×
هذا الكتاب يتضمن الرسائل التالية: أثر الإسلام في تهذيب النفوس، المروءة، الحياء، الحلم، من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه، آداب زيارة المريض، الحسد، مسائل في السلام وصيغه، حساب الجمَّل. معالم في الإمامة والخلافة، معالم في اعتقاد أهل السنة في الصحابة، معالم في التعامل مع الفتن، من صور تكريم الإسلام للمرأة، من أقوال الرافعي في المرأة (نقول من كتاب وحي القلم)، من مفاسد الزنا، لطائف في تفاضل الأعمال الصالحة، الجوال: آداب وتنبيهات، الإنترنت: امتحان الإيمان والأخلاق والعقول، توبة الأمة، لماذا تدخن؟

رسائل في أبواب متفرقة

 المقدمة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فهذه رسائل في أبواب متفرقة، يسَّر الله _ تعالى _ كتابتها، ونشرها، وإلقاءها في مناسبات مختلفة، بعضها إلى الطول أقرب، وبعضها الآخر إلى القصر أقرب.

وقد يكون في بعضها بسط وتفصيل وعزو، وقد يراعى في بعضها جانب الاختصار لأنها خرجت على هيئة مطوية لا يناسب فيها الإطالة، وكثرة الحواشي.

وقد حرصت على جمعها في كتاب واحد؛ رجاء عموم النفع بها، ولئلا تضيع وتتفرق، ولأجل أن يسهل الرجوع إليها.

وقد يكون في بعضها تشابه في بعض العناصر؛ لأنها هكذا كتبت في الأصل، فتركتها كما كانت؛ لأجل أن يفيد منها من يريد موضوعاً على حدة، أو عندما يراد طبع إحداها مفردة.

ثم إن بعضها قد يكون قليل العزو والتخريج، وبعضها قد يكون العزو في أعلى الصفحة، وبعضها في أسفل الصفحة على هيئة هوامش، وهكذا...

وإليك مسرداً بالرسائل التي تضمنها هذا المجموع:

1_ أثر الإسلام في تهذيب النفوس.

2_ المروءة.

3_ الحياء.

4_ الحلم.

5_ من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.

6_ آداب زيارة المريض.

7_ الحسد.

8_ مسائل في السلام وصيغه.

9_ حساب الجمَّل.

10_ معالم في الإمامة والخلافة.

11_ معالم في اعتقاد أهل السنة في الصحابة.

12_ معالم في التعامل مع الفتن.

13_ من صور تكريم الإسلام للمرأة.

14_ من أقوال الرافعي في المرأة (نقول من كتاب وحي القلم).

15_ من مفاسد الزنا.

16_ لطائف في تفاضل الأعمال الصالحة.

17_ الجوال _ آداب وتنبيهات _ .

18_ الإنترنت _ امتحان الإيمان والأخلاق والعقول _ .

19_ توبة الأمة.

20_ لماذا تدخن؟

فلعل في هذا المجموع دعوة إلى خير، وتذكيراً بفائدة، ودلالة على هدى؛ وتبياناً لبعض محاسن الإسلام، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

 الرسالة الأولى أثر الإسلام في تهذيب النفوس

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، أما بعد:

فلما كانت الأنظار تَقْصُر، والأهواء تتغلب، والعقول تتفاوت وتختلف _ اشتدت حاجة الناس إلى وحي إلهي يطلق نفوسهم من قيود الأوهام، ويحررها من أسر الشهوات، ويهديهم إلى طريق الرشاد، وينذرهم عاقبة العكوف على اللذائذ.

فهذا وجهٌ من حكمة بعثة الأنبياء _ عليهم السلام _ وصعودهم بالناس إلى مراقي السعادة والفلاح.

وبهذه الدعوة الإلهية لبست النفوس أدباً ضافياً، وأخذ الاجتماع سنة منتظمة، وبصرت العقول بحقائق كانت غامضة.

وإذا كان للشرائع السماوية مزيةُ تقويمِ النفوس، وإنارة البصائر، وفتح طريق الحكمة _ فإن نصيب الإسلام من هذه المزية أوفر وأجلى؛ فهو خير الأديان، وخاتمها، وأشملها، وأكملها، إذ لم يغادر صغيرة ولا كبيرة من قضايا العقائد، والسلوك، والتربية، والأخلاق، والأحكام _ إلا وأحاط بها إجمالاً أو تفصيلاً .

