل وعلا.
قال الشيخ رحمه الله هنا (وعرفت أن رسول الله ﷺ قاتلهم على هذا الشرك ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده كما قال تعالى ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾[الجن:18])، (قاتلهم على هذا الشرك ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده) يعني إلى التوحيد إلى أن لا يعبد إلا الله ألا يتوجهوا في شيء من أنواع العبادة إلا لله جل وعلا وحده.
وهذه الرسالة موضوعة لبيان حقيقة التوحيد وكشف كل شبهة أدلى بها خصوم الدعوة في مسائل التوحيد وبيان أنّ هذا الأمر حق لا لبس فيه، ومن درس التوحيد حق الدراسة انشرح صدره لهذا الأمر أعظم انشراح، وصار في قلبه من تعظيم الله جل وعلا وتعظيم دعوة التوحيد ما به يستطيع أن يرد على المبطل في هذا الأمر.
ولهذا يذكر أن أحد العامّة من أتباع الدعوة، قال له بعض المشككين أنتم متعصبون للشيخ محمد بن عبد الوهاب تعصب لأنه من نجد وأعلم وكذا فتتعصبون له، فقال هذا العامي لذلك المدلي بهذا الكلام، قال لو خرج الشيخ محمد بن عبد الوهاب من قبره، وقال ما دعوتكم إليه وما ذكرته لكم غير صحيح، ما قبلنا كلامه واستمررنا على التوحيد، لأنهم ما أخذوا به تقليدا وإنما أخذوا به عن حجة بينة واضحة، فلو أتى آتٍ وقال هذا غير صحيح، مثلا ضل ضال كان من الموحدين كان من أتباع السلف كان من السلفيين ثم بعد ذلك انقلب إلى شيء آخر، انقلب إلى طائفة المشركين أو المبتدعة فهل يشك الموحد فيما عنده من الحق؟ لا، لم؟ لأنه عرف الحق بدليله، عرف الحق بنص من الكتاب والسنة وفعل سلف الأمة، والعلماء في هذه الأمة ليسوا كعلماء النصارى، يُقبل ما يقولون هكذا مطلقا، بل هم أدوات لفهم نصوص الكتاب والسنة، ليسوا مستقلين، ما يقال يطاع فيه دون نظر إن قال الشيء وبيّن الحق قبلت منه الأمة، والأمة لا تقر أحدا على ضلالة فإذا ضل ضال بينت الأمة ضلاله ولله الحمد؛ لأنه لا تزال طائفة من الأمة على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله.
هذه المقدمات من المهم أن تراجعها مرة تلوى الأخرى؛ لأن فيها بيان ما في هذه الرسالة.
أسأل الله جل وعلا لي ولكم الانتفاع بما سمعنا والانتفاع بما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
هذا الدرس بمناسبة الاختبارات يكون آخر درس، ونعود إن شاء الله بعد رمضان؛ يعني مع أول أسبوع من الدراسة حتى يتمكن الإخوة الطلاب من الحضور للدرس.
[الأسئلة]: نأخذ ثلاثة أسئلة فقط.
1/ ما رأيك في كتاب الأصنام للكلبي؟
الكلبي متهم في حديثه، ولكن من جهة الأخبار والتاريخ والأشعار يقبل العلماء ما يذكره من ذلك لأنه أخباري أو إخباري نسّابة معروف من العلماء المعروفين في التاريخ من حيث الأخبار والنسب، وما ذكره في كتاب الأصنام مما كان عند العرب أكثره صحيح؛ يعني العلماء تتابعوا على النقل عنه.
2/ يقول أليس شرك هذا العصر أعظم من شرك المشركين الأولين؛ لأنهم يعتقدون فيها أنها تنفع وتضر بذاتها؟
لاشك طائفة من أهل هذا العصر زادوا على المشركين مشركي الجاهلية بأشياء، كما ذكر ذلك الشيخ محمد رحمه الله في القواعد الأربع في آخرها القاعدة الرابعة أن مشركي زماننا أعظم شركا من المشركين الأولين لأن الأولين يشركون بالله جل وعلا في الرخاء أما في الضراء إذا أصابتهم الشدة توجهوا إلى وحده كما قال تعالى ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾[العنكبوت:65], وقال جل وعلا ﴿[وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ]([16]) فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ﴾[لقمان.32], وقال جل وعلا ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ([17]) فِي الْفُلْكِ﴾[يونس:22]، قال جل وعلا في سورة يونس ﴿وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ﴾ إلى أن قال ﴿دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ(22)فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾[يونس:22-23] وشرك المشركين الأولين يشركون في الرخاء أما في الضراء فيتجه إلى الله وحده، وأما أهل هذا الزمان فإنهم يشركون بغير الله في السراء والضراء.
3/ ما حكم الصلاة في مكان فيه صورة أو تمثال.
إذا كانت الصورة أو التمثال في غير جهة المصلي؛ يعني في غير القبلة فالصلاة صحيحة، لكن بالجملة الصلاة في مكان فيه صورة لا تجوز، صورة أو تمثال؛ يعني صورة معلقة أو تمثال منصوب أو نحو ذلك في نفس المكان لا تجوز، لكن إذا لم يكن في جهة المصلي أو في بقعته يعني في مكان سجوده وصلاته فإن الصلاة صحيحة؛ لأن النهي ما توجه إلى البقع، قد علمت أن النهي يقتضي الفساد إذا كان راجعا إلى شرط من شروط الصلاة، والبقع من الشروط ولكن المقصود البقعة التي يصلي فيها لا ما حولها، والصحابة رضوان الله عليهم صلوا في الكنائس فيها صور؛ لأنهم توجهوا إلى القبلة في مكان ليس فيه صورة يعني في قبلتهم لما صلوا.
نكتفي بهذا القدر.
نعم آية سورة المائدة ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾[المائدة:72].
بارك الله فيكم أستودعكم الله، يوم الثلاثاء ما فيه درس إن شاء الله يوم الخميس في الصباح إن شاء الله، وفقكم الله([18])
¹
[المتن]
وتحققت أن رسول الله ﷺ قاتلهم ليكون الدعاء كله لله والنذر كله لله والذبح كله لله والاستغاثة كلها بالله وجميع أنواع العبادات كلها لله، عرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام، وأن قصدهم الملائكة أو الأنبياء أو الأولياء يريدون شفاعتهم والتقرب إلى الله بذلك هو الذي أحل دماءهم وأموالهم عرفت حينئذ التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأبى عن الإقرار به المشركون.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ﷺ تسليما مزيدا، أما بعد:
فأسأل الله جل وعلا لي ولكم العلم النافع والعمل الصالح الخاتمة الحسنة.
هذا الكتاب -وهو كتاب كشف الشبهات لإمام هذه الدعوة الإمام المصلح المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة- معقود لبيان الشبهات التي احتج بها أعداء الدعوة على الإمام فيما أوردوه، وقد بينت لكم فيما سلف أن تلك الاحتجاجات وذلك العلم الذي عند المشركين احتجاجات باطلة وعلم غير نافع؛ لأن الله جل وعلا بيّن أن مجادلة أولئك إنما هي عليهم كما قال حل وعلا ﴿وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾[الشورى:16]، فلو سموها حججا ولو سموا ها عندهم أدلة وبراهين، فإنها حجج داحضة وأدلة راجعة بالإبصار على مقالهم، وبراهين لا تستقيم لهم إلا بما عندهم من الفساد في التصور أو الفساد في التعلق بغير الله جل وعلا، كذلك ذكرنا أن من أعظم السبل التي يدين لك بها دين المرسلين عليهم صلوات الله وسلامه أنْ تعلم حال أهل الجاهلية قبل بعثة الرسول ﷺ، فإن حال أهل الجاهلية معروف بيّن، وطريق معرفته ما جاء في القرآن من وصف مقالهم ووصف فعالهم ووصف اعتقاداتهم ووصف أحوالهم، فهذا فيه تقرير للحال التي كانوا عليها، كذلك من سبل معرفة ما كانوا عليه من الأحوال والاعتقادات الباطلة معرفة أشعار العرب؛ لأن فيها ما كانوا عليه، ومن سبل ذلك معرفة قصص العرب والتاريخ الذي نقله المؤرخون عنهم.
ومن الأمر المقرر الواضح في الكتاب والسنة عن حال المشركين من أهل الجاهلية ومما بينه المؤرخون بما هو واضح أنّ أولئك الذين بعث إليهم الرسول ﷺ كانوا يعبدون الله جل جلاله وكانوا يصلون وكانوا يتصدقون وكانوا يحجون البيت ويعتمرون وكانوا يتنزهون من بعض النجاسات وكانوا يغتسلون من الجنابة كما سبق أن ذكرت لكم أدلة هذه الجملة مفصلة في أول الشرح عند قول الشيخ محمد بن عبد الوهاب في أول الرسالة (وآخر الرسل محمد ﷺ وهو الذي كسر صور هؤلاء الصالحين أرسله الله إلى قوم يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله كثيرا ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله، يقولون نريد منهم التقرب إلى الله).
إذن فمدار الصواب في العبادة أنْ لا يعبد إلا الله الملك الحق المبين، وأنّ دعوة غيره باطلة ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾[الحج:62]، وإقرار المشركين بأن لهم ربا خالقا رازقا ويقولون ما شاء الله ويقولون لا حول ولا قوة إلا بالله وما شاكل ذلك الكلام، ويدعون ويتصدقون ويحجون ويعتمرون، لم يجعلهم ذلك مسلمين بل كانوا مشركين؛ لأنهم لم يوحدوا الله جل وعلا في العبادة، وهو الذي نقول إن معناه لم يفردوا الله بأفعالهم التي يتقربون بها يرجون الثواب ويخافون بها العقاب، وإنما توجهوا بها إلى آلهتهم المختلفة، ولما جاءهم محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام وبيّن لهم الدين، وبيّن لهم توحيد الإلهية لم ينكروا أحقية الله جل وعلا بالعبادة، ولكن أنكروا إبطال استحقاق تلك الآلهة بشيء من العبادة، كما قال جل وعلا عنهم في سورة الصافات ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ(35)وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ(36)بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ﴾[الصافات:37]، وقال جل وعلا في سورة ص ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾[ص:5].
إذن هذه القاعدة هي أعظم ما يكون به تكون المقدمة لردّ أي شبهة يحتج بها المشركون ويحتج بها علماء المشركين في التعلق بغير الله جل وعلا بأي نوع من التعلقات، فإنهم استعظموا أن الذين يعبدون الموتى ويعمرون المشاهد بالذبح والنذر للأموات وما أشبه ذلك، يستبعدون بل يتعاظمون أن يكون أولئك مشركين، وإذا قلت لهم: لم؟ قالوا لأنهم يذكرون الله ويصلون وهم إنما أرادوا بذلك الله جل وعلا، اتخذوا هؤلاء واسطة فقط، ولم يريدوا الاستقلالية، وإلا فإنهم يعلمون أن الرازق على الحقيقة هو الله، ولكن هؤلاء الأموات واسطة.
فهذه المقدمة من الشيخ رحمه الله وما ذكرتُ لك من بيانها تُبين لك أن هذه الحجة من المشركين هي الحجة التي سلفت، فهي احتجاج قوم نوح على نوح، وهي احتجاج أقوام المرسلين على المرسلين، وهي احتجاج قريش العرب على محمد ﷺ، كما قال سبحانه وتعالى ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾[الزمر:3]، إذا عرفتَ أنهم أرادوا الواسطة، عرفتَ أنهم كانوا مُقرين بتوحيد الربوبية، مُقرين بأنه لا خالق إلا الله، لا رازق إلا الله ولا يحيي ولا يميت إلا الله جل جلاله، وأنهم كانوا يذكرون الله ويتعبدون ويصلون الصلاة على حسبها ويحجون ويعظمون البيت، وربما كان من بعضهم إخبات وإنابة، لكن لما لم يكونوا مفردين الله جل وعلا بالعبادة قاتلهم محمد ﷺ.
إذن فالعبرة في تحقيق كلمة التوحيد لا إلا الله، ومشركوا العرب يعلمون معنى هذه الكلمة، ولهذا لما قال النبي ﷺ لهم قولوا كلمة، كلمة واحدة قولوا كلمة واحدة، فقالوا: نقول وربك عشر كلمات. قال: قولوا لا إله إلا الله. فأبوا؛ لأنهم يعلمون أن هذه الكلمة إذا قالوها وشهدوا بها أنّ فيها إبطال كل التعلقات بالآلهة؛ لأنه معنى لا إله إلا الله: لا معبود حق إلا الله جل جلاله. ومعنى ذلك أنّ كل من عَبد غير الله جل وعلا فإنما عُبد بغير الحق عبد بالبغي بالظلم بالعدوان من الناس على حق الله جل جلاله.
لهذا لما ذكر الشيخ هذه المقدمات قال في هذا المقطع الذي وقفنا عنده (وتحققت أن رسول الله ﷺ قاتلهم ليكون الدعاء كله لله، والنذر كله لله، والذبح كله لله، والاستغاثة كلها بالله، وجميع أنواع العبادات كلها لله) هذا من جهة التمثيل مثل بالنذر والذبح والاستغاثة؛ لأن الشرك بالله جل وعلا في هذه الأشياء كان أكثر شيوعا في زمن إمام الدعوة رحمه الله تعالى، وإلا فإن أصناف شرك المشركين وصرفهم العبادة لغير الله جل وعلا كثيرة، ويجمعها قوله في آخر الكلام (وجميع أنواع العبادات كلها لله، وعرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام) هذا احتجاجهم أننا موحدون لله، لا نقول إن ثم رازق إلا الله وليس ثم محيي إلا الله، نحن مؤمنون بالله بأنه يرزق ويخلق ويعطي وأنه يجيب دعوة المضطر وأنه وأنه، لكنهم لم يبطلوا الوسائط، لم يبطلوا قصد غير الله جل وعلا بالعبادة، ولهذا قال سبحانه وتعالى ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾[يوسف:106]، قال السلف في تفسيرها لهذه الآية في آخر سورة يوسف معنى قوله (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ) يعني وما يؤمن أكثرهم بالله بأنه هو المتفرد بالخلق والرَّزق والإحياء والإماتة إلا وهم مشركون به في العبادة، فقد جمعوا إيمانا وشركا، فلا تتصور أنّ المشرك الذي يُحكم عليه بأنه مشرك أنه خِلْوُ الوثاق وخلو القلب من الإيمان بالله أصلا، هذا لا يتصور، وإلا لكان المشرك هو الذي يجحد كل أنواع الإيمان يعني الذي يجحد الربوبية ويجحد وجود الله جل وعلا، وهذا ليس هو الذي احتج القرآنُ على أصحابه، بل القرآن فيه إقامة الحجج على أن الله جل وعلا واحد وأنّه هو المستحق للعبادة وحده دون ما سواه، ﴿قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾[النمل:59] إلى آخر الآيات في سورة النمل، وفي كل آية﴿ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾[النمل:60]، ﴿أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾[النمل:61] إلى آخر ذلك.
فإذن نسأل ونقول بما صار أولئك مشركين؟ قال الشيخ رحمه الله هنا (وأنَّ قصدهم الملائكة أو الأنبياء أو الأولياء يريدون شفاعتهم والتقرب إلى الله بذلك هو الذي أحل دماءهم وأموالهم) يعني أنّ سبب كفر المشركين وسبب الحكم عليهم بأنهم كفار مشركون حلَّت دماؤهم وحلت أموالهم هذه الأشياء، قصد غير الله جل وعلا، قصد الملائكة قصد الأنبياء قصد الأولياء.
أما قصد الملائكة فإنهم كانوا يقصدون الملائكة بطلب الحاجات، كما قال جل وعلا في آخر سورة سبأ عنهم ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ(40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ﴾[سبإ:40-41] فكانت الملائكة تُعبد، لكن في الحقيقة الذي عبد هو؛ الذي عبد هم الجن لأنهم طلبوا من الملائكة والذي أجابهم بطلبهم الجن ليبقوا على الشرك.
وكذلك الأنبياء سئلت الأنبياء في قبورها واستغيث بها وذبح لها ونذر ومن سئل ربما أجيب سؤاله، وإجابة السؤال من جهة الجن، فيكون الجن ربما أحضر شياطين الجن؛ أحضر لذلك السائل بعض الأشياء أو عرفه ببعض الأشياء لتقع المصيبة وهذا في أكثر الأحوال وإلا فإنه من المقرر أن إجابة الدعاء من فروع الربوبية وليس من فروع الإلهية؛ لأن المشرك قد يدعو الله جل وعلا ويستجيب الله جل وعلا لدعائه كما قال سبحانه وتعالى ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ﴾[العنكبوت:65]، فإجابة الدعاء من جنس إعطاء الرِّزق، من جنس إعطاء المآكل والمشارب والأولاد، فإنه قد يدعو الكافر ويستجاب له لأن إجابة الدعاء ليست خاصة بإجابة المسلم بل هذا عدو الله إبليس سأل الله وقد أبى واستكبر وكان من الكافرين أن يؤخره إلى يوم الدين فأجاب الله دعاءه وسؤاله فأخره.
فإذن هنا حينما يسأل نبي من الأنبياء أو يسأل ولي من الأولياء عند القبر فيُجاب السؤال أو يحصل له ما طلب، فسبب حصول ما طلب أحد شيئين:
الأول: أن يكون شياطين الجن أحضرت له ما طلب، أو كان ثم سبب فأزالته الجن؛ يعني بسبب من جهة الجن إما امرأة ما تحمل بسبب شياطين الجن، أو شيء مفقود كان بسبب شياطين الجن، أو نحو ذلك، أو أراد أن يكلم هذا الميت فكلمه شيطان، وما أشبه ذلك يعني مما تقدر عليه الجن هذا نوع.
والنوع الثاني: أن يكون سأل متوسطا بصاحب القبر لكنه قام بقلبه حين السؤال اضطرار وحاجة ملحة فأجاب الله جل وعلا لأجل الاضطرار، والله جل وعلا أطلق إجابة المضطر فقال سبحانه ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ﴾[النمل:62]، فالمشرك إذا كان مضطرا يجاب، ولو كان في سؤاله بعض الشرك؛ لأنه يكون هنا غلب عليه جهة الاضطرار.
ولهذا حقق العلماء أنّ إجابة سؤال المشرك عند القبر ليس السر فيه القبر كما يقوله المشركون، وإنما يكون ثم شيء آخر إما جهة شياطين الجن وإما أمر آخر قام بالقلب منه مثلا الاضطرار وإنزال الحاجة والانكسار بين يدي الله جل وعلا، فيظن الظان أن سبب إجابة الدعاء بركة القبر، وإنما هو من جهة ما قام بالقلب من الاضطرار لأن إجابة الدعاء من فروع الربوبية، والربوبية ليست خاصة لمسلم دون كافر، إعطاء الأرزاق ليس خاصا بالموحدين، بل يعطي الله جل وعلا الجميع كما قال جل وعلا في جواب سؤال إبراهيم قال ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾[البقرة:126].
قال (وأن قصدهم الملائكة أو الأنبياء ) الأنبياء قصدتها العرب وقصدها المشركون من أهل الملل، عُبد موسى، وعُبد عزير، وعُبد المسيح من دون الله جل وعلا، وقُصد أولئك لأجل الوساطة، لأجل التقرب إلى الله جل وعلا به فصار من قصدهم مشركا حلال الدم والمال لا لأنه طلب منهم استقلالا ولكن لأنه طلب منهم بالوساطة.
قال (أو الأولياء) والأولياء أشرك بهم كما قال جل وعلا ﴿أَفَرَأَيْتُمْ اللَّاتَ وَالْعُزَّى(19)وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى﴾[النجم:19-20].
قصدوا هؤلاء الملائكة والأنبياء والأولياء، يريدون ماذا؟ هل قصدوهم يعني العرب يريدون أن يجيب هؤلاء استقلالا؟ أم قصدوا أولئك بالعبادة يريدون الوساطة، يريدون الزلفى، يريدون الشفاعة؟ قال الشيخ رحمه الله هنا (يريدون شفاعتهم والتقرب إلى الله بذلك).
إذن فشرك الأولين من جهة الوساطة، شرك قوم نوح من جهة التوسط بالصالحين، وشرك قوم إبراهيم من جهة التوسط بما زعموه رَوحانية للكوكب، وشرك العرب فيه هذا وفيه هذا وإن كان الغالب عليه بأنه شرك بالصالحين.
قال (هو الذي أحلّ دماءهم وأموالهم) إذن مع كونهم يُقرون بالربوبية، ومع كونهم يتعبدون ولهم أذكار ونحو ذلك، لكن لما قصدوا غير الله بالعبادة ولو كان على جهة التوسط، فإن ذلك أحل دماءهم وأموالهم؛ لأنّ عندنا مقدمة يقينية ونتيجة متيقنة:
المقدمة اليقينية الأولى: أنهم قصدوا الملائكة والأنبياء والأولياء، هذا بيقين من القرآن، ومن حال العرب.
المقدمة الثانية: أنهم قصدوا الملائكة والأنبياء والأولياء وغير هذه الأشياء، يريدون التقرب إلى الله زلفى، ولا يريدون الاستقلال؛ لا يريدون الطلب على جهة الاستقلال، وإنما أرادوا الطلب على جهة التوسط.
فهذه المقدمة الأولى يقينية، والثانية أيضا يقينية، لقول الله جل وعلا ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾[الزمر:3]. قد ذكرت لكم أن قوله (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) هذا حصر العلة في عبادتهم لإنتاج المعلول وهو التقرب إلى الله زلفى؛ يعني أنه ما توجهوا لهم لأجلهم لذاتهم، ولكن لأجل أن يوصلوهم إلى الله جل وعلا فهاتان المقدمتان يقينيتان.
والنتيجة أيضا يقينية: وهو أن دمائهم حلت وأموالهم حلت للنبي ﷺ ولأصحابه بإحلال الله جل وعلا ذلك لهم وأن سبب الحِلّ، سبب جعل هذه الأشياء حلالا هو شركهم بالله جل جلاله.
قال بعد ذلك (عرفت حينئذ التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأبى عن الإقرار به المشركون) وهذه النتيجة من دخلت إلى قلبه بالبراهين السابقة فقد أوتي حضا عظيما لأن الشبهة إذا تكسرت في البداية فما بعدها أهون أن يتقرر ما ذكرنا وأن يبطل استبعاد شرك المشرك لأجل أنه يصلي أو يزكي أو يحج أو يعتمر أو أنه يذكر الله أوْ أو إلى آخره.
إذن مدار الحكم بالشرك واضح؛ وهو صرف العبادة أو صرف شيء من العبادة لغير الله جل جلاله، فمن أتى به فهو حابط العمل مشرك ولو كان أرفع الخلق ولهذا قال جل وعلا ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ﴾ للنبي ﷺ ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ(65)بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ﴾[الزمر:65-66]، (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) ولو كان سيد الخلق؛ لأن مقام الخالق جل وعلا مقام الرب العظيم أعظم وأعظم وأعظم، وحقه أعظم من أن يحابى فيه لأجل إنسان كائنا من كان، قال (لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ(65)بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ) يعني وحده دونما سواه (وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ)، ونحو هذا في غير هذه الآية.
فإذن إذا صرف أحد العبادة أو صرف شيئا من العبادة لغير الله فهو مشرك وعمله حابط ولو كان أثر السجود في وجهه؛ لأنه أشرك، وليس المدار هنا موازنة أشرك بشيء وتعبد بشيء، ولو كان في الموازنة هنا قائمة بين السيئات والحسنات كما في حال الموحّد فإنّها يكون ثم موازنة في حال المشركين الذين قاتلهم رسول الله ﷺ، والنبي ﷺ لم يقبل من مشرك صرفا ولا عدلا، لم يقبل منهم إلا التوحيد، إلا أن يأتي بلا إله إلا الله التي يعلمون معناها.
إذن بهذه المقدمة إلى هنا يسهل الدخول إلى ما بعده في الكتاب، وأنّ التوحيد هو أعظم المهمات وأعظم الواجبات وأول واجب وآخر واجب، وأنّ من صرف شيئا من العبادة لغير الله فإنه حابط العمل ولو كان ما كان في عمله، هذه إذا دخلت في القلب ولم يكن في القلب تردّد لأجلها، صار إبطال أي شبهة احتج بها المشركون راجعا إلى هذا المحكم.
ولهذا يقرر الشيخ بعد ذلك أن ما ذكرنا من وصف حال المشركين والمقدمات هذه والنتيجة اليقينية المقدمات اليقينية والنتيجة اليقينية، أنّ هذا محكم إذا احتج أحد من المشركين بحديث أو بآية وأولها على غير تأويلها فلك أن ترجع إلى هذا المحكم وأن تترك ما اشتبه عليك علمه؛ لأن هذا يقيني كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى، فهذه المقدمة مهمة للغاية، وهي أساس محكم يمكن أنْ تحتج به في أي مقام على من عاند وأشرك بالله جل وعلا أو حسّن الشرك أو لم يكفر بالطاغوت. نعم
¹
[المتن]
وهذا التوحيد هو معنى قولك لا إله إلا الله، فإن الإله عندهم هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور، سواء كان ملكا أو نبيا أو وليا أو شجرة أو قبرا أو جنيا، لم يريدوا أن الإله هو الخالق الرازق المدبر فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده كما قدمت لك، وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ السيد، فأتاهم النبي ﷺ يدعوهم إلى كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله، والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها والكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي ﷺ بهذه الكلمة هو إفراد الله تعالى بالتعلق به والكفر بما يعبد من دونه والبراءة منه، فإنه لما قال لهم قولوا لا إله إلا الله قالوا: ﴿ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾[ص:5].
فإذا عرفت أن جُهال الكفار يعرفون ذلك فالعجب ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفار، بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب لشيء من المعاني، والحاذق منهم يظن أن معناها لا يخلق ولا يرزق إلا الله ولا يدبر الأمر إلا الله، فلا خير في رجل جهال الكفارأعلم منه بمعنى لا إله إلا الله.
[الشرح]
قال رحمه الله (وهذا التوحيد هو معنى قولك لا إله إلا الله) هذا التوحيد الذي سبق بيانه وهو إفراد الله جل وعلا بالقصد بالذبح بالنذر بالاستغاثة بجميع أنواع العبادة، هذا هو التوحيد، وهو معنى (لا إله إلا الله)؛ لأن كلمة (لا إله إلا الله) مشتملة على نفي وعلى إثبات:
¨ النفي بـ(لا).
¨ والإثبات بـ(إلا).
والذي نُفي بـ(لا) هو استحقاق العبادة، أو أن يكون ثَم إله حق غير الله جل وعلا، فلا إله إلا الله معناها لا معبود حق إلا الله؛ لأن كلمة إله هذه معناها معبود، وهذا هو المعروف في العربية وهو المعروف بحال العرب أيضا؛ لأن إله هذه فعال بمعنى مفعول، مثل فراش بمعنى مفروش وأشباه ذلك، وبناء بمعنى مبني، فإله بمعنى مألوه، وأله يأله إلهة معناها عبد يعبد عبادة مع الحب والتعظيم.
فإذن يكون معنى الألوهية العبودية، ومعنى توحيد الألوهية توحيد العبودية، توحيد الإلهية توحيد العبادة، يكون معنى الإله المعبود، ولهذا اسم الله الذي ترجع إليه أو تجتمع فيه صفات الكمال الله هذا معناه المعبود الحق، قال بعضهم الله علم على المعبود بحق، فالله أصلها الإله -على الصحيح- لأنها مشتقة، وإنما أُطلق عليها يعني خففت الهمزة في الإله فصارت الله لكثرة دعائه ورجائه والتوسل إليه باسمه هذا، ونحو ذلك.
المقصود أن كلمة (لا إله) هذه فيها العبودية وهذا هو المتقرر في العربية وفي القرآن كما قال جل وعلا في سورة النمل فيما ذكرنا ﴿أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾([19]) يعني أمعبود مع الله؟ لأنهم إنما جعلوا معبودا مع الله ولم يجعلوا ربا مع الله جل جلاله، ومن ذلك ما جاء في قراءة ابن عباس المشهورة في سورة الأعراف ﴿أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَإِِلهَتَكَ﴾[الأعراف:127] يعني وعبادتك، ومنه أيضا قول الراجز في شعر ذكرناه لكم مرارا:
لله درّ الغانيات المـُــدّهِ سبّحن واسترجعن من تألهي
يعني من عبادتي، فالتأله وأله يأله والإلهة والألوهة إلى ما يُشتق من هذا المصدر هذا كله راجع إلى معنى التعبد العبادة، فإذن هذه المادة مادة العبادة، وليست مادة للسيادة والتصرف في الأمر، وهذا هو المعروف عند العرب، وهو المعروف عند الصحابة والتابعين، إلى أن تُرجمت كتب اليونان، وصار هناك خلط بين ما جاءت به الشريعة وما في علوم اليونان، فالذين ترجموا هذه الكتب، قرأها من قرأها، وجعلوا القصد الأعظم أن ينظر المرء بهذا الملكوت ويثبت ربوبية الله جل وعلا، لهذا قالوا المقصود الأول هو الربوبية، فإذا أثبت المرء بالنظر أنّ الله جل وعلا هو الموجب لهذا الملكوت صار مقرا ومؤمنا، فالمتكلمون حين تأثروا باليونان في مدارسهم في النظر وفي الفلسفة جعلوا معنى الإله راجع للربوبية، والمتكلمون في ذلك على قولين:
¨ منهم من يقول الإله هو القادر على الاختراع، وهذا في كثير في كتب المتكلمين.
¨ ومنهم من يقول الإله هو المستغني عما سواه المفتقر إليه كل ما عداه.
والأول والثاني وكل منهما قول لطائفة من المتكلمين والأشاعرة والماتريدية إلى غير هذه الفئات، فعلى كل قول منها يكون الإله مفسر بالربوبية؛ لأن القادر على الاختراع، القدرة على الخلق هذه ربوبية، والمستغني عما سواه المفتقر إليه كل ما عداه هذه أيضا ربوبية، فهي من صفات الربوبية لا من صفات الألوهية، لَمّا حصل لهذا في المسلمين وتدوّل هذا القول، صار معلم الإيمان عند أولئك ألا يقر بوجود رَبَّيْنِ، ويعبرون عن ذلك ألا يقر بوجود إلهين، ولهذا في آية صورة الأنبياء ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾[الأنبياء:22] يجعلون هذه الآية دليلا على إثبات تفرد الله جل وعلا بالربوبية، فيقولون هذه الآية هي دليل التمانع، ومعنى ذلك عندهم أن وجود إلهين يقاضي أن يتصرف هذا في ملكوته؛ وأن يتصرف هذا في جزء من الملكوت وهذا في جزء من الملكوت، ولابد أن يحصل تمانع لا بد أن يحصل اضطراب؛ لأن هذا له إرادة وهذا له إرادة وجعلوا الإله هنا هو الرب في نفسه، ولهذا جعلوها دليلا على توحيد الربوبية الذي هو الغاية عندهم، فدخل هذا في المسلمين، ولما دخل وتوسع الناس في اتباع مذهب الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة وطرق المتكلمين صارت الغاية عندهم هي توحيد الربوبية، فلهذا لم يصر أولئك عندهم مشركين هذه أعظم فتنة حصلت في الصد عن لا إله إلا الله وتفسيرها بتوحيد الربوبية.
ولهذا تجد في عقائد الأشاعرة كما في السنوسية الكبرى المسماة عندهم بأم البراهين يقول فيها ما ذكرتهم لكم قبل ذلك يقول: الإله هو المستغني عما سواه المفتقر إليه كل ما عداه. فمعنى لا إله إلا الله لا مستغنيا عما سواه ولا مفتقرا إليه كل ما عداه إلا الله، هذا التفسير وهذه الكلمة على هذا النحو ليست هي كلمة لا إله إلا الله، إنما هي كلمة لا رب في الوجود إلا الله، والإله غير الرب الألوهية مادة والربوبية مادة، ولهذا صاغ نعت اسم الله برب العالمين في قوله جل وعلا ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾([20]) ولو كانت الربوبية هي الألوهية أو كانت الألوهية هي الربوبية هي الألوهية لكان نعتا للشيء في نفسه، وهذا زيادة في الكلام ننزه عنها القرآن.
المقصود من ذلك أن معنى الإلهية عند المتكلمين ومن نحى نحوهم هو الربوبية، ولهذا دعا المشركون وعلماء المشركين إلى التوسط بهؤلاء الأموات بأنّ هذا لا يقدح في التوحيد؛ لأن التوحيد عندهم هو الربوبية، فالقاعدة التي بني عليها استحسان الشرك والتساهل فيه هو الخلاف في تفسير كلمة التوحيد، وذلك لأنهم جعلوا كلمة التوحيد معناها القدرة على الاختراع وأنه لا قادر على الاختراع وعلى الخلق إلا الله جل وعلا، وهذا يؤمن به أبو جهل وأبو لهب وكلّ من قتلهم النبي عليه الصلاة والسلام. ([21])
قال الشيخ رحمه الله (وهذا التوحيد هو معنى قولك لا إله إلا الله ) يعني الذي سبق ذكره قبل ذلك، (فإن الإله عندهم)يعني عند العرب (هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور سواء كان ملكا أو نبيا أو وليا أو شجرة أو قبرا أو جنيا، لم يريدوا أن الإله هو الخالق الرازق المدبر، فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده) وهذا بيقين؛ لأن الله جل وعلا قال ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ﴾[الزخرف:9]، وقال ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾[الزمر:38] الآية، وقال ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ﴾[يونس:31].
فإذن كل مفرادات أو نقول جل مفردات الربوبية نسبوها لله جل وعلا وحده ولم يجعلوا لآلهتهم منها شيئا، لم يجعلوا لآلهتهم شيئا، ولهذا لما ركبوا في الفلك دعوا الله وحده لأنهم يعلمون أن هذا المطلب العظيم إنما يستقل به الله وحده ولا يحب إلا أن يكون إلا الإقبال عليه وحده فيه، ولأن آلهتهم بعدت عنهم، وهذا مخالف لقول المتكلمين ومن نحى نحوهم: إنّ لا إله إلا الله هي لا قادر على الاختراع إلا الله. لأن أولئك لم يشكُّوا في أن هذه الكلمة يعني بأن العرب لم يشكوا بأن هذه الكلمة إنما جاءت للألوهية لا للقدرة على الاختراع، وإلا لقالوا نحن نؤمن بهذا، ولكن قالوا ﴿ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا ﴾[ص:5] فهذا بيقين.
قال الشيخ رحمه الله (لم يريدوا أن الإله هو الخالق الرازق المدبر فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده كما قدمت لك وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ السيد)، (السيد) في لغة العرب هو المتصرف المطاع في ملكه، المتصرف المطاع في ملكه، والسيادة تختلف مثل الرب، فتكون مضافة هذا سيد فلان، سيد البيت، وهذا سيد القبيلة وهذا رب الإبل، وهذا رب المال وأشباه ذلك، فلفظ السيد هو بمعنى لفظ الرب مع اختلاف بينهما.
فمعنى السيد في لغة العرب المتصرف الذي يدبر الأمر ويرجع إليه تدبير ما يملك، هذا هو السيد له السيادة في الملكوت، له السيادة في ملكه.
لكن في العرف الذي عليه الناس في زمن الشيخ وما قبله إلى وقتنا هذا أطلق لفظ السيد على خلاف معناه في العربية، ويُراد بالسيد الذي بيده التوسط أو بيده [....] والمنع أو الذي فيه السر ولهذا يستعملون في السادة الذين يقصدون لأجل العبادات والتوسط يقولون فيهم قدس الله سر فلان، فلان قدس الله سره؛ لأنهم يجعلون لروحه سرا ويطلقون على هؤلاء لفظ السيد، فمثلا السيد البدوي، السيدة زينب، السيد الحسين، السيد العيدروس، السيد المرغني، السيد فلان، السيد فلان، السيد عبد القادر الجيلاني وأشابه هذا.
فيطلقون على الإله لفظ السيد، الإله في العربية الذي ذكرنا عند الناس في هذا الزمان وزمن الشيخ هو ما يسمونه بالسيد، ومن المتقرر أن العبرة بالحقائق لا بالألفاظ، العبرة كما حرره وقرره وهو معروف لكن أطال عليه في هذا الموضع الشوكاني والصنعاني قالوا إنّ تغير الأسماء ومدلولاتها لا يغير الحقائق فإنهم إذا سموا السيد، سموا هؤلاء بالسيد وعنوا بالسيد الإله فإنهم يحاسبون على ما قصدوا لا على أصل اللفظ الذي لم يخطر لهم على بال أو لم يعنوه.
فإذن كلمة السيد يراد منها الإله، يراد منها ما يفهم من معنى كلمة الإله عند أهل العربية، لهذا قال هنا (وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ السيد) من هو السيد؟ الذي يُقصد لأجل التوسط عند الله، بل زاد بعضهم وجعل لهؤلاء السادة نصيبا في الملك من جهة التفويض، فيقولون هناك أوتاد في الأرض أُعطوا بعض التصرف في ملكه؛ في الملك، وبعد الأوتاد هناك أقطاب لهم تصرف، هؤلاء يرجعون إليهم، والأقطاب ترجع إلى الغوث الأكبر في البلد، والأرض قسموها قسمة رباعية وجعلوا لها أربعة أشخاص هم الملاذ والغوث الأعظم، ففي قسم البدوي، وفي قسم عبد القادر وفي قسم فلان وفلان؛ يعني أنهم زادوا على شرك العرب في أن جعلوا لهؤلاء تصرفا في الملك، وهذا شرك في الربوبية مع كونه شركا في الإلهية.
قال (فأتاهم النبي ﷺ يدعوهم إلى كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله، والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرَّد لفظها) قوله (والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرَّد لفظها) لأن الإجماع منعقد على أن من بَلَغَ مجنونا فقال لا إله إلا الله فإنه لا يحكم له بالإسلام؛ يعني إذا كان مشركا قبل ذلك، أو من وُلد مجنونا ثم استمر وقال لا إله إلا الله فإنه لا يحكم له بالإسلام بهذه الكلمة، وإنما يكون تبع لأبويه بتفصيل معروف، فالمشرك الذي كان على الشرك ثم جُنّ وقال لا إله إلا الله في جنونه مائة مرة أو أكثر، بالإجماع عند أولئك المخالفين وعند أهل الحق أنه لا يدخل في الإسلام؛ لأنه تكلم بكلام لم يقصد معناه؛ لأنه لا يعقل المعنى. لهذا فالعبرة فيما تعبد فيه من الألفاظ العبرة بالإقرار بالمعنى لا بمجرد اللفظ، وذلك لأنّ المنافقين قالوا هذه الكلمة ظاهرا وهم بنص القرآن والسنة هم كفار في الدرك الأسفل من النار، فلم ينفعهم قول لا إله إلا الله لأنهم لم يقصدوا معناها أو لأنهم خالفوا ما دلت عليه.
إذن فهذه الكلمة دليلها أنواع من الإجماع هي قوله (والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرّد لفظها) وهذه الإشارة منه رحمه الله لأجل أنّ كثيرين قالوا هؤلاء الذين كفرتموهم أو قلتم هم مشركون يشهدون أو يقولون لا إله إلا الله ويتكلمون بذلك ويذكرون الله في اليوم ألف مرة بلا إله إلا الله، فكيف تقولون ذلك والنبي ﷺ أمر بالكف على من قال لا إله إلا الله وقال لخالد «قتلته بعد ما قال لا إله إلا الله» إلى آخر ذلك، فيقال إنّ قول الكلمة مع مخالفة المعنى هذا غير نافع بالإجماع فيما ذكرنا في المنافقين وفي حال من بلغ مجنونا.
قال (والكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي ﷺ بهذه الكلمة هو إفراد الله تعالى بالتعلق به والكفر بما يعبد من دونه والبراءة منه) المراد بهذه الكلمة ثلاثة أشياء في كلمة الشيخ هذه:
الأمر الأول: إفراد الله تعالى بالتعلق به، وهذا مأخوذ من النفي والإثبات بأنّ لا إله إلا الله معناها لا معبود حق إلا الله، لا أحد يستحق العبادة والتعلق والقصد لأجل العبادة إلا الله جل وعلا. فإذن المراد بهذه الكلمة أولا إفراد الله تعالى بالتعلق به يعني حين التعبد.
والثاني: والكفر بما يعبد من دونه، والكفر بما يعبد من دون الله هذا نفهمه من النفي؛ لأن النفي معناه ما جاء في سورة الزخرف في قول الله جل وعلا ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾[الزخرف:26-27], بضميمة قول الله جل وعلا في سورة الممتحنة عن إبراهيم ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ﴾، (فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) يعني من المرسلين الذين معه على التوحيد من المرسلين والأنبياء ﴿إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ ﴾ كل نبي قال لقومه ﴿إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾[الممتحنة:4]، إذن في آية الزخرف قال جل وعلا الزخرف ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ(27)وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ﴾[الزخرف:26-28]، هذه الكلمة قال المفسرون هي كلمة لا إله إلا الله، فتكون كلمة لا إله إلا الله معناها (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي)، ومعنى البراءة هنا هو ما دلت عليه آية سورة الممتحنة، فشمل ذلك الكفر بما يُعبد من دون الله؛ الكفر بما يعبد من دون الله وشمل البراءة منه، ولاحظ تعلق الكفر والبراءة بما يُعبد وليس بالعابدين لأن الكفر بالعابدين من اللوازم، وليس من معنى الكلمة، والبراءة من العابدين هذا من اللوازم وليس من معنى الكلمة.
الكلمة معناها: كلمة التوحيد يشمل الأمور الثلاثة التي ذكرها الشيخ رحمه الله هنا:
¨ إفراد التعلق بالله.
¨ البراءة من كل معبود سوى الله جل وعلا، أو البراءة من كل عبادة لغير الله جل وعلا.
¨ والثالث: الكفر بكل معبود أو بكل عبادة إلا عبادة الله جل وعلا، الكفر بعبادة مَن دون الله جل وعلا، وهو كله راجع للعبادة نفسها، أما العابدون فهذا له حكم آخر وتفاصيل أخر.
إذن ظهر لك وجه الحجة من كون هذه الثلاثة أشياء التي ذكرها الشيخ رحمه الله تعالى من معنى الكلمة وهو مراد النبي ﷺ لهذه الكلمة.
قال رحمه الله (فإنه لما قال لهم قولوا لا إله إلا الله قالوا: ﴿ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾[ص:5]) هذا ظاهر في أنهم يعبدون آلهة ولا يقرون بأن العبادة والقصد يتوجه به إلى واحد بل يتوجه به إلى متعدد، وما بعده واضح حيث قال (فإذا عرفت أن جُهال الكفار يعرفون ذلك فالعجب ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفرة) إذا كان الكفرة مع علمهم بالمعنى كفروا فكيف يكون حال الذي لا يعلم المعنى أصلا يعني لم يعلم المعنى أصلا ولم يأتِ على باله هو يقع في الشرك مع عدم العلم بالمعنى، لا شك أنه أسوأ حالا من الذي يقع في الشرك مع علمه بالمعنى، فهذا يقع في الشرك وهو غير آمن بالمعنى لأن هذا فرط في واجب وهو أن كلمة التوحيد لا إله إلا الله لا تنفع إلا من علمها فعمل بمقتضاها، وأولئك علموا فخالفوا وهؤلاء المشركون في الأزمنة المتأخرة جهلوا وخالفوا، فقالوا كلمة لم يعلموا معناها فلم تنفعهم من هذه الجهة، ثم خالفوها من جهة العمل فلم تنفعهم أيضا من هذه الجهة، ولو كان هؤلاء تنفعهم الكلمة لكان المنافقون الذين قالوا لا إله إلا الله ينفعهم قولها؛ لأنهم يعلمون المعنى وتلفظوا بها ومع ذلك لما أبطنوا الكفر وعملوا به كانوا أشرّ من الكفار.
قال (بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب لشيء من المعاني) وهذا فيه إبطال التقليد في التوحيد فإن توحيد الله جل وعلا لا يصلح على جهة التقليد، بل لابد أن يعتقد المرء الحق بدليله مع علمه بمعنى كلمة التوحيد ومعنى ما دلت عليه، وهذا الاعتقاد يكفيه أن يكون في عمره مرة بدليله؛ يعني لو علمه لحين دخوله في الإسلام وعلم واستمر على المقتضى واستمر على ما دلت عليه، ثم لو سألته نسي ما عرفه واعتقده بدليله فإنه غير مؤاخذ، مثله المسلم الصغير المميز فإنه إذا عُلِّمَ هذه الكلمة وأخبر بمعناها وفهم ذلك وحفظه دليله أوعرف دليله من الكتاب أو من السنة واستمر على ذلك، فإنه يكفيه لأنه اعتقد الحق واعتقد معنى هذه الكلمة بالدليل غير مقلِّد في ذلك مرة في عمره ثم لم يأتِ بناقض لذلك الشيء، ولهذا عندنا في المدارس في الابتدائي يدرَّس الطالب أو الطالبة ثلاثة الأصول فيها معنى كلمة التوحيد والدليل عليها، وكذلك أركان الإيمان يعني مسائل القبر الثلاثة المعروفة، والعلماء من قديم جعلوا ذلك للمتعلمين الصغار؛ لأنهم إذا عرفوا ذلك بدليله مرَّة في العمر صار إيمانهم بما دل عليه التوحيد عن دليل لا عن تقليد، ولو نسوا بعد ذلك فإنه لا يؤثر ذلك؛ لأن نسيانهم ليس من جهة ترك العمل بما دلت عليه، ولكن من جهة نسيان تفسير الذي يُفصح لك به، لكن لو سألته قلت: هل يُدعا غير الله جل وعلا؟ فيقول لا. لأنه علم معنى الكلمة لو سألته هل يستغاث بغير الله؟ قال: لا، لأنه يعلم معنى الكلمة، بخلاف من خالف المعنى وما دلت عليه بشيء حدث له، يعني تسأله فيجيب بخلاف ما تعلم سابقا هذا يكون لابد له من تجديد علم بدليله، حتى يصبح خالصا من التقليد.
المقصود من هذا أن التقليد في التوحيد لا يجوز، ومن قلد في التوحيد فإنه لا ينفعه؛ لأن الله جل وعلا لام وذم أهل الشرك بقولهم ﴿ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ﴾[الزخرف:22]، وفي الآية الأخرى ﴿مُقْتَدُونَ﴾[الزخرف:23]، فلا بد في التوحيد من دليل ولا ينفع فيه التقليد، وقد أوضحت ذلك مع زيادة بيان وضوابط في شرح ثلاثة الأصول لأن هذا إنما أتى عَرَضا.
قال(والحاذق منهم يظن أن معناها لا يخلق ولا يرزق إلا الله، ولا يدبر الأمر إلا الله) هذا الحاذق من أهل هذا الوقت من المشركين نسأل الله العافية وما قبله بأزمان، [...] عن كلمة التوحيد يفسرها بالربوبية لماذا؟ لأنه هو الذي درسه في مذهب الأشعرية ومذهب الماتريدية أو مذاهب المتكلمين، معنى كلمة التوحيد عندهم لا قادر على الاختراع إلا الله لا رازق إلا الله لا محيي إلا الله لا مميت إلا الله، هذا هو الحاذق المتعلم فيهم، (فلا خير في رجل جهال الكفار أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله) ولو كان صاحب عمامة وجبة ولو كان ما كان فإن علمه غير مناسب لأن هذه الكلمة هي أساس كل خير، فإذا كان يجهل معناها فإنه لا خير فيه ولو ادّعى فيه الناس ما يدعون.
نقف عند هذا ونجيب على بعض الأسئلة.
[الأسئلة]
1/ هذا يقول من فسّر كلمة التوحيد بقوله لا حاكمية إلا لله متعلقا بقوله تعالى ﴿إِن الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾([22]) وهل هذا التفسير مستقيم أم هو غير ذلك نرجو التوضيح؟
من فسر كلمة التوحيد بقوله لا حاكمية إلا لله، ويقول هذا هو معناها فهذا من جنس قول الخوارج؛ لأنهم هم فسروا التوحيد بتوحيد الحكم لقول الله جل وعلا ﴿فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ﴾[غافر:12]، ولقوله جل وعلا (إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) والحكم يجب إفراد الله جل وعلا به، وهو من مفردات توحيد الإلهية؛ لأنّ الحكم يعني في الشرع الحكم بالقرآن هذا تحكيم لله، فهو قصد لله جل وعلا طلبا للحكم، فهو من هذه الجهة فيه القصد، قصد القلب والعمل لطلب حكمه فيها، فمن قال معنى لا إله إلا الله لا معبود حق إلا الله كما هو تفسير أهل العلم فإنه يدخل فيه هذا المفرد من المفردات وهو إفراد الله جل وعلا بأنه هو المستحق للتحاكم إليه، لهذا إمام هذه الدعوة جعل من أبواب كتاب التوحيد أبوابا تخصّ هذه المسألة وهي مسألة التحاكم تحليل الحلال وتحريم الحرام وعدم طاعة أحد في تحليل الحرام أو تحريم الحلال في أبواب معروفة، فالمقصود أنّ تفسير لا إله إلا الله بلا حاكمية إلا الله هذا من جنس تفاسير المبتدعة؛ لأنّ لا حاكمية مساوية لـ: لا إله؛ فيعني أنّ الإله هو الحاكم وهذا غلط لأنّ الإله لا في اللغة ولا في العرف ولا في ما جاء به القرآن أن الإله هو الحاكم، وإنما الإله هو الذي يستحق العبادة، ومن العبادة القصد لأحدٍ لتحكيمه بغير شرع الله أو بشرع الله إذا قصد أحدا لتحكيمه راضيا بذلك مختارا فإنه قد عبده، وهذا هناك فرق بين مسألة الحكم والتحكيم قال جل وعلا في سورة النساء ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ﴾[النساء:60] قال طائفة من أهل العلم قوله هنا (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا) فيه اعتبار الإرادة وذلك أن يتحاكم عن رغبة ورضا بحكم الطاغوت، بخلاف ما لو أكره عليه أو أجبر أو أضطر إلى ذلك غير راغب ولا مريد في أشباه هذه الحالات.
المقصود من هذا أنه يكون عابدا لغير الله إذا تحاكم راغبا في ذلك مُعظِّما له كحال العابد المحكم في الله جل وعلا في ذلك، فالحكم لله تبارك وتعالى تحكيم القرآن تحكيم لله، تحكيم السنة تحكيم لله جل وعلا، ولهذا لا يطلق الحاكم إلا على من حكم بشرع الله جل جلاله.
2/ هذا سؤال عرضنا له مرارا: هل هناك فرق بين أهل الحديث والفرقة الناجية المنصورة، وما حجة من فرق بينهما؟
مرّ علينا عدة مرات.
3/ من وقع في شرك الأولياء وكان كما ذكرت مصليا عابدا يظن نفسه موحدا مؤمنا، وكان في بلاد علماؤها يلبسون على العوام، ولا يبينون أن هذا شرك بل يفعلون ما يدل على إقرارهم على هذا الشرك من شهود الموالد وإقامة الدروس في المساجد التي بها قبور الأولياء فهل يعذر هؤلاء العوام بجهلهم وعدم وجود من يبين لهم؟
هذه المسألة معروفة بمسألة العذر بالجهل، ونرجئ الكلام عليها إلى مقام آخر إن شاء الله تعالى.
4/ هناك بعض الناس في بلاد أخرى يأتون إلى بعض الناس يزعمون أنهم أولياء فيطلبون منهم أن يدعوا لهم الله عز وجل فما حكم هذا العمل؟
إذا أتى إلى ميت؛ ولي أو نبي أو نحو ذلك فطلب منه أن يدعو الله له؛ يعني قال: يا فلان أدعو الله لي. هذا ميت، هذا هو معنى الشفاعة فمعنى طلب الشفاعة من الميت طلب أن يدعو الله له، أن يسأل الله، فإذن قول القائل للميت أدعو الله لي، أو يأتي للنبي ﷺ خارج الحجرة والأسوار ويقول يا رسول الله أدعو الله لي أن يرزقني بكذا، ومعنى هذا اشفع لي بهذا المطلب، لهذا معنى أدعو الله لي اشفع، وحكمها حكم الشفاعة وقد مر معنا في هذا الكتاب أنّ أولئك ما قصدوا إلا الشفاعة، وهم حين يتقربون للموتى يريدون في النهاية أن الموتى يشفعون لهم إذا طلبوا ومنهم شيئا، فيأتي يذبح له ينذر له في المواسم وبين الحين والآخر لظنه أن هذا الميت أو هذا الولي أو هذا النبي أو هذا الجني أو إلى آخره يعرفه بأنه يتقرب إليه، فإذا سأله عند حاجته فإنه مباشرة يرفع حاجته ويدعوا له ويطلب له ما سأل؛ لأنه يتقرب إليه، فهم ما عبدوا إلا للقربى، ولا ذبحوا ولا نذروا ولا استغاثوا ولا عملوا هذه الأشياء بأنواع العبادات إلا لأجل أن يُشفع لهم يعني أن يشفع لهم من سئل.
فإذن من طلب من الميت أن يدعو له هذا معناه أنه طلب منه أن يشفع له والشفاعة لا تصلح إلا لله.
5/ هل يصح ما يقال أنه أشرف من عبد من دون الله هم الملائكة؟
ما لها حاجة العبارة هذه أصلا؛ أشرف من عبد من دون الله الملائكة، لا حاجة للعبارة أصلا، والملائكة على الصحيح يفضُلُهم الأنبياء والمرسلون، فالأنبياء والمرسلون والأولياء أفضل من الملائكة على الصحيح في هذه المسألة.
هذه هي المسألة المعروفة بالتفضيل بين الملائكة والبشر، عفوا البشر عن الملائكة، هناك أقوال فيها والتحقيق أن صالحي البشر الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين من عباد الله أفضل من الملائكة لأدلة كثيرة في هذا المقام، وقد بسطها العلماء في مواطنها.
شيخ الإسلام كان إذا سئل عن هذه المسألة يسكت، يقول كنت أظن أن الكلام فيها محدث وأن السلف سكتوا عنها كنت أسكت عن الكلام فيها كما سكت السلف، حتى وجدت أن الكلام في التفضيل بين الملائكة والبشر سلفيٌّ أثري ثم ساق أقوال الصحابة والتابعين فيما وقف عليه في هذه المسألة.
6/ هل إجابة دعاء من كان يدعو عند القبر فيه ابتلاء لهذا الداعي؛ لأنه سوف يظن أن المجيب له صاحب القبر؟
هذا لاشك والابتلاء وقع في هذه المسألة وفي غيرها، فإذا أجيب دعاء من دعا عند القبر فإنه وقع له هنا المخالفة وابتلي بسببها بأنه لو أجيب لظن أن سبب الإجابة صاحب القبر أو بركة المكان، وهذا ابتلاء وشبهة وقع فيها لأنه فرّط في الحق، وكما ذكرتُ لك أنه يكون الإجابة لسِرٍّ؛ لسبب تعلّق بدعائه، وهو يظن أن السبب هو القبر، هذه المسألة مذكروة في شرح الطحاوية في أواخرها.
7/ ذكرت أن المنافقين قالوا لا إله إلا الله مع أنها لا تقبل منهم، ولكن يمكن أن يجيب عليها فيقول لا تقل له إنه كافر في الدنيا بل نقول إنه مسلم ونرد علمه إلى الله، هؤلاء الذين يصلون إلى القبر ويعبدون عبد القادر مثلا لا نطلق عليهم لفظ الكفار بل هم مسلمون، ونرد أمرهم إلى الله؟
هذا يعطينا دخول في بحث نريد أن تتنبهوا له فيما تسمعون أو تقرؤون، يكون هناك تنظير شيء بشيء لمعنى من المعاني أو لقدر من الاحتجاج، فلا توسع أنت ذاك إلى شيء أوسع مما كان الكلام فيه، لأن هذا يعطيك لبسا في الفهم وأيضا يوقعك في إشكالات علمية دائما، فالتنظير لا يكون دائما على جهة التكامل أو التماثل ما بين الأول والثاني، وإنما قد يكون لجهة من الجهات مثل ما ذكرنا في ورود الشبه بين المنافقين وبين من يقول لا إله إلا الله ويريد الاكتفاء بلفظها، وجه المشابهة قلنا إنه بالإجماع المنافق لم تُفده كلمة لا إله إلا الله، لم تفده في الظاهر أو في الباطن؟ الكلام معروف أنها لم تفده في الباطن، لكن هي لم تفده، ولو أفادته لنجى بها من النار، لكن لم تفده، كذلك من قالها ولم يعلم معناها فإنها لا تفيده من باب أولى؛ لأنه اشترك مع المنافق في القول، والمنافق زاد عليه في العلم، وذاك جهل فهذا قال لفظا ظاهرا وجهل المعنى، وذاك قال لفظا وعلم المعنى ومع ذلك في الدرك الأسفل من النار، لا يعني هذا أن ترتب جميع اللوازم على هذا التنظير من أن تقول أن هؤلاء مسلمون ظاهرا فهل نحكم لهؤلاء بالإسلام الظاهر إلى أشباه هذه الكلمة وإنما القصد أن نمثل للقول بالقول.
8/ ما معنى البراءة والكفر بما عُبد من دون الله؟
ذكرنا هذا.
9/ هل إجابة الله دعاء الحي من صاحب القبر من الاستدراج؟
لا، هو من الفتنة له.
10/ نسمع في كتب العقيدة كثيرا ما يُكررون قولهم هذه المسألة شرك أصغر لأنها اعتقاد السببية فيما لم يجعله الله سببا لا قدرا ولا شرعا كحال في التمائم والطيرة، فهل هذه الحالة مطردة؟
هذه مسألة طويلة والجواب عليها يحتاج على وقت، لكن تلخيصها أن في مسائل الشرك الأصغر نُرجع كثيرا ما يُحكم عليه بأنه شرك أصغر بالتعلق بالأسباب.
الأسباب منها شيء أذن الله جل وعلا به ومنها شيء لم يأذن الله به شرعا، هذا واحد.
والأسباب منها ما جعله الله جل وعلا كونا وقدرا في كونه وما جعل سنته عليه –الأشياء-، ما جعله يعطي المسبب؛ ينتج النتيجة ومنها ما جعله لا ينتج النتيجة التي يظنها الظان.
مثلا الماء سبب لإزالة العطش أليس كذلك؟ الماء الحلو، لكن الماء المالح لم يجعله الله سببا كونيا لإزالة العطش، وإنما جعل الله جل وعلا الماء العذب هو سبب إزالة العطش.
الماء والنار، الماء تطفئ النار، فإذا احتجت إلى إطفاء النار لا تأتي بنار أخرى وإنما تأتي بماء.
يعني جعل الله جل وعلا لكل شيء سببا، وجعل هذه الأسباب تُنتج المسبَّبات، فمن جعل شيئا من الأشياء سببا لشيء آخر لم يكن في الشرع سببا له، فهذا مشرك الشرك الأصغر، بمعنى في الشرع ليس هذا السبب جائزا أو لم يُجعل في الشرع التعلق بهذا السبب أو استعماله جائزا، فإنه يكون ذلك منه تعلق بسبب ليس بسبب شرعي، فيكون شركا أصغر مع ضميمة الشيء الثاني وهو أن يكون هذا السبب لا ينتج المسبب كونا؛ لأن الأسباب قد تكون تنتج المسببات قدَرا ولكنها ممنوعة شرعا مثل الشفاء أو الاستشفاء بالمحرمات يشرب الخمر فيتداوى بها، يسمع موسيقى فينتفع بها في الدواء، هذه أسباب كونية قد تكون تؤثر في إنتاج مسبَّباتها، لكنها شرعا ممنوعة.
فمن استعمل سببا كونيا في إنتاج المسبَّب -الذي هو النتيجة- فيما نعلمه كونا أنه ينتج هذا السبب، نقول هذا لا يجوز شرعا وليس بشرك.
ولكن من جعل سببا ليس بسبب كوني ولا شرعي وتعلق به فإنه يكون مشركا الشرك الأصغر .
نرجع في تلخيص هذا أن الأسباب منها ما ينتج المسبب، ومنها ما لا ينتجه، فإذا كان ينتج المسبب كونا يعني فيما تعارفه الناس فتنظر، هل أباحته الشريعة أم لم تبحه؟
فإن أباحته الشريعة فهذا جائز استعماله لأنه سبب شرعي وقدري هذا نوع.
إذا لم تجزه الشريعة فيكون سببا كونيا مثل التداوي بالمحرمات، ولكنه ليس بسبب شرعي فهذا نقول غير جائز.
والحالة الثالثة ما ليس بسبب لا شرعي ولا كوني فإن هذا يكون التعلق به شركا أصغر؛ مثل تعليق خيط، يعلق خيط ويتعلق قلبه به فيدفع عنه العين، ما علاقة خيط من حبال أو قطن ما علاقتها بدفع العين؟ هذا ليس في الكون ما يثبت السببية، وليس في الشرع أيضا ما يجعل هذا السبب مأذونا به، فيكون التعلق به شركا. كذلك التميمة، تميمة طلاسم أو تميمة بها أشياء أو تميمة وضع خرز أو تميمة وضع جلد أو إلى آخره، هل هذا السبب ينتج المسبب قدرا لا ينتجه، وهو غير مأذون به شرعا، فإذن اجتمع فيه أنه ليس بمأذون به شرعا وأنه لا ينتج المسبَّب قدرا فصار التعلق به شركا أصغر.
يوضحه التميمة من القرآن، تميمة من القرآن هل هي شرك؟ ليست بشرك مع أنها تميمة، لكن اختلف العلماء هل يجوز تعليق التميمة من القرآن أم لا؟ وبالاتفاق لا تسمى شركا لأنّ التعلق بالقرآن من جهة كونه شفاء سبب كوني وسبب شرعي -صحيح؟- التعلق بالقرآن، لكن تعليق القرآن وإن كان سببا كونيا لكنه ليس بسبب شرعي، فلهذا لا يصح أن يطلق على تعليق التمائم من القرآن أنها شرك، ولكن نقول الصحيح أنها لا تجوز، و...([23])
¹
[المتن]
إذا عرفت ما ذكرت لك معرفة قلب وعرفت الشرك بالله الذي قال الله فيه ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾([24]) وعرفت دين الله الذي أرسل به الرسل من أولهم إلى آخرهم الذي لا يقبَل الله من أحد سواه، وعرفت ما أصبح غالب الناس فيه من الجهل بهذا أفادك فائدتين:
الأولى الفرح فضل الله ورحمته كما قال تعالى ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾[يونس:58].
وأفادك أيضا الخوف العظيم؛ فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يُخرجها من لسانه وقد يقولها وهو جاهل فلا يعذر بالجهل، وقد يقولها وهو يظن أنها تقربه إلى الله تعالى كما ظنّ المشركون، خصوصا إن ألهمك الله ما قص عن قوم موسى مع صلاحهم وعلمهم أنهم أتوه قائلين ﴿اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾[الأعراف:138].
فحينئذ يعظم حرصك وخوفك على ما يخلصك من هذا وأمثاله.
[الشرح]
بسم الله الحكيم، الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لمجده، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
قال إمام الدعوة الإصلاحية السّلفية في هذه القرون المتأخرة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى بعد أنْ ذكر أصولا ومحكمات في فهم التوحيد وفهم الشرك وما كان عليه أهل الجاهلية من الإشراك بالله جل وعلا وصفة ذلك الشرك وما يتصل بذلك، قال (إذا عرفتَ ما ذكرتُ لك معرفة قلب) يعني أنّ الذي سلف يحتاج إلى العلم، فالعلم منه ما يُعلم بإدراكٍ لأول وهلة ثم يترك، ومنه ما يُعرف معرفة قلب، فيكون مدركا ومستقرا في القلب ومعلوما بأدلته وبراهينه.
قوله هنا رحمه الله (إذا عرفتَ ما ذكرتُ لك معرفة قلب) المعرفة هي العلم في هذا الموضع يعني إذا علمت ما ذكرت لك علم قلبٍ، والعلم والمعرفة في ابن آدم متقاربان، أما في حق الله جل وعلا فإنما يوصف سبحانه وتعالى بالعلم دون المعرفة، والمعرفة في القرآن أكثر ما جاءت في سبيل التهجين لها وأنها لا تنفع؛ لأنها معرفة بالظاهر لا معرفة القلب، كما قال جل وعلا ﴿ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا﴾[النحل:83]، وكما قال ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾([25]) فأتت المعرفة لا في مقام المدح في القرآن بل في مقام الذّم، وهذا لأجل أن المعرفة لا يتبعها العلم بالحق دائما والإذعان له والعمل به، وإنما قد تكون قائدة لذلك وقد لا تكون وهو الأغلب، وعامة العلماء على أن المعرفة والعلم في ابن آدم متقاربان؛ لكن يختلفان في أن المعرفة قد يسبقها؛ بل المعرفةُ يسبقها جهل بالشيء أو ضياع لمعالمه، فجهل ثم عرف أو ضاعت معالم الشيء عليه ثم اهتدى إليه وعرفه، كما قال جل وعلا في قصة يوسف ﴿فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ﴾[يوسف:58] هذا من جهة العلامات والصفات.
فإذن المعرفة والعلم بمعنى واحد، ولهذا جاء في حديث معاذ حين بعثه النبي ﷺ إلى اليمن أنّه قال عليه الصلاة والسلام «فليكن أول ما تدعوهم إليه إلى أنْ يعرفوا الله، فإذا هم عرفوا الله فاعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة» في بعض ألفاظ ذلك الحديث، نعم المحفوظ فيه «فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله» لكن عُبّر عن ذلك تارة بالتوحيد وتارة بالمعرفة، وهذا يدل على أن المعنى عند التابعين الذين رووا بهذا وهذا متقارب، لهذا يستعمل العلماء كلمة المعرفة وكلمة العلم متقاربة، وهذا هو الذي درج عليه الشيخ رحمه الله تعالى هنا؛ لأنه مخاطب من ليس عنده ذلك التفريق الدقيق بين المعرفة والعلم.
قال (إذا عرفت ما ذكرت لك معرفة قلب) وهذا المقصود به علم القلب؛ لأن المعرفة معرفة اللسان أو معرفة الظاهر قد لا تقود للإذعان للحق، لكن معرفة القلب معها الاستسلام لذلك الحق.
قال (وعرفت الشرك بالله الذي قال الله فيه ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾([26])) هذه المعرفة الثانية عرفت الشرك من حيث دلالته وصفته وحكمه وما كان عليه المشركون في إشراكهم بالله جل وعلا، فإذن هذا النوع الثاني من المقدمات، والشيخ رحمه الله في هذا الكلام يقدم بمقدمات للنتيجة التي يصل إليها وهي قوله بعد ذلك (أفادك فائدتين)، قال (وعرفت الشرك بالله الذي قال الله فيه ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾) الشرك اتخاذ الشريك، واتخاذ الشريك قد يكون على جهة التنديد الأعظم، وقد يكون على جهة التنديد الأصغر، حقيقة الشرك أن يُتخذ النّدّ مع الله جل وعلا واتخاذ الند مع الله قسمان:
إتخاذ للند فيما يستحقه الله جل وعلا على العبد من توحيده بالعبادة، وهذا التنديد هو الشرك الأكبر، كما جاء في حديث ابن مسعود حين سأله أي الذنب أعظم؟ قال عليه الصلاة والسلام «أن تجعل لله ندا وهو خلقك»، وكما قال جل وعلا ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[البقرة:22] ونحو ذلك.
وهناك تنديد أقل يعني أن يجعل للمخلوق شيء من الندية ولكن لا تصل إلى صرف العبادة لغير الله، وهذا من جهة التعلق ببعض الأسباب التي لم يأذن الله جل وعلا بها، أو تعظيم بعض الأشياء تعظيم الذي لا يوصل إلى ما يناسب مقام الربوبية مثل الحلف بغير الله، ومثل قول لولا الله وفلان وأشباه ذلك.
فإذن الشرك هو التنديد، وهو اتخاذ الشريك مع الله جل وعلا، والتنديد قسمان:
¨ تنديد أعظم: وهو أن يجعل ما هو محض حق الله جل وعلا للمخلوق.
¨ وتنديد أصغر: وهو أن يجعل للمخلوق شيئا مما يجب أن يكون لله، لكن لا يبلغ أن يصل إلى درجة الشرك الأكبر.
ولهذا اختلف العلماء في تعريف الشرك الأصغر وفي ضابط الشرك الأصغر ما هو، كما سبق أن مرّ معكم في كتاب التوحيد:و
منهم من قال الشرك الأصغر هو ما دون الشرك الأكبر مما لم يوصف بالنصوص بأنه مخرج من الملة أو أنه فيه صرف العبادة لغير الله جل جلاله.
وقال آخرون الشرك الأصغر هو كل وسيلة إلى الشرك الأكبر.
والثاني ينضبط في أشياء ولا ينضبط في أشياء أخر.
فمدار ضابط الشرك الأصغر على أشياء ورد النص بتسميتها شركا أو أن حقيقتها تشريك ولا تبلغ التنديد الأعظم في صرف العبادة لغير الله جل جلاله، فقوله جل وعلا ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾، ظاهر في التحذير والتخوف من الشرك لأن الشرك لا يغفر (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) وأما الذنوب فهي على رجاء الغفران كما قال هنا جل وعلا ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وكما قال جل وعلا ﴿قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾[الزمر:53]، أجمع العلماء على قوله (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) نزلت في حق من تاب، فإذن قوله جل وعلا (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) في حق من مات على غير التوبة مصرا على معصية فهو على رجاء الغفران تحت المشيئة إن شاء الله غفر له وإن شاء عذبه بذنبه، وأما من تاب فإنه لا يدخل تحت المشيئة لقوله جل وعلا (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) ولقوله جل وعلا ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾[طه:82]، في آيات كثيرة في هذا المقام.
وهاهنا في هذه الآية بحث وهو أن قوله جل وعلا (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) فيه النكرة في سياق النفي، ومن المتقرر في الأصول؛ أصول الفقه وفي علم العربية أن النكرة في سياق النفي تعم، وهنا وقعت النكرة في سياق النفي، والنكرة هي المصدر المنسبك من (أنْ) والفعل المضارع يشرك؛ لأن معنى الكلام إن الله لا يغفر شركا به والمصدر نكرة، وهذا يعني العموم؛ عموم الشرك، فيكون المراد هنا أن الله جل وعلا لا يغفر أي نوع من أنواع الشرك، فالشرك على هذا لا يدخل تحت الغفران سواء أكان أكبر أم كان أصغر أم كان في شرك الألفاظ وأشباه ذلك، بل إنما يقع فيه من الموازنة بين الحسنات والسيئات، وإما يؤخذ العبد به فيعذب عليه، وهذا اختيار جمع من المحققين منهم شيخ الإسلام بن تيمية، ومنهم أكثر أئمة الدعوة رحمهم الله تعالى، بناء على القاعدة الشرعية على ذلك.
قال آخرون من أهل العلم إن قوله جل وعلا (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) هو عام لأن أن يشرك نكرة أتت في سياق النفي فهي دالة على العموم، لكن العموم تارة يراد به الخصوص لأن العموم عند الأصوليين على ثلاثة:
¨ مراتب عموم باق على عمومه.
¨ وعموم مخصوص.
¨ وعموم مراد به الخصوص.
فيكون اللفظ عاما ولكن المراد به شيء خاص، كما في قوله جل وعلا ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾[الأنعام:82]، فهنا قوله (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) هذه نكرة أيضا في سياق النفي بـ(لم) وهذه تدل على عموم الظلم، ولهذا فهم الصحابة ذلك فقالوا: يا رسول الله أيّنا لم يظلم نفسه؟ قال «ليس الذي تذهبون إليه فإنما الظلم الشرك ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾[لقمان:13]»، فأفهمهم عليه الصلاة والسلام أنّ المراد هنا بالظلم خصوص الشرك، فإذن يكون اللفظ عاما ولكن المراد به خصوص الشرك، وهذا ما يسميه الأصوليون عموم مراد به الخصوص، ففي هذه الآية قال طائفة من أهل العلم اللفظ عام ولكن المراد به خصوص الشرك الأكبر؛ لأنه هو الذي نعلم من النصوص أنه لا يُغفر وأنّ صاحبه متوعد بالنار كما قال جل وعلا مثلاً في سورة الحج إنه ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ﴾[الحج:31]، وكما قال جل وعلا في سورة المائدة ﴿وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾[المائدة:72]، قوله في سورة المائدة (مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) (مَنْ) هذه شرطية و(يُشْرِكْ) فعل فيه الحدث فيه المصدر وهي نكرة هذا يدل على العموم، لكن لما رتب الأثر وهو أن الله حرم عليه الجنة ومأواه النار علمنا أن المراد خصوص الشرك الأكبر، فقالوا هذه الآية مثل تلك.
قال الأولون هذه الآية فيها عدم المغفرة وعدم المغفرة لا يستلزم الخلود في النار، وهذا غير الآيات التي فيها الخلود في النار، فتلك الآيات دالة على أن المراد بالشرك الخصوص؛ خصوص الشرك الأكبر لأن السياق يقتضيه، وأما هذه فلا دليل عليها.
وعلى العموم كما ذكرنا القول الأول هو قول الأكثرين، وعليه يتم الاستدلال هنا، وهو أن من عرف من الشرك الأكبر والأصغر في قول الأكثرين من أهل العلم لا يدخل تحت المغفرة أفاده الخوف من الشرك بالله جل وعلا؛ لأنه ليس ثَم شركا على هذا القول يدخل تحت المغفرة، بل إن الله جل جلاله لا بد أن يؤاخذ بالشرك، فإنْ كان شركا أكبر فالخوف عظيم منه فلا بد من معرفته ومعرفة وسائله ومعرفة أفراده حتى يحذره العبد، وإن كان شركا أصغر فلا بد أيضا من معرفته ومعرفة أفراده ومعرفة وسائله حتى يحذره العبد؛ لأن الجميع لا يدخل تحت المغفرة.
فإذن قول الشيخ رحمه الله تعالى هنا (وعرفت الشرك بالله الذي قال الله فيه ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾) يريد منه وضوح صورة الشركن ثم الخوف من الشرك، وأثر ذلك الخوف وهو أن يسعى العبد في تعلم التوحيد وتعلم ضده الذي هو الشرك الأكبر والأصغر حتى لا يخاطر بدينه وبنفسه وبمستقبله في الآخرة لأشياء يتساهل فيها في هذه الدار الفانية.
هذه النقطة الثانية التي تكلم عليها الشيخ.
الثالثة من المقدمات قال (وعرفت دين الله الذي أرسل به الرسل من أولهم إلى آخرهم الذي لا يقبل الله من أحد سواه) دين الله الذي أرسل به الرسل هو الإسلام، الإسلام المراد به هنا الإسلام العام الذي يشترك في الدعوة إليه كل رسول، فكل رسول أتى بالإسلام العام، وأما محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام فأتى بالإسلام العام والإسلام الخاص الذي هو شريعة الإسلام، والرسل من قبل مسلمون وأتباع محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام مسلمون، وإسلام من قبلنا دخول بالإسلام العام، وأما إسلام هذه الأمة فهو إسلام من جهة العقيدة ومن جهة الشريعة.
وما هو الإسلام العام؟ الإسلام العام هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله.
هذا التعريف للإسلام دعا إليه الرسل جميعا، أن يُستسلم لله بالتوحيد وأن يُنقاد له بالطاعة والطاعة هنا بحسبها طاعة لكل رسول جاء كل أمة بحسب الرسول الذي جاءها والبراءة من الشرك وأهله.
فإذن هذا الأصل هو الدين عند الله جل وعلا الذي قال الله فيه ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾[آل عمران:19]، وبقوله ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ﴾[آل عمران:85]، قبل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام كل مخاطب بالإسلام الذي بعث به الرسول الذي أرسل إلى تلك الطائفة، وبعد محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام لا يُقبل من أحد لا الإسلام الذي بعث به محمد عليه الصلاة والسلام.
فإذن دين الله الذي أرسل به الرسل مشتمل تحقيق التوحيد لله وخلع الأنداد والكفر بالطاغوت، كما قال جل وعلا في سورة النحل ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾[النحل:36]، وقال ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾[فاطر:24] ونحو ذلك من الآيات.
فإذن العلم بدين الرسل هذا مهم للغاية، وتعلم دين نوح عليه السلام، وتعلم دين إبراهيم عليه السلام، وما خالف به نوح قومه وما خالف به إبراهيم قومه، وكذلك دين موسى عليه السلام ودين عيسى وما خالفوا به أقوامهم، وكذلك الدين الذي بُعث به سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام وما خالف به أقوامهم.
إذا عرفت حقيقة دين المرسلين فإنه يسهل عليك أن تعرف ما عليه الناس في الأزمان التي غلب فيها الجهل.
قال –هذه الأخيرة؛ الرابعة من المقدمات- (وعرفت ما أصبح غالب الناس فيه من الجهل بهذا أفادك فائدتين) التوحيد ترْكه ممن تركه راجع إلى أحد شيئين أو هما معا في بعض الأحوال:
¨ الأول: الجهل به.
¨ والثاني: العناد.
والجهل قد يكون لعدم وجود من ينبه وقد يكون للإعراض عن البحث فيه.
والعناد والاستكبار هذا يكون مع العلم وإقامة الحجة.
وكل من الأمرين مُكَفِّر؛ فمن لم يأتِ بالتوحيد عن إعراض منه وجهل فهو كافر، ومن لم يأتِ بالتوحيد ويترك الشرك بالله جل وعلا عن عناد واستكبار فهو كافر، لهذا قال العلماء الكفر كفران:
1. كفر إباء واستكبار كقوله جل وعلا ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ﴾[البقرة:34].
2. والنوع الثاني الإعراض كما قال جل وعلا ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾[الأنبياء:24].
فليس كل من كفر كَفر عن عناد واستكبار، بل قد يكون كُفره عن الإعراض، ولهذا جاء في أواخر نواقض الإسلام التي كتبها إمام الدعوة رحمه الله؛ الناقض العاشر الإعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به. لا يهمه أن يعلم التوحيد ولا يهمه أن يعرف الشرك ولا يهمه هذه المسائل، يُعرض عن دين الله أصلا.
وإذا تقرر ذلك فهنا ما أصبح غالب الناس فيه من الجهل بذلك، هذا من جهة الحكم على الواقع ذاك الذي تكلمنا عليه من جهة التأصيل؛ أنّ الكفر قد يكون من جهة الإعراض والجهل، وقد يكون من جهة الإباء والاستكبار، ومن جهة الواقع يعني الحكم على الناس فإن المتلبس بالشرك يُقال له مشرك سواءً أكان عالما أم كان جاهلا، والحكم عليه بالكفر يتنوع:
فإن أُقيمت عليه الحجة؛ الحجة الرسالية من خبير بها ليزيل عنه الشبهة وليُفهمه بحدود ما أنزل الله على رسوله التوحيد وبيان الشرك فترك ذلك مع إقامة الحجة عليه فإنه يعد كافرا ظاهرا وباطنا.
وأما المعرض فهنا يعمل في الظاهر معاملة الكافر، وأما باطنه فإنه لا نحكم عليه بالكفر الباطن إلا بعد قيام الحجة عليه؛ لأنه من المتقرر عند العلماء أن من تلبس بالزنا فهو زان، وقد يؤاخذ وقد لا يؤاخذ، إذا كان عالما بحرمة الزنا فزنى فهو مؤاخذ، وإذا كان أسلم للتو وزنى غير عالم أنه محرم فالاسم باق عليه؛ لكن –يعني اسم الزنا باق أنه زانٍ واسم الزنا عليه باق- لكن لا يؤاخذ بذلك لعدم علمه.
وهذا هو الجمع بين ما ورد في هذا الباب من أقوال مختلفة.
فإذن يفرق في هذا الباب بين الكفر الظاهر والباطن، والأصل أنه لا يُكَفَّر أحد إلا بعد قيام الحجة عليه لقول الله جل وعلا ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾[الإسراء:15]، والعذاب هنا إنما يكون بعد إقامة الحجة على العبد في الدنيا أو في الآخرة، قد يُعامل معاملة الكافر استبراء للدين وحفظا له، من جهة الاستغفار له، ومن جهة عدم التضحية له، وألاّ يزوج وأشباه ذلك من الأحكام.
فإذن كلام أئمة الدعوة في هذه المسألة فيه تفصيل ما بين الكفر الظاهر والكفر الباطن، ومن جهة التطبيق في الواقع يفرقون، فإذا أتى للتأصيل قالوا هو كفر سواء أكان كفره عن إعراض وجهل أو كان كفره عن إباء واستكبار، وإذا أتى للتطبيق على المعين أطلقوا على من أقيمت عليه الحجة الرّسالية البينة الواضحة أطلقوا عليه الكفر، وأما من لم تقم عليه الحجة فتارة لا يطلقون عليه الكفر كما قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في موضع: وإن كنا لا نكفر من عند قبة الكوّاز وقبة البدوي لأجل عدم وجود من ينبههم. الشيخ ما كفر أهل [الجبيلة] ونحوهم ممن عندهم بعض الأوثان في أول الأمر لأجل عدم بلوغ الحجة الكافية لهم، وقد يطلق بعضهم على هؤلاء الكفر ويراد به أن يعاملوا معاملة أهل الكفر حرزا ومحافظة لأمر الشريعة والإتباع، حتى لا يستغفر لمشرك، وحتى لا يضحي عن مشرك، أو أن يتولى مشركا ونحو ذلك من الأحكام.
فإذن نخلص من ذلك (وعرفت ما أصبح غالب الناس فيه من الجهل بهذا ) أنّ هذا الجهل بالتوحيد مذموم غاية الذم، سواء أطلقنا عليه حكم الكفر ونعني به الظاهر، لا الكفر الكامل الذي هو ردة مخرج من الدين أصلا، وإنما الكفر الظاهر الذي تترتب عليه الأحكام الظاهرة في الدنيا، أو قلنا أنه في هذا أتى بخطر عظيم في جهله بالتوحيد، فهذا ينبئك عن أن غالب الناس اليوم كما قال الله جل وعلا ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾[يوسف:106]، وكما قال بل أكثرهم ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾[الأنبياء:24]، فالحق بين وواضح وجلي من أراده أدركه ولكن سبب علمهم بالحق ليس هو خفاء الحق في نفسه ولكن سببه إعراض من أعرض، قال( بل أكثرهم لا يعلمون الحق) لم؟ هل لأدل أن الحق خافٍ أو يحتاج إلى معلومات خاصة بل السبب أنهم معرضون، بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون ذلك سبب عدم علمهم بالحق الإعراض.
فهذا الإعراض عن الدين والإعراض عن التوحيد وعدم تعلم التوحيد والجهل به، هذا قد تجده في أناس من الخاصة، وقد تجده في دعاة وقد تجده في بعض طلبة العلم، فمن أنعم الله جل وعلا عليه بمعرفة التوحيد ومعرفة ضده ومعرفة أنواع التوحيد وبيان ذلك والأدلة عليه، وعرفتَ ما أصبح غالب الناس فيه، بل أكثر وأكثر الناس فيه من الجهل بالتوحيد حتى وإن زعموا أنهم من أهله (أفادك فائدتين الأولى الفرح فضل الله ورحمته) فإنه لا شيء يعدل العلم بالتوحيد والعلم بضده والاستجابة لأمر الله بالتوحيد والاستجابة لنهي الله جل ولا عن الشرك ووسائله، فإن العلم بذلك هو أصل الاعتقاد، والعمل بذلك هو أصل الملة فأصل بعثة الأنبياء والمرسلين وزبدة الرسالات الإلهية، فمن رأى ما من الله به عليه من الإقبال على هذا العلم وفهمه وفهم حدوده وفهم أدلته وكلام أهل العلم فيه أفاده هذه الفائدة العظمى ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾[يونس:58]، ولهذا الفرح (بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ) يعني بالدين وبالتوحيد وبتعلمه وبالإقبال عليه، هذا خير من كل ما يغشاه الناس من أمور الدنيا ومن الأمور التي يظنون أنها فاضلة لأمور الدين كالاهتمام بالعلوم المختلفة أو الاهتمام بأشياء متنوعة، فأصل الملة أن تعلم التوحيد وتتعلمه، لهذا خاف إبراهيم على نفسه من عبادة الأصنام فدعا ربه بقوله ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾[إبراهيم:35] خاف على نفسه وخاف على بنيه، قال إبراهيم التيمي رحمه الله: ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم. لهذا بوب الشيخ في كتاب التوحيد باب الخوف.
فهنا إذا عرفت المقدمات الأربع، وعرفت ما أصبح غالب الناس فيه من الجهل بهذا التوحيد والجهل بالشرك وعدم إعارة ذلك أو الاهتمام بذلك الاهتمام الواجب الذي يليق به لعظم مسألة التوحيد، أفادك فائدتين الأولى الفرح بفضل الله ورحمته، والحق أننا إذا تدبرنا ذلك فإننا نرى أنه لا شيء لنا، وإنما هو فضل الله جل جلاله، فالله ساق لنا هذا الفضل ويسر لنا ذلك بفضله وبرحمته، ثم نفرح بفضل الله وبرحمته كما قال ابن القيم رحمه الله في النونية:
واجعل في قلبك مقلتين كلاهما من خشية الرحمن باكيتان
لو شاء ربُّك كنت أيضا مثلهم القلب بين أصابع الرحمن
إذا عرفت هذا الفضل وهذه الرحمة التي غشيت بها ومن الله عليك بها فلا تتركنها إلى غيرها حتى يأتينك اليقين؛ لأن هذه أعظم نعمة تنعم بها على العبد أن يكون عالما بالتوحيد عالما بالرسل مخالفا لأهل الجهل والجهالة.
قال (أفادك فائدتين الأولى الفرح بفضل الله ورحمته كما قال تعالى ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾[يونس:58])، وفضل الله ورحمته الدّين والقرآن وفقه الدين وفقه القرآن والتوحيد والإسلام ونحو ذلك، ولهذا روى ابن أبي حاتم وغيره عن عمر رضي الله عنه أنه دعا غلامه يوما إلى أن يخرج إلى إبل الصدقة الزكاة جُمعت له خارج المدينة فلما ذهب إليها اهتال غلامه من كثرتها فقال لعمر فقال لأمير المؤمنين: يا أمير المؤمنين هذا فضل الله ورحمته. فغضب عمر وقال: كذبت ولكن فضل الله ورحمته القرآن، قال تعالى (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ) -يعني القرآن في نزوله وتشريعه وما حبى الله هذه الأمة به- (فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) فإن كان ثم فرح فليفرح المرء بهداية الله جل وعلا له بالالتزام بدين الله وبمعرفة التوحيد والعلم به وما يتصل بذلك وهذا هو الفضل، وبه تعلم أن المحروم من حرم وأكثر الخلق حرموا هذا الفضل العظيم.
ثم الفائدة الثانية قال (وأفادك أيضا الخوف العظيم فإنك إذا عرفت...) إلى آخره، والخوف العظيم ملازم لن الشيطان أضل الأكثرين، فتفرح بفضل الله وبرحمته وتخاف:
فالفرح بفضل الله وبرحمته يعني بمعرفة التوحيد والعلم به ومعرفة الشرك ووسائله والابتعاد عن ذلك والدعوة إلى التوحيد والدعوة إلى النهي عن الشرك إجمالا وتفصيلا، هذا الفرح بفضل الله وبرحمته يفيد الثبات على ذلك، فكلما استحضرت الفرح هذا وكنت فرحا به كنت مستمسكا به.
ثم الخوف أو الفائدة الثانية يجعلك لا تلتفت عنه يمينا ولا شمالا، فكلما التفت كلما رجعت لأجل شدة الخوف، مستحضرا خوف إبراهيم وخوف عباد الله الصالحين، والخوف من الشرك لأجل ألا يقع العبد فيه، وأنتَ ترى اليوم أن أهل هذه البلاد مثلا مع ما هم عليه من أثر هذه الدعوة الإصلاحية العظيمة التي قربتهم إلى الله جل جلاله بالتوحيد وبالبعد عن الشرك ووسائله، لكن لأجل عدم الخوف من الشرك وقعوا في شركيات؛ من شركيات الألفاظ وبعضها من الشرك الأصغر وبعضها قد يكون من الشرك الأكبر في حق بعض الناس.
وهذا ونسأل من الله جل وعلا السلامة والعافية لأجل عدم الخوف من الشرك، فيكثر عند الناس أن يقولون نحن على الفطرة، والناس في هذا البلد أهل فطرة يستمرون أهل الفطرة إلى متى؟ الأجيال التي بعد آدم التي بعد آدم عليه السلام كانوا على الفطرة ثم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم.
إذن ما أمن أحد على دينه وهو عالم بحقيقة عداوة الشيطان، بل لا يأمن إلا من يخاف، من يستحضر الخوف دائما يحذر ويحذر ويستحذر الحذر فإذا غابت عنه مسائل التوحيد راجع وتأكد، وهكذا إذا تفهم وحفظ وراجع ودعا حتى يثبت وحتى يستقيم له دينه.
قال (وأفادك أيضا الخوف العظيم، فإنك إذا عرفتَ أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه وقد يقولها وهو جاهل) يُشير الشيخ رحمه الله بذلك إلى ما جاء بالحديث الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام «وإنّ الرّجل ليتكلم بالكلمة من سَخَطِ الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار سبعين خريفا» فقول الشيخ رحمه الله (يخرجها من لسانه وقد يقولها وهو جاهل) من جهة أنه لا يلقي لها بالا؛ لأنه لا يعلم أنها مكفرة فقوله عليه الصلاة والسلام لا يلقي لها بالا تهوي به في النار سبعين خريفا يعلم أنه منهي عنها لكن لا يلقي لها بالا من شدة الخوف منها، لهذا قال (فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه) بكلمة يحصل الكفر، سواء كان معتقدا لها؛ يعني لما دلت عليه، أو كان قوله لهذه الكلمة من الكفر بالله ناتج عن الإعراض عن دين الله وهو متمكن من معرفته.
فإذن الإعراض لا يُعذر به العبد إذا كان إعراضا مع التمكن من المعرفة؛ عنده أهل العلم يمكنه أن يسألهم، عنده أهل الديانة يستطيع أن يبحث عن الحق، ثم هو لا يبحث عن ذلك، فهذا يدخل في قوله عليه الصلاة والسلام (لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار سبعين خريفا) .
قال (وقد يقولها وهو جاهل فلا يُعذر بالجهل) لأنه أعرض مع تمكّنه من المعرفة، أعرض مع قرب الحجة منه، فجهله لا بسبب خفاء الحق أو بسبب وجود من ينبهه وإنما جهله بها لأجل الإعراض.
فإذن هنا نلحظ التفريق في الجهل ما بين الجهل الذي سببه عدم وجود من ينبه بالحق، والجهل الذي سببه الإعراض.
¨ فالجهل الذي سببه الإعراض مع وجود من ينبه هذا لا يعذر به العبد.
¨ وأما الجهل الذي يكون لأجل عدم وجود من ينبه فإنه يعذر به حكما في الآخرة حتى يأتي من يقيم عليه الحجة، ولا يعذر به في أحكام الدنيا، فهو على كل حال متوعد هذا التوعد العظيم.
إذا كان الإنسان قد يعوي في النار سبعين خريفا يعني يكون في قعرها، هذا يعني أنه فارق نار الموحدين بكلمة يقولها، هذا من خاف هذا الشيء يلزمه أن يتعلم أسباب الرّدة وأسباب الكفر والكلمات التي قد يكفر بها وهو لا يشعر بذلك، وهذا مضبوط بضوابطه الشرعية، فإنه ليس كل من قال كلمة الكفر كفر، ولهذا الشيخ قال هنا (إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه وقد يقولها وهو جاهل) قد يقول ذلك (وهو جاهل فيعذر بالجهل) يعني في بعض أحواله (وقد يقولها وهو يظن أنها تقربه إلى الله تعالى كما ظن المشركون) المشرك في أي زمان ومكان ما أشرك محادّة لله ولرسله قصدا في المحادّة وإنما حصلت المحادّة نتيجة لشركه، فهو إن أشرك محادّ، ولكن إذا قلت للوثني المشرك الجاهل أنت مبغض لله كاره لله جل وعلا محادّ لله يقول لا؛ لأنه يقول أنا ما فعلت هذه الأفعال إلا بقصد التقرب إلى الله حتى يرتفع مقامي عند الله.
فإذن لا يتصور في المشرك أنه أشرك للبعد عن الله بل أشرك ليتقرب إلى الله، كما قال جل وعلا ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾[الزمر:3].
قال رحمه الله بعد ذلك (خصوصا إن ألهمك الله ما قص عن قوم موسى مع صلاحهم وعلمهم أنهم أتوه قائلين ﴿اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾[الأعراف:138]) قوم موسى مروا على قوم يعبدون آلهة ويعبدون معبودات، فنظروا إلى ذلك فظنوا أنه محمود؛ لأنه مخالف لدين فرعون فقالوا لموسى ﴿اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ(138)إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[الأعراف:138-139]، وفي حديث أبي واصب المعروف أنه قال: مررنا ونحن حدثاء عهد بكفر بسدرة([27]) وكان للمشركين سدرة ينوطون بها أسلحتهم فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال النبي عليه الصلاة والسلام «الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قال أصحاب موسى لموسى: اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ».
قال العلماء أصحاب موسى لم يكفروا وأصحاب محمد عليه الصلاة والسلام الذين كانوا حدثاء عهد بكفر لم يكفروا بتلك الكلمة، ولكن لو تبعها عمل لكفروا؛ لأنهم طلبوا شيئا عن جهل فلما بُيِّن لهم انتهوا.
