الإبداع في كمال الشرع وخطر الابتداع
ترجمات المادة
التصنيفات
الوصف المفصل
- الإبداع في كمال الشرع وخطر الابتداع
الإبداع في كمال الشرع وخطر الابتداع
لفضيلة الشّيخ العلّامة
محمّد بن صالحٍ العثيمين
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
من إصدارات مؤسّسة الشّيخ محمّد بن صالحٍ العثيمين الخيريّة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلّا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحقّ، فبلّغ الرّسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمّة، وجاهد في الله حقّ جهاده حتّى أتاه اليقين، وترك أمّته على محجّةٍ بيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلّا هالكٌ، بيّن فيها ما تحتاجه الأمّة في جميع شؤونها؛ حتّى قال أبو ذرٍّ رضي الله عنه: ما ترك النّبيّ صلى الله عليه وسلم طائرًا يقلّب جناحيه في السّماء إلّا ذكر لنا منه علمًا.
وقال رجلٌ من المشركين لسلمان الفارسيّ رضي الله عنه: علّمكم نبيّكم حتّى الخراءة (آداب قضاء الحاجة) قال: نعم، لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائطٍ أو بولٍ، أو أن نستنجي بأقلّ من ثلاثة أحجارٍ، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي برجيعٍ أو عظمٍ.
وإنّك لترى هذا القـرآن العظيم قـد بيّن الله تعالى فيه أصول الدّين وفـروع الدّين، فبيّن التوحيد بجميع أنـواعه، وبيّن حتّى آداب المجالس والاستئذان، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ [المجادلة:11]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [النور:27-28].
حتّى آداب اللّباس، قال الله تعالى: ﴿ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ﴾ [النور:60]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب:59]، ﴿ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ ﴾ [النور:31]، ﴿ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ﴾ [البقرة:189].
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الّتي يتبيّن بها أنّ هذا الدّين شاملٌ كاملٌ لا يحتاج إلى زيادةٍ، كما أنّه لا يجوز فيه النّقص، ولهذا قال الله تعالى في وصف القرآن: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ [النحل:89]، فما من شيءٍ يحتاج النّاس إليه في معادهم ومعاشهم إلّا بيّنه الله تعالى في كتابه، إمّا نصًّا أو إيماءً، وإمّا منطوقًا وإمّا مفهومًا.
أيّها الإخوة!
إنّ بعض النّاس يفسّر قول الله تعالى: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾ [الأنعام:38] يفسّر قوله: ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ على أنّ الكتاب القرآن.
والصّواب: أنّ المراد بالكتاب هنا: اللّوح المحفوظ. وأمّا القرآن فإنّ الله تعالى وصفه بأبلغ من النّفي، وهو قوله: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ [النحل:89]، فهذا أبلغ وأبين من قوله: ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾.
ولعلّ قـائلًا يقـول: أين نجد أعداد الصّلـوات الخمس في القرآن؟ وعدد كلّ صلاةٍ في القرآن؟ وكيف يستقيم أنّنا لا نجد في القرآن بيان أعداد ركعات كلّ صلاةٍ، والله يقول: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ [النحل:89]؟
والجواب عن ذلك: أنّ الله تعالى بيّن لنا في كتابه أنّه من الواجب علينا أن نأخذ بما قاله الرّسول صلى الله عليه وسلم وبما دلّنا عليه، ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴾ [النساء:80]، ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الحشر:7]، فما بيّنته السّنّة فإنّ القرآن قد دلّ عليه؛ لأنّ السّنّة أحد قسمي الوحي الّذي أنزله الله على رسوله وعلّمه إيّاه؛ كما قال الله تعالى: ﴿ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴾ [النساء:113]، وعلى هذا فما جاء في السّنة فقد جاء في كتاب الله عز وجل.
أيّها الإخوة!