فلقد بعث الله محمداً " والعالم في جهالة غامرة، وأهواء جائرة، وأعمال خاسرة.

ومازالت هدايته تتكامل حتى أخذت بالإصلاح من جميع أطرافه، فوضعت مكان الجهالة علماً، ومكان الأهواء الطاغية همماً سامية، ومكان الخسر فلاحاً وصلاحاً.

أصلح النفوس بالعقائد السليمة، وزودها بالأخلاق الزاهرة، وشرع من العبادات ما يؤكد الصلة بين العبد وربه، ثم نظر إلى أن الإنسان لم يخلق في عزلة عن الناس، وإنما خلق ليكون في جماعة تتعاون على القيام بمصالح الحياة، والأخذ بوسائل السعادة؛ فعني بحقوق ذي القربى، فقرر النفقات والمواريث في نظم محكمة، وحرص على إسعادهم والبر بهم من طريق المروءة وكرم الأخلاق.

وحاط الزوجية بحقوق تجعل الزوجية في ألفة صادقة، وعيشة راضية، وأخذ بإصلاح رابطة أخرى هي رابطة الجوار.

ووضع للمعاملات نظماً عادلة، وللجنايات عقوبات زاجرة؛ فأصبحت النفوس والعقول، والأعراض والأموال، والأنساب بتلك النظم، والعقوبات _ في صيانة.

وما برح الناس _ بعد انطواء عهد النبوة _ في حاجة إلى تذكيرهم إذا نسوا، وتعليمهم إذا جهلوا.

وهذا ما يجعل الدعوة إلى إصلاح العقائد، والسلوك، والأخلاق من أفضل الواجبات، وأحمد المساعي.

وإن المتأمل في أحوال المسلمين في عصورهم المتأخرة ليجد بوناً شاسعاً وبعداً سحيقاً بين أحوالهم، وبين ما يدعوهم إليه دينهم.

ولهذا أصبحت أمة الإسلام غرضاً لأعدائها، الذين تسلطوا عليها، وجاسوا خلال ديارها؛ فساموا كثيراً منها سوء العذاب، وكانت أمة مُمَنَّعَةً عزيزةً مهيبة الجناب.

إلا أنها لما نسيت حظاً مما ذكرت به هوت من عليائها، ونزلت من شامخ عزها، ولقيت صغاراً بعد شمم، وذلاً بعد عزة، وجهلاً بعد علم، وبطالة بعد نشاط، وتقاطعاً بعد ائتلاف، وكادت أن تشرف على حضيض التلاشي والفناء.

وهذا ما يؤكد على ضرورة الرجوع للدين، وأهمية التربية على عقائده الصحيحة، وأخلاقه الغراء؛ فللتربية الدينية في ترقية النفوس، وتهذيب الأخلاق أثرٌ أعظم من كل أثر؛ فإن التربية غير الدينية قد تضعف أمام كثير من الأهواء الطاغية؛ فلا تستطيع كبح جماحها.

أما التربية الدينية فلديها من المتانة ما يطارد هذه الأهواء.

وليس الذي يؤمن بأنه سيقف بين يدي علاّم الغيوب، فيحاسبه على ما ارتكبه من جنايات، ويجازيه عليها جزاء العادل الحكيم مثل الذي لا يعرف زاجراً عن الجناية سوى موضع لوم من يطَّلعون عليها، أو عقوبةِ من ترفع إليهم قضيتها.

ثم إن النفس الإنسانية _ في مبدأ فطرتها _ عاريةٌ من سائر الأخلاق خيرها وشرها، ولكنها فطرت على استعداد وقبول لما يؤثِّره فيها التعليم، والاقتداء من الأخلاق الفاضلة.

وهذا الاستعداد هو الذي جعلها متوجهة بفطرتها نحو السبيل الملاقي للحكمة؛ فإذا أُلْقِمَت ثدي التربية كانت سرعة انطباع الخلق وبطؤُهُ على قدر ما يبلغه ذلك الاستعداد الفطري من القوة والضعف.