وهذا يفيد -يعني قصة قوم موسى وقصة ذات أنواط- تفيد أنّ الموحد قد يخفى عليه بعض أفراد التوحيد، وهذا يفيده الخوف؛ لأن قوم موسى وهم خاصّة أصحاب موسى منهم من قال تلك الكلمة، وأصحاب محمد عليه الصلاة والسلام ممن أسلم حديثا منهم من قال تلك الكلمة، مع أنهم يعلمون معنى لا إله إلا الله ويعلمون ما يدخل تحتها من الأفراد، لكن جهلوا بعض الأفراد، هذا يفيد أن من دونهم لا بد أن يخاف الخوف الشديد؛ لأن جهله ببعض الأفراد أولى من جهل أولئك، فإن أنعم الله عليه بمنبِّه له بعد الكلام يحجزه عن العمل وينبهه، فهذا من نعمة الله عليه وإن لم يجد بل قال ذلك الكلام واتخذ إلها مع الله فإنه يكون قد ناقض بفعله توحيده.
قال (فحينئذ يعظم حرصُكَ وخوفك على ما يخلصك من هذا وأمثاله) وهذا لاشك أن يوجب الخوف الشديد.
إذن هذا المقطع من كلام الإمام رحمه الله تعالى فيه تهيئة نفس الموحد لكشف الشبهات التي يأتي بيانها، فهيأ نفسه لبيان حال المشركين الذين أشركوا من أقوام كل رسول، وبيّن ديانة كل رسول، بيّن معنى التوحيد ومعنى ضده، وبيّن أن أكثر الناس مخالفون للتوحيد معرضون عنه جهال به، وبيّن أن هذه المقدمات تفيدك أولا الفرح والثاني الخوف، وهذا تهيئة لنفسيتك حين تتلقى كشف تلك الشبه، فكشف الشبه إذن الذي سيأتي يكون مع فرحك بالتوحيد وخوفك من الشرك، وهذا يقيم حاجزا قويا نفسيا من أن تتلقى الشبهة تلقيا عقليا بحتا، كما عليه علماء الكلام وأشباههم دون وضعٍ تعبدي نفسي من الوجل والخوف والفرح والرضا، ثم أنْ تكون حين تعرض لك جواب الشبه يكون في نفس الفرح بفضل الله بالتوحيد والفرح بفضل الله جل وعلا ورحمته أن كُشفت لك الشبه.
فإذن الشبه مَزَلَّة أقدام من جهة عرضها ومن جهة كشفها، فلابد لها من قاعدة تقوم عليها نفس الموحد، وهذه القاعدة هي التي قدمها الشيخ رحمه الله فأول الكلام قواعد علمية، والآن هذا الفرح والخوف قواعد نفسية حتى تكون فيما تستقبل من عرض الشبه ونقدها وكشفها، تكون ما بين قواعد علمية محكمات لا تزول بعدها، وما بين تحسينات نفسية لا تتأثر بالشبه مهما جاءت، فإذا جاءت الشبهة صار عنك خوف من ضد التوحيد وفرح لما أنت عليه من التوحيد، وهذا يجعلك في قوة وتحصن وأمان بفضل الله وبرحمته.
الحمد لله جل جلاله على ما أنعم به علينا من نعمة التوحيد ودراسته وتعلمه ونبذ الشرك والبراءة منه وبُغض الشرك وبغض أهله ومعاداة أولئك والتبرِّئ منهم قولا وعملا واعتقادا، ونسأله جل وعلا بكل اسم له حسن وبصفاته العلا أن يديم علينا هذا الفضل وهذه الرحمة، وأن يجعلنا فرحين بذلك خائفين من ضده ما حيينا، نسأله جل وعلا أن لا يزيغ قلوبنا إذ هدانا، وأن ينعم علينا ويتم نعمه ذلك بأن يتوفانا وهو راض عنا غير مغيرين ولا مبدلين، نعوذ بك اللهم من كل فتنة، نعوذ بك اللهم من كل فتنة تصدنا عن هذا الأمر الجلل في التوحيد ودعوة الأنبياء والمرسلين.
هذا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[الأسئلة] نأخذ بعض الأسئلة.
بالمناسبة في مواقف السيارات، أهل المسجد يودون من الإخوة أن يقفوا في المواقف الشرقية أو في الجنوبية في هذه الجهة؛ لأن الوقوف في الجهات الضيقة قد تضيق على من يريد أن يخرج من بيته ونحو ذلك من بعض الإخوة.
هنا فيه سيارتين تضيق على أصحابها تقول سيارة [...] رقمها مائتين وخمسة، صفر ثلاثة وخمسين و[...] سبعمائة وعشرين أربعة وخمسين سبعة وتسعين استحضر دائما قول النبي ﷺ «لا ضرر ولا ضرار» لا تضر إخوانك، قد يكون أحدهم عنده موعد يريد أن يستفيد بعض الوقت من العمل ثم يذهب إلى موعد مهم له إما لمستشفى أو ضروري بمصالحه أو لأهله أو نحو ذلك، فلا تفترض أن الذي يحضر يحضر كل الفترة، وأنهم جميعا سيخرجون خروجا واحدا، لا تفترض هذا، بل استحضر أن منهم من سيخرج مبكرا منهم من عنده كذا ولا يفترض أن الذي سيحضر يتخلص من كل المشاغل، يحضر نصف ساعة يستفيد بعض الشيء ثم أذهب إلى بعض الأعمال فيعين بعضكم بعضا على أمر دينه ودنياه.
1/ هل صفة العلو ذاتية أم فعلية ؟
صفة علو الله جل وعلا ذاتية، هو جل وعلا لم يزل عاليا على خلقه سبحانه وتعالى، له علو الذات وعلو الصفات.
2/ نسأل الله بكل اسم له حسن، فهل هناك لله بعض الأسماء السيئة؟
أعوذ بالله، أعوذ بالله، فأسماء الله جل وعلا حسنى حسنة، والشر ليس إلى الله جل وعلا لا في ذاته ولا في أسمائه ولا صفاته ولا أفعاله؛ يعني لو قال الداعي أسألك اللهم بأسمائك الحسنى هل يفهم منه أنه ثم أسماء غير حسنى؟ لا يفهم ذلك.
3/ هذا السؤال فيه طول بعض الشيء نقل قول بعضهم.
الكفر الظاهر والباطن هو الذي ذكرت لكم تفصيله، وأما الجاهل قد يكفر قد يكون جهله عن إعراض مع وجود من ينبه، مثل مثلا واحد في هذه البلاد يجهل التوحيد ويعمل الشرك مع قيام الحجة وقيام الدعوة ووكل يبلغ ومن يبلغون هم موجودون في المجلات وفي الصحف وفي مناهج التعليم وفي كلماتهم وفي الإذاعة إلى آخره، فهذا من أعرض من قيام تمكنه، مع تمكنه من السؤال وطلب الحق هذا لا شك أنه لا يعذر بجهله في هذه المسألة؛ لأنّ جهله لا بسبب عدم وجود من ينبهه، ولكن بسبب إعراضه أصلا عن هذا الأمر، لأنه هناك من ينبهه.
أما إذا جهل لأجل أنه لم يأتِ من ينبهه هو الذي ذكرنا لكم قول الشيخ رحمه الله فيه وإن كنا لا نكفر من عند قبة الكوّاز لأجل عدم وجود من ينبههم، والكفر إنما قلنا كفر ظاهر وباطن تبع لقول بعض أئمة الدعوة كالشيخ ابن معمر وغيره، وهو ظاهر كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب في بعض المواضع، وتفصيل هذه المسألة يأتي إن شاء الله تعالى في مسألة الإباء والإعراض وأشباه ذلك.
4/ هل هناك فرق بين المشرك والكافر؟
نعم، الكافر قد يكون كافرا بلا شرك؛ يكون كافرا بلا شرك، يكون كافر بلا شرك، مثل من ارتكب شيئا من الأمور التي يرتد بها غير الشرك فإنه يكون كافرا وإن لم يحصل منه شرك فالشرك تشريك في العبادة، والكفر قد يكون ببعض ما يحكم عليه بالكفر والردة لكن ليس ثم تشريك.
إذن إذا راجعت باب حكم المرتد في كتب أهل العلم لوجدت أنّ من أحوال الردة الشرك قد يكفر بغير ذلك.
5/ هذا ينبه على أن الشيخ محمد العثيمين حفظه الله قد نقل اللقاء اليومي والدرس اليومي من مسجد علي بن المديني إلى جامع ذي النورين.... اعتبارا من غد يوم الأحد
¹
[المتن]
واعلم أن الله سبحانه من حكمته لم يبعث نبيا بهذا التوحيد إلا جعل له أعداءً كما قال الله تعالى ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ﴾[الأنعام:112]، وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وكتب وحجج كما قال الله تعالى ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ ﴾[غافر:83].
إذا عرفت ذلك وعرفت أن الطريق إلى الله لا بد له من أعداء قاعدين عليه أهل فصاحة وعلم وحجج، فالواجب عليك أن تتعلم من دين الله ما يصير لك سلاحا تقاتل به هؤلاء الشياطين الذين قال إمامهم ومقدمهم لربك عز وجل ﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ(16)ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾[الأعراف:16-17]، ولكن إذا أقبلت على الله وأصغيت إلى حججه وبيناته فلا تخف ولا تحزن﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾[النساء:76]، والعامي من الموحدين يغلب الألف من علماء هؤلاء المشركين كما قال الله تعالى ﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ﴾[الصافات:173] فجند الله هم الغالبون بالحجة واللسان كما هم الغالبون بالسيف والسنان، وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح، وقد من الله علينا بكتابه الذي جعله تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين، فلا يأتي صاحب باطل بحجة إلا وفي القرآن ما ينقضها ويبين بطلانها كما قال تعالى ﴿وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا﴾[الفرقان:33]، قال بعض المفسرين هذه الآية عامة في كل حجة يأتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله حق الحمد وأوفاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هو ولي من تولاه، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
اللهم إنا نسألك عما نافعا وعملا صالحا وقلبا خاشعا ودعاء مسموعا، اللهم أعِنا على الحق، اللهم أعنا على الحق، اللهم أعنا على الحق، اللهم لا تجعلنا إلى الباطل سبيلا، نعوذ بك من الحور بعد الكور، نعوذ بك من الضلال بعد الهداية، نعوذ بك أن نضل أو نضل أو نزل أو نزل أو نجهل أو يجهل علينا.
قال الإمام رحمه الله تعالى في مقدماته العظيمة في الفائدة بين يدي كشف شبهات المشركين التي لبَّسوا بها أهل عقول الجهلة في توحيد الله جل جلاله وما يستحقه سبحانه وتعالى من إفراده بالعبادة وحده دونما سواه وأن يكون الأمر كله له وأن يكون الحكم كله لله جل وعلا فيما يختص بالشرعيات وفيما يختص بما يعمله المكلف.
فالحكم جميعا لله جل وعلا، فالواجب على العبد أن يجعل الفيصل فيما يطلبه وفيما يريد الصواب فيه أن يجعل الفيصل كلام الله جل وعلا وكلام رسوله ﷺ كما قال سبحانه ﴿إِن الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾[يوسف:40]، فكما أنه سبحانه الحكم بأمره في ملكوته، كذلك هو الحكم فيما يختلف الناس فيه وفيما يطلبون العلم فيه والصواب والحق فيه في الشرعيات والعمليات.
قال رحمه الله بعد أن ذكر المقدمات التي سلفت (واعلم أن الله سبحانه من حكمته لم يبعث نبيا بهذا التوحيد إلا جعل له أعداءً كما قال تعالى ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ﴾[الأنعام:112]) قد يأتي الشيطانُ للعبد بشبهة أن التوحيد والدين إذا كان من عند الله حقا وإذا كان ذلك فيه مرضاة الله جل وعلا والله ينصر أولياءه ويعز أولياءه ويخذل أعداءه فالمفترض أن يكون –يعني في إيقاع الشيطان في النفوس- أن يكون أهل التوحيد هم الغالبين، وأن يكون الرسل ليس لهم أعداء لأنهم من عند الله جل وعلا، وهذا الظّن قد ظنه طائفة من المشركين فرغبوا في إنزال ملك حتى يُتفق عليه، ورغبوا في أن يكون للنبي كذا وكذا من الأشياء التي يكون معها الاتفاق وعدم المعاداة له وعدم الجحود ما جاء به، كما قال جل وعلا ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا﴾[الإسراء:90] الآيات في سورة الإسراء، وكذلك الآيات في سورة الفرقان ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا(7)أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا(8)انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا﴾[الفرقان:9]، فمن حكمة الله جل جلاله أنه بعث الرسل وجعل لكل رسول أعداء، وأعداء الرسل من الإنس والجن؛ لأن بَعثة الرسل للإنس أقوامهم وللجن الذين يسمعون حديثهم، إلاّ محمدا عليه الصلاة والسلام فإن بعثته للعالمين جميعا للإنس كافة وللجن كافة، فلكل رسول أعداء وهؤلاء الأعداء جعلهم الله جل وعلا أعداء لحكمة؛ لأن أمر التوحيد عظيم، فلهذا قال سبحانه (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ)، وقال جل وعلا في الآية الأخرى ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا﴾[الفرقان:31]، فحكمة الله جل وعلا اقتضت أنْ يجعل لكل نبي أعداء، وهكذا لكل أتباع الرسل والأنبياء جعل لهم أعداء؛ لأن حكمة الله سبحانه وتعالى اقتضت أن يُفْرَق بين حزب الله وحزب الشيطان، هذا الفرق بين حزب الله وحزب الشيطان قد يكون فرْقا بالعلوم وقد يكون فرْقا بالسيف والسنان، لهذا القرآن فرقان فَرَقَ الله جل وعلا فيه بين علوم الحق وبين علوم المشركين.
المقصود أن حكمة الله اقتضت أن يكون لكل نبي عدوا، فلا ينظر الموحد في زمن ما إلى أنّ أهل التوحيد قلة، أو إلى أنهم مزدرَوْن، أو إلى أنهم لا يؤبه لهم، أو إلى أنهم مكثوا زمنا طويلا لم يُنصروا، أو نحو ذلك من الأشياء، أو أنهم يُعذبون، أو أنهم يُطردون، أو ما يفعله الأعداء بأهل التوحيد، لا ينظر إلى ذلك وإنما ينظر إلى الحق في نفسه، وحكمة الله عرفها أهل السنة بأنها وضع الأشياء في مواضعها الموافقة للغايات المحمودة منها، وضع الأشياء في مواضعها الموافقة للغايات المحمودة منها، والله جل وعلا أَذِنَ بالشر في ملكه والشر ليس إليه ليظهر طيب الطيب وليظهر طيب أهل الحق على خبث غيرهم، فأذِن به جل وعلا أذِن بالشر فِداءً بالخير حتى يظهر، فلولا هذه العداوة ما ظهر المستمسك بالتوحيد من غيره ما ظهر الذي على قناعة تامة من توحيد الله جل وعلا من المتردد الذين هم في ريبهم يترددون، ونحو ذلك من الحِكم العظيمة.
فالله جل وعلا أنزل العداوة في موضعها، وهذه العداوة موافقة لغاية محمودة منها، فَجَعْلُ بعض الجن والإنس بل الأكثر من شياطين الإنس والجن أعداء للرسل هذا فيه غايات محمودة، ومن هذه الغايات المحمودة التي هي حكمة الله جل وعلا أنْ يظهر أنصار الله جل وعلا الذين يستحقون فضله ومِنَّتَه ودار كرامته، ومنها أن يظهر الفرقان بين أهل الحق وأهل الباطل بشيء بشري وليس سماوي، وربما يُنعم الله جل وعلا بشيء من عنده من السماء كتأييد بملائكة أو نحو ذلك، ومنها أن يظهر أن هؤلاء الذين نصروا دينه ليس عندهم شك ولا شبهة مع كثرة المعادين ومع كثرة الشبه ومع كثرة ما يَرِد فإن استمساكهم بالحق دليل على صحة التوحيد، فالرسل مع قلة من استجاب لهم استمسكوا بالحق وبعضهم مكث مدة طويلة، فظهر أنّ هؤلاء الذين استمسكوا بالحق وثبتوا عليه، حتى إن أحدهم ليؤخذ فينشر بالمنشار نصفين ما يَرُدُّه ذلك عن دينه هذا شهادة عظيمة بأنّ هذا الذي حملوه حق لأن الله جل جلاله جعلهم مكرمين بهذا الأمر ومكرمين باتباع الرسل يعني باتباع الحق، فيه حكم شتى.
والشيخ رحمه الله هنا (لم يبعث نبيا بهذا التوحيد إلا جعل له أعداء) وهذا الحصر مأخوذ من الآية ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا﴾([28]) فلفظ (كل) ظاهر في العموم وهو بمعنى لم يبعث نبيا بهذا التوحيد إلا جعل له أعداء.
وأعداء التوحيد أعداء الأنبياء والرسل على قسمين: أعداء رؤساء، وأعداء تبع.
¨ فالرؤساء: إما أهل الرئاسة والتدبير في أمور الدنيا، وإما أهل الرئاسة في أمور الفكر والدين، هؤلاء هم الذين تزعموا العدواة وصدوا الناس عن الدين، هذا الصنف من أصناف الأعداء.
¨ والصنف الثاني منهم الأتباع الرّعاع: الذين أعرضوا عن الحق، أو الذين أخذتهم الحمية والعصبية في ألا يقبلوا التوحيد وأن ينصروا رؤساءهم.
فلا يوصف بالعداوة العلماء فقط أي الرؤساء فقط، بل أعداء التوحيد العامة والرؤساء جميعا؛ لأن من لم يستجب للتوحيد فقد سب الله جل جلاله كل مشرك بالله فهو متنقص الرب جل وعلا ساب له، فمن ادعى أن مع الله إله آخر يتوسط به ويزدلف به إلى الله جل وعلا عن طريقه بوساطته وشفاعته سواء كان ذلك عالما أو لم يكن عالما وإنما يكن تبعا لرؤسائه فإنه عدو للتوحيد، وربما كان هؤلاء من جهة انتشارهم في الناس أبلغ في إحياء عداوة التوحيد وبثها من الخاصة، وهذا ظاهر بيّن؛ لأن العامة ينشرون من الأقوال والأكاذيب أعظم مما يبثه الخاصة.
وإذا نظرت إلى دعوة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، فإن الذي نشر أنه صابئ والذي نشر أنه ساحر والذي نشر أنه مجنون أتباع الكبار أتباع الرؤساء والملأ في العرب.
وكذلك إذا نظرت إلى دعوة الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فإنّ الذي نشر في الناس مقالة أعداء الشيخ من علماء زمانه إنما هم العامة، فالعامة عداوتهم تأتي من جهة التعصب ومن جهة نصرة الباطل لقناعتهم بمن قال لهم ذلك، فعندهم علماء معظمون ورؤساء معظمون فيقتدون بهم ويحتجبون لمقالهم دون نظر وتدبر، فهؤلاء أعداء لتوحيد الله جل وعلا.
وكلٌّ من هذين الصنفين يجب الحذر منه ويجب على الموحد أن يعاديه، فليست عداوة الموحد لعلماء المشركين خاصة، أو الذين أعلنوا الحرب على التوحيد خاصة هؤلاء لهم نصيب من العداوة أكبر، وكلّ من لم يوحد الله جل وعلا وانغمس في براثن الشرك وأشرك بالله فهو عدو لله جل وعلا، فكلّ مشرك عدو لله جل وعلا، كما قال سبحانه وتعالى ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾[التوبة:114].
قال جل وعلا﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾[الأنعام:112]، و(شَيَاطِينَ الْإِنسِ) جمع شيطان والشيطان هو البعيد عن الخير مأخوذ من شَطَنَ إذا بَعُدَ، فالشَّاطِن هو البعيد، والشيطان -النون فيه أصلية- وهو البعيد من الخير، والخير بما يناسبه، ولهذا قيل لبعض الحيوانات شيطان لما يناسبه من بعده عن الخير وما يلائمه، وقيل للحمامة في الحديث شيطانة في قوله «شيطان» حديث النبي عليه الصلاة والسلام الذي رواه أبو داوود وغيره «شيطان يتبع شيطانة» فالشيطان هو البعيد عن الخير، والخير في كلٍّ ما يناسبه، وقد قال الشاعر في ذلك:
أيام كنا يدعونني من الشيطان من غزل وكنا يهوينني إذ كنت شيطان
يعني كنت بعيدا عن الخير مع بقاء اسم الإسلام عليه، لكن يكمن البعد عن الخير في الكفر، فالكافر والمشرك شيطان من شياطين الإنس، ولابد أن يمدَّه شيطان من شياطين الجن لأنه ما من أحد إلا وابتلى به القرين.
قال (عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ) شياطين الإنس يرون وشياطين الجن لا يرون، وهم الذين يلقون أيضا بعض الشبه في نفوس شياطين الإنس من جهة الوسواس والقرين.
قال(يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) في قوله (زُخْرُفَ الْقَوْلِ) ما ينبئ على أنّ علوم المشركين وشبه المشركين.... ([29]) الشيء الناصع البيّن الجيد ومنه قيل للذهب زخرف؛ لأنه ناصع واضح، فزخرف القول الذي له مشروع وضياء يبصره ببصيرته المتأمل له فيخدعه، فقال جل وعلا هنا (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ) لهذا أنّ ما عند المشركين من العلوم لها زخرف فليُحذر منه، لا يتصور في هذا المقام مقام كشف الشبهات أن شبهة المشرك ليس لها وجه البتة، لا تتصور هذا، فإن المشرك يوحي بعضهم يوحي بعض المشركين إلى بعض بزخرف القول حتى تزين الشبهة، فلا يقال هذه الشبهة فيها نصيب من الحق فتكون حقا، أو أن يظن أن شبهة المشرك ليس لها نصيب من النظر البتة، بل يكون لها زخرف ويكون لها نظر، فإذا تأملها أهل العلم وجدوها داحضة، كما قال جل وعلا ﴿وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾[الشورى:16]، فالحجج التي يدلي بها أهل الشرك فيها زخرف وفيها تدليس وفيها تلبيس، ولها بعض الشبه لها بعض ما يجعلها ملتبسة بالحق.
ولهذا لا تتصور أن الشبه التي تأتي، التي أدلى بها أعداء التوحيد أن كل واحدة لا تدخل العقل أصلا، بل منها أشياء خدع بها الشياطين هؤلاء من خدعوا من أمم الإنس والجن، ولكن هذا القول غرور يعني أنه يُظهر و[...] ويتزخرف عند سماعه أو عند رؤيته، ولكنه عند التحصيل ليس بشيء وهذا لأنه إذا تدبر وفحص وجد أن حججهم داحضة.
قال (وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وكتب وحجج) وهذه مقدمة مهمة في سبيل كشف الشبهات التي أدلى بها علماء المشركين، (قد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وكتب وحجج)، العدو للتوحيد لا تتصور خاصة من أمة محمد ﷺ من العلماء الذين جاؤوا في هذه الأمة لا يتصور أن عدو التوحيد لا يكون عنده البتة لا يتصور أن عدو التوحيد لا يكون فقيها لا يكون محدثا لا يكون مفسرا لا يكون مؤرخا بل قد يكون مبرزا في فن من هذه أو في فنون كثيرة، كحال الذين ردوا على إمام هذه الدعوة فإنهم كان يشار إليهم بالبنان فيما اختصوا فيه من العلوم، منهم من كان فقيها، منهم من كان مؤرخا، وهذا حال أيضا من رد عليهم أئمة الدعوة فلا تتصور أن عدو التوحيد لا يكون عالما، وهذه شبهة ألقاها الضُّلال في نفوس الناس، فجعلوا اعتراض العالم على العالم دال على صحة كل من المذهبين، هذا وهذا [والمعنى] واسع، ولهذا بعضهم يقول في مسائل التوحيد هذا أصح من القول الثاني أو في أصح قولي العلماء هو كذا وكذا، هذا لا يسوغ أن يقال في مسائل التوحيد؛ لأن من خالف في مسائل التوحيد فإنه ليس من علماء التوحيد ولا علماء السنة الذين يصح أن تنسب لهم مقالة أو أن يؤخذ بقولهم في الخلاف، بل التوحيد دلت عليه الدلائل الكبيرة من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وبينه الأئمة فمن خالف ولو كان من العلماء الكبار في الفقه أو في التاريخ أو في الحديث أو غيره فإنّ مخالفته لنفسه، ولا يقال إن في المسألة خلافا.
لهذا لا بد أن تنتبه إلى أن عدوّ التوحيد من علماء المشركين ليس من صفته أن يكون غير عالم، بل قد يكون عالما وإمام في فن من الفنون؛ إمام في التفسير، وإمام في الفقه، مرجع في القضاء ونحو ذلك مثل أعداء الدعوة الذين عارضوا الشيخ رحمه الله وعارضوا الدعوة كحال مثلا من المتأخرين داوود بن جرجيش، فإنه كان على علم واسع ولكن من علماء المشركين، وكحال محمد بن حميد الشرقي صاحب كتاب السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة أيضا كان من أعداء التوحيد فصنف ردا على المشايخ فيما تكلموا فيه على منظومة البوصيري المعروفية الميمية وأبطل أن يكون ذلك شركا وقرر ما قاله البوصيري إلى آخر ذلك، وللشيخ عبد الرحمن بن حسن صاحب كتاب فتح المجيد المجدّد الثاني رحمه الله له في ذلك رسالة ردّ بها على صاحب هذا الكتاب، فهو بارز في الفقه وأشير إليه في التفسير وبالتراجم إلى آخره ولكنه من علماء أعداء التوحيد من علماء المشركين؛ لأنهم نافحوا عن الشرك، وردوا على أهل التوحيد [........] في تعريف التوحيد والشرك [....] المسلم مشركا مرتدا فأضلوا الناس في ذلك.
فإذن المقدمة المهمة بين يدي هذه الرسالة: ألاّ تظن أن العلماء الذين يشار إليهم بالبنان أنّ هؤلاء لا يكونون مشركين، بل في زمن الشيخ رحمه الله وما بعده كان هناك علماء يشار إليهم ولكنهم كانوا مشركين مثل مفتي الشافعية أيضا في مكة أحمد بن زيني دحلان وأشباه هؤلاء، فالناس يرجعون إليهم ويستفتونهم فيصدرون عنهم، فلا يتصور أن الشرك ليس له علماء تحميه.
فإذن كمقدمة لا تقل في مسألة من المسائل التي يأتي كشف الشبهة فيها قالها العالم الفلاني، وقالها الإمام الفلاني، وكيف يفعلها الإمام الفلاني، فهذا إما أن يكون جاهلا ما حرر المسألة كبعض العلماء المشهورين المذكورين بالخير، وإما قد يكون قد علم فعاند وعارض وصنف في تحسين الشرك، مثل ما فعل مثلا الرازي فخر الدين الرازي صاحب التفسير المسمى بمفاتيح الغيب، حيث صنف في تحسين دين الصابئة ومخاطبتهم للنجوم كتابا سماه: سرّ المكتوم في أسرار الأفلاك ومخاطبة النجوم. وبه كفره طائفة من أهل العلم، فيحسن كيف تخاطب النجوم وكيف يستغاث بها وكيف تستنبط إلى آخره، وصنف في ذلك ليدل صابئة حران على ذلك، وهذا لا شك أنه من الضلال البعيد، فلا يقال في أي شبهة يأتي ردها أو رد عليها أئمة السنة والتوحيد، لا يقال كيف العالم الفلاني قالها؟ كيف راجت على هذا العالم الفلاني؟ وهؤلاء إما أن يكونوا جُهالا فلا يصنفون في أعداء التوحيد، وإما أن يكونوا صنّفوا في الشرك وتحسينه، هؤلاء هم الذين عناهم الشيخ بقوله (وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وكتب وحجج)، إذا رأيت نقولهم قد تكون عن شيخ الإسلام وعن ابن القيم كما فعل داوود بن جرجيش مثلا صنف كتابا سماه: صلح الإخوان. نقل فيه عن شيخ الإسلام وابن القيم نقولا، ونقل عن أقوال المفسرين وأقوال كثير من العلماء، مثل في هذا العصر ما صنف مثلا محمد بن علوي المالكي كتابا حشد فيه أقوال نحوا من مائتين أو ثلاثمائة من العلماء الذين أقروا بعض الشركيات وبعض التوسلات ونحو ذلك في كتبهم، هذا ليس هو العبرة.
فإذن القاعدة التي يجب أن يكون عليها قدما الموحّد أن علماء المشركين قد يكون لهم علم كبير وحجج لأنه ليس الشركُ سببا في انسلاخهم من العلم، كما قال جل وعلا عن أوائلهم ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ ﴾[غافر:83]، وقد يكون هذا العلم بالإلهيات كما قالوا ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا﴾[ص:5]، هذا اعتراض شبهة، وقالوا ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾[الزمر:3]، وقد يكون في الفقهيات كما قالوا ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾[البقرة:275] ونحو ذلك، فجنس العلوم جنس العلوم التي وجهت لهذه الأمة موجودة عند أعداء الرسل إما من جهة الإلهيات وإما من جهة الشرعيات، فعارضوا الرسل بما عندهم من العلم بل إن الله جل جلاله سمى قولهم حجة فقال وذلك تعظيما له من جهة قوة الشبهة فيه قال ﴿وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾[الشورى:16].
(وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وكتب وحجج) هل هذه الكتب الكثيرة التي له والفقهيات والتراجم والتفسير وما أشبه ذلك، يجعله ليس عدوا للتوحيد إذا صنف في عداوة التوحيد، وصنف في تحسين الشرك، ودعا الناس إلى ذلك؟ لا، فإنه يكون عدوا للتوحيد ناصرا للشرك ولا كرامة، ولو كان أثر السجود في جبهته، ولو كان عنده من المؤلفات أكثر مما عند المكثرين كالسيوطي وغيره، فهذا ليس بعبرة، وكلامه بالتالي ليس بعبرة؛ لأنه ليس من علماء التوحيد فعلومه ضارة وليست نافعة.
قال بعد ذلك رحمه الله (إذا عرفت ذلك ) يعني ما تقدم من أنّ أعداء الرسل قد يكون لهم علوم وكتب يصنفونها وحجج يُدلون بها قد يكون يحتجون بالكتاب، قد يكون يحتجون بالسنة وأشباه ذلك، وبأقوال المحققين من أهل العلم مثل ما ينقلون عن أحمد ببعض الأشياء، ينقلون عن شيخ الإسلام، ينقلون عن ابن القيم، ينقلون عن ابن حجر، ينقلون وينقلون، وهذا كله من العلوم الضارة ليست من العلوم النافعة، قال (إذا عرفت ذلك وعرفت أن الطريق إلى الله لا بد له من ([30]) أعداء قاعدين عليه أهل فصاحة وعلم وحجج) انتبه لهذه الكلمة (لا بد له) لا بد لطريق التوحيد طريقة التوحيد لابد لها من أعداء كما ذكرنا، وهؤلاء الأعداء قد يكونون علماء، وهؤلاء العلماء أهل فصاحة وعلم وحجج، لا بد أن تكون حاجزا من أن يصدوك عن الهدى ويدخلوك في الضلال، أو أن يلبسوا عليك الدين، أليست الفصاحة هي المعيار، فإبليس كان فصيحا، وليس العلم في نفسه هو المعيار، بل لابد أن العلم هو العلم النافع وليست الحجج وإيرادات وجواب هو المعيار، فإذا كان هذا موجودا فانتبه إلى وصية الشيخ رحمه الله في مقدمة هذه الرسالة العظيمة كشف الشبهات.
قال (فالواجب عليك) إذا علمت أن ثَم أعداء والأعداء قد يكونون علماء وعندهم فصاحة وعلم وحجج، معناه العداوة استحكمت وتوجه التصديرات عليه، وتوجه الأسلحة عليك أعظم، فما الذي واجب عليك؟ هنا يجب عليك أن تصون نفسك وأن تحمي نفسك أعظم حماية في هذا الأمر الجلل الذي من ضل فيه كان من الخاسرين أبد الدهر، قال (فالواجب عليك) وجوبا شرعيا (أن تتعلم من دين الله ما يصير لك سلاحا)، وقوله (من دين الله) هذا للتبعيض؛ لأن العلم منه واجب عيني ومنه واجب كفائي، وقوله (الواجب عليك أن تتعلم من دين الله ) يعني به ما كان من الدين فرضا عينيا على كل أحد، وهو الذي لا يُعذر أحد بالتقليد فيه وذلك في معنى الشهادتين وتحقيق مسائل القبر الثلاث من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ فهذا العلم واجب بأدلته، وهو الذي وصف لك وصنّف فيه الشيخ الرسالة العظيمة ثلاثة الأصول لنجاتك في هذا الأمر الخطير بين علماء المشركين.
قال (فالواجب عليك أن تتعلم من دين الله ما يصير لك سلاحا تقاتل به هؤلاء الشياطين) تقاتل به ابتداءً أو تقاتل به دفعا؟ كلاهما؛ لا بد من الدفع في حينه، ولابد من الابتداء في حينه، مقاتلة بالحجة والبيان، إذا لم تكن ذا سلاح فالخوف ثم الخوف عليك، ولهذا تجد أن بعض أهل الفطرة وأهل هذه البلاد وأهل التوحيد الذين يُفترض فيهم ويظن فيهم أن يكونوا حماة لهذا الأمر العظيم -توحيد رب العالمين جل جلاله، الذي هو حق الله على العبيد- أن لا يُصْغُوا لشبهة في التوحيد؛ والآن تجد أن منهم من عنده شبه في السحر، من عنده شبه في الكهانة، وتجد من يردد كلاما في أن هؤلاء الذين يعبدون القبور ويعبدون الأوثان وينادون الموتى والغائبين بما لا يقدر عليه إلا الله جل جلاله أو فيما لا يقدرون عليه يقول هؤلاء فيهم كذا التكفير صعب، الحكم عليهم بالشرك صعب، لهم صلاة يعرفون الله، عندهم محبة للدين ونحو ذلك من الكلام، وهذا يزلزل نفس الموحد؛ لأنه يظن أن المسألة فإن ما دامه صاحب صلاة وصاحب زكاة وعنده حب للخير وكذا، فلا يحكم عليه بحكم الشرك أو الكفر مع أنه ساب لله جل جلاله وذلك بعبادته غير الله جل وعلا، فنفس الموحد في هذا المقام تأتيها أنواع كثيرة من الهجوم؛ تارة في أشياء نفسية، وتارة بشبه علمية، وتارة بأشياء راجعة إلى الضعف الذي في نفس بعض أهل التوحيد.
فإذن لا بد من الانتباه لهذا وهو أن الواجب أن يتعلم المرء من دين الله ما يصير له سلاحا يقاتل به هؤلاء الشياطين، ما هو هذا السلاح؟ هو تعلم التوحيد وضده وتعلم الشرك بأنواعه كما صنف فيه الشيخ رحمه الله في كتابه؛ كتاب التوحيد، ثم إن كان بين قوم عندهم مجادلة في التوحيد لابد من الإطلاع على ردود الأئمة على علماء المشركين الذين شبهوا في التوحيد، كما قدمت لك في المقدمة، أنّ معرفة هذا الباب يعني كشف الشبهات مبنية على أشياء منها مطالعة كتب العلماء في رد شبه المشبهين الذين عارضوا الدعوة وعارضوا التوحيد.
قال(تُقاتل به هؤلاء الشياطين الذين قال إمامهم ومقدمهم لربك عز وجل ﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾[الأعراف:16]) يعني قد تكون سائرا على الصراط ويكون إبليس الشيطان ومن معه من الإنس والجن يأتونك في هذا الصراط المستقيم ليحرفوك عنه، ثم قال ﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ﴾ يعني وهم على الصراط ﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾[الأعراف:17]، يعني هجوم من كل جهة هذا يعظم المصيبة ويعظم الابتلاء فيكون إذن التعلم وأخذ السلاح واجب وجوبا لا محيد له.
قال بعد ذلك رحمه الله (ولكن إذا أقبلت على الله ) أقبلت على الله بصدق وإخلاص وإنابة وتخلّص من الحول والقوة، وانطراح بين يدي الله جل وعلا أن يخلصك من كيد الشيطان وكيد أعدائه بالشبهات والشهوات، قال (وأصغيت إلى حججه) إلى حجج الله (وبيناته فلا تخف ولا تحزن) يعني إذا فعلت السبب الواجب عليك من تعلُّم الحجج والبينات التي بينها الله جل وعلا في كتابه وأقبلت على الله بقلب منيب صادق مخلص محب لما عند الله راغب في الخير ملتمس له فلا تخف ولا تحزن.
الشيخ لما صنف ذلك استحضر زمنه واستحضر بعض البلاد؛ بلاد هذا الزمن التي فيها قلة من أهل التوحيد، وأكثر من حولهم وأكثر أقاربهم وأكثر العلماء في بلدهم ينافحون عن الشرك ويدعون إليه، فإنه يجد نفسه في خوف وفي حذر، في خوف من أن يصاب، وقد يكون إذا كان ضعيفا قد يكون يأتيه التردد في هذا الأمر إلاّ إذا أقبل على هذا الأمر الجلل ولم يحد عنه، قال (وأصغيت إلى حججه وبيناته فلا تخف ولا تحزن ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾[النساء:76]) والله جل وعلا ﴿مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾[النحل:128].
قال (والعامي من الموحدين يغلب الألف من علماء هؤلاء المشركين كما قال تعالى ﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ﴾[الصافات:173]) العامي من الموحدين عنده محكمات وهي العلم الواجب الذي ذكرنا أنه لا يصح إسلام العبد إلا به، عنده من المحكمات ما يردّ بها شبه المشبهة وشبه علماء المشركين.
مثاله ما ذكره أئمة الدعوة أن رجلا من عوام الموحدين كان في المدينة في المسجد النبوي فقال له أحد العلماء لما عرف أنه من هذه الجهة هذا في الزمن الأول قال له: أنتم تقولون يطلب من الموتى، هؤلاء الشهداء أحياء بنص القرآن، والله جل وعلا يقول ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾[آل عمران:169]، هؤلاء أحياء وليسوا بأموات، فلماذا لا نطلب منهم؟ قال له العامي -هذا من الموحدين-: لو قال الله جل جلاله (أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْزَقُونَ) لطلبنا منهم ولكن قال (يُرْزَقُونَ) فهم يُرزقون مثل ما نُرزق نحن، فنطلب من الرزاق.
وهذا رجوع إلى المحكمات، فالموحِّد ولو كان عاميا لا بد أن يستمسك في هذا الباب العظيم بالمحكمات:
من المحكمات مثلا تعريف كلمة التوحيد.
من المحكمات تعريف العبادة التي تَرجع إليها مهما شبه المشبه.
من المحكمات إجماع أهل العلم على أن صرف العبادة لغير الله كفر، وأنّ من صرف العبادة لغير الله فهو مشرك.
من المحكمات أنّ المسلم قد يرتد بأشياء، كما نص عليه العلماء في باب حكم المرتد.
من المحكمات التي ترجع إليها أنّ مشركي العرب كانوا يعبدون الأصنام والأوثان لا لأنها حجارة ولكن عبدوها لأن فيها أرواح الصالحين، تحل في الأصنام أرواح الصالحين والأولياء هل اتخذوا من دونه أولياء؟ ﴿ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ﴾[الرعد:16] ونحو ذلك، اتخذوا الأوثان إما [.....] أو أنبياء أو صالحين.
فإذن من المحكمات التي ترجع إليها في هذا المقام أن شرك مشركي العرب ليس هو بعبادة الصنم، هذه مهمة من المحكمات والأساسيات.
فإذا تقرر هذه الأربع محكمات ومنَّ الله عليك بأشياء زيادة على ذلك من حفظ بعض الآيات في هذا المقام كقوله جل وعلا ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ(13)إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾[فاطر:13-14]، وكقوله جل وعلا ﴿ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ(5)وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾[الأحقاف:5-6]؛ لأنّ هذا فيمن يبعث، لأن هذه الآيات فيمن يحشر يوم القيامة فيجيب وهو غافل عن الدعاء في الدنيا، وإذا حشر الناس يوم القيامة كانوا لهم أعداء، يعني لمن عبدهم.
فمن المحكمات أن ترد على كل من قال إنّ عبادة المشركين لغير الله هي عبادة الأصنام، كما يدندن حوله أكثر المفسرين المتأخرين، كل ما أتت آية فيها عبادة غير الله يجعلونها في الأصنام، بينما إذا رأيت تفسير ابن جرير رحمه الله تجد أنّ كل نص فيه عبادة غير الله جل وعلا يجعله في الأصنام والأوثان والأنداد جميعا، وهذا لا شك أنه فقه عظيم لنصوص القرآن.
إذن عرفت المحكمات التي ترجع إليها، فلا يحتاج العامي من الموحدين إلى أن يعلم التفاصيل كلها، فإذا علم ثلاثة الأصول بأدلتها، وعلم الذي ذكرنا المقدمات الأربع هذه فإنه يغلب الألف من علماء المشركين، لم؟ لأنّ معه المحكم وأولئك معهم المتشابه والذي معه المحكم يغلب من معه المتشابه لأنه واضح والمتشابه غير واضح، المتشابه مشتبه وأما المحكم فواضح بيّن.
فكل شيء شبه عليك به ارجع به إلى أصله إلى المحكم منه فتجد أن المسألة اتضحت، فتدع المتشابه في النظر وفي الجدال وتردع إلى المحكمات فتعلوا الحجة.
قال (كما قال تعالى ﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ﴾[الصافات:173])، قال (فجند الله هم الغالبون بالحجة واللسان كما هم الغالبون بالسيف والسنان)، هذه الآية (وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ) قال فيها شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله وجماعة ممن بعده: إنّ الأمة ظاهرة -لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة على الحق- ظاهرة وغالبة في كل زمن، وأنه لا يتصور مجود زمن لا يكون في هذه الأمة طائفة ظاهرة على الحق غالبة لأن الله جل وعلا قال (وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ) فأكد ذلك بـ(إِنَّ) وأكده باللام، وهذان نوعان من المؤكدات، وهذه لغلبة وهذا الظهور قد يكون بالحجة والبيان، وقد يكون بالسيف والسنان، فإن عَدِم أهل الحق الظهور بالسيف والسنان فهم غالبون في كل زمن بالحجة والبيان، ومعلوم أنّ النبي ﷺ مكث مُدَّة في مكة وهو يجاهدهم بالقرآن.
فإذن الجهاد والقتال قائم في كل حين حتى في لحظتنا هذه بيننا وبين المشركين وبين أعداء الملة والدين إما بحجة وبيان نجاهدهم بها، وإما بسيف وسنان والسيف والسنان له شروطه المعتبرة شرعا، والحجة والبيان قائمة في كل زمان، فإذن هذه الأمة منها طائفة ظاهرة على الحق لا يضرها من خالفها ولا من خذلها إلى قيام الساعة وهم ظاهرون بالحجة والبيان، وأهل التوحيد ظاهرون على أعدائهم بالحجة واللسان والحجة والييان؛ لأن حججهم محكمات واضحات، ولأن حجج غيرهم داحضة لأنها شبهات.
قال (وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح).
الآن كل هذه المقدمات فيها وصف، يأتي بعد إن شاء الله الدرس القادم ابتداء الدخول في لب الكتاب وتفاصيل الشبه وتقعيد الردود عليها في تبيان كلام الشيخ رحمه الله.
قال(وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح) وهذا والله حق، فالخوف على الموحد أن يأتي ويسلك طريقا ليس معه سلاح، فقد سُمع من بعض أهل التوحيد والمنتسبين إليه من يسهّل بين خلاف الأديان وربما بعضهم سماها الأديان السماوية الثلاثة، وسُمع منهم من يسهّل في أمر تبيان السحرة وسُمع منهم من يشكك في كُفر أهل الشرك وكُفر عبّاد القبور والأوثان وهكذا، بل حرك ترى في الناس، فقد يكون في هذا الزمان عندنا هذا البلد بخاصة فكيف بغيره من إذا حركته في مسائل التوحيد ربما سلم لك شيئا أو أشياء وجادلك في أشياء كانت من الواضحات، وهذا لأجل أنهم خاضوا الطريق واختلطوا بالناس وذهبوا جاؤوا وسافروا وانفتحوا على الأقوال المختلفة ووسائل الإعلام المختلفة دون سلاح، مثل ما قال الشيخ رحمه الله هنا (وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح) فكل يصيبه ما معه سلاح هذا يصيبه بطعنة وهذا يصيبه بطعنة من الشبهات، حتى يكون ذهنه قائما على غير الحق نسأل الله جل وعلا العافية.
قال (وقد من الله علينا بكتابه الذي جعله تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) هذه الكلمة تأصيل لـ: أنّ الردود على المشركين وكشف الشبه الأصل فيها كتاب الله جل وعلا كل حجة عندنا وإنما هي في القرآن في هذا الأمر العظيم أمر التوحيد ومضادة الشرك وأهله، وهي في القرآن، لم؟ لأن القرآن كما قال جل وعلا ﴿تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾[النحل:89]، فقوله (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) بما فيه بيان كل الأشياء، وأعظم الأشياء حاجة إلى تبيانها مسألة التوحيد والشرك وبيان التوحيد وبيان الشرك، وهذا أعظم ما يحتاج غليه العباد فكان هذا داخلا دخولا أوليا في قوله (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ)، فإذن الرجوع في التبيان والبيان والحجة إلى القرآن، وهذا كما سيأتي بأنّ كل الحجج إنما هي من القرآن والسنة مبيِّنة للقرآن.
قال (فلا يأتي صاحب باطل بحجة إلا وفي القرآن ما ينقضها ويبيِّن بطلانها) هذا حال قاعدة عامة في كل شيء في مسائل العقيدة والتوحيد، وكل مسألة يُحتاج فيها إلى حكم الشرع فإنها في القرآن، كما قال جل وعلا ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾[الأنعام:38] على أحد وجهي التفسير، قال (إلاّ وفي القرآن ما ينقضها ويبين بطلانها كما قال تعالى ﴿وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا﴾[الفرقان:33]) المثل ليس المراد به ما يسير مسير؛ كما يقال في الأمثال كذا وكذا، وإنما المثل هو القول الذي يسر في الناس، القول إذا كان له حجة وله مسير في الناس من جهة القناعة به لشبهة فيه، قيل له مثل لهذا قال جل وعلا هنا (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ) يعني بحجة باطلة في التوحيد في إبطالهم أو في تحسين الشرك أو في إيراد الشبه وأنهم ليسوا بكفار ولا مشركين إلا جئناك بالحق يعني في رده وبيان بطلانه وبيان الحق في ذلك وأحسن تفسيرا وأوضح تبيانا وأحسن تأويلا وشرحا لذلك المثل وللحق الذي فيه لأن القرآن غامض (قال بعض المفسرين هذه الآية عامة في كل حجة يأتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة).
نقف عند هذا، وما بعده يبدأ الكلام الذي يدخل في العلم الغزير، وما سبق مقدمات، وهذه المقدمات مهمة للغاية، نجيب على بعض الأسئلة:
1/ هذا سؤال جيد يقول: نرجوا عندما تذكر شيخ الإسلام أو قول غيره أن تذكر الكتاب الذي يوجد فيه هذا القول حتى يسهل الرجوع إليه للاستفادة وتدوينه.
بالنسبة لأقوال شيخ الإسلام ابن تيمية أحيانا أتذّكر مثلا أو يتذكر الذي ينسب القول لشيخ الإسلام ويعزوه عليه، يتذكر المرجع يعني المظنة يقول مثلا في الفتاوى في كذا أو في اقتضاء الصراط المستقيم أو في كتاب كذا من كتب شيخ الإسلام، وتارة يحفظ القول وينسى مكانه بالنسبة للشباب المطالعين القريبين من كتب شيخ الإسلام دائما لقرب عهدهم بالمطالعة، تجد عنده تذكر للقول مستمر للقول ومكانه إلى آخره، لكن إذا تطاول العهد بكلام شيخ الإسلام أو كلام غيره فإنه يؤثر القول، وقد [...] عن الذهن المرجع، فلا بأس إذا حصل مني تذكر للمرجع نذكره إن شاء الله تعالى، وإذا صار به تردد فيه أو نسيان فنرجئه أو نمر عنه.
2/ من ذبح عند قبر مثلا متى يحكم عليه أنه مشرك ؟
إذا ذبح عند القبر متقربا لصاحب القبر فهو مشرك، تحكم عليه بالشرك بذبحه؛ لأنه صرف العبادة لغير الله، ثم تقيم عليه الحجة، فإن مات بعد قيام الحجة عليه فهو خالد مخلد في النار.
يقول ومتى يعذر بالجهل؟
سبق لنا بعض كلام في هذه المسألة.
3/ ما رأيكم فيمن يقول اللهم لا تشغلنا إلا في طاعتك؟
لا تشغلنا عن طاعتك أو لا تشغلنا إلا في طاعتك، دعاء طيب لقول الله جل وعلا ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ﴾[الشرح:7]، يعني في طاعة الله ﴿وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾[الشرح:8]، فشغل الإنسان بالنية يكون طاعة فإذا دعا بهذه الدعوة يعني يدعو بتحسين نية كل عمل حتى يكون طاعة.
4/ يقول في هذا العصر نجد من الدعاة إلى الله من مكث سنين طويلة يكتب للإسلام بنية صحيحة حتى الوفاة وعليه بعض الأخطاء في العقيدة والمنهج هل يمكن أن نقول بعد كل ما فعل أن منهجه غير إسلامي؟
بالنسبة للذين يكتبون وعليهم أخطاء ننظر فيه -يعني فيما يخص بحثنا اليوم- ننظر هل هو معاد للتوحيد هل هو يحسن الشرك أو يهون من شأنه فإنّ كان كذلك فلا كرامة، أو على الأقل نقول مثل ما يقول علماؤنا الأوائل إذا واحد مثلا ما يعرفونه في تحقيق التوحيد ولا بنصرة التوحيد يقولون ما نعرفه بشيء، يسكتون عنه لا يمدحون ولا يذمون، إذا ما حقق التوحيد ولا دعا إليه في بلد فيها الشرك بالله جل وعلا.
وكلمة (منهجه غير إسلامي ) إسلامي هذه دخل فيها فئات كثيرة دخل فيها أصناف من الناس، منهم من هو قريب ومنهم من هو متوسط ومنهم من هو بعيد، فهي كلمة لا تقال (منهجه غير إسلامي) كلمة فيها سعة.
5/ لقد قلت أنّ أحمد زيني دحلان من الذين يدافعون عن الشرك لهذا نذكر كتب مثل علوم الآلة في علوم النحو فهل ننتفع بها؟
لا علماء المشركين لا تنتفع منهم بشيء؛ لأن الانتفاع منهم بشيء يجعل في القلب شيء من التعاطف معهم، وهذا مخالف لما يجب من البراءة منهم، فمثل كتاب زيني دحلان هذا في النحو ليس بشيء، وثَم كتب كثيرة جدا بل مئات تغني عنه.
أحمد زيني دحلان له كتاب سماه الدرر السنية في الرد على الوهابية، وكان مفتي الشافعية في مكة وبسببه بسبب هذا الكتاب وبسبب مؤلفه انتشرت الدعايات السيئة على هذه الدعوة وعلى إمامها رحمه الله تعالى، كان إذا أتى الناس إلى الحج جمعهم مفتي الشافعية فيجمع [...] مثلا ويجمع أهل مصر ويجمع أهل الشام ويجمع أهل أفريقيا ويجمع ويجمع ويعطيهم نسخ من هذا الكتاب، ويقول: ظهر في جهتنا رجل يقال له كذا وأصحابه يقال لهم الوهابية هؤلاء خوارج هؤلاء يدعون إلى كذا إلى آخره. ولهذا يردد الناس جميعا ما كتبه أحمد زيني دحلان في كتابه هذا الدرر السنية قد قال عن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: وكان هذا الرجل يأمر بحلق، يأمر النساء اللاتي يتبعهن بحلق رؤوسهن وكان يختار منهن الزوجة التي يريد، والظاهر من حاله بالقرائن أنه يدعي النبوة -هذا في الكتاب- وقد روى بعضهم حديثا عن النبي ﷺ قال فيه يخرج في ثاني عشرة من الزمان رجل يلعق براطنه، يحدث فتنة يعتز فيها الأراذل والسفل، ويذل فيها أهل الفضل والكمل -أو شيء من هذا- وهي فتنة تتجارى بها الأهواء - وما شابه ذلك قال بعدها- وهذا الحديث وإن لم يعرف من خرجه لكن شواهد الصحة تدل عليه. وهو موجود إلا في كتابه ومن نقل عنه، فهؤلاء علماء مشركون حقيقة يعني حسنوا الشرك دافعوا عنه ردوا على أهل التوحيد طعنوا في الدعوة في أئمة الدعوة رحمهم الله تعالى، فماذا يبقى في حالهم لا شك أنه أقل ما يجب العداوة القوية والمفاصلة والبراءة منهم، إذْ هذا هو معنى قوله ﴿ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ إلى قوله ﴿وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾[الممتحنة:4] والله المستعان.
6/ إذا مات عالم يروج شبهة فما موقف أهل السنة منه ؟
هذه الشبهة التي يروجها إن كانت في الشرك يحسّن الشرك فهو مشرك، فهذا يُتبرأ منه، وليس بموحِّد؛ لأن كل عالم حسن الشرك ودعا إليه فهو مشرك لأن الحجة قامت عليه بكونه عالما بالقرآن أو بالسنة والقوة عنده قريبة فلا يعذر لعدم بحثه أو يعذر إذا كان حسن الشرك أو دعا إليه، مثل تحسين الاستغاثة بغير الله، ومثل الدعاء إلى الإشراك بالموتى وأشباه ذلك.
بخلاف من عنده شبهة راجت عليه في مسائل يحرم الاشتباه فيها مثل مسألة الشفاعة في سؤال النبي ﷺ ذلك، وهذا لا يتبع فيما وقع فيه وما أروده وإن دعا إلى ذلك فيرد عليه إلا إذا كانت الشبهة كما ذكرنا في التوحيد فإنه يخرج من الدين إذا كان حسّن الشرك رد على التوحيد.
7/ هناك من العلماء من أخطأ في الأسماء والصفات، وقد أولوا بعض الصفات وهؤلاء العلماء لهم جهود كبيرة في خدمة هذا الدين والعلم والعلماء، فهل نحكم عليهم حكما على أهل الشرك من العلماء؟
لا حاشا وكلا، الذي يخطئ في توحيد الأسماء والصفات يؤول بعض الصفات لا نحكم عليه بالكفر بل هو مبتدع مخالف عاصي، فهو ممن خلط عملا صالحا وآخر سيئا، ويجب النهي عما أخطأ فيه إذا كان مما أخطا فيه متعديا على الناس يعني منتشر في الناس، يجب التحذير من ذلك، إنكارا للمنكر حتى لا يقتدي الناس به فيما أخطأ فيه.
وبعض الأئمة منهم أحمد وغيره، قيل له ترد على فلان وفلان ولهم من المقامات كذا وكذا، يعني من الصلاح والطاعة، فقال: ويلك أنا خير لهؤلاء من آبائهم وأمهاتهم، ألا ترى كيف أدفع عنه من يقتدي به في سوئه حتى لا تعظم عليه ذنوبه يوم القيامة. يقول: أنا خير لهؤلاء من آبائهم وأمهاتهم، ألا ترى كيف أدفع عنهم الإقتداء بهم في السوء حتى لا تعظم ذنوبهم يوم القيامة. هذا فقه عظيم لأن النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم توجب أن يبين خطأ المخطئ، حتى لا يتبعه الناس في خطئه، الذي صنف أو الذي دعا إذا أخطأ وأخطأ بخطئه اقتدى به أمم مع قرب الحق منهم وإن كان الوصول إليه، فلم يقانعوا بالحق ولم يأخذوا به فكما قال النبي عليه الصلاة والسلام «ومن دعا إلى ضلالة فله وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيء»، وقال أيضا في الحديث الآخر «من سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها».
فإذن التحذير من خطأ المخطئ في توحيد الأسماء والصفات أو بدعة المبتدع أو ضلال من ضل في بعض المسائل هذا في مصلحته والإسلام أغلى من فلان أو فلان، حتى ولو كان ممن يشار إليهم من المصنفين القدماء أو المحدثين؛ لأن المقصود حذر التأثير فيما أخطأ فيه عن أن يتبع في ذلك، فالتنبيه ليجتنبهم.
وكل رد له مقام، فأحيانا يكون المقام بذكر حسنات وسيئات، وتارة يكون المقام لا يجوز فيه أن تُذكر حسناته في مقام الرد، والسلف رحمهم الله تعالى في ردودهم على المخالفين تارة يذكرون ما لهم، وتارة لا يذكرون ما لهم بل يذكرون ما عليهم، وهذا لأجل تنوع المقام، فإن كان ذكر ما له في مقام الرد يُغْري به ويوقع الشبهة في تحسين كلامه فإنه يكون ذلك شبهة توقعها في الناس.
مثلا ترد على الرازي مثلا في الأسماء والصفات أو في التوحيد بعامة، أو ترد على فلان، فتقول كان إمام مبرزا وكان ذا علوم، وكان العلماء لا يصلون إلى شيء من علومه، وحفظ كذا وكذا، الذي يقرؤه ينبهر يقول كل هذا ثم تريد أن أصدقك أنه أخطأ أنت من أنت؟ هل أنت في مقامه؟ وهذا وقع في بعض من كتب في ردوده مدحا لمن رد عليه، يأتي القارئ له لا تتصور القارئ طالب علم، الشيء إذا نشر يقرؤه العامي، ويقرؤه واحد في بيته، ويقرؤه مثقف عادي، يقرؤه يقول طيب العلماء إذن كان هذا عالم وأنت الآن مجدته هذا التمجيد وأخطأ، فليش أنا آخذ كلامك ولا آخذ كلامه، فتقع الشبهة.
لهذا هدي السلف في الردود أنه بحسب المقام تارة يذكرون ما له وما عليه، مثل ما ذكر شيخ الإسلام في مقامات ما للمخالفين وما عليهم وتارة لا يحسن أن يذكر ما له؛ لأنه قد يُغري ذلك الجاهل بالإقتداء به أو تكون المسألة فيها قولان واختلاف العلماء وكل يأخذ ما يشتهي.
هذا تحقيق في مسألة ما أشيع أو ما كثر الكلام عليه في مسألة الحسنات والسيئات وفي ذكر الحسنات والسيئات، فيكون تحقيق المقام: أن هذا يختلف فإذا كان المقام مقام تقييم له فيذكر ما له وما عليه وإذا كان المقام مقام رد عليه فلا تذكر حسناته إذا كان في ذكرها إغراء لقَبول ما قال عند بعض الجهلة؛ لأن هذا يحجب عن قبول الحق الذي يأتي به الرأي.
8/ هذا يتكلم على المنهجية في طلب العلم يحتاج إلى تفصيل بعض الشيء.
9/ ما رأيكم في قراءة كتب شبهات المشركين، أو الشبهات التي يلقيها بعض المسلمين على العلماء والدعاة بقصد التحذير منها والرد عليها؟
لا هذه لا تؤخذ ولا تقرأ إلا لمحكِم أمره عالم يمكن أن يرد عليها، أما الذي يخوض في هذا الميدان بلا سلاح ويعرف أن سلاحه ضعيف لا بد أن يحذر ولا يعرض دينه وعقيدته ويقينه للتردد والتذبذب.
10/ من المعلوم أن العقيدة من الأمور التي لا يجوز فيها التقليد البتة، وهناك من العلماء من أراد الوصول إلى الحق ولم يعرف بعدائه للتوحيد، ولكن لمعرفته أن العقيدة لابد فيها التحرير حصّل ما كان مخالفا للصواب، فهل نحمل ذلك على التأويل وأنه كان من تأويله، أرجو البيان، علما أن من أعداء الدعوة من قصد وصول الحق ولعل منهم من رجع وتاب إلى آخره؟
هذا راجع إلى تفصيل الكلام في مسألة الظاهر والباطن، بالنسبة إلى اجتهاده في الوصول إلى الحق هذا بينه وبين الله جل وعلا، لكن إذا كان مشركا دعا إلى الشرك وحسّنه وأبطل حجج أهل التوحيد وعادى التوحيد وأهله، فلا شك أنه مشرك كافر ولا كرامة، إذا كان من العلماء لأن الحجة عليه قامت، والقوة عنده قريبة يمكن أن يبحث ويبحث والحق موجود في الكتب، بل هناك من قال أهل العلم في هؤلاء إنّ الله جل جلاله قال في القرآن ﴿لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾[الأنعام:19] وهؤلاء العلماء بلغهم القرآن وفهموا معناه، فإن كانوا أعرضوا على القرآن مع علمهم فهؤلاء قد قامت عليهم الحجة.
فالمقصود أن الرؤساء رؤساء الضلال والكفر والشرك من الذين حسنوا الشرك ودعوا إليه وأبطلوا التوحيد أو أبطلوا حجج أهل التوحيد ودعوا الناس لمعاداة أهل التوحيد، هؤلاء طواغيت مشركون.
11/ الذين خلّطوا في باب الأسماء والصفات قسمان: منهم علماء وصلهم اجتهادهم إلى ذلك ومنهم من هو على جهل واتباع هوى فعل يساوى بينهم؟
لا، لاشك المخطئون والضلاّل ليسوا على درجة واحدة في أبواب الاعتقاد.
نفعني الله جل وعلا وإياكم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. ([31])
¹
[الجواب المجمل]
[المتن]
وأنا أذكر لك أشياء مما ذكر اللهُ في كتابه جوابًا لكلام احتج به المشركون في زماننا علينا.
فنقول: جواب أهل الباطل من طريقين مجملٍ ومفصّل.
أما المجمل فهو الأمر العظيم والفائدة الكبيرة لمن عقلها، وذلك قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾[آل عمران:7] وقد صح عن رسول الله ﷺ، أنه قال: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمَّى اللهُ، فاحذروهم».
مثال ذلك: إذا قال لك بعض المشركين: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[يونس:62]، أو إن الشفاعة حق، وأن الأنبياء لهم جاه عند الله، أو ذكر كلامًا للنبي ﷺ يستدل به على شيء من باطله وأنت لا تفهم معنى الكلام الذي ذكره فجاوبه بقولك: إن الله ذكر في كتابه أن الذين في قلوبهم زيغ يتركون المحكم ويتّبعون المتشابه، وما ذكرته لك من أن الله تعالى ذكر أن المشركين يقرّون بالربوبية وأن كفرهم بتعلقهم على الملائكة والأنبياء والأولياء مع قولهم: ﴿هَـؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ﴾[يونس:18] هذا أمر محكم بيّن، لا يقدر أحد أن يغيّر معناه، وما ذكرت لي أيها المشرك من القرآن أو كلام النبي ﷺ لا أعرف معناه ولكن أقطع أن كلام الله لا يتناقض، وأن كلام النبي ﷺ لا يخالف كلام الله عز وجل.
وهذا جواب جيد سديد ولكن لا يفهمه إلا من وفقه الله تعالى فلا تستهن به فإنه كما قال تعالى: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾[فصلت:35].([32])
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما وعملا وتُقًى وخشية يا أرحم الراحمين.
أما بعد: فمِن هذه الجملة من هذه الرسالة العظيمة كشف الشبهات يبتدئ الكلام على الشبهات وعلى إبطالها، وما ذكره المصنف رحمه الله تعالى قبل ذلك مقدمات غاية في الأهمية وهي المحكَمات التي يحتاج الموحد إلى أن يرجع إليها في حجاجه مع أهل الباطل وأهل الظلم والطغيان.
قال الإمام رحمه الله هنا (وأنا أذكر لك أشياء مما ذكره الله في كتابه جوابا لكلامٍ احتج به المشركون في زماننا علينا، فنقول: جواب أهل الباطل علينا من طريقين: مجمل ومفصل) كل شبهة في كلام المشركين أدلَوْا بها فإن جوابها في القرآن، إما عن طريق الجواب المجمل وإما عن طريق التفصيل، لقول الله جل وعلا ﴿وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا﴾[الفرقان:33]، فالله جل وعلا أبطل حجج المشركين بالإجمال وبالتفصيل، وقول الشيخ رحمه الله هنا (جواب أهل الباطل علينا من طريقين : مجمل ومفصل).
كلمة (مجمل) تارة يقابل بها المبيَّن، وتارة يقابل بها المفصَّل، ومعناها إذا قوبل بها المبيَّن يختلف عن معناها إذا قوبل بها المفصل:
µوالأول هو الذي يبحثه الأصوليون حين يجعلون في مباحثهم في الركن الثالث من أركان أصول الفقه -وهو البحث في الاستدلال- المجمل ويقابلون به المبيَّن، والمجمل الذي يقابل به المبيَّن اختلفت عباراتهم في تعريفه؛ ولكن حاصلها يرجع إلى:
· أن المجمل ما لم تتضح دلالته.
· أو كما قال بعضهم: ما احتمل شيئين ولا مرجِّح.
· أو كما قال بعضهم: ما لم يكن متحد المعنى، ولم يكن ثَم ما يبين ذلك المعنى فيه.
فإذن المجمل الذي يقابَل بالمبيَّن هذا يبحث فيه من جهة دِلالة الألفاظ ومن جهة الاستدلال، فيقال هذا مجمل وهذا مبيَّن.
ومعلوم أن النصوص إذا جاء فيها شيء مجمل فلا بد من البحث عما يبيِّنه حتى يتم الاستدلال؛ لأن الاستدلال بالمجمل لا يصح؛ لأنه محتمل لأشياء ولا مرجح لأحد الاحتمالات من اللفظ أو من التركيب، وإنما لابد من البحث؛ البحث عن البيان في أدلة أخرى.
µوأما في مقام البرهان وعند أهل الحجاج والاستدلال فإنهم يستخدمون لفظة المجمل المقابل لها المفصَّل، وهو الذي عناه الشيخ رحمه الله في هذا المقام حيث قال (من طريقين: مجمل ومفصل)، والمجمل هنا هو المجمل في باب الحجاج وباب الاستدلال وإقامة البرهان، وذلك أنّ البراهين في إقامتها تنقسم إلى براهين مجملة وبراهين مفصَّلة.
ويُقصد بالإجمال البرهان العام الذي يمكن أن تُرجع أفرادا كثيرة إليه من جهة الاحتجاج، فيصلح حجة لأشياء كثيرة دون تحديد.
وأما المفصل المقابل بالمجمل هذا فإنه الرد الذي يقابل به كل شبهة على حدا، وتكون الشبهة لها رد بالتفصيل عليها. وقد يكون هناك في الرد المفصل ما يشترك فيه بين رد ورد، وهذا يأتينا إن شاء الله تعالى.
فتحصّل لك أن قول الإمام رحمه الله تعالى (جواب أهل الباطل من طريقين: مجمل ومفصل) أن:
المجمل: هو الجواب العام، والاستدلال العام، والبرهان العام، الذي يصلح لكل حجة يوردها المورد؛ يوردها المجادِل.
والمفصل: هو البرهان والدليل لإبطال كل شبهة على حِدَى ذلك على وجه التفصيل.
فإذن عندنا هنا الإجمال غير الإجمال المعروف في أصول الفقه، الإجمال هنا واضح بخلاف المجمل في أصول الفقه فإنه ما لم تتضح دلالته.
فإذن قول الشيخ رحمه الله (أما المجمل فهو الأمر العظيم والفائدة الكبيرة) يعني أما الجواب الذي فيه البرهان والدليل العام والشامل لردّ أفراد كثيرة من شبه أهل الباطل -بل لرد كل شبهة يوردها المبطلون- قال (فهو الأمر العظيم والفائدة الكبيرة لمن عقَلَها) وهذا واضح فإن النبي ﷺ أحال على هذا الجواب المجمل وأحال على هذا الأمر العام في قوله عليه الصلاة والسلام في بيان آية آل عمران «فإذا رأيتهم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» وهذا إحالة إلى تحذير عام من كل صاحب شبهة، وهذه يحتاجها كل مسلم كل موحد؛ لأن درجات العلم تختلف حتى بعض أهل العلم قد يخفى عليه جواب بعض الإشكالات؛ لكن إن كان من الراسخين في العلم ومن الموفَّقين آمن بما اشتبه وأحال الجواب على المحكمات، ولا يلزم من ذلك أن تكون كل شبهة مردودة عند كل عالم -كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى-؛ لكن المحكَمات -الأمر المجمل العام- هذا تستفيده في كل موقف من المواقف التي يجادلك من يخالف طريقة أهل التوحيد طريقة أهل السنة والجماعة طريقة السلف الصالح، فالاستمساك بهذا الجواب المجمل هذا غاية في الأهمية؛ لأنه قد لا يستحضر طالب العلم أو يستحضر الموحِّد جواب كل شبهة على تفصيلها، فإذا تمكَّن من هذا الجواب المجمل فإنه يتمكن من رد كل شبهة أوردها المبطلون.
وتفصيل هذا الاستدلال المجمل بردِّ كلام أهل الباطل في التوحيد وبه تنكشف شبههم جميعا قال فيه (وذلك قوله تعالى ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾[آل عمران:7]) هذه الآية في بيان من الحق جل وعلا أنّ هذا القرآن أُنزل على النبي ﷺ وهو قسمان: منه محكم، ومنه متشابه.
والمتشابه والمحكم راجعان إلى دلالة الألفاظ وراجعان إلى المعنى، لا إلى المراد به.
فالمحكم اختلفت أقوال العلماء في تعريفه، ما هو المحكم وما هو المتشابه؟
فقال بعضهم: إن المحكم هو ما استبان معناه واتضحت دلالته، فلا لَبْسَ فيه متضح لكل أحد، لا لَبْسَ فيه ولا إشكال، والمتشابه ما يشتبه معناه المراد به فلا يتَّضح.
فإذن رجع على هذا التعريف المحكم إلى المتضح البيِّن، والمتشابه إلى ما يحتاج إلى اجتهاد ونظر لا يتضح معناه.
ومن الأقوال في ذلك ما رواه علي بن أبي طلحة في صحيفته المعروفة في التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: المحكم هو ناسخه وأمره ونهيه وحلاله وحرامه. فأرجع ابن عباس المحكم إلى ما يكون من جهة العمل، وأما الأخبار فإنها لا يعلم تأويلها إلا الله جل جلاله؛ لأنّ حقيقتها غير معلومة -يعني في الأمور الغيبية- كما سيأتي.
وقال آخرون من أهل العلم: المحكم راجع إلى ما لا تعدد في دلالته، والمتشابه إلى ما تتعدد الدلالة فيه.
والأقوال في هذا كثيرة معروفة في كتب الأصوليين.
ومن الباطل فيها ما يجعل المحكم ما رجع إلى أمور الفقه -الأحكام- والمتشابه ما يرجع إلى أمور العقيدة؛ لأن هذا معناه أن الله جل جلاله لم يبين لنا بيانا محكما شيئا من أمور العقيدة، وهذا باطل.
ومن الباطل فيه ما يقال إن من المتشابه أو المتشابه منه آيات الصفات ومنه الحروف المقطّعة في أول السور، وهذا أيضا من الأقوال الباطلة فيه، وليس هذا محل ضبط الكلام في المحكم والمتشابه.
لكن المقصود من ذلك أن الراجح عند أهل العلم أن:
المحكم: هو ما تبينت دلالته واتضحت.
والمتشابه: هو ما يحتاج في بيان دلالته إلى اجتهاد ونظر.
والقرآن جعله الله جل وعلا محكما كلَّه، وجعله جل وعلا متشابها كله في آيات أخر.
قال جل وعلا في بيان أن القرآن جميعَه محكم ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾[هود:1]، فالقرآن على هذا كله محكم، بمعنى أنه لا تفاوت فيه ولا اختلاف، مُتقن لا تفاوت فيه ولا اختلاف لا من جهة الأخبار ولا من جهة الإنشاءات، فهو جل وعلا أحكمه لا اختلاف فيه كما قال جل وعلا ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾[النساء:82].
والقرآن أيضا متشابه كله كما قال جل وعلا ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا﴾[الزمر:23]، فالقرآن متشابه لأنه بعضه يشبه بعضا آيات في التوحيد وآيات في التوحيد، وآيات في وصف أحد الرسل وبيان حاله مع قومه وآيات كذلك، آيات في الجنة والجنة والنار والنار والآخرة والآخرة، كذلك في صفات الله وصفات الله وهكذا فبعضه يشبه بعضا، في الأمر والنهي وفي الأمر والنهي، في الحلال والحرام في الحلال والحرام وهكذا.
وهذان القسمان غير القسم الذي في هذه الآية، هذه الآية فيها تقسيم ثالث للقرآن، وهو أن القرآن منه محكم ومنه متشابه، والمحكم ما اتضحت دلالته وبان، والمتشابه ما يحتاج في بيان دلالته إلى اجتهاد أهل العلم فيه أو إلى رده للمحكم، ومن الاجتهاد أن يرد إلى المحكم، فالمتشابه من القرآن ما لم تتضح دلالته في نفسه، يشتبه على الناظر فيه، وذلك من قوله تعالى ﴿إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا﴾[البقرة:70]؛ يعني لا ندري المراد أي واحدة من هذه البقر (إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا) فلا ندري أي واحدة من البقر أردت بالأمر، وهذا هو المراد هنا في قوله (وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) يعني يشتبه بعضها من حيث الدِّلالة والأمر فلا بد من إرجاعها إلى المحكم.
إذا كان كذلك فالمحكمات التمسك بها هو الأصل الأصيل في رد الشبه، وهذه الآيات المحكَمات أنواع؛ الآيات المحكمات في رد شبه أهل الباطل في التوحيد جميعا.
النوع الأول: الآيات التي فيها بيان أن الكفار مُقِرُّونَ بتوحيد الربوبية، وأنه لا إشكال عندهم في ذلك، هذا نوع.
والنوع الثاني: من الآيات أن الكفار ما أردوا عبادة ما عبدوا إلا لأجل التقرب إلى الله جل جلاله، بالزلفى والشفاعة، إلى آخر الآيات في ذلك.
والنوع الثالث: من الآيات المحكمات في هذا الباب الواضحة أن الأموات التي عُبدت لا تملك شيئا وأنها يوم القيامة تتبرأ ممن عبدها.
والنوع الرابع: من الأدلة المحكمة في هذا الباب في رد حجج المشركين، الآيات التي فيها بيان أنّ الله جل جلاله لم يتَّخذ ولدا ولم يتَّخذ شريكا ولم يتَّخذ وليا ولم يتخذ شفيعا، كآية سورة سبإ، وآية سورة الإسراء، وآية الفرقان، وأشباه ذلك.
والنوع الخامس: من هذه الأنواع المحكمة أن معبودات المشركين في القرآن مختلفة:
فمنهم من عبد الأصنام.
ومنهم من عبد الأوثان، والصنم ما كان على هيئة صورة مصورة منحوتة، والوثن ما لم يكن على هيئة صورة؛ شجر قبر كوكب إلى آخره.
ومنهم عبد الملائكة.
ومنهم من عبد الأولياء.
ومنهم من عبد الجن.
ومنهم من عبد الشجر والحجر إلى آخره.
فهذه التصانيف في الآيات لمعبودات المشركين، هذه تُنزل عليها كل حالة من حالات أهل الشرك في هذا الزمن وفي ما قبله وما بعده.
فهذه آيات محكمات أصول في باب توحيد العبادة؛ هذه الأنواع.
لهذا ترى أن شيخ الإسلام الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يكثر من تنويع هذه الأدلة؛ لأنها حجة في هذا الباب محكمة، لا يستطيع أحد أن يَنْقُضها ولا أن يردَّها.
قال جل وعلا (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)، معنى (هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ) أي هُنَّ الأصل الذي يُرجع إليه في الكتاب فالمحكمات البينات الواضحات، وما من آية مشتبهة في القرآن إلا ويمكن إرجاعها إلى محكم فيه، فمعنى (أُمُّ الْكِتَابِ) يعني هُنَّ أصل الكتاب الذي يرجع إليه؛ لأن الأم هي أصل الولد، وأم الكتاب الأصل الذي يرجع إليه الكتاب في آيِهِ وذلك أنها مشتملة على معاني الكتاب، ومن هذا كانت الفاتحة أم القرآن؛ لأن جميع آيات القرآن راجعة على آيات الفاتحة إما بظهور أو بشيء من البيان.
قال (وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) فهنا بين أن القرآن منه كذا ومنه كذا، منه محكم ومنه متشابه -متشابه لم تتضح دلالته- وهذا المتشابه قد يكون في الأخبار، وقد يكون في الأمر والنهي، قد يكون في الأخبار وقد يكون في الإنشاءات، فلا يُحَد المتشابه لقسم الإنشاء دون الإخبار أو بقسم الأخبار دون الإنشاء؛ بل التشابه وقع في قسمي الكلام، الأخبار والإنشاءات، ومعنى الأخبار يعني التي يكون امتثالها بالتطبيق، والإنشاءات معناه التي يكون امتثالها بالعمل.
قال هنا في بيان موقف الذين زاغوا قال (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ)، وهنا تلحظ أنّ قوله (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) فيه إثبات أنَّ القلوب زاغت قبل النظر في القرآن، فَهُم زاغوا قبل، ثم بعد ذلك تلمسوا الدليل على زيغهم، قال (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ) فزاغت قلوبهم ثم اتبعوا ما تشابه منه، (فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ) يستدلون بما تشابه بما لم يتّضح معناه أو بما يحتمل أو بما لو رُدّ إلى المحكم لبان، (يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ) يعني يتبعونه ويجمعونه لأجل الاستدلال به، ويتركون المحكم.
وهذا مثل ما حصل من النصارى أنَّهم نظروا في القرآن فزعموا أن رسالة محمد ﷺ خاصّة بالعرب لقول الله جل وعلا ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ﴾[الزخرف:44]، وأيضا في قول الله جل وعلا ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾[الشعراء:214]، فاحتجوا بآيات على خصوص بعثة محمد ﷺ للعرب.
وهذا احتجاج بالمتشابه واتباع له؛ لأن في قلوبهم زيغا، فوجود الزيغ في القلوب، وهو عدم رد الكتاب، وعدم اتباع محمد عليه الصلاة والسلام، فتلمسوا وتتبعوا الدليل.
كذلك كما هو ظاهر في هذه الأمة الفرق الضالة من الخوارج والمرجئة والقدرية والمعتزلة وأشباه هذه الفرق، فإن كل فرقة احتجت بالمتشابه وتركت المحكم.
فأخذت بعض الآيات الخوارج على بدعتهم في تكفير صاحب الكبيرة استدلوا بقول الله جل وعلا ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا﴾[النساء:93]، فقالوا هذا يدل على أن فاعل الكبيرة كافر لأنه حكم عليه بأنه خالد في النار.
واحتجت المرجئة مثلا على بدعتهم بآيات، واحتجت القدرية على بدعتهم بآيات، والجبرية على بدعتهم بآيات.
إذن القرآن فيه احتجاج لكل صاحب زَيْغ، حتى في هذا العصر أتت طائفة وقالوا الصلوات في القرآن ثلاث؛ لأن جل وعلا لم يذكر في القرآن خمس صلوات فلا نصلي إلا ثلاثا.
وهنا قال عدد من أهل العلم المفسرين وغيرهم إن الحكمة من وجود المتشابه في القرآن الابتلاء؛ لأنه لو كان القرآن واضحا صار الزائغ عنه معاند فقط؛ لأنه واضح فلم يزيغ إلا المعاند، والله جل وعلا بحكمته جعل القرآن منه محكم ومنه متشابه لم تتضح دلالته؛ ليبتلي الناس كيف يعملون، هل يسلطون أهواءهم مستدلين بالمتشابه أم يتخلصون من الهوى، فيُرجعون المتشابه إلى المحكم، ويرجعون ذلك إلى الراسخين في العلم وإلى أهل العلم الذين يفهمون المتشابه فيفهمون المحكمات.
فإذن الحكمة من وجود المتشابه في القرآن الابتلاء، والله جل وعلا ابتلى الناس بالحياة ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾([33]) وابتلاهم بالرسول عليه الصلاة والسلام هل يؤمنون به أم لا يؤمنون «إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك» كما في صحيح مسلم، وكذلك ابتلى الله جل وعلا الناس بالقرآن بجعل بعض القرآن متشابها؛ هل يُرجعونه للمحكم ويسلمون لأهل العلم أم أنهم يخوضون في المتشابه فيقعون في الفتنة.
لهذا قال أهل العلم بالتفسير معنى قوله (فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ) يعني ابتغاء فتنة أتباعهم كما نص عليه ابن كثير في تفسيره، فهم اتبعوا ما تشابه منه لأجل أن يُضِلوا ويفتنوا الأتباع معهم.
فهم إذن تقررت عندهم أشياء ثم نظروا ولم يُسلِّموا لأهل العلم الانقياد الراسخين في العلم، فلم يرجع الخوارج للصحابة ولم يرجع القدرية للصحابة، وهكذا في أشياء كثيرة، ولم يرجع المعتزلة لأئمة السنة، ولم يرجع الأشاعرة إلى أئمة أهل الحديث والسلف قبلهم فيما اُختلف فيه، فاتبعوا ما تشابه منه وتركوا المحكمات ابتغاء الفتنة؛ يعني لأجل أنْ يحصل لهم اتِّباع الأتباع.
وقوله (ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ) نفهم منه أنّ من أضلَّ بشبهة فهو مبتغ للفتنة، سواءً قال أنا لم أرد الإضلال أو قال أنا أردته؛ لأن الله جل وعلا قال (مَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ) وإذا نظرت إلى قول النبي ﷺ «فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» ما يبين أنهم لم يبتغوا الفتنة في الناس قصْدا في الإضلال فيعلمون أنهم على باطل فيضلون الناس، هذا غير مراد، وإنما ابتغوا الفتنة كحالة لهم فهم حين اتبعوا ما تشابه منه فقد ابتغوا الفتنة في حالتهم، فحالهم حين اتبعوا المتشابه وتركوا المحكم أنهم يبتغون الفتنة، فنُزِّ لوا منزلة القاصد لذلك؛ لأنهم تركوا المحكم واتبعوا المتشابه، فلما أنهم لم يتخلَّصوا من الزيغ مع وضوح الهدى ووضوح طريقه ولم يتبعوا المحكم وإنما اتبعوا المتشابه فالحال أنهم بطريقتهم هذه ابتغوا الفتنة لهم ولأتباعهم، فكأنهم قصدوا ذلك قصدا وإن كانوا يقولون إنما أردنا الخير، فالخوارج كانوا أشد الناس عبادة؛ أشد من الصحابة عبادة، يحقر أحد الصحابة عبادته مع عبادتهم وصلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، فلا يُظن بهم أنهم اتبعوا المتشابه من القرآن قصدا في مخالفة القرآن وقصدا في الإضلال، وإنما حصل منهم الضلال لشيئين:
أولا: أنهم تركوا المحكم واتبعوا المتشابه.
ثانيا: أنهم لم يرجعوا في بيان المتشابه على الراسخين في العلم في زمانهم في زمن الصحابة رضي الله عنهم.
قال جل وعلا (وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) والتأويل هنا الذي ابتغوه أن ينزلوا المتشابه على ما أرادوا؛ يعني وابتغاء تفسيره، والذي يجب أنه إذا عرض المتشابه فإنه يُرجَعُ في تفسيره إلى المحكم ويرجع إلى تفسيره إلى أهل العلم، أما من عرض له المتشابه فدخل في تأويله بجهله وبهواه وبما عنده فلا شك أنه سيقع في الزيغ والضلال؛ لأنه ليس متأهلا لرد المتشابه إلى المحكم في كل مسألة أو إلى بيان معنى المتشابه.
والتأويل في القرآن أتى على معنيين:
المعنى الأول للتأويل: ما تؤول إليه حقيقة الشيء، ما تؤول إليه حقيقة الآيات، والآيات على قسمين: منها آيات أخبار ومنها آيات إنشاء، ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾[الأنعام:115]، صدقا في الأخبار، وعدلا في الإنشاء يعني في الأمر والنهي. فالأخبار تأويلها ما تؤول إليها حقيقتها، فإذا كانت الأخبار غيبيات عن الله جل وعلا، فتأويل الخبر حقيقته وكنهه الذي عليه الله جل وعلا، وتأويل الخبر الذي هو وصف مثلا للجنة تأويله ببيان حقيقة الجنة ما هي، هذا معنًى للتأويل، ومنه قوله جل وعلا في سورة الأعراف ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾[الأعراف:53]الآية؛ يعني هل ينظرون إلا ما تؤول إليه حقيقة الأخبار التي أخبر الله جل وعلا بها، (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) يعني ما تؤول إليه حقيقة الأخبار، رأوا الجنة ورأوا النار وحصل يوم البعث (يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ) إلى آخر الآيات، هذا هو النوع الأول من التأويل في القرآن.
الثاني: التأويل بمعنى التفسير: وهذا في قول الله جل وعلا ﴿وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ﴾[يوسف:44] ومنه أيضا في هذا قوله جل وعلا ﴿أَناَ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأَوِيلِهِ﴾[يوسف:45]، وأشباه ذلك، فالتأويل هنا بمعنى التفسير، تأويل الأحلام بمعنى تفسير الأحلام، فالتأويل بمعنى التفسير هذا في القرآن، وهذا هو الذي اعتمده ابن جرير الطبري في ما اعترى في تفسيره حيث يقول: قال أهل التأويل، وبنحو الذي قلنا في هذه الآية قال أهل التأويل ذكر من قال ذلك، قال أهل التأويل يعني قال أهل التفسير.
وهناك معنى ثالث للتأويل ليس في القرآن ولا في السنة وإنما هو اصطلاح حادث للأصوليين، وهذا ليس هو المراد هنا؛ لأن التأويل عندهم في مقابلة الظاهر، وهو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى معنًى آخر قريب، هذا معنى جديد اصطلاحي، وهو منقسم إلى ثلاثة أقسام كما هو معروف عند الأصوليين صحيح وضعيف وباطل.
هنا والمراد بـ(وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) في هذه الآية يحتمل المعنى الأول ويحتمل المعنى الثاني، (وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ)يعني ابتغاء معرفة ما تؤول إليه أخباره وأوامره ونواهيه، أو (وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) بمعنى ابتغاء تفسيره، فيصح الأول ويصح الثاني.
وهنا نقف عند قوله (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ)، (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) اختلف السلف على الوقف هنا، هل الوقف على قوله (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ)؟ أو الوقف على (الْعِلْمِ)؟ فيكون معطوف على ما قبله، (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) على قولين للسلف، وسبب الخلاف أنه هناك قولين، هنا ما المراد بالتأويل؟
فمن نظر إلى أن التأويل هو العلم بما تؤول إليه حقيقة أخباره؛ حقيقة صفات الله جل وعلا، حقيقة الجنة، حقيقة الإخبار عن النار، حقيقة الإخبار عن الملائكة، فهذا لاشك أمر غيبي لا يعلمه أحد، فمن نظر إلى هذا قال: الوقف على لفظ الجلالة. فقال (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ) يعني وما يعلم تأويل ما تؤول إليه حقائق أخباره إلا الله جل وعلا، وهذا المعنى صحيح فإن حقيقة الأخبار وما تؤول إليه ليس ثم أحد يعلمها إلا الله جل وعلا.
ومن نظر إلى أنَّ التأويل المراد به ما تؤول إليه حقيقة الأمر حقيقة النهي، قال: الأوامر تأويلها بامتثالها بفعلها بعملها على وجه أحكام الشريعة، والنواهي تأويلها بالاجتناب لها والبعد عنها على أحكام الشريعة، وهذا من التأويل في الإنشاءات يعلمه الراسخون في العلم من جهة العلم والعمل جميعا، في هذا قال بعضهم هنا: يقف على (الْعِلْمِ)؛ لأن الراسخين في العلم يعلمون التأويل على ما ذكرنا يعني ما تؤول إليه حقائق الإنشاءات، ما تؤول إليه حقيقة الأمر: امتثال الأمر على الوصف الشرعي، ما تؤول إليه حقيقة النهي: امتثال النهي على الأمر الشرعي يعني الأمر بالكف.
وقال آخرون الوقف على (الْعِلْمِ)، فالعلماء يعلمون كما قال ابن عباس: أنا ممن يعلمون تأويله. فيكون المعنى هنا في التأويل التفسير؛ لأن النبي ﷺ دعا لابن عباس فقال «اللهم علمه التأويل»، قال: أنا ممن يعلمون تأويله. فيكون هنا معنى (وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) يعني وابتغاء تفسيره فلا يعلم تفسيره الحق إلا الله جل جلاله وإلا الراسخون في العلم.......([34]) هو الصحيح.
فإذن نقول يحتمل أن يكون الوقف على لفظ الجلالة ويحتمل أن يكون على العلم، فمن وقف على لفظ الجلالة ورأى أن الراسخين في العلم لا يعلمون التأويل فهو إنما يعني من أهل السنة ومن الصحابة؛ لأنه مروي عن السلف نوعان من الوقف هنا:
فمن رأى أن الوقف على لفظ الجلالة رأى أن التأويل هو ما تؤول إليه حقائق الأخبار فقط.
ومن رأى أن الوقف على العلم قال التأويل هو ما تؤول إليه حقائق الإنشاءات مثل ما قال ابن عباس: ناسخه وحلاله وحرامه وأمره ونهيه، أو التأويل هنا بمعنى التفسير.
ومن قال إن المتشابه لا أحد يعلمه البتة إلا الله جل جلاله، فليس علم المتشابه إلى علم أحد من الخلق، فهذا غلط ولا يصح نسبته إلى أحد من أهل السنة، وهذا يعني أن المتشابه المطلق الذي لا يعلمه أحد هذا غير موجود في القرآن عند المحققين من أهل السنة والجماعة، فإن المتشابه الموجود في القرآن متشابه نسبي إضافي، فعندنا المتشابه هنا في هذه الآية قسمان: متشابه مطلق، ومتشابه نسبي.
فالمتشابه المطلق غير موجود البتة؛ بمعنى يشتبه معناه فلا يعلم له معنى أصلا.
والثاني المتشابه النسبي الإضافي نقول اشتبه عليّ، اشتبه على العالم الفلاني المعنى، اشتبه على الإمام الكلام في هذه المسألة، اشتبه عليه تأويل الآية وأشباه ذلك، فهذا ممكن، فيكون متشابها إضافيا.
لكن لا يوجد آية في القرآن معناها - ما نقول تأويلها يعني ما تؤول حقائق الأخبار فيها؟ لا- إنما معناها، هذا لا يوجد آية في القرآن يشتبه معناها على جميع الراسخين في العلم من هذه الأمة، هذا القول ليس من أقوال أهل السنة والجماعة وإنما هو من أقوال أهل البدع الذين ذهبوا مذهب التجهيل.
فإذن نقول الصحيح أن الراسخين في العلم يعلمون؛ لكن يعلمون المتشابه الذي يمكنهم علمه وهو ما كان في باب الإنشاءات أو كان باب التفسير تفسير المعنى، وهذا متعيِّن لأن الله جل وعلا قال ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾[آل عمران:7] لو كان الراسخون في العلم لا يعلمون البتة وإنما يقولون آمنا به كل من عند ربنا، فليس لهم فضيلة على ما سواهم في المتشابه.
فما فضيلة أهل العلم الراسخين فيه في المتشابه إذا كانوا كعوام المسلمين إنما يعلمون المحكم والمتشابه جميعه يقولون فيه آمنا به كل من عند ربنا؟ هذا فيه إبطال لمزية أهل العلم في العلم، والمحكمات قلنا إن معناها هي ما تضح معناه وبانت دلالته، والمتشابه ما خفي معناه ولم تتضح دلالته.
فإذن على قول من قال: إن الراسخين في العلم لا يعلمون. فهذا فيه إبطال لمزية أهل العلم كما حرره ابن عطية رحمه الله تعالى والخطَّابي وأجادا في ذلك؛ في هذا البيان، وهذا يعني أن الراسخ في العلم يعلم.
وإذا كان كذلك فهنا يشكل على كثيرين تركيب الآية (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ)كيف يكون التركيب على هذا الوجه؟ فنقول قال أئمة التفسير على هذا الوجه يكون التركيب ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ﴾[آل عمران:7] يعني حالتهم أنهم يقولن آمنا به، فيعلمون مع الإيمان به ويقولون كل من عند ربنا؛ لأجل أنه ليس في قلوبهم شك من ورود المتشابه، وأما ضعاف الإيمان وأما ضعاف العلم فقد يكون في قلوبهم شك من وجود المتشابه في القرآن، كما فعل صبيغ بن عسل المعروف في زمن عمر حيث كان ما ﴿وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا﴾[الذاريات:1]، ويشكك الناس بها، فإذا ضعف العلم ربما وقعت الشبهة في القلب من صحة القرآن، أما الراسخون في العلم فيعلمون ويقولون آمنا به كل من عند ربنا، فليس في قلوبهم شك ولا شبهة من ورود المتشابه في القرآن لأنهم يعلمون أن المتشابه في القرآن لأجل ابتلاء الناس.
هذا خلاصة معنى الآية ومعناها مهم في هذا الموضع.
قال (وقد صح هم رسول الله ﷺ أنه قال «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم») فإذن الواجب على الموحد، الواجب على المسلم، أنه إذا ضبط المحكمات في التوحيد بأنواعه وفي الشريعة فإنه إذا أتى من يتَّبِع ما تشابه منه فإنه يجب عليه أن يعمل شيئين:
الأول: الحذر كما أوصى النبي ﷺ بقوله (فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم) والحذر هذا يوجب المفاصلة في القلب بأن لا يصغي إلى حديثه ولا يجعل أحدا يلبِّس عليه دينه، هذا الأول.
والثاني: يجب عليه أن يقول آمنا به كل من عند ربنا، فيُرجع سبب الإشكال إلى جهله، وأما الآية في نفسها فواضحة يعلمها الراسخون في العلم.
ولهذا مثلا في باب التوحيد يأتيك من يحتج بالمتشابهات، مثلا وربما مجالها سيأتي؛ ولكن لإيضاح المقام يقول في قول الله جل وعلا ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا﴾[الكهف:82]، فهذا فيه دليل على تأثير الصلاح فيما بعد، أو يقول الشهداء أحياء وأنت لا تسأل ميتا إنما تسأل حيا بنص القرآن هم أحياء لقوله ﴿وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ﴾[البقرة:154]، ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا﴾[آل عمران:169]، ونحو ذلك.