إذا تقرّر ذلك عندكم فهل النّبيّ صلى الله عليه وسلم توفّي، وقد بقي شيءٌ من الدّين المقرّب إلى الله تعالى لم يبيّنه؟ أبدًا، فالنّبيّ عليه الصلاة والسلام بيّن كلّ الدّين، إمّا بقوله، وإمّا بفعله، وإمّا بإقراره، إمّا ابتداءً أو جوابًا عن سؤالٍ، وأحيانًا يبعث الله أعرابيًّا من أقصى البادية؛ ليأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن شيءٍ من أمور الدّين، لا يسأله عنه الصّحابة الملازمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا كانوا يفرحون أن يأتي أعرابيٌّ يسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن بعض المسائل.
ويدلّك على أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ما ترك شيئًا ممّا يحتاجه النّاس في عبادتهم ومعاملتهم وعيشهم إلّا بيّنه.
يدلّك على ذلك: قوله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة:3].
إذا تقرّر ذلك عندك -أيّها المسلم- فاعلم أنّ كلّ من ابتدع شريعةً في دين الله -ولو بقصدٍ حسنٍ- فإنّ بدعته هذه مع كونها ضلالةً تعتبر طعنًا في دين الله عز وجل، تعتبر تكذيبًا لله تعالى في قوله: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾؛ لأنّ هذا المبتدع الّذي ابتدع شريعةً في دين الله تعالى، وليست في دين الله تعالى كأنّه يقول بلسان الحال: إنّ الدّين لم يكمل؛ لأنّه قد بقي عليه هذه الشّريعة الّتي ابتدعها يتقرّب بها إلى الله عز وجل.
ومن عجبٍ أن يبتدع الإنسان بدعةً تتعلّق بذات الله عز وجل وأسمائه وصفاته، ثمّ يقول: إنّه في ذلك معظّمٌ لربّه، إنّه في ذلك منزّهٌ لربّه، إنّه في ذلك ممتثلٌ لقوله تعالى: ﴿ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة:22]! إنّك لتعجب من هذا أن يبتدع هذه البدعة في دين الله المتعلّقة بذات الله الّتي ليس عليها سلف الأمّة ولا أئمّتها، ثمّ يقول: إنّه هو المنزّه لله، وإنّه هو المعظّم لله، وإنّه هو الممتثل لقول الله تعالى: ﴿ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا ﴾، وإنّ من خالف ذلك فهو ممثّلٌ مشبّهٌ، أو نحو ذلك من ألقاب السّوء.
كما أنّك تعجب من قومٍ يبتدعون في دين الله ما ليس منه فيما يتعلّق برسـول الله صلى الله عليه وسلم، ويدّعون بذلك أنّهم هم المحبّون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنّهم المعظّمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنّ من لم يوافقهم في بدعتهم هذه فإنّه مبغضٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى غير ذلك من ألقاب السّوء الّتي يلقّبون بها من لم يوافقهم على بدعتهم فيما يتعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن العجب أنّ مثل هؤلاء يقولون: نحن المعظّمون لله ولرسوله. وهم إذا ابتدعوا في دين الله وفي شريعته الّتي جاء بها رسوله صلى الله عليه وسلم ما ليس منها فإنّهم -بلا شكٍّ- متقدّمون بين يدي الله ورسوله، وقد قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الحجرات:1].
أيّها الإخوة!