ومما يرشد إلى أن النفوس متهيئة بطبيعتها إلى الأحوال الشريفة قوله ": =ما من مولود إلا يولد على الفطرة+ رواه البخاري ومسلم.

فقد ذكروا في تفسير الفطرة أنها الجبلة السليمة، والطبع المتهيئ لقبول الدين.

بل إن الفطرة هي دين الإسلام، والإسلام هو دين الفطرة، ولهذا جاء في بقية الحديث: =فأبواه يهودانه أو ينصرانه، أو يمجسانه+.

قال ابن القيم ×: =وذكروا عن عكرمة، ومجاهد، والحسن، وإبراهيم، والضحاك، وقتادة في قوله _ عز وجل _:[فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا] (الروم:30) قالوا : [فِطْرَةَ اللَّهِ]: دين الإسلام+( ).

فإذا كانت السجايا ميسرةً للأعمال، ومساعدةً على صدورها بسهولة _ دخل في وظيفة الإصلاحِ الدعوةُ إلى نبذ الأخلاق السافلة، والتحلي بالأخلاق الفاضلة.

ثم إن الأخلاق، والطباع _ كما أنها غريزية فطرية جبلية _ فهي كذلك اكتسابية، تخلُّقية تتأتَّى بالدّربة،والمجاهدة،والممارسة، قال الله _ سبحانه وتعالى _: [إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] (الرعد:11)، وقال: [قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى](الأعلى:14).

وقال النبي ": =إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحرَّ الخير يعطه ، ومن يتوقَّ الشر يوقه+( ).

فتغير الطباع والأخلاق وارد ممكن؛ فليس متعذراً ولا مستحيلاً، خلافاً لمن يرى أنها ثابتة في الإنسان لا يمكن أن تتغير؛ بحجة أنها غرائز فطر عليها، وطباعٌ جُبِلَ على التحلي بها؛ فلا يمكنه تغييرها، ولا يتصور فكاكه عنها.

ولو كانت الأخلاق لا تتغير لبطلت الوصايا، والمواعظ، والتأديبات.

ثم إن في الأدلة التي مضى ذكرها دلالة على هذا الأمر.

بل إن كثيراً من الأدلة من الكتاب والسنة إنما تحثّ على الفضائل، وتنهى عن الرذائل، ولو كان ذلك غير ممكن لكان ذلك من التكليف بما لا يطاق، ولا يقول بهذا أحد، بل كيف ينكر هذا، وتغيير خلق الحيوان الأعجم وارد ممكن؟!

إذ إن البازيَّ يُنْقَلُ من الاستيحاش إلى الأنس، والكلب من شَرَه الأكل إلى التأدب والإمساك عن التخلية، والفرس من الجماح إلى السلاسة والانقياد، وكل ذلك تغيير في الأخلاق.

فإذا كان هذا هو الشأن مع الحيوان فأَجْدرْ بالإنسان الذي ميَّزه الله بالعقل، وكُلِّف من بين سائر المخلوقات _ أن يتغير خلقه، ويتبدل طبعه إلى حد الاعتدال، وذلك إذا أخذ بالأسباب، وقام برياضة نفسه، وحملها على المكارم.

وخير دليل على هذا ما كان من أمر الصحابة _ رضي الله عنهم _ قبل بعثة النبي " فلقد كانوا _ كسائر كثير من العرب _ يتصفون بالشدة، والقسوة، والغلظة، والفظاظة.

فلما دخلوا في الإسلام، وتأدبوا بآدابه، وخالطت بشاشة الإيمان قلوبهم، رقّت طباعهم، ولانت عريكتهم.

بل إنهم أصبحوا مثالاً يحتذى، ونهجاً يقتفى في الإيثار، والسماحة، والكرم، والشجاعة، والحلم، ونحو ذلك من مكارم الأخلاق.

ثم إن الواقع يشهد على أن الأخلاق قابلة للتغيير، فأنت ترى وتقرأ وتسمع عن أناس ٍ سيئةٍ أخلاقُهم، دانيةٍ هممهم، خائرةٍ عزائمهم.