فإذن هناك احتجاجات في توحيد العبادة بآي من القرآن، وفي توحيد الأسماء والصفات بآي من القرآن وهكذا، حتى إن أهل شرب الخمر والعياذ بالله وأهل الربا ونحو ذلك من الموبقات وجدوا لهم بعض المشتبهات فاحتجوا بها.
فالموحد المسلم يحرص تمام الحرص على أن يحذر ممن يوقع في قلبه الشبهة، ولهذا انتبه لقوله تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ)، فاحذر أشد الحذر من أن يوقع أحد في أذنك شبهة تبقى ولا تستطيع الرد عليها، ثم ينميها الشيطان حتى يوقع في القلب الزيغ.
ولهذا قال بعض السلف: لا تُصغي إلى ذي هوًى بأذنيك فإنك لا تدري ما يوحي إليك.
إذا كان الرجل غير محكم العلم قوي لا يجلس مع أهل الشبه، يحذر؛ لأن السلامة في الدين([35]) أعظم ما ينبغي الحرص عليه.
قال الشيخ رحمه الله هنا (مثال ذلك) الآن الجواب المجمل اتضح وأنه في كل مسالة تُرجعه إلى المحكم إذا أتى بشبهة فترجعه إلى المحكمات، وذكرت لك أنواع المحكمات في القرآن من الآيات، فإذا أتى أحد بشيء من المشتبهات فأنت ترجعه إلى نوع من الآيات المحكمات فتبطل شبهته، ولو شبه وشبه فتقول له: ما عندي من الاستدلال محكم بين لا يستطيع أحد أن يدفعه وما أتيت به شبهة، فأنا أومن أن الجميع من عند الله؛ ولكن لا أترك المحكم للمتشابه؛ لأن هذا طريقة أهل الزيغ. فتمسَّك بها فإن هذه من أعظم الفوائد والعوائد.
قال الشيخ رحمه الله بعد ذلك (مثال) مثال تطبيقي لما ذكرنا، الجواب المجمل عرفناه بالاستمساك بالمحكم في ورود المتشابه، إذا أتى استدلال متشابه ما عرفت الجواب عليه، أو جاوبت فأورد عليك شبهة ثانية تتمسك بالمحكم واترك الإصغاء للمتشابه.
قال (مثال ذلك إذا قال لك بعض المشركين ﴿أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[يونس:62]) استدل هنا المشرك بهذه الآية ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ(63)لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾[يونس:62-64] الآية دلت على أن الأولياء لهم منزلة عند الله جل وعلا لأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وأنهم الذين آمنوا وكانوا يتقون وأن لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، معنى ذلك أن الولي له المنزلة العظيمة عند الله جل وعلا.
ثم يستدل بأن الشفاعة حق، الشفاعة حق فيقول هنا: الولي له جاه وله حرمة وله منزلة عند الله جل وعلا، والشفاعة حق، والأنبياء لهم جاه أيضا والمنزلة العظمى عند الله جل جلاله، فكيف تجعل من سأل الأولياء من الأموات أو سأل بعض الأنبياء من الأموات ودعاهم يكون مشركا مع منزلتهم الرفيعة عند الله، والشفاعة حق والمنزلة لهم ثابتة؟ فهنا هذه شبهة يأتي جوابها تفصيليا؛ لكن إذا وقعت هذه الشبهة في القلب، أو وقعت على الأذن وعرضت على القلب، فكيف يكون الجواب؟ إذا لم تعرف الجواب التفصيلي -هذه شبهة عظيمة- فماذا تقول؟
تقول: ما عندي من العلم محكم، وهذه محتملة لأنه هو دخل فيها باستدلال؛ لأن الأولياء الله جل وعلا بيّن أن لهم فضل (لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)، أن الله أكرمهم واستدل بهذا الإكرام على أن لهم جاها عند الله جل وعلا، وهذا النوع صار متشابها؛ لأنه جعل الفضل الذي آتاه الله جل وعلا الأولياء أو الشهداء أو الأنبياء بعد مماتهم دالا على الجاه، وعلى أن هذا الجاه لا يُرَدّ إذا توسطوا به، فتلحظ أنه أدخل أشياء زائدة عن معنى الآية، فالآية فيها اشتباه في المعنى؛ لكن إذا فسّرها أهل العلم أوضحوا معنى ذلك.
فإذن هنا يأتينا رد ذلك تفصيليا؛ لكن هنا كيف ترد عليه فتقول ما عندي محكم وهو أنّ الله جل جلاله بين أن المشركين الذين كفرهم النبي ﷺ وقاتلهم إنما أرادوا الزلفى إنما أرادوا القربى، وهم ما توجهوا إلا للأولياء ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾[الزمر:3]، فأولئك تقربوا للأولياء لماذا؟ لأجل الزلفى فهذه محكمة واضحة المعنى، كذلك بيان أن المشركين كانوا يقرون بالربوبية وأنهم مشركون، وسبب شركهم -مع عبادتهم وطاعتهم بأشياء كما ذكرنا- سبب الشرك هو طلب الشفاعة، كما قال جل وعلا ﴿أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ وَلَوْ كَانُوا لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلاَ يَعْقِلُونَ(43)قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا﴾[الزمر:44]، فنفاها عنهم فهذا أصل.
كذلك النوع الثالث من الآيات المحكمات التي فيها بيان أن الله جل جلاله حكم على من ألَّهَ عيسى بالكفر ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾[المائدة:72].
إذن فهو يورد الشبهة وأنت تورد عليه المحكمات، المحكمات واضحة المعنى؛ لكن هذه الشبهة التي أوردها في هذه الآية تلحظ أن الاستدلال بها فيه مقدمات، فقال جل وعلا (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) فهو يأتي ويقول هذا معناه أنَّ لهم جاه عند الله، تلحظ أن هذا الاستنتاج هذا اتباع للمتشابه؛ لأن الآية تدل على أنهم مُكرَمون وليسوا أصحاب جهل؛ لأن الآية فيها ما أعطاهم الله جل وعلا من الفضل؛ لكن أنّ لهم جاها هذه لم تأت في الآية، فجعل من تبع المتشابه هناك تلازما بين المكانة والرفعة وبيّن أن يكون لهم جاها، ما معنى الجاه؟ الجاه معناه إذا توسط فلا يرد، فجعل هذه ملازمة لهذه وهذا لاشك أنه اتباع للمتشابه؛ لأنه ليست دلالة الآية على ذلك.
فإذن هذا مثال لحجة يُدلي بها المشرك فإذا أدلى بهذه الحجة فتدمغه بالمحكمات الكثيرة.
قال هنا (أو ذكر كلاما للنبي ﷺ يستدل به على شيء من باطله وأنت لا تفهم معنى الكلام الذي ذكره) يعني لا تفهم معناه الصحيح، لا تستطيع أن توضح له كلام المفسرين فيه كلام أهل العلم فيه إبطال ما أرد من الاستدلال، قال (فجاوبه) يعني أجبه (بقولك إن الله ذكر أن الذين في قلوبهم زيغ يتركون المحكم ويتبعون المتشابه، وما ذكرته لك من أن الله ذكر أن المشركين يقرون بالربوبية وأن كفرهم بتعلقهم على الملائكة والأنبياء والأولياء مع قولهم ﴿هَـؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ﴾[يونس:18]، هذا أمر محكم بين لا يقدر أحد أن يغير معناه) يعني ليس له معنيان لأن المشركين عبدوا غير الله للزلفى قال ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾[الزمر:3] هذا بين واضح لا يحتاج إلى مقدمات في الاستدلال، كذلك قولهم (هَـؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ) فهم طلبوا الشفاعة أيضا هذا أمر بين واضح.
قال الشيخ رحمه الله (هذا أمر محكم بين لا يقدر أحد أن يغير معناه، وما ذكرته لي أيها المشرك من القرآن أو من كلام النبي ﷺ لا أعرف معناه) هذا هو الذي يجب به الموحد إذا أدلى أحد بشبهة تقول: أنا لا أعرف المعنى. وهذا ليس بعيب، وأن تكون لا تعلم بعض الآيات؛ لأن العلم واسع فتقول: أنا لا أعرف معنى هذه الآية الصحيح؛ لكن أعلم أن المحكم هو كذا؛ لكن أقطع أن كلام الله لا يتناقض، لم؟ لأن القرآن كله من عند الله جل وعلا وهو محكم وكله حق والحق لا يناقض حقا بل يؤيده ويدلّ عليه.
قال (وأن كلام النبي ﷺ لا يخالف كلام الله عز وجل) لأن الرسول عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ إذا ثبتت سنته وصارت مقبولة محتجا بها فإنها مبينة للقرآن ودالة عليه، كما قال جل وعلا ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾[النحل:44]، فأنزلت السنة وكان جبريل يأتي النبي ﷺ بالسنة كما يأتيه بالقرآن لبيان معنى الذكر، تارة يكون بيانا لفظيا وتارة بيانا عمليا، فكلام النبي ﷺ لا يخالف ما جاء في القرآن؛ لكن التوفيق بين هذا وهذا تقول: أنا أجهله. تقول: كلام النبي ﷺ هو بيّن لا يخالف كلام الله جل وعلا، وكلام الله جل وعلا لا يناقض كلامه جل وعلا؛ ولكن التوفيق بين هذه الآية وهذه الآية رد هذا المتشابه إلى المحكم حتى يتضح المعنى هذا لا أعلمه أنا، وإنما يعلمه الراسخون في العلم؛ لكن ما عندي من العلم بالتوحيد هذا بين محكم لا يستطيع أحدٌ أن يرده أو يشكك في دلالته.
قال رحمه بعد ذلك في نهاية هذا الجواب المجمل (وهذا جواب جيد سديد ولكن لا يفهمه إلا من وفقه الله تعالى) تحتاج إلى توفيق بالتخلّص؛ هنا التوفيق يأتي بتخلص العبد من هواه وتخلّص العبد من رؤيته لعقله ونفسه.
بعض الناس يأتي للمتشابه ويخوض فيه؛ لأن عقله جيد، يقول أنا عقلي ليش ما أحاول أفهمها؟ ليش؟ ما أفهم؟ أنا أفهم، فيدخل في المتشابه يغوص ويغوص فيُخرج منه أشياء يضل بها، كما قال جل وعلا ﴿فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾[آل عمران:7]؛ يعني ابتغاء تفسيره، فيخوض في المتشابه المشكل المعنى رغبة وطلبا للتفسير فيضل في التفسير فيعتقد أن تفسيره صواب وأن فهمه للآي صواب وفهمه للسنة صواب، فيكون ممن اتبع المتشابه وترك المحكم، والواجب عليه ألا يخوض في ذلك وأن يرد معناه إلى أهل العلم الراسخين فيه.
قال (وهذا جواب جيد سديد ولكن لا يفهمه إلا من وفقه الله تعالى) وإذا أردت الخير في هذا الباب فإياك ثم إياك من تعظيم عقلك وأن تقول قد حصلت من العلم كذا وكذا، فتخوض في أشياء وتطعن بفهمك على فهم أهل العلم.
فإذا خالفت في فهمك فهم الراسخين في العلم فاعلم أنك لو استرسلت في فهمك فإن هذا من اتباع المتشابه؛ لأننا نقطع بأن الراسخين في العلم يعلمون المعنى، ولا يمكن أن يكون المعنى مفقودا من الراسخين في العلم وأنْ يؤتاه من ليس براسخ في العلم؛ لأن الله جل وعلا قال ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾[آل عمران:7].
قال(ولكن لا يفهمه إلا من وفقه الله تعالى فلا تستهن به فإنه كما قال جل وعلا ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ الَّذِينَ صَبَرُوا﴾[فصلت:35])، يحتاج إلى صبر؛ لأن النفس تُنازع -خاصة طالب العلم أو الذي قرأ عنده قراءات وثقافات وأشباه ذلك- تنازعه نفسه في حل كل إشكال، تنازعه نفسه في الدخول في الاستدلال كل متشابه، ولهذا تجد بعض طلبة العلم الآن أو بعض المنتسبين للعلم والقراء تجد أنهم يوردون إشكالات كثيرة، فالعالم يردّ عليهم بالمحكمات ولا يضطرب لورود المتشابه؛ لكن من ليس براسخ في العلم إذا ورد المتشابه عنده فإنه يضطرب،لم؟ يضطرب لأنه لا يعرف عظمة المحكمات وكثرتها ووضوح معناها، فإن المحكمات في الأدلة والمحكمات في العقيدة والمحكمات في الأحكام هذه واضحة عند أهل العلم بينة ما يمكن أننا نضطرب معها، فقد يرد إشكال فنقول والله هذا مشكل نبحث عن جوابه ماذا قال أهل العلم في جوابه؛ لكن من لم يكون صابرا على الاكتفاء بالمحكمات فإنه سيدخل في المتشابهات متعجلا وسيضل من حيث ظن أنه سيبحث أو سيحل الإشكال، ولهذا هنا لابد في المتشابه من الصبر (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ الَّذِينَ صَبَرُوا) مثل ما قال الشيخ رحمه الله وأجزل له المثوبة، تحتاج إلى صبر، كثيرين ما صبروا جاءتهم الشبه فاتبعوها ما صبروا، دخلوا فيها بأهوائهم وآرائهم وما صبروا، ولو صبر زمنا طويلا وتمسك بالمحكمات كان قد أدى الذي عليه.
قال (﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾[فصلت:35]) ولا شك أنّ الذي يستمسك بالمحكم في رد المتشابه فإنه قد أدّى الذي عليه وامتثل قول الله جل وعلا وخَلَصَ من الابتلاء والفتنة بالمتشابه، ويكون حاله -إذن- أنه ذو حظ عظيم؛ لأنه سلِم من الابتلاء بذلك وسلِم من الفتنة فنجح حيث لم يتبع المتشابه ورد المتشابه إلا المحكم.
ولا شك أن هذه كلمة ينبغي لك أن ترددها في مسائل العلم جميعا، وخاصة المسائل التي يكون هناك فيها إلقاء للشبه في أمر توحيد العبادة وكذلك في أمور العقيدة بشكل عام:
فـلا تجهـل لها قـدْرا وخـذها | شـكورًا للـذي يحـيي الأناما |
ونختم بهذا ونسأل الله جل وعلا أن ينور قلوبنا بالعلم الصالح النافع، وأن يجعلنا ممن يحذر من المتشابهات ويفقه المحكمات، ويستعين بالله جل وعلا وبأمره كله.
اللهم لا حول لنا ولا قوة إلا بك فأنر قلوبنا بالإيمان، واجعلنا من الصابرين، نعوذ بك أن نَضل أو نُضل أو نجهل أو يجهل علينا أو نزل أو نزل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
¹
[الجواب المفصّل]
[المتن]
وأما الجواب المفصّل: فإن أعداء الله لهم اعتراضات كثيرة على دين الرسل، يصدّون بها الناس عنه: منها قولهم: نحن لا نشرك بالله، بل نشهد أنه لا يخلق ولا يرزق ولا ينفع ولا يضر إلا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمدًا ﷺ لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، فضلاً عن عبد القادر أو غيره، ولكن أنا مذنب، والصالحون لهم جاه عند الله وأطلب من الله بهم.
فجاوبه بما تقدم؛ وهو أنّ الذين قاتلهم رسول الله ﷺ مقرّون بما ذكرتَ، ومقرّون أنَّ أوثانهم لا تدبّر شيئًا وإنما أرادوا الجاه والشّفاعة، واقرأ عليهم ما ذكر الله في كتابه ووضَّحه.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أسأل الله لي ولكم العلم النافع والعمل الصالح والقلب الخاشع، ربنا اجعل ما علمتنا حجة لنا، نعوذ بك أن نضل أو نُضل أو نزل أو نُزل أن نجهل أو يُجهل علينا.
لما ذكر إمام الدعوة رحمه الله تعالى ورفع درجته أنّ جواب أهل الباطل من طريقين مجمل ومفصل: ذكر المجمل، ثم ذكر المفصل.
ومن المعلوم في فن التأليف أن التقاسيم إذا وردت فإنه يناسب أن يقدَّم ما كان الكلام عليه مختصرا، وما كان الكلام عليه مطولا فإنه يؤخر، ولهذا الشيخ رحمه الله قدَّم المجمل على المفصل لاعتبارات:
منها أن الكلام على المجمل قليل والكلام على المفصل كثير، ولو أخر الكلام القليل لذهب الذهن في المفصل ونسي أنه سيأتي المجمل.
ومن فوائد تقديم المجمل على المفصل أن المجمل يفهمه كل أحد، يحتاجه كل موحِّد، وسهل الفهم إذا علم عقيدة التوحيد وفهم بعض أدلتها فإنه يمكنه أن يجعل ذلك محكَما، فإذا أتى من يشبِّه عليه دينه ومن يجعله يتردد في بعض هذه أو يشككه أو يورد عليه الشبه فإنه يحتجّ عليه بالمحكَم فلا يجد ذلك صعبا، وأما المفصَّل فيحتاج إلى علم، يحتاج إلى مقدمات تارة لغوية وتارة أصولية وتارة من واقع حال العرب.
وقال رحمه الله تعالى ابتداء بالمفصل بعد المجمل؛ ابتداء برد شبهة وهي شبهة تحتاج إلى تأمل؛ لأنَّ أكثر الذين يكون عندهم نوع قرب أو قبول للتوحيد ربما تروج عليهم هذه أكثر من غيرها.
فقال (وأما الجواب المفصَّل فإن أعداء الله لهم اعتراضات كبيرة على دين الرسل يصدُّون بها الناس عنه)، هذه الكلمة (وأما الجواب المفصل) ليست موجودة في كثير من النسخ المطبوعة، ولم أرَ النسخ الخطية حتى نتثبت هل هي موجودة أم لا؟
وعلى العموم فإن الشبهة على الجواب المفصل الشبهة التي سيجيب عليها في المفصل هي قوله (نحن لا نشرك بالله) إلى آخره، فقوله إذن (وأما الجواب المفصل فإن أعداء الله لهم اعتراضات كبيرة على دين الرسل يصدون بها الناس عنه) هو إيراد لهذه الاعتراضات الكبيرة على التفصيل، ويلزم من إيراد الاعتراضات إيراد الأجوبة فقوله (فإن أعداء الله لهم اعتراضات) هذا لأجل أنه سيورد بعد الاعتراضات الأجوبة، هذا من ناحية الأسلوب ومن ناحية التأليف؛ لكن المعنى ظاهر.
قال (منها قولهم تحت لا نشرك بالله بل نشهد أنه لا يخلق ولا يرزق ولا ينفع ولا يضر إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا ﷺ لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فضلا عن عبد القدر أو غيره؛ ولكن أنا مذنب والصالحون لهم جاه عند الله وأطلب من الله بهم)، قال (فجاوبه بما تقدم وهو أن الذين قاتلهم رسول الله ﷺ مقِرُّون بما ذكرت ومقرون بأن أوثانهم لا تدبر شيئا، وإنما أرادوا الجاه والشفاعة واقرأ عليه ما قال الله في كتابه ووضحه) هذه الشبهة يمكن تقسيمها إلى أقسام:
الجملة الأولى: قولهم (نحن لا نشرك بالله)، وهذا القول منهم (نحن لا نشرك بالله) يريدون به الإشراك بالله في الربوبية، ولهذا قالوا بعده (بل نشهد أنه لا يخلق ولا يرزق) إلى آخره، وقولهم (نحن لا نشرك بالله) راجع إلى أن الشرك له حقيقة شرعية جاءت في النصوص؛ ولكن حُرِّفت هذه الحقيقة وصُرفت عن وجهها.
ففي النصوص الإشراك والشرك هو اتخاذ الند مع الله جل وعلا في المحبة والعبادة الإشراك أو الشرك هو أن يجعل لله شريك إما في ربوبيته أو في ألوهيته أو في أسمائه وصفاته يعني أن يعتقد أن له مماثلا في اتصافه وفي أسمائه، هذا معنى الشرك.
ولهذا الشرك في النصوص تارة يتوجه إلى الشرك في الإلهية، وتارة يتوجه إلى الشرك في الربوبية.
أما الشرك في الربوبية فكقوله جل وعلا في سورة سبإ مثلا ﴿وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ﴾[سبإ:22]، يعني من شركٍ في التدبير والتصريف.
وتارة يكون نفي الشرك أو النهي عنه لأجل الألوهية كقوله جل وعلا في آخر سورة الكهف ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾[الكهف:110]، هذا شرك في الألوهية في العبادة والآيات أيضا في هذا كثيرة.
والشرك الثالث في الأسماء والصفات كقوله جل وعلا ﴿وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا﴾[الكهف:26]، وكقوله ﴿فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ﴾[النحل:74]، وكقوله ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾[الشورى:11]، وكقوله ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾[الإخلاص:4].
هذا هو الذي يعلمه أهل العلم بما دلّت عليه بالتنصيص الآيات فكان ذلك معلوما عند العرب تفهمه بلغتها.
لما أتى اليونان إلى بلاد المسلمين بكتبهم؛ يعني استقدم بعض المسلمين كتب اليونان في قصة معلومة، ولا بأس أن نذكرها، وهي أن أحد ولاة العباسيين أرسل وفدا إلى ملك الروم، وطلب منه أنْ يُرسل إليه بكُتب الأوائل التي عنده، كتب الأوائل المقصود بها كتب الروم واليونان وكتب من يسمونهم الحكماء والفلاسفة، فعرضوا هذا على الملك الوافدون من عند الوالي المسلم من ولاة العباسيين، فقال: أمهلوني، فاستشار علماء النصرانية وعلماء بلده، فقالوا له وكانت موجودة في بيت للكتب قالوا: هذه هي زينة مملكتنا فكيف تعطيهم إياها، فأجبه بالنفي، فإن هذه لا يجوز أن تُخرج من بلدنا. وسكت واحد منهم فقال له: مالك سكت؟ وكان من حكمائهم وحذاق علماء نحلتهم وملتهم، فقال: يا عظيم قومنا أرى أن ترسل بالكتب إليهم ولا تمنعهم منها. فقال له ولم؟ قال لأن هذه الكتب ما دخلت إلى أمة إلا أفسدت عليها دينها. ووافقه عليه البقية، فحصل أنها أرسلت الكتب -كتب اليونان- وتُرجمت إلى آخر ذلك، اليونان فلاسفة، أرسلت كتب أرسطو وأفلاطون، هذه الفلسفة غايتها توحيد الربوبية، غايتها أن ينظر في الملكوت ينظر في الوجود فيُثبت أن هذا الكون له صانع؛ لأن هذا غاية الحكمة؛ يُثبت أن هذا الكون معلول عن علة، وهذه العلة عاقبة فيسمونها علة العلل أو العقل الأول في كلام فلسفي؛ يعني له تفاصيل.
فدخل هذا على المسلمين، فلما دخل رأى من قرأ تلك الكتب بعد ترجمتها أن هذه هي كتب الحكمة وكتب الحكماء وكتب الفلسفة؛ يعني طلب الحكمة، قالوا: إن هذه هي الغاية، فكيف نوجد وسيلة للجمع ما بين الشريعة ما بين الإسلام -القرآن- وما بين هذه الكتب وفلسفة اليونان؟ فأخرجوا ما يسمى بعلم الكلام؛ وهو خليط من الشريعة -من النصوص- وما بين عقل الفلاسفة، وهذا الخليط جُعلت فيه الشريعة والعقل هذا يقارِن هذا، وهذه تقارن ذاك، يعني ما قدموا الشريعة على العقل ولا العقل على الشريعة، فنظروا في هذا ونظروا في هذا؛ لكن ينظرون في الشريعة بالعقل وينظرون في العقلانيات بالشريعة، هنا نظروا إلى أن غاية الغايات هو النظر في الملكوت، فلهذا أجمع المتكلمون على أنَّ أول مهمة، على أن أول واجب على العبد أن ينظر في الملكوت ويُثبت وجود الله جل وعلا.
هذا الأصل صار مستغرقا عندهم لا مَحيد عنه، وخاصة بعد مرور عقيدة جهم أن الغاية عنده إثبات وجود الله أيضا في مناظرته مع طائفة السُّمنية كما ذكرت لكم فيما سبق.
هذا الخليط الذي نتج صار هو الغاية عند كثير من الناس، فبالتالي نظروا في تفسير كلمة التوحيد، الشريعة فيها لا إله إلا الله هذه أصل التوحيد، وكلام الحكماء -كما يقولون- فيه أن الغاية هو إثبات وجود الله والنظر في علة العلل، والنظر في الملكوت حتى يطلب الحكمة فيما وراء الطبيعة. قالوا: إذن معنى هذا لأن ذاك عقل صحيح وهذه الشريعة صحيحة معناه أن يفسَّر بالعلة؛ علة العلل؛ لأن أول واجب في الشريعة لا إله إلا الله، أول واجب في الفلسفة أن ينظر في الملكوت فيُثبت أن لهذا الملكوت أو لهذا الكون علة نتج عنها.
فخلطوا ما بين هذا وهذا، فقالوا: إذن ولا يمكن للعقل أن يكون مخطئا -عندهم نتاج الفلاسفة عقل قطعي-، ولا يمكن أن تكون الشريعة أيضا فاسدة، فهذا صحيح وهذا صحيح، فقالوا: إذن نفسر الإله بأنه الخالق؛ بأنه القادر على الاختراع. قالوا: إله هنا، نظروا قالوا: لكن إله في اللغة ليس معناها الخالق. فتأملوا في ما جاء في كتب اللغة فوجدوا أن هناك من قال: إله هذا بمعنى آلِهْ إذا جعله غيره متحيِّرا، فَأَلَه الرجل تحيَّر وتردد، وهذه مادة ربما تكون موجودة في بعض استعمالات العرب، أَلَهَ الرجل يعني تحير وتردد، فقالوا: إذن (لا إله إلا الله) إذا كان معنى الإله هو الخالق القادر على الاختراع فهو الذي فيه تتحير الأفهام؛ لأن قصدهم هنا أن ينظر، وهم إذا نظروا وتأملوا تحيرت الأفهام حتى يثبت الوجود، فقالوا: هنا التقت اللغة مع الشريعة مع العقل. وهذا قرروه في كتبهم، فحصل منه أنّ معنى لا إله إلا الله عندهم يعني لا قادر على الاختراع إلا الله، لا خالق إلا الله.
وإذا كان كذلك فيكون الشرك الذي يخرج من كلمة التوحيد هو أن يقول: ثَم قادر على الاختراع، ثَم رازق، ثَم من تحيرت الأفهام في حقيقته غير الله جل وعلا، فمتى يكون مشركا عندهم؟ إذا لم يثبت لا إله إلا الله، ومتى لا يثبت لا إله إلا الله؟ إذا قال إنه ثم خالق غير الله جل وعلا.
هذا الخليط من العقل واللغة الضعيفة التي نقلوها أو القليلة والشرع فيما نظروا فيه -يعني في بعض النصوص- أنتج لهم: أن الشرك هو الشرك في الربوبية؛ يعني اعتقاد أن ثم خالقا مع الله جل جلاله، ودُوِّنَ هذا في كتب المتكلمين الأوائل ونقله عنهم الأشاعرة، وأثبتوا ذلك في كتبهم، ولهذا الأشاعرة يقولون والماتريدية: أول واجب عند العبد النظر، وبعضهم يقول: الشك، وبعضهم يقول: القصد إلى النظر فهذا أول واجب.
والإله من هو؟ الإله:
منهم من يقول: الإله هو القادر على الاختراع.
ومنهم من يقول: الإله هو المستغني عما سواه المفتقر إليه كل ما عداه.
ومنهم من يقول: الإله بمعنى آلِه وهو المحيِّر، فلا يوصل إلى حقيقته وهو الله جل وعلا.
فنتج من هذا -وهو موجود في كتب المتكلمين وكتب الأشاعرة والماتريدية إلى يومنا هذا- نتج من هذا انحراف خطير في الأمة، وهو أن الإله ليس هو المعبود، وأن لا إله إلا الله معناها لا قادر على الاختراع إلا الله، لا مستغنيا عمل سواه ولا مفتقرا إليه كل ما عداه إلا الله، لا متحيِّرا في حقيقته إلا الله، فنتج من ذلك إخراج العبودية عن أن تكون في كلمة التوحيد، ونتج من ذلك الانحراف الخطير أن لا إله إلا الله ليست نفيا لاستحقاق أحدا العبادة مع الله جل جلاله.
فنتج وهي النتيجة قدم لها الشيخ هنا أن طوائف كثيرة من المؤمنين يعني من المسلمين فَشَا فيهم كلام الأشاعرة هذا وكلام المتكلمين وكلام المبتدعة هذا في معنى كلمة التوحيد، فيكون معنى الشرك عندهم راجع إلى واحد مما دلت عليه النصوص وهو الإشراك بالربوبية الذي جاء مثلا في سورة سبإ وفي غيرها.
أما الإشراك في العبادة ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾[الكهف:110]، فهذا عندهم لا يَنْقُضُ كلمة التوحيد طيب نظروا بعد ذلك فيما فعلته العرب -ستأتي في الشبهة التي تليها- فيما فعلته العرب بما أشركت العرب؟ قالوا أشركت بعبادتها الأصنام وفي أنها ما وحَّدت الله في ربوبيته ولم تقل لا إله إلا الله؛ بل قالت إن الأصنام لها نصيب من الإلهية؛ يعني لها نصيب من الربوبية؛ ولهذا من أعظم ما راج على كثير من المفسِّرين من المتقدمين والمتأخرين، وراج على كثير من علماء الأمصار أن الألوهية تفسر بالربوبية، وأن لا إله إلا الله تفسر بمقتضيات الربوبية هذا نتيجة إلى هذا الانحراف، لهذا هذا المشرك الذي قال في شبهته -قد يكون عالما وقد يكون غير عالم- يقول (نحن لا نشرك بالله) هو قال هذه بحسب اعتقاده، هو لا يشرك بالله بحسب اعتقاده أن الشرك إنما هو الشرك في الربوبية وليس في الإلهية، وهذا نتيجة لما ذكرت لكم.
فإذن هذه الكلمة (لا نشرك بالله) ردُّك عليها كشف هذه الشبهة كما ذكر الشيخ رحمه الله في آخر الكلام وبما أوضحت لك في أنه:
أولا: تُوضِحُ موارد الشرك في القرآن، ما الذي نُفي من الإشراك بالله، نفيت الثلاثة التي ذكرت لك وكل واحدة عليها أدلة، حبذا تجمع هذه الأدلة في كل موضع يعني في كل نوع وتحفظ ذلك، هذا نوع.
الثاني: معنى الإشراك في النصوص.
الثالث: أن تبين أن الانحراف وقع، فصُرِف معنى الإشراك عن معناه في النصوص إلى المعنى الباطل ونتج عنه أن كلمة التوحيد فهمت أيضا غلطا، وفهم منها أنها نفي لربوبية غير الله جل وعلا، وهذا باطل.
فإذن قولهم (نحن لا نشرك بالله) هذه جملة يمكن أن تردَّها تفصيلا، وهذه الشبهة التي أوردوها لها رد بما أورده الشيخ رحمه الله.
الشيخ ما أجاب عن كل جُملة جملة؛ لكن أجاب عن النتيجة التي وصلوا إليها بهذه المقدمات الباطلة، قالوا (نحن لا نشرك بالله) لِمَ لا تشركون بالله؟ قالوا (لأننا نشهد أنه لا يخلق ولا يرزق ولا ينفع ولا يضر إلا الله وحده لا شريك له) يعني لا يخلق ولا يرزق استقلالا ولا ينفع ولا يضر استقلالا إلا الله وحده لا شريك له، (وأن محمدا ﷺ لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا) كما جاء في النصوص يقولون نحن نقول ذلك؛ فهو عليه الصلاة والسلام لا يملك نفعا ولا ضرا، استقلالا لا يمكن أن يعطينا شيء؛ ولكن هو عليه الصلاة والسلام يمكن أن يعطينا عن طريق الوساطة، عن طريق التقريب، عن طريق التزلف؛ يعني أن يقربنا زلفا.
وهذه الشبهة أوّل من أوردها فيما أعلم في كتابه إخوان الصفا في كتابهم ورسائلهم المشهورة رسائل إخوان الصفا الرسائل الخمسين المعروفة، فإنهم قرروا أن التوحيد هو الربوبية وأن هؤلاء الأموات من الأنبياء والصالحين أنهم لا يملكون نفعا ولا ضرا كما قال هنا هذا الذي أورد الشبهة ولكن تتوسط بهم، لِمَ تتوسط بهم؟ عللوا بأن أرواحهم عند الله؛ لأن الله قال عن أرواح الشهداء ﴿أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾[آل عمران:169]، والعندية معناها أنهم لهم القربى عند الله، فلهم الجاه ولهم الزلفى عند الله جل وعلا، فإذا سألتهم إذا دعوتهم فإنما تتوسط بهم لا تسألهم استقلالا، فيقول هؤلاء نحن لا نعتقد أن هذا ينفع ويضر بنفسه ينفع ويضر استقلالا ويخلق استقلالا يرزق استقلالا، حاشا وكلا، ولكن يمكن أن يخلق الله بواسطته، الولد في رحم الأم إذا سألناه أن يرزق الله بواسطة شفاعته؛ لأنه مقرب عند الله جل جلاله([36]) ..... هذا التقريب عند الله جل جلاله وَصَفوه بقولهم (ولكن أنا مذنب والصالحون لهم جاه عند الله) فقدموا هاتين المقدمتين، يقول (أنا مذنب) والمذنب لا يمكن أن يكون وليا لله أو مقربا عند الله، فعلى اعتقاده أنه لا يمكن أن يصل إلى الله مباشرة، وأولئك قالوا (والصالحون لهم جاه عند الله) هذا الجاه ماذا يفعل قالوا هذا الجاه بمعنى أنه لو سأل لم يَرُد، وإن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرَّه، فأتى من هذه الشبهة ورد التوحيد باعتبار أن هذا الصالح الذي عند الله جل وعلا مقرب وهذا الصالح الذي عند الله له الزلفى والمقام الأعظم بحيث إنه لو سأل لم يُرد، تكملة الشبهة قالوا (وأطلب من الله بهم ) أطلب من الله لا منهم؛ يعني أني لا أسألهم؛ ولكن أطلب من الله بهم، كلمة (بهم) هما ليس معناه التوسل بهم يعني بجاههم؛ يقول أسأل الله بالنبي أسأل الله بالولي أسأل الله بأبي بكر وعمر؛ لأن سؤال الله بالصالحين هذا بدعة ووسيلة إلى الشرك وليس شركا أكبر؛ ولكن القصد من قولهم (وأطلب من الله بهم) يعني أطلب من الله بوساطتهم وبشفاعتهم وبتقريبهم إياي عند الله زلفى.
فإذن كلمة (بهم) لا يقصد بها التوسل بالجاه؛ لأن هذه بدعة وليس شركا وإنما يقصدون بها الشفاعة والتقريب زلفى.
قال (فجابه بما تقدم) هذه الشبهة تلحظ شكلها مركبة، لاشك أنها شبهة وهي التي تروج عند الجميع، كيف واحد يؤمن بالله ويقول إن الله واحد في ربوبيته لا ينفع إلا هو، لا يخلق إلا هو، ولا يرزق إلا هو، إلى آخر ذلك، ويقول أنا مذنب؛ ولكن أتوسل يعني أتقرب إلى الله بالصالحين بشفاعتهم، أسألهم أن يدعو الله لي، أتقرّب إليهم بالدعاء حتى يشفع لي عند الله جل وعلا، هذا لا يجعلني مشركا، معناه -على حد قولهم- هو لا يشرك بالله وهذا ليس شركا بالله، فما الجواب؟
قال (فجاوبه بما تقدم وهو أن الذين قاتلهم رسول الله ﷺ مُقِرُّون بما ذكرت).
هذا الآن الدرجة الأولى من الجواب، تقول الآن له: نحن معك فيما ذكرت؛ لكن ننظر إلى حال المشركين الذين قاتلهم النبي ﷺ وحكم عليهم بالكفر والشرك، ما حالهم؟ ننظر إلى القرآن ماذا فيه؟
القرآن فيه أنهم مقرون بأن الله هو الخالق وحده وهو الرازق وحده وهو الذي ينفع وحده وهو الذي يضر وحده، إذا قال: ما الدليل على هذا؟ هل المشرك كان يعتقد هذا؟ نقول: نعم مشركوا العرب كانوا يعتقدون ذلك كما قال الله جل وعلا ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُِم لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾[الزخرف:87]، ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾[الزمر:38]، وفي الآية الأخرى ﴿لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ﴾[الزخرف:9] وقال جل وعلا ﴿ قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(84)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾[المؤمنون:84-85]، وفي آية سورة يونس ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ﴾[يونس:31]، إذن في آيات كثيرة هذا الاعتقاد الذي وصفت أنك لست مشركا باعتقاده، نقول هذا وصف الله جل وعلا به مشركي العرب مشركي أهل الجاهلية، هذه الدرجة الأولى من جواب هذه الشبهة.
الدرجة الثانية (ومقرون بأن أوثانهم لا تدبر شيئا)، الأوثان جمع وثن وهو المتجَه إليه بالعبادة، وفي غالبه لا يكون على هيئة صورة، والأصنام ما كان على هيئة صورة، وقد يقال للأصنام أوثانا باعتبار أنها معبودة من دون الله جل وعلا كما قال جل وعلا في صورة العنكبوت في قصة إبراهيم ﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا﴾[العنكبوت:17]، وفي الآيات الأخرى في قصة إبراهيم قال ﴿مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ التِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ﴾[الأنبياء:52]، فإذن هي أصنام وأوثان، فالأوثان ما لم يكن على هيئة صورة، فإذن نذهب إلى شرك المشركين ونقول له: المشركون مقرون بأن أوثانهم لا تدبر شيئا. إذن المشرك مقر بأن الوثن ليس له نصيب في التدبير، فإذن ما رفضه من كلمة لا إله إلا الله وصار به مشركا ليس من جهة اعتقاده أن ثَم مدبرا غير الله جل جلاله؛ لأن الله جل وعلا قال ﴿وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ﴾[يونس:31] هذه المقدمة الثانية.
المقدمة الأولى: اعتقاد المشركين في الربوبية في الله جل وعلا أنه هو المتفرد بالأمر، كما قال ذلك عن نفسه؛ يعني كما قال المشرك عن نفسه أنه يشهد هذه الشهادة.
الخطوة الثانية: اعتقاد أولئك في الأوثان بم؟ قال اعتقد في الأوثان العربُ أنها لا تدبر شيئا.
إذا استدللت على هذه بالآيات وبحال العرب يأتي النتيجة وهي وإنما أرادوا الجاه والشفاعة، لماذا أرادوا الجاه والشفاعة فقط؟ لأن الله جل وعلا قال ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾[الزمر:3] ومن المتقرر في اللغة أن كلمة (مَا) وبعدها (إلا)، (ما) النافية التي تأتي بعدها (إلا) هذه تفيد الحصر فكأنه قال عن قولهم: لا نعبدهم لشيء ولا لعلة من العلل، لا لأنهم يملكون الرزق ولا يملكون الموت والحياة، ولا لأنهم يدبرون الأمر، ولا نعبدهم إلا لشيء واحد: وهو أن يقربونا إلى الله زلفى.
فإذن ينتج من ذلك أنّ المشركين كان شركهم باعتقاد أن هذه الأوثان تقرِّب إلى الله زلفى، باعتقاد أن هذه الأوثان لأجل أن لها منزلة عند الله وأن لها جاه عند الله فهي تقرّب، ما هذه الأوثان التي عُبِدت؟ الملائكة، أليس كذلك؟ ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ(40)قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ﴾[سبإ:40-41]، وقال جل وعلا في الأولياء ﴿أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ﴾[الشورى:9]، وقال جل وعلا في قصة عيسى عليه السلام ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾[المائدة:116]، وقال للنبي عليه الصلاة والسلام ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾[ الجن: 18 ].
فإذن نُوِّعت المعبودات المنفية ولما نزل قول الله جل وعلا ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ(98)لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا﴾[الأنبياء:98-99] فرح المشركون قالوا: إذن سنكون مع الصالحين، سنكون مع اللات، وسنكون مع عيسى، وسنكون مع عزير، وسنكون مع كذا وكذا، مع من عبدنا. فأنزل الله جل وعلا قوله ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ(101)لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ﴾[الأنبياء:101-102]الآيات.
إذن ترتَّب على ما ذكرنا أن ما قاله صاحب الشبهة هي دعوى، لا تجابهه بأن تقول هذه دعوى بل أنت مشرك، لا، تقول له: نأخذها واحدة واحدة، أنت الآن تقول أنا لا أشرك بالله وأنك تشهد كذا وكذا، فنقول ننظر إلى حال المشركين في الآيات.
فإذا تأملت حال المشركين وقصصت عليه وتلوت عليه الآيات وأفهمته إياها كيف كانت حالة المشركين وأنهم مُقِرُّون بما أقر هذا به.
فإذن تنقله إلى الخطوة الثانية: وهي أن المشركين كانوا لا يعتقدون في أوثانهم أنها تدبر شيئا
ننقله بعد ذلك الخطوة الثالثة فيما قدمت لك سالفا في معنى الشرك، ما معنى الشرك، ومعنى كلمة لا إله إلا الله، ثم تنقله إلى أن أولئك لم يرضوا بلا إله إلا الله لأنهم إنما أرادوا الزلفى بنص الآية، وأرادوا الشفاعة بنص آية الزمر أيضا ﴿أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ وَلَوْ كَانُوا لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلاَ يَعْقِلُونَ(43)قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا﴾[الزمر:44]، فهي له وحده دون ما سواه؛ يعني مِلكا، هو الذي يخبرك عن حكمها جل وعلا لا تبتدئ أنت بتصريف أمرك في الشفاعة كما تريد؟ لا، هي لله جل وعلا سبحانه استحقاقا، وله جل وعلا مُلكا وأمرا ونهيا.
قال(واقرأ عليه ما ذكر الله في كتابه ووضحه).
بهذا يتبين لك أن هذه الشبهة وهي من الشبه التي قد تواجهها، كثير من الناس تروج عليه؛ يقول كيف أنا مؤمن أنا كذا وكذا، يعني على شان ذهبت إلى رجل من الصالحين والأولياء عند قبره وقلت له: اشفع لي فأن لك جاه عند الله ومقاما عند الله، فاسأل الله لي أن يرزقني ولدا، واسأل الله لي أن يعطيني وظيفة، واسأل الله لي أن ييسر أمري، أكون مشركا كأبي جهل وكذا. هذه تروج على كثير من جهة العاطفة ومن جهة التقريب، إنما أنا أصلي وأنا أزكي وأنا كذا، وأعتقد أن الله هو الخالق الرازق، أنا لا أشرك بالله جل وعلا، فينفي شيئا هو في حقيقته واقع فيه، ولهذا قال الصنعاني في رسالته تطهير الاعتقاد([37])، هذا الصنعاني وكذا الشوكاني في رسالته توحيد العبادة المعروفة قالوا فيما جابهوه في اليمن قالوا: إن الأسماء لا تغير الحقائق؛ يعني إن غير المشركون وعلماء المشركين الأسماء فإن الحقائق لا تتغير، إذا سمَّوْا طلب الشفاعة وطلب الزلفى توسلا فإن هذا لا يغير الحقيقة، إذا سموه سؤالا بهم كما قال الشيخ هنا عنهم (قالوا: وأطلب من الله بهم) فهذا لا يغير حقيقة الأمر وهو أنهم يطلبون من الله صحيح؛ ولكن متوسلين بشفاعة أولئك لا بذواتهم، فالتوسل بشفاعتهم: اشفع لي، واسأل الله لي، وأطلب من الله لي، واسال الله لي وأشباه ذلك، هذا كله هو طلب الزلفى، أو يتقرب إليهم ليشفعوا من دون التنصيص على الشفاعة، يقول: أنا أتقرب إليه أذبح صحيح الولي؛ ولكن أنا أقصد الذبح لله؛ لكن للولي حتى ينعطف قلب هذا العبد الصالح علي لأني ذبحت فيسأل الله لي.
فإذن مقصود من عبد غير الله، من عبد الأوثان، من عبد الأصنام، من عبد القبور، من عبد الأولياء، من عبد الموتى، مقصودهم أن يشفع أولئك لهم، ليس مقصود أولئك أن يتخذوا هذه أربابا أو آلهة استقلالا، ما هذا المقصود أحد ممن أشرك؛ ولكن هذا مقصود أولئك من أنهم يريدون القربى والزلفى.
فإذن تحتاج في رد الشبه إلى:
· أن تتدرج في المقدمات أولا.
· الثاني أن تفهم كيف ترد الشبهة بعمومها وكيف تفصل جمل الشبهة فترد عليها بخصوصها.
· الثالث أن تقدم الرد المجمل أو الرد الإجمالي على ما أورد من الشبهة برد مفصل على تفصيل كل جملة جملة، مثل ما ذكر الشيخ رحمه الله.
هنا قال (حالتهم) أذكر لهم حالة المشركين لا تجادلهم بأنه لست أنت مشرك أو أنه كذا وكذا لا؛ ولكن صف له حال المشركين وتفصيل الكلام الذي ذكرنا، ثم انتقل بعد ذلك إلى معنى كونه مشركا إلى معنى كونه نافى كلمة التوحيد إلى آخر ما ذكرنا.
هذه من المهمات في أن تتصور كيف تتدرج في رد الشبهة، واحذر من أن تنساق وراء الشبهة مع العاطفة فتجبهه بكلام قد يقوي الشبهة عنده، فلا بد أن يكون الانتقال كما عليه قواعد إقامة البرهان وإقامة الحِجاج مع المخالف؛ أن تنتقل في شأنه من المتفق عليه إلى ما هو أقل اختلافا، ثم إلى ما هو أكثر، وهكذا.
المسألة التي يقوى الاختلاف فيها لا تبتدئ بها، ابتدئ بالواضح واضح جدا، ثم انتقل بعده درجة إلى الأقل وضوحا، ثم إلى الأقل وضوحا وهكذا، أما إذا ابتدأت بما هو أكثر إشكالا فإنه لن يقتنع؛ لأن ما هو أكثر إشكالا يحتاج إلى مقدمات كثيرة.
فإذن تبتدئ معه بما هو أكثر وضوحا، والأكثر وضوحا:
· وصف حال المشركين من مشركي العرب من جهة إقرارهم بالربوبية، واحد.
· الثاني إقرارهم بأن أوثانهم لا تدبر شيئا.
· الثالث بأنهم إنما أرادوا الزلفى والشفاعة بنصوص القرآن في ذلك.
لكن لو ابتدأت معه بمعنى العبادة ربما يأتيك بمخالفات، يقول لك: لا العبادة هي كذا، إذا أتيت معه في التكفير، هنا يخالفك يقول لك: لا، هو كذا وكذا وكذا، فتبتدئ معه بتقرير شرك المشركين وترد عليه شبهته هذه بأن أولئك ما أرادوا إلا الزلفى، والتدرج إذن مهم.
وبعض الذين دعوا إلى التوحيد مع الأسف أوقعوا المدعو في شبهة أعظم مما كانت عنده، لأنه جاء للمستغرق من المسائل فأراد أن يجيب عليها بما عنده واضح؛ لكن هي ليست بواضحة، فأراد أن يجيب فزاد الإشكالَ إشكالا.... ([38])
الشبهة الثانية تحتاج إلى وقت أيضا وهي قوله (فإن قال هؤلاء الآيات نزلت فيمن يعبد الأصنام، كيف تجعلون الصالحين مثل الأصنام؟) هذه تحتاج إلى رد أيضا مفصَّل.
ننبه إلى أنه بقرب الحج والمدة القادمة أكثر الوقت ربما أكون في مكة إن شاء الله، فالدروس تقف بعد اليوم، ونبدأ إن شاء الله في 20/12 إن شاء الله.
[الأسئلة]
س1/ هل توزيع رسالة كشف الشبهات مناسب ؟
ج/ نعم مناسب ما فيه شك؛ لأنه هو وضع سهل العبارة واضح البيان.
س2/ هل يمكن لأهل السنة والجماعة أن يستخدموا كلمة إله بمعنى محيِّر؟
ج/ لا، لا يمكن؛ لأنها صارت لها معنى شرعي جاءت في النصوص بمعنى معبود، خلاص لا تستخدم تلك الكلمة في غير ما جاءت في النصوص؛ لكن نقول: هذا المعنى هم قالوا إنه ورد في اللغة هذا على شكل شاذ. بمعنى إذا ورد في نص يعني في شعر أو في خطبة من خطب العرب أو نحو ذلك فنفهم المعنى بمراجعة كتب اللغة، أما كلمة إله فهي لا نستخدمها إلا بمعنى المعبود، إله بمعنى مألوه معبود.
س3/ ما الفرق بين أن يدعو أحد الله بأبي بكر أو بعمر، أو أن يدعو بواسطة أبي بكر أو عمر؟
ج/ أنا نبهتكم على هذا.
التوسل، التوسل بغير الله في الدعاء له قسمان:
الأول: أن يسأل الله بذات فلان، أن يسأل الله بجاهه؛ يعني يقول: اللهم إني أسألك -في دعاء في المسجد أو في بيت أو في أي مكان- اللهم إني أسألك بمحمد عليه الصلاة والسلام، أسألك برسولك محمد، أسألك بأبي بكر، أسألك بعمر، أسألك اللهم بعثمان أن تعطيني كذا وكذا، فيكون هو قد سأل الله؛ ولكن جعل وسيلته فلان يعني عمل فلان وعمل فلان له، وعمل النبي عليه الصلاة والسلام له، عمل أبي بكر له، عمل عمر له، فلا مناسبة بين سؤالك وسؤاله، والنبي عليه الصلاة والسلام ما أرشد إلى هذا، لهذا نقول: هذا النوع بدعة، ولا يجوز لأنه لا مناسبة بين عمل فلان وعمله، وما بين ما عمله وقدمه وما بين ما عملت.
أو يسأله بجاهه فيقول: أسألك اللهم بجاه نبيك، بحرمة نبيك، بجاه أبي بكر، بجاه فلان من الصالحين أن تعطيني كذا وكذا، هذا أيضا بدعة واعتداء في الدعاء، ووسيلة إلى الشرك وهو القسم الثاني.
القسم الثاني: الذي هو شرك أكبر أن يكون معنى التوسل أن يسأل الله متوسطا بأولئك، ما يقول الله أعطني بفلان، لا، يقول: يا فلان اشفع لي عند الله اللهم اعطني كذا وكذا بشفاعة فلان لي؛ هذا التركيب جميعا، أو يقول يا نبي الله اسأل الله لي كذا وكذا، يا حسين اشفع لي عند الله بكذا وكذا، يا عبد القادر أسألك أن تسأل لي الله كذا اشفع لي بكذا، يكون قد صلى مثلا عند قبته عند قبره ركعتين تقربا أو طاف أو ذبح أو نذر أو من دون ذلك، فهذا معنى الوساطة، الوساطة يعني أنه طلب منهم الوساطة، طلب منهم الزُّلفى، طلب منهم الشفاعة، ففرق بين أن يسأل الله بهم وما بين أن يتوسَّط عند الله بهؤلاء، فالسؤال بهم أن يقول: اللهم إني أسألك بنبيك أسألك بأبي بكر هذا بدعة ووسيلة للشرك واعتداء في الدعاء، أما لو سأل هذا أن يشفع له عند الله أو تقرب إليه بشيء من العبادات ليشفع له عند الله فهذا هو الشرك الأكبر الذي عناه الشيخ بما ذكرت.
س4/ هل المعبودات من الأحجار والأشجار تكون في النار مع من عبدها؟
ج/ نعم، كلها والأصنام والجن الذين عُبدوا ورضوا بالعبادة.
س5/ الأخ يقول أنا ما اتضحت لي الشبهة ولا ردَّها.
ج/ مع أني اجتهدت أن يكون الأسلوب بأكثر سهولة وأكثر وضوح، ما لأدري إذا كان [...] هذه مشكلة يعني صعب أني أسهّل أكثر من كذا، ودي اتضح له الشبهة ويتضح له الرد يشير بأصبعه يعني يرفع أصبعه، طيب جزاكم الله خيرا، الذي هي واضحة عنده جدا، واضحة جدا، إيراد الشبهة والرد أيضا يرفع أصبعه، طيب، وضوح متوسط واضحة؛ لكن بوضوح متوسط، التوسط معناه أنه يحتاج إلى مراجعة يعني فيما أوردت يحتاج إلى مراجعة حتى يفهمه من؟ طيب الأخير الذي ما اتضحت له يعني كان فيه قصور عنده في إيراد الشبهة أو إيراد الرد عليها يرفع، ما فيه عيب هذا عشان أجتهد لكم أكثر أو أشوف لنا طريقة.
يقول لماذا لا تصاغ الشبهة بأسلوب أكثر وضوحا مما عليه ثم يكون الجواب بأسلوب أوضح كذلك؟
أنا عندي أوضحتها وربما يُعتب علي ليش أوضحت الشبهة بمثل هذا التوضيح، هذا الذي جعلني في ما مضى أتردد في شرح الكتاب كثيرا؛ لأن تعليم الشبهات مشكلة، يعني إيضاح الشبهة ثم الرد عليها صعب ليس منهجا؛ لكن بما أنكم من دعاة التوحيد وممن سينافحون عنه فلابد من إيضاحها؛ لعل الله جل وعلا يجعل منكم مجاهدين في سبيل الله.
س6/ هل تدخلون بعض المناظرات التي تقوم اليوم بين بعض الدعاة مع النصارى وغيرهم من إيراد الشبهة على المدعو وإضعافها؟
ج/ طبعا والمحاجة والمجادلة فن، ولها علم خاص بها؛ علم البرهان وعلم الحجاج، وهي من علوم المنطق أو من علوم الفلسفة بالعموم وعلوم المنطق بالخصوص، تحتاج إلى فهم؛ لأنه لابد من ترتيب المقدمات؛ يعني تهتم في الجواب سواء في الفقه في أي حجة تريد إبطالها أو تريد مناقشتها:
أولا تأتي بالمقدمات جميعا، وتنظر هل النتيجة بنيت على هذه المقدمات مجتمعة أو على واحدٍ منها، فإن كانت عليها مجتمعة نظرت في صلة المقدمات بعضها ببعض، فإن وجدت سبيلا إلى الطعن فيها كان هذا أقوى حجة؛ يعني شيخ الإسلام مع المتكلمين والفلاسفة يأتي للمقدمة ويطعن فيها، لما بنيت عليه النتيجة، يطعن فيها بالعقل ويطعن فيها أيضا بالنقل، إذا كانت المقدمات كل واحدة أنتجت نتيجة، فتناقش كل مقدمة على حِدا، إذا كانت هذه المقدمات ظنية ناقشتها مناقشة الظنيات، إذا كانت قطعية أيضا نظرت إلى النتيجة التي أنتجتها وتناقشها، هنا ترتب الحجاج بالأسهل فالأسهل، لا تأتي بالأصعب ثم الأسهل ثم آخر شيء الأسهل، لا، تبتدأ بالمتفق عليه بالأسهل قبولا، ثم بما بعده.
فإذا تناقش واحد حتى عند في البيت أو المجلس يأتيك مثلا في كلامك يأتي إلى جزئية ويمسكها، تأتي أنت تنشغل عن الكلام كله وهو مهم ويُشغلك بجزئية في كلامك، تروح تناقشه في جزئية ويضيق لب الموضوع، هذا يكون إذن أنت ضعيفا في الحجاج والنقاش؛ لأنه أضاع عليك الأصل بجعلك تلتفت إلى جزئية، وهذا الآن مع الأسف أهل الصحف وأهل المجلات أغرقوا كثير من الذين يكتبون كتابات إسلامية بشبهات صغيرة والتأصيل العام لا يناقش، يأتي في كلام يعني شبهة فرعية من فروع الإسلام، فرع من الفروع ويستغرقون ويسلطون عليه الضوء ويناقشونه وأخذ ورد وأخذ وعطاء ليشغلوا الناس بذلك؛ لكن أين أصول الإسلام؟ هنا تُحجب؛ لأنه لو نوقشت الأصول صار الكلام فيها أقرب وأوضح وصارت الحجة فيها من جهة العمل أقوى وإقامة الحجة على المخالف أوضح، خلاف الفرعيات، الفروع يكون كثير الخلاف فيها أو الجزئيات قد ما تصل مع المخالف فيها إلى نتيجة واضحة.
فينتبه الذي يجيب على الشبهات ويحاج أي مخالف أو أي صاحب شبهة سواء في الأصول يعني في التوحيد أو في الفروع في الفقه فإنه ينبغي له أن ينتبه كيف يورد الجواب، وكيف يرتب الأجوبة حتى يكون ذلك أبلغ في التأثير.
هنا الاعتبار بـ: لا تأتي في رد الشبه في المحاجة بتقديم العذر لمن تحاجُّه، لا تقل له أنت معذور؛ لأن هذا يقويه هو، خل سماعه لك ضعيفا، الأخ يقول فلا أقول له إن هؤلاء معذورون لأنهم جهال، لا تقل له معذور؛ بل تقول له المسألة عظيمة وهذا كفر وإيمان وشرك وإيمان، لابد تفهمها، لابد أن تكلم عنها بوضوح، إذا سهلت له الأمر تساهل صار ما عنده قلق من وضعه.
نكتفي بهذا القدر، أسأل الله جل وعلا أن يجمعنا وإياكم بعد الحج في ثبات على الطاعة وقبول للعمل.
وصلى الله وسلم على محمد.
¹
[المتن]
فإن قال هؤلاء الآيات نزلت فيمن يعبد الأصنام كيف تجعلون الصالحين مثل الأصنام، أم كيف تجعلون الأنبياء أصناما؟ فجاوبه بما تقدم، فإنه إذا أقرّ أن الكفار يشهدون بالربوبية كلها لله وأنهم ما أرادوا ممن قصدوا إلا الشفاعة، ولكن إذا أراد أن يفرِّق بين فعلهم وفعله بما ذكر فاذكر له أنَّ الكفار منهم من يدعو الأصنام ومنهم من يدعو الأولياء الذين قال الله فيهم ﴿أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ﴾[الإسراء:57] ويدعون عيسى ابن مريم وأمه، وقد قال الله تعالى ﴿مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ(75)قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾[المائدة:75-76]، واذكر قوله تعالى ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ(40)قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ﴾[سبإ:40-41]، وقوله تعالى ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾[المائدة:116]، فقل له: عرفتَ أنّ الله كفَّر من قصد الأصنام وكفَّر أيضا من قصد الصالحين وقاتلهم رسول الله ﷺ.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أنّ محمدا عبد الله ورسوله هو النبي الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. أما بعد:
فأسأل اللهَ جل وعلا لي ولكَ العلم النافع والعمل الصالح والقلب الخاشع والدعاء المسموع، وأن يثبِّت العلم في قلوبنا، وأن يرزقنا البصيرة فيما نقول وفيما نعمل وفيما نترك.
ثم إنَّ هذه الرسالة العظيمة -كشف الشُّبهات- ساق فيها الإمام المجدد رحمه الله تعالى مقدِّمات قد مرَّ بيانها مفصلا، ثم ساق أصول شبه المشركين وأجاب جملة يعني بجواب مجمل ثم بدأ في ذكر شبههم والجواب المفصل على ذلك، فذكرنا من ذلك ما ذكرنا، ووقفنا عند قوله رحمه الله تعالى (فإن قال: هؤلاء الآيات نزلت فيمن يعبد الأصنام، كيف تجعلون الصالحين مثل الأصنام؟ أم كيف تجعلون الأنبياء أصناما؟ فجاوبه بما تقدم؛ فإنه إذا أقرَّ أن الكفار يشهدون بالربوبية كلها لله وأنهم ما أرادوا ممن قصدوا إلا الشفاعة، إذا أراد ذلك فاذكر له أن الكفار منهم من يدعو الأصنام ومنهم من يدعو الأولياء) إلى آخر ذلك مما سمعت.
هذه الشبهة راجت على كثيرين، حتى إنّ المفسرين المتأخرين إذا ذكرت عبادة غير الله جل وعلا في القرآن من جهة النهي عنها أو وصف المشركين أنهم يعبدون غير الله فسروا ذلك بعبادة الأصنام، وقد تقرر في اللغة أنًَّ الصنم صورة منحوتة؛ يعني ما نُحِت على شكل صورة، وإذا كان كذلك فإن الصنم إما أن يكون حجرا وإما أن يكون خشبا وإما أن يكون عجينا وإما أن يكون تمرا إلى آخر ذلك.
فعليه جعلوا العبادة التي توجه بها المشركون من العرب وغيرهم إلى غير الله جعلوها متوجَّهة إلى الأصنام، ولهذا جعلوا كفّار قريش ما كفروا إلا بعبادتهم الأصنام، وكذلك الكفار فيمن قبلهم كفروا بعبادتهم الأصنام، وهذا أصل أصّله كثيرون في جملة من المنتسبين إلى العلم في كتب التفسير وفي كتب العقائد المخالفة لعقائد أهل السنة وغيرها، وأصل هذا الباب وأصل هذا الضلال جاء -كما وصفتُ لكم فيما قبل- من جهة الباطنية ومن جهة المتكلمين.
فإنّ الباطنية لمّا قرروا أن التوسل بالأرواح؛ بل لما قرروا أنَّ الأرواح لها تصرف بعد مفارقتها للجسد أعظم مما كانت تفعل لما كانت في الجسد، قالوا: لأنها لما كانت في الجسد كانت محجوزة بهذا الجُثمان، لا تنطلق، لا تتصرف إلا بما يطيقه هذا الجثمان؛ فلا تعطي، ولا تمنع، ولا تأخذ، ولا ترفع، إلا بمقدرة الجثمان، فأما إذا انفصلت عن هذا الجثمان فإنها تعود إلى انطلاقها، وتكون مهيأة لقوة أعظم مما كانت عليه لمّا كانت في الجسد، فالجسد محل الشهوات ومحل العاهات ومحل الأمراض والروح مقيدة مسجونة فيه، فإذا فارقت الروح البدن انطلقت وصار لها من القوة ما ليس لها لما كانت مرتهنة بالجسد.
لما كان كذلك قالوا: إن التوسل بهذه القوى وبهذه الأرواح والرَّغب إليها حتى تتوسط عند الله جل وعلا، ليس هو مثل توسط المشركين؛ لأن المشركين توسَّطوا بأصنام والأصنام لا مكانة لها عند الله جل وعلا، وأما التوسط بالأرواح فإنّ الأرواح الطيبة الصالحة -أرواح الأنبياء والأولياء- هذه لها مكانها ولها مقامُها ولها جاهها وحرمتها عند الله جل وعلا، فجعلوا هذا الفرق لازما.
ولهذا جعلوا الوساطة هذه ليست داخلة في التوحيد، والتوحيد عندهم هو توحيد الربوبية دون توحيد الإلهية؛ يعني هو التوحيد بأن الله هو المتصرف القادر على الاختراع المستغني عما سواه المفتقر إليه كل ما عداه.
وراج هذا على المتكلمين، فكان المتكلِّمون يجعلون الغاية من تحقيق الإيمان هو الإيمان بالرُّبوبية؛ الإيمان بلا إله إلا الله التي معناها أن لا ربّ إلا الله؛ يعني أن لا قادر على الاختراع والإبداع إلا الله جل وعلا وحده، فمتى أقر بذلك كان مؤمنا وكان مسلما.
فعندهم أن مشركي العرب لم يكونوا على هذا الاعتقاد، وأنهم يعتقدون أن الأنواء تخلق، وأن الأصنام هذه تخلق وأنها تضر وأنها تنفع، وأمّا من وحّد الله في الربوبية فإنه يكون مؤمنا، لهذا قالوا: لا إله إلا الله معناها لا قادر على الاختراع والإبداع إلا الله، أو كما قال الآخر: لا مستغنيا عما سواه ولا مفتقرا إليه كل ما عداه إلا الله.
هذه الفكرة وهذا الانحراف راج في المسلمين ولما كان مذهب المتكلمين مذهب الأشاعرة والمعتزلة في التوحيد هو السائد، تأثر أكثر المفسرين وأكثر الفقهاء بهذا القول الخبيث، لهذا يفسِّرون الآيات التي فيها ذكر عبادة غير الله بأنها عبادة للأصنام.
ولهذا استنكر وأنكر طوائف على الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله دعوته، كيف تجعل الصالحين والأولياء مثل الأصنام؛ لأن الأصنام لا روح لها، والصالحون والأولياء أرواحهم مطهرة مقدسة عند الله جل وعلا.
لهذا أورد الشيخ رحمه الله هذه الشبهة، وأورد الجواب عليها، فقال(فإن قال: هؤلاء الآيات نزلت فيمن يعبد الأصنام كيف تجعلون الصالحين مثل الأصنام؟ أم كيف تجعلون الأنبياء أصناما؟) قال (فجاوبه بما تقدم فإنه إذا أقر أنّ الكفار يشهدون بالربوبية كلها) إلى آخر كلامه.
يعني بقوله (فجاوبه بما تقدم) ما قدمه في المقدمات فيما سبق، وقوله (فإنه) هذا تفصيل لذلك الجواب، قال (إذا أقرَّ أن الكفار يشهدون بالربوبية كلها لله) فأوَّل إبطال لقولهم أن يقام عليه حال الكفار مع الربوبية ([39]) والله جل وعلا بيَّن لنا أنَّ أفراد توحيد الربوبية كان الكفار يقرون بها، فلما كان الكفار مقرين بتوحيد الربوبية كان شركهم جائيًا من جهة توحيد الإلهية، فقد بيَّن ذلك جل وعلا في آيات كثيرة كقوله جل وعلا ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ﴾[الزخرف:9]، وكقوله ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾[لقمان:25]، وكقوله ﴿[وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ]([40]) مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾[العنكبوت:63] الآية، وكقوله ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ﴾[يونس:31] الآيات، وكقوله الآيات التي في أول النمل، والآيات ذكرناها وهي كثيرة في بيان إقرار المشركين بالربوبية.
إذا كان كذلك وأقر بهذا فإن جزءا من شبهته قد زال، حتى يعلم أنَّ شرك مشركي العرب لم يكن من جهة اعتقادهم أنّ هذه الأصنام تخلق أو قادرة على الاختراع أو لها نصيب في الملك.
فإذا كان كذلك نقول: هم من هذه الجهة أرادوا من الأصنام هذه الشفاعة، كما قال جل وعلا ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾[الزمر:3]، وكقوله جل وعلا ﴿هَـؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ﴾[يونس:18]، وكقوله جل وعلا ﴿أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾[ص:5].
فإذن المشركون لهم اعتقاد في إلهية هذه الأصنام، ويرون أنهم إنما يتقربون إليها لأجل التوسط لأجل الشفاعة، فهذا برهان ثاني.
فالبرهان الأول على هذه الشبهة: حال المشركين مع إقرار الربوبية.
والبرهان الثاني في الرد على هذه الشبهة: بيان أنهم مع الأصنام ما قصدوا إلا التوسط والشفاعة؛ لأن الله جل وعلا بيَّن لنا أنهم لا يعتقدون في الأصنام أنها تخلق وترزق وتأتي بالمطر وتسيِّر الرياح إلى آخر ذلك؛ بل إنما قصدوا منها الشفاعة واتخاذ الأصنام وسائل.
البرهان الثالث ما ذكره الشيخ بعد ذلك بقوله: (ولكن إذا أراد أن يفرق بين فعلهم وفعله بما ذكر، فاذكر له أن الكفار منهم من يدعو الأصنام ومنهم من يدعو الأولياء).
كما أسلفنا أنَّ عبادة المشركين بغير الله كانت متجهة إلى أربعة أنواع ذكرناها لكم فيما سلف، وتلخيصها:
· أنهم عبدوا الأصنام المصوَّرة.
· وعبدوا الملائكة.
· وعبدوا الأنبياء والأولياء.
· وعبدوا الأشجار والأحجار يعني اعتقدوا فيها وعبدوها.
فهذه جملة الأنواع.
ويدخل في الأشجار والأحجار عبادة الشمس والقمر والكواكب؛ لأن لها نصيبا من كونها أحجارا.
ويدخل في عبادة النوع الثاني أصناف.
ويدخل في النوع الأول أصناف، إلى آخره.
فإذن لم تكن عبادة العرب منصبّة على نوع واحد.
إذا أراد الدليل فنقول له: من جهة أن العرب وغير العرب من المشركين والكفار عبدوا أنبياء وعبدوا صالحين فالآيات في هذا كثيرة كقوله جل وعلا ﴿مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ﴾[المائدة:75] وكقوله جل وعلا ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ(40)قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ﴾[سبإ:40-41]، وكقوله جل وعلا ﴿أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ﴾[الإسراء:57] وكقوله جل وعلا ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾[المائدة:116]، وكقوله جل وعلا ﴿أَفَرَأَيْتُمْ اللَّاتَ وَالْعُزَّى(19)وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى﴾[النجم:19-20]، على القراءة (اللّاتَّ والعُزَّى) وهو رجل صالح كان يلتُّ السويق فمات فعكفوا على قبره إلى آخر ذلك.
إذن فنجمع لهم الآيات التي هي صريحة في أن الصالحين عُبدوا.
ثم الدرجة الثانية من هذا البرهان الثالث أن نقول في القرآن أيضا بيّن جل وعلا أن الذين عبدهم المشركون كانوا أمواتا غير أحياء كما قال جل وعلا في سورة النحل في ذكر الحِجاج مع المشركين قال في وصف الآلهة ﴿لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ(20)أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾[النحل:20-21]، فهذه الآية فيها بيان أنَّ الذين عَبَدَهم المشركون والكفار من العرب كانوا لا يَخلقون شيئا وهم يُخلقون، وأنهم أموات غير أحياء ومعنى قوله (أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ) أنهم الآن ليسوا على وصف الحياة بل هم على وصف الموت وهذا يعني أنهم كانوا قبل هذا الوصف أحياء لأن الذي يوصف بأنه ميت هو من كان حيا، قال جل وعلا هنا (أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ)، ثم أكد ذلك بقوله (وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) يعني ما يشعرون متى يبعث، والذي يُبعث هو الميت الذي يوصف بأنه كان حيا فمات، وهذا واضح في خروج الجمادات والأصنام عنها، الذي يبعث ذووا النفوس الجن والإنس والحيوان، وهنا معلوم أن المقصود من عُبِدَ من الإنس.
فإذا كان كذلك بطل ادِّعاء أن العرب إنما عبدت أصناما لها وصف الحجارة فقط.
وقد ذكرنا لكم لِم تعلق العرب ومن قبلهم بالأصنام؟ لأنهم يعتقدون أن هذا الصنم الذي هو مصوَّر على هيئة صورة ما تحلُّه روح أو كما يقولون روحانية تلك الصورة، فإذا كانت الصورة صورةَ بشر حلَّت فيه حين الخطاب، وإذا كانت الصورة صورة كوكب حلت فيه روحانية الكوكب حين الخطاب، وإذا كانت الصورة ملك حضر الملك حين الخطاب، وهكذا، فيما يزعمون، وكل الذين يحضرون ويخاطبونهم، وهم صادقون حين يقولون: خاطبنا الصنم فخاطبنا وكلمناه فكلمنا وسألناه فأجابنا. ولكن لم تجبهم الأرواح الطيبة وإنما أجابتهم الأرواح الخبيثة؛ أرواح الشياطين والجن، ولهذا قال جل وهلا في آية سبإ ﴿وَيَوْمَ يحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ(40)قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ﴾[سبإ:40-41]، يعني أن الحقيقة أن الذي خاطبهم وأوقعهم في هذا إنما هم شياطين الجن، وقد قال جل وعلا ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَلاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوُّ مُبِينٌ(60) وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ(61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ﴾[يس:60-62]، وكان إضلال الشيطان ليس من جهة الشهوات فحَسْب؛ بل هو في أعظم إضلال وهو في عبادة غير الله جل وعلا.
إذن جواب هذه الشبهة ترتَّب على ثلاث أنواع من البراهين مرتبة:
الأول: كما ذكرنا في أن عبادة المشركين كانت في أنّ إقرار المشركين كان في الربوبية على وجه التفصيل وتسوق الآيات.
الثاني: أنهم ما أرادوا ممن عبدوهم ولو كانت الأصنام إلا التوسّط والشفاعة كما هي الآيات.
الثالث: أن الآيات فيها ذكر أن تلك المعبودات لم تكن أصناما فحسب؛ بل كانت تلك المعبودات من البشر والملائكة والجن يعني أنَّ غير الله جل وعلا عبد بجميع أنواع غير الله، فعُبدت الملائكة وعُبد الصالحون وعُبد الأولياء وعبد الأنبياء.
إذا تبين ذلك واتضح، فنأتي إلى خاتمة هذا البرهان قبل أن نمشي مع كلام الإمام رحمه الله تعالى فنقول: إن هذا البرهان وَرَدّ هذه الشبهة بما ذكرنا واضح؛ ولكن يبقى نتيجته وهو فهم معنى التوسط، وفهم معنى التوسل، وفهم معنى الشفاعة -وهذا سيأتي في جواب الشيخ أو في تكملة جواب الشيخ رحمه الله-؛ لكن المقدمة قبل هذا أنه إن سلم بهذه البراهين الثلاث مرتبة تنتقل معه إلى الكلام على الشفاعة، ولا تتكلم بالشفاعة قبل هذه البراهين؛ لأن الكلام في الشفاعة الشبه القولية فيه والعملية والنقلية كثيرة، فيحتاج إلى محكم وإلى واضح حتى يُرجع إليه عند الاختلاف.
فإذن حين الحجاج مع المشركين يقدم لهم إذا قالوا إنّ الأولين ما عبدوا إلا الأصنام البراهين الثلاثة ولا يُتكلم في الشفاعة إلا بعدها؛ ما معنى الشفاعة وكيف توسلوهم ومعنى التوسل وما شابه ذلك.
سؤال: يسأل فيقول ما الفرق بين درجتي البرهان الثالث؟
الجواب: قلنا:
الدرجة الأولى في البرهان الثالث الآيات التي فيها ذكر عبادة الأنبياء والصالحين صراحة.
والرجة الثانية منه كالاستحضار بأن قال: لا، هذا ليس بصحيح إنما عبدوا الأصنام عبدوا أصنام هؤلاء، ما عبدوهم مباشرة، فيقال له: الله جل وعلا بين أن الذين دعاهم المشركون ﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾[النحل:21]، والآيات في أول الأحقاف أيضا واضحة في الدلالة على هذا.
فإذن الدرجة الثانية من البرهان لتبين أنهم ما عبدوا صور الصالحين أصنام فقط، وإنما عبدوا من كان حيا فمات ومن لا يشعر متى يبعث، واضح؟ نعم.
¹
[المتن]
فإن قال: الكفار يريدون منهم وأنا أشهد أن الله هو النافع الضار المدبر لا أريد إلا منه والصالحون ليس لهم من الأمر شيء ولكن أقصد من الله شفاعتهم.
فالجواب أن هذا قول الكفار سواء بسواء فقرأ عليه قوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾[الزمر:3]، وقوله تعالى ﴿وَيَقُولُونَ هَـؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ﴾[يونس:18].
[الشرح]
هذه الشبهة وأنهم ما قصدوا إلا الشفاعة تحتاج إلى شيء من التقرير:
فإن المشركين وأشباه المشركين والمدافعين عن المشركين يقولون: إنّ الأسباب جعلها الله جل وعلا منتجة لمسبباتها، فجعل الأكسية سببا في دفع الحر ودفع البرد، وجعل القلم سببا للكتابة، وجعل الطعام سببا لدفع الجوع، وجعل الشراب والماء سببا لدفع الضمأ، إلى آخر ذلك، وجعل بيتك سببا، وجعل العصا التي تحملها سببا، وجعل كذا وكذا سببا.
قالوا: فكيف يعقل أن تكون هذه الأسباب نافعة، والأنبياء والأولياء والصالحون بعد الموت لا ينفعون؟ فلا شك أنهم أعظم قدرا وسببيّتهم أعظم من هذه الأشياء، فكيف يقال أن الطعام ينفع والنبي ﷺ لا ينفع -كما يقولون-؟ وكيف يقال أن الأكسية تنفع والنبي ﷺ بعد مماته لا ينفع أو أن الأولياء والصالحين لا تنفع؟
فيدخلون لك في تقرير الشفاعة والتوسل من جهة الأسباب والارتباط بالمسببات.
وجواب هذا يكون بمعرفة حال المشركين، فإن المشركين حين أشركوا ما أرادوا إلا أن يتخذوا هذه الأسباب مسبِّبات، حينما توجهوا إلى عيسى عليه السلام وإلى أمه وإلى اللاتِّ وإلى الصالحين وإلى القبور لِم توجهوا؟ هل يعتقدون فيها الاستقلالية؟ إنما اعتقدوها أسبابا.
فإذن شبهة السببية هي مقدمة شبهة الشفاعة، فإنهم يقررون السببية حتى يصلوا منها إلى أنه لا بأس أن تتشفع برسول الله ﷺ، أو تتشفع بالأولياء والصالحين.
فإذن فهمُك لعبادة المشركين يقضي على هذه الشبهة من أساسها، وتستطيع بفهمك لعبادة المشركين أن ترد على من أتى بهذه الشبهة التي هي مقدمة للقول بالشفاعة.
الأسباب كما هو معلوم في الشرع نوعان:
· أسباب مأذون بها.
· وأسباب محرمة.
فليس كل سبب جائز في الشرع أن يتعاطى، وكون النبي ﷺ سببا بعد موته أو كون الصالحين أسبابا بعد موتهم، هذا عند الجدال والبرهان نقول هذا احتمال؛ احتمال أن يكونوا أسبابا واحتمال ألا يكونوا أسبابا؛ لأن السبر والتقسيم ومقتضى الجدل الصحيح يقضي أن نقسِّم بأنه احتمال أن يكونوا كذلك واحتمال ألا يكونوا كذلك.
فننظر في حال الأولين فنقول: الله جل وعلا بين لنا أن أرواح الشهداء عنده في مقام عظيم وأنه لا يجوز لنا أن نقول إن الشهيد ميِّت كما قال جل وعلا ﴿تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ﴾[البقرة:153]، وقال جل وعلا في آية آل عمران ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ(169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾[آل عمران:169-170]، وأوَّلهم شهداء بدر وشهداء أحد...
وفي زمن النبي ﷺ من السنة الثانية إلى وفاته عليه الصلاة والسلام ننظر في هذا السبب، هل كان شيء من النبي عليه الصلاة والسلام أو فيما تنزل من القرآن وجهنا إلى الانتفاع بهذا السبب على فرض أنه سبب نافع، فهذا باليقين لا يقول أحد إنّ ثمة آية أو حديث أو سلوك للصحابة بأنهم توجهوا إلى أرواح الشهداء -وهم أحياء بنص القرآن- للانتفاع بهذا السبب، وحال الصالحين والأولياء الذين توجه لهم المشركون غير الأنبياء لاشك أنهم أقل حالا من هؤلاء الشهداء الذين شهد الله جل وعلا لهم بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون؛ لأن أولئك ما شاركوهم في وصف الشهادة، الأنبياء أعظم وأرفع درجة من الشهداء.
فإذا كان كذلك صار هذا إجماعا قطعيا في زمن النبوة -وهو أعلى أنواع الإجماع- صار هذا إجماعا قطعيا في زمن النبوة أنَّ هذا السبب ولو فُرِض أنه ينفع فإنهم تركوه قصدا، ولم ينزل فيه شيء، فدل على أنه سبب غير نافع وأنه سبب غير مأذون به، هذا من جهة.
والدرجة الثانية: أنه بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام وكونه عليه الصلاة والسلام مع الرفيق الأعلى واضحا كان هذا عند الصحابة، ومع ذلك لم يتوجه الصحابة ولا التابعون قطعا إلى روح النبي عليه الصلاة والسلام يطلبون منها أو يجعلونها سببا، فهذا إجماع ثانٍ توالت عليه أعصر.
والإجماع الثالث في حادثة نُقلت أن عمر رضي الله عنه لما أصاب الناس في عام الرَّمادة سنة 17هـ، لما أصاب الناس الضيق والكرب والجفاف والجوع كان يستسقي كما في الحديث المعروف في البخاري وفي غيره، فلما خطب قال: إنا كنا نستسقي برسول الله ﷺ يعني في حياته، والآن نستسقي بعمِّ رسول الله ﷺ، يا عباس قم فادعُ. فقام العباس فدعا وأمَّن الناس على دعائه، وهذا يدل دِلالة قطعية على أنهم انتفعوا بسبب دعاء العباس ولم يطلبوا الانتفاع بسبب دعاء النبي عليه الصلاة والسلام لعلمهم بأنّ ذلك السبب غير مشروع وأنه من توجَّه إلى النبي ﷺ طالبا منه أن يدعو أنه مخالف للشريعة وأنه شرك؛ لأنه لا يمكن أن يتوجهوا إلى المفضول ويتركوا الفاضل، لا يمكن أن يتوجهوا إلى الأقل ويتركوا الأعلى وهو رسول الله ﷺ؛ بل هذا لو كان..... ([41]) لغير المصطفى ﷺ وهم في حياته كانوا يستغيثون به فيما يقدر عليه ويستشفعون به فيما يقدر عَليه عليه الصلاة والسلام إلى آخر ذلك، وهذا إجماع ثالث لأن الحديث صحيح فيه.
إذا تقرر هذا فنقول هذا كله على فرض أنَّ السبب نافع ولكنه لم يؤذن بالسبب، فقد تكون الخمر نافعة لكن لم يؤذن بها، والله جل وعلا قال في الخمر والميسر ﴿فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾[البقرة:219]، ومع ذلك حرمها، وقال عليه الصلاة والسلام «تداووا عباد الله ولا تتداووا بحرام»، وقال «إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها» الحديث في أبي داوود وفي غيره.
إذا تبين ذلك فنقول إذن على فرض أن هذا السبب ينفع فإنه سبب محرم غير مأذون به في الشرع لتلك الأنواع الثلاثة من الاجماعات.
ثم ننتقل إلى درجة ثانية من الحجاج معهم فنقول: في الحقيقة هذا السبب غير نافع في الدنيا. وهو ما تعلقوا به من جهة الشفاعة أيضا نقول: تقرر أن هذا السبب غير مأذون به وأنه مردود في الشريعة؛ لأنه شرك المشركين. نقول الدرجة الثانية نقول هذا السبب في الحقيقة غير نافع، لم؟ نقول للآتي:
أولا: أنَّ الله جل وعلا بين أن روح عيسى عليه السلام وروح أمَّه لا تنفعهم ولا تضرهم بنص القرآن، فقال جل وعلا ﴿مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ(75)قُلْ أَتَعْبُدُونَ﴾ يعني عيسى وأمه ﴿قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾[المائدة: 75-76]، فإذن في هاتين الآيتين من سورة المائدة والتي ساقها الشيخ رحمه الله في الأولى بيان التوجه إلى أرواح الأنبياء والصالحين؛ لأن عيسى عليه السلام من أولي العزم من الرسل، ولأن أمه من عباد الله الصالحين ومن القانتات، فتوجهوا إلى روح نبي وإلى روح أَمَة صالحة وأم نبي وأم أحد أولي العزم من الرسل، بيَّن جل وعلا أن توجههم لتلك الأرواح تعلُّقٌ بسبب غير نافع ما الدليل؟ قال ﴿قُلْ أَتَعْبُدٌونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا﴾[المائدة:76]، وهذا يدلُّ على أن هذا السبب غير نافع، وقال جل وعلا في الآية الأخرى في سورة الجن في وصف النبي عليه الصلاة والسلام وبالأمر له أن يقول ﴿قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ رَشَدًا﴾[الجن:26]، بيَّن جل وعلا أن محمدا عليه الصلاة والسلام لا يملك لهم ضرا ولا رشدا إلا فيما جعله الله جل وعلا سببا نافعا في حياته وهو أعظم عليه الصلاة والسلام أعظم سبب نفع الناس وأعظم الأسباب النافعة في حياتهم حيث هداهم إلى الإيمان وأنقضهم من الضلالة إلى الهدى وأخرجهم من الظلمات إلى النور، وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام السبب هذا الذي هو سبب الهداية وما أقدره الله عليه في الدنيا أصبح باطلا لأنه جل وعلا بيَّن أن الأنبياء والصالحين لا يملكون ضرا ولا نفعا لما عبدوه، وقد قال جل وعلا في أول سورة الفرقان ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا(1)الذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا(2)وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً﴾[الفرقان:1-3]، اربطها بـمن اتخذ ولدا من اعتقد أن لله جل وعلا ولدا قال ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلاَ حَيَاةً وَنُشُورًا﴾[الفرقان:3].
إذن فهذه كلها تبيِّن أن هذه الأسباب غير نافعة، وإنما هي نافعة في حياتها أو يوم القيامة، كيف؟ لأن الله جل وعلا جعلها أسبابا نافعة في هذين النوعين من الحياة.
هذا تدرُّج في البرهان، وإيضاح فيما ذكره الإمام رحمه الله تعالى، وهو الذي فتح هذه المعاني بما ذكر بعد توفيق الله جل وعلا.
قال (فإن قال: الكفار يريدون منهم، وأنا أشهد أن الله هو النافع الضار المدبر لا أريد إلا منه، والصالحون ليس لهم من الأمر شيء؛ ولكن أقصد من الله شفاعتهم.
فالجواب أنَّ هذا قول الكفار سواء بسواء) لأنهم ما عبدوهم إلا ليشفعوا، ما توجهوا إليهم إلا للشفاعة، ما قصدوهم إلا لاعتقاد أنهم أسباب تنفع، الصنم سبب ينفع، والروح سبب ينفع، وروح النبي سبب ينفع والوثن والقبر سبب ينفع، والجني سبب ينفع فيما حرم الله جل وعلا، وهذا من الشرك الذي بينه الله جل وعلا في القرآن.
قال (فقرأ عليه قوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾[الزمر:3]، وقوله تعالى ﴿هَـؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ﴾[يونس:18]) ثم قال (واعلم أن هذه الشبه الثلاث هي أكبر ما عندهم فإذا عرفت أن الله وضحها في كتابه وفهمتها فهما جيدا فما بعدها أيسر منها) ورحمه الله رحمة واسعة كم كان بصيرا بشُبه المشركين وبالحجاج عنها في ذلك وبيان الصواب ووجه الحجة في وضبطها ودحضها، فكانت الشبه واضحة عند إمام الدعوة رحمه الله، وكان فقه الكتاب والسنة والرد عليها أوضح وأبيّن عنده، فشرح الله صدره لذلك، وإلا فإن كثيرين إذا جاءتهم الشبه وراجت عليهم فإنهم يترددون؛ ولكن الله جل وعلا شرح صدره بالقيام بهذه الدعوة وبيان التوحيد فضلا من الله جل وعلا ونعمة.
إذن نقف عند هذا، وليكن لك مراجعة على المقدمات والشبه الثلاث والجواب عليها الجواب المجمل والمفصل؛ لأن تأصيل ما ذكرنا وفهمه فهما جيدا ينبني عليه ما سيأتي من ذكر الشبه والجواب عليها.
أسأل الله جل وعلا أن يرحم إمام الدعوة وأن يرفعه في عليين وأن يجعله مع الأنبياء والصديقين والصالحين والشهداء وحَسُنَ أولئك رفيقا.
اللهم أجزهم عنا أحسن الجزاء على ما أوضحوا وبينوا وجاهدوا في الله حق الجهاد.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
¹
[المتن]
فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله، وهذا الالتجاء إلى الصالحين ودعاؤهم ليس بعبادة.
فقل له: أنت تُقِرُّ أن الله افترض عليك إخلاص العبادة وهو حقه عليك.
فإذا قال: نعم.
فقل له: بين لي هذا الذي فرضه الله عليك وهو إخلاص العبادة لله وحده وهو حقه عليك لأنه لا يعرف العبادة ولا أنواعها فبينها له بقولك قال الله تعالى ﴿ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾[الأعراف:55]، فإذا أعلنته بهذا قل له: هل علمت أن هذا عبادة لله؟ فلا بد أن يقول نعم فالدعاء مخ العبادة فقل له إذا أقررت أنه عبادةٌ لله ودعوت الله ليلا ونهارا خوفا وطمعا ثم دعوت في تلك الحاجة نبيا أو غيره هل أشركت في عبادة الله غيره؟
فلا بد أن يقول: نعم.
فقل له: إذا علمت بقول الله تعالى ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾[الكوثر:2]، وأطعتَ الله ونحرت له فهل هذا عبادة؟
فلابد أن يقول: نعم.
فقل له: فإن نحرت لمخلوق نبي أو جني أو غيرهما هل أشركت في هذه العبادة غير الله؟
فلابد أن يقر ويقول: نعم.
وقل له أيضا: المشركون الذين نزل فيهم القرآن هل كانوا يعبدون الملائكة و الصالحين وغير ذلك؟
فلابد أن يقول: نعم.
فقل له: وهل كانت عبادتهم إياهم إلا في الدعاء والذبح والالتجاء ونحو ذلك وإلا فهم مقرون أنهم عبيده وتحت قهره وأن الله هو الذي يدبر الأمر ولكن دعوهم والتجأوا إليهم في الجاه والشفاعة، وهذا ظاهر جدّا.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
نشهد أنَّ لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى الآل والصحب أجمعين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم نسألك علما نافعا وعملا صالحا وخالصا.
اللهم نعوذ بك أن نَضل أو نُضل أو نَزل أو نُزل أو نَجهل أو يُجهل علينا.
اللهم اجعل قلوبنا خاشعة لك وعيوننا دامعة لك.
اللهم وهيئ لنا من أمرنا رشدا، نعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات ومن فتنة المسيح الدجال ومن فتنة القبر.
وهذه صلة للكلام على ما قرره إمام هذه الدعوة رحمه الله تعالى في كشف شبهات المشركين، فإن المشركين لهم شبهات متنوّعة قد مرّ معنا أعظم شبهاتهم وأكثرها تفصيلا.
ثُم يأتي الآن من شبهاتهم ما انتشر فيهم؛ لكنه عن طريق المكابرة والجهل، فقال طائفة منهم إنهم لا يعبدون إلا الله وإنّ الالتجاء للصالحين وسؤال الصالحين ودعاءهم والاستغاثة بهم ليس بعبادة، وهذا هو الذي ذكره الإمام رحمه الله في قوله (فإن قال أنا لا أعبد إلا الله)، وإذا قال الشيخ في هذا الكتاب (فإن قال) فلا يستحضر أن الذي قول الشبهة هو الذي قال بالشبه التي قبلها؛ بل هو يستحضر جنس المدلين بالشبه، فقال (فإن قال) يعني الذي يورد الشبهة أو الذي يقع في الشرك، وقد يكون من الأولين وقد لا يكون.
قال (فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله وهذا الالتجاء إلى الصالحين ودعاؤهم ليس بعبادة) وهذه يقولها كل مشرك فإنه ما من مشرك يُقِرُّ على نفسه بالشرك وبأنه يعبد غير الله جل وعلا لأن هذه الأمة ببعثة محمد ﷺ أُنقذت من الشرك إلى التوحيد ومن عبادة غير الله إلى عبادة الله وحده دونما سواه.
وكل أحد من هذه الأمة يقول: أنا لا أعبد إلا الله. وقد يكون مصيبا في قولِه، وفعلُه يحقق قوله، وقد يكون ضالا يقول شيئا وهو يخالفه إلى غيره.
وهذه المخالفة ناتجة عن أنه يظن أنّ ما يفعله من صرف العبادة لغير الله أنه ليس بشرك وليس بعبادة، فعنده أن الدعاء؛ دعاء غير الله ليس بعبادة، وأن الالتجاء إلى الصالحين وسؤال الأولياء الأموات كشف الكرب ورفع الضر والشفاعة وأشباه ذلك أنه ليس من العبادة، وكذلك يزعمون أن النّحر لهم وأن الذبح ليس بعبادة، وأنّ النذر لهم ليس بعبادة، وهكذا، ما من صورة شركية يفعلها أهل الشرك إلا وإذا احتججت عليهم بأنّ فعلهم شرك قالوا نحن لا نعبد إلا الله، وهذه الأشياء التي نفعلها ليست بعبادة، وإنما هي للوسيلة، وأما العبادة إنما هي لله وحده دونما سواه.
وهذا القول منهم دعوى بلا برهان ولا دليل؛ بل هم المشركون الذين عبدوا مع الله جل وعلا غيره، قال رحمه الله مقررا لشبهتهم ومستحضرا الجدال والحجاج مع رجل منهم (فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله وهذا الالتجاء إلى الصالحين ودعاؤهم ليس بعبادة فقل له) فترتَّبت هذه الشبهة على مرتبتين:
الأولى: زعمه أنه لا يعبد إلا الله.
المرتبة الثانية: زعمه أنّ الالتجاء للصالحين ودعاء الصالحين بأنواع الدعاء من الاستغاثة والاستعانة والاستشفاع إلى آخره أنه ليس بعبادة.
والثانية هي التي قادتهم إلى الأولى؛ لأجل عدم وضوح الثانية قالوا إنهم لا يعبدون إلا الله، فلهذا الشيخ رحمه الله ابتدأ بالثانية لأنها هي وسيلة إثبات صحة الأولى أو خطأ المرتبة الأولى.
قال (فقل له أنت تقر أن الله افترض عليك إخلاص العبادة وهو حقه عليك) فتسأله وتقول له: هل تقر بأن الله فرض عليك إخلاص العبادة وأنّ العبادة حق الله عليك؛ لأن الله أمر بها في القرآن في قوله ﴿فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾[غافر:14]، وفي قوله جل وعلا في سورة الزمر ﴿قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي(14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ﴾[الزمر:14-15]، وكذلك قوله في آية البينة، وغير ذلك من الآيات الكثيرة التي فيها إثبات وجوب الإخلاص لله جل وعلا، وهذا نوع من الأدلة التي فيها الأمر بالإخلاص.