إنّي سائلكم ومناشدكم بالله عز وجل، وأريد منكم أن يكون الجواب من ضمائركم لا من عواطفكم، من مقتضى دينكم، لا من مقتضى تقليدكم: ما تقولون فيمن يبتدعون في دين الله ما ليس منه، سواء فيما يتعلّق بذات الله وصفات الله وأسماء الله، أو فيما يتعلّق برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمّ يقولون: نحن المعظّمون لله ولرسول الله؟! أهؤلاء أحقّ بأن يكونوا معظّمين لله ولرسول الله، أم أولئك القوم الّذين لا يحيدون قيد أنملةٍ عن شريعة الله، يقولون فيما جاء من الشّريعة: آمنّا، وصدّقنا فيما أخبرنا به، وسمعنا وأطعنا فيما أمرنا به، أو نهينا عنه. ويقولون فيما لم تأت به الشّريعة: أحجمنا وانتهينا، وليس لنا أن نتقدّم بين يدي الله ورسوله، وليس لنا أن نقول في دين الله ما ليس منه؟ أيّهما أحقّ أن يكون محبًّا لله ورسوله، ومعظّمًا لله ورسوله؟ لا شكّ أنّ الّذين قالوا: آمنّا وصدّقنا فيما أخبرنا به، وسمعنا وأطعنا فيما أمرنا به. وقالوا: كففنا وانتهينا عمّا لم نؤمر به. وقالوا: نحن أقلّ قدرًا في نفوسنا من أن نجعل في شريعة الله ما ليس منها، أو أن نبتدع في دين الله ما ليس منه. لا شكّ أنّ هؤلاء هم الّذين عرفوا قدر أنفسهم، وعرفوا قدر خالقهم، هؤلاء هم الّذين عظّموا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهم الّذين أظهروا صدق محبّتهم لله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، لا أولئك الّذين يبتدعون في دين الله ما ليس منه في العقيدة أو القول أو العمل.
وإنّك لتعجب من قومٍ يعرفون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إيّاكم ومحدثات الأمور؛ فإنّ كلّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلّ ضلالةٍ في النّار»، ويعلمون أنّ قوله: «كلّ بدعةٍ» كلّيّةٌ عامّةٌ شاملةٌ مسوّرةٌ بأقوى أدوات الشّمول والعموم «كل»، والّذي نطق بهذه الكلّيّة -صلوات الله وسلامه عليه- يعلم مدلول هذا اللّفظ، وهو أفصح الخلق، وأنصح الخلق للخلق، لا يتلفّظ إلّا بشيءٍ يقصد معناه.
إذن، فالنّبيّ صلى الله عليه وسلم حينما قال: «كلّ بدعةٍ ضلالةٌ» كان يدري ما يقول، وكان يدري معنى ما يقول، وقد صدر هذا القول منه عن كمال نصحٍ للأمّة.
وإذا تمّ في الكلام هذه الأمور الثّلاثة: كمال النّصح، والإرادة، وكمال البيان والفصاحة، وكمال العلم والمعرفة. دلّ ذلك على أنّ الكلام يراد به ما يدلّ عليه من المعنى، أفبعد هذه الكلّيّة يصحّ أن نقسّم البدعة إلى أقسامٍ ثلاثةٍ، أو إلى أقسامٍ خمسةٍ؟! أبدًا، هذا لا يصحّ.
وما ادّعاه بعض العلماء من أنّ هناك بدعةً حسنةً. فلا تخلو من حالين:
1- ألّا تكون بدعةً، لكن يظنّها بدعةً.
2- أن تكون بدعةً، فهي سيّئةٌ، لكن لا يعلم عن سوئها.
فكلّ ما ادّعي أنّه بدعةٌ حسنةٌ فالجواب عنه بهذا.
وعلى هذا، فلا مدخل لأهل البدع في أن يجعلوا من بدعهم بدعةً حسنةً، وفي يدنا هذا السّيف الصّارم من رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلّ بدعةٍ ضلالةٌ»، إنّ هذا السّيف الصّارم إنّما صنع في مصانع النّبوّة والرّسالة، إنّه لم يصنع في مصانع مضطربةٍ، لكنّه صنع في مصانع النّبوّة، وصاغه النّبيّ صلى الله عليه وسلم هذه الصّياغة البليغة، فلا يمكن لمن بيده مثل هذا السّيف الصّارم أن يقابله أحدٌ ببدعةٍ يقول: إنّها حسنةٌ. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كلّ بدعةٍ ضلالةٌ».