فإذا ما راض الواحد منهم نفسه وساسها، وتطلع إلى الفضائل، وسعى لها سعيها، وتخلى من الرذائل، وأنف أن يوصف بها _ حسنت أخلاقه وعلت همته، وَوَفُرَت كرامته، أما إذا جُبل المرء على مكارم الأخلاق، ثم سقاها بماء المكرمات ونمَّاها بالممارسة والمران _ فنور على نور، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء( ).

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.

 الرسالة الثانية المروءة

الحمد لله الوهَّاب الرزَّاق، والصلاة والسلام على من بُعِثَ لإتمام مكارِم الأخلاق، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تَبِعهم بإحسان إلى يوم التلاق، أما بعد:

فإن المروءةَ خَلَّةٌ كريمة، وخَصْلَةٌ شريفة، تَجْري في مُنْشئات الأدباء، ويُتَحَدَّثُ عنها في علوم الشريعة والأدب والأخلاق.

ولقد عُرِّفت المروءةُ بتعريفات عديدة لا تكاد تحصر، ولا تنافي بين أكثر تلك التعريفات؛ فالاختلاف فيها لفظي، ومن باب اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد، وأكثر تلك التعريفات إنما هو من قبيل التعريف بالمثال وببعض الأفراد.

فمما قيل في تعريف المروءة ما يلي:

1_ هي كمال الرجولية.

2_ هي صيانةُ النفس عن كل خُلُقٍ رديء.

3_ وقال الأحنف بن قيس ×: =المروءة العفة والحرفة+.

4_ وقال ميمون بن ميمون ×: =أول المروءة: طلاقةُ الوجهِ، والثاني: التودُّدُ، والثالث: قضاء الحوائج+.

5_ وقال ابن هبيرة ×: =المروءة إصلاح المال، والرَّزانة في المجلس+.

6_ وقيل: =مروءة الرجل صدقُ لسانه، واحتمال عثرات جيرانه، وبذل المعروف لأهل زمانه، وكفُّه الأذى عن أباعده وجيرانه+.

7_ وقيل: =المروءةُ إنصاف الرجلِ مَنْ هو دونه، والسُّمُوُّ إلى مَنْ هو فوقه، والجزاءُ بما أوتي إليه+.

8_ وقيل: =المروءةُ إذا أُعْطِيتَ شكرتَ، وإذا ابتليت صبرت، وإذا قدرت غفرت، وإذا وعدت أنجزت+.

9_ وقيل: =المروءة حسن العشرة، وحفظ الفرج، واللسان، وترك ما يعاب به+.

10_ وقيل: =هي ألا يأتي الإنسان ما يُعْتَذَر منه مما يحط مرتبته عند أهل الفضل+.

11_ وقال أبو العميثل أبياتاً جمعت خلالَ المكارمِ، وموجباتِ السؤدد، وتفاريق المروءة، قال فيها:

فاصدقْ وعَفَّ وبرَّ وارفقْ واتئِدْ

                   واْحْلِمْ ودارِ وكافِ واصبر واشْجَعِ

والطف ولِن وتأنَّ وانْصُرْ واحتملْ

                   واحْزِمْ وجِدَّ وحامِ واحملْ وادفعِ

هذا الطريق إلى المكارم مهيعــاً

                   فاسلك فقد أبصرت قصد المهيع

12_ وقال بهرام بن بهرام : =المروءة اسم جامع للمحاسن كلها+.

13_ وسئل عبدالله الفارسي عنها فقال: =التَّألُّفُ، والتَّظَرُّف، والتَّنَظُّفُ، وترك التكلف+.

14_ وقال الشربيني: =أحسن ما قيل في تفسير المروءة أنها تخلُّقُ المرء بأخلاق أمثاله من أبناء عصره ممن يراعي مناهج الشرع وآدابه في زمانه ومكانه+.

15_ وقال ابن سلاَّم: =ما من شيء يحمل على صلاح الدين والدنيا، ويبعث على شرف الممات والمحيا إلا وهو داخل تحت المروءة+.

هذا بعض ما قيل في المروءة، ولا خلاف بين من تحدثوا عنها أن هناك آداباً لا يعلو مقام الرجل في المروءة إلا بالمحافظة عليها.

وبين أيدينا منابع للمروءة عذبة صافية هي: الكتاب الحكيم، والسنة المطهرة، وآثار العظماء من سلفنا الصالح، وما أُثِر عن الحكماء وأهل المروءات.