والنوع الثاني من الأدلة الذي فيه الأمر بالإخلاص بيان أن المشرك الذي لم يخلص لله جل وعلا أنه كافر ([42]) وأنه من أهل النار، كقول الله جل وعلا ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾[الكهف:110]، وكقول الله جل وعلا ﴿وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾[المائدة:72] ونحو ذلك من الآيات التي فيها بيان مصير المشرك الذي جعل مع الله في العبادة غيره؛ يعني لم يخلص دينه لله، وأشباه ذلك من الأدلة.
فتقول له: أنت تُقِر بأن الله فرض عليك إخلاص العبادة وهو حق الله عليك. وكل منتسب للقبلة يقول: نعم أنا مُقِر أن الله جل وعلا فرض علينا الإخلاص -إخلاص العبادة-، وأن إخلاص العبادة حق الله علينا.
قال الشيخ (فإذا قال: نعم. فقل له: بيِّن لي الذي فرض عليك وهو إخلاص العبادة لله وحده) تسأله عن بيان هذا الذي يقر أن الله فرضه عليه، وكثير بل الأكثر من المشركين جهّال؛ لا يعلمون معنى العبادة، ولا يعلمون معنى الإخلاص، ولا يعلمون معنى الذي فرض الله جل وعلا عليهم، ولهذا فإذا سألته عن هذه فإنه لن يجيب؛ بل سيقول لا أعرف معنى العبادة أو لا أعرف جواب هذا؛ بل إخلاص العبادة لله أن أصلي لله وأزكي لله وأشباه ذلك، فإنه يجعل الإخلاص في بعض الصور.
لهذا قال الشيخ رحمه الله (فإن كان لا يعرف العبادة ولا أنواعها فبينها له بقولك) إلى آخره، (فإن كان لا يعرف العبادة ولا أنواعها فبينها له)، وهذا خلوص منه في الحجاج إلى تعليم الجاهل، فإن المحتج على الخصم لا يسوغ أن ينزِّله دائما منزلة المعاند أو أن يجعله معاندا فيُغلظ به في القول ويغلظ له في الحجة؛ لأنه ربما نفر من ذلك وانتصر لنفسه وترك سماع الحجة، فإنك تستدرجه حتى يُقِرَّ بأنه جاهل، فإذا أقر بأنه جاهل لا يعرف معنى العبادة ولا يعرف معنى الإخلاص ولا يعرف معنى الدعاء وأشباه ذلك، فإنك تبين له ذلك حتى تقوم الحجة على أفراد واضحة في قلبه وفي عقله وذهنه.
لهذا هذا الحوار الذي ذكره إمام الدعوة فيه فائدة عظيمة ذكرتُها لك الآن؛ وهي أنه من أقوى وأنفع وسائل الحجاج أن تنزِّل من أمامك منزلة الجاهل، حتى تنقلب معه إلى معلم غير مناظر؛ لأنّ المعلم دائما أعلى من المتعلم؛ أعلى من جهة الحجة وأعلى من جهة قَبول المتعلم لما يقول، فإنّ المقابل لك إذا أحسّ أنه عند علما ليس عنده فإنه سيصير إلى الاستفادة منك، وهذا يثير كثيرا من النفوس في قَبول الحق إذا علم أنه جاهل بما أَوْجب الله جل وعلا عليه وهو يدعي شيئا يجهله، فهذه وسيلة من الوسائل العظيمة في الحجة وفي جواب الشبهة.
فإذن نستفيد من هذا أننا إذا رأينا من هو مشرك بالله جل وعلا أو من جادل عن نفسه بأنه ليس بمشرك فإنه لا يَحسُن أن يُنَزَّل دائما منزلة المعاند الذي تقام عليه الحجة بنوع من الشدة والغِلظة؛ بل يُنظر في أمره ويستدرج حتى يجعله في منزلة الجاهل، وإذا كان كذلك فإنك تقيم عليه الحجة وتعلمه دين الله جل وعلا.
قال (فإن كان لا يعرف العبادة ولا أنواعها فبينها له) والعبادة سبق أن أوضحنا معناها في شرح ثلاثة الأصول وفي كتاب التوحيد، وأنَّ العبادة تحصل معرفتها في الأدلة من الكتاب والسنة بنوعين من الاستدلال:
أما النوع الأول من الاستدلال: فالنصوص التي فيها الأمر بالعبادة بعبادة الله وحده دون ما سواه، وأن من صرف العبادة بغير الله فهو كافر مشرك.
كقول الله جل وعلا في الأول ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أعْبُدُوا رَبَّكُمْ الذِي خَلَقَكُمْ﴾[البقرة:21] الآية في أول البقرة.
ومن الثاني قول الله جل وعلا في آخر سورة المؤمنون ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾[المؤمنون:117]، ومن السنة قول النبي ﷺ «الدعاء هو العبادة».
فإذا بينت له هذه الأدلة بعامة فتقول له: العبادة نعلم أن هذا الشيء عبادة لأن الله جل وعلا أمر به أو أمر به رسوله ﷺ، فإذا كان هذا الشيء مأمورا به علمنا أنه عبادة؛ لأن الله جل وعلا لم يأمرنا إلا للتعبّد، فصحّ أن هذا الذي أُمِرنا به أمر إيجاب فإنه عبادة وكذلك أمر استحباب. فتقول له:
أمرنا الله جل وعلا بإخلاص الدين له، فإذن إخلاص الدين لله عبادة.
أمرنا الله جل وعلا بخوفه، فالخوف عبادة.
أمرنا الله جل وعلا برجائه، فالرجاء عبادة.
أمرنا الله بالصلاة، فالصلاة عبادة.
أمرنا الله بالزكاة، فالزكاة عبادة.
أمرنا الله بالنحر، فالنحر عبادة.
أمرنا الله بكذا وكذا فهذه عبادات، وهذا النوع الأول من الاستدلال.
والنوع الثاني: ما جاء في كل مسألة من تلك المسائل التي عددناها من العبادة؛ لأن الله أمرنا بها، ما جاء في كل مسألة من دليل خاص يُثبت وجوب اختصاص الله جل وعلا بهذا النوع من العبادة.
فإذن الدليل الأول دليل عام، تقول: إن هذا الشيء قد أمر الله جل وعلا به فهو عبادة والله جل وعلا أمرنا أن نعبده دون ما سواه وأخبرنا أنّ من عبد غيره فإنه مشرك كافر.
والنوع الثاني من الأدلة والاستدلال ما كان في كل مسألة بحسبها فنقول مثلا: أمر الله جل وعلا بإفراده بالعبادة بقوله ﴿إَيَّاكَ نَعْبُدُ﴾[الفاتحة:5] فقدّم المفعول على الفعل والفاعل ليفيد الاختصاص؛ اختصاص العبادة به وقصر العبادة عليه وحده دونما سواه، وقال ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾[الفاتحة:5]، فقدّم المفعول على الفعل من المفاعيل والفاعل ليدلنا على أن الاستعانة في العبادة إنما تكون بالله جل وعلا وحده هو المختص بها، وكذلك قوله جل وعلا ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(162)لَا شَرِيكَ لَهُ﴾[الأنعام:162-163]، فيها أنَّ هذه الأشياء لله وحده المستحقة؛ يعني الصلاة والنسك مستحقة لله دون ما سواه لا شريك له.
كذلك تأتي للإنابة والتوسل فتقول قال الله جل وعلا ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾[هود:88]([43])فدل على أن التوكل عليه وحده دون ما سواه لأنه قدم الجار والمجرور على ما يتعلق به وهو الفعل فدلّ على اختصاص التوكل بالله جل وعلا؛ يعني بأن التوكل يكون عليه وليس على غيره، وكذلك الإنابة فإنها إليه لا إلى غيره، وهكذا في غيرها من المسائل.
وكذلك الدعاء فإن الدعاء أمر الله بدعائه وحده فقال ﴿فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾[غافر:14]، وقال﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾[الجن:18].
إذن فتوضح له معنى العبادة، ثم توضح له الأمر بالعبادة بأن يعبد الله دون ما سواه، ثم تبين له ما أمر الله به إن كل مسألة مما أمر الله به أنها تدخل في العبادة؛ فدخل الذبح في العبادة، ودخلت الصلاة في العبادة، ودخل الخوف في العبادة، ودخل التوكل في العبادة، ودخلت الاستغاثة في العبادة، ودخل الرجاء في العبادة، إلى آخر مفردات توحيد العبادة، ثم بعد ذلك تقيم عليه الدليل الثاني أو النوع الثاني من الأدلة والاستدلال بأنّ الله في القرآن والنبي ﷺ في السنة جعل هذه الأنواع مختصة به وحده دون ما سواه، فصار الدليل من جهتين:
· من جهة دخولها في العبادة والله أمر بعبادته وحده دون ما سواه.
· ومن جهة أن الله جعلها مختصة به دون ما سواه.
وهذان نوعان من الأدلة يكثر أفرادهما، وتكثر الآيات والأحاديث في كل واحد من هذين النوعين.
فإذا بينت له ذلك فقد تم البيان في إيضاح أن هذه المسائل من العبادة.
والشيخ رحمه الله تعالى مثل بذلك بمثال، بمثال في الدعاء لأن الدعاء هو الذي يدخل فيه كثير من الصور، فقال (فبيّنها له بقولك: قال الله تعالى ﴿ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾)، وفي قوله رحمه الله (فبيّنها له بقولك: قال الله تعالى) أنَّ حجة الموحد يجب أن تكون دائما بالأدلة وألاّ يحتج بحجج عقلية لأنه قد يكون الخصم عنده من العقليات ما ليس عند الموحد فيغلبه إما بتأصيل أو برد إلى المنطق أو ما أشبه ذلك فتضعف حجة الموحد؛ ولكن يبين له الحجة بأدلة ثم يوضح له وجه الاستدلال من الدليل، قال(فبيّنها له بقولك: قال الله تعالى ﴿ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾) ووجه الاستدلال من هذا الدليل أن الله جل وعلا أمرنا بدعائه، فيكون الدعاء عبادة لأنه مأمور به، وأمر بدعائه تضرعا وخفية، وسبب ذلك أن المشركين يدعون آلهتهم التي يعبدونها مع الله أو من دونه يدعونها جِهارا يدعونها برفع الصوت، والله جل وعلا حي سميع بصير أقرب إلى الداعي من نفسه ومن عُنق راحلته، فلما أمر الله جل وعلا بذلك علمنا أن هذا مخالفة لصنيع المشركين، قال سبحانه (ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً) وذلك لأنه سبحانه يعلم السرَّ وأخفى، وقد قال الحسن رحمه الله تعالى: ما كان دعاؤهم إلا فيما بينهم وبين ربهم إلا همهة. أو قال: إلا حديثا بينهم وبين ربهم حتى إنه يدعو الداعي والرجل بجنبه لا يسمعه. في حديثٍ له ساقه ابن جرير رحمه الله تعالى في تفسيره ونقله عنه أيضا ابن كثير وجماعة، فالتضرع والخُفْيَة صفة الداعي.
فنقول له: أليس الدعاء ؛ دعاء الرب جل وعلا على هذه الحالة عبادة لله جل وعلا، (فلابد أن يقول نعم والدعاء مخ العبادة) يعني أن الدعاء لب العبادة، فإن العبادة أنواع وأعظم أنواعها الدعاء، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام «الدعاء هو العبادة» تعظيما لشأن الدعاء، كما قال «الحج عرفة»، فالدعاء مخ العبادة ومعظمها ولبها، ولهذا قال الشيخ رحمه الله (فلابد أن يقول: نعم)، (والدعاء مخ العبادة) هذه جملة استطرادية، (فقل له: إذا أقررت أنه عبادة) لأنّ الخصم لابد أن يقر أن دعاء الله وحده عبادة، قال(إذا أقررت أنه عبادة ودعوتَ الله ليلاً ونهارًا خوفًا وطمعًا، ثم دعوت في تلك الحاجة نبيًا أو غيره) تبدأ تناقشه في تعريف العبادة وما قدمنا تقول: إذا دعوت الله وحده ليلا ونهارا في حاجة خوفا وطمعا، ثم في هذه الحاجة بعينها سألت الوليَّ أو الميت أو صاحب السّر أو صاحب المشهد أو صاحب القبة أو ما أشبه ذلك، دعوته وسألته هذا السؤال، هل يكون هذا شركا في العبادة أم لا؟ فلابد أن يقول: نعم. لم؟ إلا أن يكون مكابرا، لابد أن يقول: نعم. لأن عين الشيء سأله الله جل وعلا ودعا به الله وحده طمعا وخوفا ورجاء ليلا ونهارا ثُم تَوَجَّه به إلى غير الله في الحاجة عينها، فلابد أن يقول: نعم، سألتُ الله الحاجة وسألتُ الولي الحاجة، فيقول: نعم هذا شرك بالله جل وعلا، لهذا قال الشيخ رحمه الله (فقل له: إذا أقررت أنه عبادة ودعوت الله ليلاً ونهارًا خوفًا وطمعًا، ثم دعوت في تلك الحاجة نبيًا أو غيره هل أشركت في عبادة الله غيرَه؟ فلابد أن يقول: نعم، فقل له: فإذا عملت بقول الله تعالى ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾[الكوثر:3]) هذه صورة ثانية، الصورة الأولى في الدعاء، الصورة الثانية في النحر قال (فإذا عملت بقول الله تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾) يعني انحر لربك ولا تنحر لغيره، ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(162)لَا شَرِيكَ لَهُ﴾[الأنعام:162-163]، قل له إذا نحرتَ لله وحده وذكرتَ اسم الله على الذبيحة ونحرت الإبل أو البقر أو ذبحت الذبائح متقربا بها إلى الله جل وعلا هل هذا عبادة؟ فسيقول: نعم هذا من أعظم العبادات؛ لأن الذبح في الأضاحي والنحر في الحج وأشباه ذلك، هذا من أعظم العبادات لله جل وعلا، (فقل له: إذا نحرت لمخلوق) يعني تقربت بهذا الدم لمخلوق كما فعلت بأن تقربت بدم آخر لله فتقربت بالدم لمخلوق، فما الفرق بين هذا وهذا؟ لا فرق؛ لأنك تقربتَ بالذبح الأول لله، وبالذبح الثاني تقربت للنبي أو لولي أو لصالح، أو لجني تخاف شره أو لساحر أو ما أشبه ذلك، (هل أشركت في هذه العبادة غير الله؟ فلا بد أن يُقِرَّ ويقول: نعم) لأنه لا مفرّ له، فعين الفعل فعلته لله والفعل عينه فعلته لغير الله، فهل هذا شرك أم لا؟ فلابد أن يقول: إن هذا النوع عبادة لغير الله؛ لأني قصدت بها غير الله، وذاك عبادة لله لأني قصدت بها الله جل وعلا. ولا يمكن أن يقول في الصورة الثانية: إن هذا ليس بعبادة ولم أقصد بها غير الله؛ لأنه حين فعل تقرُّبا إلى الله بالذبح أقر بأن الذبح عبادة وحين توجه إلى غير الله بهذا الذبح وإراقة الدم أقرّ بأن هذه العبادة توجه بها لغير الله، فلابد إذن أن يقول: نعم. للحجة.
وهذا تمام الوجه الأول من هذا الاحتجاج، وهو ظاهر بين قوي في أن يُتدرج مع المشرك ومع هذا الذي يَعبد غير الله ويدعو غير الله ويستغيث بغير الله -نعوذ بالله من الخِذلان- أو يذبح لغير الله أو أنواع الصور الشركية، فإنه يُتدرج معه في هذا حتى يُقر بأنّ الحجة واضحة، وأنه إذا فعل ذلك فقد عَبَد مع الله جل وعلا غيره، نسأل الله السلامة والعافية.
وعلى هذا الاحتجاج ولابد أن يقر، وما أُمر به فهو عبادة هذا بالاتفاق العلماء، فإنْ جادلت عالما فإنه إن لم يكن مكابرا فسيُقر بأن ما أمر به عبادة؛ لأنّ الله جل وعلا لا يأمر بشيء ويكون مباحا، لابد أن يكون عبادة، إما أن تكون عبادة واجبة أو أن تكون عبادة مستحبة يترتب عليها الثواب.
وإذا كان لا يعلم فليس بعالم فتدرجه مثل ذكرنا مثل ما ذكر الشيخ رحمه الله، حتى ولو كان عالما فإنك إذا ذكرت هذه الحجج مع المقدمات التي ذكرنا فإنها أبلغ ما يكون من الحجاج معه.
والْحَظْ أن الشيخ رحمه الله صار هذا النوع من الحجاج لتجربته ولكثرة ما جادل عن المشركين، فهو أعلم رحمه الله بالحجة الأقوى وبالشبه التي أدلى بها الخصوم وكيف تُكْشَف هذه الشبه، هذا نوع.
وأما النوع الثاني قال (وقل له أيضًا) يعني هذه الوجهة الثانية، وهذه الوجهة أيضا متجهة إلى المرتبة الثانية فيما قاله المشرك حيث قال: هذا الالتجاء إلى الصالحين ودعاؤهم ليس بعبادة. فبينا له أنه عبادة بما ذكرنا له أولا.
فإذن تكون النتيجة أنه يعبد غير الله، فيكون.. قوله: أنا لا أعبد إلا الله. قول ليس له نصيب من الصحة؛ بل هو قول مجرد دعوى.
النوع الثاني قال (وقل له أيضًا)وهذا وجه آخر من الحجة (المشركون الذين نزل فيهم القرآن هل كانوا يعبدون الملائكة والصّالحين واللاتّ وغير ذلك؟) فإنه (لا بد أن يقول: نعم.) إن كان عارفا لما حصل من المشركين، وإن كان غير عالم بذلك فتُقيم عليه الحجة بإيضاح حال شرك المشركين بما قدمناه لك في الدروس السابقة، فإذا أقمت عليه ذلك وأوضحته فلابد أن يقول: نعم. لأن القرآن أوضح ذلك أتم إيضاح.
قال (فقل له: وهل كانت عبادتهم إياهم إلا في الدعاء والذبح والالتجاء ونحو ذلك) عبادتهم لآلهتهم فيما كانت؟ إنما كانت في الدعاء كانوا يدعونهم قال ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾[الزمر:3]، يعني ما ندعوهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، وكانوا يذبحون لغير الله،كما في حديث ثَابِت بن الضّحّاكِ t، أنَّ رَجُلا نَذَرَ أنْ يَنْحَرَ إبِلاً بِبُوَانَةَ، فسأل النبي ﷺ فقال له: «هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أوْثَانِهم؟». قال: لاَ. قالَ: «فهَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أعْيَادِهِمْ؟» قال: لاَ. قالَ: «فأوْفِ بِنَذْرِكَ»، فدل قوله (هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أوْثَانِهم) أنهم كانوا يذبحون للأوثان، فإذن تعبد المشركين بالذبح وبالنذر وبالدعاء ونحو ذلك هذا أمر معروف، ولم يكن شركهم من جهة أنهم يصلون لهم، أو أنهم يزكون لهم أو أنهم يحجون لها؛ لهذه الآلهة؟ لا، كانوا يحجون لله وكانوا يصلون لهم صلاة وكانوا يغتسلون من الجنابة وكانوا يذكرون الله ونحو ذلك مما ذكرناه من أنواع العبادات في أول هذا الشرح، إنما كان شركهم من جهة أنهم يدعون غير الله ويذبحون لغير الله ويلتجئون لغير الله ويتخذون تلك الآلهة والأولياء والأنبياء وُسطاء بينهم وبين الله جل وعلا.
قال (وهل كانت عبادتهم إياهم إلا في الدعاء والذبح والالتجاء ونحو ذلك. وإلا فهم مقرون أنهم عبيد الله وتحت قهره) يعني بما قال الله جل وعلا في آيات كثيرة في إقرار المشركين بالربوبية، (وأن الله هو الذي يدبر الأمر ولكنهم دعوهم والتجأوا إليهم بالجاه والشفاعة، وهذا ظاهر جدا)، لاشك أنه ظاهر جدا وحجة واضحة مبنية على فهم حال المشركين، وقد أوضحنا حالهم مفصلا في أول شرح هذا الكشف المبارك .
بعدها انتقل إلى مسألة الشفاعة، وهي مسألة طويلة تحتاج منا إلى درس مستقل فنرجئها إن شاء الله تعالى.
[الأسئلة] نجيب عن بعض الأسئلة.
س1/ كثير مما شُرح في الدرس الماضي لم يُفهم لدى كثير من الإخوة، ولم نفهم إلا أشياء مما كانت تكرارا لبعض ما سبق؟
ج/ هذه مشكلة؛ لكنها ليست مشكلتي، إنما هي مشكلة من حضر هذا الدرس دون مقدمات؛ لأن كشف الشبهات في الحقيقة ترددتُ كثيرا مثل ما تذكرون في الابتداء به؛ لأنه لا يصلح إلا لمن ضبط ثلاثة الأصول بشرحها، وضبط كتاب التوحيد بشرحه، فينتقل إلى فهم كتاب كشف الشبهات، هذا من جهة.
والجهة الأخرى أن أوائل هذا الشرح فيها كثير من المقدمات التي نحيل إليها فمن لم يستحضر ما ذكرناه في المقدمات في أوائل هذا الشرح ربما يخفى عليه بعض المقدمات التي ينبني عليها الحِجاج.
وكما قال الشاعر:
غيري جنى وأنا المعذَّبُ فيكم فكأنني سبابة المتندم
س2/ شخص ذهب إلى القبر ولكن لم يدعُ صاحب القبر، ولكنه التجأ إلى الله بإخلاص وصدق أن يكشف كربته، ولم يكن لصاحب القبر عند الدعاء شيء في قلبه، ولكن دعا الله بصدق هل هذا العمل جائز؟
ج/ الجواب أن هذا العمل بدعة وخيمة ووسيلة من وسائل الشرك؛ لأنّ تحري إجابة الدعاء عند قبور الصالحين والأولياء هذا يفضي إلى اعتقاد أنّ لهم حرمة وأنّ لمكان قبرهم خصوصية، فيؤدي إلى التوسل بهم وإلى الاستغاثة أو الاستشفاع بهم، فالله جل وعلا يُسأل الحاجات بأي مكان، وأعظم الأمكنة التي يدعى الله جل وعلا فيها المساجد وهي أحق البقاع إلى الله، فمن أراد أن يُجاب طلبه وأن يُعطى ما سأل فليتحرّى الأمكنة التي يحبها الله جل وعلا في المساجد وشبه ذلك وحِلق الذكر، وليتحرّى أيضا أوقات الدعاء التي يجاب فيها، ويتحرّى الدعاء الجامع ويتوسل إلى الله جل وعلا بأسمائه وصفاته، ويكون عنده اضطرار وأشباه ذلك مما هو من أسباب إجابة الدعاء.
أما من دعا عند قبر لنفسه سأل الله جل وعلا ولو كان مخلصا فإنه مبتدع آثم على أمرٍ أكبر من الكبائر.
... لا، القبر ليس الفائدة منه أن تدعو عنده، القبر الفائدة منه أن تتذكر الآخرة، «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة»، «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة» والزيارة المشروعة هي التي فيها تذكّر والسلام على الأموات المسلمين وسؤال الله جل وعلا لهم والدعاء للميت، ويجوز أن يدعو لنفسه عَرَضا مع الدعاء للميت دون القصد، فأما أن يتحرى الدعاء عند القبور فهو بدعة، أو أن يقصد الدعاء لنفسه عند القبور فهو بدعة أيضا؛ لكن يدعو بنفسه عرضا مع الدعاء للميت كما كان عليه الصلاة والسلام يقول إذا زار القبور «نسأل الله لنا ولكم العافية» فهذا على جهة العرض لا القصد.
س3/ قال: قلت أن المشرك لا يشهد على نفسه بأنه مشرك فما معنى قوله تعالى ﴿شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالكُفْرِ﴾[التوبة:17]؟
ج/ الشهادة في هذه الآية شهادة بلسان الحال لا بلسان المقال كما قال ابن كثير وغيره من المفسرين، الشهادة هنا كالشهادة في قوله جل وعلا ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا﴾[الأعراف:172]، فهذه شهادة بلسان الحال لا بلسان المقال.
س4/ هل يجوز التوجه بالدعاء إلى الله بالتوسل بجاه محمد عليه الصلاة والسلام أو بحق الصالحين من عباد الله؟
ج/ الجواب أن التوجه أو التوسل في الدعاء بالجاه بدعة ووسيلة من وسائل الشرك، فلا يجوز أن يدعو متوسلا إلى الله بجاه نبيه أو بجاه عبد صالح أو بالحرمة أو بالمكانة أو ما أشبه ذلك..... ([44])
والاعتداء في الدعاء بأن يدعو بما لم يؤذن به، هذا من جهة.
والثانية أن هذا الدعاء وسيلة إلى الشرك بهؤلاء باعتقاد عظمتهم أو أنهم يشفعون أو ما أشبه ذلك.
والثالث أن السؤال بالجاه بجاه فلان وبحرمته سؤال بأمر أو بشيء أجنبي عن السائل وعن الداعي، والمشروع أن تسأل بشيء لك أو بشيء تملكه كالسؤال والتوسل بالعمل الصالح أو أن تسأل بأسماء الله جل وعلا وبصفاته أو أن تسأل الله جل وعلا بإيمانك وطاعتك لله، فهذا توسل بأمر لك وليس بأجنبي عنك، وعمل غيرك وحرمته وجاهه له وليس لك.
ولهذا ترك الصحابة رضوان الله عليهم هذا السؤال وهذا الدعاء فإنه اعتداء وبدعة ووسيلة إلى الشرك.
س5/ تقول كل ما أمر الله به عبادة وقد قال تعالى ﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا﴾[البقرة:109] هل هذا عبادة؟
ج/ نعم إذا عفا متقربا بالعفو إلى الله جل وعلا فقد تعبَّد، وإذا صَفَحَ متقربا بالصفح إلى الله جل وعلا فقد تعبّد؛ لأن المأمور به عبادة إذا تقرب به، أما إذا فعله هكذا من غير قربة فليس بعبادة.
س6/ ما حكم قول بعض الصحف إن الغبار الذي أتى مدينة الرياض هو بسبب دخول فصل الخريف؟
ج/ إذا كان قول هذا القائل يعني به أنّ هذه الفصول تسبب هذه المتغيرات الكونية فإن هذا لا يجوز ومحرم وهو نوع شرك بالله جل وعلا، وإذا كان يجعلها زمنا وظرفا ووقتا أجرى الله جل وعلا سنَّته أنه يحصل في هذا الوقت هذه الأشياء هذا لا بأس به، فيفرَّقُ في هذا الباب ما بين الباء التي للسببية و(في) التي للظرفية.
فمثلا نقول: في الوسم تأتي الأمطار؛ لكن ليس معناه أنه بالوسم يأتي المطر، وإنما أجرى الله سنَّتَه أنه في هذا الوقت الذي هو طلوع هذا النجم الذي هو الوسم وأشباه ذلك، طلوع أنجم يكون عنها الوسم، هذا ظرف ووقت يحصل فيه أنواع من سنة الله جل وعلا في كونه، إذا جاء نجم كذا جاء البرد؛ لكن مجيء البرد ليس بسبب النجم وإنما ظهور النجم وقتٌ للبرد؛ مثل ما يكون ظهور الهلال وقت لدخول الشهر، وليس هو الذي أدخل الشهر، وأشباه ذلك.
فإذن هذه الأشياء الفصول والأنجم إذا جُعلت ظرفا ووقتا فلا بأس، وإذا جُعلت سببا باستخدام الباء؛ باء السببية فإن هذا كقول من قال مطرنا بنوء كذا وكذا .
وبهذا القدر كفاية وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
¹
[المتن]
فإن قال: أتنكر شفاعة رسول الله ﷺ وتبرأ منها؟
فقل: لا أنكرها ولا أتبرّأ منها؛ بل هو ﷺ الشَّافع والمشفَّع وأرجو شفاعتَه؛ ولكن الشفاعة كلَّها لله تعالى كما قال تعالى ﴿قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا﴾[الزمر:44]، ولا تكون إلا بعد إذن الله كما قال تعالى ﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾[البقرة:255]، ولا يَشْفَعُ في أحد إلا بعد أن يأذن اللهُ فيه، كما قال تعالى ﴿وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى﴾[الأنبياء:28]، وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد، كما قال تعالى ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ﴾[آل عمران:85].
فإذا كانت الشفاعة كلُّها لله ولا تكون إلا من بعد إذنه، ولا يشفع النبي ﷺ ولا غيرُه في أحد حتى يأذن الله فيه، ولا يأذن اله تعالى إلا لأهل التوحيد، تبيّن لك أن الشفاعة كلَّها لله وأطلبها منه فأقول: اللهمَّ لا تحرمني شفاعته، اللهمَّ شفّعه فيّ، وأمثال هذا.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
اللهم نسألك علما نافعا وعملا صالحا وقلبا خاشعا.
اللهم نعوذ بك أن نذل أو نذل أو نضل أو نضل أو نجهل أو يجهل علينا.
وقفنا عند قول الإمام المصلح المجدد رحمه الله تعالى (فإن قال: أتنكر شفاعة رسول الله ﷺ وتبرأ منها؟ فقل: لا أنكرها ولا أتبرأ منها؛ بل هو ﷺ الشَّافع والمشفَّع وأرجو شفاعته، ولكن الشفاعة كلُّها لله) شفاعة النبي ﷺ جنس تحته أنواع، فهو عليه الصلاة والسلام يشفع يوم القيامة؛ في أنواع من الشفاعة وأعظمها وأجلُّها شفاعته عليه الصلاة والسلام في أهل الموقف أن يُعَجَّل لهم الحساب بعد أن نالهم من الكرب والشدة ما جعلهم يستغيثون به عليه الصلاة والسلام في عرصات القيامة في ذلك الموقف العظيم، وهذا هو المقام المحمود الذي خصّ الله جل وعلا به محمدا عليه الصلاة والسلام كما قال سبحانه ﴿عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾[الإسراء:79]، وهذا المقام المحمود هو شفاعته عليه الصلاة والسلام في الناس جميعا لكي يُفْصَلَ بينهم ولكي يعجل لهم الحساب، ولهذا جاء في حديث جابر وغيره أنَّ النبي ﷺ قال «من سمع النداء فقال مثل ما يقول المؤذن ثم قال -في الدعاء المعروف بعد الأذان-: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آتِ محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته. إلاّ حلت له شفاعتي يوم القيامة». وذلك أنه سأل الله جل وعلا لنبيه ﷺ المقام المحمود وسأل له الوسيلة والفضيلة ([45]) وهي متحققة للنبي عليه الصلاة والسلام؛ ولكن السائل إذا دعا الله جل وعلا بذلك وسألها للنبي ﷺ ففي سؤاله ذلك له عليه الصلاة والسلام أنواع من العبادات التي بها استحق أن تَحِلَّ عليه له شفاعة المصطفى ﷺ:
منها يقينه بما وعد جل وعلا نبيه.
ومنها حبه للمصطفى ﷺ ودخوله في أمته ورغبته ومحبته أن يكون عليه الصلاة والسلام أنفع الخلق للناس يوم القيامة، وهو عليه الصلاة والسلام كذلك إذْ خصه الله جل وعلا بالشفاعة.
ومر معنا في شرح الواسطية، ومر معنا في غير ذلك أنواع الشفاعات التي أعطاها الله جل وعلا نبيه محمدا ﷺ في ذلك المقام العظيم يوم القيامة.
فهنا قال (فإن قال: أتُنكر شفاعة رسول الله ﷺ وتبرأ منها؟) هذا يشمل إنكار الشفاعة العظمى والشفاعات الأُخَرْ الشفاعة في أهل المعاصي ألا يدخلوا النار، والشفاعة فيمن دخل النار واستحقها ودخلها أن يخرجه الله جل وعلا منها، والشفاعة في أقوام تساوت حسناتهم وسيئاتهم أن يدخلهم ربهم جل وعلا الجنة، وأشباه هذا.
(فإن قال: أتنكر شفاعة رسول الله ﷺ وتبرأ منها؟ فقل: لا أنكرها ولا أتبرأ منها؛ بل هو ﷺ الشَّافع والمشفَّع)، (الشافع) يعني لما أعطاه الله جل وعلا، (والمشفَّع) فيمن شفع له عليه الصلاة والسلام، فإنه لا يشفع في أحد يوم القيامة إلا أعطاه الله جل وعلا ما سأله وإلا أعطاه الله جل وعلا ما شفع فيه، حتى الكافر -عمُّه- فإنه يشفع فيه عليه الصلاة والسلام ويخفّف عنه من العذاب بسبب شفاعته عليه الصلاة والسلام، فهو عليه الصلاة والسلام الشافع وهو عليه الصلاة والسلام المشفَّع، ونرجوا شفاعته، نرجو أن نكون ممن شفّع الله جل وعلا فيهم نبيه عليه الصلاة والسلام، ونأخذ بأسباب تلك الشفاعة فإن شفاعة المصطفى ﷺ فيمن يشفع فيه هي بإذن الله كما سيأتي ولا تكون إلا فيمن رضيه الله جل وعلا، وهذا يعني أن يبلغ العبد الأسباب التي بها يكون المصطفى ﷺ شفيعا له، وهذه الأسباب كثيرة جاء بيانها في سنة محمد عليه الصلاة والسلام.
قال (وأرجو شفاعته) وكوننا نرجو شفاعة المصطفى ﷺ ونسأل ذلك ببذل الأسباب الشرعية في هذا لا يعني أن نسأل الشفاعة ممن لا يملكها ابتداء؛ بل الذي يملك الشفاعة هو الله جل وعلا لظاهر قول الله جل وعلا ﴿قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا﴾[الزمر:44]، واللام هنا لام الملكية فالشفاعة ملك لله جميعا وجميع أنواعها يملكها الرب جل وعلا، ويعطيها من شاء بشرط الإذن والرضا كما سيأتي.
قال (لكنّ الشفاعة كلَّها لله تعالى كما قال تعالى: ﴿قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا﴾[الزمر:44]).
والشفاعة معناها ضم الداعي والسائل طلبه إلى طلب سائل آخر ليتحقق طلبه، ويكون الشافع -يعني الثاني- أقوى من الأول. هذا في مقتضى اللغة، وهي مأخوذة من الشفع وهو ضد الوِتْر كما قال جل وعلا ﴿وَالفَجْرِ(1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ(2) وَالشَّفْعِ وَالوَتْرِ﴾[الفجر:1-3]، فالشفع مغاير للوتر، وسُمِّي الشافع شافعا والشفيع شفيعا لأنه صار بالنسبة للسائل زوجا وشَفْعا بعد أن كان الطالب والسائل واحدا، فشفع طلبه؛ يعني صار هذا الشافع ثانيا في السؤال، فبدل أن يطلب الشيء واحد في الشفاعة صار الطالب له اثنين، الأول صاحب الحاجة والثاني صاحب الشفاعة.
فإذن الشفاعة حقيقتها ضم الشافع طلَبه لطلب السائل ليحقق له مراده، وهذا عامّ في موارد الشفاعة في اللغة.
فإذن على هذا تكون الشفاعة ممن يمكنه ذلك، فإذا دعا الداعي في الدنيا لأخ من إخوانه أو لمن دعا له فإنه شافع له بالدعاء؛ يعني أنه سأل الله جل وعلا أن يعطي فلانا مطلوبه الذي هو كيت وكيت، وكما جاء في حديث الأعمى المروي في السنن بإسناد حسن أن النبي ﷺ لما جاءه الأعمى يشكو حاله علمه دعاء ثم قال له « فقل اللهم إني استشفع إليك بنبيك محمد ﷺ» وهذا يعني أنه يجعل دعاء المصطفى ﷺ في حياته شافعا له؛ يعني دعا هو بما أوصى عليه الصلاة والسلام ثم رغب في أن يكون الشافع له محمدا عليه الصلاة والسلام؛ يعني الداعي له بما أراده من الرب جل وعلا.
فإذا كان كذلك صارت حقيقة الشفاعة قائمة على أن الشافع يطلب كما طلب الأول وأنه لا يشفع إلا فيمن رضي أن يشفع له، لا يشفع ممن طلب منه الشفاعة رغْمًا عنه؛ يعني إذا سأل سائل آخر أن يشفع له فالشافع لا يشفع إلا إذا رغِب أن يشفع، وليس كل من طلب الشفاعة من الناس، من فلان، من النبي عليه الصلاة والسلام، من أهل العلم، أن يجاب إلى طلبه فيشفع فيه المصطفى عليه الصلاة والسلام ويشفع فيه العلماء إلى آخر ذلك بالدعاء في الدنيا، فإنه قد يطلب ويرد، قد يطلب من الشافع أن يشفع فيقول الشافع لا أشفع لك، والمصطفى عليه الصلاة والسلام هو الذي أنزل الله جل وعلا عليه قوله ﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ ولهذا قال الشيخ رحمه الله (ولا تكون إلا من بعد إذن الله كما قال عز وجل: ﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾[البقرة:255]) وإذْن الله في القرآن وفي الشفاعة نوعان: إذن قدري كوني، وإذن شرعي ديني.
فحصول الشفاعة لا يكون إلا بعد أن يأذن الله بالنوعين:
فالأول الإذن الشرعي: يعني أن يكون هذا المشفوع له ممن أذن شرعا أن يُشفع فيه، ومعلوم أن الله جل وعلا نهى المؤمنين أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى، فقال جل وعلا في سورة براءة ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجَحِيمِ(113)وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾[التوبة:113-114]، فدل هذا على أن الشرع نهى أن يُستغفر للمشرك؛ يعني أن يشفع في مغفرة الذنوب عند الله جل وعلا لأهل الشرك.
وإذا كان كذلك فإن اشتراط الإذن الشرعي؛ يعني أن من طلب الشفاعة من النبي ﷺ في الدنيا وهو من أهل الشرك، أو في الآخرة وهو من أهل الشرك، فإنه لم يؤذن الإذن الشرعي في أن يُشفَّع فيهم أو أن يسأل الشفاعة لهم، وكذلك في البرزخ -وهو ما بين الحياتين الأولى والآخرة وهو حياة خاصة- كذلك فإن من سأل النبي ﷺ الشفاعة وهو في قبره عليه الصلاة والسلام فقد سأل ما لم يؤذن به شرعا، ولهذا الصحابة رضوان الله عليهم ما سألوا النبي ﷺ في الشفاعة بعد موته، وكذلك ما سألوا شهداء أحد الشفاعة، والشهداء يشفعون كما جاء في الحديث؛ لأن الشفاعة مشروطة بالإذن الشرعي، ولو حصل من أحد أنه طلب الشفاعة فإنه لو فُرض أنه عليه الصلاة والسلام يشفع في البرزخ فإنّ هذا الذي طلب الشفاعة فإنه أشرك حيث سأل الشفاعة بما لم يؤذن به في الشرع؛ لأنه طلب الشفاعة ممن لم يؤذن له في ذلك والشفاعة كلها لله جل وعلا.
فتحصَّل لنا من الشرط الأول وهو الإذن أنه ينقسم إلى قسمين:
· الإذن الشرعي وهو أنْ يكون الله جل وعلا أذِنَ للشافع أن يشفع الإذن الشرعي.
· وكذلك أذن للمستشفع أن يطلب الشفاعة الإذن الشرعي.
وربنا جل وعلا قال في الشافع ﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾[البقرة:255] يعني لا أحد يشفع عند الله جل وعلا إلا بعد أن يأذن الله جل وعلا الإذن الشرعي، فإن أهل الإيمان من الرسل والأنبياء والصالحين والملائكة لا يشفعون لمن لم يؤذن له شرعا لمن خالف الشرع وطلب الشفاعة من غير الله؛ لأن الله جل وعلا قال ﴿قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا﴾[الزمر:44].
فإذن طلب الشفاعة منهي عنه بقوله (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ)، وطلب الشفاعة معناه طلب الدعاء، فالشفاعة وطلب الدعاء واحد، فإذا جاء أحد إلى قبر وقال لصاحب القبر: أسألك أن تدعو الله لي. معناه أنه سأل الشفاعة فهي بمنزلة قوله: أسألك أن تشفع لي. لأن الشفاعة -كما ذكرت لكَ- هي طلب الدعاء؛ ضم الشافع طلبه إلى المشفوع له، فقول القائل لأحد: أسألك أن تدعو لي. يعني أن تشفع لي، وهذا بالنسبة للأموات مهما علت مرتبتهم فإنه لا يجوز، وطلبها منهم لا يوافق إذن الله جل وعلا الشرعي.
إذا تبين ذلك:
فالقسم الثاني من الإذن؛ الإذن الكوني القدري: يعني أنَّ الشافع عند الله جل وعلا لا يشفع ابتداءً كما هو الحال في الدنيا في أحوال الشافعين عند البشر، يأتي ويطلب سواءً كان المشفوع عنده يرضى بهذه الشفاعة أو لا يرضى، يرغب فيها أو لا يرغب، هذا من حال أهل القصور حال أهل الفقر والمسكنة؛ يعني هم أهل الدنيا.
أما ربنا جل وعلا ذو الكمال المطلق وذو الإحسان إلى خلقه وذو الغنى التام وذو القدرة التامة جل وعلا فإنه لا يشفع أحد عنده ابتداءً؛ بل لا يشفع أحد حتى يأذن الله للشافع أن يشفع الإذن الكوني القدري؛ يعني يعلم الله جل وعلا أنّ هذا يريد أن يشفع فيقول له: اشفع، كما ثبت في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام إذا كانت الشفاعة العظمى يوم القيامة ويأتيه الناس قال «فآتي فأخِرُّ بين يدي العرش، فأحمد ربي بمحامد يفتحها عليّ لا أحسنها الآن» يخر ساجدا فيبتدئ بالحمد والثناء على الله جل وعلا، والله سبحانه يعلم أنه يريد أن يشفع، ولا يشفع ابتداءً؛ لأنه لابد من الإذن الكوني لابد أن يقال له: اشفع، قال عليه الصلاة والسلام «فيقول الرب أو فيقول: يا محمد ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع» فهذا يدل على أن الشفاعة يوم القيامة لا يبتدئ بها أهلها حتى يأذن الله جل وعلا لهم في أن يشفعوا، وهذا أصل عظيم في هذا الباب.
إذن الإذن الكوني القدري -بالدليل الذي ذكرت لك- يدلُّ على أن هذا الذي شفع لا يملك الشفاعة، وإنما هو محتاج لأنْ يشفع كما أنّ الطالب محتاج في أن يُشفع له، والله جل وعلا هو الذي يملك الشفاعة، فالنبي عليه الصلاة والسلام لا يملكها فيشفع شفاعة من يملك، وإنما هو يرجو أن يُقبل منه أن يشفع، كما جاء في هذا الحديث ودِلالته واضحة على ما ذكرنا.
إذن قوله جل وعلا (مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِه) يعني لا أحد يشفع عند الله جل وعلا إلا بإذنه سبحانه الشرعي وبإذنه سبحانه القدري، فإن شفع من لم يأذن الله فيه شرعا فإنه لا تقبل شفاعته مثل ما شفع نوح عليه السلام في ابنه قال ﴿رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ﴾[هود:45]، فأجابه ربنا جل وعلا بقوله ﴿يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ﴾[هود:46] الآيات.
فإذن دلَّ على أنه إذا ابتدأ أحد في أن يشفع فيمن لم يُؤذن له بالشفاعة شرعا فإنه لا تقبل شفاعته وترد عليه، وأما الإذن الكوني فإنه في الآخرة لا يحصل يعني بعد الموت لا تحصل الشفاعة ولا تقع إلا بعد الإذن الكوني.
أما في الدنيا فإنه قد يشفع أحد فيؤذن له كونا بالشفاعة بحسَب إرادته، فيبتدئ بالشفاعة ثم ترد عليه إن لم يكن شفاعته موافقة للإذن الشرعي أو لم تكن شفاعته موافقة لحكمة الله جل وعلا.
فتحصّل من هذا أن الشفاعة لها من حيث الزمن حالان: في الدنيا، وما بعد الممات.
أما في الدنيا: فإن الإذن الكوني للشافع يحصل بإرادة الشافع، فقد يشفع والله جل وعلا يأذن سبحانه ولو كانت حكمته في أنْ يرد هذا الشافع في الدنيا، مثل ما حصل من شفاعة نوح عليه السلام في ابنه، ومن شفاعة إبراهيم في أبيه، ومن شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام في عمه فأنزل الله جل وعلا ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى﴾[التوبة:113].
أما بعد الممات: فإنه لا يبتدئ أحد الشفاعة -يعني في يوم القيامة ولا في البرزخ- حتى يأذن الله جل وعلا، ومعلوم أن الله جل وعلا لا يأذن في وقوع الشرك، ولا يأذن إذنا كونيا ولا إذا شرعيا في حصول ذلك من الأموات؛ لكن من الأحياء قد يبتدئون ويطلبون ذلك لأنها دار تكليف، فيأذن الله جل وعلا كونا بحصول ما لم يأذن به شرعا لأنها دار تكليف.
فقوله سبحانه (مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِه) معناها لا أحد يشفع عن الله إلا بإذنه وذلك لكمال قدرته جل وعلا وقهره وجبروته وكمال مُلكه وكمال عزته وكمال صفاته سبحانه وأسمائه، أما الخلق فقد يُشفع عندهم بلا إذن منهم.
قال الشيخ رحمه الله تعالى بعد ذلك (ولا يَشْفَعُ في أحد) يعني النبي ﷺ أو (يُشفع في أحد) يعني من جميع أنواع الشفعاء (إلا بعد أن يأذن الله فيه) هذا إذن آخر.
فباعتبارٍ آخر الإذن ينقسم إلى قسمين:
· إذن للشافع أن يشفع.
· وإذن للمشفوع فيه أن يشفع له.
قال (ولا يَشْفَعُ في أحد إلا بعد أن يأذن الله فيه) يعني في حق المشفوع له أن يشفع.
أما أن يشفع لكل أحد، والله جل وعلا لا يأذن لهذا أن يُشفع له فإن هذا لا يحصل، والله سبحانه وتعالى لا يرضى إلا بالشفاعة لأهل التوحيد كما سيأتي.
قال (كما قال عز وجل ﴿وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى﴾[الأنبياء:28]) (وَلا يَشْفَعُونَ) يعني الملائكة هذه الآية في سورة الأنبياء (وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى) يعني الملائكة، فلا يشفعون فيمن يريدون كما يظن أهل الشرك؛ بل لا يشفعون إلا لمن رضي الله جل وعلا قولَه وعملَه فيمن ارتضاهم ربنا جل وعلا، والله سبحانه لا يرضى إلا لأهل التوحيد، كما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال «أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه أو نفسه» فقوله (أسعد الناس بشفاعتي) قال العلماء (أسعد) هنا جاءت على أفعل التفضيل لكن معناها الوصف لا التفضيل؛ يعني سعيد الناس بشفاعتي يوم لقيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قبله أو نفسه، فـ(أسعد) بمعنى سعيد ،كقوله جل وعلا في سورة الفرقان ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا﴾[الفرقان:24]، ومعلوم أن مقيل أهل النار ليس فيه حُسْنٌ بل هو قبيح وشر وعذاب عليهم، فقوله (أَحْسَنُ مَقِيلًا) يعني حسنا مقيلهم.
فهذا معلوم في اللغة أن أفعل قد تخرج عن بابها إلى الوصف وهذا كقوله كما ذكرنا (أسعد الناس بشفاعتي) فسعيد الناس بشفاعتي عليه الصلاة والسلام أهل التوحيد، والذين يرضاهم الله جل علا ورضي لهم قولا هم أهل التوحيد، فإذا كان كذلك فمن سأل من لا يملك الشفاعة الشفاعة فإنه ليس ممن رضي الله قوله ولا رضي عمله؛ لأن الله جل وعلا نهانا عن ذلك ولأن الصحابة رضوان الله عليهم لم يفعلوا ذلك.
قال جل وعلا قال ﴿وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى﴾[الأنبياء:28] وهذا هو الشرط الثاني وهو شرط الرضا فإن الشفاعة لا تنفع عند الله جل وعلا إلا بتحقق شرطين: الإذن والرضا.
والرضا نوعان أيضا:
· رضًا عن الشافع.
· ورضًا عن المشفوع له.
فالذين يشفعون هم الذين رضي الله عنهم، وهم الأصناف الذين جاء ذكرهم في الأحاديث: الأنبياء وأولهم محمد عليه الصلاة والسلام، والعلماء، والشهداء، والصالحون. هؤلاء هم الذين يشفعون فرضي الله جل وعلا قولهم.
وكذلك النوع الثاني الرضا لمن شُفِعَ له وهذا الرضا قد يكون رضا عن مآل حاله؛ لأنه من أهل الإسلام، وقد يكون رضًا في الشفاعة لحكمة يعلمها جل وعلا وهذا إخراج لحال أبي طالب.
قال (﴿وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى﴾[الأنبياء:28] وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد) لدلالة الحديث الذي ذكرنا وكذلك دلالة قول الله جل وعلا ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾[آل عمران:85]، وكقوله جل وعلا ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلاَمُ﴾[آل عمران:19]، يعني التوحيد الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله، هذا هو الإسلام وهو التوحيد الذي جاء به الأنبياء والرسل جميعا.
فإذن هو سبحانه لا يرضى إلا الإسلام العام ومن كان من هذه الأمة فلا يرضى يعني بعد بعث محمد عليه الصلاة والسلام لا يرضى إلا اتباع المصطفى عليه الصلاة والسلام فقوله (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) يعني من ابتغى غير دين محمد عليه الصلاة والسلام (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ)؛ لأن محمدا عليه الصلاة والسلام بعثه الله وبعثه بالإسلام الخاتم الذي نسخ كل دين قبله.
قال رحمه الله بعد ذلك (فإذا كانت الشفاعة كلُّها لله) هذا استنتاج؛ ترتيب النتائج على المقدمات، (فإذا كانت الشفاعة كلُّها لله ولا تكون إلا بعد إذنه، ولا يشفع النبي ﷺ ولا غيره في أحد حتى يأذن الله فيه، ولا يأذن إلا لأهل التوحيد) يعني هذه أربعة أشياء.
(إذا كانت الشفاعة كلُّها لله) أولا هذه مقدمات في الحجة ليبني على هذه المقدمات النتيجة، وهذه المقدمات كل واحدة منها سبق شرحها ودليلها.
قال (فإذا كانت الشفاعة كلُّها لله) يعني من جهة المِلك، في أن الذي يملكها الرب جل وعلا، فإذن هو الذي يتصرّف ويقول سبحانه هذا يُشفع فيه وهذا يشفع وهذه الحال فيها شفاعة وهذه الحال ليس فيها شفاعة إذْ هو المالك للشفاعة سبحانه بخلاف أهل الدنيا فإنه يملك المرء الشفاعة في أحد، أنا مثلا أريد أن أشفع لفلان فإني أملكها بحيث أبتدئ الشفاعة ولو لم يرض المشفوع عنده، فأبتدئ سواء قبل أو لم يقبل، هذا لأجل حال القصور الذي أنا عليه والضعف والمسكنة فلا أملك ولا أستطيع أن أفرض على أحدٍ شيئا.
أما حقيقة الشفاعة فإنها لله جل وعلا يملكها سبحانه، فالشفاعة عنده جل وعلا ليست كالشفاعة عند خلقه جل وعلا بل هو الذي يملك الشفاعة، فالذي يجيء يطلب الشفاعة لا يجيء وهو يتقدم عند الله جل وعلا بشيء يملكه هو؛ بل الذي يملك الشفاعة الرب سبحانه وتعالى.
فحقيقة الشروط ﴿مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾[البقرة:255]، قال ﴿وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى﴾[الأنبياء:28] ونحو ذلك من الآيات دالة على أن الشفاعة ملك لله، فآية الزمر ﴿قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا﴾[الزمر:44]، دالة وكذلك الشروط دالة على أن الشفاعة كلها لله جل وعلا.
قال في الشرط الثاني (ولا تكون إلا بعد إذنه) مثل ما مر معنا، (ولا يشفع النبي ﷺ ولا غيره في أحد حتى يأذن الله فيه) هذا الشرط الثالث، (ولا يأذن إلا لأهل التوحيد) هذا الشرط الرابع، (تبين لك أن الشفاعة كلَّها لله) يعني أن لا أحدا ليس له من الأمر شيء كما قال جل وعلا ﴿لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾[آل عمران:128].
قال بعدها (فأطلبها منه) يعني إذن إذا كانت لله وهذه الشروط الأربعة والمقدمات الأربعة واضحة فتحصل ان الشفاعة لله والطلب إذن يكون لمن يملك قال (فأطلبها منه فأقول: اللهمَّ لا تحرمني شفاعة المصطفى ﷺ، اللهمَّ شفّعه فيّ) فتسأل الله جل وعلا أن يأذن للنبي ﷺ وأن يسخره عليه الصلاة والسلام للشفاعة فيكَ، وهذا هو وجه التوحيد والطريقة الشرعية المأذون بها، قال (وأمثال هذا) يعني من الأدعية التي تناسب هذا المقام.
إذن فهذا الكلام الذي ذكرناه جواب على قول من قال (أتنكر شفاعة رسول الله ﷺ وتبرأ منها؟) وهذه الشبهة كثيرا ما تقال لأهل التوحيد، فإذا قالوا لغيرهم ممن طلبوا الشفاعة من المصطفى ﷺ أو من الأولياء قالوا لهم: الشفاعة لله وطلب الشفاعة من الموتى شرك؛ لأن الله جل وعلا لم يأذن بهذا والله هو الذي يملك الشفاعة، هذا لا يملكها، ومن طلب من الميت ما لا يملكه ولا يقدر عليه ابتداءً فقد طلب منه، ما هو مختص بالله وهذا يعني أنه أشرك به، قالوا أتنكر الشفاعة؟ فإذن هم إذا أُنكر عليهم الشرك قالوا: أتنكر شفاعة المصطفى ﷺ؟ لأن أهل العلم من أهل السنة ومن الفرق الأخرى غير المعتزلة -الأشاعرة والماتريدية وأشباه هؤلاء- مجمعون على أن المصطفى ﷺ يشفع، وعلى أنّ الأولياء والصالحين يشفعون، فإذا قلت لهم: طلب الشفاعة شرك. أرادوا أن ينسبوك لأهل الضلال ممن يُنكرون الشفاعة فقالوا أتنكر الشفاعة؟ حتى ينسبك إلى الخوارج أو إلى المعتزلة أو ما أشبه ذلك.
فإذن قوله هنا (فإن قال: أتنكر شفاعة رسول الله ﷺ وتبرأ منها؟) هذه يقولها المشرك للموحد حتى ينسِبَه -وحتى ينسُبه يصح الوجهان- لأهل البدع من الخوارج والمعتزلة، فكأنه قال لك: أأنت خارجي؟ إذا أنكرت عليه طلب الشفاعة. أأنت خارجي؟ أأنت معتزلي؟ فتقول له: لا أنكرها ولا أتبرأ منها؛ بل أنا سلفي سني موحد ولست من أهل البدع والفرق الضالة؛ بل هو عندنا عليه الصلاة والسلام هو الشافع المشفَّع بأنواع من الشفاعات نثبتها قد لا يثبتها بعض أهل البدع كالأشاعرة ونحوهم، وأرجو شفاعته عليه الصلاة والسلام، نرجو شفاعته ونبذل الأسباب في ذلك، ونسأل الله جل وعلا أن يشفع فينا نبيه عليه الصلاة والسلام، وكذلك نأتي بالأسباب من الدعاء بعد الأذان، ومن محبة المدينة، ومن الرغبة في الموت فيها، وكذلك السعي في القتال في سبيل الله، وأشباه ذلك مما هو من أسباب نيل شفاعته عليه الصلاة والسلام([46]) ... وإنما نطلبها ممن يملكها والذي يملكها هو الله جل وعلا.
هذا حقيقة هذا البرهان وهذا التفصيل من الشيخ رحمه الله تعالى.
قال (فإن قال: النبي ﷺ أُعطي الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه الله تعالى.)
قال (فالجواب: أن الله أعطاه الشفاعة ونهاك عن هذا) يعني نهاك عن طلب الشفاعة (فقال سبحانه ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾[الجن: 18]، فإذا كنت تدعو الله أن يشفّع نبيّه فيك فأطعه في قوله: ﴿فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾) وهذا دليل وبرهان سديد للغاية.
كما ذكرت لك أن الشفاعة طلب والشفاعة هي الدعاء، فإذا طلب أحد من النبي ﷺ وهو في البرزخ -مع حياته الكاملة عليه الصلاة والسلام أكمل من حياة الشهداء عليه الصلاة والسلام- إذا طُلب منه أن يشفع، فهذا الطالب سأله والسؤال دعاء، فحقيقة طلب الشفاعة أنها دعوة الميت -سؤال الميت-، سؤال النبي عليه الصلاة والسلام في قبره وهو في الرفيق الأعلى عليه الصلاة والسلام، سؤاله ودعاؤه وقد طلب منه، فإذا قال القائل: يا محمد، يا رسول الله اشفع لي. فقد دعاه وطلب منه، إذا قال: يا محمد، يا رسول الله اسأل الله لي. فقد سأله وطلب منه عليه الصلاة والسلام، وهذا طلب الدعاء ممن ليس في الحياة الدنيا ممن هو عند الله جل وعلا، والله سبحانه نهانا أن ندعوا أحدا غيرَه فقال جل وعلا (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)، وقوله (فَلا تَدْعُوا) هذا نهي، نهانا عن الدعاء.
ومن المعلوم المتقرر في الأصول أنَّ الفعل المضارع لاشتماله على مصدر ينزل منزلة النكرة في سياق النهي أو النفي فتعم أنواع الدعاء، (فَلا تَدْعُوا) هذا يعم جميع أنواع الدعاء؛ لا يدعى مع الله أحدا؛ دعاء استغاثة، دعاء استعانة، دعاء استسقاء، دعاء شفاعة، دعاء نذر إلى آخره، فجميع هذه الأنواع داخلة في النهي في قوله جل وعلا (فَلا تَدْعُوا) دعاء العبادة ودعاء المسألة، وكذلك دلّت الآية على عموم آخر وهو قوله جل وعلا (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)؛ لأن (أَحَدًا) نكرة جاءت في سياق النهي فدلت على عموم كلِّ أحد، فالملائكة لا يدعون والأنبياء والرسل عليهم صلوات الله وسلامه لا يُدعون، وكذلك الصالحون ممن انتقلوا عن الدنيا لا يُدعون، والأولياء الأموات لا يُدعون، والشهداء شهداء المعركة لا يُدعون أيضا.
وكما ذكرتُ لكم في درس سبق أن الصحابة أجمعوا في حياة النبي عليه الصلاة والسلام والنبي عليه الصلاة والسلام مقرهم على ذلك بل والتشريع ينزل أنَّ أحدا منهم لم يسأل الشهداء شهداء أحد الشفاعة، ولم يطلب منه شيئا مع أنهم كانوا في حياة أولئك الشهداء ربما طلبوا من أولئك؛ لكن لما ماتوا تركوا الطلب مع أنهم قال الله جل وعلا ﴿أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ(169)فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ﴾[آل عمران:169-170]الآية.
فدلّ هذا على أنَّ طلب الشفاعة من الميت داخل في سؤال الميت وفي دعاء الميت، وهذا كما قال الشيخ رحمه الله (فإن قال: النبي ﷺ أُعطي الشفاعة وأنا أطلبُه مما أعطاه الله) قل: نعم النبي ﷺ أعطي الشفاعة في عرصات القيامة بأنواعٍ من الشفاعة؛ لكن الذي أعطاه الشفاعة في عرصات القيامة هو الذي نهاك عن طلب الشفاعة في البرزخ؛ يعني أن تطلبه وأنت في الحياة الدنيا وهو في البرزخ، فالجواب كما ذكر الشيخ (أن الله أعطاه الشفاعة ونهاك عن هذا) ما الدليل على النهي؟ قال (فقال تعالى: ﴿فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾) ووجه دخول طلب الشفاعة في الدعاء ما ذكرته لك وهو واضح تقريره.
فال (فإذا كنت تدعو الله أن يُشفّع نبيّه فيك) إذا كنت تريد أن يشفع فيك المصطفى ﷺ (فأطع الله في قوله ﴿فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾-، يعني فلا تسأل مع الله أحدا وقوله (مَعَ اللَّهِ) فيه إشارة إلى سؤال من لا يملك شيئا، ومن لا يقدر عليه، وأن من سأل غير الله وهذا الغير لا يملك الشيء فقد دعا مع الله أحدا، وهذا ظاهر من جهة الاستدلال ومن جهة البرهان الواضح القوي.
قال في برهان آخر (وأيضًا) هذا نوع آخر من البرهان على المسألة (فإن الشفاعة أعطيها غير النبي ﷺ فصح أن الملائكة يشفعون، والأفراط([47]) يشفعون والأولياء يشفعون أتقول: إن الله أعطاهم الشفاعة وأطلبها منهم؟) فإذا قال إن الفَرَط لأنه يقول النبي ﷺ أعطي الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه الله، فقل -هذا من جهة الإلزام؛ لأن الإلزام إن التزمه تناقض فصار مبطلا، وإن لم يلتزمه تناقض أيضا وصار مبطلا- فقل له (الأفراط يشفعون) ولهذا إذا مات فرط صغير فندعوا لوالديه بالمغفرة وندعو أن يشفعه في والديه، كما جاء في السنة من الدعاء في الآثار.
فإذن هل يكون هذا الذي احتج بأن النبي ﷺ أعطي الشفاعة يقول بأن كل من أعطي الشفاعة يُسأل الشفاعة ونقول هؤلاء الأفراط يشفعون فاسألهم الشفاعة، ولا قائل به أن الأطفال الصغار يؤتى إلى قبورهم ويطلب منهم الشفاعة، مع أن الحجة التي احتجوا بها في حق النبي ﷺ هي الحجة التي تسوغ في حق هؤلاء الصبيان.
كذلك الملائكة إذن الملائكة يشفعون فهل يطلب المسلم الشفاعة من الملائكة ويقول: يا جبريل اشفع لي عند الله، وهذا لا قائل به حتى عباد القبور لا يقول بهذا لأنهم لو قالوا به صاروا إلى دين الجاهلية بالاتفاق وصاروا مشركين بالاتفاق.
فإذن هذه الحجة حجة إلزامية، يُحتج عليهم بما يقرون به على ما يحتجون له، فهم يقرون أن الملائكة يشفعون، ويقال لهم: النبي ﷺ أعطي الشفاعة كما ذكرتم؛ ولكن نهينا أن نسأله الشفاعة، فإن قالوا: لا؛ بل أعطيها ونسأله الشفاعة، نقول لهم الملائكة يعني نبرهن لهم بالبرهان الأول (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) فإن لم ينفع فيهم فنقول لهم الملائكة أيشفعون؟ فإن قالوا: لا. فنقول لهم: بل يشفعون؛ لأن الله جل وعلا قال فيهم قال ﴿وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى﴾[الأنبياء:28] ولأنه ثبت في الحديث الصحيح أن الله جل وعلا يقول يوم القيامة«شفعت الملائكة وشفعت الأنبياء وشفع العلماء ولم يبق إلا رحمة أرحم الراحمين فيخرج بعثا من النار» إلى آخر الحديث.
فإذن إذا قلنا له الملائكة تشفع بنص القرآن، وأخبر الله أنهم يشفعون والنبي ﷺ أخبر، فاسأل الملائكة أن يشفعوا لك، فإن قال به ولا قائل به فيصير إلى دين المشركين بالاتفاق الذي بيننا وبين عباد القبور.
كذلك قل (الأفراط يشفعون) لما جاء في الحديث، أفتذهب إلى قبر طفل وتسأله الشفاعة، وهذا لا قائل به بالاتفاق.
إلى أن قال (أتقول إن الله أعطاهم الشفاعة وأطلبها منهم، فإن قلت هذا فإن قلت هذا رجعت إلى عبادة الصالحين التي ذكر الله في كتابه.) يعني بالاتفاق هذه عبادة الصالحين، عبادة الملائكة، عبادة غير الله التي أجمع عليها الناس بأن يسألوا الشفاعة ويُتقرب إليهم بطلب الشفاعة.
(وإن قلت: لا)؛ لا أطلبها من هؤلاء، لا أطلب الشفاعة من الملائكة، ولا أطلب الشفاعة من الأفراط، قال الشيخ رحمه الله (وإن قلت: لا.) يعني لا تطلبها منهم (بطل قولك: أعطاه الله الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه الله) لأن هذا إلزام بما هو لازم في نفس الأمر، فإما أن يطرق الباب فيجعل هذا وهذا بابا واحدا، وهذا يُرجعه بالاتفاق إلى دين المشركين، وإما أن يفرق بين هذا وهذا فيتناقض فيدل على بطلان حجته التي ادعاها بقوله أطلبه مما أعطاه الله.
نقف عند هذا إلى الدرس القادم إن شاء الله تعالى، وأسأله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يمنَّ علينا بشفاعة المصطفى عليه الصلاة والسلام.
[الأسئلة]
... هم احتجوا قالوا النبي ﷺ أعطي الشفاعة، على هذا القدر من الإطلاق نقول نعم أعطي الشفاعة، فيقول إذن أنا أطلبه مما أعطاه الله، فإذن لو ما شفع لي يوم القيامة فأطلبه مما أعطاه الله يشفع يوم القيامة، فيقول أيضا الملائكة تشفع يوم القيامة والأفراط يشفعون يوم القيامة أفتطلب منهم الآن أن يشفعوا لك؟ فإذا قال ذلك رجع إلى عبادة المشركين بالاتفاق.
... هذا من عندك، هذا من كِيفِك؛ لأن أهل التوحيد هم الذين يقولون بأن النبي ﷺ أفضل من الملائكة، أما أهل الشرك يعني الأشاعرة والماتريدية فعندهم أن الملائكة أفضل من الأنبياء والمرسلين، وما أحد يحتج منهم بهذا -واضح؟، يعني أنت جمعت بين قولين متناقضين، هم ما يقولون، واضح.
س/ في الحقيقة سؤال غريب لا بأس أن نذكره -ما له علاقة بالدرس يقول: أعتذر عن هذا السؤال فهو خارج عن الدرس، ظهر فلم فيديو بعنوان فاتح القسطنطينية، وفي هذا الفلم يمثلون القائد محمد الفاتح بشكل أفلام كرتونية مع العلم أن هذا القائد شخصية إسلامية، فما حكم...، وقد رأينا بعض طلاب العلم يشاهدون هذا الفلم ويسهرون عليه الليل أغلبه.
ج/ ما أظن طالب علم يسهر على هذا اللهو وأمثاله قد يستفيد منه لصغار عنده أو نحو ذلك لكن يسهر عليه ويشاهده هذا ما يصلح أن يكون طالب علم، لأنّ طالب العلم عليه واجبات كثيرة والله جل وعلا يعين الجميع على أدائها.
لكن بالنسبة لتمثيله هذا مختلَف فيه؛ يعني تمثيل مثل الشخصيات هؤلاء مختلف فيه ما بين العلماء منهم من يجيز ومنهم من لا يجيز، أنا ما أعرف هذا الفلم على حقيقته كيف هو.
إيش يعني كرتون، إذا كان رسم تصوير، فالمصوِّر له يأثم لكن المشاهد لما صور لا يأثم؛ لأنه ما دخل في التصوير، هذا يحتاج منكم إلى نظر من نظر إليه يعطينا صفة هذا حتى يكون الحكم فرعا عن التصور.
س/ هل تجوز الشفاعة من الشخص الغائب؟
ج/لا، دعاء الغائب هذا شرك بالله؛ يعني يكون في مكة ويقول يا خالد لا تنسني من دعائك هذا شرك بالله؛ لأنه كيف يصل إلى ذلك.
س/ قال: ما جاء في لامية أبي طالب
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال لليتامى عصمة للأرامل
هل يصح قول من قال فيه استغاثة بغير الله؟
ج/ لا، هو عليه الصلاة والسلام يسأل الله أن يسقي الناس، وهو في حال حياته يدعو من جنس دعائه عليه الصلاة والسلام بالاستسقاء وفيمن طلب منه الدعاء في الدنيا، فهذا له أن يدعو؛ بل قد دعا لعمه ولم يستجب له عليه الصلاة والسلام فيه.
س/ ما الضوابط في أسماء الله الحسنى؟
ج/ الأسماء الحسنى موضع الكلام في درس العقيدة العام يعني كالواسطية والطحاوية وغيره؛ لكن نذكره على عجل.
الأسماء الحسنى هي ما جمع ثلاثة شروط:
الأول مجيئها في الكتاب والسنة.
والثاني أنها هي التي يدعا الله جل وعلا بها.
والثالث هي المشتملة على الكمال المطلق الذي لا نقص فيه.
فما لم تتوفر فيه هذه الشروط الثلاثة جميعا فإنه ليس من السماء الحسنى، قد يكون اسما من أسماء لله لكن لا يكون من الأسماء الحسنى، وقد يكون اسما يخبر به عن الله جل وعلا ولا يكون من الأسماء الحسنى.
بالنسبة لدرس يوم الاثنين الزاد لانشغالي ليلة الثلاثاء لفترة تتوقف وأخبركم إن شاء الله باستئنافه، هذا نبهت في أول الدروس لكن بعض الإخوان ما سمعوا صاروا يحضرون جزاهم الله خيرا.
س/ إذا قيل للشهيد أو للرسول عند قبره اشفع لي يوم تبعث فما حكم ذلك؟
ج/ هذا الذي نتكلم فيه من الصباح، هذا هو الذي نتكلم فيه من بعد صلاة العشاء، هو شرك لأنه سأل طلب منه دعاه سأله، هذا شرك.
س/ هذا سائل يقول: مهم. جعل الكتابة بالقلم الأحمر عشان تصير خطر يعني، يقول: ما رأيك فيمن ينسب لشيخ الإسلام ابن تيمية أن سؤال الميت أن يدعو الله لك ليس من الشرك الأكبر بل هو بدعة؟
ج/ هذا جاء في كلام شيخ الإسلام صحيح لكن البدعة يريد بها البدعة الحادثة؛ يعني التي حدثت في هذا الأمة، وليس مراده رحمه الله بالبدعة أنها البدعة التي ليست شركا لأن البدع التي حدثت في الأمة منها بدع كفرية شركية ومها بدع دون ذلك فإذن قوله: وأما سؤال الميت أن يدعو الله للسائل فإنه بدعة. يعني هذا حدث في هذه الأمة حتى أهل الجاهلية ما يفعلون هذا، ما يقولون أدعو الله لنا، إنما يقولون اشفع لنا.
فمسألة أن يطلب من الميت الدعاء هذه بدعة حدثت، حتى المشركين ليست عندهم، وأهل الجاهلية ليست عندهم بل حدثت في هذه الأمة، وإنما كان عند أهل الجاهلية الطلب بلفظ الشفاعة اشفع لنا، يأتون ويتقربون لأجل أن يشفع، يتعبدون لأجل أن يشفع أو يخاطبونه بالشفاعة ويقولون اشفع لنا بكذا وكذا، أما أدع الله لنا هذه بدعة حدثت في الأمة.
فكلام شيخ الإسلام صحيح أنها بدعة محدثة، وكونها بدعة لا يعني أن لا تكون شركا أكبر، فبناء القباب على القبور وسؤال أصحابها والتوجه إليها على هذا النحو الذي تراه من مشاهد والحج إلى هذه المشاهد وجعل لها مناسك كلها بدعة، نقول بدعة حدثت في هذه الأمة، وهي يعني سؤال أصحاب هذه المشاهد والذبح لها وعلى هذا النحو الموجود لم يكن موجودا في الجاهلية على هذا النحو، وإنما كانت عبادتهم للأموات على شكل أصنام وأوثان والتجاء للقبور وأشباه ذلك؛ لكن ليس على هذا النحو، فلم يكن أهل الجاهلية يحجون كالحج إلى بيت الله الحرام يحجون إلى مشهد أو إلى قبر أو ما أشبه ذلك.
نقول هذه بدعة؛ لكن هل يعني أن هذا ليس شركا أكبر؛ لا؟ لأن البدع منها ما هو مكفِّر.
س/ ما حكم إطلاق لفظ خير خلق الله جميعا محمد ﷺ، ولفظ سيد الخلق، وحبيب الله والحبيب المصطفى ﷺ؟
ج/ هو عليه السلام هو سيد ولد آدم وأشرف الأنبياء والمرسلين وخير خلق الله جميعا عندنا لأن الصحيح عندنا في مسألة التفضيل بين الملائكة والرسل والأنبياء أنّ الرسل والأنبياء أفضل من الملائكة، ولا نقول البشر أفضل من الملائكة؛ بل نقول الأنبياء والرسل وأولياء الله أفضل من الملائكة، ولهذا يصح أن نقول خير خلق الله محمد عليه الصلاة والسلام، وهو عليه الصلاة والسلام سيد الخلق وهو حبيب الله وخليل الله.
س/ قول القائل: اللهم إني أسألك بحق جبريل عندك أن تفعل لي كذا وكذا هل يجوز؟
ج/ هذا سؤال بالحق وبالجاه وأشباه ذلك وهو سؤال بأمر أجنبي، قد ذكرت لكم أن هذا ممنوع من ثلاثة أوجه ذكرناهم في الدرس الماضي أو في الدرس الذي قبله.
فمن سأل الله بحق فلان بحق ملك أو حق نبي سأله بأمر أجنبي عنه، وهؤلاء لهم منزلة عند الله وجاه لكن ليس هذا الحق لك، وسؤالك به سؤال بأمر خارج عنه، فسؤال العبد ربه جل وعلا متوسلا يكون بأسماء الله جل وعلا وبصفاته؛ لأن هذا سؤال بإيمانه بالأسماء والصفات وإيقانه بها وإقراره بذلك ووصف الله جل وعلا بذلك وتسميته بها، وسؤال أيضا بالعمل الصالح تسأل الله جل وعلا بأعمالك الصالحة.
أما سؤالك الله بعمل غيرك الصالح أو بمُقامه عند الله أو بالمنزلة عند الله فهو سؤال بأمر أجنبي ولذلك صار اعتداء في الدعاء وبدعة وخيمة ووسيلة أيضا إلى الشرك.
س/ هل يجوز -لا حول ولا قوة إلا بالله- يقول هل يجوز الاستشفاع بأحد من الخلق مثل طلبة العلم، وهل تأذن لي في الاستشفاع بك في دعائي؟
ج/ نحن نذكر في هذه الدروس من أولها إلى آخرها أن مثل هذا لا يجوز، وأن مثل هذا بدعة، حتى ولو استشفعت بحي سواء كان صالحا وعالما أو من تظن فيه، هذا كله من البدع المحدثة في الدين، إنما تسأل الدعاء على قولٍ بجوازه، تقول يا فلان أدعو الله لي هذا الذي يجوز في الحياة، مثل ما روي أن النبي ﷺ قال «يا عمر لا تنسنا من دعائك».
والعلماء مختلفون هل يجوز طلب الدعاء من الحي مطلقا أم يجوز في بعض الأحوال أم هو مكروه؟ على أقوال.
والسلف الصالح رضوان الله عليهم ما كانوا يأذنون لأحد أن يطلب منهم الدعاء فقد جاء مرة رجل لحذيفة فقال: أدع الله لي. فدعا له فجاءه آخر مرة أخرى فصاح في وجهه فقال: أأنبياء نحن؟ فإذا ساغ مرة فلا يسوغ أن يؤتى فلانا حتى ولو كان صالحا أو عالما أو كان يَظن فيه هذا ظن خير أن يطلب منه الدعاء دائما، والمسؤول الدعاء أيضا يجب عليه أن ينكر مثل ما أنكر حذيفة، حتى لا تتعلق القلوب بغير الله، مرة يحصل ذلك فلا بأس.
إلا في حال ذكرها شيخ الإسلام رحمه الله حيث قال: إن طلب الدعاء يجوز إذا كان من طلب الدعاء من غيره يريد منفعة ذلك الغير ولا يريد منفعة نفسه، وعلى هذا يحمل طلب النبي ﷺ من عمر أن يدعو له؛ لأن هذا فيه إحسان إلى السائل، فإذا أردت لفلان مثلا من الناس أن يدعو لك لكي ينتفع هو بتأمين الملائكة له بقولهم: ولك بمثل هذا. وأشباه ذلك، يقول شيخ الإسلام هذا هو الجائز.
أما الدعاء أصلا يا فلان أدعو الله لي لا تنسنا من دعائك ونحو ذلك فيقول شيخ الإسلام: هو مكروه.
وإن قيل بجوازه فإنه ليس على وجه الديمومة.
أما أن يقول الطالب في دعائه: أستشفع بفلان أو يا فلان اشفع لي وهو غائب فهذا شرك بالله جل وعلا ولا يجوز أن يحوم حول مثل هذه المعاني ذهن طالب علم أو موحد، ولو قيل مثل هذا لعامي من العامة من أهل نجد أو من غيرهم ممن عرفوا التوحيد لصاح في وجه من قال هذا؛ لأن هذا هو الشرك أو وسيلة الشرك.
فينبغي أن يُنتبه لمداخل الشيطان على النفوس.
س/ ما الفرق بين قول القائل: اللهم مُنّ علينا بشفاعة نبيك وبين سؤال النبي ﷺ الشفاعة؟
ج/ مثل ما ذكر الشيخ محمد رحمه الله: تطلب الشفاعة من الله، تسأل الله أن يُشفِّع فيك نبيه، فإذن طلبت الشفاعة ممن يملكها وهو الله جل وعلا، أما إذا طلبت الشفاعة من النبي ﷺ فقد دعوته عليه الصلاة والسلام ودعوة غير الله شرك، ثم سألته الشفاعة وهو بعد موته عليه الصلاة والسلام لا يملك أن يشفع حتى يأذن الله جل وعلا له، والله جل وعلا لا يأذن في هذه الصورة.
وطلب الشفاعة منه عليه الصلاة والسلام هو الذي بحثناه في هذه الجلسة من أولها.
س/ كيف يكون الذي يطلب الشفاعة من الملائكة كافر بالاتفاق، مع أن هناك من لا يقر أن عبادة المشركين للملائكة هي بالدعاء؟
ج/ أنا لا أذكر أحدا من أهل العلم -يعني من المفسرين- قال: إن تعبد المشركين من أهل الجاهلية بالملائكة أنه ليس بالدعاء، لا أعرف من قال بغيرها؛ يعني على ظاهر السؤال هناك من لا يقر أنَّ عابدة المشركين للملائكة هي الدعاء لا أدري من قال هذا، لعل السائل يفيدنا فإذا كان هناك من يقول به من الأولين يعني من السلف أو من المتأخرين فإنه يمكن حصر الإجماع في فترة زمنية، أما على علمي فإنه لا أحد قال إنّ العرب مثَّلت الملائكة على صور على أصنام وإنما يدعون الملائكة ويطلبون منهم كما قال جل وعلا ﴿وَيَوْمَ يحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ(40)قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ﴾[سبإ:40-41].
س/ هل قول الرسول ﷺ لعمر «لا تنسنا يا أخي من دعائك» ثابت؟
ج/ رواه أبو داوود والترمذي وجماعة وإسناده ضعيف.
س/ هل جميع أنواع الشفاعة التي ذكرها الشيخ في كتاب التوحيد ثابتة في الكتاب والسنة؟
ج/ ما أدري إيش يعني كتاب التوحيد، كتاب التوحيد ما ذكر فيه أنواع الشفاعة، أنواع الشفاعة مذكورة في الواسطية وفي كتب العقيدة العامة.
في شرح كتاب التوحيد؟
إذا كان في الشرح نعم ثابتة.
س/ لو بلغ شخصا خبرٌ يسره فقال للذي أعلمه: أشكر حياتك. فما حكم قول هذه العبارة؟
ج/ يعني أشكرك ما فيه بأس إن شاء الله.
س/ قوله جل وعلا ﴿وَالذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ(4) سَيَهْدِيهُمْ وَيُصْلِحْ بَالَهُمْ﴾[محمد:4-5]، قرأت في أحد مختصرات التفسير أن معنى (سَيَهْدِيهُمْ) إلى العمل فكيف يكون العمل بعد الموت؟
ج/ هذا أحد الأقوال في الآية وهو أن قوله تعالى (سَيَهْدِيهُمْ) يعني في الدنيا وأن مجيء السين فيها مع إفادتها التعقيب هذا باعتبار القَدَر يعني (وَالذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) قدرا يعني بما مضى في علم الله، (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ(4)سَيَهْدِيهُمْ) في الدنيا ويبين لهم الطريق هداية الدلالة والإرشاد وهداية التوفيق.
والقول الثاني وهو الصحيح أن الهداية هنا هداية في الآخرة لطريق الجنة فهو ليس اعتبار القتل هنا اعتبار قدري سابق بل هو اعتبار بالواقع فقوله (وَالذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) يعني فحصل لهم القتل (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ) يعني أن الله جل وعلا يبارك عملهم القليل وينمي لهم عملهم إلى يوم القيامة كما ثبت في الحديث «أن الشهيد ينمى له عمله إلى يوم القيامة»، قال (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ(4) سَيَهْدِيهُمْ) يعني في الآخرة ويصلح بالهم الهداية إلى طريق الجنة يعني سيهديهم على الصراط لأن هذا هو النوع الرابع من أنواع الهداية عند أهل السنة وهو هداية أهل الجنة لطريق الجنة وهداية أهل النار للنار، ففي أهل الجنة في الشهداء قال هنا ﴿سَيَهْدِيهُمْ وَيُصْلِحْ بَالَهُمْ(5)وَيُدْخِلُهُمْ الجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾[محمد:5-6]؛ يعني بعد أن يهدوا إلى طريق الجنة.
في الهداية إلى النار قال جل وعلا في سورة الصافات ﴿فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الجَحِيمِ(23) وَقِفُوهُمْ إِنَّكُمْ مَسْئُولُونَ(24)مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ﴾[الصافات:23-25] الآيات.
س/ من يرى عليه سمات الصلاح تقول العامة لها زرنا تحصل البركة، هل هذا جائز؟
ج/ البركة كما هو معلوم نوعان: بركة ذات، وبركة عمل وإيمان وصلاح.
بركة الذات: بمعنى أن أجزاء الذات تكون مباركة، فإذا لمست هذا المبارك الذات انتقلت لك بركة وحصل لك بركة وانتفاع من ذاته -من شعره من عرقه من بدنه-، فهذه ليست إلا للأنبياء والمرسلين، فهم الذين يتبرك بذواتهم بعرقهم ببقية سورهم بدمهم إلى آخره، فهذا لا بأس به، كما جاء ذلك في السنة الصحيحة عن النبي ﷺ.
والنوع الثاني من البركة بركة عمل: وهذه لكل مؤمن بركة راجعة إلى عمله الصالح وذلك من جهة إيمانه وتقواه وصلاحه وعمله الصالح، فلكل مؤمن بركة بقدر ما عنده من الإيمان والعمل الصالح، مثل ما جاء في الحديث الذي رواه البخاري وغيره أن أُسيد قال لأبي بكر لما نزلت آية التيمم في قصة عائشة المعروفة تخفيفا على الأمة قال: ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر. وثبت أيضا في البخاري وفي غيره أن النبي ﷺ قال «إن من الشجر شجرة بركتها كبركة المسلم» فدل على أن كل مسلم فيه وله بركة، ولما تزوج النبي ﷺ صفية وأعتق قومها وجعل عتقهم صداقها قال: فلم تكن -أو معنى ما جاء- لم تكن امرأة لها بركة على قومها أعظم من بركة صفية. فدل هذا على أن كل مؤمن له بركة؛ بركة عمل.
فإذن إذا أتى رجل صالح أو زارك أحد من إخوان المؤمنين وقال قائل: حلت البركة أو جاءت البركة يعني أن هذا الزيارة عمل صالح والعمل الصالح مبارك، وهذا العبد الصالح إذا جاء، وقال القائل: حلت البركة؛ يعني لأنه إذا جاء العبد الصالح فإنه سيشغل أهل البيت في زيارته لهم بما ينفعهم في آخرتهم فهذه من بركة إيمانه وعمله الصالح فلا بأس.
أما بركة الذات فليست إلا للأنبياء والرسل عليهم صلوات الله وسلامه.
في هذا القدر كفاية، وأسأل الله لي ولكم المغفرة والعلم النافع والعمل الصالح وصلى الله وسلم على نبينا محمد.([48])
¹
[المتن]
فإن قال: أنا لا أشرك بالله شيئًا حاشا وكلا؛ ولكن الالتجاء إلى الصّالحين ليس بشرك. فقل له: إذا كنت تقر أن الله حرّم الشرك أعظم من تحريم الزنى، وتقرُّ أن الله لا يغفره، فما هذا الأمر الذي حرمه الله وذكر أنه لا يغفره؟ فإنه لا يدري فقل له: كيف تبرئ نفسك من الشرك وأنت لا تعرفه؟ أم كيف يحرم الله عليك هذا ويذكر أنه لا يغفره ولا تسأل عنه ولا تعرفه؟ أتظن أن الله يحرّمه ولا يبيّنه لنا؟
فإن قال: الشرك عبادة الأصنام ونحن لا نعبد الأصنام.
فقل له: ما معنى عبادة الأصنام؟ أتظن أنهم يعتقدون أن تلك الأخشاب والأحجار تخلق وترزق وتدبّر أمر من دعاها؟ فهذا يكذّبه القرآن، كما في قوله تعالى ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾[يونس:31]،الآية.
وإن قال: هو من قصد خشبةً أو حجرًا أو بِنْيَةً على قبرٍ أو غيره يدعون ذلك ويذبحون له يقولون: إنه يقربنا إلى الله زلفى، ويدفع الله عنا ببركته أو يعطينا ببركته، فقل: صدقت وهذا هو فعلكم عند الأحجار والأبنية التي على القبور وغيرها. فهذا أقرّ أن فعلهم هذا هو عبادة الأصنام فهو المطلوب.
ويقال له أيضًا: قولك: (الشرك عبادة الأصنام) هل مرادك أن الشرك مخصوص بهذا، وأن الاعتماد على الصّالحين ودعاءَهم لا يدخل في ذلك؟ فهذا يردّه ما ذكره الله في كتابه من كُفْر من تعلق على الملائكة أو عيسى أو الصّالحين، فلا بد أن يُقِرّ لك أن من أشرك في عبادة الله أحدًا من الصّالحين فهذا هو الشرك المذكور في القرآن وهذا هو المطلوب.
وسر المسألة أنه إذا قال: أنا لا أشرك بالله. فقل له: وما الشرك بالله، فسره لي؟ فإن قال: هو عبادة الأصنام. فقل: وما معنى عبادة الأصنام فسرها لي، فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله وحده، فقل: ما معنى عبادة الله وحده فسرها لي؟ فإن فسّرها بما بيّنه القرآن فهو المطلوب، وإن لم يعرفه فكيف يدَّعي شيئًا وهو لا يعرفه؟
وإن فسر ذلك بغير معناه، بيّنتَ له الآيات الواضحات في معنى الشرك بالله وعبادة الأوثان أنه الذي يفعلونه في هذا الزمان بعينه، وأن عبادة الله وحده لا شريك له هي التي يُنكرون علينا ويصيحون فيه كما صاح إخوانهم حيث قالوا: ﴿أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾[ص:5].
[فإن قال: إنهم لا يكفرون بدعاء الملائكة والأنبياء وإنما يكفرون لما قالوا: الملائكة بنات الله، فإنّا لم نقل عبد القادر ابن الله وغيره.
فالجواب: إن نسبة الولد إلى الله كفر مستقل ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)اللَّهُ الصَّمَدُ﴾[الصمد:1-2]والأحد الذي لا نظير له والصمد المقصود في الحوائج، فمن جحد هذا فقد كفر ولو لم يجحد السورة، وقال تعالى ﴿مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَّلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ﴾[المؤمنون:91]، ففرق بين النوعين، وجعل كلاَّ منهما كفرا مستقلا وقال تعالى ﴿وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾[الأنعام:100]، ففرق بين كفرين، والدليل على هذا أيضا أن الذين كفروا بدعاء اللاتّ -مع كونه رجلا صالحا- لم يجعلوه ابن الله، والذين كفروا بالجن لم يجعلوهم كذلك، وكذلك أيضا العلماء في جميع المذاهب الأربعة يذكرون في باب حكم المرتد أنّ المسلم إذا زعم أن لله ولدا فهو مرتد، ويفرقون بين النوعين وهذا في غاية الوضوح.] ([49])
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا من العلم والعمل، يا أرحم الراحمين.
ربَّنا لا تكلنا لأنفسنا طرفة عين، لا حول لنا ولا قوة لنا إلا بك.
اللهم كما علمت العلماء فعلمنا وكما فهمتهم ففهمنا، ألحقنا بزمرة ورثة الأنبياء، يا أرحم الراحمين.
أما بعد:
فهذا الكلام الذي سمعناه جواب على شبهة أدلى بها طائفة أخرى، وهذه الشبه التي ذكرها الشيخ رحمه الله تجد فيها تكريرا؛ وذلك أنه أورد ما أورده الناس من الشبه على التوحيد،وقد يكون ما قاله فلان يدخل بعضه في ما قاله الآخر، ولهذا ترى أنه فيها نوع تكرير ونوع إعادة؛ لأن الشبه متداخلة، وهذا يدلّ على أن القوم يتواردون على شبه أصلها واحد.
فإذا أحْكم طالب العلم المقدمات التي ذكرناها في أول هذا الشرح وجواب الشبه الثلاث التي هي أكبر ما عندهم، سَهُل عليه الجواب عن الشبه الأخرى مهما اختلفت وتلوَّنت، وهذا الذي ذُكر هنا جواب الشبهة التي يمكن أن تُعَنْوَنَ بقولهم: الالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك، وأنّ الشرك مخصوص بعبادة الأصنام.
وفي الحقيقة أنّ الذين عبدوا غير الله جل وعلا لا يعرفون معنى الشرك؛ كجهلهم بعلوم الشريعة وبأصول الدين، فإنهم لا يعرفون معنى العبادة، ولا يعلمون معنى الشرك ولا يعلمون معنى التوحيد، لهذا قد ينكرون شيئا وهم واقعون فيه، وقد ذكر الشوكاني رحمه الله في رسالته الدّر النضيد([50]) أن عُبّاد القبور عندهم تغيير للأسماء، فيسمونها بغير اسمها؛ فيسمون الشرك توسلا، ويسمون طلب الشفاعة من الأولياء توسلا، ويسمون إنزال الحاجات بالأولياء والأنبياء التجاءً إلى الصالحين؛ لأنَّهم عند الله جل وعلا لهم المقامات العالية وأشباه ذلك، قال الشوكاني: وهذا لا يغير من الحقائق شيئا إذِ العبرة بالحقائق لا بالأسماء، العبرة بالمسميات لا بالأسماء. فلو سُميت الخمر ماءً -هذه تتمة من عندي- فلو سميت الخمر ماء فإنها خمر، ولو سميت سرقة الأموال إنها هدايا فإنها سرقة، فالأسماء لا تغيِّر في الأحكام الشرعية، إذ الأحكام مرتبطة بحقائق الأمور، فإذا وجدت حقيقة الأمر الذي حرّمه الشرع أو أمر به الشرع فإنه هو المقصود بالتحريم وهو المقصود بالأمر وإن اختلفت الأسماء إذْ لا عبرة باختلاف الأسماء.
هنا تفريعا على ذلك قال الإمام رحمه الله تعالى ورفع درجته في الجنة (فإن قال) يعني المُدلي بالشبهة (أنا لاَ أشرك بالله شيئًا حاشا وكلا) وهذا صنيع كل من يعبد غير الله يعبد الأولياء والأنبياء ويتقرب إليهم أو يتقرب إلى المشاهد أو إلى الجن أو إلى ما شابه ذلك من أنواع المعبودات من دون الله، كلهم يقولون: نحن لا نشرك. إذْ لا أحد يقر على نفسه بالشرك والكفر.
قال (فإن قال) يعني بعد ما ذكرنا من مسألة الشفاعة أو من أدلى بهذه الشبهة (أنا لا أشرك بالله شيئًا حاشا وكلا) يعني أنا لستُ من المشركين وعندي إباء أن أكون من أهل الشرك أو أن أفعل الشرك، فحاشا وكلا أن أشرك بالله شيئا، لِم؟ قال لأن (الالتجاء إلى الصّالحين ليس بشرك).
فإذن رجع أمر هذه الطائفة إلى أنهم يتبرؤون من شيء يفعلونه، وإذا كان هذا المتبرّأ منه من أصول الدين من التوحيد، فإن فعله يدل على أنهم لم يعلموا معنى الشرك ومعنى التوحيد، فلابد لهم إذن من إقامة الحجة؛ لأنه ينفي عن نفسه أن يكون من المشركين ويكره الشرك ويكره الكفر؛ لكنه واقع فيه، فلابد من البيان لهم والتعليم وإقامة الحجة عليه في أنَّ ما يفعله داخل فيما نفاه عن نفسه.
قال رحمه الله (فقل له) هذا ابتداء جواب الشبهة (إذا كنت تُقِرُّ أن الله حرّم الشرك أعظم من الزنى، وتقرُّ أن الله لا يغفره) إلى آخر الكلام هذا الجواب للشبهة ملني على مراتب:
الأولى: هذه المرتبة التي سمعتَ وهي أن يُطلب منه تفسير الشرك، ما هو هذا الشرك الذي لا يغفره الله وأنت تنفيه عن نفسك؟ هاتِ معنى الشرك.
المرتبة الثانية: أن يفسر الشرك بعبادة الأصنام؛ فيُسأل ما معنى عبادة الأصنام؟
الثالثة: هل الشرك مخصوص بعبادة الأصنام أم لا؟
فهذه ثلاث مراتب لجواب هذا الإشكال فمن قال إن التوسل بالصالحين ليس بشرك يعني التوسل الشركي الذي يفعله عباد القبور والخرافيون ويعدونه توسلا وهو دعاء غير الله جل وعلا وطلب الشفاعة من الأموات هذا مبني على هذه الثلاث مراتب، فنأتيها واحدة واحدة.
