×
من الفائز؟: يجري الحديث في بعض مجالس الناس عن الفوز; وأكثر حديثهم عن فوز الدنيا في المسابقات والمباريات وغير ذلك; ولكن الفوز الحقيقي هو النجاة من النار; ودخول الجنة; وهذا هو موضوع هذه الكلمات.

    يجري حديثٌ في بعض مجالس النّاس عن الفوز، وعن الفائزين، وعن أسباب الفوز، وعن من فاز، ومن هم الفائزون، كلمةٌ تتردَّدُ في بعض المجالس، وينحَصِرُ الفهمَ عن الفوز وعن معانيه لدى بعض الأفهام في مُتَعٍ زائلة، وأُمورٍ فانية؛ فهناك حديثٌ عن فوزٍ في مسابقاتٍ تجاريّة، وعن فوزٍ في مباريات رياضية، وعن فوزٍ في تعاملات محرّمة؛ كالقمار، والميسر، وهكذا تتنوّعُ الأحاديثُ عن الفوز، وعن ماهيته، وحقيقته، وعن مجالاته، وعن أسبابه، ويغيب عن أذهان كثيرٍ منهم: الفوز العظيم عند لقاء رب العالمين, الفوز برضا الله، والنجاة من عذابه، والفوز بجنته, يغيبُ هذا المعنى عن كثيرٍ من الأذهان في غمرة الانهماك في مُتَع الدنيا ومَلذَّاتها وشهواتها, {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64].

    والواجبُ على كل مسلمٍ أن يكون دائمًا مُتذكِّرًا الفوزَ الأكبر، والفوزَ العظيم، والفوزَ المبين يوم يلقى الله - تبارك وتعالى -.

    وتأمَّل معي - أيُّها المؤمن - في هذه الوقفة متذكِّرًا ومتفكِّرًا في الفوز العظيم وحقيقته، يقول الله - عز وجل -: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185].

    ها هنا مقام الفائزين الرّابحين الذين يمُنُّ الله عليهم بالفوز الحقيقي العظيم, إنَّ الفوز نجاةٌ من مرهوب، وتحصيلٌ لمرغوب, وهذان يجتمعان للمؤمنين أهل الجنة، يُنجِّيهم الله - تبارك وتعالى - من النّار، ويمُنُّ عليهم بدخول الجنة، وهذا هو حقيقة الفوز، وأيُّ مرهوبٍ أعظمُ من النّار؟ وأيُّ مرغوبٍ فيه أعظم من الجنة؟

    ولهذا ينبغي لكلِّ واحدٍ منَّا أن يتذكَّر هذا الموقف العظيم وكلنا صائرٌ إليه, جاء في "صحيح مسلم" من حديث أبي سعيد الخدريّ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ، وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ، وَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ». قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا الْجِسْرُ؟ قَالَ: «دَحْضٌ مَزِلَّةٌ، فِيهِ خَطَاطِيفُ وَكَلاَلِيبُ وَحَسَكٌ تَكُونُ بِنَجْدٍ فِيهَا شُوَيْكَةٌ يُقَالُ لَهَا: السَّعْدَانُ، فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ كَطَرْفِ الْعَيْنِ، وَكَالْبَرْقِ، وَكَالرِّيحِ، وَكَالطَّيْرِ، وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ، وَمَكْدُوسٌ فِى نَارِ جَهَنَّم».

    تأمَّل هذا الموقف وأنت صائرٌ إليه لا محالة والنّاس على هذا الصراط أقسامٌ ثلاثةٌ حدَّدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, تأمَّل هذه الأقسام الثلاثة، وتأمَّل مرور النّاس على هذا الصِّراط المنصوب على متن جهنّم، وتوهّم حالك وأنت على هذا الصراط الذي جاء في بعض الأحاديث أنه أدقُّ من الشعر, وقد وضعتَ قدمكَ عليه وبين أيديك الناس ومن خلفك ناجٍ مسلمٌ، ومخدوشٌ مرسلٌ، ومُكردَسٌ في نار جهنم، ومن نجا منهم يتفاوَتُون في سرعة المرور عليه، فمنهم من يمرّ كالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل, على قدر تفاوُتهم وتبايُنهم في طاعة الله - عز وجل - في هذه الحياة، فتفكَّر في حالك وأنت من هؤلاء وأنت صائرٌ إلى هذا المقام: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 81، 82].