 من مقومات المروءة وآدابها:

إليك أيها القارئ الكريم جملةً من الآداب التي يزيد بها معنى المروءة وضوحاً، وترتفع منزلة القائم بها درجات، وهي أشبه برؤوس الأقلام؛ لأن المقام لا يسمح بالتفصيل:

1_ أن يكون المرءُ ذا أناةٍ وتُؤَدَةٍ، فلا يبدو في حركته اضطراب أو عجلة، كأن يكثر الالتفات، أو يعجل في مشيته عجلةً خارجة عن حد الاعتدال.

أما السرعةُ بمعنى عدمِ التباطؤ فدليل الحزم، ومن مقومات المروءة.

2_ حسن البيان، وجمال المنطق، والترسل في الكلام.

3_ حفظ اللسان عن أعراض الناس، وعن ساقط القول ومرذوله.

4_ ملاقاة الناس بوجه طلق، ولسان رطب دون بحث عما تكنه صدورهم، وتنطوي عليه سرائرهم.

كان الحسن بن سهل يقول: =المروءة والشرف في البِشْر، ولا يصلح للصَّدْر إلا واسع الصدر+.

5_ الإصغاء لمن يتحدث، ولو كان حديثه مكروراً معلوماً؛ فإن ذلك يغري بمحبة من يصغي، ويشعر المتحدث بقيمته، وإلى هذا المعنى الجميل يشير أبو تمام في قوله:

من لي بإنسان إذا أغضبته

                   وجهلت كان الحلم ردَّ جوابه

وتراه يصغي للحديث بقلبه

                   وبسمعه ولعلـه أدرى بــه

6_ الصراحة، والترفع عن النفاق والمواربة؛ فلا يبدي لشخص مودة وهو يحمل له العداوة، ولا يشهد له باستقامة السيرة وهو يراه منحرفاً عن سواء السبيل.

والمراد أن صاحب المروءة لا يتخذ الملق والرياء عادة له، أما إذا اقتضت الحكمةُ إخفاء بعضِ ما يضمر من نحو الصداقة والعداوة _ فإن ذلك من مكملات المروءة.

7_ ألا تطيش به الولاية في زهو، ولا ينزل به العزل في حسرة.

8_ ضبط النفس عند هيجان الغضب، أو دهشة الفرح.

9_ الوقوف موقف الاعتدال في السراء والضراء، قال البعيث:

ولست بمفراح إذا الدهر سرني

                   ولا جازع من صِرْفِهِ المتقلب

وقال عبد العزيز بن زرارة الكلابي :

قد عشت في الدهر أطواراً على طرقٍ

                   شتى فصادفت منها اللِّيْنَ والبشعا

كُلاًّ بلوت فـلا النعمـاءُ تُبْطِرنـي

                    ولا تخشعت من لأوائها جزعا

لا يملأ الهولُ قلبي قبل وقعته

                   ولا أضيق به ذرعاً إذا وقعا

10_ إكرام الضيف، والتَّطَلُّقُ له، والقيام على خدمته، وألا يكلف المرء زائريه بأي عمل ولو قلَّ، كأن يطلب من ضيفه أن يناوله كتاباً، أو كأساً أو نحو ذلك، خصوصاً إذا كان الضيف غريباً، أو ليس ممن ترفع معه الكلفة، قال عمر ابن عبد العزيز ×: =ليس من المروءة استخدام الضيف+.

11_ المروءة تنادي صاحبها أن يسود مجلسه الجدُّ، والحكمة، وألا يسوده إسفاف في مزاح، أو إسراف فيه .

12_ ألا يفعل المرء في السر ما يستحيي منه في العلانية، مما يخل بالمروءة، ويزري بصاحبها.

13_ لزوم الحياء.

14_ لزوم الرفق.

15_ استعمال المداراة.

16_ صدق اللهجة.

17_ حفظ الأسرار، حتى بعد انصرام حبال المودة.

ليس الكريمُ الذي إن زل صاحبه

                   بث الذي كان من أسراره علما

بل الكريم الذي تبقى مودته

                   ويحفظ السر إن صافى وإن صرما

18_ العدل والإنصاف.