فالأولى: قال الشيخ رحمه الله (إذا كنت تقر أن الله حرّم الشرك أعظم من الزنى، وتقرُّ أن الله لا يغفره، فما هذا الأمر الذي حرمه الله وذكر أنه لا يغفره؟ فإنه لا يدري) هذا تنزيل لطائفة إذا قلت له: ما هذا الشرك الذي حرمه الله وعظمه بين أنه لا يغفره وأن أعظم من الزنى ومن شرب الخمر ومن إتيان المحارم إلى غير ذلك فطائفة منهم يقولون لا ندري، ما هذا الشرك لا نعلم ما هذا الشرك.
فإذن هذه الطائفة يقال لها: كيف تُبرِّئ نفسك من الشرك وأنت لا تعرفه؟ إذا كنت لا تعرف حقيقة الشرك فكيف تقول: أنا لا أشرك بالله شيئا ومعلوم أن المشركين الذين بعث فيهم رسول الله ﷺ ينفون عن نفسهم الكفر وينفون عن أنفسهم الشرك بالله جل وعلا؛ لأن هذا الشريك الذي دعوه مع الله جل وعلا هو لله جل وعلا فنفوا أن يكونوا مشركين على الحقيقة، مثل ما قال قائلهم وهو يُلَبِّي: إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. فإذا كان الشريك لله فإن سؤاله لا يعد سؤالا لأحد غير الله جل وعلا، مثل اعتقاد النصارى واعتقاد الملائكة أنها بنات الله وكذلك الاعتقاد في الأصنام والأوثان.
وهم إذن لا أحد يُقِرُّ على ننفسه أنه مشرك مطلقا، إذْ يلزم من ذلك أن الشرك المطلق يعني أنه يقرّ بأن ثمة مصرّف للأمور غير الرب جل وعلا، والمشركون مُقِرُّون بأن المصرف للأمور هو الله جل وعلا وحده، إذ يلزم لازما عقليا واضحا وأيضا شرعيا أنّ من اعتقد مع الله إله آخر يلزمه أن يعتقد أنه ربٌّ وأنه يعطي ويمنع وأنه هو الذي يسخِّر الأمر يدبر الأمر وهو الذي يسخر السحاب وينزل المطر.
ولهذا تجد أن في القرآن كثيرا ما يحتج على المشركين بتوحيد الربوبية على توحيد الإلهية.
فهم خروجًا من هذا الإلزام قالوا: إن هذه الآلهة لله جل وعلا فهو يملكها وهي تحت تصرفه، وهم ينقلون ما يحتاجه خلقه إلى الله جل وعلا، مثل ما فعل غلاة المتصوفة حيث قالوا: إن العالَم له أقطاب أربعة فوَّض الله إليهم رفع حاجات أهل الأرض، فالقطب الفلاني في مصر، والقطب الثاني في الهند، والقطب الثالث في الشمال، والقطب الرابع في الجنوب؛ يعني أن هؤلاء فوّض الله إليهم أمر رفع الحاجات.
فنخلص من ذلك: أن من وقع في الشرك فإنه قد يقول أنا لم أقع في الشرك وحاشاي أن أشرك، فإذا طُلِب منه تفسير الشرك لم يعرف تفسيره، وهذه مرتبة العوام، فهؤلاء جوابهم أن يقال: كيف تبرئ نفسك من شيء وأنت لا تعرفه؟ كيف تبرئ نفسك من الشرك، وأنت لا تعرفه؟ كيف يحرم الله عليك هذا ويذكر أنه لا يغفره ولا تسأل عنه ولا تعرفه؟ لا شك أنّ هذا يدل على عدم رغبة في الخير؛ بل يدلّ عدم معرفة وعلم بما خلق الله جل وعلا العباد له، فإنه إذا علم أن الشرك محرم وأنه لا يغفره الله وأن أهله مخلدون في النار إن لم يتوبوا، فكيف يقول أنا لا أعرف هذا الشرك؟ فهذا إعراض عن الدين كما قال الله جل وعلا ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾[الأنبياء:24]،
فإذن لا تسأله عنه؟ كيف تَتَعَرَّفه؟ (أتظن أن الله يحرمه ولا يبينه لنا؟) وهذا في الحقيقة جواب يصلح للعوام؛ لأن العامي لا يصلح له ما يصلح لمن يجادل ببعض الشبه العلمية، فهذا يقول: أنا لا أشرك. فتسأله عن الشرك فيقول: أنا لا أعرفه. فيقال له كيف تنفي عن نفسك شيئا وأنت لا تعرفه؟
فهذا يكفي في جواب هذا العامي أن يجعلك معلما له، وكما ذكرنا لك في السابق إذا استطعت في مجادلة عوام المشركين في أنْ تجعلهم في مرتبة أدنى منك فتكون معلما بحسن عبارة في أن تجرَّه إلى أن يعترف على نفسه بالجهل، ثم تنتقل من مناظر إلى معلم، فهذا من أعظم الوسائل للإقناع ولإحداث الخير وإقامة الحجة وبيان المَحَجَّة، فلا ينزل العالم العامي منزلة العالم، لا ينزل من هو خال من الحجة أصلا جاهل من هو عنده شبه، فإذا عاملتَ هذا معاملة هذا فإنك تخسر؛ بل ينبغي أن تسلك ما ذكره الشيخ رحمه الله هنا في أن تطلب منه تفسير الشيء فإذا كان عنده علم ناقشه برد تفسيره، وإذا لم يكن عنده علم فتقول له: كيف تكون على هذه الحال تنفي عن نفسك شيئا وأنت واقع فيه وأنت جاهل بمعناه.
فإذن تنتقل معه إلى التعليم لهذا تقول له كما قال الشيخ رحمه الله (أتظن أنَّ الله يحرّمه ولا يبيّنه لنا؟) فلا شك أنه سيقول: لا، إنّ الله إذا حرّم علينا هذا فهو سيبينه لنا وستبدأ معه في بيان التوحيد ومعنى لا إله إلا الله والشرك والكفر بالطاغوت والعبادة إلى غير ذلك.
ثم قال وهي المرتبة الثانية في أناس من أهل هذه الشبهة وهم الذي قولون: نحن لسنا مشركين وحاشانا من ذلك والالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك، أهل المرتبة الثانية من هذه الطائفة هم الذين يقولون (الشرك عبادة الأصنام ونحن لا نعبد الأصنام) تلحظ أن هذه الكلمة مرت معنا في شبهة قبل ذلك؛ لكنها مرتبة لطائفة ممن يقولون الالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك، والشيخ رحمه الله كرّر لأن المقام يحتاج إلى هذا؛ لأن هؤلاء يدخلون تحت مَظَلَّة من يقول الالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك، وأولئك يدخلون تحت مظلة الشفاعة يعني طلب الشفاعة من الأموات، وآخرون يدخلون تحت مظلة أخرى.
إذن أصول الشبهات مختلفة وقد يختلف أهلها في الإيراد في طوائف منهم كما يمر معنا هنا.
إذن فهؤلاء طائفة ثانية مرتبة ثانية من أهل هذه الشبهة قال الشيخ رحمه الله (فإن قال: الشرك عبادة الأصنام ونحن لا نعبد الأصنام) قد يكون لُقِّنَ هذه الحجة فيكون عاميا وقد يكون عنده شبهة في هذه المسألة؛ لأن الشرك إنما هو عبادة الأصنام، ولذلك احتاج إلى التفصيل (فقل [له]: وما معنى عبادة الأصنام؟) تسأله ما معنى عبادة الأصنام:
إما أن يقول: لا أعرف معنى عبادة الأصنام.
وإما أن يقول: عبادة الأصنام هي كذا وكذا.
فإن قال: لا أعلم معنى عبادة الأصنام، فنقول له" كيف تفسر شيئا بشيء وتحتج عليه وأنت لا تعلمه؟ فإذا سكت فإنك تدلي عليه معنى عبادة الأصنام.
فإن قال: معنى عبادة الأصنام أنهم يتوجهون إلى هذا الحجر بسؤاله فهو يعتقدون في الأحجار لأنها أحجار، فتقول له مثل ما قال الشيخ هنا (أتظن أنهم يعتقدون أن تلك الأخشاب والأحجار تخلق وترزق وتدبّر أمر من دعاها؟) فتسأله هؤلاء الذين عبدوا الأصنام كيف عبدوها؟ وكيف سُمُّوا عبدة للأصنام؟
فإما أن يقول لأنهم اعتقدوا فيها الخلق والرزق والإحياء والإماتة فتقول له: هذا يكذبه القرآن وتسرد له الآيات مثل ما قال الشيخ (كما في قوله تعالى ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾الآية) الآية في يونس ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾[يونس:31]؛ يعني إذا كنتم مقرِّين بتوحيد الربوبية أفلا تتقون الله في إشراككم معه آلهة أخرى، فهذا نوع، إذا قال: اعتقدوا فيها أنها تخلق وترزق وتنفع وتضر وترسل المطر إذا غير ذلك فقل هذا بكذبه القرآن وتسرد له الأدلة.
(وإن قال) هذا احتمال ثاني (وإن قال: هو من قصد خشبةً أو حجرًا أو بِنْيَةً على قبرٍ أو غيره يدعون ذلك ويذبحون له) فإنه قد يقول هذا نتيجة لعلم له بحال المشركين؛ لأنه يقصد الخشبة يقصد الحجر يقصد البنية على القبر على أنواع من أشرك بهم في الجاهلية يدعون ذلك، مثل ما أخبر الله جل وعلا في كتابه بقوله ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾[العنكبوت:65]، فإذن صار الشرك دعاء لأنه قال (دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ) ثم قال (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) يعني الشرك في الدعاء، فإذا فسره بهذا التفسير بأنه قصد الخشبة أو الحجر أو البنية على قبر؛ يعني قصد هذه الأشياء لم يقصد من في القبر قصد الخشب قصد الحجر قصد نفس البناء (يدعون ذلك ويذبحون له ويقولون إنه يقربنا إلى الله زلفا ويدفع عنا ببركته ويعطينا ببركته فقل صدقتَ) هذا هو الشرك، وهم ما قصدوا خشبة يدعونها لاعتقاد في الخشبة؛ بل لاعتقاد في الروح التي تحُلُّ في الخشب حين السؤال، فالمشركون يعتقدون أنّه إذا سُئلت الخشبة التي هي ممثلة على صورة كوكب من الكواكب المؤثرة - في اعتقادهم- أو على صورة ملك، أو على صورة نبي، أو على صورة ولي، أو على صورة صالح، أو على صورة من يعتقدون فيه، فإن هذا الصنم أو الوثن إذا سئل تكلم، وهذا الكلام منه إنما هو من شيطان، فهم يعتقدون أنهم إذا خاطبوه ودعوه فإن رَوْحانية هذا الكوكب تتكلم، أو روحانية الملك، تتكلم أو روحانية الولي أو النبي تتكلم، حتى ربما إنه ينطق الجني على لسان الميت وهم يعرفون أن هذا هو كلامه، فيقول سمعنا من القبر كذا وكذا وكذا بصوت الولي فلان الذي نعرفه، ويكونون قد صدقوا فيما سمعوا لأنهم سمعوا صوت الولي نفسِه؛ ولكنه لم يسمعوا الولي نفسَه، وإنما سمعوا صوته الذي قلّده الشيطان والجني، ومعلوم أن شياطين الجن عندها قدرة على التشكّل بالصور، وعندها قدرة على التشكل في الأصوات، وعندها قدرة أيضا على أن تنزل الأشياء على غير حقيقتها، وهذا مما أقدرهم الله جل وعلا عليه ليحصل الابتلاء وتحصل الفتنة، فإبليس عليه لعنة الله حصل منه ما حصل من التشكل في صورة رجل وصورة شيخ نجدي عند المشركين إلى آخره وفي يوم بدر كذلك، والجن يتشكلون ربما أتاك جني في صورة آدمي وأنت لا تعلم، ربما تكلم من تكلم بصوت وهو شيطان.
فإذن ما يذكرونه من أنهم حين يسألون الأخشاب أو الأحجار أو الغرف التي على القبور أو المشاهد أو يأتون إلى القبر وأن هناك من تكلم وقال سَأُلبِّي حاجتكم أو أمرهم بأشياء فهم صادقون لكن هذا من الجن ودخلوهم في هذا الأمر إنما من جراء الشرك بالله جل وعلا، كما قال سبحانه في آخر سورة سبإ ﴿بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ﴾[سبإ:41] يعني في الحقيقة مع أنهم إنما دعوا الملائكة ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ﴾[سبإ:40] لأنهم كانوا يطلبون من الملائكة، وقالت الملائكة ﴿سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ﴾ يعني في الحقيقة أنهم كانوا يعبدون الجن؛ لأن الذي تكلم وخاطبهم هو الجني وهم تقربوا لمن خاطبهم وهو الجني، وفي الحقيقة العبادة توجهت للجن لا إلى الملائكة كما قال جل وعلا ﴿ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ﴾[سبإ:41]، وكما قال سبحانه في سورة الأنعام ﴿وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾[الأنعام:100]، (جَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ) فالجن اتخذوا له شركاء، وإن لم يعتقدوا ذلك هم أنهم عبدوا الصنم يعني عبدوا الجن لكن في الحقيقة هم عبدوا ذلك واتخذوهم شركاء.
فإذن فتقول له: صدقت في أنهم قصدوها يدعونها ويذبحون لها ويقولون إنها تقربنا إلى الله زلفا ويُدفع عنا ببركتها ويعطينا الله ببركتها.
مثل ما قال بعضهم لبعض الموحدين من نحو أكثر من مائة سنة، قابل رجل من المشركين فقال له الموحد: كثير من أهل الطائف لا يعرفون الله إنما يعرفون قبر ابن عباس، فأجابه المشرك بقوله: معرفة ابن عباس تكفيهم، معرفة ابن عباس تكفيهم.لم؟ لهذا الأمر؛ لأنهم إذا توجهوا إلى ابن عباس معناه توجهوا إلى الله جل وعلا مثل ما قال هذا القائل.
(فقل له صدقت، وهذا هو فعلكم عند الأحجار والأبنية التي على القبور وغيرها) إذا أتوا إلى البنايات التي على القبور، أكثر القبور الآن التي بنيت عليها بنايات لا يوصل إلى القبر ولا يُخلص إليه، وإنما هم يدعون ويعتقدون ويتمسحون ويطلبون بركة هذه النية وفي قلبهم من في هذا القبر وقد لا يكون في القبر أحد أصلا أو يكون فيه مشرك أو يكون فيه حيوان ونحو ذلك، يكون قد دفن في هذا واعتقد فيه.
فإذن الذي سأله هؤلاء الأولون عند الأصنام والأوثان والخشب والحجر والبنايات التي على القبور هو الذي فعله أهل هذه الأزمان عند البنايات التي على القبور، (فقل له: صدقت وهذا هو فعلكم عند الأحجار والأبنية التي على القبور [وغيرها]. فهذا إن أقر أن فعلهم فهذا أقر أن فعلهم هذا هو عبادة الأصنام فهو المطلوب) وهذه حجة واضحة بينة.
إن كابر وقال: لسنا معتقدين فيهم الاستقلال؛ بل نعتقد فيهم الأسباب مثل ما يقول طائفة يقولون: نحن لا نعتقد أنهم يعطوننا استقلالا ولا يغفرون لنا ولا يشفون مرضانا ولا يدفعون عنا الضر بأنفسهم وإنما هم أسباب، فكما أن الله جل وعلا جعل أسبابا تقينا الحر وأسبابا تقينا البرد وأسبابا تقينا كذا وأسبابا تجلب لنا كذا وكذا فإن الله جل وعلا جعل هؤلاء أسبابا.
فيجاب بما أجبته لك مفصلا من قبل ومطولا، فيجاب بأن هذا السبب هو عينه الذي تعلق به المشركون، فإنهم قالوا: ما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى. وهذا هو معنى السببية بنفسها، وهذا هو معنى طلب الوساطة وطلب الجاه.
(ويقال له أيضًا) وهذه الفئة الثالثة من أهل هذه الشبهة، (قولك) واضح التعلق بين هذا القول وبين قوله (الالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك)؛ لأن الالتجاء معناه عندهم الدعاء؛ دعاء الصالحين، طلب بركة الصالحين بسؤالهم، وطلب الشفاعة عندهم، الالتجاء إليهم بالذبح لهم مثل ما فسره هنا.
فإذن قوله الالتجاء مساو لقوله (يدعون ذلك ويذبحون له ويقولون إنه يقربنا إلى الله زلفا ويدفع الله عنا ببركته ويعطينا ببركته) هذا هو الالتجاء إلى الصالحين، وهذا هو عين ما يُفعل عند الأصنام والأوثان والآلهة المختلفة.
(ويقال له أيضا قولك الشرك عبادة الأصنام)، هذا تتمة لهذا الجواب (هل مرادك أن الشرك مخصوص بهذا) هذا تتمة لهذا الجواب لكنه في طائفة ثالثة؛ فيمن يقول الشرك مخصوص بعبادة الأصنام (هل مرادك أن الشرك مخصوص بهذا، وأن الاعتماد على الصّالحين ودعاءَهم لا يدخل في ذلك؟) فإذا قال: نعم الشرك مخصوص بعبادة الأصنام، (فهذا يردّه ما ذكره الله في كتابه من كُفْر من تعلق على الملائكة أو عيسى أو الصّالحين) وهذا قد قدمناه بوضوح في أن أنواع الشرك عند أهل الجاهلية متنوعة ليست نوعا واحدا، فمنها الأصنام وفيها أدلة في القرآن كثيرة، ومنها الأوثان المصورة الأنبياء الأولياء وما شابه ذلك، ومنها الاعتقاد في الأحجار والأشجار المصورة على صور الكواكب وأشباه ذلك.
قال (فهذا يردّه ما ذكر الله في كتابه من كفر من تعلق على الملائكة أو عيسى أو الصّالحين، فلا بد أن يقِرَّ لك أن من أشرك في عبادة الله أحدًا من الصّالحين فهو الشرك المذكور في القرآن وهذا هو المطلوب.) يعني تقول لهذا الذي قال الشرك مخصوص بعبادة الأصنام هل عيسى عليه السلام أُشرك به أم لا؟ فإن قال: لا. فقل بل أُشرك به كما قال جل وعلا في القرآن ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾[المائدة:116]، وكذلك كقوله جل وعلا ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إلهاً﴾[التوبة:31] والآيات في هذا الباب كثيرة.
فإذن قل هل عيسى عبد عليه السلام واتخذ إلها أم لا؟
· فإن قال: لا. بيّن له الآيات.
· وإن قال: نعم. فهو المقصود أيضا.
وعلى كل من الاحتمالين مع الجواب فإنه يردّ هذا تخصيصه الشرك بعبادة الأصنام، وهذه الكلمة الشرك عبادة الأصنام تراها في كثير من تفاسير المتأخرين، فقلّ أن ترى تفسيرا من تفاسير المتأخرين إلا وإذا ذُكر الشرك بالله في القرآن وعبادة غير الله فسروها بأنها عبادة الأصنام، والمفسرون الأولون كالإمام ابن جرير رحمه الله تعالى وكغيره من الأئمة يفسِّرون الشرك حيث ورد بعبادة غير الله بأنواع ما ورد، فيكثر أن يقول ابن جرير رحمه الله تعالى نهى الله عن الشرك به ودعوة غيره من الأصنام والأوثان والأنداد، ابن جرير يكثر من هذه الثلاثة الأصنام والأوثان والأنداد لأنها أنواع ما جاء في القرآن.
قال (فلا بد أن يُقِرَّ لك أن من أشرك في عبادة الله أحدًا من الصّالحين فهو الشرك) فهو إذن يكون قوله: الشرك مخصوص بعبادة الأصنام. يكون غلطا فتقول له إذن (فلا بد أن يقر لك أن من أشرك في عبادة الله أحدًا من الصّالحين فهو الشرك المذكور في القرآن وهذا هو المطلوب.)
قال رحمه الله (وسِرّ المسألة أنه إذا قال: أنا لا أشرك بالله فقل له: وما الشرك بالله، فسره لي؟ فإن قال: هو عبادة الأصنام فقل وما معنى عبادة الأصنام فسرها لي: فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله وحده، فقل: ما معنى عبادة الله وحده فسرها لي؟ فإن فسّرها بما بيّنه القرآن فهو المطلوب، وإن لم يعرفه فكيف يدَّعي شيئًا وهو لا يعرفه؟ وإن فسر ذلك بغير معناه، بيّنت له الآيات الواضحات) يبين لك الشيخ رحمه الله أن سِرّ إقامة الحجة وكشف الشبهة في هذه المسألة مبني على هذه المراتب التي ذكر.
(سر المسألة) يعني سر مسألة جواب هذه الشبهة أن تقول (إذا قال: أنا لا أشرك بالله. فقل له: وما الشرك بالله؟) لكن أن تسأل ما هذا الذي نفيته؟ (إن قال: هو عبادة الأصنام. فقل: ما عبادة الأصنام؟)، (إن قال أنا لا أعبد إلا الله فقل ما عبادة الله وحده؟) فدائما تجعله جاهلا بمعنى تجره إلى ميدان الجهل حتى يقول: أنا جاهل، فإن قال: أنا جاهل. فتنتقل معه من الحجاج إلى التعليم.
وإن فسرها هذا نوع ثاني من الناس إن فسرها بما في القرآن لكنه جهل أو اشتبه عليه دخول المعاصرين وعبادة غير الله في هذه الأزمنة بما جاء في القرآن، ففسرها بما في القرآن، فتقول هذا هو المطلوب فتبيِّن له وجه الشبه.
إن فسر ذلك -هذه الحال الثالثة- بغير معناه، وهذه خاصة بأهل العلم ومن يُدلون بالشبه من المنتسبين إلى العلم وعلمهم غير نافع، إن فسر ذلك بغير معناه بينت له الآيات الواضحة في معنى الشرك بالله.
إن فسر الشرك بغير معناه الصحيح تذكر له الآيات الواضحة في معنى الشرك، وأنّ الشرك يكون بأنواع كما جاء في القرآن وكما بينه الشيخ رحمه الله في كتاب التوحيد.
بيّن له معنى عبادة الأوثان، فإذا بينت له ذلك يتضح (أنه الذي يفعلونه في هذا الزمان بعينه وأن عبادة الله وحده لا شريك له هي التي ينكرونها علينا ويصيحون فيه كما صاح إخوانهم حيث قالوا ﴿أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾[ص:5])
قال رحمه الله بعد ذلك (فإن قال) هذا دخول في شبهة جديدة، (فإن قال) يعني نوع من موردي الشبه (إنهم لا يكفرون بدعاء الملائكة والأنبياء) هذا نوع من الناس يقول: لا كفرهم كان بشيء آخر ليس بالشرك بالله ولا بالتوجه بالصالحين ولا التوجه للأنبياء، هذه الأمور جائزة؛ لكن كفرهم كان بشيء آخر ما هذا الشيء؟
قال (وإنما يكفرون لما قالوا: الملائكة بنات الله، فإنّا لم نقل عبد القادر ابن الله ولا غيره) وهذه كثير ما يوردها الصوفية في أن الأولين كفروا باعتقادهم أن الملائكة بنات الله جل وعلا، وهذا الاعتقاد مبين في القرآن في سور كثيرة كسورة النحل وسورة الصافات وسورة الزخرف وغير ذلك من السور.
قال (لم نقل عبد القادر) يعني الجيلاني وهو معظم ومؤلَّه في العراق وفي الباكستان والهند وفي غيرها أيضا إن قال أنا لم أعتقد في عبد القادر أنه ابن لله ولا في النبي ﷺ أنه ابن لله ولا في عيسى أنه ابن لله ولا في كذا أنه ابن لله ولا في البدوي أنه ابن لله ولا في علي رضي الله عنه أنه ابن لله إلى آخر ذلك، وهؤلاء إنما كفروا في أن الملائكة بنات الله؛ يعني اعتقاد البنوة، مثل ما قال البوصيري في قصيدته الميمية المعروفة قال:
دَعْ ما ادعته النصارى في نبيهم واحكم بما شئت [مدحا] فيه واحتكم
أو كما قال.
وقال أيضا
لو ناسبت قدْرَه.......... ...........................
يعني النبي ﷺ
لو ناسبت قدره آياته عظما أحيى اسمه حين يُدعى دارس الرمم
فيقول قل ما شئت في النبي ﷺ من وصفه بما شئت إلا في شيء واحد، وهو ألا تقول كما قالت النصارى في عيسى إنه ابن لله جل وعلا، ويفهمون هذا على الحديث الذي رواه البخاري وغيره في قوله عليه الصلاة والسلام «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، وإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله» قالوا فمعنى الحديث أنه لا تبلغوا بي مبلغ النصارى في قولهم إن عيسى ابن الله وما هو غير ذلك فجائز لكم، هكذا يفهمونه، وهذه حجة طائفة كبيرة من غلاة الصوفية وأصحاب الطرق في قولهم: إنّ المحرم والشرك هو ادعاء البنوة، أما غير ذلك فليس من الشرك بالله كما قال:
دع ما اعدته النصارى في نبيهم واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم
أو كما قال.
قال (فالجواب) هذا جواب هذه الشبهة (إن نسبة الولد إلى الله كفر مستقل) بيّن أن نسبة الولد إلى الله كفر لكنها ليست كل الكفر، فقال جل وعلا ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)اللَّهُ الصَّمَدُ(2)لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3)وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ(4)﴾[الصمد]، (والأحد الذي لا نظير له) (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) أحد يعني لا نظير له في ذاته ولا نظير له في أسمائه ولا نظير له في صفاته جل وعلا، واحد في ألوهيته لا شريك له واحد في ربوبيته لا شريك له واحد في أسمائه وصفاته لا سمي له، فكما أنه لا شريك له في الربوبية.....([51]) (المقصود في الحوائج) ودلت الآية على نوعين (فمن جحد هذا كفر ولو لم يجحد السورة) دلت الآية على نوعين النوع الأول هو من لم يجعل الله واحدا وجعله اثنين كاعتقاد طائفة من النصارى، أو اعتقده ثلاثة كاعتقاد طائفة أخرى من النصارى وغيرهم، فقوله جل وعلا (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ... لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) هذا فيه رد على من اعتقد البنوة، وقوله (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)اللَّهُ الصَّمَدُ) رد على أنه يُصمد في الحوائج إلى غيره.
فإذن سورة الإخلاص دلت على كفر نوعين من الناس:
· وهم من لم يجعل الله مختصا بالأحدية.
· ومن لم يجعل الله مختصا بالصمدية، والصمد هو الذي يصمد إليه في الحوائج؛ يعني يقصد وحده كزن ما سواه.
قال (فمن جحد هذا فقد كفر ولو لم يجحد السورة) هذا برهان على أن الشرك في القرآن ليس هو وأن المشركين -مشركي العرب وغيرهم- ليسوا معتقدين في البنوة وحدها بل معتقدين في البنوة ومعتقدين أيضا في الشريك مع الله جل وعلا في العبادة، وقال تعالى ﴿مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَّلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ﴾[المؤمنون:91]، قال الشيخ رحمه الله (ففرق بين النوعين وجعل كلاًّ منهما كفرا مستقلا) وهذا استدلال واضح قوي؛ إذ قال جل وعلا (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَّلَدٍ) يعني قبل أن يخلق الخلق ولا بهد أن يخلق بعد أن خلق الخلق ولو اتخذ الرحمن ولدا لعبدنا ذلك الولد طاعة لله جل وعلا وامتثالا لأمره كما سبحانه في سورة الزخرف ﴿قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ العَابِدِينَ﴾[الزخرف:81]، على الصحيح في تفسيرها أنها على ظاهرها: أنا أول من يعبد هذا الولد لو اتخذه الرحمن امتثالا لأمر الله وطاعة له جل وعلا، والواقع أن هذا لا يكون ولا يمكن إذ الله جل وعلا ما اتخذ مما يخلق بنات ولم يتخذ سبحانه ولدا؛ لأنه لم يلد ولم يولد، ولو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء، بتنزهه سبحانه وتعالى عن الولادة بدأ وأصلا وفرعا.
فإذن فقوله (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَّلَدٍ) هذا نفي للولادة ولاتخاذ الولد، قال (وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ) وهذا نفي لنوع آخر، وكما هو مقرر في العربية والأصول أن واو العطف هذه تفيد التغاير -تغاير الذات وتغاير الصفات-.
· فتغاير الذات كما تقول دخل محمد وخالد، فذات محمد غير ذات خالد.
· وتغاير الصفات كما في قوله جل وعلا ﴿تِلْكَ آيَاتُ القُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ﴾[النمل:1]، فهنا القرآن هو الكتاب؛ ولكن الواو هنا دلت على تغاير الصفة فهو كتاب وهو قرآن.
فقوله جل وعلا هنا ﴿مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَّلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ﴾[المؤمنون:91] كما قال الشيخ (فرّق بين النوعين) ودلت الواو على تغاير ذات الإله عن ذات الولد باعتبار اعتقاد المشركين وعلى تغاير صفة الإله عن صفة الولد وهذا هو الواقع في اعتقدهم، فإنهم إذا توجهوا للولد فإنهم إنما يتوجهون إلى الله كما يقول النصارى أب وابن وروح القدس إله واحد يجعلون الإله الواحد له ثلاثة أقانيم، أو كما يقول طائفة أخرى من النصارى إنه أب وابن فيجعلونه أقنومين فقط، فهذا توجه لشيء واحد باختلاف الأقانيم، وهذا داخل في الولادة حيث قال جل وعلا (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَّلَدٍ) الشيء الثاني (وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ) فالآلهة في الواقع هذه مغايرة في الذات للولد ومغايرة في الصفات، لا يقال إن الولد متخذ إله؛ لأن قول العلماء "مغايرة في الذات" يصدق عليه اختلاف الجمع والمفرد والعام والخاص، فإذا عُطف عام على خاص فيعتبر عندهم تغاير في الذات.
مثل ما قال جل وعلا ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ﴾[البقرة:98]، فعطف جبريل وميكال على الملائكة وهذا تغاير في الذات، واضح؟ تغاير في ذوات؛ لأن الثاني بعض الأول فالعام إذا جاء بعده خاص يعتبر تغاير في الذوات.
﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾([52]) هذا تغاير في الصفات -لأني أشوف كثير منكم وأنا أتكلم يفكر في.... يعني ما فهم هذا-.
المقصود أن استدلال الشيخ في محله حجة واضحة حيث قال (ففرّق بين النوعين وجعل كلا منهما كفرا مستقلا وقال تعالى ﴿وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ وَخَلَقَهُمْ ﴾) بعني مع خلقه لهم جعلوا له شركاء الجن (﴿وَخَرَقُوا لَهُ﴾ -وفي القراءة الأخرى ﴿وَخَرَقُوا لَهُ﴾- ﴿بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾[الأنعام:100] ففرَّق بين كفرين) فجعل الشرك بالجن هذا نوع، وجعل خرق البنين والبنات له سبحانه نوع آخر، قال (ففرق بين كفرين والدليل على هذا أيضا أن الذين كفروا بدعاء اللاتّ) إلى آخره.
المقصود من هذه الأدلة أن قول القائل: ما كفرت العرب ولا النصارى ولا اليهود إلى آخره إلا باعتقاد البنوة. فهذا الكلام باطل وهذه الشبهة مردودة على أصحابها بالأدلة التي ذكرت.
وتوسع الشيخ رحمه الله فقال (والدليل على هذا أيضا أن الذين كفروا بدعاء اللاتّ -مع كونه رجلا صالحا- لم يجعلوه ابنا لله والذين كفروا بالجن لم يجعلوهم كذلك، وكذلك أيضا العلماء في جميع المذاهب الأربعة يذكرون في باب حكم المرتد أن المسلم إذا زعم أن لله ولدا فهو مرتد ويفرقون بين النوعين، وهذا في غاية الوضوح) الأمة مجمعة والفقهاء والأئمة مجمعون على أن الردة ليست مخصوصة باعتقاد الولد لله جل وعلا، فدلّ هذا على بطلان هذه الشبهة، وهذا استدلال واضح بين والحمد لله وهذا كما قال الشيخ في آخره (وهذا في غاية الوضوح).
نقف عند هذا، ونسأل الله جل وعلا أن يوفقني وإياكم إلى ما يحب ويرضى.
وأكرر في أن الانتفاع فيما نذكر يعظُم عندما تعرف كتاب التوحيد وشرحه، وخاصة ما ذكرناه من الأدلة وأوجه الاستدلال في شرحي على كتاب التوحيد؛ لأن فهم كشف الشبهات مبني على فهم كتاب التوحيد؛ لأنك إذا قلت إيراد: ما معنى العبادة؟ ما معنى عبادة الأصنام؟ الشفاعة؟ كل هذه تفصيلها هناك وليس تفصيلها في هذا الكتاب.
[الأسئلة]
... أنا نبهت في أول الأمر إلى أن هذه الشبهة التي جاءت اليوم هي تكرير لما سبق لكن باعتبار مختلف؛ لأن المُورِد لهذه الشبهة عنده ما ليس عند المورد للأولى، الشيخ قد يكرر لهذا.
... هذا الذي خلاّني أستطرد بعض الشيء، لما قلت المغايرة بين الذات والصفات شفت كثير من الإخوة حلقت عيونهم في السماء، الواو تقتضي في اللغة الجمع مطلق الجمع والمغايرة، وإذا قلنا مطلق الجمع فالمراد بلا ترتيب، بلا ترتيب في الزمان ولا في المكان ولا في الفضل، وتفيد أيضا المغايرة، والمغايرة تعني أنّ ما بعد الواو غير ما قبل الواو، وقد يكون ما بعد الواو يعني المعطوف والمعطوف عليه ما قبل الواو قد يكون هذا وهذا من الذوات.
فإذن الثاني غير الأول مثل ما مثّلتُ لكم دخل محمد وخالد، (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ) كل شيء مختلف عن الثاني هذا تغاير في الذوات واضح؟.
الثاني التغاير في الصفات.
ذكرت لك أن التغاير في الذوات لا يسقط بأن يكون الأول بعض الثاني ولا أن يكون الثاني بعض الأول؛ يعني إذا جاء عام بعد خاص معطوف بالواو، فيصدق عليه أنه تغاير ذوات؛ لأن الذات الثانية أعظم وأكثر من الذات الأولى في عطف العام على الخاص، أو الأولى أكثر ذواتا من الثانية.
فإذن تغاير في الذوات يعني هذا ليس هو هذا، من جهة الذات.
والثاني تغاير في الصفات، والتغاير في الصفات يكون في المعاني مثل ما ذكرت لكم (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) الإيمان والعمل الصالح ليس ذاتا، وإنما هو معنى، أليس كذلك؟ الإيمان هل هو ذات تُرى؟ العمل الصالح ذات ترى؟ ليس عينا ولا ذاتا وإنما هو معنى، فإذن العطف بالواو بين المعاني يدل على تغاير الصفات، فيكون الأول غير الثاني من جهة الصفة، ولهذا نقول إنه إذا قيل (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) على تعريف أهل السنة للإيمان ودخول العمل في مسماه هذا يفهم من وجهين:
الأول: أن العمل خاص بعد عام، فالإيمان عام والعمل خاص فحصل تغاير في الصفة من جهة الشمول.
والثاني: أن الإيمان إذا قرن به العمل الصالح فيعنى بالإيمان التصديق الجازم بالأشياء والعمل الصالح هو العمل، فهذا يغاير ذاك في الحيثية.
والثاني اختيار شيخ الإسلام بن تيمية (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدَّا﴾[مريم:96]، يعني بالإيمان الأصل اللغوي ومعناه وهو أيضا الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله إلى آخره؛ يعني ما هو قسيم للإسلام، الإسلام العمل الظاهر الإيمان الاعتقاد الباطن (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) تغاير في الصفة، إذْ الأول يدل على العمل الباطن والثاني يدل على العمل الظاهر مثل قوله جل وعلا ﴿تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ﴾[الحجر:1].
بعض المعاصرين الجهلة قال: هذا يدل على أن القرآن غير الكتاب؛ لأن الواو تقتضي المغايرة فالقرآن شيء والكتاب شيء، والقرآن هو ما لا يقبل التغيير أما الكتاب فيقبل التغيير في مؤلف ألفه باطل معروف، هذا ناتج من الجهل باللغة.
فقوله (تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ)، (تِلْكَ آيَاتُ القُرْآنِ وَكِتَابٌ مُبِينُ) في سورتين هذا يدل -العطف بالواو- على تغاير صفة الكتاب عن صفة القرآن، لا على تغاير القرآن عن الكتاب، والصفة التي حصل فيها التغاير أن القرآن فيه صفة القراءة، والكتاب فيه صفة الكتابة.
فإذن هذا دليل على أنه مكتوب وأنه سيُقرأ حيث كان مكتوبا.
وهذا البحث يُبحث في الأصول وأيضا في النحو وفي كتب حروف المعاني وبحث معروف ومهم؛ لأن فهم الاستدلال مبني عليه.
س/ الآية في قوله جل وعلا ﴿مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَّلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ﴾[المؤمنون:91] ما وجه المغايرة في الصفات؟ يسأل الأخ.
ج/ الجواب: أن الإلهية غير صفة اتخاذ الولد وما كان معه من إله فالاتخاذ اتخاذ الولد شيء غير كون إله معه، فاتخاذ الولد من الله كما يقول أولئك اتخذ الله عيسى ولدا، أو اتخذ الله العزير ولدا.
فإذن جعلوا عيسى ولدا ليس بدعواهم ولكن باتخاذ الله له، وأما وجود الإله (وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ) فهذا وجود للإله الحق مع الله جل وعلا فمن هذه الجهة كان غير متخذ، فالأولى فيها الاتخاذ والثانية فيها وجود الإله، فهذا كفر وهذا كفر.
نقف عند هذا وأسأل الله جل وعلا لي ولكم التوفيق والسداد وصلى الله وسلم على نبينا محمد
¹
[المتن]
[وإن قال: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[يونس:62]، فقل: هذا هو الحق لكن لا يعبدون ونحن لم نذكر إلا عبادتهم مع الله وشركهم معه وإلا فالواجب عليك حبهم واتباعهم والإقرار بكرامتهم، ولا يجحد كرامات الأولياء إلا أهلُ البدع والضلال، ودين الله وسط بين الطرفين، وهدى بين ضلالتين، وحق بين باطلين.]([53])
فإذا عرفت أن هذا الذي يسميه المشركون في زماننا هذا "كبيرُ الاعتقاد" هو الشرك الذي نزل فيه القرآن وقاتل رسول الله ﷺ الناس عليه، فاعلم أنَّ شرك الأولين أخف من شرك أهل زماننا بأمرين:
أحدهما: أن الأولين لا يشركون ولا يدعون الملائكة والأولياء والأوثان مع الله إلا في الرخاء، وأما في الشّدَّة فيخلصون لله الدين كما قال تعالى ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا﴾[الإسراء:67]، وقوله ﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ﴾[الأنعام:40-41]، وقوله ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ للهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ﴾[الزمر:8]، وقوله ﴿وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾[لقمان:32].
فمن فهم هذه المسألة التي وضحها الله في كتابه وهي أن المشركين الذي قاتلهم رسول الله ﷺيدعون الله تعالى ويدعون غيره في الرخاء، وأما في الضر والشدة فلا يدعون إلا الله وحده لا شريك له، وينسون ساداتهم، تبيّن له الفرق بين شرك أهل زماننا وشرك الأولين، ولكن أين من يفهم قلبُه هذه المسألة فهمًا راسخًا؟! والله المستعان.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأسأل الله جل وعلا لي ولك العلم النافع والعمل الصالح والقلب الخاشع، وأن يجعلنا ممن إذا علموا عملوا، وإذا عملوا سألوا الله جل وعلا الثبات والرشد والسداد، اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، فلا حول لنا إلا بك.
ذكر الإمام رحمه الله تعالى مسألة جديدة يوردها المشركون ويُلَقَّنُها من يلقنها من عوام المشركين ومن المتعلمين عندهم، وهذه المسألة هي مسألة كرامات الأولياء، فإن عبَّاد الأموات وعبَّاد غير الله جل وعلا في الأعصر المتأخرة يروِّجون كرامات الأولياء ليدلُّوا الناس بذلك على أن هذا الولي الذي صار له من الكرامات كذا وكذا أنه يستحق أن يُدعى وأن يستشفع به وأن يستنصر به وأن يستعاذ به وأن يتوكل عليه إلى آخر أنواع العبادة، فجعلوا حصول الكرامات ورؤية من رأى هذه الكرامات والإقرار بذلك، وأنَّ أهل السنة يقرون بكرامات الأولياء، جعلوا ذلك سُلَّما لدعوة الناس لعبادة غير الله جل وعلا، وهذه حجة كثير ما يرددها الخرافيون، فينبغي لأهل التوحيد وللدعاة إليه أن يقفوا عند هذه الشبهة كثيرا، وهذا الوقوف بيّنه الشيخ رحمه الله تعالى أتم بيان.
فقال (وإن قال ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[يونس:62] فقل هذا هو الحق ولكن لا يُعبدون)؛ يعني أن قوله تعالى (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) رُتِّبَ آخره على أوله فجُعل الأولياء لهم كرامة، وهذه الكرامة هي أنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فالولي ولي الله جل وعلا الذي حقق الوَلاية بالإيمان التقوى لا خوف عليه ولا يحزن، وهذا ظاهر الآية ودلَّ ذلك على أن هؤلاء لهم منزلة خاصة عند أهل الإيمان؛ بل عند الله جل وعلا وهذه المنزلة إنما هي لأجل إيمانهم ولأجل تقواهم، ولهذا قال بعدها في وصف الأولياء ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ(63)لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾[يونس:63-64]، ففي الآية التي ساقها الشيخ ذِكر الأولياء وذِكر أنهم لا خوف ولا هم يحزنون، وهذه يحتج بها كل من يعبد غير الله جل وعلا، ويحتجون بها على أن الوَلي له ما ليس لغيره، فماذا يصنع الموحد لجواب هذه الشبهة؟ قد ينساق إلى أن يقول إنَّ هذا الذي تقول إنه ولي ليس بولي أصلا، وهذا يجعل الموحِّد في زاوية ضيقة ويحرج نفسه كثيرا لأنه يخرج عن ميدان الحجة إلى ميدانٍ الحجة فيه متوهمة.
فميدان الحجة أن الولي يَعبد ولا يُعبد، وهو من جهة غيرته يخطئ فيقول: هذا أصلا ليس بولي.
فمثلا لو ناقش أحدا عن عبادة البدوي وما يحصل عند قبره من الاستغاثة بغير الله ومن النذور للبدوي ومن الاستعانة به ومن طلب كشفه للضر وأشباه ذلك، لو جاء وناقش من يقول هذا ولي والله جل وعلا يقول (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) قد يبتدئ بعض أهل التوحيد فيقول: من قال لك أن هذا ولي؟
فتنصرف الحجة إلى مسألة يصعب معها الإثبات أو النفي، فيكون ذاك يستدل بما يورده أصحاب الكرامات أنه كان له كذا وكذا، ونذهب عن أصل المسألة وهي أنه لا يُعبد سواء كان وليا أو غير ولي إلى هل هو ولي أم لا؟
وبعض الموحدين في بعض الأقطار الإسلامية يسلكون هذه الطريقة، وهي غلط وليست على طريقة أهل العلم وأئمة الدعوة رحمهم الله، وليس كذلك أيضا ما جاء في القرآن لتقرير التوحيد ومناقشة المشركين في آلهتهم، فإن الذي في القرآن أنَّ ألآلهة التي عُبدت أنها لا تستحق العبادة قال جل وعلا ﴿أَفَرَأَيْتُمْ اللَّاتَ وَالْعُزَّى(19)وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى﴾[النجم:19-20] إلى آخره، بيَّن أنه لا تستحق العبادة، وكذلك فيما هو غير ذلك من عبادة من يُعبد، بين أنه لا يستحق العبادة، أما الكلام في ذاته وأحواله فهذا ليس من الدعوة الحقة؛ بل يترك هذا لأن الغرض هو تقرير التوحيد.
فإذا قال لك هذا ولي من أولياء الله. فلو كان عندك ليس بولي بل نقل عنه العلماء ونقلت عنه التراجم أنه كان ينرك الصلاة أنه كان يقول كلمات كفرية أو لم يكن صالحا أو كان كافرا أو إلى آخره، فلا تذهب إلى هذا؛ لأن مصير هذا الرجل عند الله جل وعلا، ولكن إذهب إلى الحق المطلق وهو أن الولي يَعبد ولا يُعبد، وأن الكرامات التي أعطيها الولي له وليست لغيره، وهذا هو الذي بينه الإمام رحمه الله تعالى هنا فقال (فقل هذا هو الحق)؛ يعني أن الأولياء لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (ولكن لا يُعبدون)؛ يعني أن الأولياء في الآية أنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وأنهم الذين آمنوا وكانوا يتقون وأن لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، لم يذكر أنهم يعبدون؛ بل في آيات أخر بين أن من اتخذ وليا من دون الله فقد ضلّ وخسر خسرانا مبينا كما قال جل وعلا ﴿قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا ﴾[الرعد:16]، وكقوله جل وعلا ﴿وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا﴾[النساء:119]، يعني أنّ المردّ ليس إلى كونه وليا أو غير ولي، المردّ أن العبادة لله جل وعلا، قال سبحانه (قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) فهذه الآية قد تنفع أهل التوحيد في الاحتجاج على أهل الشرك في أن الله جل وعلا ذكر أن الأولياء لا يتخذون من دونه، (قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) يعني فيكون من دونه يعني من دونه في العبادة أولياء فجعلتهم الأولياء معبودين، وهذا وإن كان ليس هو من تفسيرها الصحيح؛ ولكنها حجة في رد الاحتجاج بلفظ الأولياء على العبادة، وإلا فمن المعلوم أن قوله تعالى (قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) لا يقصد به فلان الولي إنما يقصد به الوَلاية يعني النصرة والمودة وأشباه ذلك؛ لكن هذه الآية وأشباهها في القرآن يُحتج بها على إبطال التعلق بلفظ الأولياء، والشيخ رحمه الله هنا قال (فقل هذا هو الحق؛ ولكن لا يُعبدون) لأن الآية دلت على أن هؤلاء الأولياء لهم الكرامة لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكن ليس في الآية أنهم يُعبدون ولا أنهم يستغاث بهم ولا أنهم يُدعون من دون الله جل وعلا.
قال بعد ذلك (ونحن لم نذكر إلا عبادتهم مع الله وشركهم معه جل وعلا) يعني أننا لم نتكلم معك بأن هذا ليس بولي وليس بصالح وليس له كرامات؛ بل له كرامات وهو ولي وهو كذا وكذا؛ لكن ليس معبودا مع الله جل وعلا، ونحن لم نناقشك في شأنه؛ بل شأنه وكرامته حصلت له والأمر غيبي فهو عند الله جل وعلا ولا يُدرى بماذا خُتِم له؛ لكن إن كان مات على الولاية فهو عند الله جل وعلا له مقام الأولياء، ونحن لم نتكلم معك في شأن ولايته هل هو ولي أو ليس بولي، إنما الكلام في أنه هل يستحق أن يُعبد هل هو يشرك به مع الله في هذه الأفعال أم لا؟ فهذا يجعل الموحد مُنصفا ويجعله صاحب برهان جيد وواضح ويجعله أيضا حاذقا بأن لا يجرُّه الخصم إلى ميدان معركة يصرفه فيها عن الحق.
مثل مرة أتاني بعض الإخوة وقال: هناك رجل من بعض البلاد الأفريقية يريد أن يبحث بعض الأمور وأنا ذكرت له أن يأتيك، جاءني وذكرت له بعض المسائل في التوحيد وتعريف التوحيد والعبادة وكلام أهل العلم في الشرك إلى آخره بكلام مطوّل. فقال: الذي كرَّه الذين يدعون إلى التوحيد في بلادنا -كره الناس فيهم- هو أنهم ينشرون في الناس أن هؤلاء الذين يتعلَّقون بهم أنهم ليسوا بصالحين وليسوا بأولياء؛ بل هؤلاء الأموات منهم المشرك ومنهم الكافر ومنهم الذي كان يفعل كذا ويفعل كذا ويفعل الموبقات، فينشرون أشياء عنهم لا يمكن أن نقبل حمية لهم ولهؤلاء الأولياء لا يمكن أن يتكلم أحد فيهم، فأخذتنا الحمية لهم عن سماع ما عند هؤلاء من الكلام في التوحيد.
وهذه في الحقيقة أفادت كثيرا مع أنها واضحة في كشف الشبهات؛ لكن أفادت من حيث التطبيق فإن الذي ينبغي على طالب العلم أن يكون صبورا في دعوته، وأن لا يستجره الخصوم إلى ميدان ليس هو ميدان الدعوة؛ بل يركِّز على الأصل الذي دعا الناس إليه، وأما الكلام على فلان وهل هذا كان وليا أو ليس بولي صالح أو ليس بصالح ليس الكلام في هذا.
أولياء الله جل وعلا عندنا لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ولهم الكرامات؛ لكن الكلام في أنه هل يجعل الولي معبودا مع الله؟ هل يستغاث بالولي؟ هل يذبح للولي؟ وإلا فلا شك أن الولي له المقام عند الله جل وعلا إذا خُتم له بخير.
وهذا يجعل الموحد يحتج بحجة واضحة ولا ينساق بعاطفته إلى إثبات شيء أو إبطاله لا صلة له بمحض الحق أو ربما يكون هذا متأخرا من حيث الاحتجاج.
قال (فقل هذا هو الحق ولكن لا يعبدون ونحن لم نذكر إلا عبادتهم مع الله وشركهم معه) وهنا من قال كيف أُشرك بهم هل عبدوا لم يعبدوا؟ ترجع إلى المسائل التي مرت في الدرس الماضي بتفصيلاتها.
قال (وإلاّ فالواجب عليك حبهم واتباعهم والإقرار بكراماتهم) الواجب علينا جميعا حب أولياء الله جل وعلا إجمالا وتفصيلا فيمن علمنا أنه من أهل الإيمان والتقوى واتباعهم على ما هم عليه من العمل؛ ولأنهم لم يكونوا أولياء إلا باتباع محمد عليه الصلاة والسلام، ولهذا نتبعهم فيما به صاروا أولياء، فنحب نبينا عليه الصلاة والسلام ونتبع سنته ونحكِّم ما جاء فيها على مرادات القلب وعلى الظاهر وعلى المقامات وعلى الأحوال التي تعرض، والإقرار بكراماتهم يعني الواجب أن نقر بكرامات الأولياء؛ لأنه لا يجحد كرامات الأولياء إلا أهل البدع والضلال.
وذكرنا لك في الكلام على الواسطية معنى كرامات الأولياء، ومن هو الولي، وما شروط الولاية، ومذهب أهل السنة في كرامات الأولياء، والمذاهب في ذلك، فيراجع في ذلك الموضع.
فقول الشيخ رحمه الله (ولا يجحد كرامات الأولياء إلا أهل البدع والضلال) يعني بهم الخوارج والمعتزلة فإنه الذين ينكرون كرامات الأولياء كما سبق.
قال (ودين الله وسط بين الطرفين) هذا بعامة دين الله وسط بين الغالي والجافي، الإسلام وسط ما بين غلو النصارى وما بين جفاء اليهود، وأهل السنة وسط ما بين الفرق بين الخوارج والمرجئة وما بين المجسمة والمعطلة وما بين الطوائف المختلفة في هذا الباب في الإيمان وفي أسماء الله جل وعلا وصفاته، وفي الأسماء والأحكام وفي الصحابة وفي أمهات المؤمنين وفي الفتن إلى آخره، وأهل السنة أيضا وسط؛ لأن دين الله جل وعلا وسط، قال (وهدى بين ضلالتين، وحق بين باطلين).
أشار بذلك إلى أن مسألة الأولياء منهم من غلا فيها فجعل الولي ينازع الله في الألوهية أو له نصيب من الألوهية كقول غلاة الصوفية والباطنية وطوائف جعلوا الولي له شيء من خصائص الألوهية بل جعلوا الولي يفوض إليه شيء من الربوبية والعياذ بالله فهذا في الجهة الغالية.
والجهة الجافية كالخوارج والمعتزلة الذين أنكروا كرامات الأولياء، وذكرنا لكم أنهم أنكروا كرامات الأولياء حتى لا تشتبه حجج الأنبياء والآيات والبراهين والمعجزات التي يعطيها الأنبياء بكرامات الأولياء فنحن أعني أهل السنة يقرون بأن الأولياء لهم كرامات، وأنهم مكرمون عند الله وأن لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة كما أخبر الله جل وعلا بذلك عنهم؛ لكن لا نغلوا في ذلك ونجعل لهم صفات ليست في البشر ولا نجفوا عنهم وننكر كراماتهم؛ بل نحن وسط بين الجافين والغالين، فهم يَعبدون ولا يُعبدون ويُرزقون ولا يَرزقون، ويدعونه جل وعلا رغبا ورهبا وكانوا له جل وعلا خاشعين، ويدعون الناس إلى محبته جل وعلا وإلى توحيده وإلى نصرته.
كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية عن نفسه أنّ أصحابه وقعوا مرة في دمشق ومرة في خارجها في شدة فظهر لهم الشيطان في صورة شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال: أتَحتاجون شيئا فأنصركم؟ فمنهم من طلب منه فلما ذكروا ذلك لشيخ الإسلام، ظن بعضهم أنه في دمشق أنه جاءهم فقال لا أنا لم أبرح مكاني وهذا الشيطان عرض لكم ليوقعكم في الشرك.
وإذا تأملت في سيرة الأولياء الصالحين من الصحابة فمن بعدهم ومن أهل البيت وجدتهم جميعا ينكرون الشرك بالله جل وعلا، ويأمرون أتباعهم بالإخلاص -إخلاص الدين لله- واتباع السنة وعدم مخالفة الكتاب والسنة والرغب فيما عند الله وحده وألا يُعَظَّم البشر كتعظيم الله جل وعلا التعظيم الذي لا يجوز إلا له إلى آخر ذلك.
فمن جمع كلام الأولياء في التوحيد وجاء أنهم أقاموا الحجة على من اقتدى بهم أو من اتبعهم، ومعلوم أن الفِرَق الصوفية والطرق المختلفة بَنَتْ كلُّ طريقة على أقوال شيخ لها اعتقدوه وليا فأخذوا كلامه.
فيناسب الموحِّد في البلد الذي يكون فيها طائفة من الطوائف الصوفية أو الطريقة أن يجمع كلمات هذا في مؤلَّف وينشرها بينهم لتكون حجة بين من أخذ بطريقة هذا الشيخ.
فمثلا في البلاد التي فيها عبد القادر الجيلاني عبد القادر له كتب قيمة الغنية وغيرها والفتوحات كتب فيها التوحيد وفيها الأمر بعبادة الله وحده، فلو استخرجت لكان فيها حجة على أقوامهم.
شيخ الإسلام ابن تيمية هو الذي لفت النظر إلى هذه الطريقة حيث كتب الرسالة السنية المعروفة المسماة بالوصية الكبرى لأتباع عدي بن مسافر، وعدي بن مسافر يغلو أصحابه فيه وطائفته يقال لهم العدوية في الشام، وكذلك نقل عن أحمد الرفاعي كلمات في الأمر بالسنة والنهي عن البدع والنهي عن الشرك، فيَحسن أن تكون طريقة الداعية في البلد أن يجمع كلام هؤلاء الأولياء -إذا كانوا بحق أولياء- ويقول للناس هذا كلام الأولياء في التوحيد، فهذا فيه حجة في هذه المسألة ويعطي الحقيقة المخالف أننا نحب أولياء الله بعامة، وأننا نتولاهم ولا ترد كلّ ما يقولون، وإنما نرد ما خالفوا فيه الحق فقط.
قال (فإذا عرفت أن هذا الذي يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد والشرك الذي أنزل فيه القرآن وقاتل رسول الله ﷺ عليه) قوله (الذي يسميه المشركون في زماننا هذا الاعتقاد) أو (الاعتقاد الكبير) أو (كبير الاعتقاد) يعني اعتقاد الناس في الأولياء وما لهم من الكرامات، لأنّ الاعتقاد قسمان عند الضلال عند الخرافيين:
الاعتقاد العام وهو الاعتقاد في الله جل وعلا العقيدة المعروفة كل على حسب مذهبه، الأشعري على أشعريته، والماتريدي على ماتريديته، بحسب البلد الذي هو فيه.
وهناك شيء يتّفقون عليه وهو الاعتقاد الكبير أو كبير الاعتقاد وهو الاعتقاد في الموتى وفي تصرّف أرواحهم، وأن أرواحهم لها من التصرف والجولان في الملكوت ما يمكنها أن تسمع نداء من يناديها، أو أن تجيب طلب من يطلب منها وأنّ لها التصرف في الكون وأنها تطلب من الله وأن الله جل وعلا لا يردّ لها طلبا إلى آخره، ويُدخلون هذا في الحديث عن الأولياء؛ بل يجعلون كرامات الأولياء منشأ هذا الاعتقاد، فيذكرون الكرامات ثم يبعثون هذا الاعتقاد.
وكان هذا موجود في نجد وهناك كتب أو رسائل مؤلفة في هذا في ذلك الزمان.
قال (فإذا عرفت هذا الذي يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد أو كبير الاعتقاد هو الشرك الذي أنزل فيه القرآن وقاتل رسول الله ﷺ عليه فاعلم أن شرك الأولين أخف من شرك أهل زماننا بأمرين).
الأول: التفريق ما بين حال المشركين في هذا الزمان وفي زمان العرب الأول؛ لأن أولئك لا يُشركون إلا في السّراء، وأما إذا جاءت الشدة والكرب يعلمون أنه لا منجِيَ إلا الله، ويخافون أن يفوت الوقت عليهم باتخاذ الواسطة، فيقولون هذا متى يصل إليك ومتى يرفع وهل سيرفع الآن أم لا يرفع الآن([54]) حاجاتهم فيجعلون التشفع في وقت السعة والإخلاص في وقت الضيق كما أخبر الله جل وعلا عنهم بقوله ﴿[وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ]([55]) فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ﴾[لقمان.32]، آية لقمان، والآية الأخرى في العنكبوت ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾[العنكبوت:65]، وقال جل وعلا أيضا في الآيات التي ساقها الشيخ (﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا﴾[الإسراء:67]) وهذه المسألة مُبَيَّنة على التفصيل في شرحنا للقواعد الأربع هذه هي القاعدة الرابعة الأخيرة في القواعد الأربع.
أهل هذا الزمان من المشركين عندهم أن الإشراك يكون في السراء والضراء على السواء؛ بل ربما عظم الرغب في وقت في وقت الضُّر فكانوا مثلا يعتقدون حتى في الكتب، مثل ما ذُكر مثلا في بعض التراجم أن أهلا بلد سموها كانوا لا يرحلون في البحر إلا وقد وضعوا نسخة من كتاب الشفاء للقاضي عياض المغربي المعروف في السفينة فهو إذن ليس اعتقادا في شخص ولكن هو في كتاب لما اشتمل عليه الكتاب من حقوق النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، وهذه تراجع في شرح القواعد الأربع.
قال في آخرها (ولكن أين من يفهم قلبُه هذه المسألة فهْمًا راسخًا؟! والله المستعان.) صحيح فإن كثيرين ممن عارضوا الدعوة استغربوا من الشيخ أن يقول شرك هؤلاء أعظم من شرك الأولين، قالوا: ما اكتفيت أن جعلتنا مساووين لأهل الجاهلية في الشرك حتى تجعل شرك أهل الإسلام أعظم من شرك أهل الجاهلية، فقال (أين من يفهم قلبه هذه المسألة فهما راسخا)، وفي قول الشيخ (أين من يفهم قلبُه) فيه إشارة للمذهب الحق وهو أن الفهم والإدراك وأشباه ذلك مردُّها إلى القلب، وليس إذا الذهن أو المخ أو العقل أو أشباه ذلك ولكن العقل إدراكه من جهة القلب كقول النبي ﷺ «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» والقلب ليس محط الإدراك لأنه مضغة؛ ولكن لأنه المكان الذي فيه أصل انتشار الروح في البدن تعلق الروح بالبدن، ومعلوم أن الإدراكات تبع للروح، فالروح هي المدركة ووسيلة الإدراك الآلات التي في البدن، فكما أن اليد وسيلة تناول الشيء والمحرك الروح، وكذلك المحرك الروح للسان والكلام الطيب أو بالكلام الخبيث المحرك الروح في التصرفات، والبدن أعضاؤه هذه وسائل لتنفيذ ما قام في النفس، لهذا المدرك في الحقيقة ليس هو البدن إنما المدرك الروح، والبدن وسيلة، البدن آلات، العينان آلة، واللسان آلة، والشم آلة، والمخ والدماغ آلة، والقلب آلة إلى آخره آلة لتحصيل المعارف للروح فهذه المسألة طويلة معروفة، قال الشيخ رحمه الله هنا (ولكن أين من يفهم قلبُه هذه المسألة فهمًا راسخًا؟!)، لاشك أن من فهم هذه المسألة فهما راسخا علِم أن هذا الذي قاله الشيخ حق وأن شرك هذا الزمان أعظم من شرك الأولين لمن أين من يفهمه.
¹
[المتن]
والأمر الثاني: أن الأولين يدعون مع الله أُناسًا مقرّبين عند الله: إما أنبياء، وإما أولياء، وإما ملائكة، أو يدعون أشجارًا وأحجارًا مطيعة لله ليست عاصية، وأهل زماننا يدعون مع الله أناسًا من أفسق الناس، والذين يدعونهم هم الذين يحكون عنهم الفجور من الزنى والسرقة وترك الصلاة وغير ذلك، والذي يعتقد في الصّالح والذي لا يعصي مثل الخشب والحجر أهون ممن يعتقد فيمن يُشاهد فسقه وفساده ويشهد به.
[الشرح]
هذه المسألة لأهل التوحيد، وليست للجواب على أهل الشبهات؛ بل هذه ليفهمها أهل التوحيد فهما راسخا، وهي أن الأولين يدعون مع الله أناسا مقرّبين عند الله، أو يدعون أشياء مطيعة لله جل وعلا، إما يدعون أنبياء مثل ما كان يدعى موسى ويدعى عيسى وتدعى أنبياء بني إسرائيل ويدعى إبراهيم عليه السلام أو أولياء من الصالحين كاللات وكغيره وإما ملائكة، ويدعون أشجارا أو أحجارا مطيعة لله ليست بعاصية، يدعون أشياء مسبحة لله مطيعة لن تخرج عن توحيده وطاعته، وأما أهل الزمان هذا فيدعون مع الله أناسا من أفسق الناس، فمثلا قوله (من أفسق) الناس، قد يكون من جهة أنه قد عرف في حياته الفسق والفجور بدعواه أنه سقطت عنه التكاليف، أو بكونه كان مجنونا وكان يفعل الأشياء لجنونه يفعل أشياء من الفسق والمنكرات والكبائر لجنونه، أو لكونه محادا معاندا فاسقا فاجرا أو كافرا في نفس الأمر، هذا نوع.
والنوع الثاني قد يدعون أشياء في محلاَّت يكون الدعاء منصبّ على نصراني، أو يكون الدعاء منصب على حيوان، أو يكون الدعاء منصب على يهودي أو نحو ذلك، وهذه المسائل تختلف باختلاف التحقيق فيها؛ يعني أن يقال هذا الذي يدعى ليس بصالح؛ بل هو نقل عنه أنه قال لأتباعه كذا وكذا، ذكر عن نفسه أنه سقطت عنه التكاليف، كان يعاشر المردان أو النساء فيفعل كذا وكذا من الفواحش، كان يشرب الخمر، كان لا يصلي كان يسرق كان يحتال إلى آخر ذلك، وهؤلاء لاشك أنهم ليسوا بأولياء وليسوا بصالحين؛ بل هم فسقة فجار وقد يكونون كفارا.
صنف من هؤلاء يدعى ويسأل، وهذا عند التحقيق إذا جمعت الكلام وجدت هذا الكلام صحيحا.
المعاندون أو الخرافيون ينقسمون تجاه هذا الكلام إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول من يقول هذا الذي تقولونه عنه ليس بصحيح أصلا، الذي ينقل عن عبد الوهاب الشعراني أنه قال كذا وكذا وكذا، يقولون هذا مدسوس على كتبه ليس من كتبه أصلا.
والصنف الثاني من المتأولين من يقول هذا الكلام لأهله فيه تأويل فإن اصطلاحات الصوفية تختلف عن اصطلاحات غيرهم فقد يقولون العبارات التي فيها كفر وليسوا يعنون ظاهرها، إنما يعنون معاني باطنة أخرى يفهمها القوم، مثل ما نقل عن ابن عربي أنه كذا وكذا أراد مقاصد طيبة؛ ولكن فهم كلامه على ظاهره، وهو لم يرد الظاهر ومثل ما ينقل عن التلمساني وابن سبعين وأشباه هؤلاء.
والطائفة الثالثة من تقول هؤلاء سقطت عنهم التكاليف أصلا، والتكليف يُراد منه أن يصفو الباطن ويَفْنَى عن شهود سواه ويفنى عن شهود غير الله جل وعلا، فإذا وصل إلى هذه المرتبة فلم ير إلا الله جل وعلا ولم يتجه إلا إلى الله جل وعلا فإن التكاليف والصلاة وتحريم الفواحش إنما هي لإصلاح نفسه، ونفسه قد بلغت المرتبة العليا فليس لإصلاحها مجال، وهذا قول الغلاة منهم، فيقول لا بأس لو فعل هذه الأفعال هو أصلا وصل وسقطت عنه التكاليف.
وهؤلاء الطوائف الثلاثة موجود حتى في المؤلفات من يتجه إلى فئة من هذه الفئات الثلاث.
هناك من المدفونين من الموتى من يتجه إليه على أن المدفون فلان الولي ويكون المدفون غيره، مثل ما ذكر شيخ الإسلام عن قبر الحسين بن علي رضي الله عنه في القاهرة، فقد حقق والعلماء كذلك حققوا والمؤرخون أنه لم يصل القاهرة، وإنما سيق من العراق إلى دمشق إلى يزيد بن معاوية رحمه الله تعالى ودفن هناك، والآن تجد قبر للحسين في العراق ومشهد عظيم، وفي الشام، وفي القاهرة. قال إن المدفون في القاهرة رجل يهودي في المكان هذا، وقالت طائفة المدفون حيوان أصلا في هذا المكان.
فإذن هم اعتقدوا في شيء؛ اعتقدوا في يهود، اعتقدوا في حيوانات، وهذا الصنف لم يكن يحوم حوله ذهن أهل الجاهلية أصلا ولهذا صار هؤلاء أعظم وأقبح.
هناك عمود كان في دمشق يُذهب إليه بالحيوانات، أو لأنواع من الحيوانات مثل البقر أو الجاموس أو الأغنام أو الإبل أو أشباه ذلك التي لم تلد؛ يعني طالت ولادتها أو صار فيها مرض أو أشباه ذلك فيطوقونها على هذا العمود فتلقي ما في بطنها فورا، فيظنون أن هذا من بركة ما تحت العمود، ويقولون هذا العمود كان يتعبد عنده رجل صالح، وشيخ الإسلام رحمه الله بيّن قال: هذا العمود دفن تحته رجل نصراني وساق الأدلة على ذلك، والحيوانات تسمع تعذيب النصراني في قبره، فلذلك إذا سمعت العذاب لن تتحمل فتسقط ما في بطنها؛ لأنه قد جاء في الحديث أنه إذا تولى عنه أهله طرق بمطرقة يسمعها من يليه إلا الثقلان، فالجن والإنس لا يسمعون العذاب لأنهم مكلفون لو سمعوا لهلكوا ولرعبوا ولما استقامت لهم الحياة أم الحيوانات فربما وصلها من ذلك شيء وربما سمعت، فكان تعلقهم ليس بولي وليس بنبي، وإنما بمكان تحته رجل نصراني وأشباه ذلك.
وهذه الأشياء لم يكن عليها شرك الأولين فالأولون لم يجعلوا يعني ما اتخذوا لعمرو بن لحي المشرك -الذي هو أول من سيب السوائب وساق الآلهة- ما اتخذوا له قبرا يعبدونه إلى آخر أصناف علمائهم المشركين لكن أهل الأزمنة المتأخرة اعتقدوا في أنواع من الناس من فسقة هذه الأمة أو ممن ارتد أو من النصارى أو من اليهود.
لهذا قال الشيخ رحمه الله تعالى هنا (والذين يدعونهم هم الذين يحكون عنهم الفجور) -وفي النسخة التي عندي (هم الذين يُحِلُّون لهم الفجور) - (يحكون عنهم الفجور) هذا الذي أعرفه (يحكون عنهم الفجور من الزنى والسرقة وترك الصلاة وغير ذلك) والذي يعتقد في الصالح أو الذي لا يعصي مثل الخشب أو الحجر أهون ممن يعتقد فيمن يشاهد فسقه وفساده، لاشك يراه يزني ويعتقد أنه ولي من أولياء الله، يراه لا يصلي ويعتقد أنه من أولياء الله هذا لاشك أنه ضلال ما وراءه ضلال، ويسأله ويدعوه ويراه أنه يستشفع به لاشك أن هذا أعظم وأبشع مما يذكر عن أهل الجاهلية.
نقف عند هذا لأن التي بعدها يدخل فيها شبهة جديدة.
والمطلوب من كل طالب علم بعد معرفته لدلائل التوحيد والحجج أن يُمَرِّنَ نفسه على جواب الشبه بعد إحكام الأصل، الإخوة الذين لم يحكموا كتاب التوحيد ولم يحكموا ثلاثة الأصول ودخلوا في كشف الشبهات مباشرة أو ما ضبطوا تلك الكتب، فلا يَحسن أن يجيبوا عن الشبه إلا بعد أن يحكموا الأصول؛ لأن هذه فرع عن تلك، من أحكم تلك يدرب نفسه على جواب هذه الشبه على طريقة الشيخ رحمه الله، يتأنى ويكون حليما يعرف موقع الاحتجاج، يعرف كيف يجرّ المخالف إلى الحجة الصحيحة، يعرف كيف يخلي القلب قلب -قلب المخالف-؛ من الحجة ثم يبتدئ يعطيه الحق إلى آخر ذلك فتحتاج إلى دُربة والملاحظ أن كثيرين يرغبون ورغبهم محمود لله جل وعلا ولكن يكون جوابهم للشبهات ليس على أصوله فيوقعون المجادل في شبهة جديدة؛ بل قد يقتنع أن ما عليه حق؛ لأن هذا ما استطاع أن يجيب بجواب جيد.
فالواجب على طالب العلم أن يكون متأنيا في جواب الشبهات، حاذقا، يعرف كيف يسوق المجادل أو يسوق الخصم إلى ميدان الحجة دون أن يلزمه شيء وفي كشف الشبهات......
.... أهل لشرك فيقيده حتى نجمعه في الآخر يكون كالمقدمة و الخاتمة لهذا الكتاب، ذكرنا أنا أذكر ذكرنا أربع أو خمس فيما مضى، وهذه الآن واحدة جديدة لعل أحدكم تنهض همته فيجمع هذه الأصول الهامة في كيفية المناقشة يعني كيف يجمع الموحد نفسيته ليواجه الخصوم.
نكتفي بهذا القدر فيه بعض الأسئلة؟
[الأسئلة]
س1/ ذكرت في الدرس السابق في تفسير قوله تعالى ﴿قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ العَابِدِينَ﴾[الزخرف:81]، بأن العبادة تكون للولد إرضاء لله تعالى، فبهذا التفسير يكون حجة للنصارى؟
ج/ هذا ظاهر الآية يحتجون أو لا يحتجون هذا ظاهر الآية، (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ العَابِدِينَ) يعني لو كان للرحمن ولد فأنا سأعبده إرضاء له لأنه هو الذي أمرنا بعبادته، وهذا هو تفسير الجمهور.
والتفسير الثاني للآية أن معنى (العَابِدِينَ) الرافضين فإن كان للرحمن ولد فأنا أول من يرفض هذه العبادة، وهذا التفسير ساقه ابن جرير وابن كثير عن طائفة من المفسرين؛ لكن قالوا هذا الوجه ضعيف لأن هذه اللغة لا يحمل عليها الكلام وإن كانت موجودة في لغة العرب؛ لكن لا يحمل بمخالفتها لتفسير جمهور الصحابة فمن بعدهم.
بالعكس فقد يكون هذا حجة على النصارى (إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ العَابِدِينَ) هل له ولد؟ لا، القرآن كله فيه نفي أن يكون لله سبحانه وتعالى ولد ﴿مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَّلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ﴾[المؤمنون:91].
...﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(40)بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ﴾[الأنعام:40-40]، صححوها (قُلْ أَرَأَيْتَكُم) طيب الآية الثانية يصححها الأخ جزاه الله خيرا ﴿قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالبَصِيرُ﴾[الرعد:16].
س2/ ذُكر في الأربعين النووية أن العقل في القلب، وقد أشكلت عليّ، ما هي ولو باختصار؟
ج/ العقل إدراك ليس جرما، العقل إدراك، عَقَل الشيء أي أحاط به فأدركه، هذا العقل من الذي يعقل؟ الذي يعقل إيش البدن أو الروح؟ الذي يعقل الروح والبدن وسيلة، وسيلة لتحصيل معارف الروح مثل ما ذكرنا، الروح منتشرة في البدن، أصلها مركزها -هي منتشرة-؛ لكن مركزها والله أعلم بكيفية ذلك مركز الادراكات في الموقع الذي فيه القلب، ولهذا قال «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله» والأصوليون يبحثون هذا ويفيضون فيه هل العقل أم في القلب، والصحيح أنه في القلب ما هو موافق لظاهر الآيات هكذا.
س3/ كلهم يسألون نفس المسألة: هل يُفهم أن الروح في القلب؟
ج/ لا، الروح ليست في القلب، الروح على هيئة البدن ، الروح منتشرة مثل البدن بمعنى لو فصلت الروح على البدن فصارت نفس الصورة؛ لكنها صورة غير جثمانية؛ لأن الميت يُرى في المنام، يرى الرائي النبي ﷺ في المنام فقال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي» ومعلوم أن رؤية النبي ﷺ في المنام على صورته التي كان عليها رؤية لروحه؛ لأن بدنه مدفون عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، رؤية النبي ﷺ للأنبياء في السماء رأى موسى ورأى آدم ورأى عيسى، رأى إيش؟ رأى أرواحهم، لهذا صورة الإنسان الجثمانية في البدنية، وغير لجثمانية في الروح، الروح منتشرة لها أيضا موقع أصل مثل ما يكون القلب هو الأصل بالنسبة للبدن؛ يعني من حيث ضخ الدم وحركة البدن، كذلك من جهة الادراكات ومن جهة تعلقات الأشياء بالروح فموقعها في هذا الأصل.
هذا ظاهر ما دلت عليه النصوص ويجمع على هذا النحو، وليس هذا من الخوض في الروح المنهي عنه في قوله تعالى ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾[الإسراء:85]؛ لأن البحث في الروح الذي يكون نتيجة للتفقه في الكتب والسنة هذا مطلوب؛ ولكن إذا كان عن ظن وعن عقل وتجارب وأشباه ذلك بلا برهان شرعي فهذا هو المذموم.
س4/ هل يكون المقصود من الكلام الثاني خاص لأهل التوحيد؟
ج/ نعم، أنا ذكرت أن الثاني أن منهم أنهم يعبدون ويدعون أو أن منهم من لا يصلي ومنهم من يأمر بالفسق ويُحكى عنه الزنى وشرب الخمر إلى آخره هذه لإيقان الموحد لكن لا تدخل معه في النقاش، تقول هذه الأشياء جادلك فيهم، وهيهات كيف تثبت، لا سبيل إلى الإثبات يعني لكل مجادل.
س5/ لو قام دعاة للتوحيد وقالوا لعباد القبور نحن نوافقكم أن هؤلاء أولياء، فإنه يكون هناك تناقض بين الدعاة الذين قالوا أنهم ليسوا بأولياء فيشك المدعوون في هذه الدعوة؟
ج/ الداعي لابد أن يكون حكيما قد يكون المناسب أن يسكت يكون ليس الكلام فيها، إذا كانوا أولياء ومقامهم عند الله تعلقها بالشرط إذا كان يرى مصلحة، وإذا كان هذا المدفون وليا من أولياء الله يقر بذلك، إذا قال الحسين بن علي قال نعم أهل البيت الذين لم يعرف عنهم شيء من الفسق إلى آخره فيقول نعم هم أولياء، لا مانع من هذا، ولو صار فيه تعارض بينه وبين غيره، والحق أحق أن يتبع.
س6/ سؤال لم أفهم المقصود منه لكن أقول:
كتب أهل العلم الراسخين أليس فيها بركة ويؤجر حاملها ويتوسل مقتنيها بطلبه لعلمها الشرعي؛ لأن ذلك مما يتقرب به إلى الله بذلك؟
ج/ الجواب نعم لا شك، كتب أهل لعلم الراسخين فيها بركة، ويؤجر حاملها بنية طلب العلم، ويتوسل مقتنيها بطلبه لعلمها الشرعي، هذا ما لها علاقة بوجود الكتاب في السفينة، أو وجود الكتاب في السيارة، فجعل الكتاب في السيارة توسلا به هذا من التبرك الباطل، حتى المصحف ما يجعل يتخذ تميمة على الصحيح مثل ما ذكرنا لا يجوز، فاتخاذ كتاب آخر تميمة يرجو نفعه ويرجو دفع الضر هذا من الشرك، نوع من أنواع اتخاذ التمائم، التوسل بطلب العلم بعملك أنت للكتاب هذا شرك.
س7/ أستشيرك في حضور هذا الدرس، وهو أني لم أسمع شرح كتاب التوحيد والقواعد الأربع، فهل أستمر؟
ج/ الذي ينبغي أن لا تستمر، فتنظر تحضر درس آخر أو دروس أخر ويكون فيها بداية لطالب العلم، بداية صحيحة.
س8/ ذُكر في كتاب نُزُل الأبرار أن الحامل إذا اشتد عليها الحمل يوضع على بطنها موطأ الإمام مالك فيخف بإذن الله وهو مجرب.
ج/ يمكن الشافعية يقولون تحط مسند الشافعي، هذا المالكية قالوا تحط موطأ الإمام مالك، والشافعية يقولوا تحط مسند الشافعي، هذا يقال مجرب ولا أثر لذلك، قد يتفق أنه حصل مرة حصل مرتين بإذن الله فوافق هذا؛ لكن لا يجوز الاعتقاد في الكتب هذا الاعتقاد أن فيها بركة وتتخذ تمائم.
س9/ الكلام على الشهداء مر علينا، يقول: الذين يطوفون حول أضرحة وقبور الشهداء ويقول الله يقول ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ﴾[آل عمران:169]؟
ج/ ذكرنا في أول شرح كشف الشبهات الجواب عن حال الشهداء بالتفصيل؛ لكن من أقوى الحجج اختصارا أن شهداء أحد الذين نزلت فيهم هذه الآية من آل عمران أجمع المسلمون في حياة النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وهو بينهم وكذلك أجمع الصحابة في حضرة الخلفاء، وأجمع من بعدهم إلى انتهاء القرون المفضلة الثلاث، أجمعوا على أنهم لا يؤتى الشهداء في قبورهم ليسألوا، وإنما يأتي من مر عليها دون قصد أو شد رحل فيسلِّم عليهم السلام المعتاد، فهذا الإجماع قطعي والإجماع حجة وقد قال جل وعلا ﴿وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾[النساء:115].
س10/ هل يجوز أن نقول فلان من الناس ولي جازما وهو رجل معروف بالفضل؟
ج/ ترجو أن يكون وليا، وعموما هدي السلف ليس فيه أنه يقل هذا ولي وهذا ولي، يرجون أن يكون فلانا وليا، وتطالع هدي الصحابة والتراجم الصحابة والتابعين لا تجد هذه الأسماء هذا ولي وهذا ولي، إنما يذكرون فضله وصلاحه ليقتدي الناس به، أما منزلته فهي عند الله جل وعلا.
س11/ بعض الناس يشتبه يقول تقسيم التوحيد المعروف لدينا لم يكن على أصل الرسول ﷺ بل كان الرسول ﷺ يأمر من أراد الإسلام بالشهادتين ولا يقسم التوحيد المعروف عند الناس؟
ج/ لو كان الناس كألئك ما احتجنا إلى تقسيم التوحيد، إنما لما فشى الجهل في الناس احتاج أن تقول له خرج محمد ومحمد فاعل، أما عند الصحابة تقول خرج محمد فعل وفاعل إيش هذا، يضحكون عليك إيش هذا؟ فحين وقع الناس في الجهل احتجنا إلى التفصيل، وإلا من المعلوم أن من قال أشهد أن لا إله إلا الله فهو مقر بأنواع التوحيد الثلاثة، تكفي لأنها متضمنة لتوحيد الربوبية مطابقة في توحيد الإلهية ومستلزمة لتوحيد الأسماء والصفات، أو تقول أيضا متضمنة لتوحيد الأسماء والصفات، فهذه ظاهرة من كلمة لا إله إلا الله.
فإذا فشى الجهل في لناس فلا بأس أن يفصل لهم من العلم ما هو ثابت في الكتاب والسنة بتقسيمات ليتّضح المراد
مثل: ما عند الصحابة شروط الصلاة كذا، أركان الصلاة كذا، وواجباتها كذا، كل هذه العلوم تقسيمات لأجل حاجة في الناس.
س12/ ما صحة الحديث الذي يحتج به على دعاء غير الله «إذا كنت في أرض فلاة فقل يا عباد الله احبسوا»؟
ج/ هذا الحديث رُوِي من أهل العلم من حسنه، وعلى القول بتحسينه فلا حرج يعني لا إشكال فيه؛ لأن قول الذي ضل الطريق يا عباد الله احبسوا يقصد به الملك الذي معه، لا يقصد به الجن أو يقصد به مخاطبة من لا يقدر أو ما أشبه ذلك، وهذا على القول بصحته وقد استعمله بعض العلماء، فدُلُّوا على الطريق ، فليس في الحديث مناداة الغائبين الذي يحتج به أهل الشرك، وإنما هو قول (يا عباد الله احبسوا) تتمة الحديث «فإن له جل وعلا عبدا حاضرا سيحبسه» والظاهر عند أهل العلم أن المراد بالعبد الحاضر هو الملك الذي يسدده لأن الإنسان معه الملائكة كم قال سبحانه ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾[الرعد:11]، يعني يحفظونه بأمر الله.
س13/ ما معنى قول بعض السلف أن معنى (الصَّمَد) هو الذي لا جوف له. ما معنى ذلك وكيف نوفق بينه وبين المعاني الأخرى؟
ج/ الصمد فسرت بتفسيرات مثل ما ذكرنا لكم آنفا أو فيما سبق:
الصمد الذي يصمد إليه عند الحوائج وهذا أكثر التفاسير على هذا عند السلف.
والصمد أيضا في اللغة يقال فلان صمد إذا كملت خصال سؤدده وصفات فضله، كمال الصفات والخصال المحمودة يقال فلان صمد، يقال لسيد القبيلة التي كملت صفاته هذا صمد؛ يعني بلغ في الصفات البشرية عندهم الغاية؛ في الكرم كذا، وفي التواضع كذا وفي الحنكة كذا وفي الحكمة كذا وفي الرأي إلى آخره.
وفُسرت أيضا الصمد بأن الصمد هو الذي لا جوف له؛ يعني الإنسان والمخلوق لذي تراه هذه لها جوف ولها أحشاء ولها أشياء في داخلها فالصمد هو الذي لا جوف له هذا يخرج مشابهة المخلوقات، فلا يُظن أن اتصاف الله جل وعلا باليد أن ذلك عن طريق تجويف، أو اتصاف الله جل وعلا بالقدم أن ذلك عن طريق تجويف أو اتصاف الله جل وعلا بالعينين أن ذلك عن طريق تجويف إلى آخره، فهو سبحانه وتعالى صمد قد كَمُل سبحانه في أسمائه وصفاته.
س14/ ما معنى الأقانيم؟
ج/ الأقانيم هذه عند النصارى، التي ذكرناها عندكم في الدرس الماضي، الأقانيم النصارى يعجزون عن أن يفسرونها بتفسير صحيح، مثل الكسب عند الأشاعرة يعجزون عن تفسيرها تفسيرا صحيحا، ومعناه القريب.
معنى الأقنوم الصورة أو إحدى الصور للأصل؛ يعني أن الشيء إذا كان له ثلاث جهات يعني أشبه ما تقول يعني شيء له بعد ثلاثي، إذا أتيت من هنا قلت هذا هو، وإذا أتيت من هنا قلت هذا هو وإذا أتيت من الجهة الثالثة قلت هذا هو.
فعندهم أن الله جل وعلا ثلاثة أقانيم إله واحد آب يعني أب وابن وروح القدس هذا عند الكاثوليكيين؛ أب وابن وروح القدس يشكلون جميعا ثلاث صور لشيء واحد وهو الله.
لهذا يقولون بعدها إله واحد وهذا كّرهم الله جل وعلا بهذا فقال ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾[المائدة:73]، ونعلم أن قول (ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ) من حيث اللغة يعني أنه منها وليس خارجا عنها، ففي اللغة أن الشيء إذا كان من جنس عدده أُدخل فيه، وإذا لم يكن من جنسه أخرج منه، تقول مثلا كنت ثالث ثلاثة، كنت رابع أربعة، كنت خامس خمسة إذا كانوا من الإنسان، الله جل وعلا قال ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ﴾[المجادلة:7]، لاحظ هنا قال (ثلاثة رابعهم) لأن الله مباين لهم أما إذا كان المعدود من جنس المعدود عليه من جنس المعدود فيدخل في العدد، مثل ما قال جل وعلا في سورة المائدة (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ)، فهم قالوا إن الله ثالث ثلاثة يعني داخل في العدد؛ الآب الذي هو الله والابن وروح القدس شيء واحد كلها إلهية لم تأخذ صفة الناسوتية، فلهذا يكون ثالث ثلاثة بحسب تعبيرهم فهو دخل في التثليث، نسأل الله العافية.
س15/ ما حكم الأبيات التي في نهج البردة، وهل يجوز للموحدين حفظها؟
ج/لا، يجوز لأحد يحفظ الأبيات الشركية؛ إلا لأهل العلم الذين يحتاجون إذا حفظوها أن يردوا على الخصوم، أما لسائر الناس أو لعامة طلبة العلم؛ لأن هذا شرك والشرك لا يحث عليه ولا يخاطب المرء بتوحيده فيه، فالأصل السلامة إلا عند الحاجة فيؤخذ الشيء بقدره.
نكتفي بهذا وصلى لله وسلم وبارك على نبينا محمد.
¹
[المتن]
إذا تحقَّقتَ أن الذين قاتلهم رسول الله ﷺ أصحّ عقولاً وأخف شركًا من هؤلاء، فاعلم أن لهؤلاء شُبْهة يوردونها على ما ذكرنا وهي من أعظم شبههم فأصغ سمعك لجوابها وهي:
أنهم يقولون إن الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن لا إله إلا الله ويكذّبون الرسول ﷺ وينكرون البعث ويكذّبون القرآن ويجعلونه سحرًا، ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ونصدق القرآن ونؤمن بالبعث ونصلي ونصوم فكيف تجعلوننا مثل أولئك؟
فالجواب: أن لا خلاف بين العلماء كلهم أن الرجل إذا صدّق رسول الله ﷺ في شيء وكذّبه في شيء أنه كافر لم يدخل في الإسلام، وكذلك إذا آمن ببعض القرآن وجحد بعضَه، كمن أقرّ بالتّوحيد وجحد وجوب الصلاة أو أقرّ بالتوحيد والصّلاة وجحد وجوب الزكاة أو أقرّ بهذا كله وجحد الصوم، أو أقرّ بهذا كله وجحد الحج، ولما لم يَنْقَدْ أناس في زمن النبي ﷺ للحج أنزل الله في حقهم: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾[آل عمران:97].
ومن أقرّ بهذا كلِّه وجحد البعث كفر بالإجماع وحلّ دمه وماله كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً(150) أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا للكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾[النساء:150-151].
فإذا كان الله قد صرح في كتابه أن من آمن ببعض وكفر ببعض فهو الكافر حقًا زالت هذه الشبهة وهذه هي التي ذكرها بعض أهل الأحساء في كتابه الذي أرسله إلينا. ([56])
[ويقال أيضًا: إذا كنت تقرّ أن من صدّق الرسول ﷺ في كل شيء وجحد وجوب الصّلاة فهو كافر حلال الدم والمال بالإجماع، وكذلك إذا أقرّ بكل شيء إلا البعث، وكذلك لو جحد وجوب صوم رمضان وصدَّق بذلك كله وهنا لا تختلف المذاهب فيه وقد نطق به القرآن كما قدمنا.
فمعلوم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي ﷺ وهو أعظم من الصلاة والزكاة والصوم والحج. فكيف إذا جحد الإنسان شيئًا من هذه الأمور؟ كفر ولو عمل بكل ما جاء به الرسول ﷺ، وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر؟! سبحان الله ما أعجب هذا الجهل!]
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
اللهم نسألك علما نافعا وعملا صالحا وقلبا خاشعا ودعاء مسموعا، ربنا لا تكلنا لأنفسنا في ديننا وفي دنيانا طرفة عين.
اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدا، نسألك أن تجعلنا ممن إذا أُعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر.
أما بعد:
فهذه شبهة جديدة ذكرها إمام الدعوة رحمه الله تعالى مما يورده الخصوم، وهذه الشبهة شبهة العلماء لأنّ الذي يوردها من أهل العلم، فإن لشبه التي ذكرنا فيم سبق وإن جوابها الذي ذكره الشيخ أقرّ بحسنه جمع كثير من أهل العلم في الأمصار كما قال إمام الدعوة رحمه الله تعالى: وقد عرضت ما عندي على علماء الأمصار فوافقوني في التوحيد وخالفوني في التكفير والقتال. يعني وافقوه في معنى العبادة وفي معنى التوحيد وفي معنى الشرك بالله جل وعلا؛ لكن خالفوا بأن عبّاد القبور وعبّاد الأضرحة والأوثان والأشجار والأحجار إلى آخره خالفوا في أن هؤلاء مشركون تقام عليهم الحجة فإن استجابوا وإلا قوتلوا.
خالفوا لشبهة وهي أن هؤلاء ليسوا كالأولين؛ لأن الأولين الذين بعث إليهم رسول الله ﷺ وبعثت إليهم الأنبياء هؤلاء يقرون بأنهم اتخذوا آلهة مع الله جل وعلا ولم ينقادوا للرسل؛ بل قالوا: إن هناك آلهة مع الله، كما قال سبحانه مخبرا عن ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ(35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلهَِتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ﴾[الصافات:35-36]، وكقول الله جل وعلا ﴿أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ(5) وَانْطَلَقَ المَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ﴾[ص:5-6]، وكقوله جل وعلا في سورة هود ﴿إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ﴾[هود:54]، إلى آخر الآيات في هذا الباب التي فيها اعتقاد أولئك بأن هناك آلهة مع الله جل وعلا.
قال طائفة من الناس من المنتسبين للعلم: إن المشركين من هذه لأمة من عباد القبور هؤلاء وقعوا في الشرك، نعم؛ ولكن هذا الشرك ليس كفرا منهم لأنهم يشهدون أن لا إله إلا الله، فإذا سألتَ الواحد منهم هل هناك إله مع الله؟ قال: لا. فحين يَفعل يفعل الشيء بعدم اعتقاد أنه تأليه لغير الله جل وعلا فخالف صنيع أولئك المتقدمين الذين اعتقدوا بإلهين؛ بل اعتقدوا بآلهة مع الله جل جلاله كذلك قالوا هؤلاء إن وقعوا في هذه الأشياء فهي كفر عملي لا يُخرج من الملة ككفر من قاتل مسلما، وكفر من أتى حائضا، وكفر من أتى امرأة في دبرها، وكفر كذا وكذا مما جاء في النصوص تسميته كفرا وليس بالكفر الأكبر؛ بل هو كفر أصغر وأشباه ذلك.
وقالوا أيضا إن هؤلاء الذين من هذه الأمة فعلوا تلك الشركيات هؤلاء لا يكذِّبون الرسول ﷺ ولا ينكرون البعث ولا يكذبون القرآن ويجعلونه سحرا، ولا ولا يقولون بإنكار الزكاة والصلاة أو بعد تحريم الخمر أو بعد تحريم الزنى كفعل المشركين في الزمن الأول؛ بل هم مقرون بكل هذه التفاصيل لكنهم فعلوا ما فعلوا، فهذا يعني أنه لا يُخرجهم من الملة وليسوا بمشركين الشرك الأكبر.
وإذا تقرر هذا فإن هذه الشبهة كما ذكر الإمام رحمه الله تعالى وما عرضه من شبه القوم قال (فاعلم أن لهؤلاء شبهة يوردونها على ما ذكرنا وهي من أعظم شبههم فأصغ سمعك لجوابها) ففي هذه الجملة ذكر أنّ هذه الشبهة يوردونها على ما ذكر الإمام؛ يعني ما ذكره في المحاجة ورد الشبه في التوحيد، في معنى التوحيد، ومعنى الشرك، ومعنى عبادة غير الله، ومعنى الالتجاء؛ إلى الالتجاء إلى لصالحين والالتجاء إلى الصالحين شرك أم لا؟ ومعنى التوسل وأشباه ذلك وتفاصيله مما ذكر من أول الرسالة إلى هذا الموضع.