    هل أنت من هؤلاء النّاجين الفائزين أو لست منهم؟!

    وإذا قلت أيُّها المؤمن: ما هي صفاتُ هؤلاء الفائزين؟ وما هي أعمالهم التي نالوا بها هذا الفوز العظيم؟

    تجد الجوابَ في كتاب الله عزّ وجل؛ بل تجده في آيةٍ واحدةٍ في القرآن جَمَعَت لك أسبابَ الفوز والغنيمة, يقول الله تعالى في سورة النور: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 52]، إنَّها صفاتٌ أربعة إذا اجتمعت في العبد كان من الفائزين:

    1- طاعة الله.

    2- وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.

    3- وخشية الله والوقوف بين يديه - سبحانه وتعالى -.

    4- وتقوى الله - جلّ وعلا - بالبُعْد عن المعاصي والآثام.

    فمَنْ كان بهذا الوصف وعلى هذه الحال فإنه يكون من الفائزين, ثم تذكَّر حالَ المؤمنين الفائزين؛ ماذا لهم بعد نجاتِهم من النار وفِكَاكِهم من عذابها وسلامتهم من الدّخول فيها؟ وماذا أعدَّ الله لهؤلاء الفائزين؟

    يقول الله تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَأْسًا دِهَاقًا * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا * جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} [النبأ: 31- 36].

    ما أعظمها من حالٍ، وما أطيَبَه من مآلٍ، فكّهم الله - عزّ وجل -، وأجارَهم من النار، فجازوا الصراط، ودخلوا الجنة، وحازُوا هذا النعيمَ المُقيمَ، فتفكَّر في هذا المقام، وأهل الجنة يدخلون الجنّة من بابها فائزين أعظم فوزٍ، نائلين أعظم غنيمةٍ {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الحديد: 12]، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج: 11].

    فهل فوزٌ يُطلَبُ أعظم من هذا؟! إذ هو غايةُ الغايات، ونهايةُ النِّهايات؛ حيث فازُوا برضوان ربّ الأرض والسماوات، وفَرِحُوا بقُرْبه - سبحانه - ولذّة المُناجاة، وتنعَّموا بالنّظر إلى وجهه الكريم، وهو أعظم النعيم، وأكمل اللَّذَّات.

    فتفكّر في حالك ومآلك في هذا المقام العظيم، وتأمّل هذه المعاني ولا تشغلك - يا رعاك الله - مُتع الدّنيا عن هذا الفوز المبين.

    والواجبُ على المؤمن أن يكون دائمًا وأبدًا في كلِّ أيامه ولياليه، مُتَذَكِّراً لهذا المقام العظيم، آخذًا بالأسباب التي يكون بها نجاتُه من سخط الله وعقابِه، وفوزُه بجنّته ونعيمه {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصّافات: 60، 61].

    قال الشيخ السّعديّ - رحمه الله - في تفسير هذه الآية: "فهو أحقُّ ما أُنفِقَت فيه نفائسُ الأنفاس، وأولى ما شمَّر إليه العارفون الأكياس، والحسرةُ كل الحسرة، أن يمضِيَ على الحازم وقتٌ من أوقاته، وهو غيرُ مُشتغلٍ بالعمل، الذي يقرِّب لهذه الدّار، فكيف إذا كان يسير بخطاياه إلى دار البوار؟!".

    وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا أجمعين من الفائزين حقًّا، النّاجين صدقًا، وأن يُوفِّقَنا لطاعته، ولنَيْل رضاه، وأن يهدِيَنا إليه صراطًا مستقيمًا، إنَّ ربي لسميع الدُّعاء، وهو أهلُ الرّجاء، وهو حسبُنا ونعم الوكيل.