19_ العفة عما في أيدي الناس، قال أحمد بن يحيى ثعلب ×:

من عفَّ خفَّ على الصديق لقاؤه

                   وأخو الحوائج وجهه مبذول

وأخوك من وفَّرت ما في كيسه

                   فإذا استعنت به فأنت ثقيل

20_ الغيرة على الدين والمحارم.

21_ كبر النفس وعلو الهمة، والترفع عن الدنايا ومحقرات الأمور.

22_ الوفاء للإخوان.

23_ قضاء حوائج الناس.

24_ التودد للناس، والحرص على إدخال السرور عليهم.

25_ لزوم التواضع.

26_ تَحَمُّل ضيق العيش.

27_ تجنب إظهار الشكوى من حوادث الدهر إلا عند تقاضي الحقوق.

ومن أحكم ما قالته العرب:

ولربما ابتسم الكريم من الأذى

                   وفؤاده من حَرِّهِ يتأوه

28_ تَجَنُّبُ المنةِ، وتعدادِ الأيادي إلا في مواضع العتاب، والاعتذار لا لإظهار المنة، وإنما للتذكير بالود السالف.

قال الله _ عز وجل _:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى] (البقرة:264).

قال رجل لبنيه: =إذا اتخذتم عند رجل يداً فانسوها+.

وقال: = المنة تهدم الصنيعة+.

وقال ابن حزم ×: =حالان يسوغ فيهما ما يقبح في غيرهما، وهما المعاتبة، والاعتذار؛ فإنه يحسن فيهما تعديد الأيادي، وذكر الإحسان، وذلك غاية القبح فيما عدا هاتين الحالتين+.

29_ الحذر من إيذاء الآخرين، أو جرح مشاعرهم بقول، أو فعل، أو إشارة.

30_ الشوق للإخوان، والحنين للأوطان، والبكاء على ما مضى من الزمان.

قال ابن عبد البر ×: =قيل لبعض الحكماء: بأي شيء يعرف وفاء الرجال دون تجربة أو اختبار؟ قال: بحنينه إلى أوطانه، وتلهفه على ما مضى من زمانه+.

وقال ×: =عن الأصمعي قال: قال أعرابي: إذا أردت أن تعرف وفاء الرجل، ودوام عهده، فانظر إلى حنينه إلى أوطانه، وتشوُّقه إلى إخوانه، وبكائه على ما مضى من زمانه+.

31_ البر والصلة للوالدين، والأرحام.

32_ مقابلة الإساءة بالإحسان.

33_ قبول المعاذير من المعتذرين: قال الشافعي ×:

اقبل معاذير من يأتيك معتذراً

                   إن بَرَّ عندك فيما قال أو فجرا

لقد أجلك من يرضيك ظاهره

                   وقد أطاعك من يعصيك مستترا

34_ إحسان الظن، والتماس المعاذير للناس: توفي ابنٌ ليونس بن عبيد × فقيل له: إن ابنَ عون لم يأتك: فقال: إنا إذا وثقنا بمودة أخٍ لا يضرنا ألا يأتينا.

وقالت امرأة عبد الله بن مطيع لعبد الله: ما رأيت ألأم من أصحابك؛ إذا أيسرت لزموك، وإذا أعسرت تركوك.

فقال: هذا من كرمهم؛ يغشوننا في حال القوة منا عليهم، ويفارقوننا في حال العجز مِنَّا عنهم.

ومر بخالد بن صفوان صديقان، فعرج عليه أحدهما، وطواه الآخر، فقيل له في ذلك، فقال: عرج علينا هذا؛ لفضله، وطوانا ذاك؛ لثقته.

35_ السخاء في كافة صوره، من سخاء بالنفس، أو العلم، أو المال، أو الجاه، أو الخدمة، أو السخاوة عما في أيدي الناس، أو السخاء بالعفو، ونحو ذلك من أنواع السخاء.

36_ صيانة العرض، والبعد عن مواطن الريب والسخرية.

37_ الإعراض عن الجاهلين [خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ] (الأعراف:199).

38_ التغاضي، والتغافل.

39_ السماحة بالبيع والشراء من غير ضعف ولا عجز.

40_ الإتحاف بالهدايا، قال النبي ": =تهادوا تحابوا+.