فإذا تبين ذلك قال (لهؤلاء شبهة يوردونها على ما ذكرنا) يعني من كل جواب الشبه السالفة فإن محصل الشبه السالفة أن يقال أنت محق في هذا الجواب، وأن هذا لذي يفعل شرك، وأن الالتجاء إلى الصالحين شرك، وأما طلب الشفاعة من الأموات شرك، إلى آخر ذلك وأن صرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله شرك، وأنت محق وأن هؤلاء لذين أدلوا بالشبه في استحسان الأفعال مبطلون، وما ذكرته صواب بأن هذه الأشياء شرك؛ لكن هذه الأشياء شرك ولكنها لا تخرج من الملة من صنعها من فعلها، وهذا هو جواب هذه الشبهة فيما يأتي من كلام الإمام رحمه لله تعالى.
قال الشيخ رحمه الله (وهي من أعظم شبههم) لم صارت من عظم الشبه؟ لأنها كما ذكرت شبهة العلماء التي يذكرونها ويروجون به على العامة، فكثيرون من الذين ردوا على الشيخ نقلوا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وكلام ابن القيم وقالوا أنت محق في ما تقول؛ لكن كون هؤلاء يكفرون الكفر الأكبر هذا ليس بصحيح؛ بل هؤلاء على كفر أصغر، هؤلاء على شرك أصغر وليسوا بمشركين الشرك الأكبر.
هذا تقرير الشبهة على حسب ما يوردونها وهذه الشبهة أجاب عنها الإمام رحمه الله تعالى هنا إجابة مختصرة، وفي ردود أئمة الدعوة ابتداء من الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتابه إفادة المستفيد في كفر ترك التوحيد، وكتب تلامذته وأبنائه وتلاميذهم إلى هذا الزمن ما يُبين رد هذه الشبهة.
فإن هذه الشبهة من أعظم الشبه فتفصيل رد هذه الشبهة في ردود أئمة الدعوة المختلفة من وقت الشيخ محمد رحمه الله إلى زماننا هذا فيها تفصيل الرد على هذه الشبهة، ولا يتسع المقام لإيراد كل ما ذكروه؛ لكن نذكر تقرير ما ذكره لإمام رحمه الله وهو أصل هذه الردود وبه كفاية.
قال (وهي: أنهم يقولون: إنّ الذين نزل فيهم القرآن) يعني من المشركين (لا يشهدون أن لا إله إلا الله ويكذّبون الرسول ﷺ ويُنكرون البعث ويكذّبون القرآن ويَجعلونه سحرًا، ونحن) يعني نفارق أولئك (ونحن نشهد أنّ لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ونصدق القرآن ونؤمن بالبعث ونصلي ونصوم فكيف تجعلوننا مثل أولئك؟) وهذه لاشك إذا أوتي إليها من ناحية عاطفية فإنها تروج، وأن الناظر نظرا عاطفيا مجردا عن الحجة والبرهان قد يروج عليه ذلك، فيقول هؤلاء مصلون ويصومون، وقد يكون بعضهم في جبهته أثر السجود، وبعضهم يصوم يوما ويفطر يوما، وبعضهم تصدق بكل ماله، وبعضهم مجاهد في سبيل الله وحارب الكفار، وفعل ما فعل من أنواع الجهاد وبعضهم كذا وكذا، فيسرد جملة الأعمال الصالحة التي عملهاـذ، فيقول كيف تجعله كأبي جهل؟ كيف تجعله مثل أبي لهب؟ كيف تجعله مثل فلان وفلان؟ كيف تجعله مثل المشركين؟
وهذه حجة عاطفية ومعلوم أن الديانة قامت على البرهان، والبرهان العاطفي أو القضية العاطفية ليست برهانا باتفاق العقلاء؛ لأن العاطفة لها مدخل أو للهوى مدخل عليها، والبراهين خارجة عن مقتضى الهوى.
البرهان يقام بالحجة المتفق على الاحتجاج بها شرعية سمعية أو عقلية في كلام العقلاء وكلام النظّار من جميع الفرق؛ يعني في كون الحجة تمضي والحجة العاطفية ليست بحجة؛ لأنها ناشئة عن رغبة وهوى.
فلذلك نقول: هذه الشبهة ينبغي أن يتخلص صاحبها أولا من العاطفة، والعاطفة لا مدخل لها في الدين؛ لأنها ليست أحد الأدلة، وإنما الأدلة على المسائل التي يُحْتَجُّ بها في هذه الشريعة الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح والعقل الصريح وأقوال الصحابة إلى آخر الأدلة المتفق عليها والمختلف فيها؛ يعني أن الحجج في الشريعة ليست فيها الحجة العاطفية؛ كيف نجعل هذا مثل هذا؟ هذا أمره عظيم، هذا فيه كذا وكذا فكيف يجعل على شبه بأولئك.
فقال الشيخ رحمه الله مبديا حجة علمية وإبطالا لهذه الإيرادات العاطفية قال (فالجواب: أنّه لا خلاف بين العلماء كلهم أن الرجل إذا صدّق رسول الله ﷺ في شيء وكذّبه في شيء أنه كافر لم يدخل في الإسلام) وهذا حكاية للإجماع وهذا القدر من الحجة صحيح كما أورده الإمام رحمه الله تعالى في أنّ الإجماع انعقد باتفاق الأئمة الأربعة وأتباعهم، وكذلك غيرهم في أنه من أراد الدخول في الإسلام، فقال: أنا أدخل مصدِّقا بأشياء ومكذبا في أشياء أنه لا يدخل في الإسلام وإن قال أشهد أن لا إله إلا الله وأن ومحمدا رسول الله فإن تصديقه ببعض الأشياء في الدين وتكذيبه ببعض آخر لا يدخله في الإسلام أصلا وهذا من جهة أنه أول ما يدخل في الإسلام كذلك من دخل في الإسلام فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ثم كذب ببعض القرآن ولو بحرف واحد متفق عليه فإنه لا يدخل في الملة ويخرج منها بتكذيبه؛ لأن العلماء نصوا على أن من أنواع الردة أن يكون مكذبا أو شاكا أو جاحدا فمن كذب بشيء؛ ولو بحرف واحد من القرآن متفق عليه فإنه كافر ولا تنفعه صلاته ولا صيامه بالاتفاق؛ قال (وكذلك إذا آمن ببعض القرآن وجحد بعضه) آمن ببعض القرآن يعني من حيث الألفاظ، وجحد بعضه يعني من المتفق عليه، ولم يؤمن به لو قال هذا ليس من القرآن والأمة متفقة على أن هذا اللفظ الذي جحده من القرآن يعني لفظا فإنه يكون كافرا بالاتفاق بالإجماع، وكذلك من آمن ببعض أحكام القرآن المتفق عليها وجحد بعض أحكام القرآن المتفق على معناها؛ يعني التي دلالتها قطعية فإنه يكون أيضا كافرا خارجا من الدين باتفاق العلماء وبالإجماع، حتى من أورد هذه الشبهة فإنه لا ينكر هذا الإجماع.
مثّل لهذا بقوله (كمن أقرّ بالتّوحيد وجحد وجوب الصلاة) من أقرّ بالتوحيد موحد مؤمن بأنه لا إله إلا الله وبأنّ محمدا رسول الله، وكثير الزكاة والصدقات، ويصوم فرضا ونفلا، ويحج بيت الله جل وعلا كل سنة؛ لكن قال: هذه الصلاة ليست بواجبة إما مطلقا أو ليست بواجبة عليه، فإن هذا يعد كفرا بالإجماع لأنه جحد معلوما من الدين بالضرورة، وبالإجماع لا يشفع له توحيده، وبالإجماع لا يشفع له كثرة زكاته وصدقاته، وبالإجماع لا يشفع له صومه الفرض والنفل، وبالإجماع لا يشفع له التزامه بقية أحكام الشريعة؛ لأنه جحد وجوب الصلاة إما مطلقا أو عليه.
فإذا كان كذلك صارت هذه القاعدة التي أوردوها أو هذه الشبهة منتقِضة بالإجماع إذْ إنهم قالوا كيف تجعلون من جحد الرسالة من المشركين ومن لم يؤمن بالله إله واحدا ومن كذّب الرسول كيف تجعلونه من كذب بالبعث يعني لم يؤمن بالبعث كيف تجعلونه كالذي يصلي ويصوم ويفعل ويفعل من هذه الأفعال والأعمال الصالحة؟ ونقول بالإجماع هذه منتقضة بالصلاة، وكذلك منتقضة بالزكاة بالاجماع، فإنه لو كان مصليا كثير الصلاة وجحد وجوب الزكاة إما مطلقا -يعني على الناس جميعا-، وإما عليه بخاصة ولم يلتزم، فإنه يكون كافرا بالاتفاق.
فإذن يدل على أن الإيراد العاطفي الذي أوردوه ليس بواردٍ شرعا باتفاق أهل العلم.
قال (أو أقرّ بالتوحيد والصلاة وجحد وجوب الزكاة، أو أقرّ بهذا كله وجحد الصوم، أو أقرّ بهذا كله وجحد الحج) العلماء من كل مذهب من المذاهب الأربعة المتبوعة مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمهم الله تعالى جميعا، وكذلك غيرهم من المذاهب المهجورة كمذهب سفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وإسحاق ابن راهوية وابن جرير وجماعات أهل العلم وكذلك مذهب الظاهرية الذي ألف فيه ابن حزم وقبله داوود الظاهري متفقون على أنّ المسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله يخرج من الإسلام بقول أو فعل أو اعتقاد أو شك، فذكروا أن المكفرات بالاتفاق أربعة تُخرج الموحد من الدين وهي: القول والفعل والاعتقاد والشك.
وذلك لأنهم اتفقوا على أنّ من قال قولا يناقض الشهادة أو يناقض أصل توحيده أو يناقض أمرا معلوما من الدين بالضرورة فإنه يخرج من الدين، وكذلك إذا عمل عملا أو اعتقد اعتقادا يعني مكفرا يعني شركا؛ اعتقد في الله بأنه جسك كالأجسام أو اعتقد في الله صفة قبيحة، أو شك في أمر من الأمور فإنه يكفر لو كان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
إذن الأئمة متفقون على أن المسلم الذي يعمل بأركان الإسلام ويعمل بفروعه قد يكفر بعمل أو قول أو اتقاد أو شك.
فإذن هذه الشبهة التي أوردوها مخالفة أيضًا لإجماع علماء الذين ألفوا في هذا الباب، وفي كل مذهب تجد بابا خاصا بهذا وهو باب حكم المرتد، وهو الذي يكفر بعد إسلامه.
وفي الحقيقة قولنا عن هؤلاء -يعني عباد القبور- الذين نشأوا على ذلك أنهم مرتدون، أصعب من أن نقول إنهم كفار أصليون، ولهذا ذهب جمع من علماء الدعوة بل الأكثر منهم ومن غيرهم أنّ هؤلاء الذين لم يعرفوا التوحيد أصلا ونشأوا عليه وشبوا عليه وكانوا مشركين بالله جل وعلا ولم يعرفوا الإسلام الصحيح أنهم لم يدخلوا في الدين أصلا حتى يقال إن أحكام المرتد تجري عليهم؛ بل هم كفار أصليون ومعلوم أن الكافر الأصلي في أحكامه أخص من أحكام المرتد لأن لهم في ذلك تفاصيل معلومة في بابها.
نقول: وهنا الإجماع إذن منعقد على هذا، ومن احتج بهذا القول من أتباع مذهب مالك أو الشافعي أو أبي حنيفة أو الإمام أحمد يقال لهم ما قاله علماؤهم في كتب مذاهبهم، فإنه سيقف.
ولهذا يناسب أن يقوم الدعاة إلى الله جل وعلا في كل بلد فيه أنواع الشرك بالله بالمقبورين والمدفونين والأولياء وغيرهم أن يوردوا الأدلة والأقوال من أقوال علماء مذهبهم، ويجمعونها وينشرونها في الناس؛ لأن في هذا إقامة للحجة عليهم؛ ولأن في هذا أيضا إبعادا للشبهة التي أوردها هذا المورد؛ لأنه قد يتخيل بعض من لم يحقق من طلبة العلم أو بعض العوام أن هذا القول إنما جاء به الوهابية، وليس عليه علماء المذاهب، فإذا جمعت هذه الأقوال ونشرت في البلد؛ البلد الذي يشيع فيه مذهب الإمام مالك ينقل فيه كلام المالكية، والمالكية لهم توسع في هذا أيضا، والحنفية أيضا أكثر منهم، والشافعية والحنابلة في باب التكفير أقل؛ يعني فيما يحصل به الكفر، فيُنقل من كتبهم ما به يكون رد هذه الشبهة، حتى لا يتوهم أن هذه الشبهة تفرّد به الوهابية كما يزعمون.
والدعوة السلفية بعامة في كل بلد إنما عمدتها الكتاب والسنة وإجماع هذه الأمة؛ إجماع علمائها وما كان عليه سلفنا الصالح وما عقده أئمة أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح وأتباع الأثر، هذه عمدتهم في أي بلد، فالوسيلة التي يقررون بها الحجة ويُضعفون بها الشبهة ينبغي لهم أن يسلكوها؛ لأن الحق أحق أن يُتَّبع.
قال رحمه الله بعد ذلك (ولما لم يَنْقَدْ أُنَاسٌ في زمن النبي ﷺ للحج أنزل الله في حقهم: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾[آل عمران:97])، قوله (ولما لم يَنْقَدْ أناس) عبر رحمه الله بانقياد الذي معناه الالتزام، وإلا فإن عدم الحج مع الانقياد للحكم -يعني مع اعتقاد وجوبه على المخاطب به- ليس بكفر، وإنما يكفر من جحده أو من لم يلتزم به -يعني قال لا يجب علي وإنما يجب على غيره-، من لم ينقد للحكم؛ قال: هم واجب على الناس واجب على غيري وأنا لا يجب علي الحج. فهذا غير ملتزم به، كحال الرجل الذي نكح امرأة أبيه بعد نزول قول الله جل وعلا ﴿وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا﴾[النساء:22]،لم يلتزم بالحكم، لم ينقد له، فقال: أنا غير مخاطب بذلك. ولم يلتزم به ولم ينقد له فصار كافرا.
خلاف من لو التزم وانقاد يعني قال: أننا ملتزم، وهذا حرام علي. لكن فعله فهذا له حكم أمثاله من أهل الكبائر.
فقول الشيخ رحمه الله (ولما لم ينقد) هذا تعبير دقيق.
ولهذا قرأتم في شروط لا إله إلا الله وتعلمتم أنّ من شروطها الانقياد، فالانقياد معناه الالتزام، التزام بما دلت عليه ولو لم يفعل؛ لكنه يلتزم أن يقول: هذا واجب وأنا مخاطب به وهذا محرم وأنا مخاطب بذلك بتحريم كذا، لكنه لم يفعل، فله حكم أمثاله من أهل الكبائر؛ لكن إن قال هذا غير واجب عليّ، أنا ممن ارتفعت عنه التكاليف هذا يجب على الناس، وأما أنا فلا يجب علي هذا يحرم على الناس أما أنا فلا يحرم علي، فيعتقد أنه واجب في نفسه هذا الأمر محرم في نفسه يعني محرم؛ لكن يقول أنا لا ألتزمه لأني غير مخاطب به، كفعل طوائف من هذه الأمة فهؤلاء لم ينقادوا للحكم الشرعي.
فالشيخ عبر بالانقياد وهو تعبير علمي له دلالته في الأحكام الفقهية وفي التوحيد.
قال (ولما لم يَنْقَدْ أناس في زمن النبي ﷺ للحج أنزل الله في حقهم: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾[آل عمران:97]) قوله (عَلَى النَّاسِ) هذا من ألفاظ الوجوب عند الأصوليين (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ) عليك كذا وأشباه هذا، فإن ألفظ الوجوب عندهم كثيرة متعددة، ومنها كلمة (عليك) وعلى وأشباه ذلك ولله على الناس يعني يجب عليهم (حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ) بهذا الحكم ولم ينقد له (فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ).
بعد ذلك قال الإمام رحمه الله (ومن أقرّ بهذا كلِّه وجحد البعث كفر بالإجماع) ما رأيكم فيمن قال: أنا موحد أقول لا إله إلا الله محمد رسول، لا أعبد إلا الله مقر لله بالواحدنية في ربوبيته وإلهيته وأسمائه وصفاته، ومقرّ للنبي ﷺ وشاهد له بالرسالة وبأنه خاتَم المرسلين، وأصلي وازكي وأصوم وأحج؛ لكن مسألة البعث هذه فيها نظر عندي والأقرب أنْ لا بعث بعد الموت. ولو كان من أتقى الناس في تلك الأمور؛ لكنه قال: أنا أتعبد لله وأصلي وأصوم هذا طاعة لله جل وعلا؛ لكن لا بعث فإنه بالإجماع كافر ويحل دمه وماله لإجماع المسلمين لذلك (كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً(150) أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا للكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾[النساء:150-151]) فهذه الآية دلت على أن من فرّق بين حكم وحكم فجحد حكما وقبل حكما فإنه يكون كافرا لقوله تعالى (أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا).
قال رحمه الله (فإذا كان الله قد صرّح في كتابه أن من آمن ببعض وكفر ببعض فهو الكافر حقًا زالت هذه الشبهة) لأن الذي أنكر عبادة الذي قال إن عبادة غير الله جل وعلا ليست شركا أكبر وإنما هي شكر أصغر فإنه لم يؤمن بقول الله جل وعلا ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾[المائدة:72]، وبقول الله جل وعلا في سورة الحج ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾[الحج:31]، ونحو ذلك من الآيات الكثيرة في هذا الباب فآمن بأن المشرك بدعاء غير الله مشرك؛ لكنه ليس بالمشرك الشرك الأكبر الذي يستحق معه النار، فإن هذا لاشك جحْد أو عدم إيمان ببعض ما أنزل الله جل وعلا.
هذا من حيث التأصيل العام.
ومن حيث التفصيل قال رحمه الله بعد ذلك (ويقال أيضًا) يعني تفصيلا للجملة السالفة، (إذا كنت تقرّ أن من صدّق الرسول ﷺ في كل شيء وجَحَدَ وجوب الصّلاة فهو كافر حلال الدم والمال بالإجماع) يعني بعد أن تقوم عليه الحجة (وكذلك إذا أقرّ بكل شيء إلا البعث، وكذلك لو جحد وجوب صوم رمضان وصدَّق بذلك كله وهنا لا تختلف المذاهب فيه وقد نطق به القرآن كما قدمنا) يعني إذا كنت تقر هذا؛ يعني ما أوردناه من الإجماع وأن المذاهب متفقة على هذا، وأن من أنكر البعث فهو كافر حلال الدم والمال باتفاق العلماء وبإجماعهم ويذكر هذا في كتبهم، فنرجع إلى خصوص المسألة التي أوردت الشبهة فيها وهي مسألة التوحيد قال (فمعلوم أنّ التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي ﷺ وهو أعظم من الصلاة والزكاة والصوم والحج.) وجه كونه أعظم أنه بدأ به الرسول ﷺ في الدعوة، فالنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ دعا الناس سنين عددا إلى التوحيد فقط، ولم تُفرض الصلاة ولم تُفرض الزكاة ولم يفرض الصوم ولم يفرض الحج، ومعلوم أنه في هذا الحال -يعني في حال الأمر بالتوحيد دون غيره- أنه إنما تكون البداءة بالأهم كما قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ لمعاذ حين أرسله إلى اليمن «إنك تأتي قوما أهل كتاب» يعني من اليهود وثم نصارى هناك «فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله»، «فليكن أول ما تدعوهم إليه إلى أن يوحدوا الله» فهذا يدل على أن هذا أعظم من غيره، ومعلوم أنّ الصلوات الخمس لم تفرض إلا ليلة الإسراء والمعراج في السنة العاشرة من البعثة، ومعلوم أن صوم رمضان الفرض لم يكن إلا في السنة الثانية من الهجرة، ومعلوم أن الزكاة المفروضة بأنصبائها المعروفة لم تفرض إلا في السنة الثانية من الهجرة، وأن الحج فلم يفرض إلا في السنة التاسعة من الهجرة، وهذا يدل على تأخر هذه المسائل التي تقول إن من جحد واحدة منها ولم يأت بها فإنه يكفر بالإجماع، فما شأن أصل الأصول؟ ما شأن أول واجب؟ ما شأن الأمر الذي دعا إليه النبي في مكة سنين عددا؟ ما شأنه؟ هل هو أقل من هذه في الحكم؟
فالجواب: أن التوحيد هو أعظم فريضة بالاتفاق. ولهذا يذكر العلماء في المكفرات في باب حكم المرتد أول ما يذكرون في المكفِّر ما يتصل بالتوحيد؛ توحيد العبادة أو توحيد الربوبية أو توحيد الأسماء والصفات، فإنهم يذكرون هذا قبل غيره؛ لأنه أعظم فريضة جاء بها النبي ﷺ، ودعت بها الأنبياء، ومعلوم أن الصلوات والزكاة والصوم والحج إلى آخره اختلفت فيه الشرائع والأنبياء جميعا اتفقوا في التوحيد، فدل على أنه حق الله الأعظم وعلى أنه الفريضة العظمى فإذن يكون منزلتها أعظم من غيرها.
قال (فكيف إذا جحد الإنسان شيئًا من هذه الأمور كفر ولو عمل بكل ما جاء به الرسول ﷺ؟ وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر؟! سبحان الله ما أعجب هذا الجهل!) وهذا الاستدلال بالقياس وهذا قياس صحيح قوي.
ومعلوم أن قاعدة الشريعة العظيمة التي دلت عليها النصوص واتفقت عليها العلماء أنّ الشريعة لا تفرّق بين المتماثلات، ولا تماثل بين المختلفات، فإن المتماثلات في العلّة لا تفرّق بينها الشريعة إذِ الحكم يدور مع علته وجودا وعدما.
ومما جاءت به الشريعة وجاء في القرآن الاستدلال به والاستدلال بقياس الأولى، فإنه القياس الذي اتفقت عليه هذه الأمة حتى الظاهرية لا ينكرون القياس المسمى عند الفقهاء الأربعة بقياس الأولى، لا تنكره الظاهرية وإن كانوا لا يسمونه قياسا؛ بل يسمونه تمثيلا أولويا، فيقال هذا مثل هذا عندهم بل أولى منه، ويخرجون من تسميته قياسا، وفي الحقيقة أنهم يقرون به، فالقياس الأولوي؛ يعني أن هذا أولى من هذا فهذا بالاتفاق عند الجميع، وإذا أنكر المرء متفقا عليه بين العقلاء وبين الفقهاء ومجمعا عليه من الدليل فإنه يكون ليس على أصل لا في التفريع ولا في التأصيل، ومعلوم أن هذا رد قوي على الذين يفرقون فإن الشريعة لم تأت بالتفريق بين المتماثلات، فكيف بالتفريق ما بين هو أدنى وأعظم رتبة.
التوحيد أعظم رتبة، كيف يتفق العلماء، كيف تقول أنت أيها المورد لهذه الشبهة كيف تقول إن الذي جحد الصلاة وهو يقر بغيرها، أو جحد الزكاة وهو يقر بغيرها، أو جحد الصوم وهو يقر بغيره، أو أقر بهذه كلها وجحد البعث، كيف تقول أنه يكفر وحلال الدم والمال، ومن ترك التوحيد وجحده لا يكفر ولا يكون حلال الدم والمال بعد إقامة الحجة عليه؟ كيف تقول هذا سبحان الله ما أعجب هذا الجهل؛ لأنه جهل بالعقليات وجهل أيضا بالشرعيات وجهل بكلام العلماء!!!
نقف عند هذا([57]) ....
....قتال بني حنيفة وقتال المرتدين وهذه تحتاج إلى تفصيل ونأتي إليها إن شاء الله في المرة القادمة.
فتحصل من هذا إلى أن هذه الشبهة هذا جوابها العام، وحبذا لو يطالع الإخوة وطلاب العلم الردود التي صنفها إمام الدعوة على المخالفين، وخاصة كتابه (مفيد المستفيد بكفر تارك التوحيد) وكتب أئمة الدعوة في الردود على المخالفين، فإن فيها تفصيلا لهذه الجملة التي أوردها الإمام رحمه الله تعالى، والحجة التي ذكرها كافية لمن ألقى السمع وهو شهيد.
[الأسئلة]
الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كان عظيم الإطلاع على كتب التفسير، وله عناية بالتفسير وكلام السلف فيه عناية عظيمة جدا، ولهذا من أشْكَل عليه شيء مما يذكره الإمام رحمه الله تعالى في مسائل الآيات ومعاني الآيات فإنه يرجع إلى التفاسير وسيجد ما ذكره، وقد اختبرتُ ذلك مرارا فوجدته كما قال رحمه الله تعالى، فيُراجَع ما أشكل مما ذكره أحد السائلين فستجد في كتب التفسير ما ذكره الشيخ رحمه الله.
س/ يقال: إن الأشاعرة كما ضلوا في باب الأسماء والصفات فهم ضالون أيضا في توحيد الألوهية فأكثرهم يعتقد في القبور ويتوجه إلى الأموات بالدعاء والاستغاثة إلى آخره، فما مدى صحة هذا القول؟
ج/ الجواب أن قول الأشاعرة ضالون في باب الأسماء والصفات فقط دون غيره هذا غلط، فالأشاعرة ليس خلافهم مع أهل السنة في باب الأسماء والصفات؛ بل في مسائل كثيرة؛ فهم في معنى الربوبية يخالفون أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح، وفي معنى الألوهية يخالفوننا، وفي معنى توحيد السماء والصفات أيضا يخالفوننا، وفي التطبيق العملي لكل هذه المسائل في الربوبية والألوهية والأسماء والصفات وما يجب على المكلَّف فيها وما يُعتقد أيضا يخالفوننا، وفي معنى الإيمان يخالفوننا في ذلك؛ لأن الأشاعرة مرجئة في باب الإيمان، وكذلك في القدر يخالفوننا، وهم جبرية في باب القدر وفي مسائل تفصيلية وتفريعية كثيرة يخالفون أهل السنة.
لهذا شاع عدم التكفير؛ تكفير عباد القبور لأن الأشاعرة أصَّلوا أنَّ التوحيد هو اعتقاد وحدانية الله جل وعلا في ربوبيته وأسمائه وصفاته، فمن اعتقد أن القادر على الاختراع والخلق هو الله وحده فهو موحِّد عندهم لأنهم يفسرون الإله بأنه القادر على الاختراع، ومن اعتقد بأن الله هو المستغني عما سواه المفتقر إليه كل ما عداه فهو موحد عندهم، فمن اعتقد هذه العقيدة في الربوبية وعبد غير الله فلا يكون ناقضا لتوحيده، وهذه شاعت في الناس ببلاء عظيم عندهم وعند الماتريدية في أصناف كثيرة.
ولهذا نقول الخلاف مع الأشاعرة ليس في مسألة واحدة في الأصول والفروع؛ يعني في الأصل وفي فروع ذلك الأصل والله المستعان.
س/ ما رأيك في من يقول إن القياس كالميتة لا يرجع إليه إلا عند الضرورة؟
ج/ هذا القول معروف عند طائفة من أهل العلم، والجواب عليه: أن الضرورة هذه ما هي؟ الضرورة لهم تعاريف فيها لا تنطبق على هذا الكلام.
فالقياس يقال: يؤخذ به عند الحاجة، إذا احتيج إليه أخذ به، والحاجة إلى القياس تكون في مسائل:
الأولى: عند تدعيم دليل شرعي؛ يعني إذا دلّ الدليل على شيء فإن دعم هذا الفهم من الدليل بالأقيسة يقوّيه، وهذا الذي يسمى عند العلماء ذكر النظائر في المسائل، وهذه طريقة أهل السنة وقد امتثلها كثيرا في الفقه شيخ الإسلام ابن تيمية، فتجده يذكر دلالة القرآن والسنة على مسألة، ثم يذكر النظائر الكثيرة ويفرِّع ويقول هذا نظيره كذا ونظيره كذا، مثل مثلا في أول كتاب اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم تجد أنه نحو 150 صفحة كلها تنظير، هذا الاستدلال بالقياس؛ يعني أن هذا مثل هذا وهذا مثل هذا وهذا مثل هذا، وهذه لها نظير كذا ونظير كذا، والاستطراد في هذا الباب يقوي الاستنتاج والاستدلال من الدليل؛ لأنه قد يأتي آت ويقول فهمك للدليل قاصر وناقص فليس الكلام في الدليل؛ ولكن في وجه الاستدلال، فيأتي الفقيه والعالم فيُنَظِّر ويأتي بنظائر كثيرة -يُنَظِّر يعني يأتي بنظائر ليس معنى يُنَظِّر يعني يقول فيه نَظَر، يُنَظِّر يعني يأتي بنظائر كثيرة- فيقول هذه مثل هذه مثل هذه مثل هذه مثل هذه ليقوي استدلاله وأن استدلاله لم يخرج عن القواعد.
ثانيا من إيراد القياس: أن يورِد القياس لإلغاء الفارق، ومعلوم أن الجمع والفرق من أصول قواعد الفقهاء، فإن فقه المسائل مبني على فهم الجمع والفرق في التعليل ما بين المسائل، وعلم الجمع والفرق كعلم المقاصد من أهم علوم المجتهدين، فيَحتاج المجتهد إلى أن يقيس ويذكر المسائل واحدة تلوى الأخرى ليبين الجمع بينها وليبين إلغاء الفارق بينها، ومعلوم أنه إذا حصل الجمع وأُلغي الفارق قامت الحجة.
الثالث أن تكون المسألة لا دليل فيها نقلي؛ يعني من الكتاب أو السنة، وإنما هي مسألة اجتهاد، فيحتاج إلى القياس ليلحق الفرع بالأصل لعلة جامعة بينهما، أو يلحق الحكم المسكوت عليه بالحكم المنصوص عليه لعلة جامعة بينهما.
وهذا النوع الثالث هو الذي يجري فيه قول بعضهم القياس كالميتة لا يرجع إليه إلا عند الضرورة، وهذا ليس بجيد؛ يعني هذه المقالة ليست بجيدة على إطلاقها، ومن قالها فيُفهم منه هذا النوع الثالث لأنه إذا احتيج إلى القياس قيل به وتفاصيل هذه الكلمة معلومة في الركن الرابع في مباحث القياس في الأصول.
... لا، لا يكفَّرون، الأشاعرة مبتدعة ضلال على بدعة عظيمة راجت في الأمة بسببهم، لا يكفَّرون؛ ولكن يضللون ويبدعون على اعتقاداتهم الفاسدة في صفات الله جل وعلا وفي ربوبيته وإلهيته وفي الإيمان وفي القدر وفي بعض مسائل البعث، إلى آخره.
س/ ماذا تعلمون عن الرسالة التي أُرسلت إلى الشيخ من الأحساء؟
ج/ هناك عدة رسائل تأتي للشيخ من بعض علماء الأحساء، وأخص منهم الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف الأحسائي، عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف له عدة رسائل مع الشيخ، والشيخ رحمه الله لما رجع من البصرة مرّ عليه في الأحساء وجلس عنده عدة ليالي، وفرح الشيخ رحمه الله بعبد الله بن عبد اللطيف فرحا عظيما؛ لأنه وجده يخالف الأشاعرة الذين مشى على طريقتهم في مسائل الإيمان، حيث قال له مرة في رسالة له: ولما كنتُ جئتك ورايتك كتبت على أول صحيح البخاري في مسائل الإيمان هذا هو الحق الذي يجب القول به، فرِحتُ بذلك لأنك خالفت ما عليه أهل بلدتك من كلام الأشاعرة. يعني في مسألة الإيمان، وقال الشيخ رحمه الله في رسالته أيضا لعبد الله بن محمد بن عبد اللطيف الأحسائي هذه: وأنا كثير الدعاء لك، وأدعو لك في سجودي، وكنت أقول أرجو أن تكون فاروقا لهذه الأمة في آخرها كما كان عمر بن الخطاب فاروقا للأمة في أولها.
ورسائله مع عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف الأحسائي هذه فيها فوائد كثيرة في العلم تبين لك عظم علم الشيخ لأنه إمام الدعوة؛ لأن إمام الدعوة إذا كاتب العلماء كاتبهم بلهجة علمية قوية وتفصيل في المسائل، وإذا خاطب العوام أو المتوسطين في العلم خاطبهم بما يعرفون، حدثوا الناس بما يعرفون.
س/ أليس الشك إذا دافعه الإنسان واستعاذ بالله من الشيطان ليس خروجا من الملة ومجرد الشك لا يخرج من الملة؟
ج/ معلوم أن الشك ليس هو العارض، الشك حين يعبّر به العلماء يريدون الشك في اصطلاحهم، والشك عندهم استواء طرفي القضية في العلم، استواء طرفي القضية يسمى شكا، وأما العارض والتوهمات التي تأتي للقلب والأوهام التي يلقيها الشيطان هذه لا تسمى شكا عند العلماء، الشك أن يقول هذه وهذه مستوية عندي، فيكون شاكا ليس من جهة اعتقاد سريان الشيء على قلبه؛ ولكن يقول جواز البعث وعدم جوازه، إمكان البعث وعدم إمكانه في حد سواء عندي، قد نبعث وقد لا نبعث، هذا قد وقد، هل تُرجَّح أحد الجانبين على الآخر؟ قال لا هذه وهذه مستوية، فهذا يسمى شكا.
وإذا قال: نعم أرجح جانب البعث ولكن قد يكون ألا نبعث فهذا يسمى ظنا.
فإن قال لا البعث قائم وأومن به ولا احتمال عندي لعدم البعث، فيكون هذا علما.
وهذا على حسب كلامهم، ففهم مصطلحات العلماء ينبغي أن يكون على لغتهم لا على لغة العوام.
س/ ذكرتَ بأن من شك في شيء مما جاء به محمد ﷺ فهو كافر؟
فما معنى الحديث الصحيح الذي جاء فيه أن رجلا قال: «إذا مت فحرقوني وذروني في اليم والله لئن قدر الله علي ليعذبني» إلى آخره، الحديث المعروف الذي في الصحيح.
ج/ هذا الحديث اختلف العلماء في الإجابة عليه.
والتحقيق فيه الذي يتفق مع أصول الشريعة من جهة الاعتقاد والفقه أنّ هذا الرجل لم يشك في صفة من صفات الله، وإنما شك في تعلق الصفة ببعض الأفراد، فهو لم يشك في القدرة أصلا، ولو شك في قدرة الله لكفر ولم ينفعه إيمانه، إذا قال: أنا لا أدري هل الله قدير أم ليس بقدير؟ يعني شك في أصل القدرة، فهذا يكفر، أما شك هذا ففي نعلُّق القدرة بإعادة الأجزاء، وهذا فرد من الأفراد التي تتعلق بها القدرة، ومعلوم عندنا أنَّ من أنكر فردا من الأفراد في أصلٍ ليس كافرا، وإنما هو على ذنب عظيم.
لهذا نقول: هذا الرجل شك في فرد من أفراد القدرة، فرد من أفراد تعلق القدرة بذلك الفرد ولم يشك في قدرة الله أصلا، وحاله كحال حواريِّي المسيح الذين قالوا لعيسى عليه السلام ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلُ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ﴾ -وفي القراءة الأخرى ﴿هَلْ تَسْتَطِيعُ ربَّك أَنْ يُنَزِّلُ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ ﴾- ﴿قَالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾[المائدة:112]، هل يستطيع الله أن ينزل علينا مائدة فهم لم ينكروا القدرة وإنما شكوا في تعلق القدرة بهذا النوع، هل يستطيع أو لا يستطيع؟ فتعلق القدرة بإنزال مائدة من السماء حصل لهم شك فيها، فقال لهم عيسى عليه السلام (اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فبينوا وجهتهم قالوا ﴿نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنَّكَ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾[المائدة:113]، إلى آخر السورة.
المقصود أن الشك في فرد من أفراد الصفة ليس كالشك في أصل الصفة، وهذا الرجل غُفر له بسبب خوفه، ومعلوم أن الحسنات يذهبن السيئات، فأحسن إذ خاف من الله جل وعلا، وأساء إذ شك في تعلق قدرة الله بهذا الفرد من مخلوقات الله وهو الأجزاء التي فرقها بإحراقه.
ولهذا تلحظ في الحديث قال: لئن قدِرَ الله علي ما قال لئن قدر الله مطلقا، قال: لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا لم يعذبه أحدا من العالمين؛ يعني أنه تعلق قوله ذلك بقدرته عليه بالخاصة لما ذر جسمه ورماده.
وهذا هو التحقيق لهذا القول في هذا الحديث وهو الذي يستقيم مع الاعتقاد ومع الفقه.
س/ ما رأيك فيمن يقول إن مجرد الطواف على القبر ليس عبادة؟
ج/الطواف عبادة؛ لأن الله جل وعلا أمر به ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِ﴾[الحج:29]، معلوم أن الله إذا أمر بشيء وأثاب عليه فإنه عبادة، وإذا كان كذلك فمن تعبَّد؛ يعني طاف على مكان يرجو الثواب ويتقرب إلى الله أو إلى هذا المقبور بالطواف على غير الكعبة وما بين الصفا والمروة فإنه صرف العبادة لغير الله.
س/ إذا رأى أحد الناس في منامه أنه يفعل منكر كجماع من لا تحل له أو لواط، هل يدل هذا على فسق في دينه، مع أنه في المنام لا يرى أنه محرم وأنه فاعل لمنكر؟
ج/ الجواب أن هذا تكلم عليه العلماء وذكروا فيه تفصيلا، قالوا هذا له حالان:
الحال الأول أن يكون هذا الذي يرى معروف بالفسق فهذا إذا رأى مثل هذه المرائي فإنها إنذار له وتخويف ويُخشى أن يفعلها.
وإذا كان وهو القسم الثاني من الصالحين فإن فعله لذلك لا يكون في خاطره فعل بالمحارم أو يدور في ذهنه استحسان المرأة التي هي محرم له أو استحسان الرجال أو أشباه ذلك فإنه يكون دليلا على أنه سيصل هؤلاء؛ لأن الذَّكر من الذِّكر، والصلة من الوصل؛ يعني إذا كان صالحا فإنه سيصلهم ويزيد في صلتهم.
ولا شك أن مثل هذه المرائي ينبغي أن يستعيذ العبد بالله جل وعلا إذا رآها وأن ينفث عن يساره ثلاثا وأن يغير جنبه الذي نام عليه وألا يحدث بها أحدا.
س/ هل زوجة المرتد تطلق من حين ردته ولو رجع بعد ردته بساعات؟
ج/ لا، تطلق إذا حكم حاكم شرعي قاضٍ بردته أما دون ذلك فلا يتفسخ العقد تلقائيا لابد من حكم حاكم.
س/ ما مدى صحة العبارة لكل نبي حوض إلا صالح عليه السلام فحوضه ضرع ناقته؟
ج/ هذه ذكرها بعض من صنّف في السنة كالبربهاري وهو على عهدته فإني لا أعلم لها أصلا.
س/ ما معنى قول شيخ الإسلام في التدمرية وقوله ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ﴾[الذاريات:47]، أي بقوة فما معنى تفسير الأيد بالقوة؟
ج/ الجواب أن الأيد هنا هذه مصر آدَ الشيء أو آد فلان يئيد أيدا إذا قوي، وليست جمع يد كقوله جل وعلا ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ﴾ يعني ذا القوة ﴿إِنَّهُ أَوَّابْ﴾[ص:18] فالأيد هذا مصدر بمعنى القوة، هذا في اللغة ليس جمع يد.
س/ متى يعذر بالجهل وما الضابط في ذلك؟
ج/ هذه لها تفصيل إن شاء الله.
نكتفي لهذا القدر وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
¹
[المتن]
ويقال أيضًا: هؤلاء أصحاب رسول الله ﷺ قاتلوا بني حنيفة وقد أسلموا مع النبي ﷺ وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله ويصلّون ويؤذّنون فإن قال إنهم يقولون: إن مسليمة نبي. قلنا: هذا هو المطلوب، إذا كان من رفع رجلاً إلى رتبة النبي ﷺ كفر وحل ماله ودمه ولم تنفعه الشهادتان ولا الصلاة فكيف بمن رفع شَمْسَان أو يوسف أو صحابيًا أو نبيًا إلى مرتبة جبَّار السماوات والأرض سبحان الله ما أعظم شأنه ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ﴾[الروم:59].
ويقال أيضًا: الذين حرّقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنَّار كلهم يدّعون الإسلام وهم من أصحاب علي رضي الله عنه وتعلموا العلم من الصحابة ولكن اعتقدوا في علي مثل الاعتقاد في يوسف وشمسان وأمثالهما، فكيف أجمع الصحابة على قتلهم وكفرهم؟ أتظنون أن الصحابة يكفّرون المسلمين؟ أتظنون أن الاعتقاد في تاج وأمثاله لا يضر والاعتقاد في علي بن أبي طالب كفر؟
ويقال أيضًا: بنو عبيد القداح الذين ملكوا المغرب ومصر في زمان بني العباس كلهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويدّعون الإسلام ويصلون الجمعة والجماعة، فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياءَ دون ما نحن فيه أجمع العلماء على كفرهم وقتالهم وأن بلادهم بلاد حرب وغزاهم المسلمون حتى استنقذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا من العلم والعمل وأنتَ أرحم الراحمين.
أما بعد:
فهذه صلة لما سبق تقريره من كشف شبهةٍ أدلى بها الأكثرون؛ وهي أن المسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويصلي ويزكي ويصوم رمضان ويحج بيت الله الحرام ويأتي بنوافل الطاعات والعبادات، كيف يُجعل مثل مَنْ عبد اللات والعزى والأصنام ويُكفَّر ويخرج من دين الإسلام ويقاتل إلى آخر ذلك، فأجاب الإمام رحمه الله بما أجاب به في أول الكلام، ثم واصَل أيضا الأوجه التي بها يجاب عن هذا الإيراد أو هذه الشبهة، فقال رحمه الله تعالى (ويقال أيضًا: هؤلاء أصحاب رسول الله ﷺ قاتلوا بني حنيفة وقد أسلموا مع النبي ﷺ وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويصلّون ويؤذّنون، فإن قال إنهم يقولون: إن مسليمة نبي. قلنا: هذا هو المطلوب، إذا كان من رفع رجلاً إلى رتبة النبي ﷺ كفر وحل ماله ودمه ولم تنفعه الشهادتان ولا الصلاة فكيف بمن رفع شَمْسَان أو يوسف أو صحابيًا أو نبيًا إلى مرتبة جبار السماوات والأرض سبحان الله ما أعظم شأنه: ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ﴾[الروم:59]) خلاصة هذا أنَّ بني حنيفة الذين قاتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ومعه أصحاب رسول الله ﷺ لم يكفروا بكل أمور الدين؛ بل كفروا بأنَّ محمدا خاتَمُ الأنبياء والمرسلين فرفعوا مسيلمة الكذّاب إلى مقام النبي ﷺ في تبليغ الرسالة، وهذا النوع من كُفرهم تبعه معه أنهم أطاعوا مسيلمة فيما أمرهم به وجعلوا رسالة مسيلمة الكذاب لهم، فمَا أمرهم به ائتمروا به وما نهاهم عنه انتهوا عنه، وهذا هو الذي جعلهم كفّارا وذلك لأنهم جعلوا مسيلمة الكذاب نبيا بعد محمد عليه الصلاة والسلام، ولم يجعلوا رسالة النبي ﷺ خاتمة الرّسالات والاستدلال هذا الذي أوردوه كما قال الشيخ رحمه الله (هذا هو المطلوب)؛ لأن كفر هؤلاء دون ما يكفَّر به غيرهم من عبدة القبور والأوثان وعبدة الصالحين وعبدة الأولياء وغير الأولياء والأشجار والأحجار؛ لأنَّ من عبد هؤلاء واستغاث بهم وأنزل بهم حاجتَه طلب منه دفع الضر ودفع المدلهمات في الواقع قد رفع منزلة هذا المدفون إلى منزلة رب العالمين، فقتال الصحابة رضوان الله عليهم لبني حنيفة الذين اتَّبعوا مسيلمة الكذاب يدل بدلالة الأَوْلى على أن من رفع شخصا مسلما كان أو غير مسلم إلى مرتبة جبار السموات والأرض في استحقاق العبادة أو الطاعة المطلقة الدينية فإنه أعظمُ كفرا من أولئك الذين لم يشركوا بالله جل وعلا أحدا، وإنما كفروا من جهة أنهم جعلوا مسيلمة نبي؛ لأنهم لم يعودوا إلى عبادة الأصنام وإنما جعلوا مسيلمة الكذاب نبيا لهم وبعد محمد عليه الصلاة والسلام إلى آخر تفاصيل قصتهم، وكذب مسيلمة في نبوته واتباع أولئك له.
فتحصَّل من هذا الإيراد الذي أوردوه ليدلُّوا على أن المسلم الذي يدعو غير الله جل وعلا؛ يدعو نبيا أو يدعو صالحا أنه لا يكفر بدلالة أن أولئك الذين قاتلهم الصحابة ما كفروا إلا بادّعاء نبوة مسيلمة، قلنا: ما هو أَوْلى يدل على أن غيرهم ممن ألَّهوا الأشخاص أعظم كفرا من أولئك، فمن انخرم في حقه الشق الأول من الشهادة وهو شهادة أن لا إله الله لاشك أنه أعظم كفرا ممن انخرم في حقه الإقرار بأنَّ محمدا رسول الله وخاتم الأنبياء والمرسلين؛ لأن تأليه الله جل وعلا وحده دونما سواه فرْض ودليله الشهادة، وهذه الشهادة تنفي هذا القِسْم، والشهادة بأن محمد رسول الله تنفي أن يكون أحدٌ نبيا بعد محمد عليه الصلاة والسلام، فدلّ هذا على أن من جعل بعد محمد ﷺ نبيا فهو كافر ومن جعل مع الله جل وعلا إلها يعبده ويرجوه ويستغيث به ويسأله رفع الضُّر وجلب النفع أنه كافر من باب أولى؛ لأن حق الله جل وعلا أعظم من حق خلقه، وهذا الذي ذكره الإمام رحمه الله تعالى وجيه وعظيم من جهة أنَّ حال أولئك هو دون ما نحن فيه.
فالذين اتبعوا مسيلمة الكذاب وأقروا له بالنبوة هم أخفّ حالا ممن ألَّه غير الله وسجد له واستغاث به وتقرَّب إليه رجاءَ شفاعته ليكون له شافعا عند الله جل وعلا وطالبا وداعيا له عند الله جل وعلا فَكُفْر هؤلاء أعظم كفرا من الأولين بدلالة القياس الذي ذكرناه.
ثم أيضا يقال: إنَّ قتال مانعي الزكاة وتكفير الصحابة لمن لم يلتزم وجوب الزكاة لخليفة رسول الله ﷺ وقتال أولئك قتال المرتدين لا قتال البغاة يدل على ما نحن فيه من باب الأوْلى، فإن مانعي الزكاة أكثرهم مرتد على الدين ولهذا سماهم الصحابة رضوان الله عليهم مرتدين، وقالوا في قتال بني حنيفة وفي قتال مانعي الزكاة جميعا قتال المرتدين، ولم يفرقوا ما بين طائفة وطائفة؛ لأن أهل العلم أجمعوا على أن الطائفة الممتنعة عن تحريم ما حرم الله جل وعلا أو عن تحليل ما أحلّ الله أو الطائفة الممتنعة عن امتثال ما أمر الله جل وعلا أنه يجب قتالها.
ثم إن كان امتناعها من جهة عدم الالتزام والانقياد فإنها تكفر بذلك، ولهذا نص العلماء على أنه لو اجتمع أهل قرية على أن يتركوا الأذان فإنه يجب قتالهم مع أنَّ الأذان سنة عند كثير من أهل العلم وفرض كفاية عند آخرين، ولو اجتمعوا على ترك سنة من السنن فإنهم يقاتَلون حتى يلتزموها يعني حتى يعملوا بها ولا يجتمعون على تركها، فإنْ كانوا غير منقادين ممتنعين امتناع عدم التزام فإنهم مرتدون بذلك.
ومعنى الممتنعة؛ الطائفة الممتنعة يعني غير الملتزمة، ومعنى الالتزام في هذا الموضع أن يقول: إن هذا الأمر إما الواجب أو المحرم حق في نفسه فهو واجب أوجبه الله أو هو حرام حرَّمه الله؛ ولكن أنا غير مخاطب بهذا يخاطب به غيري من الناس فأنا غير داخل في هذا الخطاب، كما قال مانعي الزكاة: إن هذا طلب الزكاة أن ترسل إلى المدينة هذا لغير أهل نجد لغيرنا -يعني فيما قالوا-.... يلتزموا تجاه الخطاب إليهم، فخرجوا إذن بقولهم عن عموم المخاطبة، وهذا رِدَّة عن الدين لنه انتفى معه شرط الانقياد؛ لأنَّ من شروط لا إله إلا الله الانقياد، ومعنى الانقياد الالتزام بتحليل ما أحلَّ الله يعني باعتقاد حله وأنَّ هذا المسلم مخاطَب بهذا التحريم، وتحريم ما حرم الله باعتقاد حرمته، وأنه مخاطب بهذا التحريم.
فمانعوا الزكاة كانوا على صنفين:
منهم من لم يلتزم؛ يعني امتنع حيث قال إنه غير مخاطب بهذا الحكم، ولا يلزمه أن يعطي الزكاة للخليفة، مع إقراره بأنّ هذا الحكم متوجه إلى غيره، فيقول هذا واجب ولكن أنا لا أدخل في هذا الواجب، فلم ينقد لكل الأحكام؛ يعني لم يجعل نفسه داخلا في خطاب الله جل وعلا للمكلَّفين بأحكام الإسلام، فهذا يسمى امتناع؛ امتناع عن دخوله في بعض أحكام الشريعة، وهذا كفر وردة كما ذكرنا.
ومنهم من مانعي الزكاة طائفة أخرى منعوها للتأويل، فقالوا أهل المدينة ليسوا بحاجة ونحن بحاجة إلى الزكاة فنحن أولى بها.
والصحابة رضوان الله عليهم لم يفرقوا بين هؤلاء وهؤلاء؛ بل جعلوا قتال مانعي الزكاة كقتال المرتدين؛ بل لم يجعلوا المرء من المرتدين الأولين من بني حنيفة أتباع مسيلمة ولا من مانعي الزكاة لم يجعلوه سالما حتى يشهد على قتلاهم أنهم في النار وعلى قتلى المؤمنين أنهم في الجنة.
وهذا يدلّ على أن من لم يلتزم توحيدَ العبادة بمعنى جعل توحيد العبادة حقا؛ ولكن قال نحن غير مخاطبين بذلك لأنَّ الناس لهم كذا وكذا من التأويلات فهذا داخل في جنس هذه المسألة.
ولهذا استدلال الشيخ رحمه الله بالاستدلال الأولوي في محله واستدلال وجيه وحكيم؛ لأن هذه المسألة التي نحن فيها أعظم مما قاتل فيه الصحابة رضوان الله عليهم المرتدين ومانعي الزكاة، فقِتالهم لهم في شأن أقل مما نحن فيه، وليس كل طائفة تترك شريعة من شرائع الله أو شعيرة من شعائر الله فتقاتل تعتبر مرتدة؛ بل تقاتل لتلتزم:
· وقد يكون تركها لعدم الالتزام؛ يعني من جهة الامتناع فتكون كافرة.
· وقد يكون تركها لأجل شبهة أو تأويل لا لأجل عدم الالتزام فلا تكفَّر بذلك.
وإنما يكفر من لم ينقد لشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وضابط الانقياد هو ما ذكرتُ لك في أن يكون ملتزما، وبهذا يكون هناك فرق عظيم ما بين الجحد والامتناع، وما بين القبول والالتزام، فالجحد في الحكم على الطوائف يقابله القبول، والامتناع يقابله الالتزام، فالامتناع والالتزام لفظان لدخول المخاطََب في الأحكام الشرعية، والقَبول والجحد لفظان لإقرار المخاطب بالحكم له ولغيره.
فمن أقرَّ بأن هذا الحكم شامل له ولغيره هذا واجب عليه وعلى غيري فهذا يُعتبر قابلا.
وإذا قال: هذا الحكم ليس لي ولا لغيري ليس واجبا فهذا يعدّ جاحدا.
وإذا قال: نعم هذا الحكم واجب أداء الصلوات واجب فرضه الله جل وعلا لكن إنما وجب على طائفة من الناس، وطائفة أخرى لا يجب عليها كحال الذين سقطت عنهم التكاليف وارتفعت أحوالهم حتى لا تؤثِّر فيهم الطاعات في زيادة يقين، فهذا كحال غلاة الصوفية فهذا يكون ممتنعا غير ملتزم.
وهذا قررَّه العلماء في مواطن عدة، وبحثه شيخ الإسلام ابن تيمية في بحث جيِّد في الفرق ما بين الالتزام والقبول والامتناع والجحد في كلامه على ترجيح الطاعة أو ترجيح الأمر على النهي أو النهي على الأمر في مجموع الفتاوى، وهو مقرر عند كثير من أهل العلم.
إذا تقرر هذا: فمسألة مانعي الزكاة ربما تجد من أهل العلم من يقول إنهم قوتلوا قتال بغاة، ومنهم من قال إنهم قوتلوا قتال مرتدين، وهذا لأجل انقسامهم في أنفسهم فليس الجميع غير ملتزم، ليس الجميع ممتنعا؛ بل فيهم هذا وفيهم هذا؛ لكن الصحابة أجمعوا على قتالهم قتال مرتدين، حتى قال عمر رضي الله عنه ما زلت بأبي بكر لعله أن يترك القتال حتى قال أبو بكر رضي الله عنه: والله لو منعوني عَنَاقا كانوا يؤدُّونها للرسول الله ﷺ لقاتلتهم على منعها، والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة. قال عمر: فما رأيت إلا أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمتُ أنه الحق. وقاتل مع الصحابة رضوان الله عليهم وأقرّ بذلك.
إذا تقرر هذا فالمسألة التي نحن فيها أعظم وأبلغ من هذه المسائل التي قاتل الصحابة الناس عليها، والتي كفَّروا المرتدين بها.
لهذا نقول من رفع كما قال الشيخ هنا من رفع شمسان ويوسف أو تاج أو صحابيا أو نبيا إلى مرتبة الله جل وعلا فأعطاه صفات الحق تبارك وتعالى في كونه يغيث الملهوف وينيب المضطر وكونه يغفر الذنب وكونه يمنع ويعطي ويتصرف في الملكوت، فلا شك أن هذا أعظم كفرا من الأولين وأن قتالهم بعد إقامة الحجة عليهم أوجب من قتال الأوائل، فإذا كان الصحابة رضوان الله عليهم قاتلوا من لم يلتزم حكم الزكاة وتأدية الزكاة إلى الخليفة وقاتلوا الطائفة الممتنعة عن هذا الحكم فإن قتال الطائفة الممتنعة عن توحيد العبادة أظهر في البرهان وأوجب.
فهذه الشبهة التي أوردوها هي في الواقع تنعكس عليهم، والحجة لنا فيها وليست علينا؛ ولكن كما قال الله جل وعلا ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ﴾[الروم:59].
قال الشيخ رحمه الله (ويقال أيضًا: الذين حرّقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنَّار كلهم يدّعون الإسلام وهم من أصحاب علي رضي الله عنه وتعلموا العلم([58])من الصحابة ولكن اعتقدوا في علي مثل الاعتقاد في يوسف وشمسان وأمثالهما، فكيف أجمع الصحابة على قتلهم وكفرهم؟ أتظنون أنَّ الصحابة يكفّرون المسلمين؟ أم تظنون أن الاعتقاد في تاج وأمثاله لا يضر والاعتقاد في علي بن أبي طالب يكفر؟) هذا جواب أيضا من أجوبة على الشبهة التي أوردوها أولا؛ من أنَّ المسلم الذي شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأتى بأركان الإسلام أنه لا يكفر، قال الإمام رحمه الله (ويقال أيضًا: الذين حرّقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه) لِم حرَّقهم؟ وحديث تحريقهم في الصحيح، هل حرقهم لأنهم أنكروا أمرا من الإسلام أو أنهم عبدوا الأصنام أو عبدوا الأوثان؟ أم أنهم جعلوا لعلي منزلة الإله؟ فجعلوا عليا رضي الله عنه له ما للرب جل وعلا، ولهذا قال علي رضي الله عنه ورحمه لما رأيت الأمر أمرا منكرا أججت ناري ودعوت قندرة يعني مولاه -هذا في الصحيح- فخدّ لهم الأخاديد وأتى بهم واحدا واحدا ورماهم في النار، وخالفه أكثر الصحابة رضوان الله عليهم في التحريق، ولم يخالفوه في قتلهم، واحتج عليه ابن عباس رضي الله عنه بما سمعه من رسول الله ﷺ أو بقول رسول الله ﷺ «إنه لا يُعِّذب بالنار إلا ربُّ النار» لكن هم مجمعون على من ادّعى هذا فهو كافر يجب قتله لأنها ردة والنبي ﷺ قال «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث» وذكر منها «التارك لدينه المفارق للجماعة» فالذي يترك دينه ويرتد فإنه يجب قتله ويحل دمه والصحابة أجمعوا على قتلهم وكفرهم، وحرّقهم علي رضي الله عنه لم؟ لأنهم جعلوا لعلي بعض خصائص الألوهية.
وإذا كان كذلك فهذا الإجماع يمكن أن يسلط على هذه المسألة التي يوردون علينا فيها الشبهات، وهي مسألة هؤلاء الذين يعبدون الطواغيت أو يعبدون الأولياء أو يعبدون الصالحين ويقولون: إنَّ هؤلاء يغيثون، وأنهم يُعطون المرأة الولد، وأنهم يغفرون الذنب، وأنهم يقضون الدَّين؛ بل ربما جعلوا لهم أعظم مما للرب جل وعلا وتعالى وتقدس.
هؤلاء لاشك أنهم مثل الذين حرّقهم علي رضي الله عنه فأولئك ادعوا الإلهية قولا وهؤلاء ادّعوا الإلهية فعلا وعملا حيث جعلوا ما للإله من حقه في عبادته وحده دون ما سواه لهؤلاء البشر.
قال (ولكن اعتقدوا في علي مثل الاعتقاد في يوسف وشمسان وأمثالهما) اعتقدوا في علي مثل هذا الاعتقاد لا فرق بين هذا وهذا، قالوا علي له صفات الألوهية، وهؤلاء قالوا هؤلاء يغيثون، هؤلاء الموتى يغيثون ويُعطون العطايا ويتصرَّفون في الأرض ويغفرون الذنب، والمرأة الحامل يجعلون لها ولدا إلى آخر ذلك، فإذا تُقُرِّب إليهم أعطَوْا السائل هذا، ومنهم من يعتقد فيهم الاستقلال يعني أنه يعطي استقلالا ويمنع استقلالا ويغفر استقلالا بتفويض الله جل وعلا له وهذه الأمور، ومنهم من يقول لا هو يعطي ويمنع بتوسطه عند الله جل وعلا، مثل ما قال الأولون: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفا.
قال الشيخ (فكيف أجمع الصحابة على قتلهم وكفرهم؟ أتظنون أن الصحابة يكفّرون المسلمين؟ أم أتظنون أن الاعتقاد في تاج وأمثاله لا يضر والاعتقاد في علي بن أبي طالب يكفِّر؟) لاشك أن هذا لا يقوله أحد منهم؛ لأن معناه أن مرتبة تاج وشمسان إلى آخره أرفع من مرتبة علي رضي الله عنه، إذا قالوا إن من اعتقد في علي يكفر ومن اعتقد في شمسان وتاج لا يكفر، من اعتقد في علي يكفر ومن اعتقد في البدوي وفي العيدروس وفي المرغني وفي فلان وفي عبد القادر لا يكفر، لا شك أن هذا معناه رفع هؤلاء عن مرتبة علي رضي الله عنه، وهذا تكفيره من باب أولى.
وهذه الحجة واضحة في الدلالة وواضحة في البيان.
قال الإمام رحمه الله في إيراده للأدلة والتقعيدات على جواب هذه الشبهة (ويقال أيضًا: بنو عبيد القداح الذين ملكوا المغرب ومصر في زمان بني العباس كلُّهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويدّعون الإسلام ويصلون الجمعة والجماعة، فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياءَ دون ما نحن فيه أجمع العلماء على كُفْرِهم وقتالهم وأن بلادهم بلاد حرب وغزاهم المسلمون حتى استنقذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين)، (بنو عبيد القداح) هم الذين يسميهم كثير من المؤرخين الفاطميين ويسمون دولتهم العبيدية الدولة الفاطمية، ونسبتهم إلى فاطمة الزهراء رضي الله عنها أو إلى علي نسبة مرفوضة؛ إذْ إنّ المحققين من المؤرخين غلَّطوا هذه النسبة وقالوا: إن هؤلاء من المجوس ومن الفرس ولا ينتسبون إلى علي رضي الله عنه في النَّسب. ولهذا يُقال لهم العبيديون ولا يقال لهم الفاطميون، فهم بنو عبيد القداح.
وهذا القدَّاح قد نشأ على عقيدة الإسماعيلية ثُم هرب بعقيدته إلى اليمن، وأنشأ فيها دعوة إسماعيلية باقية إلى الآن، وانتقل بعد ذلك لما طلب إلى المغرب الأقصى فابتدأ فيها دعوته وانتقل بعد ذلك وقوي، ثم مع الزمن كثر أتباعه وجنده فبدؤوا بالحروب.
فابتدؤوا من المغرب إلى أن وصلوا إلى مصر واحتلوا كل هذه البلاد وغلبوا عليها، وأقاموا فيها الدولة المسماة بالدولة العبيدية.
والقرامطة نوع منهم من الإسماعيليين، وكان بينهم وبين بني عبيد القداح صلات قوية، وهؤلاء خدموا لهؤلاء؛ لكن حصل بينهم خلاف في آخر الأمر أدى إلى استقلال هؤلاء وهؤلاء.
فالقرامطة هم الذين غزوا البيت الحرام وقتلوا الناس فيه مثل ما قال: كبيرهم أنا الله، والله أنا، يخلق الخلق وأفنيهم أنا. وهذا لأجل اعتقادهم في نوع من الحلول واعتقاداتهم الباطنية كفرهم العلماء بها، ولما وَلُوا مصر وكانت شوكتهم فيها لم يتقدموا إلى الشام ولا إلى العراق، وإنما كانت شوكتهم فيها، ودام حكمهم نحو مائتين من السنين.
ابتلوا العلماء في عقائد باطلة حتى ذكر الحافظ الذهبي في العبر وفي غيره أنهم يأتون بالعالم السُّني فيذكرون له أشياء من عقائدهم الباطنية فإن لم يقر سُلخ جلده أمام الناس؛ يعني أحميت الناس والحديد وسلخ جلده كما تسلخ الذبيحة، وعَظُم هذا في الناس جدا.
وأسسوا للدعوة إلى دين الباطنية الأزهر المعروف الآن، ومضى عليه قرون وهو على طريقة الإسماعيلية ثم بعد ذلك لما انتهت الدولة العبيدية رجع إلى جملة أهل السنة مقابلة طوائف الباطنية.
فكانت عقائدهم في الباطن عقائد إلحادية من جنس الذين حرقهم عليه رضي الله عنه وخدّ لهم الأخاديد.
ومنهم ظهرت النصيرية.
ومنهم ظهر الدروز الذين يؤلهون الحاكم بأمر الله العبيدي.
ويعتقدون ولم يُظهروا ذلك أن الإله يَحِل في الأشخاص وأنه تنقل في سبعة حتى كان آخر هؤلاء السبعة هو الحاكم بأمر الله العبيدي؛ لأنهم يعتقدون في هذا الرقم سبعة وأول ما يدعون حين يدعون إلى الحكمة من الرقم سبعة ويذكرون له -لهم كتب كثيرة ومطبوعة وموجودة بينت مذاهبهم على الحقيقة- يذكرون له الرقم سبعة وما فيه يقولون مثلا هل تعتقد أن الله جل وعلا الحكيم يخلق سبعة سموات ويخلق سبع أراضين، ويجعل أيام الأسبوع سبعة، ويجعل الطواف سبعة، ويجعل السعي سبعة، ويجعل كذا سبعة وسبعة وسبعة، ويترك الأئمة بلا عدد سبعة فلا بد أن الإمامة ستقف عند سبعة؛ لأن الإمامة أعظم من هذه الأشياء فإذا أقر لهم بهذه المقدمة، قالوا الأئمة السبعة آخرهم إسماعيل لأن الرافضة افترقوا فرقتين فرقة يعني أبناء جعفر الرافضة بعد جعفر الصادق افترقوا فرقتين فرقة تسمى الجعفرية وفرقة تسمى الإسماعلية.
وكانت القاعدة في بنيهم -لو فصلنا بعض الشيء- كانت القاعدة في الإمامة فيهم أن الإمام هو الولد الأكبر بعد الإمام الذي قبله، وكان جعفر الصادق الإمامة منعقدة عند الرافضة والشيعة له، وكان ولده الأكبر اسمه إسماعيل وولده الأصغر اسمه موسى، فغاب إسماعيل في حياة والده جعفر الصادق في نحو ثمان وأربعين ومائة ذهبت به أمه وغابت به؛ لأن الذين كانوا يحبون أن تكون الولاية في موسى كادوا لأمه في قصة تاريخية، المهم أنها هربت وغاب إسماعيل عن الناس، فلما غاب إسماعيل مات جعفر الصادق رحمه الله تعالى وهو من العلماء الأخيار والفقهاء، لما مات رحمه الله جعفر الصادق اختلفوا من الإمام بعده؟ فقالت طائفة القاعدة أن الإمام هو الولد الأكبر فإسماعيل هو الإمام، وقال آخرون إسماعيل أمره هل نُبقي الناس بلا إمام؟
فمن قال ببقاء الإمامة في الولد الأكبر وأن إسماعيل هو الإمام وأنه هو المستحق سنقف بالإمامة حتى يرجع، سمي هؤلاء إسماعيلية.
ومن قال بإمامة موسى إذ إن الابن ألأكبر في جعفر مات أو انقطعت أخباره سُمُّوا موسوية.
ولهذا تجد أن الرافضة الاثني عشرية يركزون على نسبتهم إلى الاثني عشرية الموسوية الجعفرية، فبنسبتهم إلى جعفر يخرجون عن أهل السنة، وبنسبتهم إلى موسى يُخرجون الإسماعيلية، وبنسبتهم إلى الأئمة الإثنا عشر يخرجون كثيرا من طوائف الشيعة التي كانت في الزمن الأول لا تقول ببقاء الإمامة في اثني عشرة فقط بل تتسلسل وآخر أئمتهم العسكري، حصل له مثل ما حصل لإسماعيل في الاختفاء.
حصل للطائفتين اعتقادات مختلفة في أن هذا الغائب هو المهدي المنتظر.
فالإسماعيلية اعتقدوا في إسماعيل وأنه هو الإمام المنتظر فدعو في مواجهة الموسوية إلى نحلتهم سرا، فأصبح لهم عقائد باطنية مختلفة، وأصبح لهم تفسيرات غير ظاهرة، فهم من جهة تفسير النصوص أكثر غلوا من الرافضة؛ لأنهم يجعلون لكل نص ظاهرا وباطنا، فالظاهر للعامة يعني للسنة، والباطن لأهل الحكمة وهم الإسماعيلية.
فبنو عبيد القداح لما أقاموا دولتهم دعوا في الباطن إلى نحلتهم، بتفاصيل الأحكام الشرعية التي هي عند الإسماعيلية، ومعلوم أن حكم الإسماعيلية من جهة الفقه خارج عن نصوص الكتاب والسنة، فمن جهة فهمهم للأدلة واستنباط الأحكام من الأدلة إنما هو بالاعتقادات الباطنة؛ لأنهم جعلوا لكل نص ظاهرها وباطنا، كذلك عندهم نصوص من الأثر الذي يعتمدون عليه خلاف ما عند السنة.
فصار أمرهم إذن نبذ أحكام كثيرة من الشريعة التي جاءت في الكتاب والسنة وقررها أئمة.
فحاصل أمرهم أنهم في الباطن ملاحدة زنادقة، وفي الظاهر دعوا الناس إلى نبذ أحكا كثيرة من الشريعة، وإبطال كثيرا من ألأحكام التي دلت عليها السنة.
فرجع أمرهم إلى أنهم لم يلتزموا أحكام الكتاب والسنة، وامتنعوا عن أحكام الكتاب والسنة في كثير بل في الأكثر من المسائل الفقهية وكذلك العقدية.
فصار إذن حكمهم حكم الممتنعين عن تحكيم الكتاب والسنة في المسائل، وصار حكمهم حكم المشرِّعين الذين أتوا بدين جديد للناس والزموا به الناس، فينطبق عليهم قاعدة الطائفة الممتنعة الذين لم يلتزموا الأحكام الشرعية؛ بل هم أبلغ من غير الملتزمين؛ لأنهم جحدوا الأحكام وعذبوا الأئمة والعلماء في مصر على تلك المسائل.
فإذن قول الشيخ رحمه الله (فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياء دون ما نحن فيه) يعني بإظهار مخالفة الشريعة يعني أظهروا عدم الالتزام، وأظهروا جحد الشريعة في الأحكام الشرعية التي هي دون ما نحن فيه من مسألة التوحيد والعبادة، ومن عرف حقيقة أمرهم عرف أن كفرهم وقتال العلماء لهم وتكفير العلماء للدولة العبيدية كان من جهة أنها دولة باطنية في عقيدتها مؤلِّهة لغير الله جل وعلا هذا في الباطن، وفي الظاهر أظهروا جحد الشريعة وعدم الالتزام بأحكامها وعدم الانقياد لها بضابط الانقياد والالتزام الذين ذكرتهما لك آنفا.
فلا شك أن من أله غير الله وتوجه إلى غير الله فحكمه الردة أولى من هؤلاء بحسب الظاهر، لهذا قال الشيخ رحمه الله (قد فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياء دون ما نحن فيه) وهم الذين سنّوا في الناس الموالد المختلفة، فجعلوا لكل ليلة مولدا، هذا مولد لفلان، وهذا مولد لفلان، وهم الذين سنوا السنة السيئة الاحتفال بمولد المصطفى ﷺ وبمولد الحسين، وبمولد فلان وفلان من الأئمة إلى آخر أمورهم.
المقصود أن كفرهم جاء من جحدهم للشريعة وتكذيبهم لتفسير الأئمة للنصوص وتفسيرهم للآيات القرآن وأحاديث النبي ﷺ بتفسيرات باطنية مبتدعة، فلا شك أن هذا إظهار للكفر.
قال (أجمع العلماء على كفرهم وقتالهم وأن بلادهم بلاد حرب)، وقوله (وأن بلادهم بلاد حرب) لأن هؤلاء تغلبوا عليها وحكموها بتلك العقيدة الباطنية والشريعة الإسماعيلية وغلب هذا.
والبلاد التي فيها اختلاط ما بين أحكتم المسلمين وأحكام الكفار اختلف العلماء هل تسمى بلاد حرب أم لا؟
فقالت طائفة: إنها تسمى بلاد مسلمين باعتبار الأصل، دار إسلام باعتبار الأصل، ما لم يغلب حكم الكفر.
وقال آخرون: إنها دار إسلام ما دام يسمع فيها الأذان.
وقال آخرون من أهل العلم: إن دار الإسلام ودار الحرب -يعني البلد التي فيها هذا وفيها هذا- لا يطلق عليها يتوقف في أن يطلق عليها اسم دار الإسلام أو اسم دار الحرب بل يعامل كل فيها بحسبه ولا تعامل معاملة دار الإسلام من كل وجه ولا معاملة دار الحرب من كل وجه في البلاد المختلطة.
وقال آخرون من أهل العلم: إن أحكام الإسلام، إذا غلبت فالدار دار إسلام، وإذا غلبت أحكام الكفر فالدار دار كفر، فالمدار على ما يغلب منهما.
وهذا الأخير يذهب إليه أكثر أئمة الدعوة رحمهم الله تعالى، والذي قبله من أنه لا يعطى هذا ولا هذا هو قول شيخ الإسلام ابن تيمية لما سئل عن بلد أظنها [دارين] في سؤال بأنها فيها أحكام الإسلام وفيها أحكام الكفرة.
قول الشيخ رحمه الله (وأن بلادهم بلاد حرب ) لأن أحكام غير الإسلام غلبت فيها فأحكام الإسلام لا توجد..... من بلدان المسلمين .
هذا الذي ذكره الإمام رحمه الله تعال واضح الدلالة فيما نحن فيه من أن العلماء لم يجعلوا من أظهر الشهادتين والصلاة والزكاة والصيام والحج وبعض العبادات أنه لا يكفر مطلقا؛ بل نصوا على أنه يكفر في باب حكم المرتد إذا فعل أشياء أو اعتقد أشياء أو قال أشياء، كذلك هذه الأمة حصل منها تكفير لطوائف كفّروا من قال برسالة مسيلمة وقاتلوهم، وكفّروا ما نعي الزكاة غير الممتنعين عن الالتزام بها، وكفروا بني عبيدة القداح لعقائدهم الباطلة وتأليههم لعلي رضي الله عنه وللأئمة، وعلي رضي الله عنه كفر من ألهه وحرقهم بالنار.
فهذا كله يدل بوضوح على أن ما ذكره صاحب الشبهة من أن المسلم الذي يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله ويصلي ويزكي ويصوم ويحج أنه لا يكفر بها أن هذا باطل بالأوجه الكثيرة التي أوردها في الدرس السابق وبهذا الدرس.
نقف عند هذا.
[الأسئلة]
س1/ يقول هل لك مؤلف في كرامات الأولياء وهل هو مطبوع أم لا؟ وإذا كان الجواب لا فكيف أستطيع الحصول عليه؟
ج/ كرامات الأولياء فيها كتاب الفرقان لشيخ الإسلام ابن تيمية الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وفيها كتاب كرامات الأولياء للالكائي هو مطبوع أيضا، ولمقدمة المحقق كافٍ في بابه، كتاب النبوات فيه أيضا بحثا كبير للكرامات والكتب التي بحثت هذا كثيرة.
بالنسبة لدرس فتح المجيد الذي أنهيناه بحمد الله ونعمته، نبتدئ إن شاء الله في كتاب آخر ربما الأسبوع القادم نبلغكم إن شاء الله في حينه، يكون في الغالب الثلاثاء ليلة الأربعاء بعد العشاء، الأسبوع هذا ما فيه، نبلّغكم الأسبوع القادم إن شاء الله إن كنا سنبدأ.
س2/ هل كان المرتدين من كان قابلا للزكاة منقادا لها إلا أنه ممتنع عن دفعها للإمام؟
ج/ الجواب السؤال ينبغي أن يكون كالتالي: هل كان من المرتدين من كان قابلا للزكاة منقادا لها إلا أنه ممانع عن دفعها للإمام؟
يعني لفظة ممتنع ليست هي ممانع، ممتنع مصطلح ممتنع يعني غير ملتزم، ممانع يعني منع هذا الشيء لم يفِ به، منع، مثل ما قال الناس في زمن النبي ﷺ منع خالد زكاة ماله؛ لكن ما امتنع، فالمنع شيء في النصوص وفي كلام أهل العلم والامتناع شيء، منع خالد زكاة ماله قال «فأما خالد فإنكم تظلمون خالدا إنه احتبس أسيافه وأذرعه في سبيل الله» المنع هنا غير الامتناع، المنع يعني يقول: أنا لن أأدي هذه. هذا له حكم أمثاله من أهل الذنوب والمعاصي، أما الامتناع يقابل الالتزام، لهذا يقول إلا أنه ممتنع ممانع عن دفعها للإمام.
الجواب كما ذكرنا أن مانعي الزكاة على فئتين:
منهم من كان ممتنعا.
ومنهم من كان مانعا.
لكن المانعين قاتلوا مع الممتنعين قاتلوا قتالا واحدا، فلما صاروا يقاتلون الصحابة تحت هذه الراية راية الامتناع عن أداء الزكاة صار لهم حكمهم من هذه الجهة.
أما مسألة المنع فهي غير مسألة الامتناع، فلا يكفر المانع وإنما المانع غير المستجيب الرافض، وإنما يكفر الممتنع غير الملتزم الذي يُخرج نفسه من الدخول في الخطاب التكليفي في هذه المسألة بخصوصها.
س3/ هل هناك فرق بين الطائفة والفرد في هذه الأحكام؟
ج/ الفرق بين الطائفة والفرد في القتال، أما في مسألة الامتناع والالتزام واحد، الطائفة الممتنعة والفرد الممتنع الطائفة التي تقول لا ألتزم بهذا الحكم يخص غيري، والفرد الذي يقول هذا الحكم لا يوجَّه لي وإنما لغيري، الحكم من حيث الردة واحد، أما في القتال فيفرق ما بين الفرد وما بين الجماعة، فالجماعة التي لها منعة تقاتل، والفرد يستتاب فإن تاب وإلا قُتل.
س4/ كيف خفي على جُلهم كفر من لم يلتزم بالزكاة؟
ج/ ما خفي عليهم كفر من لم يلتزم، خفي عليهم أن هل هؤلاء منعوا أو امتنعوا الزكاة أم لا، يعني ما يدرون أوش حقيقة أمرهم. عمر كان يرى أن يرسل إليهم أحد وينظر حالهم.
س5/ على قول أئمة الدعوة أنه إذا غلبت أحكام الكفر على أحكام الإسلام فهي دار كفر؟
ج/ أنا ما قلت قول أئمة الدعوة، أنا قلت إيش؟ أكثر، أكثر أئمة الدعوة في علمي؛ يعني بحسب ما اطلعت على كتبهم، لكن هذا قولهم يعني قولهم جميعا؟ لا؛ أنه إذا غلبت أحكام الكفر على أحكام الإسلام فهي دار كفر.
هنا نقول يعني يشخَّص على بعض بلاد المسلمين، اليوم نقول هنا هل غلبت أحكام الكفر أم لم تغلب هذه يختلف فيها العلماء؟ فالنظر يكون للعالم في تشخيص البلد، هل هذا البلد غلبت فيه أحكام الكفر أم لم تغلب.
الذين سألوا شيخ الإسلام ابن تيمية عن [دارين] أظن قالوا له أن فيها كذا وكذا فما حكمها، ولهذا ينبغي أن يشخص لأهل العلم والفتوى العلم بأحكام المرتد هذه المسائل، والفتوى تكون تبعا لذلك.
س5/ ...
ج/ دار الكفر ودار الإسلام لا علاقة لها بالحاكم، قد يكون الحاكم مسلما والدار دار كفر، مثل النجاشي في الحبشة هو مسلم وداره دار كفر، وقد يكون الحاكم كافرا والدار دار إسلام، إذا كان حصل منه موجب للردة بشخصه، فلا ارتباط بين حكم الدار والحاكم، الحاكم إذا كفر يجب خلعه مع الاستطاعة مع القدرة؛ يعني إذا لم يكن له شبهة أو تأويل كالمأمون ومن بعده.
المهم أنّ حكم الدار لا صلة له بالحاكم:
· قد يكون الحاكم مسلما والدار دار كفر.
· وقد يكون الحاكم كافرا والدار دار إسلام.
· وقد تكون المسألة مشتبهة.
فهذه الأحكام دقيقة، ودائما أوصي الشباب بأن لا يخوضوا فيها؛ لأن الشاب أو طالب العلم المبتدئ ربما خاض فيها من جهة الغيرة، فأثرت غيرته على الحكم، وهذا غير مطلوب بل ينبغي تركه.
س6/ ما أدري هذا السؤال تحبون نقرأه أو لا، على كل حال ينشطكم شوي يقول: إذا جلست على يدي أو رجلي فترة من الزمان فإنها تنام؛ أي لا أقدر أن أحركها وأحس فيها مثل الدبابيس وهناك طريقة لرفعها.
إذا كان فيه طريقة جزاك الله خيرا.
يعني وضع -ما أدري كذا- على الجسم؛ يعني طريقة خاصة به، أنا ما أعرف أن هذه من الطرق الممنوعة. نكتفي بهذا القدر وفقكم الله.
صلى الله وسلم على نبينا محمد.
¹
[المتن]
ويقال أيضًا: إذا كان الأولون لم يَكْفُرُوا إلا لأنهم جمعوا بين الشرك وتكذيب الرسول [ﷺ] والقرآن وإنكار البعث [وغير ذلك]، فما معنى الباب الذي ذكر العلماء في كل مذهب (بابِ حكم المرتد) وهو المسلم يكفر بعد إسلامه، ثم ذكروا أنواعًا كثيرة، كل نوع منها يكفّر ويحل دمَ الرجلِ وماله، حتى إنهم ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها؛ مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه، أو كلمة يذكرها على وجه المزْح واللعب.
ويقال أيضًا: الذين قال الله فيهم: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ﴾[التوبة:74]، أما سمعت الله كفّرهم بكلمة مع كونهم في زمن رسول الله ﷺ و[هم] يجاهدون معه ويصلّون معه ويزكّون ويحجّون ويوَحِّدون؟
وكذلك الذين قال الله فيهم: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ(65)لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾[التوبة:65-66].
فهؤلاء الذين صرّح الله أنهم كفروا بعد إيمانهم وهم مع رسول الله ﷺ في غزوة تبوك قالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها على وجه المزْح.
فتأمل هذه الشبهة هي قولهم تكفّرون من المسلمين أناسًا يشهدون أن لا إله إلا الله ويصلون ويصومون.
ثم تأمل جوابها فإنه من أنفع ما في هذه الأوراق.
ومن الدليل على ذلك أيضًا ما حكى الله تعالى عن بني إسرائيل مع [إسلامهم] وعلمهم وصلاحهم أنهم قالوا لموسى: ﴿اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾[الأعراف:138]، وقول أناس من الصحابة «اجعل لنا ذات أنواط» فحلف النبي ﷺ أن هذا مثل قول بني إسرائيل لموسى: ﴿اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا﴾.
ولكن للمشركين شبهةٌ يُدْلُون بها عند هذه القصة وهي أنهم يقولون: إن بني إسرائيل لم يكفروا بذلك، وكذلك الذين قالوا للنبي ﷺ :«اجعل لنا ذات أنواط» لم يكفروا.
فالجواب أن نقول: إن بني إسرائيل لم يفعلوا [ذلك]، وكذلك الذين سألوا النبي ﷺ لم يفعلوا [ذلك]. ولا خلاف في أن بني إسرائيل لو فعلوا ذلك لكفروا. وكذلك لا خلاف أن الذين نهاهم النبي ﷺ لو لم يطيعوه واتخذوا ذات أنواط بعد نهيه لكفروا، وهذا هو المطلوب.
ولكن هذه القصة تفيد أن المسلم -بل العالم- قد يقع في أنواع من الشرك لا يدري عنها، فتفيد التعلم والتحرز ومعرفة أنّ قول الجاهل: التوحيد فهمناه. أن هذا من أكبر الجهل ومكايد الشيطان.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا من العلم والعمل يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعلنا من المتقين لك، المنيبين إليك، المتوكلين عليك، المؤمنين بك، الصادقين في دينهم يا أكرم الأكرمين.
نسألك الله أن تعيذنا من مظلات الفتن، وأن تجنبنا ما ظهر منها وما بطن وأن تحملنا على الحق وأن تعيننا عليه، وأنت على كل شيء قدير.
أما بعد:
فهذه تتمة للأجوبة التي ساقها إمام هذه الدعوة على الشبهة التي أوردها المشركون الذين عبدوا غير الله جل وعلا ولم يعترفوا بأنهم يعبدون غير الله جل وعلا.
وهذه الشبهة هي قولهم: كيف تكفرون وتحكمون بالشرك على من يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله ويصلي ويصوم ويزكي ويحج البيت الحرام ويؤمن بما أنزل الله جل وعلا على رسوله ﷺ.
فأجاب عن هذه الشبهة بأجوبة متعددة، إلى أن قال في جواب هذه الشبهة ولعله يكون الجواب السابع أو الثامن من الأجوبة قال (ويقال أيضًا: إذا كان الأولون لم يَكْفُرُوا إلا لأنهم جمعوا بين الشرك وتكذيب الرسول ﷺ والقرآن وإنكار البعث وغير ذلك، فما معنى الباب الذي ذكر العلماء في كل مذهب (بابِ حكم المرتد) وهو المسلم يكفر بعد إسلامه، ثم ذكروا أنواعًا كثيرة، كل نوع منها يكفّر ويُحل دمَ الرجلِ وماله، حتى إنهم ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه أو كلمة يذكرها على وجه المزْح واللعب.) وتحصيل هذا أن العلماء من جميع المذاهب المتبوعة من الحنفية والمالكية ولشافعية والحنابلة والظاهرية كل هؤلاء من المذاهب المتبوعة الباقية ومن المذاهب المنقرضة أيضا كمذهب ابن جرير ومذهب سفيان ومذهب الأوزاعي ومذهب الليث إلى غير ذلك، هؤلاء عندهم المسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قد يكفر بعد إسلامه، وجِماع أنواع الكفر عندهم -يعني عند جمهور هؤلاء- ترجع إلى أربعة:
الأول الاعتقاد.
والثاني القول.
والثالث الفعل.
والرابع الشك.
فيُرجعون جميع أنواع الكفرات إلى أحد هذه الأنواع: إما باعتقاد يضاد لا إله إلا الله محمد رسول الله ولوازم الشهادتين، وإما بقول يضاد الإسلام، أو بفعل يضاد الإسلام، أو بشك فيما أنزل الله جل وعلا على رسوله ﷺ، فمن اعتقد عقيدة تضاد الإسلام من أصله خرج من الدين، ومن قال قولا يضاد الإسلام من أصله خرج من الدين وكفر بعد إسلامه.
ولهذا قالوا باب حكم المرتد وهو المسلم الذي كفر بعد إسلامه، قالوا: ويكفر المسلم -وبعضهم يقول يرتد المسلم- باعتقاد ككذا وكذا أو قول ككذا وكذا أو فعل أو شك، فهذه الأربعة جعلوها أنواعا لأصول المكفرات.
وإذا كان كذلك فإن العلماء بهذا مجمعون على أن من كان مسلما فإنه قد يكفر ببعض ما يَعرض له مما يضاد الإيمان من أصله، أو يضاد الشهادتين من أصلهما، أو يضاد الإسلام من أصله، والجميع بمعنى واحد.
فإذا كان كذلك لم يكن لهذه الشبهة معنى عند الأئمة وعند أتباع الأئمة؛ لأنهم نصوا على كفر المسلم إذا أتى بشيء من المكفرات.
فإذن قولهم لا يكفر من عبد غير الله، لا يكفر من استغاث بالأموات، لا يكفر من ذبح لغير الله، لا يكفر من استعاذ بغير الله بشرطه، لا يكفر من استغاث بالأموات، لا يكفر من استعاذ بالأموات، لا يكفر من توكل على ميت، لا يكفر كذا وكذا لأنه مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
فنقول هذا باطل، ثم إن شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من أهل العلم تتابعوا على نقل الإجماع على أن من اتخذ مع الله جل وعلا وسائط يدعوهم أو يتوكل عليهم فقد كفر إجماعا، وهذا إجماع أقره عليه علماء الحنابلة وطائفة من علماء الشافعية وغير هؤلاء من علماء المذاهب الأخر.
وهذا من الإجماع المعلوم من الدين بالضرورة المعروف؛ لأن معنى التوحيد معنى الشهادتين أن يوحد الله جل وعلا في العبادة، فمن اتخذ مع الله جل وعلا وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم معنى ذلك أنه توجه بالعبادة لغير الحق جل وعلا، ومن توجه بالعبادة لغير الحق جل وعلا فإنه مشرك كافر.
فإذن هذه الشبهة التي أوردوها يقال لهم فيها: ما معنى الباب الذي ذكر العلماء في كل مذهب (باب حكم المرتد)؟
ولهذا ([59]) من العلم الجيّد أن يفرد من كل مذهب أنواع المكفرات التي يقولها أئمة ذلك المذهب في كتبهم سواء منهم المتأخرون أو المتقدمون، فإنك تجد أن الجميع قد أقرّ بأن المسلم الذي ثبت إسلامه قد ينتقل عنه بنوعٍ من أنواع المكفرات.
قال الشيخ رحمه الله هنا (ثم ذكروا أنواعًا كثيرة، كل نوع منها يكفّر ويُحِل دمَ الرجلِ ومالَه) وإحلال الدم والمال بالمكفرات فيه تفصيل:
منها ما يحتاج معه إلى إقامة حجة، ومنها ما لا يُحتاج معه إلى إقامة حجة.
ومنها ما يستتاب فيه، ومنها ما لا يُحتاج معه إلى استتابة.
كمثل المعلوم من الدين بالضرورة يعني الذي لا يحتاج فيه إلى الاستدلال يُعلم ضرورة لا يحتاج إلى إثباته استدلال فيه إذ كل مسلم ثبت إسلامه فإنه يعلم هذه المسائل بالاضطرار؛ يعني علمها لأن أصل دخوله في الدين متوقف عليها، إلا في حالات نادرة من نزعة بدائية بعيدة أو ما أشبه ذلك؛ لكن المسائل المعلومة من الدين بالضرورة يعني التي لا يُحتاج في إثباتها لاستدلال بل هي شائعة في المسلمين مثل وجوب الصلوات الخمس ووجوب الزكاة في الجملة وتحريم الزنى وتحريم الخمر وأشباه ذلك، فإنه لا يحتاج إلى دليل؛ لأن كل مسلم نشأ على الإسلام أو دخل في الدين وفهمه فإنه يقر بوجوب هذه ويحرم تلك المحرمات، فليست مما تقع في الشبهة.
فإذن التكفير قد يكون في مسائل يحتاج إلى إقامة حجة وفي مسائل لا يحتاج معه إلى إقامة حجة، والذي يكفر ويحل الدم والمال هو الحاكم الشرعي -يعني القاضي أو العالم المفتي- فإنه هو الذي يفتي بكفره وحِلّ دمه وماله، وهذا ليس لآحاد الناس لأن التكفير حكم شرعي يُحتاج في إثباته إلى وجود شرائط وانتفاء موانع وإزالة شبهة فيما يُحتاج معه إلى إزالة شبهة إلى غير ذلك، فيُحتاج في ذلك إلى حكم حاكم.
ثم -كما ذكرت لك- منها ما يحتاج فيه إلى استتابة، ومنها -يعني في القتل- ما لا يحتاج فيه إلى استتابة، فلو تاب تكون توبته بينه بين ربه جل وعلا، وأما في الظاهر ففي مسائل لا تُقبل التوبة الظاهرة، وإن كان يجوز أن تُقبل باطنا؛ يعني إذا صدق في توبته.
قال (حتى إنهم ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها، مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه) وهذا متفق عليه ما بين علماء المذاهب الأربعة والأئمة الأربعة في أنّ الكفر قد يكون بالكلمة دون اعتقاد القلب، فليس من شروط الخروج من الدين أن يعتقد بقلبه، بل يقول كلمة يذكرها بلسانه دون اعتقاد القلب لما دلت عليه فيكون كافرا بذلك، أو كلمة يذكرها على وجه المزح واللعب ولا يواطئ قلبُه عليها، لأن حماية الشريعة واجبة، ولأن من فعل ذلك فقد ترك التعظيم الواجب، وأصل الديانة والتوحيد هو تعظيم الله جل وعلا، فإذا وقع في كلمة مكفرة فإن بعض الكلمات لا يحتاج معه إلى اعتقاد القلب؛ مثل سب الله جل وعلا أو سب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معيّنا أو سب دين الإسلام هكذا بالإطلاق أو ما أشبه ذلك، فإن هذا لا يحتاج معه إلى أن يعتقد؛ بل إذا سب الله جل وعلا كفر ولو لم يعتقد، وكذلك إذا سب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كفر ولو لم يعتقد كما حقق ذلك شيخ الإسلام بن تيمية في كتابه الصارم المسلول على شاتم الرسول.
(أو كلمة يذكرها على وجه المزْح واللعب) هذا من جنس المستهزئين الذين قال الله جل وعلا فيهم ﴿قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ (65) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾[التوبة:65-66].
قال الشيخ رحمه الله بعد ذلك (ويقال أيضًا) وهذا جواب آخر لأصل الشبهة (الذين قال الله فيهم: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ﴾[التوبة:74]، أما سمعت [أنّ] الله كفّرهم بكلمة مع كونهم في زمن رسول الله ﷺ و[هم] يجاهدون معه ويصلّون [معه] ويزكّون ويحجّون ويوَحِّدون؟) وهذا الذي نسبه الشيخ رحمه الله إليهم قد يكون باعتبار الظاهر والباطن جميعا، وقد يكون باعتبار الظاهر؛ فإن العلماء اختلفوا هل هؤلاء كانوا من المنافقين أصلا أو لم يكونوا من المنافقين؟ يعني الذين نزل فيهم قوله (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ) وعلى كلٍّ فإن قوله (وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ) حيث جعل الكفر بعد الإسلام والإسلام هو الظاهر، دلّ على أن الكفر حصل منهم بمنافاة ما قالوا للإسلام الظاهر، وهذا يشمَل أن يكونوا منافقين أو أن يكونوا غير منافقين؛ لأن المنافق أسلم ظاهرا ولم يؤمن باطنا، وهو إذا أظهر شيئا مما يخالف أصل الدين يكفر بعد إسلامه، وكذلك إذا كان من غير المنافقين فإن كلمته تلك جعلته يكفر بعد إسلامه.
قال (وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ) وهذا يدل على أن الكفر يكون بالكلمة ولم يُشترط هنا ولا في آية الاستهزاء الاعتقاد، ولهذا بنى العلماء قولهم: إن المسلم يكفر باعتقاد أو قول أو فعل أو شك على أدلة منها كهذه الآية.