وكأنّي أحسّ أنّ في نفوسكم دبيبًا، يقول: ما تقول في أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الموفّق للصّواب، حينما أمر أبيّ بن كعبٍ وتميمًا الدّاريّ أن يقوما بالنّاس في رمضان، فخرج والنّاس على إمامهم مجتمعون، فقال رضي الله عنه: نعمت البدعة هذه، والّتي ينامون عنها أفضـل من الّتي يقومون؟
فالجواب عن ذلك من وجهين:
الوجه الأوّل: أنّه لا يجوز لأحدٍ من النّاس أن يعارض كلام الرّسول صلى الله عليه وسلم بأيّ كلامٍ، لا بكلام أبي بكرٍ الّذي هو أفضل الأمّة بعد نبيّها، ولا بكلام عمر الّذي هو ثاني هذه الأمّة بعد نبيّها، ولا بكلام عثمان الّذي هو ثالث هذه الأمّة بعد نبيّها، ولا بكلام عليٍّ الّذي هو رابع هذه الأمّة بعد نبيّها، ولا بكلام أحدٍ غيرهم؛ لأنّ الله تعالى يقول: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور:63]، قال الإمام أحمد رحمه الله: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشّرك، لعلّه إذا ردّ بعض قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقع في قلبه شيءٌ من الزّيغ، فيهلك. اﻫ
وقال ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما: «يوشك أن تنزل عليكم حجارةٌ من السّماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكرٍ وعمر!».
الوجه الثّاني: أنّنا نعلم علم اليقين أنّ أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضي الله عنه من أشدّ النّاس تعظيمًا لكلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكان مشهورًا بالوقوف على حدود الله تعالى، حتّى كان يوصف بأنّه كان وقّافًا عند كلام الله تعالى، وما قصّة المرأة الّتي عارضته -إن صحّت القصّة- في تحديد المهور بمجهولةٍ عند الكثير، حيث عارضته بقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ [النساء:20]، فانتهى عمر عمّا أراد من تحديد المهور، لكنّ هذه القصّة في صحّتها نظرٌ.
لكنّ المراد بيان أنّ عمر كان وقّافًا عند حدود الله تعالى لا يتعدّاها، فلا يليق بعمر رضي الله عنه -وهو من هو- أن يخالف كلام سيّد البشر محمّدٍ صلى الله عليه وسلم، وأن يقول عن بدعةٍ: (نعمت البدعة)، وتكون هذه البدعة هي الّتي أرادها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «كلّ بدعةٍ ضلالةٌ».
بل لابدّ أن تنزّل البدعة الّتي قال عنها عمر: إنّها نعمت البدعة. على بدعةٍ لا تكون داخلةً تحت مراد النّبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله: «كلّ بدعةٍ ضلالةٌ»، فعمر رضي الله عنه يشير بقوله: «نعمت البدعة هذه» إلى جمع النّاس على إمامٍ واحدٍ بعد أن كانوا متفرّقين، وكان أصل قيام رمضان من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت في الصّحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قام في النّاس ثلاث ليالٍ، وتأخّر عنهم في اللّيلة الرّابعة، وقال: «إنّي خشيت أن تفرض عليكم، فتعجزوا عنها»، فقيام اللّيل في رمضان جماعةً من سنّة الرّسول عليه الصلاة والسلام، وسمّاها عمر رضي الله عنه بدعةً باعتبار أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا ترك القيام صار النّاس متفرّقين، يقوم الرّجل لنفسه، ويقوم الرّجل ومعه الرّجل، والرّجل ومعه الرّجلان والرّهط والنّفر في المسجد، فرأى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه برأيه السّديد الصّائب أن يجمع النّاس على إمامٍ واحدٍ، فكان هذا الفعل بالنّسبة لتفرّق النّاس من قبل بدعةً، فهي بدعةٌ اعتباريّةٌ إضافيّةٌ، وليست بدعةً مطلقةً إنشائيّةً، أنشأها عمر رضي الله عنه؛ لأنّ هذه السّنّة كانت موجودةً في عهد الرّسول صلى الله عليه وسلم، فهي سنّةٌ، لكنّها تركت منذ عهد الرّسول عليه الصلاة والسلام حتّى أعادها عمر رضي الله عنه.