41_ الحلم وكظم الغيظ.

42_ إنزال الناس منازلهم.

43_ التماس الرضا، وقلة الخلاف على الأصحاب خصوصاً في السفر، قال الأحنف بن قيس ×: =لو جلست إلى مائة لأحببت أن ألتمس رضا كل واحد منهم+.

وقال أبو غسان غناة بن كليب: =اجتمعت أنا ومحمد بن النَّضْر الحارثي، وعبدالله بن المبارك، والفضيل، ورجلٌ آخر؛ فصنعت لهم طعاماً، فلم يخالف محمد بن النضر علينا في شيء، فقال له ابن المبارك: ما أقل خلافك، فأنشد:

وإذا صاحبت فاصحب ماجداً

                   ذا حياء وعفاف وكرم

قائلاً للشيء: لا إن قلت: لا

                   وإذا قلت: نعم قال: نعم

44_ نشر الجميل، وستر القبيح عمن تفارقهم.

45_ نظافة البدن.

46_ طيب الرائحة.

47_ العناية بالمظهر بلا إسراف ولا مخيلة.

48_ قبول النقد الهادف والنصيحة الصادقة بقبول حسن وصدر رحب.

49_ تجنب الفضول من الطعام، والكلام، والمنام، ومخالطة الأنام.

50_ مراعاة العادات والأعراف ما لم تخالف الشرع.

51_ مراعاة أدب الغربة.

52_ مجالسة أهل المروءة.

53_ استكثار القليل من معروف الآخرين، يقول سفيان الثوري ×: =إني لأُريدُ شربَ الماءِ ؛ فيسبقني الرجل إلى الشربة، فيسقينيها، فكأنما دَقَّ ضلعاً من أضلاعي؛ لا أقدر على مكافأته+.

54_ نسيان الإنسانِ معروفَه، واستقلاله إذا قدمه للآخرين.

55_ القيام بحقوق الجيران من كف الأذى عنهم، واحتمال أذاهم، وحمايتهم، ونصرتهم، والإحسان إليهم، وإكرامهم.

56_ التقوى؛ فهي جماع المروءة، وأولها، وآخرها، وواسطة عقدها.

لذة المروءة وفضلها:

وإذا كانت المروءة تقتضي الإعراض عن كثير من اللذات _ فإن المروءة نفسَها لذةٌ تفوق كل لذة في هذه الحياة، وإن كان في حفظ المروءة ملاقاةُ كثيرٍ من المشاق فإن راحة الضمير التي يجدها الرجل عندما يبلغ في المروءة غايةً ساميةً تُنسيه كلَّ مشقة، ولا يبقى معها للتعب باقية، وإذا نظرنا في تفاصيل الأخلاق والآداب التي تقوم المروءة على رعايتها وجدناها تبعث على إجلال صاحبها، وامتلاء العين بمهابته.

التربية على المروءة:

وبعد أن تبين لنا كيف انتظمت المروءة أخلاقاً سنيةً، وآداباً مضيئةً، وعرفنا أن رسوخ هذه الأخلاق، والآداب في النفس يحتاج إلى صبر، ومجاهدة، ودقة ملاحظة، وسلامة ذوق _ فإنه حقيق بنا أن نربي أنفسنا على رعايتها، ونربي أولادنا، ومن تحت أيدينا على ذلك الخلق منذ عهد التمييز حتى لا تسبق إليهم أخلاقٌ غير نقية، وعاداتٌ غير رضية؛ فتحول بينهم وبين الفضائل، فلا تجد المروءة إلى نفوسهم مدخلاً.

وإذا ربَّيناهم على خلق المروءة حمدوا أُبُوَّتنا، وحسنَ تربيتنا، وكانوا قرةَ عينٍ لنا، وأسوة لأحفادنا، وزينة لأمتنا، وبذلك يفوزون بالعزة في الدنيا، والسعادة في الآخرة.

 الرسالة الثالثة الحياء فضائل، وضوابط، وتقسيمات

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فإن الحياء خلقُ الإسلام، وشعبةٌ من شعب الإيمان، ومقامٌ عالٍ من مقامات الإحسان.

 والحياء كله خير، والحياء لا يأتي إلا بخير.