قال الإمام رحمه الله (وكذلك الذين قال الله فيهم:﴿قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ﴾) أيضا يضاف إلى ما سبق في تقرير الجواب الأول أنه قال جل وعلا (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ)، قوله جل وعلا (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ) دل على أن الكفر معتبر فيه القول، ولو كان يحميهم منه عدم الاعتقاد لنفوا عن أنفسهم الاعتقاد وأقروا بالقول؛ لأنهم يقصدون البعد عن الكفر، فلما لم يحتجوا باعتقادهم الباطن ولا بإيمانهم الباطن دل على حصول الكفر منهم بالظاهر بكلمة الظاهر، فقوله جل وعلا (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ ) احتاجوا إلى الحلف بالله أنهم لم يقولوا؛ لأن الكفر يعلمون أنه يحصل بقولهم، ولو علموا أنهم لو حلفوا بأنهم لم يعتقدوا أو لم يقروا بهذا أو يلتزموه في قلوبهم؛ يعني لو علموا أنهم لو أحالوا على ما في قلوبهم لنجوا لأحالوا على ما في قلوبهم؛ ولكن الله جل وعلا بيّن أنهم حلفوا على انتفاء قولهم أصلا، وذلك لأجل أن يسلموا من الكفر وقد قال جل وعلا بعدها (وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ).
(كذلك الذين قال الله فيهم: ﴿قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ(65)لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾[التوبة:65-66]) ففي هذه الآية (صرح الله جل وعلا أنهم كفروا بعد إيمانهم وهم مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تبوك، قالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها على وجه المزح)، وهؤلاء كانوا من المنافقين كما قال الله جل وعلا ﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ (65) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً﴾[التوبة:64-66]، فدلت هذه الآيات على أن هؤلاء كانوا منافقين وأن تكفيرهم لأجل ما حصل منهم من الاستهزاء بالله والآيات والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتعليق حكم التكفير في الآية بالاستهزاء بهذه الثلاثة دلّ على أن المسلم الذي يُحكم بإسلامه ظاهرا:
· إذا استهزأ بالله فإنه يكفر بعد إيمانه.
· أو استهزأ بآي الله المتلوة -يعني القرآن- فإنه يكفر بعد إيمانه.
· أو استهزأ بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه يكفر بعد إيمانه.
(قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ) فدل هذا على تغليق التكفير بالاستهزاء بهذه الثلاثة وهي الاستهزاء بالله ويدخل في ذلك السب واللعن واشباه ذلك أو الاستهزاء القرآن بنفس الآيات في الآيات نفسها أو بالآي نفسها أو بسورة من القرآن، أو استهزاء بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو سب القرآن أو سب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه لا يقبل منه اعتذاره بأنه لم يعتقد أو أنه إنما قالها على وجه المزح واللعب (لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)، فدل هذا على أن من حصلت منه كلمة الكفر فإنه يكفر بعد إسلامه ويكفر بعد إيمانه، وهذا هو المراد من تقرير هذا الجواب.
قال رحمه الله بعد ذلك (فتأمل هذه الشبهة [و]هي قولهم تكفّرون من المسلمين أناسًا يشهدون أن لا إله إلا الله ويصلون ويصومون. ثم تأمل جوابَها فإنه من أنفع ما في هذه الأوراق) وهذه الأجوبة أظنها تبلغ تسعة أو عشرة التي ذكرها الشيخ رحمه الله في جواب هذه الشبهة، وهي لاشك مثل ما وصفها الإمام رحمه الله أنها (من أنفع ما في هذه الأوراق)؛ لأن الأكثرين ممن أقروا بالتوحيد واعتقدوا صحته صعُب عليهم أن يُخرجوا أحدا ممن أظهر الإسلام عن إسلامه بدعوة غير الله ودعاء الأموات والذبح لهم وأشباه ذلك مما فيه صرْف العبادة لغير الله؛ لأجل أن هؤلاء مسلمون يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويصلون إلى آخره، حتى إن بعضهم في جبهته أثر العبادة، وحتى أن بعضهم يصوم يوما ويفطر يوما، فيقول كيف تحكمون عليه بالكفر من الدين وهذه حاله وهذا ديدنه في العبادة وفي الطاعة وفي قيام الليل وفي الصيام وفي كثرة التلاوة وكثرة الصلاة لأجل أنه دعا غير الله أو استغاث بغير الله أو اعتقد في الولي الفلاني أنه يملك له نفعا أو ضرا أو أنه يتصرف بشيء من العالم كيف تكفرونه وهو من أهل الصلاح؟ والجواب أن العلماء -كما ذكر- ذكروا أجوبة كثيرة على هذا، وكل مسلم مهما كانت منزلتُه فإنه يكفر بعد إسلامه بالشرك باعتقادٍ باطل أو بقولٍ باطل يضاد الإسلام من أصله أو بعمل يضاد الإسلام من أصله كالسجود لصنم أو رمي المصحف في القاذورات متعمدا عالما وأشباه ذلك، فإنه يكفر بعد إسلامه لأنه فعل هذه الأشياء، والله جل وعلا قال لنبيه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وهو أكرم الخلق ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ﴾[الزمر:65-66]، قال (لَئِنْ أَشْرَكْتَ ) يا محمد (لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ)، وفسر الشرك بعد ذلك بقوله (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ)؛ يعني أن من عبد غير الله فهو المشرك الذي حبِط عمله، فقال (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)؛ يعني الذين خسروا عبادتهم وخسروا دنياهم وخسروا آخرتهم، (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ) يعني اُعبد الله وحده دون ما سواه (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ).
ثم ذكر تطبيقا لهذا الأصل وهو أن المسلم قد يكفر بعد إسلامه بأشياء بمَثَلَين أو حادثتين:
الأولى لأصحاب موسى عليه السلام.
والثانية لبعض أصحاب محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ.
قال (ومن الدليل على ذلك [أيضًا]) يعني على الجواب الأخير (ما حكى الله تعالى عن بني إسرائيل مع [إسلامهم] وعلمهم وصلاحهم)، قوله (ما حكى الله تعالى) يعني قصّ، فالحكاية هنا بمعنى القصة، (حكى الله تعالى عن بني إسرائيل) يعني قص الله تعالى عن بني إسرائيل مع إسلامهم وعلمهم وصلاحهم هربوا من فرعون وآمنوا بموسى وهاجروا معه وساروا في التيه حنى حصل منهم ما حصل قال الله جل وعلا عنهم أنهم قالوا لموسى: ﴿اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾[الأعراف:138]، قال سبحانه ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَـؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾[الأعراف:138-139] وجه الاستدلال أن المسلم والمتبع للنبي المؤمن به قد يتخذ إلها مع الله جل وعلا حيث قالوا لموسى عليه السلام (اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) وهؤلاء فهموا وهم أهل الفهم والإدراك أن طلب العكوف على الأصنام والتماثيل أو على الأوثان أو على القبور أو ما أشبه ذلك أن العكوف عند هذه الأشياء تقربا بأصحابها عبادة وأنه اتخاذ إله مع الله جل وعلا فقال (اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا) يعني يعني نتوجه إليه في الأرض كما نتوجه لله جل وعلا في السماء (اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) واحد نتوجه إليه في الأرض تمثال أو وثن أو صنم فقال لهم موسى عليه السلام (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَـؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) فطلبوا فلما أنكر عليهم موسى وعلمهم الصواب عليه السلام تركوا طلبهم ورجعوا إلى توحيدهم.
قال الشيخ رحمه الله وهو المثال الثاني (وقول أناس من الصحابة « اجعل لنا ذات أنواط» فحلف النبي ﷺ أن هذا نظير قول بني إسرائيل لموسى: ﴿اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا﴾) وهذا حديث ذات الأنواط أنه لما خرج الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه إلى حنين وجدوا للمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يعني يعكفون ويعلقون الأسلحة رجاء البركة.
وهذان الفعلان وهو العكوف ونوط الأسلحة نوط الأشياء لتنتقل البركة من الشجر إلى الأسلحة فينتفعون بذلك في الدنيا والآخرة جميعا هذان نوعان من العبادة:
· فالعكوف والاعتكاف عبادة مستقلة.
· وطلب البركة والانتفاع في الدنيا والآخرة أيضا عبادة أخرى.
فهؤلاء طلبوا إلها مع الله جل وعلا حبث قالوا للنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ إجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، وذات الأنواط تلك فعل عندها المشركون فعلين:
الأول العكوف.
والثاني تعليق الأسئلة للتبرك بها؛ يعني لينتفعوا بالتبرك في الدنيا لمضاء أسلحتهم، وفي الآخرة بثوابهم على ذلك أو طلب القربى عند الله.
قال «الله أكبر الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده ما قال أصحاب موسى لموسى إجعل لنا إلها كما لهم آلهة» و فدل على أن العكوف عند شيء غير ما أذن الله جل وعلا به وهو البيت الحرام في المساجد عكوف لله جل وعلا يتقرب إلى الله وحده أنّ هذا صرْف للعبادة بغير الله، فمن عكف عند شيء يتقرب باعتكافه وعكوفه عند هذا الشيء فإن هذا شرك أكبر، وكذلك طلب البركة في الدنيا والآخرة جميعا من أحد بفعل من الأفعال فإن هذا شكر أكبر.
هل كفر أولئك الذين قالوا تلك الكلمة؟ قال أهل العلم طلبوا شيئا ولم يفعلوه، فتكفير المشركين حصل بشيئين:
· بالعكوف.
· وبطلب البركة وبنوط الأسلحة بالشجرة.
وهذان الفعلان التكفير بهما والحكم بالشرك بهما راجع إلى العمل، ولذلك من قال هذه الكلمة فإنه لا يكفر؛ لأنه لم يفعل، فكفر أولئك بالعمل، وهؤلاء لم يكفروا لأنهم لم يعملوا، وطلبهم أُنكر عليهم فرجعوا إلى توحيدهم فلم يحصل منهم ذلك، ولهذا من طلب هذتا الطلب من طلب شيئا أو قال شيئا كُفْرُه بالعمل يعني كفره بشيء ما ولم يحصل منه الفعل فإنما حصل منه القول فقط، فأُنكر عليه أو عُلِّم إن كان جاهلا، قال (إنكم قوم تجهلون)، فرجع فإنه لا يكفر ولا يخرج عن دينه بمقالته، مثل مثلا يقول أحد لماذا لا نذهب إلى الولي الفلاني ندعو عنده ندعوه ونسأله أن يحصل لنا كذا وكذا؟ فبمجرد القول إذا أنكر عليه فالتزم وفهم الصواب ووحد فإنه لا يكفر؛ لأنه بالقول طلب شيئا ومن طلب شيئا كفره بالفعل فإنه لا يُكفر بالقول لأن القول كبيرة وليس بكفر في هذه الصورة .
قال (ولكن للمشركين شبهةٌ يُدلُون بها عند هذه القصة وهي أنهم يقولون: إن بني إسرائيل لم يكفروا بذلك، وكذلك الذين قالوا للنبي ﷺ :«اجعل لنا ذات أنواط» لم يكفروا.) وهذا صحيح يعني هذا الإيراد كما ذكرت لكم صحيح لكن ليس على ما أرادوا من لزوم هذا الإيراد على شبهتهم فأجواب الإمام على شبهاهم فقال :
(فالجواب أن نقول: إن بني إسرائيل لم يفعلوا ذلك) فإذن لم يكفروا لا لأجل أنه لا يكفر المسلم؛ ولكن لأجل أنهم لم يفعلوا بل هم قالوا (اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا) واتخاذ إله مع الله جل وعلا ينافي لا إله إلا الله.
قال (وكذلك الذين سألوا النبي ﷺ لم يفعلوا. ولا خلاف) يعني بين أهل العلم (في أن بني إسرائيل [لم يفعلوا ذلك] ولو فعلوا ذلك لكفروا. وكذلك لا خلاف) يعني بين العلماء ([في] أن الذين نهاهم النبي ﷺ لو لم يطيعوه واتخذوا ذات أنواط بعد نهيه لكفروا، وهذا هو المطلوب) وهذا تقرير عظيم وجيه صحيح متفق كما ذكر الشيخ مع كلام أهل العلم في تقريرهم على الآية وعلى الحديث، فإن أهل العلم مجمعون -كما ذكرت لك- على أن ما كان كفره بالفعل فإن طلبه بالقول دون ممارسة للفعل لا يكفر صاحبه بذلك يعني إذا طلبه .
قال وهذا استطراد من الإمام رحمه الله -هذا استطراد مهم وعظيم- قال (ولكن هذه القصة تفيد أن المسلم بل العالم قد يقع في أنواع من الشرك لا يدري [عنها] فتفيد التعلم والتحرز ومعرفة أن قول الجاهل: التوحيدَ فهمناه. أن هذا من أكبر الجهل ومكايد الشيطان) التوحيد فهمانه يعني فهمنا التوحيد وهذا الاستطراد مناسب جدا لأن قصة بني إسرائيل وقصة من كان مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ خرج في حنين وكانوا حدثاء عهد بكفر وكان نهم من طلب ذلك مسلمة الفتح ممن تأخر إسلامهم ولم يعلموا حقيقة الدين بعدُ هذا يفيد شيئا عظيما وهو أن الموحد الذي دخل في الإسلام وهو يعلم معنى كلمة التوحيد قد تقع له بعض الأفراد في التوحيد يجهلها ولا يفهمها فيقع في قول كفري وهو لا يعلم، قال (تفيد أن المسلم [بل العالم] قد يقع في أنواع من الشرك لا يدري [عنها]) وهذا ظاهر فإنهم فلو لم يكن معهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد يكونون يفعلون ما طلبوا من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يأذن لهم به، وهذا راجع في الواقع إلى كثير من اهل العلم ومن المنتسبين للديانة فإنهم على ديانتهم وعلى علمهم قد استحسنوا بعض الأفعال الشركية سواء بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو بغيره من الصالحين أو الأنبياء كإبراهيم الخليل ونحو ذلك، فدل على أن الصحابة الذين هم أفضل هذه الأمة بالإجماع أفضل من علماء هذه الأمة بالإجماع أنهم لما وقعوا في ذلك لا يُؤمن أن يقع فيه من هو دونهم في الرتبة والمنزلة، فإذا وقع فيه عالم لا يقال هذا عالم كيف تقول إنه وقع في ذلك؛ بل نقول قد يقع فيه أصحاب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما حصل من أصحاب موسى وحصل من بعض أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم على فضلهم وصحبتهم لكن جهلوا بعض أفراد التوحيد، وإذا جهل فإن التعليم والإنكار على الجاهل والإنكار على المعاند وتعليم الجاهل واجب، ولا يجوز أن يقال أن العالم لا يخطئ في هذه المسائل البتة؛ بل قد يقع الغلط في هذه المسائل ممن هو في المرتبة العليا في زمنه أو في بلده، وإنما المقصود أن الأمة لا يمكن أن تُجمع على ضلالة فإذا وجد من قام بالحق فبين له أن قوله ذلك يقود إلى باطل أو إلى شرك كفعل بعض المتأخرين حيث ذكروا في كتبهم الفقهية بعض الصور الشركية التي تحستحسن أن تفعل عند قير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما يذكرون قد ذكره طائفة من الكبار العلماء في كتب الحج سواء الفقهية المطولة أو المناسك المخصوصة في الحج ذكروا أنهم إذا أتى المسلم قبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالوا: يستحب له أن يدنو منه وأن يناديه بقوله:
يا خير من دفن في القاع أعْظُمُه فطاب من طيبه القاع والأكم
إلى آخر الأبيات التي فيها استغاثة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والطلب منه، فذكروا أنه يفعل أشياء هي من الشرك بالله جل وعلا لا يقال هؤلاء علماء كيف نقول إنهم استحسنوا هذا الأمر؟ نقول من هو أفضل منهم قد يخفى عليهم ولا يُنقص هذا ن منزلتهم لأن الصحابة الذين قالوا ذلك وطلبوا هذا الطلب الكفري لما أُنكر عليهم وعلموا وتركوا هذا القول وأنابوا هم على منزلتهم وفضلهم وعظم مكانتهم في هذه الأمة وهم خير الناس لأنهم صحبوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا وقع شيء من ذلك فإن العالم إذا لم يكن داعيا إلى الشرك فإنما وقع هذا في كتبه من جهة الغلط فإنه قد يغلط الكبير قد يغلط العظيم غلطة وأشباه ذلك، وهذا لا ينزل من مرتبته؛ لأن هذا لو قيل به لكان معنى القول بمعدم غلط العالم أنه معصوم مطلقا، والصحابة رضي الله عنهم لم يعصموا وكذلك من بعدهم أولى بأن لا تكون لهم العصمة؛ لكن الإجماع لا تجمع هذه الأمة على ضلالة بل لا يزال في الأرض قائم لله بالحجة يُدلي بالحجة الشرعية الصحيحة ويبينها للناس.
فإذن قوله هنا رحمه الله (ولكن هذه القصة تفيد أن المسلم بل العالم قد يقع في أنواع من الشرك لا يدري [عنها] فتفيد التعلم) تفيد التعلم لأن أفراد التوحيد كثيرة وربما سمعتم وقرأتم ورأيتم في هذا الزمن من بعض في هذا الزمن من بعض من ينتسبون إلى الدعوة في بعض البلاد وفي بعض الأمصار من فعلوا أشياء كثيرة وعلموا أشياء كثيرة يريدون نصرة دين الله جل وعلا؛ ولكن عندهم بعض شركيات، تجد عندهم بعض الأفعال أو أقوال التي فيها شرك، كمن استحسن الاستغاثة ببعض الأموات إما بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو بأبي بكر أو بعمر وكمن طلب أن يحضلا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتتلى عنده أبيات معينة فيها الاستغاثة به وأشباه ذلك فالداعية وصاحب المقام إذا كان هو يريد نصرة دين الله إذا كان يريد نصرة دين الله فلا يعني أنه لا يقع في ذلك لا يعني أن فيه أن يخاف أشد الخوف أن يقع في الشرك وهو لا يعلم كما قال الشيخ رحمه الله هنا (فتفيد التعلم..... ([60])
والجهلُ داء قاتلٌ وشفـــاؤه | أمران في التركيب متفقـانِ |
نص من القرآن أو من سنــة | وطبيب ذاك العالم الربانـي |
العلم هو شفاء الجهل فالتعلم لابد منه ومن قال التوحيد أمر فطري لا نحتاج إلى أن تعلمه ولا إلى أن نبذل فيه الوقت ولا الجهد فهذا جاهل بنفسه وجاهل بحق ربه جل وعلا؛ بل التوحيد يحتاج العبد إلى أن يتعلمه دائما حتى لا يقع في شيء من نواقض ذلك التوحيد، وأعجب ما يكون من ذلك قول إبراهيم عليه السلام لربه في دعائه المخبت المنيب ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ﴾[إبراهيم:35-36]، فدعا ربه أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام؛ يعني عبادة غير الله جل وعلا، وإبراهيم هو خليل الله، قال إبراهيم التيمي من سادات التابعين رحمه الله تعالى لما تلا هذه الآية قال: ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم. فالعبد يجب عليه أن يتعلم وأن يخاف ويتحرز فمن علامات سعادة المؤمن وطالب العلم والدعي إلى الله جل وعلا:
أن يكون دائم التعلم للتوحيد والقراءة في مسائله لأنه أعظم حق لله جل وعلا.
والثاني أن يكون دائما خائفا من الشرك ووسائله فيكون متحرزا خائفا.
كما قال الشيخ رحمه الله هنا في وصيته العظيمة (تفيد التعلم وهذا واحد والتحرز وتفيد أيضا معرفة قول الجاهل: التوحيدَ فهمناه. أن هذا من أكبر الجهل ومكايد الشيطان) فإنه لا يقال التوحيد فهمناه، نريد شيء غير التوحيد؛ لأن التوحيد ينسى وتتشابه مسائله وصور الشرك تتجد مع الأزمنة فلا بد أن يتعلم وتبين مسائله، والشيطان ينسي الناس أصل التوحيد ومسائله حتى يقع في الشرك ولهذا تعلمون حديث ابن عباس الذي في الصحيح صحيح البخاري لما عبد الصالحون من قوم نوح قال ابن عباس في شارة عظيمة قال لما اتخذوا صور الصالحين جاءهم الشيطان إلى آخر القصة -حديث عطاء عن ابن عباس- قال: فلما تنسَّخ العلم عبدت. ففي قوله تنسخ فائدتان:
الأولى أن العلم بعد وجوده قد يذهب وإنما يذهب بإهماله.
والفائدة الثانية أن قوله فلما تنسخ العلم يعني ذهب شيئا فشيئا يدل على أنّ العلم بالتوحيد لا يذهب جملة من الناس، وإنما يذهب شيئا فشيئا لأنه يتنسّخ، ما ينسخ ما يرفع فجأة ولكن يتنسخ شيئا فشيئا يذوب بإهمال الناس وعدم رعايتهم لهذا الأصل العظيم.
قال (تفيد معرفة أن قول الجاهل: التوحيدَ فهمناه. أن هذا من أكبر الجهل ومكايد الشيطان) وهذه الكلمة التوحيد فهمناه قالها بعض تلامذة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إمام الدعوة قالوها له في درسه.
فإنه لما أتم إقراء كتاب التوحبد وبيان مسائله فأراد أن يعيد الكرة ثالثة أو رابعة.
قالوا له: يا شيخ نريد كتابا آخر، نريد الفقه أو الحديث.
قال: لم؟
قالوا: التوحيد فهمناه نريد علما آخر.
فقال لهم: أنظروني حتى أنظر في هذه المسألة.
فلما أتى بعد بضعة أيام سألهم، جلس في مجلس درسه وبدا على وجهه التكدر جدا.
قالوا له: ما به وجه الشيخ؟
قال: أبلغت بشيء كدرني.
فقالوا له: وما هو؟
قال: بلغني أن بيتا في الدرعية ذبح أصحابُه عند الباب ديكا لأجل نزولهم البيت، أرادوا أن ينزلوا البيت وعند النزول عند الباب ذبحوا ديكا وسال الدم على عتبة الباب، وأنا أرسلت من يتثبت في الأمر، ونقوم في ذلك بما يجب.
فلما أتى من غد قالوا له: ماذا حصل يا شيخ ما الذي صار في هذا الذي...؟
قال: وجد الأمر غير ذلك.
قالوا: ماذا وجدت؟
قال لهم: وجدت أن أهل البيت ما حصل منهم ذلك؛ ولكن فلان وقع على أمه.
قالوا: أعوذ بالله وقع على أمه!! أعوذ بالله وقع على أمه،،،،،،
فالشيخ قال هذه الكلمة منه تعلم أن قول الجاهل التوحيد فهمناه من أكبر الجهل ومكايد الشيطان؛ لأنهم استعظموا كبيرة من الكبائر، وأما الشرك الأكبر بالله المخرج من الملة ما أنكرته قلوبهم، لماذا ما أنكرت قلوبهم هذه الصورة وهو إسالة الدم عند عتبة الباب عند النزول نزول الدار؟ لأنهم لا يعلمون أن هذه الصورة لأجل التقرب إلى الجن لدفع شره أو لدفع شر أصحاب العين الذي هو تقرب بالذبح إلى غير الله الذي هو شرك أكبر بالحق جل وعلا، فاستعضموا كبيرة من الكبائر ولم يستعظموا الشرك الأكبر بالله جل وعلا، كما يحصل وترون ذلك من بعض الجهلة من أنهم إذا رأوا بعض الكبائر تغيضوا وقاموا وقعدوا، وأما إذا سمعوا بالشر الأكبر بالله جل وعلا وفلا يتحرك لهم ذلك، وتجد أنهم إذا تحرك أو سمعوا ببعض المنكرات في الأخلاق أو الزنا أو وسائل الزنا في بعض البلاد أو تبرّج النساء أو بعض الفجور أو بعض الظلم أو نحو ذلك قاموا وقعدوا وأصبحوا يتكلمون؛ لكن الشرك الأكبر بالله كونه يرى قبة تحتها معبود من دون الله جل وعلا أو يرى الناس يذبحون لغير الله جل وعلا أو يقرأ هذا في مجلة او يقرأ هذا في كتاب لا يحرك قلبه لحق الله الأعظم، وهذا دليل جهله، ودليل أنه لم يعرف مصلحة نفسه بأن هذا الجاهل إذا لم يتعلم التوحيد ويتغيض قلبه في حق الله جل وعلا بعيادته وحده دونما سواه فإنه على شر، فإن وجد في نفسه أنه إذا رأى منكرا تغيض وأما إذا رأى الشرك الأكبر بالله جل وعلا لا يتحرك قلبه، فليعلم أنه ما فهم التوحيد ولا عظمم الله جل وعلا حق تعظيمه، وهؤلاء الذين قالوا التوحيد فهمناه هؤلاء جهلة ودخل إليهم الشيطان من أكبر مكايده، كما قال الشيخ رحمه الله وأجزل له المثوبة (فتفيد التعلم والتحرز ومعرفة أن قول الجاهل: التوحيدَ فهمناه. أن هذا من أكبر الجهل ومكايد الشيطان). ([61])
نقف عند هذا ولاشك أن هذه مسائل عظيمة تحتاج ممكن إلى درس ونظر وترديد لأن المسألة في هذا الأمر عظيمة جدا فنسأل الله جل وعلا أن يعيذنا وإياكم من الجهل بحقه والجهل بتوحيده وأن يجعلنا من يكثرون من قراءة التوحيد وتعلمه وتعلم مسائله، وإدمان المطالعة في كتب أئمة هذه الدعوة الذين مكثوا أكثر من قرنين من الزمان يتتابعون في تجلية مسائل هذا، واختصوا به وتفرغوا له، حتى غدت مسائله بإيضاحهم وبيانهم واضحة جلية لا لبس فيها.
فالله الله في هذا الأمر الجلل والمداومة على فهم التوحيد وعلى مطالعة كتبه وحفظ ذلك ومدارسته، فإنه نعم العلم ونعمة العاقبة لأصحابه والعاقبة للمتقين.
[الأسئلة]
س1/ هل يكفر قوم بأن عندهم عادة سب الدين والرسول ومنهم جاهل بأن ذلك كفر وأنه منكر هل يكفر بالجهل؟
ج/ من سب الإسلام الذي أنزله الله جل وعلا على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو كافر ولا يعذر بالجهل ولا بأن يقول ما قلته على وجه المزاح واللعب أو غلطت ما علمت إلى آخر ذلك، كذلك سب الله جل وعلا كذلك سب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن تعظيم الله جل وعلا تعظيم رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعظيم القرآن وتعظيم دين الإسلام هذا واجب من الواجبات ويعلم بالضرورة من دين الإسلام فإذا سب معناه أنه نافى ذلك التعظيم وهذا كفر بمجرده.
أما سب دين فلان فهذا لا يكفر به، فإذا سب معين من الناس، مثلا تخاصما اثنان فقال أحدهما للآخر: كذا دينك. فسب دينه فهذا لا يكفر، لأن هذا يحتمل أن يريد تدينه، والديانة التي هو عليها، فلا يكفر إلا إذا سب الإسلام مطلقا، أما إذا سب الدين المضاف إلى بعض الناس فإنه لا يكفر به، لأن هذا فيه شبهة لكن يعزر ويؤدب.
س2/ الدرس الجديد متى سيكون؟
ج/ ربما يكون ليلة الإثنين أو ليلة الإربعاء، وربما الراجح يكون ليلة الإثنين لكن إلى الآن ما تحدد ولا متى نبدأ به، ونبلغكم في حينه إن شاء الله .
س3/ هناك بعض الإخوة في المنطقة الشرقية في مدارس يكون مديروها من الرافضة أو مدرسوها ؟
ج/ أما إذا كان المدير من الرافضة فهذا يجب عليك أن تبلغنا به نسعى إن شاء الله في أمره، أما المدرس الذي يدرس فهذا فهذا له أحكام معاملة المبتدع معروفة في كتب أهل العلم وفي فتاويهم يمكن أن ترجع إليها.
أما المدير فلا يجوز أن يسكت عليه لأن المدير موجه وآمر ناهي فتبلغنا بذلك إن شاء الله.
س4/ فعل الشيخ محمد بن عبد الوهاب بما فيه اختبار التلاميذ هل يعتبر من الكذب من أجل العلم والتعلم وهل هو جائز؟
ج/ نستفيد من فعل الشيخ أنه جائز، هذا للتعلم الكذب للمصلحة الشرعية جائز كما هو معلوم، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «ليس الكذاب الذي يقول خيرا أو ينوي خيرا».
وهذا الذي فعله الشيخ هذا خير له وليس من الكذب هذا بالمناسبة يذكر أن بعض الإخوة يكثر من الإعتراض وهذا لا ينبغي فإن أفعال أئمتنا والراسخين في العلم نستفيد منها، فالأصل فيها الاستفادة والسلامة إلا إذا عارضت نصا أو دليلا الكتاب والسنة أو فعل الصحابة أو نحو ذلك فإنه لا عصمة لهم؛ لكن الأصل فيها السلامة وأننا نستفيد من أقوالهم ومن أفعالهم.
س5/ ما رأيكم من يزور أماكن الشرك للوقوف على حقيقة الشرك دون أن ينكر عليهم بحجة أنه سيتعرض للخطر إذا هو أنكر؟
ج/ لا يجوز له أن يحضر مكان يعبد فيه غير الله، يستغاث فيه بغير الله، يصلى فيه للميت يتجه إليه للقبلة يطاف على قبره ويسكت ولا ينكر؛ لأن هذا أعظم المنكر وهو الشرك لكن كيف ينكر هذا يحتاج إلى بيان الشيخ محمد رحمه الله إمام الدعوة لما كان يحضر الذين كانوا يعبدون زيد بن الخطاب كان يقول لهم في أول الدعوة الله خير من زيد، فينبههم أن دعوة الله جل وعلا وحده أنها أفضل، وهذا من التدرج في الدعوة، فإذا كان يرى أن الإنكار عليهم ينفعهم وأنه إذا قالهم مثل هذه الكلمة أنها أنفع لهم، هذا لما يراه أن المصلحة الشرعية فيه، أما أن يحضر مثل هذه الأماكن ولا ينكر البتة فهذا حرام عليه ولا يجوز.
ونسأل الله لنا ولإخواننا العفو والعافية والمغفرة.
... السياحة!! يتفرج على الذين يعبدون غير الله!! أعوذ بالله يتغيض الواحد من رؤية قبة من دون أن يعرف ماذا تحتها فكيف يذهب وينظر ويجلس ويسمعهم ويسكت!! هذا..
....طبعا مفهوم الشرك في صوره المخنتلفة هذا يختلف فيه الناس، لكن ينبغي بل يجب أن لا يأخذ الشباب هذه المسائل من غير الراسخين في العلم؛ لأن كون صورة ما صورة شركية هذ ه إنما يعلمها أهل العلم في المسائل هذه الحادثة الجديدة
هذا يسأل عن بعض ما يفهم من الأنظمة الرأسمالية والشيوعية والوطنية وتمجيد الماضي إلى آخره وغيره من الصور، فهذه تعرض المسألة على أهل العلم فإن قالوا إن هذه حكمها كذا فيصار إليه، لأن المسائل تختلف وليس كل ما ظنه المرء شركا يكون يكون شركا.
بل قد رأيت في بعض الكتب كتاب اسمه الأوثان أو شيء أن مؤلفه جعل التلفاز وثنا وأن حال الجالسين أمامه لينظروا أنهم عاكفون عند هذا الوثن، فكل من فعل بأن عكف عند هذا الجهاز الساعات الطويلة، فإن هذا عبادة لغير الله جل وعلا، هذا لاشك أنه إفتآت على الدين وقول بلا علم وخروج عن ما يجوز، فإن القول على الله بلا علم أكبر من الكبائر العملية.
س7/ ما رأيك يا شيخ في من ينكر أهمية هذا المتن ويقول إن كان له أهمية تذكر فهي للدعاة في الخارج ونحن تكفينا قراءته ؟
ج/ هذا كلام الشيخ فيه (ومعرفة أن قول الجاهل: التوحيدَ فهمناه. أن هذا من أكبر الجهل ومكايد الشيطان) فليحذر على نفسه .
س8/ ذكرت أن من سجد للصنم أنه يكون كافرا هل هذا بعد الاستفصال؟
ج/ لا شك من سجد للصنم فإنه كافر ظاهرا، السجود للصنم من الكفر العملي الذي يضاد الإيمان، فإن الكفر قسمان:
كفر اعتقادي يكون بالاعتقاد.
وكفر عملي والكفر العملي قسمان -كما ذكر ابن القيم في أول كتابه الصلاة-:
قسم يضاد الإيمان من أصله كسب الدين أو الإسلام أو سب الله أو سب رسوله أو السجود للصنم أو إلقاء المصحف في القاذورات متعمدا عالما وأشباه ذلك، فهذا كفر عملي؛ يعني كفر بعمله هو مخرج من الملة لأنه مضاد للإيمان.
وقسم آخر من الكفر العملي ما لا يضاد الإيمان مثل المسائل التي ذكروها، ترك الصلاة عند طائفة كبيرة عند أهل العلم ومثل الحكم بغير ما أنزل الله، ومثل سباب المسلم، قتاله، سباب المسلم فسوق وقتاله كفر؛ يعني تقاتل المسلمين وأشباه ذلك مما جاء في الشريعة أنه كفر.
فإذن من فهم أن تقسيم الكفر إلى اعتقادي وعملي: أن العملي لا يكفِّر هذا غلط عظيم، حتى غلط على ابن القيم رحمه الله فإن ابن القيم في كتابه الصلاة الذي نقلوا عنه هذا التقسيم قال وكفر عملي مثل السجود للصنم وهذا يضاد الإيمان وقال كفر عملي ومنه ما يضاد افيمان كالسجود للصنم مثل إلى آخره منه ما لا يضاد أفيمان كترك الصلاة والحكم بغير ما أنزل الله إلى آخر كلامه ، فالعلماء حيننما يقسمون الكفر إلى اعتقادي وعملي، هذا تقسيم لمورد الكفر فإن الكفر قد يكون مورده من جهة الاعتقاد وقد يكون من جهة العمل والاعتقاد منه الشك أيضا والكفر العملي منه القول ومنه ما لا يكفر.
فإذن قول العلماء: أن الردة تكون باعتقاد أو عمل أو فعل أو شك. راجع إلى هذين القسمين: اعتقاد أو عمل ولكن الكفر العملي منه ما يضاد افيمان من أصله كما ذكرنا ومنه ما لا يضاد الإيمان من أصله فليس معنى كفر اعتقادي وكفر عملي أنها مساوية للكفر الأكبر والأصغر كما يظنه طائفة هذا غلط عظيم على أهل العلم؛ فإن الكفر قسمان كفر أكبر وأصغر، باعتبار كفر أكبر يعني مخرج من الملة وكفر أصغر يعني غير مخرج من الملة، فباعتبار حكم هذا الفعل فإنه يكون أكبر ويكون أصغر وباعتبار مورد الكفر قد يكون اعتقاديا وقد يكون عمليا واعتقادي أكبر ويكون بعض أقسامه أصغر والعملي قطعا منه أكبر ومنه أصغر.
فقول بعض أهل العلم الكفر العلملي هو الكفر الأصغر هذا غلط؛ بل الكفر العملي منه أكبر ومنه أصغر، فكلمات العلماء متداخلة مثل ما نقول في الشرك أكبر وأصغر، والشرك يكون باعتقاد ويكون بالعمل، فإن من ذبح لغير الله فهو مشرك بالعمل ومن نذر لغير الله فهو مشرك بالعمل، ومن استغاث بغير الله فهو مشرك بالعمل، وهذا الفعل منه قد يؤول إلى اعتقاد وقد لا يؤول إلى اعتقاد، فالمكفرات العملية الكفر الأكبر أو الأصغر من الكفر العملي قد ترجعها إلى اعتقاد وقد ترجعها إلى عمل مجرد.
فإذن ليس كل ما قيل فيه إنه كفر عملي يساوي الكفر الأصغر؛ بل قد يكون هذا وقد يكون هذا.
س9/ نرى بعض الأشخاص يستشهد ببعض ما يحصل له من أحداث في حياته اليومية ببعض الآيات والأحاديث، فيضحك من حوله وهو في تلك الحالة ليس بمستهزئ، وإنما قالها لمناسبة الموقف، ما حكم هذا الفعل وبما ينصح هؤلاء؟
ج/ أما من جهته فإذا كان أوردها إيرادا عاديا وهم الذين ضحكوا فهو ليس عليه حرج إذا لم يتعمد إضحاكهم بما أورده، وهم على قسمين :
· إن ضحكوا لفعله فهذا مما هو سائغ مما هو مباح.
· وإن ضحكوا على استشهاده بالآية أو ضحكوا على الآيات فهذا يدخل في الاستهزاء.
هنا يستفصل ضحكوا لأي شيء؟ هل ضحكوا لفعله لما حصل له، أو ضحكوا على الآيات؟ إن ضحك على الآية فهذا داخل في الاستهزاء بالآيات.
إن ضحكوا على استدلاله، فهذا ضحك على فعله فقد يكون ذلك خلاف الأدب فقط.
س10/ يقول لم لا يكفر بعينه من فعل كذا وكذا؟
ج/ التكفير حكم شرعي فقهي راجع إلى أهل العلم، ليس لمن سمع، فمن سمع كفرا يجب عليه إنكاره؛ لكن لا يكفر إلا بعد حكم عالم، التكفير ليس لآحاد الناس، حكم، فتوى.
س11/ من يمثل في مسرح أو تمثيلية يمثل دور |أحد الكفار فيسب الممثل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل يكفر بذلك؟
ج/ هذا من المنكر الأعظم يمثل سب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا لاشك أنه منكر أعظم وصاحبه إن لم يكن له شبهة في ذلك فإنه يجب أن يعزر وأن يقام عليه؛ لأنه لا يجوز أن يمثِّل بسب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا من الاستهزاء.
س12/ كيف نفرق بين ما بين تكفير الذين نزل فيهم قول الله ﴿قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ﴾[التوبة:65]، وبين الصحابة الذين ورد ذكرهم في حديث ذات أنواط، حيث إن أولئك كفروا بمجرد القول وهؤلاء قالوا واعتقدوا ولم يكفروا؟
ج/ الفرق بينهما ما ذكرت لك التكفير قد يكون باعتقاد أو بقول أو بعمل أو بشك، فالذي قال تلك المقالة هو طلب كفرا، وطالب الكفر –أي القائل- ليس بكافر أما من عمل العمل المكفر فهذا انتقل إلى العمل المكفر فقول المستهزئين هذا داخل في قسم قول المكفر وأما من سألوا ذات أنواط فقوله لا يدخل بقول المكفر ولكن يدخل في العمل المكفر فالتقسيم يجعل فرقا بين هذا وهذا فأوةلئك مردهم إلى الفعل وأولئك مردهم إلى القول.
وبهذا القدر كغاية وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
¹
[المتن]
وتفيد أيضًا أن المسلم المجتهد إذا تكلم بكلام كفر وهو لا يدري فنبّه على ذلك فتاب من ساعته فإنه لا يكفر كما فعل بنو إسرائيل والذين سألوا النبي ﷺ.
وتفيد أيضًا أنه لو لم يكفّر فإنه يغلّظ عليه الكلام تغليظًا شديدًا كما فعل رسول الله ﷺ.
وللمشركين شبهة أخرى يقولون: إن النبي ﷺ أنكر على أسامة قتل من قال لا إله إلا الله وقال له: «أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله» وكذلك قوله ﷺ: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» وأحاديث أخر في الكف عمن قالها.
ومراد هؤلاء الجهلة أن من قالها لا يكفر ولا يقتل ولو فعل ما فعل.
فيقال لهؤلاء المشركين الجهّال: معلوم أن النبي ﷺ قاتل اليهود وسباهم وهم يقولون لا إله إلا الله وأن أصحاب النبي ﷺ قاتلوا بني حنيفة وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويصلّون ويدّعون الإسلام، وكذلك الذين حرَّقهم علي بن أبي طالب وهؤلاء الجهلة مقرُّون أن من أنكر البعث كفّر وقتل ولو قال لا إله إلا الله وأن من جحد شيئًا من أركان الإسلام كفّر وقتل ولو قال لا إله إلا الله. فكيف لا تنفعه إذا جحد شيئًا من الفروع وتنفعه إذا جحد التوحيد الذي هو أصل دين الرسل ورأسه؟ ولكن أعداء الله ما فهموا معنى الأحاديث. ولن يفهموا.
فأما حديث أسامة فإنه قتل رجلاً ادّعى الإسلام بسبب أنه ظن أنه ما ادّعى الإسلام إلا خوفًا على دمه وماله، والرجل إذا أظهر الإسلام وجب الكف عنه حتى يتبين منه ما يخالفه ذلك وأنزل الله تعالى في ذلك: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ﴾[النساء:94] أي فتثبّتوا، فالآية تدل على أنه يجب الكف عنه والتثبت. فإذا تبين منه بعد ذلك ما يخالف الإسلام قتل لقوله: (فتبيّنوا) ولو كان لا يقتل إذا قالها لم يكن للتثبت معنى.
وكذلك الحديث الآخر وأمثاله معناه ما ذكرناه: أن من أظهر الإسلام والتوحيد وجب الكف عنه إلا إن تبين منه ما يناقض ذلك.
والدليل على هذا أن رسول الله ﷺ الذي قال: «أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله» وقال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» وهو الذي قال في الخوارج: «أينما لقيتموهم فاقتلوهم. لئن أدركتهم لأقتلنّهم قتل عاد» مع كونهم من أكثر الناس عبادة وتهليلاً وتسبيحا حتى إن الصحابة يحقّرون أنفسهم عندهم وهم تعلموا العلم من الصحابة فلم تنفعهم لا إله إلا الله ولا كثرة العبادة ولا ادعاء الإسلام لما ظهر منهم مخالفة الشريعة.
وكذلك ما ذكرناه من قتال اليهود وقتال الصحابة بني حنيفة من هذا الباب، وكذلك أراد النبي ﷺ أن يغزو بني المصطلق لمَّا أخبره رجل أنهم منعوا الزكاة حتى أنزل الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾[الحجرات:6] وكان الرجل كاذبًا عليهم(5) ، فكل هذا يدل على أن مراد النبي ﷺ في الأحاديث التي احتجوا بها ما ذكرناه.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فهذه صلة للجواب عن الشُّبه التي أدلى بها المشركون في أن من قال لا إله إلا الله فإنه لا يكفر أبدا ولو فعل ما فعل لأن لا إله إلا الله تدخله في الإسلام، وفي أثناء ذلك ساق الشيخ رحمه الله قصة ذات أنواط والحديث في ذلك، وأخذ منها ثلاث فوائد، وذكرنا منها الفائدة الأولى في تلك القصة أن المسلم بل العالم قد يقع في أنواع من الشرك لا يدري عنها فتفيد التعلم والتحرز ومعرفة أن قول الجاهل التوحيد فهمناه أن هذا من أكبر الجهل ومكايد الشيطان، وقد تقدم لنا الكلام على هذه الجملة.
قال رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة ورفع درجته في الجنة في الفائدة الثانية (وتفيد أيضًا) يعني تلك القصة قصة ذات أنواط (وتفيد أيضًا أن المسلم إذا تكلم بكلام كفر وهو لا يدري فنُبّه على ذلك فتاب من ساعته فإنه لا يكفر) لأن هذا الكلام الذي طلبوه قال في معناه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «قلتم والذي نفسي بيده كما قال أصحاب موسى لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة»، ومن طلب إلها مع الله جل وعلا فإنه يطلب عبادة ذلك الإله، فكفره يكون بعبادته غير الله جل وعلا، ومعلوم أن الطلب متصل بالمطلوب اتصال اللازم بالملزوم، ولهذا نستفيد منه أن الكفر إذا كان مورده القول فإن صاحبه إذا نبه عليه وهو جاهل به فتاب من ساعته فإنه لا يؤاخذ بذلك؛ يعني أنه لا يكفر بقول كفري؛ لأنه جاهل بهذا القول، وذلك إذا نبه فتنبه، إذا قيل له هذا كفر والدليل على ذلك كذا أو أجمع العلماء على كذا أو قال الأئمة كذا فتنبه فإنه لا يكفر بذلك؛ لأن مورد الغلط في اللسان والجهل يعذر به صاحبه في مثل هذا كما عَذَر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصحابة في قولهم بل أنكر عليهم عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ غلظ الكلام عليهم شديدا فأفاد كما قال الشيخ رحمه الله تعالى (أن المسلم إذا تكلم لكلام كفر وهو لا يدري) وقوله (وهو لا يدري) راجعة إلى أنه لا يدري أنه مؤاخَذ بقوله ذلك، لا يدري أن كلامه كفر وأن كلامه لا يجوز له أن يقوله، والجهل راجع إلى جهتين:
جهة الحكم، والحكم بأن قوله لا يحل أو أن قوله كفر.
والجهة الثانية راجع إلى الحكم عليه بما قاله.
والأحكام الشرعية متعلقة بالنوع الأول لا بالنوع الثاني.
يعني أنه إذا كان جهله وعدم درايته راجعة إلى أنه لا يعلم أنم هذا الكلام لا يحل له، لا يعلم أن هذا الكلام لا يجوز له، لا يعلم أن هذا الكلام كفر، فإنه إذا نبه فتنبه فإنه يعذر بذلك.
وأما إذا علم أنه لا يجوز له ذلك، فيقول أعلم أن هذا كفر أن هذا لا يجوز، ولكن لا أدري أن هذا يوصل القائل إلى درجة الكفر، لا أدري أني أصير كافرا بذلك، فهو يدري أنه محرم ولكن لا يدري أنه يصير كافرا بذلك، فهذا لا يُعذر به مثل من يقول أدري أن القذْف محرم لكن لا أدري أني أجلد فهذا لا يعذر بجهله، يقول أدري ....
فإذن هنا فعدم الدراية بالأحكام الشرعية إذا كان مردها إلى عدم الدراية بحرمة القول، عدم الدراية بأن القول حرام كبيرة كفر، فهذا يُعذر به في مسائل كثيرة.
أما إذا علم الحكم ولكن جهل أنه يجب عليه الحد بهذا أو أنه يكفر بهذا فإنه يؤاخذ فيكفي درايته أنه لا يحل له هذا القول.
وهذا له تطبيقات كثيرة في القواعد الفقهية في تقسيم عدم الدراية أو الجهل إلى جهل بالحكم يعني إلى جهل بعاقبة الحكم، معلوم أنه إذا كفر فإنه يصبح مرتدا، فيستتاب فإن تاب وإلا قتل، وفي بعض صور الكفر يقتل زندقة، ولا تقبل منه توبته، فإن قال أنا أعلم أن الكلام حرام ولكني أجهل أني إذا قلت ذلك أني أصبحت مرتدا أو أني أصبحت زنديقا قتل بهذا الكلام فإنه لا يعذر.
فإنه يعذر إذا كان يجهل الحكم.
فإذا قال مثلا في الزنا أنا أعلم أن الزنا حرام لكن لا أدري أن الزاني المحصن يرجم، فهنا لا يعذر بجهالته، ولكن يعذر إذا قال أنا لا أعلم أنه حرام.
وهذا تفريق مهم في مسائل كثيرة عند العلماء والفقهاء في عدم دراية بعض المسائل، فإن عدم دراية الحكم أصلا شيء، وعدم دراية الحكم على صاحبه أو العقود المقدرة على صاحبه وأشباه ذلك هذا شيء آخر.
لهذا قال الشيخ رحمه الله هنا (وتفيد أيضًا أن المسلم إذا تكلم بكلام كفر وهو لا يدري فنبّه على ذلك فتاب من ساعته أنه لا يكفر كما فعل بنو إسرائيل والذين سألوا النبي ﷺ) فإن بني إسرائل نبهوا فتنبهوا وإن الصحابة الذين كانوا حدثاء عهد بكفر نبهوا فتنبهوا.
الفائدة الثالثة قال (وتفيد أيضًا أنه لو لم يكفّر فإنه يغلّظ عليه الكلام تغليظًا شديدًا كما فعل رسول الله ﷺ) يغلظ عليه الكلام تغليظا شديدا، وجه التغليظ الشديد أن ذاك تعزير، ومعلوم أن باب التعزير يكون -يعني التعزير في الشريعة- يكون بالقول، ويكون بالفعل، ويكون التعزير بالمال:
القول بأن يقال له كلام يأنبه كلام شديد قال قوي.
وبالفعل إما بضرب أو بهجر أو بأشباه ذلك.
وبالمال بأخذ بعض ماله كثير له، وهذا من جهة القاضي.
فإذا كان كذلك فالتعزير في الشريعة مطلوب لمن وقع منه المنكر بحسب الحال، فهؤلاء كان قولهم قبيحا، وكان طلبهم قبيحا إذ طلبوا إلها مع الله جل وعلا، فلهذا قال النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قال أصحاب موسى لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة» وهذا الكلام قد يقال إن ظاهره ليس بشديد إن ظاهره ليس فيه تعزير، لكن هذا ليس بصحيح بل المسلم الموحد إذا قبل له الذي أحب التوحيد ودخل في دين الله بلا إله إلا الله وقد فقه هذه الكلمة ا قيل له أنت طلبت إلها مع الله جل وعلا، فإن هذه الكلمة تتفطر لها القلوب، فهي أعظم مما لو قيل له أسكت أو قيل له كذا أو كذا؛ بل قيل له أنت طلبت إلها مع الله جل وعلا، ومعلوم أنه ما دخل في الدين إلا للتوحيد إلا للإسلام الوجه لله جل وعلا وحده دون الآلهة المتعددة، فلهذا الوضوح في حال الواقع في المنكر نوع من التعزير فمن وقع في الباطل فقيل له أنت وقعت في كذا وكذا تأنيبا له، فإن هذا نوع من التعزير الشديد وتغليظ الكلام بما يناسب الحال.
إذن أفادت أنه لو لم يكفر فإنه يغلظ عليه الكلام تغليظا شديدا كما فعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
هذا انتهاء لأحد الأجوبة على تلك الشبهة.
ويتصل بتلك الشبهة التي مرت معنا قبل درسين وهي قولهم: أنتم تكفرون بالشرك من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وقام وصلى وزكى وحج ويكون له أعمال صالحة، فلهم شبهة متصلة بتلك الشبهة وهي قوله (وللمشركين شبهة أخرى يقولون: إن النبي ﷺ أنكر على أسامة قتل من قال لا إله إلا الله وقال له: «أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله» وكذلك قوله) إلى آخره، وهذا الكلام مع جوابه أفاد أن شبهة من احتج بقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله) الجواب على هذه الشبهة مترتب بأمور الأول أن يقال: لا إله إلا الله تدخل في الإسلام، ومن دخل في الإسلام بلا إله إلا الله فإنه يُنتظر له حتى يرى أيكون آتيا لحقوق لا إله إلا الله أم لا، فلا إله إلا الله لها حقوق وأعظم حقوقها التوحيد بل هي في التوحيد مطابقة، وإذا كان كذلك فإن قول القائل لا إله إلا الله محمد رسول الله يُنتظر به إذا كان قاله في معركة أو استسلامٍ أو نحو ذلك ولا يعاقب على ما كان منه من الكفر وإنما ينتظر به، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام «أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله الله وأن محمدا رسول الله»، وجاء في الحديث الآخر أيضا قال «حرم دمه وماله إلا بحقها»؛ «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني وقاتل النفس والتارك لدينه المفارق للجماعة» وقوله (إلا بحقها التارك لدينه المفارق للجماعة) وهنا (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) كلها متفقة غير مختلفة ولهذا نقول في جواب هذه الشبهة ما ذكره الشيخ رحمه الله أن من قال لا إله إلا الله فيما ظاهره أنه خوف فينتظر به فإن أتى بحقوق لا إله إلا الله قبلت وإن خالف حقها من التوحيد فإنه دل على نفاقه وإنما قالها تعوذا.
وأسامة بن زيد رضي الله عنهما قتل قبل التثبت، قتل قبل أن يستفصل وأن يرى هل هذا قالها تعوذا أو قالها على الإسلام حقيقة.
والجواب الثاني عن هذه الشبهة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاتل اليهود وسباهم بني قريضة أو بني النضير أو يهود خيبر، قاتلهم عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وهم يشهدون أن لا إله إلا الله أو يقولون لا إله إلا الله بحسب تفسيرهم يقولون لا إله إلا الله فعَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قاتلهم على الشرك، قاتلهم على اتخاذهم ندا مع الله جل وعلا قال تعالى ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ﴾[التوبة:30]، فدل على أن قول لا إله إلا الله مع عدم تطبيقها مع عدم عمل ما دلت عليه لا ينفع صاحبه؛ لأنه خالف مقتضاها.
كذلك بنو حنيفة الذين قاتلهم الصحابة قاتلهم أبو بكر رضي الله عنه فيما قدمنا وأصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كانوا يقولون لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويصلون ويدعون الإسلام، لكن لما لم يلتزموا بحكم أداء الزكاة لخليفة المسلمين قوتلوا قتال ردة لا قتال بغاة؛ لأنهم ادعوا أنهم مخاطبين بحكم الله جل وعلا بأداء الزكاة لخليفة المسلمين.
كذلك الذين حرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار فيما تقدم هم كانوا يقولون ظاهرا لا إله إلا الله محمدا رسول الله.
وهؤلاء الجهلة يقولون أن من أنكر البعث كفر وقتل ولو قال لا إله إلا الله وأن من جحد شيئا من أركان الإسلام كفر وقتل ولو قالها.
يعني أن هؤلاء الذين احتجوا بفعل أسامة قالوا ما قاله الفقهاء والعلماء بأن من جحد البعث كفر وأن من جحد شيئا من أركان الإسلام كفر، فكيف إذن تقولون هنا يكفر مع قوله بلا إله إلا الله محمدا رسول الله وإتيانه بالصلاة والزكاة والصيام والحج إلى غير ذلك؟ وفي هذه المسألة العظيمة -مسألة التوحيد- تقولون لا يكفر؟ لا شك أن هذا خلف من القول وتناقض القاعدة عند أهل العلم واحدة وهي أنه من أتى بمكفر قولي أو عمليا أو اعتقادي أو شك فيما أنزل الله جل وعلا على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما كانت دلاللته قطعية فإنه يكفر ولو كان أصلح الصلحاء بل قد قال الله جل وعلا لنبيه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ﴾[الزمر:65-66].
قال المصنف رحمه الله في بيان تناقض أهل هذه الشبهة (فكيف لا تنفعه إذا جحد شيئًا من الفروع) يعني كيف لا تنفعه لا إله إلا الله محمد رسول الله إذا جحد فرعا من الفروع مسألة من المسائل جحد الصلاة جحد الزكاة جحد الحج جحد تحريم الربا جحد حِلّ البيع إلى آخر ذلك (وتنفعه إذا جحد التوحيد الذي هو أساس الملة وأساس دين الرسل ورأسه) لا شك أن هذا تناقض بل الباب باب واحد، الأصول والفروع في هذا سواء، فمن جحد التوحيد كفر من جحد الصلاة كفر ومن جحد الزكاة كفر إلى آخر الأمور،([62]) الباب باب واحد ولا ينفعه قوله: لا إله إلا الله.
قال (ولكن أعداء الله ما فهموا معنى الأحاديث [ولن يفهموا]) أما كونهم ما فهموا فهذا واضح هي ما قدمنا، أما كونهم لن يفهموا لأن الشبهة إذا قامت في القلب والبدعة إذا قامت بالروح وبالقلب فإن صاحبها يصعب عليه الخلاص منها، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داوود وغيره أن أهل الأهواء تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه مفصل ولا عرق إلا دخله ذلك، فأهل البدع استغرقت البدعة في قلوبهم حتى حجبتهم عن نور فهم الكتاب والسنة، وهذه من أنواع العقوبات التي يعاقب بها من ترك الكتاب والسنة إلى غيرهم، فهذا ملاحظ أن طائفة منهم من الأذكياء ومن العلماء وممن عنده علوم مختلفة في التفسير وفي الفقه وفي العقائد إلى غير ذلك، ومع ذلك يقعون في هذه المسألة، وإذا أفهمتهم لن يفهموا.
وهنا بحث في أنهم إذا لم يفهموا فإنهم لا يُعذرون بذلك لأن فهم الحجة ليس بشرط؛ بل الشرط هو إقامة الحجة في التكفير يعني لا يكفر إلا من قامت عليه الحجة الرسالية التي يكفر من أنكرها أو ترك مقتضاها.
وأما فهم الحجة فإنه لا يشترط لهذا قال الشيخ هنا رحمه الله (ما فهموا ولن يفهموا) وإذا كانوا لم يفهموا فإنه لا يعني أنه يسلب عنهم الحكم بالشرك الأكبر؛ لأن فهم الحجة ليس بشرط.
وهذا مبحث بحثه علماء الدعوة والعلماء قبلهم هل فهم الحجة شرط أم ليس بشرط والله جل وعلا قال في كتابه ﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ﴾([63]) يعني جعلنا على قلوبهم أكنة أغطية وحجب أن يفهموا هذا البلاغ وهذا الإنذار (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ) فدل على أن المشرك لم يفقه الكتاب ولم يفقه السنة يعني لم يفهم.
وتحقيق المقام هنا لأن بعض الناس قال كيف لا تشترطون فعهم الحجة وكيف تقام الحجة إلى فهم، وتفصيل الكلام هنا أن فهم الحجة نوعان:
النوع الأول فهم لسان.
والنوع الثاني فهم احتجاج.
أما فهم اللسان فهذا ليس الكلام فيه فإنه شرط في بلوغ الحجة لأن الله جل وعلا قال ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾[إبراهيم:4]، والله جل وعلا جعل هذا القرآن عربيا لتقوم الحجة به على من يفقه اللسان العربي.
وإذا كان كذلك فإن فهم اللسان هذا لابد منه؛ يعني إذا أتاك رجل يتكلم بغير العربية فأتيت بالحجة الرسالية باللغة العربية، وذاك لا يفهم منها كلمة، فهذا لا تكون الحجة قد قامت عليه بلسان لا يفهمه، حتى يَْبُلَغُه بما يفهمه لسانه.
والنوع الثاني من فهم الحجة هو فهم احتجاج يفهم أن تكون هذه الحجة التي في الكتاب والسنة حجة التوحيد أو في غيره ارجح وأقوى واظهر وأبين أو هي الحجة الداحضة لحجج الآخرين، وهذا النوع لا يشترط؛ لأنه جل وعلا بين لنا وأخبر أن المشركين لم يفقهوا الحجة فقال جل وعلا (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ) وقال سبحانه ﴿وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا﴾[الكهف:101]، ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ﴾[الفرقان:44]، فهم لا يسمعون سمع فائدة، وإن سمعوا سمع أُذُن ولا يستطيعون أن يسمعوا سمع الفائدة وإن كانوا يسمعون سمع الأذن، وقد قال جل وعلا ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ﴾[الأنفال:23]، وقال سبحانه ﴿مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن [رَّبِّهِم] ([64]) مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ﴾[الأنبياء:2]، (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) حتى وصفهم بأنهم يستمعون وليس فقط يسمعون بل يستمعون يعني ينصتون ومع ذلك نفى عنهم السمع بقوله (وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا) وبقوله ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ﴾[الفرقان:44]، وقوله جل وعلا في سورة تبارك ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾[الملك:10].
فإذن هم سمعوا سمع لسان لكن لم يسمعوا الحجة سمع قلب وسمع فهم للحجة يعني أنها راجحة فلم يفهموا الحجة ولكنهم فهموها فهم لسان فهموها لأنها أقيمت عليهم بلسانهم الذي يعلمون معه معاني الكلام ولكن لم يفهموها بمعنى أن الحجة هذه راجحة على غيرها، ولهذا قال تعالى (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ).
الوجه الثاني أن الكفر والكفار أنواع:
منهم من كفره كفر عناد.
ومنهم من كفره كفر تقليد.
﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ﴾[الزخرف:22]، ﴿وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ﴾[الزخرف:23].
ومن الكفار من كفره كفر إعراض معرض عن الحق ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ﴾[الأنبياء:24].
وإذا أشترط فهم الاحتجاج للحجة، فمعنى ذلك المصير إلى مخالفة الاجماع بالقول بأنه لا يكفر إلا المعاند، إذا قيل إنه يشترط فهم الاجتجاج يعني أن يفهم من أقيمت عليه الحجة أن هذه الحجة أقوى وتَدحض حجة الخصوم، فمعنى ذلك أن يصير القول إلى أنه لا يكفر إلا من كان معاندا فقط.
ومعلوم أن الكفار ليسوا كلهم معاندين؛ بل منهم المعاند، ومنهم غير المعاند، فمنهم من جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم، ومنهم المقلد ومنهم المعرض إلى غير ذلك.
فإذن فهم الحجة ليس شرط في إقامتها ونعني بفهم الحجة فهم الحجة من حيث كونها داحضة بحجج الخصوم ومن حيث كونها أوضح من حجج الخصوم، فلو قال بعد إقامة الحجة عليه وبيان الأدلة من الكتاب والسنة وبيان معنى العبادة ويقيم الحجة عالم يعلم كيف يقيم الحجة ويزيل الشبهة، لهذا يقول العلماء الحجة الرسالية، كما يقول شيخ الإسلام في مواضع كثيرة: ويكفر من قامت به الحجة الرسالية. الحجة الرسالية يعني التي يقيمها الرسل أو ورثة الرسل ممن يحسن إقامة الحجة سمع بالحجة وأنصت لها ثم لم يقتنع، وقال أنا لم أقتنع، عدم الاقتناع هو عدم الفهم ليس بشرط في سماع إقامة الحجة، لهذا الشيخ رحمه الله نبه على ذلك بقوله (ولم يفهموا) وكونهم لم يفهموا بما أشربت قلوبهم من حب الشرك وحب البدع ومخالفة السنة.
ثم بين رحمه الله فقال (فأما حديث أسامة فإنه قتل رجلاً ادّعى الإسلام بسبب أنه ظن أنه ما ادّعى الإسلام إلا خوفًا على دمه وماله، والرجل إذا أظهر الإسلام وجب الكف عنه حتى يتبين منه ما يخالفه ذلك وأنزل الله تعالى في ذلك: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ الآية)، إلى أن قال في آخرها ﴿كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ﴾[النساء:94]؛ يعني أن الله جل وعلا يمن فمن قال هذه الكلمة فينتظر في شأنه حتى يُرى ما يأتي به من حقوق لا إله إلا الله.
قال (فالآية تدل على أنه يجب الكف عنه والتثبت. فإذا تبين منه بعد ذلك ما يخالف الإسلام قتل لقوله: (فتبيّنوا) ولو كان لا يقتل، إذا قالها لم يكن للتثبت معنى.
وكذلك الحديث الآخر وأمثاله معناه ما ذكرناه: أن من أظهر الإسلام والتوحيد وجب الكف عنه إلا إن تبين منه ما يناقض ذلك.) هذا الذي قاله الشيخ رحمه الله محل إجماع بين أهل العلم في تفسير حديث أسامة بن زيد في قتله للرجل، وغير هذا الحديث من اسشباهه.
وأما الحديث التي علق فيها قتال الناس بقول لا إله إلا الله أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، فإن في الحديث الاستثناء بقوله (إلا بحقها) وأعظم حقوقها الواجبة التي تدل عليها الكلمة المطابقة التوحيد.
قال (والدليل على هذا أن رسول الله ﷺ الذي قال: «أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله» وقال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله») وهذا واضح أيضا، (وهو الذي قال في الخوارج: «أينما لقيتموهم فاقتلوهم. لئن أدركتهم لأقتلنّهم قتل عاد» مع كونهم من أكثر الناس عبادة وتهليلاً وتسبيحا) إلى آخر الكلام.
وهنا تنبيه على أنه ليس ثم تلازم ما بين القتال والحكم بالكفر فقد يحكم بالكفر ولا يقاتل، وقد يقاتل وليس بكافر يعني ليس كل من قوتل فإنه كافر بل تقاتل الطائفة التي تمتنع عن إظهار شريعة من شرائع الإسلام التي تمنع شعيرة من شعائر الإسلام فاقول أنا لا أظهر الأذان لا أظهر الصلوات جماعة مثلا كل يصلي في بيته لا نقيم المساجد ونحو ذلك من شعائر الإسلام فإنه وإن كانوا مقرين بذلك؛ لكن إن منعوا هذا فإنهم يقاتلون وإن كان تركهم لبعض السنن؛ لأن الطائفة المانعة لشعيرة من شعائر الله تقاتل حتى تظهر شعائر الله.
وأظهر منه الطائفة الممتنعة التي لم تلتزم حكم من أحكام الله فإنها تقاتل قتال كفر وردة.
إذن فمن حكم عليه بأنه يقال أو يقاتل لا يلزم منه أنه يكفر وكل من كفر فقد بقتل وقد لا يقتل أيضا.
فإذن قد يكون الحال أن الكافر يقتل، وقد يؤخر فلا يقتل، وكذلك حال القتال فقد يقاتل من كان كافرا وقد يقاتل من ليس بكافر.
ومن النوع الأخير هذا الخوارج، فإن الخوارج لا يحكم بكفرهم لأن عليا رضي الله عنه سئل عنهم: أكفار هم؟ فقال من الكفر فروا. وفي كفرهم روايتان عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله والمنصور من الروايتان أنه لا يطلق القول بتكفير الخوارج لأن الذين قاتلوا عليا رضي الله عنه، وحصل منهم ما حصل مما هو معروف.
قال (وهم تعلموا العلم من الصحابة فلم تنفعهم لا إله إلا الله) الصحابة رضوان الله عليهم علّموا العلم في المدينة وفي مكة وفي مصر وفي الشام وفي اليمن، والخوارج اجتمعوا من هذه الأقطار أتى طائفة منهم من اليمن وطائفة من المدينة وطائفة من مصر وطائفة من الشام، فتجمعوا على هذا، فلا يزكون بأنهم تلاميذ الصحابة، فإن التلمذة شيء والثبات على الحق شيء آخر، بل إن عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي رضي الله عن علي كان في المدينة من أكثر الناس إحكام للقرآن فكتب عمر رضي الله عنه إلى عاهله في مصر عمرو بن العاص فقال له: إني مرسل إليك برجل آثرتك به على نفسي وهو عبد الرحمن بن ملجم، اجعل له دارا يعلم الناس فيها القرآن، فلما وصل للمكتوب إلى عمرو استأجر له دارا أو اكترى له دارا فجعله يعلم الناس. وكان من أكثر الناس عبادة؛ عبد الرحمن بن ملجم، ومن أكثر الناس صلاحا في أول أمره حتى دخلته الفتنة بالقيام على عثمان رضي الله عنه، ثم سار مع علي إلى أن حصل قتل علي رضي الله عنه حتى إنه لما قتله وأرادوا القصاص منه قال لا تقتلوني دفعة واحدة؛ بل قطعوني أجزاء حتى أرى جسدي يقطع وأنا صابر في سبيل الله ولساني يلهج بذكر الله، وهذا من أعظم الفتن التي حصلت طائفة بعده حتى قال أصحابه بعده ممن غرهم هذا المظهر في مدح عبد الله بن ملجم قاتل علي:
يا ضربة من تقي – يعني عبد الرحمن بن ملجم يصفه بأنه تقي صالح -.
يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره حينا فأحسبـه أوفى الـبرية عند الله ميزانـا
كان هذا من قول عمران بن حِطان وقد تاب -فيما يقال- في آخر عمره من قول الخوارج .
المقصود من هذا أن قول الشيخ رحمه الله (حتى إن الصحابة يحقّرون أنفسهم عندهم وهم تعلموا العلم من الصحابة) يدل على أن تعلم العلم على من هو على الحق لا يعني أن يوصف صاحبه بأنه على الحق دائما فإن المعلم لا يكوم حكما على من تعلم العلم دائما، فكم خرج ممن علمهم أهل السنة والأئمة وأهل العلم ممن ليسوا على طريقة أهل السنة بل راحوا إلى البدع وإلى الضلالات وإلى بعض الكفريات، نسأل الله جل وعلا والعافية، حتى بعض من درس التوحيد في هذه المدارس والجامعات إلى آخره وعرف السنة وعرف العقيدة الصحيحة زاغ عنها بعد ذلك، فليست التزكية بأن شيخه فلان، وإنما التزكية بأنه ثبت على قول أشياخ من أهل السنة، وهذا ظاهر والحمد لله وفي قصة الخوارج عبرة لمن اعتبر.
قال (وهم تعلموا العلم من الصحابة فلم تنفعهم لا إله إلا الله) يعني في الكف عنهم بأن لا يقاتلوا (ولا كثرة العبادة ولا ادعاء الإسلام لما ظهر منهم مخالفة الشريعة) فإذا ظهرت مخالفة الشريعة فإنهم يقاتلون سواء أقلنا بكفرهم أو لم نقل بكفرهم؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم لمن قتلهم أجرا عند الله (جل وعلا)» وقال لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد .
قال (وكذلك ما ذكرناه من قتال اليهود وقتال الصحابة بني حنيفة من هذا الباب، وكذلك أراد النبي ﷺ أن يغزو بني المصطلق لمَّا أخبره رجل أنهم منعوا الزكاة حتى أنزل الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ﴾[الحجرات:6] وكان الرجل كاذبًا عليهم، فكل هذا يدل على أن مراد النبي ﷺ في الأحاديث التي احتجوا بها ما ذكرناه) وهذا تطويل من الشيخ رحمه الله للإيضاح واستطراد للبيان بأن قول لا إله إلا الله محمد رسول الله لا ينفع صاحبه إلا إذا أتى بحقوقه إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل، فإذا لم يأت بحقها فإنه لا يقبل منه ذلك بل إنما يقاتل قتال كفر إذا كان من ترك من حقها التوحيد، وإما أن تقاتل الطائفة قتال بغاة إذا كان الذي تركوا من حقها دون التوحيد فمنعوه ولم يمتنعوا منه.
نكتفي بهذا القدر ..
[الأسئلة]
س1/....
ج/ هذه موجودة عندنا (لم يفهموا ولن يفهموا) لأن صاحب البدعة ما يرجع عن بدعته إذا دخلت قلبه، إذا استحكمت منه لا يرجع مثل ما جاء في بعض الأحاديث «أبى الله أن يقبل صاحب بدعة توبة» وفي لفظ آخر «إن الله حجز التوبة عن كل صاحب بدعة» وزاد في بعض ألفاظه «حتى يدع بدعته» والملاحظ أن الذين دخلت فيهم البدعة واستحكمت فيهم أنهم لا يرجعون لأن أولئك يرونها تدينا يرون أن هذا هو الحق وأن غيره باطل، فلهذا لا يدعه إلى غيره، فالعبرة بالحق المطلق لا بالحق الإضافي.
س2/ ذكرت أن للإمام أحمد روايتين في تكفير الخوارج.
ج/ في تكفير الخوارج الذين خرجوا على علي الحرورية، وأما الخوارج الذين ظهروا بعد ذلك ولهم اعتقادات مختلفة فإن هؤلاء يعامل كل بحسب حاله.
س3/ هل هناك فرق بين الجهل والجهالة؟
ج/ نعم الجهالة تعد، والجهل عدم العلم.
س4/ أليس ظاهر كلام الشيخ أنه يرى كفر الخوارج كما ذهب إليه بعض العلماء من السلف؟
ج/ نعم هو ظاهر كلامه وهو كلامه على القتال وعدم الانتفاع بلا إله إلا الله في ترك مقاتلتهم .
س5/ « يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» هل يدل على كفرهم استدل به من رأى كفر الخوارج لكن الصواب أنه لا يدل على ذلك لأن المروق من الدين كما يمرق السهم من الرمية قد يكون مروقا مع بقاءء الأصل وقد يكون مروقا كاملا فهو محتمل.
س6/ من عمِل عمَلَ كفر سواء أكان قوليا أو فعليا لكنه يجهل الحكم أن هذا كفر لأن عادة بدله هذا؟
ج/ السؤال غير منضبط ، كيف يكون عمل كفر وهو قولي أو فعلي لابد يحدد الصورة التي يسأل عنها.
س/ لم قام ابن ملجم بأمر أصحابه بتقطيع نفسه حنى الموت ؟
ج/ هو ما أمر أصحابه أن يقطعوه حتى الموت هو طلب من ورثة علي من الحسن والمسلمين أن لا يقتلوه دَفعة واحدة وهو قتلوه بالسيف ضربة واحدة.
نكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
¹
[المتن]
ولهم شبهة أخرى وهي ما ذكر النبي ﷺ أن الناس يوم القيامة يستغيثون بآدم، ثم بنوح، ثم بإبراهيم ثم بموسى ثم بعيسى فكلهم يعتذرون حتى ينتهوا إلى رسول الله ﷺ ، قالوا فهذا يدل على أن الاستغاثة بغير الله ليست شركًا.
والجواب أن نقول: سبحان من طبع على قلوب أعدائه، فإن الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه لا ننكرها كما قال في قصة موسى: ﴿فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ﴾[القصص:15]، وكما يستغيث الإنسان بأصحابه في الحرب وغيرها في الأشياء التي يقدر عليها المخلوق، ونحن أنكرنا استغاثة العبادة التي يفعلونها عند قبور الأولياء أو في غيبتهم في الأشياء التي لا يقدر عليها إلا الله.
إذا ثبت ذلك، فإن استغاثتهم بالأنبياء يوم القيامة يريدون منها أن يدعوا الله أن يحاسب الناس حتى يستريح أهل الجنة من كرْب الموقف، وهذا جائز في الدنيا والآخرة، [وذلك] أن تأتي عند رجل صالح حي يجالسك ويسمع كلامك وتقول له: ادع الله لي، كما كان أصحاب رسول الله ﷺ يسألونه ذلك في حياته، وأما بعد موته فحاشا وكلا أنهم سألوه ذلك عند قبره، بل أنكر السَّلف على من قصد دعاء الله عند قبره، فكيف بدعائه نفسِه.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
اللهم نسألك علما نافعا وعملا صالحا وقلبا خاشعا، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، واجعلنا من عبادك المتقين.
أما بعد:
فهذه شبهة أخرى جديدة ذكرها الإمام المجدد رحمه الله تعالى بأن أهل الشرك في زمانه من العلماء وأشباههم كانوا يوردونها على الشيخ رحمه الله مستدلين بهذه الشبهة على إبطال توحيد الله جل وعلا في عبادة الاستغاثة، والمشركون حين احتجوا بهذه الشبهة وجادلوا بها يريدون إبطال الأصل الذي يعتمد عليه الموحدون، وهو أن صرف العبادة لغير الله جل وعلا شرك أكبر، فهم استدلوا ببعض ما ورد لإبطال توحيد العبادة، ويريدون بعد هذا أن يقصروا الشرك في عبادة الأصنام وفي عبادة الأوثان التي كان عليها أهل الجاهلية في الزمن الأول على ما فهموه من عبادة الأصنام والأوثان.
وهذا الإيراد الذي ذكره الشيخ رحمه الله من العجب أنه تتابع عليه الذين ردوا على الشيخ قبله؛ يعني في زمانه وبعده رحمه الله تعالى، فالذين كتبوا في تجويز الاستغاثة بالقبور وبالمقبورين وبالأولياء الصالحين وغير الصالحين، هؤلاء احتجوا بهذا الدليل وهو أن الناس يوم القيامة يستغيثون بآدم، وهذا النوع من الاستغاثة هي استغاثة بعد الممات، فيقولون الممات حلَّ والاستغاثة هذه بعد الممات، وحياتهم في قبورهم كحياتهم في الموقف ولا فرق إذ هذا وهذا حياة لهم، فيستدلون بالاستغاثة بآدم وبنوح وبإبراهيم بموسى ثم بعيسى ثم بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يستدلون بذلك على أن الاستغاثة بغير الله جل وعلا ممن ليس في الحياة الدنيا جائزة.
وهذا هو الذي ذكره الشيخ رحمه الله هنا حيث ساق ما ساق قال في آخر كلامه (قالوا: فهذا يدل على أن الاستغاثة بغير الله ليست شركًا فالجواب أن نقول) وقبل سياق جواب الإمام رحمه الله تعالى نذكر أصلا في أصل شبه المشبهين من المشركين وذلك أن توحيد العبادة أدلته كثيرة محكمة والمجيب على الشبه إذا اشتبه عليه جواب، فإنه يعود إلى الأصل وهو تقرير الأدلة التي جاءت في توحيد العبادة، ثم يُدخل الصورة هذه التي أوردها المشبه في تلك الأدلة حتى يبطل الاستدلال من وجه إجمالي فهذه طريقة نافعة.
ثم بعد ذلك يأتي إلى الجواب الذي يكون فيه تخصيص بتلك المسألة التي احتجوا عليها ببعض الأدلة، ومسألة الاستغاثة راجعة إلى الدعاء، فإن الاستغاثة طلب ودعاء؛ لأن الأصل في فعل (استفعل) أي طلب الشيء، وقد يكون من غير الطلب في مواضع متعددة، فإذا أوتي بـ(استفعل) فإنها تحمل على الطلب لأنها تدل عليه في مواضع فاستسقى طلب السقيا، واستغاث طلب الغوث، واستعان طلب العون إلى آخر أمثال ذلك.
فإذا كانت طلبا فإنها سؤال وإنها دعاء، ولهذا الأدلة العامة في الكتاب والسنة امنع السؤال بغير الله جل وعلا تمنع دعاء غير الله تمنع الطلب من غير الله جل وعلا كما في قوله ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾[الجن:18]وكما في قوله جل وعلا ﴿وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾[المؤمنون:117]، وبخصوص الاستغاثة قال جل وعلا ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ﴾[الأنفال:9]، وكما في قوله ﴿إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ﴾[الرعد:36]، ونحو ذلك من الآيات التي فيها إفراد الله جل وعلا بالطلب وإذا كان كذلك في القرآن فهذا عام يشمل ما يقدر عليه المطلوب منه وما لا يقدر عليه وكذلك ما جاء في السنة من قوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله» حتى السؤال والطلب من مخلوق لا يجوز بل يجب إفراد الله بالطلب هذه أدلة الكتاب والسنة في هذا بخصوصه.
لكن هذا العموم أو هذا الإطلاق ورد ما يقيده في النصوص، فالنصوص العامة كما ذكرنا لك أو المطلقة تمنع السؤال مطلقا إذا سألت فاسأل الله بلا تفصيل، هل يقدر أو لا يقدر؟ هل هو حي أم ليس بحي؟ هل هو حاضر أم ليس بحاضر؟ إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله وكذلك ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾[الجن:18] لكن جاء في القرآن والسنة تقييدات جعلتنا نقيد هذا العموم نقيد هذا الإطلاق أو نخص هذا العموم ببعض الصور، ولهذا القيود في الأدلة ظاهرة فجعلوا تلك المطلقات مشروطة بشروط ولهذا قال العلماء تلك المطلقات ينظر في النصوص هل قيدت أم لا ؟ كفهم عام فإنه يبقى على عمومه حتى يرد مخصص كفهم مطلق فإنه يبقى على إطلاقه حتى يرد ما يقيده فنظرنا في القرآن فوجدنا أن الرب جل وعلا ذكر أن نبيه موسى عليه السلام في أول سورة القصص ذكر قوله جل وعلا (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) فعلمنا بذلك أن موسى عليه السلام وهو نبي الله وكليم الله وإن كان هذا قبل أن يوحى إليه فهو ليس إذ قال ذلك بمشرك الشرك الأكبر لأن الأنبياء منزهون عن الشرك الأكبر قبل النبوة وبعدها من باب أولى كما هو واضح ظاهر.
فإذن قوله (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) هنا الله جل وعلا ذكر الاستغاثة فدل على أن هذا النوع من الطلب خارج عن الإطلاق، فهذا ننظر في هذا الحال في بساط الحال في هذه الآية، فنقول: هذا طلب الغوث من موسى وهو حي أمامه وهو قادر لأنه وكزه فقضى عليه أو أنه في محل القدرة، أي في حكم القادر وكذلك أنه يسمع خطابه، فظهر لنا من هذا الدليل قيودات.
وكذلك نعلم أن الصحابة رضوان الله عليهم استغاثوا بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حياته في مواضع، وإذا كان كذلك فإنهم استغاثوا بمن يسمع وهو حي ويقدر على أن يغيثهم.
وكذلك إجازة طلب الغوث بهذه فيما يستغيث المرء بمن هو يقدر على إجابة ما به من كرب؛ يعني بشروطه.
فدلنا ذلك على أن تلك المعلومات إذا سألت فاسأل الله (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) مقيدة، فلهذا قيّد العلماء بهذه النصوص المقيدة العموم فقالوا إذا كان المستغاث به المسؤول المطلوب إذا كان حيا -يخرج الميت-، إذا كان قادرا على الإنفاذ أو بحكم القادر، إذا كان حاضرا يسمع فإن الأدلة دلت على جواز الطلب منه وعلى جواز الاستغاثة به وعلى جواز الاستعانة، فإن كان غائبا فإنه يبقى العموم على بابه يبقى المطلقات على بابها، فإن كان غير حي فيبقى.
فإذن هنا العمومات بالإجماع يعمل بها والمطلقات بالإجماع يعمل بها العموم مثل قوله (وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) ومثل قوله (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) وأشباه ذلك، فيُعمل بالعموم حتى يرد المخصص، وهنا المخصصات المنفصلة كما يرد في الأصول دلتنا على اعتبار الشروط.
فإذن من منع هذا منع الاستغاثة بغير الله جل وعلا فيما لا يقدر عليه ذلك المستغاث به، مستمسك بالأصل مستمسك بالعمومات، مستمسك بالأدلة المحكمة في هذا الباب، فمن أجاز صورة من الصور فهو الذي عليه الدليل.
ولهذا نقول هذا الدليل الذي أورثتموه لا يخرج عن القيود التي ذكرناها، هذه الشبهة بالاستدلال بهذا الدليل لا يخرج عما ذكرناه؛ بل هو مؤيد ودليل من السنة على ما ذكرناه من القيود.
واستدلالكم به على أن الحياة التي بعد الموت لا تسمى حياة وإنما هي حياة الدنيا ثم بعده موت ويوم القيامة والبعث له حكم ما قبل الموت؛ لأن هؤلاء أحياء في قبورهم، ثم بعد ذلك هم أحياء، فلا فرق نقول هذا لا يستقيم مع الأدلة الكثيرة في القرآن في أن الناس أُحيوا حياتين وأميتوا ميتتين قال جل وعلا ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً﴾[البقرة:28]، يعني في بطون أمهاتكم فأحياكم بنفخ الروح ثم يميتكم بذهاب الروح ثم يحييكم بعود الروح، وكذلك قوله جل وعلا في سورة غافر ﴿رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ﴾[غافر:11]، فدل على أن النصوص فيها حياتان وفيها مِيتتان، فمن جعل الموت والحياة حالة واحدة كحال هؤلاء المشبهة الذين أوردوا هذه الشبهة فإن النصوص تبطل هذا الإيراد، فهذا الإيراد هذه الشبهة مبطلة كما ذكرنا من هاتين الجهتين:
أولا من حيث إن هذا الدليل هو لنا وليس علينا؛ لأن فيه القيود بأن هؤلاء أحياء يتكلمون قادرون، آدم قادر على الدعاء، نوح قادر على الدعاء، وموسى قادر على الدعاء، ومحمد عليه الصلاة والسلام قادر على الدعاء، وعيسى عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قادر على الدعاء، ثم نقول إن هؤلاء كانوا في حياة ثم صاروا إلى موت، وهم مع موتهم في حياة برزخية أكمل من حياة الشهداء؛ لكن فرق بين أحكام الموت وأحكام الحياة، ثم يصيرون إلى حياة، فدل على تنوع الأحوال فلكل حال دليلها الذي يخصها.
فإذن أولا جواب الشبهة هذه العمومات باقية، أدعاء هذا الدليل يصلح لجواز الاستغاثة بغير الله جل وعلا باطل؛ لأنهم استدلوا بدليل في الحياة والكلام معهم في الممات إذا قالوا الممات وما([65]) بعده من يوم القيامة كل هذا يعتبر نوع واحد من الحياة، نقول النصوص دلت على أن ثمة حياتين وثمة موتين، فإذن يحتاجون إلى دليل آخر ولا دليل عندهم.
هذا تقرير لهذه المسألة، ولك أن تُنَظِّرَ مثلها في كل أنواع الطلب، كل الأنواع التي يستدلوا بها في أنواع الطلب تستدل بمثل هذا؛ لأنهم يوردون بعض الأدلة والآثار والإشراك بالله في مثل هذا ولك أن تطرد هذا في أمثاله.
قال الإمام رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة (والجواب أن نقول: سبحان من طبع على قلوب أعدائه) وهذا تنبيه من الله جل وعلا في مسألة عظيمة وهي مسألة القدر؛ لأنهم طبع على قلوبهم فلا يفقهون إلا قليلا، (فإن الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه لا ننكرها)، تستدلون بشيء ليس هو في المسألة التي فيها البحث، المسألة التي فيها البحث الاستغاثة بالأموات، الاستغاثة بمن لا يقدر، وأنتم تستدلون بدليل ليس في محل الدعوى فلا شك أن هذا باطل عند جميع العقلاء استدلال في بدليل ليس بمحل الدعوى استدلال باطل، فإن الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه لا ننكرها، وتلحظ هنا قوله فيما يقدر عليه، وفي آخرها قال (في الأشياء التي لا يقدر عليها إلا الله)، وبين العبارتين فرق، هنا (فيما يقدر عليه) وهناك (فيما لا يقدر عليه إلا الله).
والجواب عن هذا الإيراد أن ضابط الاستغاثة كما ذكره في أول الكلام أن الاستغاثة بالمخلوق جائزة فيما يقدر عليه، والاستغاثة الشركية وأن يسنغيث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه المخلوق أو فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ لأن بين العبارتين فرقا، هو لا يقدر ولكن الآخر يقدر قد لا يقدر هو ولكن الآخر يقدر، وهذه من حيث الاستغاثة بغير الله جل وعلا مما لا يقدر عليه ذلك الغير يحتاج إلى تفصيل، وقد ذكرنا شيئا من تفصيلها في شرح كتاب التوحيد كما هو موجود في شروح كتاب التوحيد.
وخلاصة الأمر أن الضابط الأيسر أن تقول فيما لا يقدر عليه إلا الله، وأما فيما يقدر عليه المخلوق بأنه جائز، وفيما لا يقدر عليه المخلوق لأنه شرك هذه تحتاج إلى ضوابط.
فمثال ذلك لو استغاث بمهندس للعمارة فيما يتعلق بأمر طبي، هو لا يقدر على ذلك، صحيح؟ إنما يقدر عليه الطبيب لكن هنا الاستغاثة لا نقول إنها شرك أكبر لأن هذا جنسه وليست القدرة على ما يقدر عليه الطبيب بخصوصه بل القدر متنوعة، يأخذه ويذهب به إلى طبيب يكون معه إلى آخر الأنواع ولهذا بعض أهل العلم يعبر بقوله إن الاستغاثة بالميت فيما لا يقدر عليه أو الاستغاثة بالغائب فيما لا يقدر عليه إنها شرك أكبر، وهذه لا تنضبط عند أكثر الناس فهي صحيحة لكن تحتاج إلى عالم يضبطها لأن المسائل متشابهة فالذي يضبط المسألة هو قول الشيخ بآخر الكلام أو بغيبته في الأشياء التي لا يقدر عليها إلا الله؛ يعني إذا طلب من المخلوق الميت أو الغائب شيء لا يقدر عليه إلا الله فإنه يكون شركا أكبر أما فيما يقدر عليه المخلوق لكن هذا المخلوق المعين لا يقدر عليه، قد تكون وقعت شبهة عند المستغيث وحال الاستغاثة يكون هناك ضعف، وقد يكون هناك ظن أن هذا يقدر أن يضيف إلى آخر مات يتصل بهذا مما ذكرنا شرحه.
المقصود من هذا أن الضابط الأخير الذي ذكره الشيخ في الأشياء التي لا يقدر عليها إلا الله هذا ضابط صحيح كما ذكره الشيخ في الحكم بالشرك والأول في الحكم بالجواز، لهذا الشيخ نوّع العبارة فقال الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه جائز، والاستغاثة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك أكبر.
وهذا ضابط صحيح وهو أحسن من أن نقول في المقامين فيما يقدر عليه المخلوق أو فيما لا يقدر عليه بما يحصل معه من الاشتباه.
قال رحمه الله (وكما يستغيث الإنسان بأصحابه في الحرب وغيرها من الأشياء التي يقدر عليها المخلوق ونحن أنكرنا استغاثة العبادة التي يفعلونها عند قبور الأولياء أو في غيبتهم) استغاثة العبادة يعني طلب الغوث من الغائبين مع اعتقاد أن لهم تدبيرا في غيبتهم هذه استغاثة العبادة، ويكون معها رجاء وخوف، أو رجاء ومحبة أو خوف ومحبة أو الثلاثة معا.
فإذن الاستغاثة منها ما هو عبادة ومنها ما ليس بعبادة، وما أنكرناه هو استغاثة العبادة، وهو أن يستغيث بغائب إما ميت أو حي غائب فيما يقدر عليه إلا الله جل وعلا يستغيث به في شفاء مرضه، يستغيث به في أن يخلص من المدلهمات التي أصابته، في كشف الكربات في إزالة المصائب التي أصابته، في مغفرة الذنب في إتيانه الولد في تأمينه مما يخاف إلى آخر ذلك.
قال (إذا ثبت ذلك) يعني الجواب الأول الذي ذكره الشيخ وجه الاستدلال لصالحهم، قال هذا الدليل لنا وليس علينا ثم قال (إذا ثبت ذلك فاستغاثتهم بالأنبياء يوم القيامة يريدون منهم أن يدعوا الله أن يحاسب الله حتى يستريح أهل الجنة من كرب الموقف وهذا جائز في الدنيا والآخرة) جوازه في الدنيا لأنه يجوز أن تطلب من أحد في الدنيا أن يدعو لك؛ لأنه يقدر على هذا الشيء، كذلك في الآخرة يجوز أن تطلب أن يدعو لك لأنه يقدر على ذلك وهاتان حياتان، والكلام في الموت، الكلام في الموت أو حين الغيبة هو محل النزاع قال (أن تأتي عند رجل صالح حي يجالسك ويسمع كلامك وتقول له: ادع الله لي، كما كان أصحاب رسول الله ﷺ يسألونه ذلك في حياته، وأما بعد موته فحاشا وكلا أنهم سألوه ذلك عند قبره) يعني أن الصحابة لم يرد عنهم شيئا البتة وحاشاهم وكلا أنهم أتوا قبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاستغاثوا به، أو أتوا قبره فاستشفوا به طلبوا منه الدعاء فهذا لم يكن يفعله الصحابة رضوان الله عليهم بعد موته البتة، قال (بل أنكر السَّلف على من قصد دعاء الله عند قبره، فكيف بدعائه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ نفسِه) يعني السلف كما في قضية علي بن الحسين وعدة حوادث في هذا عن السلف أنهم أنكروا من يأتي إلى القبر للدعاء، وإنما من دخل المسجد أن من أتى من سفر كما كان يفعل ابن عمر رضي الله عنهما وغيره يأتي فيسلم عن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ سلاما، أما أن يتخذ القبر للدعاء يعني ما حول القبر أو أنه يدعى النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ نفسه هذا لم يكن عند السلف؛ بل بعضهم غلط ودعا الله جل وعلا وحده عند القبر فأنكر عليه بعض السلف كما ذكرت لك، إذا أنكروا على من قصد القبر لدعاء الله جل وعلا فكيف لا يُنكرون من قصد القبر لدعاء المقبور نفسه، لا شك أن هذا أولى بالإنكار.
المقصود من هذا أن الشبهة هذه ليست بمستقيمة؛ بل هي داحضة كما هي شبه أهل الشرك، ولله الحمد أهل السنة وأهل التوحيد ليس لهم غرض في هذا الأمر، لم يأتوه عن هوى لم يأتوه عن شهوة وإنما أتوه تطبيقا لما جاء في الكتاب والسنة ورعاية لما ورد وإقامة لحق الله جل وعلا فلو أجاز الله جل وعلا ذلك لاتبعناه كما قال سبحانه ﴿قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ﴾[الزخرف:81]، لو أجاز الرب جل وعلا ذلك لاتبعناه ولكن لا دليل البتة يجيز هذا لأن هذا هو الشرك الأكبر وهذا عند أهل التوحيد وظهور ولهذا قال في القصة المعروفة أن رجلا حاج عن أهل الشرك ما هم عليه من الشرك فقالوا له انتم تقولون هذا لأجل أن محمد بن عبد الوهاب قال تعصبا له فقال هذا الموحد كلمة التوحيد خالصة نتيجة عن بينة لا عن تقليد، قال: لو قام محمد بن عبد الوهاب من قبره فقال ما قلت لكم غلط ما اتبعناه. لم؟ لأنهم أخذوه بالحجة ليس بالحجة من قول محمد بن عبد الوهاب إنما بالحجة من قول الله جل وعلا وقول رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإجماع سلف الأمة، والإمام محمد بن عبد الوهاب إمام مصلح مجدد دل الناس على معاني النصوص، وهذه وظيفة أهل العلم أهل العلم الراسخون منهم يؤخذ قولهم؛ لأنهم دلوا الناس على نعاني النصوص، وفي فقههم للنصوص وفهمهم لها قالوا هذا معنى الآية، وهذا ما دل عليه القرآن وهذا ما دلت عليه السنة، أو تارة يجتهدون ويذكرون من القواعد ما يكون في نفوسهم من دلالات النصوص، فيفهمون من الشريعة بمجموع أدلتها وبروح الشريعة أن الشريعة أتت بكذا، فيقولون هذا ويقبل كلامهم لأنهم هم الفقهاء بالكتاب والسنة، والإمام المصلح رحمه الله إنما قال للأمة معنى الآيات كذا، ومعنى الأحاديث كذا، ودلت على هذا.
فإذن هو ناقل للكتاب والسنة وموضح لمعناهما لما آتاهما الله جل وعلا من متابعة السلف الصالح ومن الرسوخ في العلم وفهم الأدلة.
فإذن ليست المسألة عن تقليد، وإنما هي عن وضوح حجة ووضوح برهان، ولله الحمد والمنة.