وبهذا التّقعيد لا يمكن أبدًا أن يجد أهل البدع من قول عمر هذا منفذًا لما استحسنوه من بدعهم.
وقد يقول قائلٌ: هناك أشياء مبتدعةٌ، قبلها المسلمون، وعملوا بها، وهي لم تكن معروفةً في عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم، كالمدارس، وتصنيف الكتب، وما أشبه ذلك، وهذه البدعة استحسنها المسلمون، وعملوا بها، ورأوا أنّها من خيار العمل، فكيف تجمع بين هذا الّذي يكاد يكون مجمعًا عليه بين المسلمين، وبين قول قائد المسلمين ونبيّ المسلمين، ورسول ربّ العالمين صلى الله عليه وسلم: «كلّ بدعةٍ ضلالةٌ»؟
فالجواب أن نقول: هذا في الواقع ليس ببدعةٍ، بل هذا وسيلةٌ إلى مشروعٍ، والوسائل تختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة.
ومن القواعد المقرّرة: أنّ الوسائل لها أحكام المقاصد. فوسائل المشروع مشروعةٌ، ووسائل غير المشروع غير مشروعةٍ، بل وسائل المحرّم حرامٌ، والخير إذا كان وسيلةً للشّرّ كان شرًّا ممنوعًا.
واستمع إلى الله عز وجل يقول: ﴿ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ [الأنعام:108]، وسبّ آلهة المشركين ليس عدوًا، بل حقٌّ وفي محلّه، لكنّ سبّ ربّ العالمين عدوٌ وفي غير محلّه، وعدوانٌ وظلمٌ، ولهـذا لمّا كان سبّ آلهـة المشركين المحمود سببًا مفضيًا إلى سبّ الله كان محرّمًا ممنوعًا.
سقت هذا دليلًا على أنّ الوسائل لها أحكام المقاصد، فالمدارس وتصنيف العلم وتأليف الكتب -وإن كان بدعةً لم يوجد في عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم على هذا الوجه- إلّا أنّه ليس مقصدًا، بل هو وسيلةٌ، والوسائل لها أحكام المقاصد.
ولهذا لو بنى شخصٌ مدرسةً لتعليم علمٍ محرّمٍ كان البناء حرامًا، ولو بنى مدرسةً لتعليم علمٍ شرعيٍّ كان البناء مشروعًا.
فإن قال قائلٌ: كيف تجيب عن قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «من سنّ في الإسلام سنّةً حسنةً فلـه أجرها، وأجر من عمل بها إلى يـوم القيامـة»، و«سنّ» بمعنى: شرع؟
فالجواب: أنّ من قال: «من سنّ في الإسلام سنّةً حسنةً» هو القائل: «كلّ بدعةٍ ضلالةٌ»، ولا يمكن أن يصدر عن الصّادق المصدوق قولٌ يكذب قولًا آخر له، ولا يمكن أن يتناقض كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أبدًا، ولا يمكن أن يرد على معنًى واحدٍ مع التّناقض أبدًا، ومن ظنّ أنّ كلام الله تعالى أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم متناقضٌ فليعد النّظر؛ فإنّ هذا الظّنّ صادرٌ إمّا عن قصورٍ منه، وإمّا عن تقصيرٍ، ولا يمكن أن يوجد في كلام الله تعالى أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم تناقضٌ أبدًا.
وإذا كان كذلك فبيان عدم مناقضة حديث: «كلّ بدعةٍ ضلالةٌ» لحديث: «من سنّ في الإسلام سنّةً حسنةً» أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «من سنّ في الإسلام»، والبدع ليست من الإسلام، ويقول: «حسنةً»، والبدعة ليست بحسنةٍ، وفرقٌ بين السّنّ والابتداع.
وهناك جوابٌ لا بأس به: أنّ معنى «من سنّ» من أحيى سنّةً كانت موجودةً، فعدمت، فأحياها. وعلى هذا فيكون السّنّ إضافيًّا نسبيًّا -كما تكون البدعة إضافيّةً نسبيّةً- لـمن أحيا سنّةً بعد أن تركت.