¹
[المتن]
ولهم شبهة أخرى: وهي قصة إبراهيم عليه السّلام لما ألقي في النّار اعترض له جبريل في الهواء فقال له ألك حاجة؟ فقال إبراهيم: أما إليك فلا(1) فقالوا: فلو كانت الاستغاثة بجبريل شركًا لم يعرضها على إبراهيم.
فالجواب: أن هذا من جنس الشبهة الأولى، فإن جبريل عرض عليه أن ينفعه بأمر يقدر عليه فإنه كما قال الله تعالى فيه: ﴿شَدِيدُ الْقُوَى﴾[النجم:5]، فلو أذن الله له أن يأخذ نار إبراهيم وما حولها من الأرض والجبال ويلقيها في المشرق أو المغرب لفعل، ولو أمره أن يضع إبراهيم [عليه السلام] في مكان بعيد عنهم لفعل، ولو أمره أن يرفعه إلى السماء لفعل. وهذا كرجل غني له مال كثير يرى رجلاً محتاجًا فيعرض عليه أن يُقرضه أو أن يهب له شيئًا يقضي به حاجته فيأبى ذلك الرجل المحتاج أن يأخذ ويصبر حتى يأتيه الله برزق لا منّة فيه لأحد، فأين هذا من استغاثة العبادة والشرك لو كانوا يفقهون؟
[الشرح]
هذه الشبهة أضعف من الشبهة الأولى ولكن المشرك والعياذ بالله يتشبث بخيط العنكبوت للإبقاء على ما هو عليه، قصة إبراهيم هذه ذكرها بعض المفسرين وأن جبريل عليه السلام اعترض له في الهواء لما ألقي في الهواء فقال له يا إبراهيم ألك حاجة؟ فقال إبراهيم عليه السلام وهو إمام الحنفاء، قال: أما إليك فلا؟ قالوا لو كانت الاستغاثة شركا لم يعرضها على إبراهيم، وكما ترى ان الاستدلال ليس في محل الدعوى والدليل ليس في محل الدعوى، فالكلام في الاستغاثة بالأموات، وأما الاستغاثة في أصلها كما قلنا دلت الأدلة على جوازها بشروطها، وأما الاستغاثة التي نتكلم فيها الاستغاثة بالغائبين الاستغاثة بالأموات، ولهذا لو قال قائل لهم، إذا قلتم تقولون ذلك فهل يجيز أحد منكم أن يستغيث بإنسان اليوم، مجمع على حياته بين المسلمين وهو عيسى عليه السلام رسول من أولي العزم من الرسل، فهل تجيزون الاستغاثة والطلب من عيسى عليه السلام، وهو حي في السماء رفعه الله جل وعلا إليه، ولا قائل بين المسلمين البتة أنه تجوز الاستغاثة والطلب من عيسى عليه السلام إنما كلامهم في الأولياء المقبورين.
لهذا نقول هذه الشبهة لأنه عرض جبريل على إبراهيم هذه لنا وليست علينا؛ لأن جبريل عليه السلام قوي بل شديد القوى فقد أتى النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وقال له: يا محمد لو شئت لأطبقت على أهل مكة الأخشبين، فقال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وهو الرؤوف الرحيم «لا لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله» عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فجبريل عليه السلام يخلص إبراهيم من النار هذا امر سهل ميسور عليه وجبريل كان حاضرا عرض الإغاثة لإبراهيم، هذه بلا شك محل للدعوى لكن كما ذكرت لك المشرك يتشبث بخيط العنكبوت (فالجواب: أن هذا من جنس الشبهة الأولى فإن جبريل عليه السلام عرض عليه أن ينفعه بأمر يقدر عليه فإنه كما قال الله تعالى فيه: ﴿شَدِيدُ الْقُوَى﴾) -﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى﴾[النجم:5-6]- (فلو أذن الله له أن يأخذ نار إبراهيم وما حولها من الأرض والجبال ويلقيها في المشرق أو المغرب لفعل، ولو أمره أن يضع إبراهيم عليه السلام في مكان بعيد عنهم لفعل، ولو أمره أن يرفعه إلى السماء لفعل.) ولكن إبراهيم عليه السلام في هذا أرادها من الله جل وعلا، وهذا يدل على الأصل الذي أصلناه ودلت عليه النصوص وهو أنه من استغنى عن الخلق فهو أحمد فهو المحمود؛ لأن الأصل أن يستغنى عن الخلق لكن الناس لا تستقيم أمورهم إلا بحاجة بعضهم إلى بعض، ولهذا ثبت في صحيح مسلم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوصى عددا من أصحابه أن لا يسألوا الناس شيئا، قال: كان أحدهم يسقط سوطه وهو على دابته فلا يسأل أحدا أن يرفعه إليه فينزل ويأخذه. وذلك الكمال، والنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ كان قلما يحتاج إلى غيره، إذا كان الشيء يمكن أن يعمله بنفسه عمله بنفسه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ –يعني في الأصل- وأما غير ذلك فهو جائز لكن ليس هو الأصل يعني أن هذا الدليل الذي أوردوه وغن لم يستقم دليلا هذا لنا وليس لهم.
فقال من حيث التمثيل (هذا كرجل غني له مال كثير يرى رجلاً محتاجًا فيعرض عليه أن يقرضه أو أن يهبه شيئًا يقضي به حاجته فيأبى ذلك المحتاج أن يأخذ ويصبر إلى أن يأتيه الله برزق لا منّة فيه لأحد، فأين هذا من استغاثة العبادة والشرك لو كانوا يفقهون؟) وهذا الجواب واضح الدلالة واضح القوة، ولكن المشركون طبع الله على قلوبهم.
نكتفي بهذا القدر بقي معنا قد يكون بقي درسان أو ثلاثة.
[الأسئلة]
س1/ لم نفهم حكم الاستغاثة بمهندس بأمر طبي!!
ج/ لا، ليس شركا لأنه استغيث بغير عمله .
س2/ هل المرأة التي قالت: وامعتصماه ارتكبت شركا أكبر؟
ج/ لا، ليس ذلك من الشرك الأكبر، قد يكون إذا أرادت النداء وهي تعلم أنه لن يصل إليه وليست متوجعة قد يحصل ذلك، لكن الأصل فيها أنه ليس شركا.
كل يسألون هل هذه القصة ثابتة تحتاج إلى مراجعة.
س3/ ماذا تعني بقولك أن عيسى مجمع على حياته في السماء؟
ج/ عيسى عليه السلام ما مات وما قتل وما صلب ولكن الله جل وعلا توفاه؛ يعني استوفى له مدته الأولى في الأرض ﴿إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾[آل عمران:55]، فرفع إلى السماء حيا ووجه الشبه مكانه فتقل اليهود الشبه فصلبوا الشبه وأما عيسى عليه السلام فهو حي في السماء وينزل ونزوله من أشراط الساعة الكبرى. ينزل عليه السلام ويعيش في الأرض مدة قالوا سبع سنين ومنهم من قال أقل ومنهم من قال أكثر ثم يموت، ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه، وهو الآن عليه السلام حي في السماء، ولا قائل إنه يجوز الاستغاثة به وهو حي، ما أحد يقول هذا إلزام لهم لو قالوه، لصرحت عليهم جميع المراجع التي يرجعون إليها شرك وأن هذا يضاهي فعل النصارى.
س4/ هل الاستغاثة بعيسى عليه السلام شرك؟
ج/ نعم. بلا شك.
س5/ هل طلب الدعاء من شخص سنة؟
ج/ طلب الدعاء من الحي؛ يعني ترى من ترجو أن يجاب إما بكونه صالحا، أو لأنه يتحرى أوقات الإجابة أو أنه في سفر، أو ما أشبه ذلك من أسباب الإجابة، فتطلب منه أن يدعو لك الأولى أن لا تطلب منه، وإذا طلبت فإن السنة أن تنوي نفعه ونفعك جميعا، لا تنوي حين تطلب أنك محتاج إلى أن يدعو لك، هذا خلاف السنة، السنة أن تنوي النفع حين تطلب منه الدعاء تريد أن تنفعه يعني بأن ينوي الملك ويقول لك بالمثل وتنفع نفسك أيضا بالدعاء هذا هو التحقيق.
وعليه يحمل ما ورد من في السنن من حديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن لعمر أن يدعو له مع أن لحديث ضعيف.
وكذلك طلب الدعاء من [...].
س6/ لماذا قول المرأة وامعتصماه شرك؟
ج/ قلت أنه ليس بشرك، بمعنى أنها استغاثت بغائب ليس بموجود لأن وامعتصماه الواو هذه ليست متمحضة للنداء والاستغاثة في اللغة، تحتمل أنها للتوجع تحتمل أنها للندبة، وفي اللغة اللفظ محتمل وتدرأ الحدود بالشبهات.
بارك الله فيكم وصلى الله وسلم على نبينا محمد
¹
[المتن]
ولنختم الكلام إن شاء الله تعالى بمسألة عظيمة مهمة [جدًا] تفهم مما تقدم ولكن نفرد لها الكلام لعظم شأنها ولكثرة الغلط فيها فنقول: لا خلاف أن التوحيد لابد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلمًا، فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند كفرعون وإبليس وأمثالهما، وهذا يغلط فيه كثير من الناس، يقولون إن حق ونحن نفهم هذا ونشهد أنه الحق ولكن لا نقدر أن نفعله ولا يجوز عند أهل بلدنا إلا من وافقهم، أو غير ذلك من الأعذار ولم يدر المسكين أن غالب أئمة الكفر يعرفون الحق ولم يتركوه إلا لشيء من الأعذار كما قال تعالى ﴿اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً﴾[التوبة:9]، وغير ذلك من الآيات كقوله ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾([66]).
فإن عمل بالتوحيد عملاً ظاهرًا وهو لا يفهمه ولا يعتقده بقلبه فهو منافق وهو شر من الكافر الخالص ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾[النساء:145].
وهذه المسألة مسألة كبيرة طويلة تتبيّن لك إذا تأملتها في ألسنة النّاس، ترى من يعرف الحق ويترك العمل به لخوف نقص دُنيا أو جاه أو مداراة [لأحد].
وترى من يعمل به ظاهرًا لا باطنًا فإذا سألته عمّا يعتقد بقلبه فإذا هو لا يعرفه.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
اللهم إنا نسألك البر والتقوى ومن العمل ما ترضى.
اللهم علمنا ما ينفعنا ونفعنا بما علمتنا وزدنا علما وعملا يا أرحم الراحمين.
أما بعد : فهذه صلة لما اتفق أن بينا من مقاصد هذه الرسالة العظيمة كشف الشبهات لما أورد الإمام المجدد رحمه الله تعالى جملا من أصول الشبهات التي يوردها أعداء الدين وأعداء دعوة والتوحيد، ختم الكلام بإيراد شبهة، وهذه الشبهة راجعة إلى العمل، والشبه السابقة راجعة إلى العلم يعني بالتوحيد وببيان أنه الحق ورد ما يجادل به المشركون في صحة التوحيد وصحة اعتقاد ما دلت عليه كلمة التوحيد.
قال الإمام رحمه الله (ولنختم الكلام إن شاء الله تعالى بمسألة عظيمة مهمة جدًا) وفي قوله هنا (ولنختم الكلام إن شاء الله تعالى) فيه يعني في إيراده للاستثناء هذا إن شاء الله تنبيه لطالب العلم؛ بل ولكل مؤمن أن يستعمل هذه الكلمة فيما يريد أن يفعله من الأمور العلمية ومن الأمور العملية، واستعمال هذه الكلمة ينقسم إلى واجب مستحب ومتأكد فأما الواجب فهو إذا قرنها بتأكيد وعزم وتصميم او كان مع ذلك أو كان معها قسم في فعل شيء ما وهذا مأخوذ من قول الله جل وعلا ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾[الكهف:23-24]، فقوله هنا جل وعلا (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ) فيها النهي كما هو ظاهر، والنهي متعلق بقوله (إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا) وهذه الجملة مأكدة بإن كما هو وعلوم وأعظم من ذلك إذا أقسم على الشيء كأن يقول القائل والله لأسألن كذا وكذا فهذا يجب عليه أن يقول في ذلك إن شاء الله، والحال الثانية أن تكون متأكدة الاستحباب وذلك في غير ما ذكرنا مما يجري في عادة الكلام فيما تستقبل من أمور سأفعل كذا، وسأقوم بكذا وسأقول كذا وسأذهب ونحو ذلك هنا يسحب بتأكد أن يقول المرء إن شاء الله؛ لأنه لا يدري هل يفي أو لا يفي وتعليقه بالمشيئة إخراج له من الحول والقوة والتذلل والتبرؤ من الحول ولقوة إلى حول الله جل وعلا وقوته.
فإذن فيما يستعمل أهل العلم فيما يعدون به يأتون بهذه الكلمة إن شاء الله تعالى، والإمام رحمه الله استحضر فيما يظهر عدة أشياء حين قال (ولنختم الكلام) استحضر عدة أشياء، فخشي أن ينسى فأتى بإن شاء الله تعالى؛ لأنه بالاستقراء وجدنا كثيرا من المصنفين وعدوا في كتبهم بأنهم سيبسطون القول في مسألة في موضع آخر ولم يقولوا إن شاء الله ففاتهم في الموضع التذكر، وهذا موجود في كتب كثيرة، فيكثر في فتح الباري في مواضع عدة قال ستأتي في كتاب كذا وسيأتي بيانها في باب كذا ولم يقل إن شاء الله ففاته، مع طول مدة التأليف حيث أمضى في تأليفه أكثر من ثلاثين سنة كما هو معلوم، كذلك صاحب الروض المُرْبع في فقه الحنابلة في مواضع بل في موضع أو موضعين قال وستأتي في كذا ثم لم يأت بها.
المقصود أنّ طالب العلم حتى ولو كان بحثه قريبا فيما يكتب أو فيما سيتحدث به، فيقول إن شاء الله سنتكلم عليها إن شاء الله، حتى يوفَّق لأن كل شيء بمشيئة الله جل جلاله، قال هنا رحمه الله (ولنختم الكلام إن شاء الله تعالى بمسألة عظيمة مهمة جدًا تُفهم مما تقدم) يعني أنها لم تتقدم بنصها ولكن بمفهومها فما تقدم يفهم منه هذا التقرير والمفهوم لا يتفطن له كل أحد؛ بل الناس يختلفون في التنبه لباطن الكلام ولجِماعه وإشارته ودلالاته اللازمة، ولهذا أورد هنا ما يفهم لكن التصريح والإيضاح لشدة أهمية ذلك، قال (ولكن نُفْرد لها الكلام لعظم شأنها ولكثرة الغلط فيها) لعظم شأنها لأنها تفرق بين المؤمن والمنافق -كما سيأتي إن شاء الله- ولكثرة الغلط فيها؛ لأن الذين زعموا أنهم من أهل التوحيد وأنهم أقروا به في زمن الشيخ رحمه الله غلطوا في ذلك وظنوا أن الإقرار بالتوحيد يكفي، هل أن يتركوا الشرك فقالوا نعم هذا الذي قال محمد بن عبد الوهاب حق وهذه دلالات النصوص صحيحة؛ ولكنهم لم يتركوا الشرك هملا ولم يتبرؤوا منه عملا مداراة لقولهم أو خوفا على مال أو جاه أو ما أشبه ذلك.
ولهذا قال (ولكثرة الغلط فيها) يعني في زمانه وفي كل زمان يشبه زمانه (فنقول: لا خلاف أن التوحيد لابد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلمًا)، قوله (لا خلاف) يعني عند أهل السنة والجماعة لأن أهل السنة والجماعة عندهم الإيمان ثلاثة أشياء مسماه يقع على ثلاثة أشياء الاعتقاد الباطل والقول باللسان والعمل بالأركان، فالإيمان عندنا هو:
· اعتقاد بالجنان وهذه هي النون الأولى.
· والقول باللسان وهذه هي النون الثانية.
· والعمل بالأركان.
والإيمان أركانه ستة وأعظمها وأولها الإيمان بالله.
والإيمان بالله منقسم إلى ثلاثة أقسام:
· إيمان بتوحيد الله في ربوبيته.
· وإيمان بتوحيد الله في إليهته.
· وإيمان بتوحيد الله في أسمائه وصفاته.
فإن أقر بقلبه بتوحيد الربوبية والألوهية ونطق بلسانه بتوحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات؛ لكنه لم يعمل بتوحيد الألوهية فلا خلاف أنه فقد ركنا من أركان الإيمان، لم يعمل بالإيمان بالله؛ لأن الإيمان بالله فيه توحيد الله بالعبادة فإذا أشرك مع الله جل وعلا إلها آخر فإنه لا خلاف كما ذكر الإمام رحمه الله أنه لم يَصِر مسلما بإيمانه بكل الأركان إذا فقد العمل بتوحيد الإلهية، ولهذا قال فإن اختل شيء من هذا؛ يعني من هذه الثلاثة مجتمعة، أن يكون بالقلب والمقصود به قول القلب وهو اعتقاده.
وقولنا قول القلب هذا مسماها بعض السلف سمّى الإخلاص والاعتقاد قول القلب، وهذه تسمية اصطلاحية وإلا فإن القول لا يُنسب للقلب لفظا، وإنما قيل قول القلب للتقسيم ما بين العمل والقول، فالقول قسيم العمل، ولما كان للقلب عمل بالاتفاق سموا ما ليس من عمل القلب قول القلب، لاكتمال التقسيم، ولهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول في مواضع عن الإخلاص والاعتقاد يقول هو الذي يسميه بعضهم قول القلب، وهذا ظاهر المقصود أن قول الشيخ رحمه الله (لابد أن يكون بالقلب) يعني الإيمان يكون بالقلب الذي هو الإقرار بتوحيد الله جل وعلا والعلم بذلك وإخلاص الدين لله جل وعلا إخلاص الإقرار يعني أن لا يكون مقرا كحال المنافقين؛ بل أن يكون في اعتقاده مخلصا، أو كحال المستكبرين وما أشبه ذلك، واللسان يعني أن يشهد فيما دل عليه الإيمان، والشهادة عند السلف فيما فسروا به موالد الشهادة في القرآن كقوله شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولي العزم قائما بالقسط وكقوله إلا من شهد بالحق وهم يعلمون وأشباه ذلك، ففسروا الشهادة بأنها اعتقاد ونطق وإعلام وإخبار، فالشهادة ليست هي القول وحده وليست هي الاعتقاد وحده؛ بل لابد أن يعتقد وأن يقول وأن يُعلم غيره بذلك إلا إذا كان ثم ما يرخص به في كتمان الإيمان في مواضع، فالشهادة تضم هذا، ولهذا صار قول اللسان هذا جزء من الإيمان، هناك اعتقاد بالجنان وقول باللسان والعمل بالأركان يعني بما دل عليه.
إذا تقرر هذا فمن المتقرر أيضا عند أهل السنة والجماعة بلا اختلاف بينهم أن الإيمان لا يصح من أحد إلا بقدر يصحح هذا الإيمان من الإسلام وكذلك من المتقرر عندهم باتفاق أن الإسلام لا يصح من أحد -يعني الأعمال العمل بالأركان الأربعة العملية وغير ذلك- إلا بقدر من الإيمان هو القدر المجزئ هذا القدر المجزئ من الإيمان الذي به يصح الإسلام هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله على القدر المجزئ، وإيضاح ذلك له موضعه وأوضحنا مرارا يعني القدر([67]) المجزئ في الإيمان بالله، القدر المجزئ في الإيمان بالرسل، القدر المجزئ في الإيمان بالرسل إلى آخر ذلك، فلا يصح إسلام حتى يأتي بقدر مجزئ من الإيمان به يسمى مسلما فلا يتصور أن يكون ثم مسلم ليس معه إيمان البتة أو ثم مؤمن ليس معه إسلام البتة؛ بل لابد في الإسلام من إيمان يصحح ذلك الإسلام ولابد في الإسلام من إيمان يصحح \لك الإسلام ولابد في الإيمان من إسلام يصحح ذلك الإيمان يعني قدرا مجزئا.
إذا تقرر هذا بلا خلاف تنبهت لدقة المصنف رحمه الله إذ قال (فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلمًا) ولم يقل مؤمنا، لم يقل مؤمنا لسببين:
الأول أنه لو نفى الإيمان قد يتوهم أنه يثبت الدرجة التي هي اقل منه وهي الإسلام، وهذا غير مراد فنفى الأقل حتى لا يتوهم المعنى الباطل.
السبب الثاني هي الإسلام لأنه أتى بعبادات ولكن لم يأتِ بالإيمان المصحح لها، فنفي عنه الإسلام لأنه وإن كان أتى بظاهر الإسلام لكن لم يأتِ بالتوحيد الذي دلت عليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ففيه الركن الأول من الإسلام، وكذلك لم يحقق الإيمان الذي هو بالقلب واللسان والعمل.
إذا تبين لك ذلك ففصل بعد ذلك الإمام عليه رحمة الله تعالى بقوله (فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند كفرعون وإبليس وأمثالهما) وتقرير هذا أن الكفر عندنا -يعني عند أهل السنة والجماعة- الكفر يكون إخراجا مما ضده الذي هو الإيمان فالإيمان إذا كان فيه اعتقاد وقول وعمل، فضده الكفر يكون باعتقاد يضاد الاعتقاد، وبقول يضاد القول، وبعمل يضاد العمل، ولهذا مورد الكفر يكون بالاعتقاد، ويكون بالقول، ويكون بالعمل؛ لأن الكفر ضد الإيمان، ويتصور أن يكون المرء يعتقد اعتقادا حقا؛ لكن لا يعمل، فليس إذن داخلا في الإيمان، فهؤلاء هم المستكبرون والاستكبار أحد نوعي الكفر؛ لأن الذين كفروا على قسمين منهم من كفر بعد علم هؤلاء هم المستكبرون إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين وقال جل وعلا في فرعون ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾[النمل:14]، وقال جل وعلا أيضا عن فرعون في آخر سور الاسراء في قِيلِ موسى عليه السلام ﴿قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا﴾[الإسراء:102]، (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ) فعلمه حاصل بذلك فإذن حين كفر لم يكفر عن جهل وإنما عن إباء واستكبار وكذلك أبو جهل وكذلك صناديد قريش سمعوا القرآن وعلموا حجته لكن صدهم عن ذلك الإيباء والاستكبار ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾[الزخرف:31].
والقسم الثاني مما يكون به الكفر الإعراض، والإعراض قد يكون إعراضا بعد علم، وقد يكون إعراضا عن العلم، قال جل وعلا ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ﴾[الأنبياء:24]، هذا في الإعراض الذي هو إعراض عن العلم، كذلك إعراض بعد علم كما في آيات أُخر.
فإذن العلم بالاتفاق لا يكفي في صحة الدين، حتى يعمل بما دل عليه العلم، علم التوحيد فلم يعمل به هذا مستكبر، علم الحق الذي هو الإيمان بالأركان فلم يعمل بما دل على ذلك فهو مستكبر.
لم يعلم أصلا مع تمكنه من العلم؛ ولكن أعرض فهذا معرض، فإذا أعرض عن التوحيد مع التمكن فهذا معرض وهو غير عامل بالتوحيد وغير معتقد له، فلا يكون مؤمنا، لابد من اجتماع الإيمان بحدوده؛ يعني الإيمان الذي هو في القلب وهو الاعتقاد وقول اللسان وعمل الأركان.
قال (فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند) وتعبيره هنا رحمه الله بقوله (فإن عرف التوحيد ولم يعمل به) فيه إشارة إلى أن معرفة التوحيد لمن لم يعمل به أنسب من أن يقال (علم التوحيد)؛ لأن المعرفة في القرآن أكثر ما جاءت على سبيل الذم، كما في قوله جل وعلا ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا﴾[النحل:83]، ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾([68]) ونحو ذلك من الآيات فمن رد الحق نقول عرفه ورده، وإن قلنا علمه ورده فلا بأس كما قال جل وعلا ﴿قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ﴾[الإسراء:102].
قال رحمه الله (وهذا يغلط فيه كثير من الناس، يقولون إن حق، ونحن نفهم هذا، ونشهد أنه الحق؛ ولكن لا نقدر أن نفعله، ولا يجوز عند أهل بلدنا إلا من وافقهم) يعني أن هذا الأمر هو ما عليه كثير من الناس يقولون هذا حق ونحن نفهم هذا الشيء الذي هو دلالة التوحيد وأن الله جل وعلا هو المستحق للعبادة وحده دونما سواه، وأن صرف العبادة لغير الله بأنواعها من الدعاء والاستغاثة والاستعانة وأنواع الطلب والذبح والنذر والرجاء والخوف ورجاء العبادة وخوف السر ومحبة العبادة وأشباه ذلك، نعلم أنها حق لله جل وعلا؛ لكن لو لم نفعل ما يوافق أهل البلد ما تمكنا من الحياة، فلابد أن نوافقهم في الشرك، ففعلوا الشرك مع علمهم بالتوحيد، وهذا لا ينجيهم لأنهم علموا فلم يعملوا بالتوحيد، فمن علم بالتوحيد، علم حق اله جل وعلا في توحيده ولم يعمل به هذا كافر، مثل ما ذكر الإمام قال (فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند) يعني مستكبرا.
(ولا يجوز عند أهل بلدنا إلا من وافقهم) يعني ما يمشي عند أهل البلد الذين نسكن فيهم ونسكن معهم ما يمشي فيهم إلا الذي يوافقهم، لو عاندناهم وخالفناهم لثارت علينا مصائب، (أو غير ذلك من الأعذار. ولم يدر المسكين) وحقا هو مسكين؛ بل هو أكثر المساكين في عقله وفي عدم معرفته بمصلحته وما يؤول إليه أمره، قال (ولم يدر المسكين أن غالب أئمة الكفر يعرفون الحق) الأكثر في الناس في أئمة الكفر المعرفة والعلم بالحق؛ لكن تركوه إيباء واستكبارا، لم يتركوه عن شبهة قائمة، لم يتركوه عن عدم علم به أو إعراض عنه، إنما هم تركوه بعد العلم به بعد المعرفة به، قال (ولم يدر المسكين أن غالب أئمة الكفر يعرفون الحق)، ولاحظ استعمال كلمة (يعرفون) مرة أخرى، قال (ولم يتركوه إلا لشيء من الأعذار) لهم عذرهم، الأعذار تختلف:
فهذا عذره أن يوافق أهل البلد.
وهذا عذره أن يعيش.
وهذا عذره أن يأكل هو وأولاده.
وهذا عذره كذا وهذا عذره كذا.
وإذا كان الله جل وعلا لم يعذر طائفة من أهل الإسلام في مساكنة المشركين وعدم الهجرة مع أنهم لم يعملوا الشرك ولم يوافقوا أهل الشرك في الشرك، فأنزل الله جل وعلا فيهم قوله العظيم ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا﴾[النساء:97]، مع أن هؤلاء ليسوا مشركين؛ ولكنهم تركوا الهجرة مع القدرة على الهجرة وعدم القدرة على إظهار الدين، يقدرون على الهجرة لأن الله استثنى المستضعفين جل جلاله، ولم يقدروا أن يظهروا الدين وإنما تعبدوا بالتوحيد وسكتوا ولم يهاجروا، في أرضٍ لم يستطيعوا أن يظهروا فيها التوحيد، فتوعدهم الله جل وعلا بقوله (فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا) فكيف بمن مكث في بلد لا يستطيع فيها أن يظهر الدين وأعظم من ذلك أنه يعمل بالشرك والكفر موافقة لأهل البلد من غيره والله جل وعلا قال في سورة النحل ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ﴾[النحل:106] الآية فاستثنى المكره، وأما هؤلاء الذين وصفهم الشيخ رحمهم الله فكل واحد يعتذر بعذر، فكذلك أئمة الكفر كل واحد له عذر هذا عذره جاهه وهذا عذره ماله، وهذا عذره أنه يشتري بآيات الله ثمننا قليلا يعني يبيع فيها ويشتري، وهذا عذره وهذا عذره والكل يجتمعون في أنهم علموا وعرفوا الحق ولكنهم سألوا وعلموا الشرك ولم يعملوا التوحيد، قال (كما قال تعالى ﴿اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً﴾[التوبة:9]، وغير ذلك من الآيات كقوله: ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾([69])).
ثم قال (فإن عمل بالتوحيد عملاً ظاهرًا وهو لا يفهمه ولا يعتقده بقلبه فهو منافق) لأن الإيمان كما ذكرنا بتوحيد الإلهية ثلاثة أقسام لابد منها مجتمعة اعتقاد بالقلب وقول باللسان وعمل بالأركان، فإن هو عمل بالتوحيد عملا ظاهرا موافق للناس؛ لكنه لا يعتقد ذلك بقلبه لا يعتقد أن هذا حق وأن ما عليه أهل الشرك هو الباطل، لا يعرف الطاغوت ولم يكفر به؛ يعني لم يتبرأ من عبادة غير الله جل وعلا، فهذا حاله كحال المنافقين؛ لأنه أحسن الظاهر وفي الباطن لم يقم شرط الباطن وهو العلم، المنافق في الباطن مخالف ففاته شرط الاعتقاد؛ لأنه اعتقد اعتقادا مخالفا، وهذا الذي عمل بالتوحيد عملا ظاهرا ولا يفهمه في الباطن ولا يعتقده، هذا فاته أن يكون في الباطن معتقدا للحق أصلا، لم يعتقد خلافه لكنه لم يعتقد الحق وإنما يفعله كما يفعله أهل بلده، فهذا منافق أيضا، قال (وهو شر من الكافر الخالص: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾[النساء:145].) لأن حاله حال أهل النفاق عمل شيئا بلا قصد، عمل شيئا بحركة آلة دون اعتقاد، وهذا في هذه الأزمنة نادر؛ لأن الذي يعمل للتوحيد مع وجود الشرك وأهله فهو قاصد للعمل للتوحيد.
قال (وهذه المسألة مسألة كبيرة طويلة تتبيّن لك إذا تأملتها في ألسنة النّاس، ترى من يعرف الحق ويترك العمل به لخوف نقص دُنيا) يخاف أن تنقص دنياه، لا أن يصير فقيرا؛ بل حتى نقص الدنيا يوافق أهل الشرك على شركهم ويتعبد معهم بالشرك لأجل ألا تنقص دنياه، مثل ما حصل لأمير العيينة في وقت الشيخ لما قال له والي الأحساء أو أمير الأحساء أنك إذا وافقت الشيخ على ما هو عليه وأقمته عندك سوف أقطع عنك الخراج، قال للشيخ: أنا ما أقدر أن يقطع عني الخراج كيف يعيش أهل البلد. وأوصاه بقتله فأخرجه من البلد وبعث خلفه بأحد العبيد ليقتله، هذا لخوف نقص دنيا، يخاف أن تنقص دنياه أو جاه يخاف أن لا يكون معظما من كل الناس ينقسم عليه الناس، ناس يرضون وناس لا يرضون، هذا فيعمل بالشرك والكفر لكي يرضي طائفة من الناس، وهو يعلم الحق ولكن يريد بفعله الكفر والشرك أن يرضي طائفة، فهذا أيضا لم يعمل بالتوحيد وإنما علم وترك، أو مداراة لأحد؛ يعني مجاملة، جامل شيخه، جامل أمير بلده، جامل رئيس البلد إلى آخره، كما يحصل عند طوائف من الصوفية بعض مريديهم يدركون الحق لكن يجاملون مشايخهم فيما هم عليه من الضلالات الكفرية بالله.
قال رحمه الله بعد ذلك (وترى من يعمل به ظاهرًا لا باطنًا) هذا قسم ثاني من الناس (ترى من يعمل به ظاهرا لا باطنا فإذا سألته عما يعتقده وبقلبه فإذا هو لا يعرفه) يعني وقع منه هذا الشيء اتفاقا يعم بالتوحيد ما أحب هذه الأشياء وما أحب هذه الخرافات؛ يعني ما أحب هذه الأشياء تعتقد التوحيد تعتقد بطلان الشرك؟ فيقول لا، ما أدري، هؤلاء عقولهم ناقصة سميا باللي يسميها، فهو يعمل بالتوحيد لكن لا يعتقد أن التوحيد هو الحق، وأن غيره باطل، لا يتبرأ من الكفر، لا يتبرأ من الطاغوت، لا يكفر بالطاغوت، وهذا فاته شرط لصحة التوحيد وهو الكفر بالطاغوت وهو اعتقاد أن عبادة غير الله جل وعلا باطلة، وأنها شرك؛ لابد أن يعتقد أن عبادة غير الله شرك، فإذا عمل بالتوحيد ظاهرا وهو لا يعتقد أن عبادة غيره شرك، فإن هذا كما ذكر الشيخ منافق، أو له أحكام المنافقين لأنه لم يعتقد بقلبه أن عمله هذا الذي هو التوحيد عمل واجب.
ثم قال رحمه الله (ولكن عليك بفهم آيتين من كتاب الله تعالى) وهذا نتركه للمرة القادمة.
ونُذكّر أننا إن شاء الله تعالى نختم هذا الكتاب العظيم كشف الشبهات في الدرس القادم بإذنه تعالى وتوفيقه ومنّه، ثم بعده نبتدئ في شرح متن الطحاوية كما رغب ذلك عدد من الإخوة، وسيكون الشرح للمتن بطريقة ربما مخالفة لما عليه الشرح المعروف -شرح ابن أبي العز الحنفي- لأن الطحاوية فيها مسائل ليست في كتاب العقيدة الأخرى التي شرحناها، فنحتاج فيها إلى بسط الكلام تأصيلا وترتيب المسائل بما ينفع المبتدئ والمتوسط والذي سار معنا من زمان.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والهدى والسداد وصلى الله وسلم وبارك وعلى نبينا محمد
[الأسئلة] أجيب عن بعض الأسئلة.
س1/ ما رأي فضيلتكم في رجل يداهن قومه الذين هم على مذهب مخالف لمذهب أهل السنة قد يحتج بحجة تأليف قلوبهم للدعوة أرجو النصيحة وما هي الحلول؟
ج/ أولا كلمة رجل يداهن قومه، ينبغي أن نفهم معنى المداهنة؛ لأن هناك مداراة هذه مشروعة، وهناك مداهنة والمداهنة لا تجوز؛ لأن الله جل وعلا قال لنا ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾[القلم:9]، فمداهنة أهل الكفر والبدع والمعاصي محرمة.
والمداهنة معناها أن توافقهم على ما هم عليه من الباطل، تقر بالموافقة، أو أن تَدخل معهم في عملهم، فإذا كانت على هذا الوصف فهي مداهنة محرمة؛ لأن الموافقة هذه باطلة، والعمل أيضا باطل، ولا يكون هذا وهذا من مؤمن يعني العمل بالكفر، ولا أن يقول الكفر حق يوافقهم على الكفر، كما جاءوا للنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فقالوا له: تعبد إلهنا سنة ونعبد إلهك سنة. نوحّد فترة ونشرك فترة. هذا المداهنة.
أقر بالبدع، احضر معنا الموالد احضر معنا الذبح عند القبور، ونحن ندخل معك في برامجك الإصلاحية، وفي برامجك السياسية الإصلاحية السلفية أو غيرها إلى آخره، فهذه المداهنة محرمة وقد تكون كفرا شركا إذا فعل شركا، أو أقر بكفر وشرك ووافق عليه، وقد تكون معصية محرمة بحسب ذلك.
المسألة الثانية أو اللفظ الثاني المداراة، المداراة مأخوذة من لفظها دارى يداري مداراة؛ يعني لم ينكر لأجل مصلحة تتحقق له لكن لم يوافق ولم يعمل فعندنا إذن ثلاثة أشياء عدم الإنكار فقط؛ يعني لم ينكر فقط، ولكن في قلبه بطلان ما هم عليه، والبراءة مما هم عليه وهم، وهذا لا بأس به إذا كان في مقدور مصلحة شرعية، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمره ربه جل وعلا بأن لا يسب هو والمؤمنون الآلهة التي تعبد من دون الله فقال جل وعلا ﴿وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾[الأنعام:108]، وقال جل وعلا في آية آل عمران ﴿لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً﴾[آل عمران:28]، وهي المداراة، والنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ دخل عليه رجل فبش في وجهه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وأكرمه، ثم لما دخل إلى عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قال «بئس أخو العشيرة» فقالت: يا رسول الله رأيتك معه كيت وكيت. قال «يا عائشة إن شر لرجال أو شر الناس من اتقاه الناس مخافة شره أو اتقاء سخطه» أو نحو ذلك، أو اتقاء لسانه.
فإذن هذه مداراة المداراة أن تسكت عن شيء لأجل ما هو أصلح لك منه، وهذا يدخل ضمن القواعد الشرعية أن القاعدة الشرعية المعروفة أنه تفوت أدنى المصلحتين لتحقيق المصلحة العليا وتعمل أدنى المفسدتين لدرأ المفسدة الكبرى وهذا شيء معلوم باتفاق أهل الشريعة .
فإنه إن داراهم بمعنى لم ينكر عليهم في البداية مثل ما فعل الإمام المصلح محمد عبد الوهاب يأتي إلى قبة زيد بن الخطاب ما يقول لهم هذا شرك بل يقول الله خير من زيد هذه مداراة حتى يصل معهم إلى ما هو الحق.
وهذا لاشك أنه من الحكمة ومن النظر الصائب.
س2/ ما حكم ذبح الذبائح عند نزول المنزل الجديد؟
ج/ هذا معروف هذه إن كانت لإكرام الناس وجمعهم بمناسبة سكنى البيت لا بأس، وهذه المعروفة عندنا هنا وفي غيرها وهي للإكرام ولجمع الناس بمناسبة دخول مناسبة سكنى المنزل وشكرا لله جل وعلا على ما جدد من نعمة، وهذا أمر حسن ومرغب فيه.
والشرك يكون أنه إذا نزل المنزل ذبح الذبائح عند أعتاب الأبواب يعني يأتي بكبش يأتي بخروف ويذبحه يسيل دمه عند عتبة الباب هذا اعتقاد شركي لأنه ذبح لاتقاء العين، ذبح لاتقاء الجن لاتقاء الضر فيكون ذبحا.... ([70])
س3/ أحد الإخوة مصاب بمرض وذهب إلى طبيب وعمل له عملية بدون آلات الطب بل إنه بأحد أصابعه يفتح اللحم والجلد ويخرج منه وأوضحت له أن هذا قد يكون ساحرا إذا كان هذا عمله أرجو بسيط الكلام منكم على الموضوع.
ج/ هذا ينبني على تصور كيف عمل هذا الشيء يعني صورة هذه المسألة ووش الذي حصل بالضبط؟ ما أدري، إذا كان يفتح الجلد بدون سبب الفتح المعتاد المعروف ند الناس فهذا لاشك أن يكون ساحرا أو كاهنا؛ لأن الفتح فتح الجلد وشق الجلد لإخراج ما هو داخل البدن هذا لا يكون إلا بالأسباب المعروفة بالمشرط والسكين إلى آخره وأن يكون يفتح بلا سبب ظاهر هذا الأصل فيه أن يكون عنده إما سحر أو كهانة لكن لا نحكم قولا واحدا حتى نتصور المسألة وما هو عليه.
لكن النهي عن مثل هذا هو الأولى والحمد لله في الأسباب الشرعية ما يغني عن ذلك.
س4/ ذكرت في أول الدرس أن هذه الشبهة راجعة إلى العمل والشبهة السابقة راجعة إلى العلم؟
ج/ لأن الشبه التي ذكرت من أول الكتاب إلى آخره هي في التوحيد هل هذا هو التوسل هل هذه هي العبادة هذا ليس داخل في العبادة، هاذول ما عبدوا إلا الله هم طلبوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو له جاه عند الله ومنزلة كلها راجعة في العلم بالتوحيد، الذي أتى في هذا المقام أنه يعلم ولكن لم يعمل، علم ولم يعمل، لم يعمل إما استكبارا لم يعمل مدارة بقومه ويقول أنا خائف من كذا وكذا أو لم يعمل مع عدم الاعتقاد، هذه التي ذكرها الشيخ الآن ولذلك ذكر أن الأول راجع إلى العلم يعني في الاعتقاد نفسه شبهة أصلا الشبهة راجعة إلى العلم بالتوحيد، وهذا الذين ذكرناهم الآن هؤلاء من جهة العمل إذا استثنينا الذي لم يعتقد شيء هذا ما عنده شبهة، فلا يقال ما عنده شبهة راجعة إلى العلم هو لم يعتقد شيئا حتى يكون عنده شبهة في العلم.
س5/ يقول هناك طبعة فيها عنواوين مضافة عنونوا للفصل الأخير بقولهم وجوب التوحيد بالقلب واللسان والجوارح إلا لعذر شرعي؟
ج/ عذر شرعي ما ذكرها الشيخ رحمه الله يذكرها بعد ذلك في الإكراه، العذر الشرعي للإكراه بس.
س6/ هل يكفر المسلم بالأعمال، أم لابد أن يكون مع العمل اعتقاد، مثل أن يعمل عملا كفريا لكن من غير أن يعتقد ذلك؟
ج/ هذه المسألة أوضحناها مرارا وذكرت لكم أن الإيمان قول وعمل واعتقاد، لهذا العلماء يقولون في باب حكم المرتد، المرتد: وهو المسلم الذي كفر بعد إيمانه بقول أو فعل أو اعتقاد أو شك. بهذه الأربعة عند أهل العلم يكون الكفر، القول والعمل والاعتقاد؛ لأنها كما ذكرت لك مقابلة لأمور الإيمان، الإيمان قول وعمل واعتقاد، إذا كان يدخل في الإيمان بقول فإنه يخرج من الإيمان بقول، يدخل في الإيمان باعتقاد معناه يخرج منه باعتقاد، يدخل في الإيمان بعمل يعني مع القول والاعتقاد، كذلك يخرج منه بعمل مع بقاء القول والاعتقاد، هذا اعتقاد أهل السنة والجماعة.
الذين يقولون الإيمان اعتقاد وقول فقط، وهم مرجئة الفقهاء هؤلاء يقولون لا يخرج إلا بالاعتقاد؛ لأن العمل أصلا عندهم ليس داخل في مسمى الإيمان، فلا يخرجونه من ذلك، هذا من حيث التنظير تنظير المذهب؛ لكن من حيث الواقع فإن أشد المذاهب في التكفير بالعمليات الحنفية الذين هم مرجئة الفقهاء، فهم أشد الناس في التكفير، حتى إنهم نصوا في كتبهم و قال هذا مصيحف ارتد، ولو قال هذ مسيجد ارتد، يعني حتى في تصغير ما أوجب الله جل وعلا تعظيمه.
فالمسألة نقول أن الكفر يكون بالقول والعمل والاعتقاد هذا بالاتفاق بين أتباع الأئمة الأربعة، حتى المرجئة عندهم يخرج بذلك، وهذا ما حدا طائفة من أهل العلم أن يقولوا الخلاف مع المرجئة خلاف لفظي أو يؤول إلى أن يكون الخلاف لفظيا؛ لأنهم يجعلون العمل شرط صحة ويجعلونه يكفر إذا لم يعمل أو عمل عملا مخالفا.
هذه المسألة تكلمنا عنها مرارا لأنه ثم بعض الكتب التي شككت في هذه المسألة.
س7/ هل هناك فرق بين قول القلب والتكلم الذي عليه المعتزلة نرجو البيان؟
ج/ لا، الكلام الذي عليه –قصده- الأشاعرة الكلام النفسي الذي هو في الداخل، قول القلب ذكرنا أنه الإخلاص والاعتقاد فقط، هذا تسمية، سماها بعض السلف القرن الثاني والثالث سموها قول القلب تقسيما كما ذكرت لأن عمل القول معروف قالوا الأشياء التي لا تدخل في عمل القلب أنها قول القلب، لكن الكلام الذي هو الكلام النفسي هو كل ما يجري في النفس من حديث ولم ينطق به هذا يسمونه كلام نفسي، ليس هو الإخلاص والاعتقاد كل ما يجري في النفس، إذا دوت في نفسك كلاما فيقولون هذا يسمى كلاما نفسيا قبل خروجه، فهو كلام قبل أن يخرج.
س8/ هل يجوز الجمع أكثر من نية في العمل الواحد كأن يصوم يوم الخميس الموافق للرابع عشر من الشهر بنية صيام أيام البيض صيام يوم الخميس؟
ج/ أما من حيث التأصيل من حيث القواعد الفقهية المعروفة الجمع بين عدة أعمال في نية واحدة يجوز في مواضع ولا يجوز في مواضع، كما هو معلوم في القواعد.
هذه الصورة التي ذكر وهي أن يصوم الست وينوي معها مثلا القضاء فإن هذا لا يجزئ؛ لأن القضاء فرض مستقل والست نفل مستقل، والست تكملة، وإذا صام ثلاثين يوما في الشهر فهذه عشرة أشهر أن الحسنة بعشر أمثالها والست شهران فإذا صام القضاء وفي داخله الست ما حصل ذلك، ولهذا القضاء مقدم ما تقرب عبدي إلي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه أولا ينتهي، يقضي لأن القضاء أحق، وأما أنه يصوم الست ويوافق ثلاثة أيام البيض، فهذا أمر طيب من أنه صيام الثلاثة البيض لا تقصد لذاتها المقصود منها صيام ثلاثة أيام في الشهر، فإذا صام ثلاثة أيام الست والبيض لكن لا يجمع النيتين وافقت البيض فيكون قد صام أيام البيض، وإن أحب أن يزداد بستة أيام بثلاث من كل شهر فهذا أفضل.
...النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال» صام رمضان، الذي صام رمضان، الذي صام رمضان إلا ستة أيام ما يسمى صام رمضان، هو صام بعض رمضان، فلا يسمى صائما لرمضان حتى يكمله ثلاثين يوما الأداء والقضاء «من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال» فإذا صام رمضان في الشهر ثم قضى ما ما قد أفطر فيه لعذر فهذا يكون قد صام رمضان فيتبعه بست من شوال، وكذلك في صيام القضاء ليوم عرفة فإنه يقع قضاء.
س9/ هل يدخل في تكفير السنة الماضية في هذا الموطن ؟
ج/ الظاهر لا لكنه إذا صامه في العشر يعني في الثمان الأول عشر ذو الحجة فلا بأس هذا يدخل في الفضل فضل ذو الحجة لأنها فضلها خاص ليس متقيدا بعام.
س10/ كتاب ابن الجوزي زاد المسير ولما لا يؤخذ تفسير ابن عباس رضي الله عنه لا سيما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد دعا له بالعلم والتأويل ودعاؤه مجاب؟
ج/ دعاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له بالعلم والتأويل حصل في مواضع «اللهم فقهه في الدين» في موضع «اللهم علمه الحكمة» في موضع «اللهم عمله التأويل» في موضع «اللهم فقهه في الدين وعلمه الكتاب» ونحو ذلك فهذا دعاء لابن عباس رضي الله عنهما وابن عباس تفاسيره معتمدة وإذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به كما سفيان وغيره لأنه أخذ التفسير عن ابن عباس.
لكن قد يكون تفسير ابن عباس مخالف لتفسير غيره من الصحابة فتكون الحجة هنا الترجيح بحسب الدليل.
س11/ ألم يقتل الخوارج علي بن أبي طالب، ألم يستحل الخوارج دماء الصحابة فيكفرون بذلك؟
ج/ الجواب أن كفر الخوارج في قولان لأهل العلم:
من أهل العلم من قال يكفرون لقوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» السهم مشبه بالخوارج فالفعل ذاك خرجوا من الدين.
والقول الثاني أنهم لا يكفرون كما قال علي رضي الله عنه وهو الذي قاتلهم وهو الذي حصل معه بينه وبينهم الحجاج والمجادلة لما سئل عنهم أكفار هم ؟ قال: من الكفر فروا. يعني أنهم تأولوا في ذلك وهم كلاب أهل النار، وشر القتلى تحت أديم السماء؛ لكن التكفير ما نطلقه عليهم.
طبعا المقصود الخوارج الذين قاتلوا عليا، أما الخوارج الذين فشوا بعد ذلك، هؤلاء عندهم اعتقادات قد يكفرون ببعضها.
س12/ ما الحكم إذا قال رجل: أنا مؤمن إن شاء الله وعلق إيمانه بالمشيئة؟
ج/ لا بأس أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله باعتبار أنه لا يدري ماذا يختم له .
س13/ الشخص الذي يجاهد القبوريين ويبين لهم التوحيد ولكنهم يستهزؤون به ولا يسمعون كلامه هل يتركهم في شركهم أم يستمر معهم دون أن يهجرهم أم ماذا يفعل؟
ج/ يفعل مثل ما فعل نوح عليه السلام في قومه فلبث فيم ألف سنة إلا خمسين عاما، قال جل وعلا عن نوح في سورة نوح وهي سورة عظيمة في بيان هذا الأمر قال ﴿ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾[نوح:8-10]، إلى آخره فدعاهم ليلا ونهارا وسرا وجهارا ولم ييأس حتى يأتي أمر الله.
خلاص يأمرهم وينهاهم حتى يأتي أمر الله.
س14/ ما حكم من علق القسم بالمشيئة هل عليه كفارة يمين، إذا حلف بالقسم؟
ج/لا، اليمين إذا تبعها بـ (إن شاء الله) فليس عليه كفارة إذا حلف، كذلك النذر إذا قال والله لأفعلن كذا إن شاء الله، فليس عليه كفارة.
وهنا مسألة مهمة ننبه عليها، وقلّ من ينبه عليها أو ينتبه لها، وهي أن الاستثناء في اليمين هذا يُقبل ولو كان بعد مدة، الاستثناء في اليمين يقبل ولو كان بعد مدة إذا كان لم يفعل، ثبت عن ابن عباس أو غيره أنه قال: وله استثناؤه ولو بعد سنة. وذلك عند قوله تعالى ﴿ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَن يَشَاء اللَّه﴾[الكهف:23-24]، فإذا استتثنى فله استثناؤه يعني له استثناؤه لو امتد به القسم فيسلم من الإثم في ذلك.
نكتفي بهذا وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وفقكم الله وبارك فيكم
¹
[المتن]
ولكن عليك بفهم آيتين من كتاب الله أولاهما ما تقدم من قوله: ﴿لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾[التوبة:66]، فإذا تحققت أن بعض الصحابة الذين غزوا الروم مع رسول الله ﷺ كفروا بسبب كلمة قالوها على وجه المزح واللعب، تبيّن لك أن الذي يتكلم بالكفر أو يعمل به خوفًا من نقص مال أو جاه أو مداراةً لأحد، أعظم ممن تكلم بكلمة يمزح بها.
والآية الثانية قوله تعالى: ([71]) ﴿مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ﴾[النحل:106-107]، فلم يعذر الله من هؤلاء إلا من أكره مع كون قلبه مطمئنًا بالإيمان. وأما غير هذا فقد كفر بعد إيمانه سواء فعله خوفًا أو مداراة أو مشحة بوطنه أو أهله أو عشيرته أو ماله، أو فعله على وجه المزح أو لغير ذلك من الأغراض؛ إلا المكره.
والآية تدل على هذا من جهتين
الأولى قوله: ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ﴾، فلم يستثن الله تعالى إلا المكره ومعلوم أن الإنسان لا يكره إلا على الكلام أو الفعل وأما عقيدة القلب فلا يكره أحد عليها.
والثانية قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ﴾، فصرّح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد أو الجهل أو البغض للدين أو محبة الكفر، وإنما سببه أن له في ذلك حظًا من حظوظ الدنيا فآثره على الدين.
والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
اللهم أسألك علما نافعا، وعملا صالحا، وقلبا خاشعا، ودعاء مسموعا.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما وعملا يا أرحم الراحمين.
أما بعد:
فهذا ختام هذه الرسالة العظيمة رسالة كشف الشبهات التي كشف فيها الشيخ رحمه الله تعالى ما شبه به أعداء التوحيد وأعداء الإسلام وصدوا به عن دعوة الحق التي هي دعوة إخلاص الدين لله جل وعلا.
قد ذكر في آخر ما عرضنا له في الدرس الماضي انه يختم كشف الشبهات بذكر مسألة مهمة خطيرة وهذا المقطع تعليل لما تقدم من ذِكر تلك المسألة التي بيناها وأوضحنا ما يتصل بها من المقامات والضوابط.
قال رحمه الله ورفع درجته (ولكن عليك بفهم آيتين من كتاب الله أولاهما قوله تعالى: ﴿لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾) قال (فإذا تحققت أن بعض الصحابة الذين غزوا الروم مع رسول الله ﷺ كفروا بسبب كلمة قالوها على وجه المزح واللعب، تبيّن لك أن الذي يتكلم بالكفر أو يعمل به خوفًا من نقص مال أو جاه أو مداراة لأحد، أعظم ممن تكلم بكلمة يمزح بها) وهذه الآية من سورة التوبة هي قوله جل وعلا ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ (65) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ﴾[التوبة:65-66]، هذه الآية فيها أن كفرَهم كان بسبب الاستهزاء بالله وبآياته وبرسوله، وقول الإمام رحمه الله هنا (فإذا تحققت أن بعض) هذه راجعة إلى الظاهر من حال أولئك فإن أولئك الذين تكلموا بتلك الكلمة ظاهرهم محكوم بإسلامهم وحالهم أنهم يعدون مع الصحابة وإلا فإنهم منافقون ظهر نفاقهم بذلك الاستهزاء، وهذه مسألة حصل فيها خلاف بين أهل العلم، فمن قائل إنهم ليسوا منافقين، وقال الجمهور من المفسرين وأهل العلم إنهم منافقون، والصواب من القولين في ذلك أن أولئك الذين كفروا بعد إيمانهم بالاستهزاء أنهم منافقون، وهم في الأصل منافقون ودلّ هذا على نفاقهم، والاستهزاء كفر لأنه يدل على عدم تعظيم الله جل وعلا وعدم توقيره والاستهانة بالله وبآياته وبرسوله؛ لأن المعظم المبجل لا يستهزئ بمن عظمه وبجله، بل يكون له في قلبه المقام الأعظم حيث لا يستهزئ به ولا يستنقصه ولا يسبه إلى آخر ذلك، ودلّ على أن المراد بهم المنافقون أوجه:
الأول أن الآية يفهم معناها بدلالة السياق والسباق وهذه الآية أولها ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ﴾ الضمير لابد أن يرجع إلى مذكور معلوم، والآية التي قبل هذه الآية هي قوله جل وعلا ﴿بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِءُواْ﴾ يعني أيها المنافقون ﴿إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ﴾[التوبة:64-65]، فدل إرجاع الضمير على الآية قبلها أن المراد بذلك المنافقون.
ودل عليه أيضا الآية التي بعدها وهي التي تسمى السياق أو اللحاق فقبلها سباقها وبعدها سياقها أو لحاقها وهي قوله جل وعلا (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ) إذ قال جل وعلا ﴿لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾[التوبة:66-67]، فهذه الآية أيضا تدل على أن هذا الذي استهزأ أو تلك الطائفة التي استهزأت هم المنافقون لأن السياق والسباق يدل على ذلك.
وأيضا يدل عليه أن السورة وهو الوجه الثالث أن السورة سورة براءة تسمى الفاضحة، وهي التي فضحت المنافقين، وبعد ذكر المنافقين في أثناء السورة استمر ذكرهم واستمر فضحهم وبيان ما هم عليه إلى آخر السورة.
الوجه الرابع أن الله جل وعلا قال بعد آيات ﴿يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ﴾[التوبة:74]، فقوله جل وعلا في هذه الآية (يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ) المقصود بهم هؤلاء الذين استهزءوا فإنهم حلفوا أنهم ما قالوا، قال جل وعلا (يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ) فدل على أن المستهزئ بالكلام قال كلمة الكفر قال سبحانه (وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ) ودلت هذه لآية على أن المراد بالإيمان في قوله تعالى (لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) هو الإسلام لأنه قال وكفروا بعد إسلامهم والمنافقون محكوم بإسلامهم ظاهرا.
وهذا يجاب به عن قول من قال أنهم ليسوا بمنافقين لأن هؤلاء احتجوا بأن المنافقين لم يحكم بإيمانهم وإنما حكم بإسلامهم فالمنافق يقال له مسلم باعتبار الظاهر ولا يقال إنه مؤمن لأن الإيمان باطن فقوله جل وعلا هنا (لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) دل على أنهم ليسوا بمنافقين.
وهذا الاحتجاج منهم والإيراد له وجهه لكن ليس قويا بقوة ما ذكرنا من أوجه، وجوابه أن الإيمان -كما هو معلوم- اعتقاد وقول وعمل، والاعتقاد هو الإيمان الباطن والقول والعمل هو الإيمان الظاهر وهو الإسلام فإذا قيل في المنافق إنه كفر بعد إيمانه يعني بعد إيمانه الظاهر الذي هو الإسلام لأن الإسلام لا يصح إلا بإيمان تصححه وإيمان لا يصح إلا بإسلام يصححه، والإيمان منقسم إيمان باطن وهو الاعتقاد، وإلى إيمان ظاهر وهو القول والعمل، فأولئك معهم قول وعمل فقيل لهم هنا بعد قوله (لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) باعتبار الظاهر، وهذا الظاهر هو الإسلام كما قال جل وعلا في الآية الأخرى (وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ)، فالإيمان في هذه الآية هو الإسلام في الآية الأخرى، ويقوي هذا ما تعلمه من قواعد أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى أن الإيمان إذا أفرد عن الإسلام والإسلام إذا أفرد عن الإسلام فإنه يدل أحدهما على الآخر، فقوله (قد كفرتم بعد إسلامكم) يعني ما يناسب المخاطب بذلك وهو الإسلام لأن الإيمان إذا أفرد دل على الإسلام وهذا بحسب حال المخاطبين.
إذا تقرر لك ذلك فهؤلاء الذين كفروا بعد إسلامهم كفروا بكلمة قالوها على وجه المزح واللعب، على وجه المِزاح –أو المُزاح- واللعب، وهذا الكفر منهم هي الاستهزاء، كلمة الكفر هي الاستهزاء، والاستهزاء مكفر إذا كان استهزاء بالله جل جلاله أو بآيات القرآن أو بالرسول محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو بمجموع ذلك وهو الدين الذي بعث الله به محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا استهزأ أحد بالله جل وعلا كفر، وإذا استهزأ أحد بالقرآن كفر، وإذا استهزأ أحد برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعني بشخصه بذاته كفر، وإذا استهزأ بالدين الذي نزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيقين المستهزئ أنه نزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه يكفر أيضا.
فإذن رجع الاستهزاء المكفِّر إلى أحد الثلاثة وهي التي جاءت في الآية (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ) هذا واحد (وَآيَاتِهِ) اثنين (وَرَسُولِهِ) ثلاثة (كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ (65) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) قال هنا الإمام رحمه الله تعالى (فإذا تحققت أن بعض الصحابة الذين غزوا الروم مع رسول الله ﷺ كفروا بسبب كلمة قالوها على وجه المزح واللعب، تبيّن لك أن الذي يتكلم بالكفر أو يعمل به خوفًا من نقص مال أو جاه أو مداراةً لأحد، أعظم ممن تكلم بكلمة يمزح بها) وذلك لأن الذي يتكلم بالكفر أو يعمل به قصد ذلك؛ ولكنه خاف، ولكن القصد موجود قصد الكفر وقصد العمل بالكفر موجود عنده، ولهذا لم يُعذر بالخوف أو بالمداراة نقص المال أو الجاه أو المداراة لأنه قصد الكفر وقصد العمل الكفري دون إكراه، والمستهزئ قد يقال إنه ما قصد الكفر، ولو قيل له أقلت هذا كفرا لقال لا إنما قلت هذا مزحا على سبيل المزاح وعلى سبيل اللعب وعلى سبيل الخوض (كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) ما قالوا قصدنا ذلك ولهذا كلام الإمام رحمه تعالى متين إذ قال (تبين لك أن الذي تكلم بالكفر) يعني قاصدا الكفر (أو يعمل به) عالما بأنه شرك عالما بذلك قاصدا له لاشك أنه أعظم كفرا ممن يتكلم بكلمة يمزح بها لأن ذاك فاته التعظيم فدخل في الكفر من جهة الاستهانة، وهذا قصده أصلا ومعلوم [...] لم يقصد الشيء من كل جهاته.
ثم قال رحمه الله (والآية الثانية قوله تعالى ﴿مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ﴾[النحل:106-107]) هذه الآية في حال الذي يكفر بدون عذر، والعذر الذي لا يؤاخذ به من صدر منه الكفر قولا أو عملا شيء واحد وهو الإكراه.
والإكراه معناه ما لا يتحمله من العذاب، أكره على هذا القول بما لا يتحمله من العذاب، أو ما هو أعلى من ذلك وهو القتل، فإذا كان لا يتحمل أن يعذب، لا يتحمل أن يضرب ضربا شديدا، لا يتحمل أن يسجن سجنا طويلا، لا يتحمل في ذلك ويخشى على دينه، ويخشى أن يوافق ويخشى أن يحصل له فتنة أو يخشى أن يتلف بدنه، فإنه معذور مع أن الكمال أن يصبر، لكنه معذور بشرط اطمئنان القلب بالإيمان، فتكون الموافقة ظاهرا للضرورة ولكن القلب مطمئن بالإيمان.
وذلك أن الإيمان كما هو معلوم ثلاثة أركان اعتقاد وقول وعمل، والاعتقاد هو الأصل الذي ينشأ عنه القول الإيماني وينشأ عنه العمل الإيماني، فلم يُعذر بالأصل في الموافقة أحد البتة، حتى لو أكره فإن الإكراه ولو وصل إلى القتل لا يصل إلى تغيير عقيدة القلب والله جل وعلا قال سبحانه ﴿الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾[العنكبوت:1-3] الصدق هو استقرار العقيدة في القلب وأن يصبر المرء على ما جاءه من ابتلاء، فإذا عرض له الإكراه بما لا يتحمله ويؤدي ببدنه إلى التلف ويخشى على دينه فإن له أن يوافق أولئك ظاهرا لا باطنا؛ لأن الظاهر في الشريعة فيه يُسر في الأحكام بخلاف الباطن، الباطن هو أشد شيء.
فإذن هذه الآية دلت كما قال الشيخ رحمه الله هنا في قوله (فلم يعذر الله من هؤلاء إلا من أكره مع كون قلبه مطمئنًا بالإيمان) فإذن له إذا أُكره بشرطه أن يقول كلمة يوافقهم بها أو أن يعمل عملا يوافقهم به؛ ولكن يكون ذلك مع اطمئنان القلب بالإيمان، والقلب قول كلمة الكفر موافقة لأجل الإكراه هذا محل اتفاق بين أهل العلم.
أما العمل فاختلفوا فيه:
فمنهم من قال لا يعذر بالعمل أن يعمل عملا كفريا؛ لكن الإكراه له فيه القول، مثل ما حصل في قصة عمار في قصة آل ياسر المعروفة ولها نزلت هذه الآية وقول النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ له«إن عادوا فعد» وهذا قول لطائفة من أهل العلم إن هذا مختص بالقول وأن العمل ليس فيه إكراه بل إذا وصل الإكراه للعمل فإنه لا يجوز أن يوافق أولئك على عمل كفري ويستدلون أيضا بحديث الذباب المعروف، حديث طارق بن شهاب الذي تعلمونه في كتاب التوحيد، كان هناك صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب فمر به رجلان فقال قربا، فقرب أحدهما فدخل النار، والآخر قال: أما أنا فما كانت مقربا شيئا لغير الله جل وعلا، فقتلوه فدخل الجنة قالوا هذا يدل على أن الإكراه يعني يعلمون من الحال أنهم سيقتلون أما الإكراه لم يعذر به بالفعل.
والقول الثاني أن الإكراه يقع في القول والعمل وهذا هو الصحيح لأن العمل والقول شيء واحد من جهة التكفير الله جل وعلا قال في الأقوال ﴿وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ﴾[التوبة:74]، وإذا كان ذلك في القول وعذر به بالاتفاق فالعذر بالعمل ظاهر وبالنسبة لحديث الذباب وغيره هناك أجوبة عليه مذكرو في وضعها من شرح كتاب التوحيد.
قال رحمه الله ورفع درجته (وأما غير هذا) يعني غير المكره (فقد كفر بعد إيمانه) يعني المكره، غير المكره إذا وافق الكفار على الكلام الكفري فقاله ووافق الكفار على العمل الكفري فعمله هذا كافر فلا يعذر في ذلك إلا إذا كان مكرها قال (وأما غير هذا فقد كفر بعد إيمانه) يعني غير المكره كفر بقوله وعمله سواء فعله خوفا أو مداراة و مشحة لوطنه أو أهله أو عشيرته أو ماله أو فعله على وجه المزح أو لغير ذلك من الأغراض.
يعني أن ما ذكره الإمام رحمه الله فيما تقدم فيما ذكرناه في الدرس الماضي من أن أناس عرفوا التوحيد ولكنهم يعملون بالشرك مداراة أو خوفا على أعمالهم أو خوفا على أهلهم أو خوفا على نقصهم خوف متوهم ولم يتركوا الشرك بالله جل وعلا هذا لا يعذرون فيه إلا في حال الإكراه أو إذا كان مستضعفا فإن له أن يبقى بين ظهراني المشركين لكن لا يقول كلمة الكفر ولا يعمل عملا كفريا فيرخص له عدم الهجرة لأجل أنه من المستضعفين كما قال جل وعلا بعد آية الهجرة ﴿الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ﴾[النساء:97]، قال بعدها ﴿إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء﴾الآية ﴿لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً﴾[النساء:98].
المقصود من هذا أن كلام الشيخ ظاهر وهذه مسألة عظيمة جدا وهي أن التكلم بالكفر خشية نقص المال أو خشية ذهاب المال لا يعذر به صاحبه عمل الكفر خشية شيء هذا لا يعذر به صاحبه بل لابد أن يجدد دينه وإسلامه ولكن إذا كان فعله عن قصد ثم فالواجب على كل موحد أن يتبرأ من الشرك وأهله، أن يبغض الشرك وأن يعادي الشرك، وأن يبغض أهل الشرك وأن يعادي أهل الشرك، وهذه حقيقة الإيمان، وهذا معنى كلمة التوحيد كما قال جل وعلا ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾[الزخرف:26-28]، وفي آية سورة الممتحنة قال جل وعلا مخبرا عن قول إبراهيم ﴿إِنَّا بُرَءَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾[الممتحنة:4]، لهذا قال أئمتنا البراءة من الشرك وأهله وهذه سنة إبراهيم ﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ ﴾ يعني من المرسلين ﴿إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾[الممتحنة:4]، هذه الكلمة أجمع عليها لمرسلون (إِنَّا بُرَءَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ) نتبرأ من العبادة ومن الشرك ومن أهل الشرك ببغضهم وبمعاداتهم يعني المعاداة القلبية أما الظاهر فله أحكام معروفة مختلفة.
قال الإمام رحمه الله بعد ذلك (فالآية تدل على هذا) يعني هذا الذي كره (من جهتين: الأولى قوله ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ﴾ فلم يستثن الله تعالى إلا المكره) وهذا ظاهر لأن مقام الاستثناء مقام حصر وإن لم يذكر في هذا المقام غير المكره دل على أنه لا يعذر إلا المكره.
وأيضا الاستثناء معيار العموم فقوله ﴿مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ﴾[النحل:106]، هذا عام واستثني منه يعني خرج من العموم المكره الذي حصل منه الكفر ظاهرا لكن لا يحكم بكفره لأنه مكره قال (الأولى قوله: ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ﴾ فلم يستثن الله تعالى إلا المكره. ومعلوم أن الإنسان لا يكره إلا على الكلام) يعني القول (أو الفعل، وأما عقيدة القلب فلا يكره أحد عليه) القلب لا يمكن أن يكره أحد أحدا على تغيير القلب حتى يختار هو لأن القلب لا أحد يطلع عليه إلا الله جل وعلا، فعقيدة القلب الموافقة فيها كفر بالاتفاق حتى ولو قال أكرهت فهو كافذب؛ لأن العقيدة الباطنة لا يمكن لأحد أن يصل إليها، يكذب في الظاهر يقول إذا قيل له أنت في الباطن في قلبك مقتنع بالشرك تقول هذه مع اعتقاد الباطن فيكذب ظاهرا يقول نعم هذا نوع من الإجابة بالإكراه؛ لكن لا يقول ذلك عن صدق بأن يغير قلبه؛ لأنه إن تغير القلب ووافق أو تردد أو شك فإنه كافر كما ذكر الإمام في مسائل كتاب التوحيد.
ثم قال (والثانية قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ﴾[النحل:107] فصرّح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد) يعني أن العذاب العظيم الذي جاءهم وهو قوله جل وعلا ﴿فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾[النحل:106]، عليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ما سبب الغضب الذي جاءهم وحل عليهم ما سبب العذاب العظيم؟ لم يكن بسبب الاعتقاد أو الجهل أو البُغض للدين أو محبة الكفر؛ لأن هذه الأشياء لم يعلل بها في الآية إنما قال الله جل وعلا (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ)، وقوله (ذَلِكَ) للمفسرين فيه وجهان في الرجوع الرجوع اسم اشارة يعني (ذَلِكَ) إشارة لأي شيء؟
قال طائفة: الإشارة هنا للكفر، كفروا بعد إيمانهم ولم يكونوا مكرهين، ما سبب ذلك؟ قال الله (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ) والباء هنا للسببية، ذلك بسبب كونهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة؛ يعني أنهم آثروا الدنيا على الآخرة فوافقوا الكفار من دون إكراه، فقالوا قول الكفر أو عملوا عمل الشرك والكفر من دون إكراه، فتكون (ذَلِكَ) الرجوع إلى قوله (مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ).
والوجه الثاني: أنه راجع للعذاب العظيم قال (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ) العذاب بسبب أنهم (اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ).
وهاذان قولان معروفان عند المفسرين والأوجه منهما وارجح هو الأول؛ لأن (ذَلِكَ) ضمير إشارة فهو اسم إشارة فيه اللام التي هي للبعد والعذاب العظيم قريب، والأصل أن الإشارة إلى القريب لفظية، أعني بذلك من قال (ولهم عذاب عظيم) أن إسم الإشارة ذلك يقرون أن اللام للبعد ولكن يقولون هو بعد معنوي؛ لأن مجيء اللام مع اسم الإشارة قد يكون للبعد اللفظي وقد يكون للبعد المعنوي، البعد اللفظي معلوم مثل ما قال ابن مالك في الألفية:
ولدى البعد انطقا بالكاف حرفا دون لام أو معا
فإذن في البعد يشار باللام، أولاء هذا قريب، هذا قريب، ذاك قريب ذلك بعيد.
وقد يكون المراد بمجيء اللام البعد المعنوي وهذا كثير في القرآن كما في قوله تعالى ﴿الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾[البقرة:1-2]، وقد يكون بُعْدا معنويا للتعظيم كقوله (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ) يعني جعله بعيدا لعلو مرتبته ومنزلته وقد يكون بعدا معنويا في السفول مثل ما يوصف عذاب الكافرين في مواضع قالوا هنا من قال أن الضمير يرجع إلى العذاب العظيم ذلك هذا رجوع معنوي.
مقصود البحث في الترجيح ليس هذا محله لكن إشارة في معنى قول لفظية؛ لأن الأصل أن تكون الإشارة للبعيد لفظا لا معنى هذا هو الأصل.
ولهذا قال الشيخ رحمه الله هنا والإمام محمد بن عبد الوهاب عليه رحمه الله كان من أدق أهل زمنه في التفسير وأعلم من أهل زمنه بأقوال المفسرين قال رحمه الله (فصرّح أن هذا الكفر والعذاب) فجمع القولين هذا الكفر والعذاب، فكأنه قال لا يمنع أن يقال رجع الضمير اسم الإشارة إلى العذاب أو يرجع إلى الكفر؛ لأن العذاب حاصل والكفر حاصل، فإرجاع ذلك للجميع متجه.
قال (فصرح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد أو الجهل أو البغض للدين أو محبة الكفر) هذا ظاهر بين، (وإنما سببه أن له في ذلك حظ من حظوظ الدنيا فآثره على الدين) وهذا الذي ذكره حاصل وواقع؛ بل إن الذين استحبوا الكفر على الإيمان وكفروا بعد إيمانهم سبب ذلك محبة الدنيا، محبة المال، محبة الجاه، لابد فيه حظ من حظوظ الدنيا وإلا لو قام الإيمان بالآخرة في النفس لما آثر المرء عليه شيئا من الدنيا.
ولهذا جاء في الحديث الصحيح أنّ النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قال –غاب عني- يعني أن في آخر الزمان يمسي الرجل مؤمنا أو تكون فتن، تكون فتن كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا، وهذا حاصل في أن من كفر؛ بل من فتن عن الدين إنما هو بسبب من الدنيا بشهواته إما شهوة المال أو شهوة الجاه أو شهوة المنصب أو شهوة النساء أو شهوة الأمر والنهي أو إلى آخر ذلك من الشهوات الفانيات.
فما ذكره هنا الإمام رحمه الله هذا ينبغي أن يتنبه إليه كل موحد، فيحذر أشد الحذر من الكفر ومن وسائله.
قال (وإنما سببه أن له في ذلك حظا من حظوظ الدنيا فآثره على الدين) وهذا الاستدلال المراد ومقيم للبرهان على أولئك الذين يقولون: نحن نعلم التوحيد وإنما علمنا الشرك لأجل الحفاظ على أموالنا أو على جاهنا أو على دنيانا.
نسأل الله الكريم بأسمائه الحسنى وبصفاه العلى أن يرفع درجة الإمام المصلح المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وسائر أئمة الدعوة الذين تركوا الناس بعدهم على أمر واضح بيّن لا لبس فيه في أمر الدين التوحيد الإخلاص، ونرجوا أن يكونوا ممن وعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بظهورهم في تجديد أمر الدين، ونسأله سبحانه وتعالى أن يعلي مقامهم وأن يغفر ذنوبهم وأن يجعلنا ممن ورِثَ علمهم فعلم وعلم وأقام الحق في نفسه وفيمن حوله.
ونسأله سبحانه أن يثبت في قلوبنا التوحيد، وأن يكشف عنا كل شبهة، وأن يثبت هذا العلم في نفوسنا، وأن يحببه إلينا وأن يبغّض إلينا الكفر والفسوق والعصيان.
اللهم نسألك أن تغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وأن تجعل التوحيد حجة لنا لا حجة علينا.
اللهم نسألك أن تهدينا نحن الحاضرين جميعا إلى أقوم طريق، ونسألك أن تجعلنا ممن يفرح بإخلاص الدين لك، ويفرح بهذا العلم الذي هو علم التوحيد، ويفرح بعلم العقيدة ويظهره على غيره، لأن ذلك هو الأساس.
اللهم علمنا علما نافعا واختم لنا بالصالحات، واغفر لنا جميعا الحاضر والسامع وأحبابنا إن جواد كريم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. ([72])
... والأسبوع الذي بعده -يعني درس السبت والخميس- أنا غير موجود الأسبوع القادم والذي بعده إن شاء الله بشرح العقيدة الطحاوية شرح المتن فتخبرون الإخوان الحريصين على بداية الدرس من أوله لأن كثيرين يقولن نريد درسا مؤصلا نبدأ فيه من أوله، فهذه بداية من أول العقيدة الطحاوية، وهو كتاب كما هو معلوم كتاب مهم.
{س1/ ما حد الاستضعاف المرخص به للبقاء بين ظهراني المشركين؟
ج/ لا يستطيع الهجرة، مستضعف لا يستطيع أن يهاجر ﴿إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً﴾[النساء:98].
س2/ هل المقصود من الإكراه أن من أكره على عمل من الأعمال التي نهى الله عنها سواء كان في الشرك أو معصية أم فيها تفصيل ؟
ج/ إذا كان يعذر في الشرك بالإكراه، فعذره فيما هو أدنى من الشرك من المعاصي لا شك أنه من باب أولى؛ لكن هناك ذنوب كبائر لا يصح فيها الإكراه وهذه معلومة في تفصيل القاعدة عند الفقهاء.
س3/ وهل من أكره على معصية من المعاصي مثل الزنا فهل يعذر بالإكراه أم ماذا ؟
ج/ الزنا اختلف فيه العلماء، هل يقع فيه إكراه، يعني إكراه من مرأة لرجل في الزنا أم لا يقع؟ وسبب الخلاف في أن الرجل لا تنتشر آلته إلا بشهوة ورغبة، أما إذا كان القلب كارها فإنه لا يحصل معه انتشار، حتى مع أهل الرجل ومن أُبيح له أن يعاشرهم إذا كره كرها شديدا لا يكون في قلبه رغبة للجماع حتى دواعي الجماع، لهذا قال طائفة من المحققين من أهل العلم: يستثنى من القاعدة الزنا؛ لأن الزنا لا يكون انتشار الرجل إلا عن وجود رغبة في قلبه ولو قليلة والتفات إلى هذه المرأة أو إلى ما تعمل إلى آخره.
والقول الثاني أنه يقع الإكراه حتى في الزنا لأن بعض الرجال ربما ينتشر دون رغبة القلب.
وعلى العموم، هذا راجع إلى الحال وكل أعلم بحاله والله حسيب على الخلق.
س/ كيف التوجيه بين هذه الآية وحديث الذباب؟
ج/ ذكرنا التوجيه وأشرنا إليه في شرحنا لكتاب التوحيد ومعروف .
س/ ما أفضل شرح للعقيدة الطحاوية يمكن اقتناءه، ومتابعة الدرس من خلاله؟
ج/ أنا سأشرح المتن إن شاء الله تعالى بطريقة تجمع ما بين السهولة للمبتدئ وكثرة المادة للمتوسط، ولهذا لا أعرف شرحا سيكون على ما أريد إن شاء الله؛ لكن شرح ابن أبي العز هذا شرح معروف، وكذلك شرح ابن مانع رحمه الله، أو تعليقات الشيخ عبد العزيز (رحمه الله)، أو تعليقات الشيخ ناصر الألباني (رحمه الله)، هذه كلها فيها فائدة إن شاء الله.
س/ متى يكون الخلاف خلافا سائغا يُعذر فيه المخالف، وهل يكتفى في تسويغ الخلاف أن يقول به إمام من الأئمة؟
ج/ هذه مسألة أصولية مشهورة، والجواب عليها أن الخلاف في المسائل ينقسم إلى قسمين:
الأول: خلاف فيما لم يرد به النص، في مسألة نازلة، اختلف العلماء فيها، فهذا الخلاف فيها سائغ إلا إذا كان هناك اتفاق من أكثر أهل العلم في ذلك فالذي يرى غير ما عليه الأكثر في المسألة النازلة له أن يعمل بما يرى أو يعتقد في ذلك في نفسه؛ لكن لأجل قول الأكثر في المسألة الاجتهادية فإنه لا يخالف الأكثر لأن الأكثر في المسائل الاجتهادية التي لا نص فيها، إنما هي تنزيل على الواقع هذا في الغالب أن لا يكون معه الصواب.
فإذن النوع الأول من الخلاف خلاف في المسائل الاجتهادية التي لا نص فيها، وهذه يعذر بعضهم بعضا لأنها اجتهاد في تنزيل المسألة النازلة على النصوص.
والثاني، النوع الثاني: الخلاف في المسائل التي فيها دليل؛ لكن اختلف فيها العلماء نزع كل إلى جهة من الدليل، وبعضهم مثلا لم يقل بالدليل، قال بغيره؛ قال بقياس، قال برأيه، فهذا الخلاف في المسائل التي فيها دليل ينقسم إلى قسمين:
الأول : خلاف ضعيف. والثاني : خلاف قوي.
والخلاف الضعيف هو الذي يكون في مقابلة الدليل؛ يعني قال قياسا مع ظهور الدليل، لاحظ كلمة ظهور الدليل، يعني دلّ الدليل على المسألة بظهور أو بما هو أعظم من الظهور وهو النص، وقال طائفة من أهل العلم بخلاف ما دل عليه الدليل ظاهرا أو نصا فهذا لا شك أن هذا الخلاف يكون ضعيفا.
الثاني: أن يكون الخلاف قويا بحيث يكون أن تكون الأدلة متعارضة، قد يرجح هذا وقد يرجح هذا، فإنه حينئذ يكون الخلاف قويا، وإذا كان الخلاف قويا فإنه لا إنكار في مسائل الخلاف القوي.
وأما إذا كان الخلاف ضعيفا فإنه ينكر في مسائل الخلاف الضعيف.
أطلق بعض أهل العلم قاعدة وهي قولهم: لا إنكار في مسائل الخلاف. وهذا الإطلاق غلط؛ لأن المسائل الخلافية الصحابة بعضهم أنكر على بعض فيها، والتابعون أنكر بعضهم على بعض فيها.
والمسائل الخلافية على التفصيل الذي ذكرته لك:
· إذا كان الخلاف في مسألة لم يرد فيها الدليل فهذه تسمى المسائل الاجتهادية، هذا الخلاف سائغ.
· والقسم الثاني أن يكون الخلاف في مسائل فيها الدليل وهي منقسمة إلى خلاف قوي وإلى خلاف ضعيف.
مثلا من مسائل الخلاف القوي:
مسألة زكاة الحلي الأدلة فيها مختلفة، وفهم الدليل أيضا مختلف بين أهل العلم، فهذه نقول الخلاف فيها قوي فلا إنكار، من زكى فقد تبع بعض أهل العلم، ومن لم يزك فقد تبع بعض أهل العلم، فلا حرج في ذلك ولا إنكار في هذه المسألة.
كذلك مسألة قراءة الفاتحة في الصلاة للمأموم، هل يقرأ المأموم أو لا يقرأ، الخلاف فيها قوي والأدلة متنازع فيها، وكلام الأئمة في من يقول كذا وفي من يقول كذا، والجمهور؛ جمهور الصحابة والتابعين، قول المحققين كشيخ الإسلام؛ بل كالإمام أحمد وشيخ الإسلام وابن القيم وجماعة أنه يتحمل الإمام عن المأموم، هذا يجعل المسألة فيها خلاف قوي فلا إنكار فيها كذلك.
مثلا بعض المسائل التي يختلف فيها أهل العلم في هذا الزمن:
مثل مثلا مسألة التصوير بالفيديو، بعضهم يجعله داخلا في التصوير فيمنعه، بعضهم لا يجعله داخلا في التصوير فلا يمنعه فهذا، المسألة فيها خلاف قوي، بعضهم يجيز وبعضهم لا يجيز، كذلك يلحق أو من هذه المسألة التي فيها الخلاف القوي بين أهل العلم مسألة التصوير الضوئي؛ لأن بعضهم أباحه، وبعض أهل العلم منعه، وهذا له حجة وهذا له حجة، واختلف فيه علماؤنا المعاصرون، مع أن الصحيح كما هو معلوم أنه لا يجوز ذلك لعموم الأدلة كما هو مبسوط في موضعه.
المسائل التي فيها خلاف ضعيف كثيرة.
وهذا نقول فيه لأجل أن ينتبه طالب العلم إلى ما ينكر فيه وما لا ينكر فيه، فمسائل ترى أهل العلم ما ينكرون فيها لأجل الخلاف القوي فيها، أحيانا ينكرون لأجل الخلاف أن يكون خلافا ضعيفا.
مثل مسألة كشف المرأة لوجهها الخلاف فيها ضعيف وبعض أهل العلم يرى أن الخلاف فيها قوي لكن الصحيح أنه ضعيف لأن الحجة التي أدلى بها من أجاز ذلك ليست بوجيهة إلى آخر المسائل التي فيها..
الخلاف ضعيف مثل المعازف، خلاف ابن حزم فيها شاذ وضعيف.
كذلك إباحة النبيذ وما شابهه مما لا يسكر قليله، هذا معلوم الخلاف فيها لكن الخلاف فيها ضعيف.
كذلك أكل لحم ذي الناب من السباع خلاف، خالف فيه أهل المدينة مالك ومن معه، غيره من الأئمة، ونقول الخلاف فيه ضعيف لوجود النص الواضح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخلاف ذلك.
إلى ذلك من المسائل المعروفة.
س/ نقل القرطبي وغيره إجماع العلماء على أن من أكره على الكفر فالأفضل والأحسن أن يصبر على القتل فهو أولى من أن يجيبهم.
ثم رأيتُ لبعض الشافعية تفصيلا قد ذكر بعضهم أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فمن كان يرجى به النكاية بالكفر فالأولى أن يدرأ عن نفسه القتل بالإجابة، وإن كان ممن ليس كذلك فالأفضل له الصبر فهل يعد هذا التفصيل ناقضا أو خارما للإجماع؟
الجواب: لا، ليس كذلك هو قولهم الأفضل والأحسن أن يصبر، هذه هي القاعدة، ومعلوم أن كل قاعدة لها شواذ، والقاعدة أمر كلي ومجيء بعض الأفراد على خلاف الأمر الكلي لا يخرج الأمر الكلي عن كونه كليا مقطوعا به، كما قرره الأصوليون والعلماء في القواعد.
س/ ما توجيه أهل العلم رحمهم الله تعالى لحديث التائب الذي قال فيه اللهم أنت عبدي وأنا ربك فقد تلفظ بالكفر؟
ج/ هذا قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام «أخطأ من شدة الفرح».
س/ هل صحيح أن حديث الذبابة فيه شيء من الضعف؟
ج/ هذا أحلناكم على ما قبله.
س/ متى يبدأ وقت أذكار المساء والصباح ومتى ينتهي؟
ج/ في أول النهار وفي إقبال الليل، يعني في المساء من بعد العصر إلى المغرب، أو بعد المغرب، كل هذا وقت المساء، المساء إلى غياب الشفق يطلق عليه مساء باتفاق أهل اللغة، هل يطلق المساء لما بعد ذلك فيه خلاف، من بعد الزوال إلى غياب الشفق يعني إلى دخول وقت العشاء هذا يطلق عليه مساء في اللغة، فأذكار المساء من بعد العصر بالنية قبل المغرب قبل الأذان بعد الصلاة، كل هذه فيها سعة.
س/ إذا كان الرجل جاهل بأحكام الغسل وكان في هذا الوقت يصلي وهو جنب وبعد أن علم أحكام الغسل هل يعيد الصلاة أو لا ؟
ج/ إذا كانت سنين كثيرة ما يعيد؛ لكن إذا كانت صلاة أو صلاتين معلومة فيعيد لأنه ما أتى بالشرط؛ لكن كيف يعني أحكام الغسل –أخاف أن يكون مدخل للوسوسة-، الغسل تعميم البدن بالماء، أخشى أنه يكون مدخل للوسوسة، يعني الغسل يعرفه كل أحد، أنه تعميم البدن بالماء ، إذا وصل إلى جميع أجزاء الجسم حصل الغسل الشرعي من الجنابة
س/ هل نصرح بكفر من رأيناه يسب الرسول صلى الله عليه وسلم ؟
لابد تعرض كلامه على أهل العلم وهم يفتون ، مسائل الكفر ليست لآحاد الناس أو لآحاد طلاب العلم.
س/ هل ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم التورك في التشهد الأول؟
هل هناك فرق بين البراءة من الشرك وبين الخلوص من الشرك ؟
ج/ التورك النبي عليه الصلاة والسلام كان يفترش قدمه اليسرى ويجلس عليها، هذه هي السنة، التشهد الأول لا أعلم فيه ما يكون فيه التورك سنة، ربما السائل رآني اليوم، أنا معي عذر في رجلي يمنعني من ذلك.
ما الفرق بين البراءة من الشرك وبين الخلوص من الشرك؟، الخلوص من الشرك هذه كلمة يعني تتركونها لما ليس لها أصل في كلام أهل العلم المتقدمين، إنما هي جاءت متأخرة، ما أدري كيف جاءت في كتاب ثلاثة الأصول، نبهنا عليها في شرحنا على الثلاثة الأصول لأن تعريف الإسلام اللي ذكره الشيخ في أول ثلاثة الأصول، الإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله، هذا تعريف الإسلام المعروف عند أئمة التوحيد، أما تعديل ذلك إلى والخلوص من الشرك وأهله، أو الخلوص من الشرك ، هذا ليس صحيحا؛ لأن البراءة غير الخلوص البراءة فيها بغض ومعاداة والخلوص فيها انتقال، فيها خلاص من الشيء، البراءة لفظ شرعي جاء في النصوص في القرآن وفي السنة فلابد من اعتماده، وتعريف الإسلام مأخوذ من القرآن يعني لأن قصة لإبراهيم عليه السلام فيها تعريف الإسلام.
نكتفي بهذا القدر.} ([73])
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. ([74])
¹
أعدّ هذه المادة: سالم الجزائري
([1]) وتمام البيت:
قد أفسدا هذا الوجود وخبَّطا الــ أذهانَ والآراءَ كلَّ زمانِ
([2])انتهى الوجه الأول من الشريط الأول.
([3])لم أجدها وإنما وجدت: ﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمْ الرِّجْزَ﴾[الأعراف:135]، ﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ﴾[يونس:12] إلى آخره.
([4])انتهى الشريط الأول.
([5]) قال البهوتي في كشف القناع: قال الفخر إسماعيل وأبو البقاء: العبادة ما أمر به شرعا من غير اطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي. كتاب الصلاة باب صلاة التطوع.
([6]) الأعراف:59، 65، 73، 75، هود: 50، 61، 84، المؤمنون:23، 32.
([7])انتهى الوجه الأول من الشريط الثاني.
([8]) هود:119، السجدة:13، الناس:6.
([9]) الحجر:40، ص:83.
([10])انتهى الشريط الثاني.
([11]) انتهى الوجه الأول من الشريط الثالث.
([12])الحجر:40، ص:83.
([13]) لم يذكرها الشيخ.
([14])الظاهر يوجد قطع في الشريط.
([15]) لم يذكرها الشيخ.
([16])الشيخ قال وإذا ركبوا في الفلك دعوا الله... ولعلها التي في سورة لقمان التي فيها وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين... الآية.
([17])الشيخ قال ركبوا.
([18]) انتهى الشريط الثالث.
([19]) النمل:60، 61، 62، 63، 64.
([20])الفاتحة:2، يونس:10، الزمر:75، غافر:65.
([21])انتهى الوجه الأول من الشريط الرابع.
([22])الأنعام:57، يوسف:40، يوسف:67.
([23])انتهى الشريط الرابع.
([24]) النساء:38، 116.
([25])البقرة:146، الأنعام:20.
([26]) النساء:38، 116.
([27])انتهى الوجه الأول من الشريط الخامس.
([28])الأنعام:112، الفرقان:31.
([29]) الظاهر وجود قطع في الشريط.
([30]) انتهى الشريط الخامس.
([31])انتهى الوجه الأول من الشريط السادس.
([32]) انتهى الوجه الأول من الشريط السادس.
([33])سورة هود: 7. الملك:2.
([34]) في الشريط مسح.
([35])انتهى الشريط السادس.
([36]) انتهى الوجه الأول من الشريط السابع
([37]) تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد تأليف الأستاذ المحدث الشهير محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني.
([38]) يوجد مسح في الشريط.
([39]) انتهى الشريط السابع.
([40]) الشيخ حفظه الله قال:قل.
([41]) يوجد مسح في الشريط.
([42]) انتهى الوجه الأول من الشريط الثامن.
(1) وهي أيضا في سورة الشورى الآية:10.
([44]) يوجد مسح في الشريط.
([45]) انتهى الشريط الثامن.
([46]) انتهى الوجه الأول من الشريط التاسع.
([47])الأفراط: هم الأولاد الصغار الذين ماتوا قبل آبائهم. انظر لسان العرب 7/366 مادة «فرط».
([48]) انتهى الشريط التاسع
([49]) قال الشيخ عبد الرزاق عفيفي في جامعه الفريد: "المحصور بين هاتين العلامتين[ ] سقط من جميع الطبعات وأكملناه من المخطوطة المعاصرة لشيخ الإسلام المؤلف ص8 وهي في خزانة كتبنا الخاصة برقم 5138." ط4، 1420هـ ص271.
([50]) وهي رسالة الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد للعلامة محمد بن علي الشوكاني.
([51]) انتهى الوجه الأول من الشريط العاشر.
([52]) الشعراء:227، ص:24، الانشقاق:25، التين:6، العصر:3.
([53]) قال الشيخ عبد الرزاق عفيفي في جامعه الفريد: "المحصور بين هاتين العلامتين[ ] سقط من جميع لطبعات وأكملناه من المخطوطة المعاصرة لشيخ الإسلام المؤلف ص8 وهي في خزانة كتبنا الخاصة برقم 5138." ط4، 1420هـ ص271.
([54]) انتهى الشريط العاشر.
([55]) الشيخ قال وإذا ركبوا في الفلك دعوا الله... ولعلها التي في سورة لقمان التي فيها وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين... الآية.
([56]) انتهى الوجه الأول من الشريط الحادي عشر.
([57]) انتهى الشريط الحادي عشر.
([58]) انتهى الوجه الأول من الشريط الثاني عشر.
([59]) انتهى الشريط الثاني عشر.
([60]) يوجد قطع في الشريط.
([61]) انتهى الوجه الأول من الشريط الثالث عشر.
(5) انظر تفسير ابن كثير 4/210-211
([62]) انتهى الشريط الثالث عشر.
([63]) الأنعام:25، الإسراء:46.
([64]) الشيخ –حفظه الله تعالى- قال: الرحمن. وهي الآية (5) من سورة الشعراء: ﴿وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ﴾.
([65]) انتهى الوجه الأول من الشريط الرابع عشر.
(1) ذكر هذا الأثر ابن كثير عن بعض السلف كما في البداية والنهاية 1/146 في قصة إبراهيم خليل الرحمن. نقل من شرح الشيخ صالح الفوزان.
([66])البقرة:146، الأنعام:20.
([67]) انتهى الشريط الرابع عشر.
([68]) البقرة:146، الأنعام:20.
([69])البقرة:146، الأنعام:20.
([70]) يوجد قطع في الشريط.
([71]) انتهى الوجه الأول من الشريط الخامس عشر.
([72]) انتهى الشريط الخامس عشر.
([73]) قامت بتفريغ ما بين الحاضنتين الأخت المشكدانة الكويتية.
([74]) انتهى الشريط السادس عشر.