وهناك جوابٌ ثالثٌ يدلّ له سبب الحديث، وهو قصّة النّفر الّذين وفدوا إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وكانوا في حالٍ شديدةٍ من الضّيق، فدعا النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى التّبرّع لهم، فجاء رجلٌ من الأنصار بيده صرّةٌ من فضّةٍ كادت تثقل يـده، فوضعها بين يـدي الرّسول صلى الله عليه وسلم، فجعل وجه النّبيّ عليه الصلاة والسلام يتهلّل من الفرح والسّرور، وقال: «من سنّ في الإسلام سنّةً حسنةً فله أجرها، وأجر من عمل بها إلى يـوم القيامة»، فهنا يكون معنى السّنّ سنّ العمل تنفيذًا، وليس سنّ العمل تشريعًا، فصار معنى «من سنّ في الإسلام سنّةً حسنةً» من عمل بها تنفيذًا لا تشريعًا؛ لأنّ التّشريع ممنوعٌ بقوله: «كلّ بدعةٍ ضلالةٌ».
وليعلم -أيّها الإخوة- أنّ المتابعة لا تتحقّق إلّا إذا كان العمل موافقًا للشّريعة في أمورٍ ستّةٍ:
الأول: السّبب، فإذا تعبّد الإنسان لله عبادةً مقرونةً بسببٍ ليس شرعيًّا فهي بدعةٌ مردودةٌ على صاحبها.
مثال ذلك: أنّ بعض النّاس يحيي ليلة السّابع والعشرين من رجبٍ؛ بحجّة أنّها اللّيلة الّتي عرج فيها برسول الله صلى الله عليه وسلم. فالتّهجّد عبادةٌ، ولكن لمّا قرن بهذا السّبب كان بدعةً؛ لأنّه بنى هذه العبادة على سببٍ لم يثبت شرعًا.
وهذا الوصف -موافقة العبادة للشّريعة في السّبب- أمرٌ مهمٌّ يتبيّن به ابتداع كثيرٍ ممّا يظنّ أنّه من السّنّة، وليس من السّنّة.
الثّاني: الجنس، فلا بدّ أن تكون العبادة موافقةً للشّرع في جنسها، فلو تعبّد إنسانٌ لله بعبادةٍ لم يشرع جنسها فهي غير مقبولةٍ.
مثال ذلك: أن يضحّي رجلٌ بفرسٍ، فلا يصحّ أضحيةً؛ لأنّه خالف الشّريعة في الجنس، فالأضاحي لا تكون إلّا من بهيمة الأنعام: الإبل، والبقر، والغنم.
الثّالث: القدر، فلو أراد إنسانٌ أن يزيد صلاةً على أنّها فريضةٌ، فنقول: هذه بدعةٌ غير مقبولةٍ؛ لأنّها مخالفةٌ للشّرع في القدر.
ومن باب أولى: لو أنّ الإنسان صلّى الظّهر -مثلًا- خمسًا، فإنّ صلاته لا تصحّ بالاتّفاق.
الرّابع: الكيفيّة، فلـو أنّ رجلًا توضّأ، فبدأ بغسـل رجليه، ثمّ مسح رأسه، ثمّ غسل يديه، ثمّ وجهه، فنقول: وضوؤه باطلٌ؛ لأنّه مخالفٌ للشّرع في الكيفيّة.
الخامس: الزّمان، فلـو أنّ رجلًا ضحّـى في أوّل أيام ذي الحجّـة، فلا تقبل الأضحية؛ لمخالفة الشّرع في الزّمان.
وسمعت أنّ بعض النّاس في شهر رمضان يذبحون الغنم تقرّبًا لله تعالى بالذّبح، وهذا العمل بدعةٌ على هذا الوجه؛ لأنّه ليس هناك شيءٌ يتقرّب به إلى الله بالذّبح إلّا الأضحية والهدي والعقيقة، أمّا الذّبح في رمضان مع اعتقاد الأجر على الذّبح كالذّبح في عيد الأضحى فبدعةٌ، وأمّا الذّبح لأجل اللّحم فهذا جائزٌ.
السّادس: المكان، فلو أنّ رجلًا اعتكف في غير مسجدٍ فإنّ اعتكافه لا يصحّ، وذلك لأنّ الاعتكاف لا يكون إلّا في المساجد، ولو قالت امرأةٌ: أريد أن أعتكف في مصلّى البيت. فلا يصحّ اعتكافها؛ لمخالفة الشّرع في المكان.
ومن الأمثلة: لو أنّ رجلًا أراد أن يطوف، فوجد المطاف قد ضاق، ووجد ما حوله قد ضاق، فصار يطوف من وراء المسجد، فلا يصحّ طوافه؛ لأنّ مكان الطّواف البيت، قال الله تعالى لإبراهيم الخليل: ﴿ وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ ﴾ [الحج:26].
فالعبادة لا تكون عملًا صالحًا إلّا إذا تحقّق فيها شرطان:
الأوّل: الإخلاص.
الثّاني: المتابعة. والمتابعة لا تتحقّق إلّا بالأمور السّتّة الآنفة الذّكر.
وإنّني أقول لهؤلاء الّذين ابتلوا بالبدع، الّذين قد تكون مقاصدهم حسنةً، ويريدون الخير: إذا أردتّم الخير فـلا -والله- نعلم طريقًا خيرًا من طريق السّلف، رضي الله عنهم.
أيّها الإخوة!
عضّوا على سنّة الرّسول صلى الله عليه وسلم بالنّواجذ، واسلكوا طريق السّلف الصّالح، وكونوا على ما كانوا عليه، وانظروا: هل يضيركم ذلك شيئًا؟
وإنّي أقول -وأعوذ بالله أن أقول ما ليس لي به علمٌ- أقول: إنّك لتجد الكثير من هؤلاء الحريصين على البدع يكون فاترًا في تنفيذ أمورٍ ثبتت شرعيتها، وثبتت سنّيتها، فإذا فرغوا من هذه البدع قابلوا السّنن الثّابتة بالفتور، وهذا كلّه من نتيجة أضرار البدع على القلوب، فالبدع أضرارها على القلوب عظيمةٌ، وأخطارها على الدّين جسيمةٌ، فما ابتدع قومٌ في دين الله بدعةً إلّا أضاعوا من السّنّة مثلها أو أشدّ، كما ذكر ذلك بعض أهل العلم من السّلف.
لكنّ الإنسان إذا شعر أنّه تابعٌ لا مشرّعٌ حصل له بذلك كمال الخشية، والخضوع، والذّلّ، والعبادة لربّ العالمين، وكـمال الاتّباع لإمام المتّقين، وسيّد المرسلين، ورسول ربّ العالمين محمّدٍ صلى الله عليه وسلم.
إنّني أوجّه نصيحةً إلى كلّ إخواني المسلمين الّذين استحسنوا شيئًا من البدع، سواء فيما يتعلّق بذات الله، أو أسماء الله، أو صفات الله، أو فيما يتعلّق برسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمه: أن يتّقوا الله، ويعدلوا عن ذلك، وأن يجعلوا أمرهم مبنيًّا على الاتّباع، لا على الابتداع، على الإخلاص، لا على الإشراك، على السّنّة، لا على البدعة، على ما يحبّه الرّحمن، لا على ما يحبّه الشيطان، ولينظروا: ماذا يحصل لقلوبهم من السّلامة، والحياة، والطّمأنينة، وراحة البال، والنّور العظيم؟
وأسأل الله تعالى أن يجعلنا هداةً مهتدين، وقادةً مصلحين، وأن ينير قلوبنا بالإيمان والعلم، وألّا يجعل ما علمنا وبالًا علينا، وأن يسلك بنا طريق عباده المؤمنين، وأن يجعلنا من أوليائه المتّقين، وحزبه المفلحين، وصلّى الله وسلّم على نبيّنا محمّدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.