 قال الله _ تعالى _:[أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى](العلق:14).

وقال _ عز وجل _:[إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً](النساء:1).

وقال _ تعالى _:[يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ](غافر:19).

وفي صحيح البخاري وغيره من حديث ابن عمر ÷ أن رسول الله " مرَّ برجل وهو يعظ أخاه في الحياء فقال: =دعه؛ فإن الحياء من الإيمان+.

وفي الصحيحين عن عمران بن حصين ÷ عن النبي " أنه قال: =الإيمان بضع وسبعون شعبة، أو بضع وستون شعبة؛ فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان+.

وفيهما عن أبي سعيد الخدري ÷ أنه قال: =كان رسول الله " أشد حياءاً من العذراء في خدرها؛ فإذا رأى شيئاً يكرهه عرفناه في وجهه+.

وفي سنن ابن ماجة عن أنس ÷ أن النبي " قال: =إن لكل دينٍ خُلقاً، وخُلُق الإسلام الحياء+ حسنه الألباني في صحيح الجامع.

وفي صحيح البخاري وغيره عن النبي "أنه قال: =إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنعْ ما شئت+.

قال النووي × في قوله: =فاصنعْ ما شئت+: =أمرُ إباحةٍ؛ لأن الفعلَ إذا لم يكن منهياً عنه كان مباحاً.

ومنهم من فسر الحديث بأنك إذا كنت لا تستحي من الله _ تعالى _ ولا تراقبه _ فأعطِ نفسَك مناها، وافعل ما تشاء؛ فيكون الأمر فيه للتهديد لا للإباحة، ويكون كقوله: [اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ](فصلت:40)، وكقوله:[وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ](الإسراء:64)+ا. هـ.

وقال ابن القيم × في قوله: =فاصنع ما شئت+ قال: =وفي هذا قولان:

أحدهما: أنه أمر تهديد ومعناه الخبر، أي من لم يستحِ صنع ما شاء.

والثاني: أنه أمرُ إباحةٍ، أي انظر إلى الفعل الذي تريد أن تفعله؛ فإن كان مما لا يُستحيى منه فافعله، والأول أصحُّ، وهو قول الأكثرين+ا. هـ.

 وذكر ابن عبد البر × عن سليمان _ عليه السلام _ قوله: =الحياءُ نظامُ الإيمان؛ فإذا انحل النظام ذهب ما فيه+.

وقيل في تفسير قوله _ تعالى _:[وَلِبَاسُ التَّقْوَى](الأعراف:26)،قيل: هو الحياء.

وقال الحسن ×: =أربع من كن فيه كان عاقلاً، ومن تعلق بواحدة منهن كان من صالحي قومه: دينٌ يُرْشِدُه، وعقلٌ يسدده، وحسبٌ يصونه، وحياءٌ يقوده+.

وقال الأصمعي ×: =سمعت أعرابياً يقول من كساه الحياء ثوبَه لم يرَ الناسُ عيبَه+.

وقال ابن حبان ×: =فالواجب على العاقل لزومُ الحياء؛ لأنه أصل العقل، وبَذْرُ الخير، وتركُه أصلُ الجهل، وبذر الشر+.

وقال صالح بن عبد القدوس:

إذا قلَّ ماءُ الوجهِ قل حياؤه

                   ولا خيرَ في وجهٍ إذا قل ماؤه

حياءَك فاحْفَظْهُ عليك وإنما

                   يدلُّ على وجه الكريم حياؤه

وقال بشار:

ولقد أصْرِفُ الفؤادَ عن الشي

                   ء حياءاً وحبُّه في الفؤاد

أُمسِك النفسَ بالعفاف وأمسي

                   ذاكراً في غدٍ حديثَ الأعادي

قال يحيى بنُ معاذٍ ×: =من استحيا من الله مطيعاً استحيا الله منه وهو مذنبٌ+.

قال ابن القيم × معلقا على كلمة يحيى بن معاذ: =وهذا الكلام يحتاج إلى شرح، ومعناه: أن من غلب عليه خلقُ الحياء من الله حتى في حال طاعته، فقلبُهُ مطرقٌ بين يديه إطراقَ مستحٍ خجلٍ _ فإنه إذا واقع ذنباً استحيا الله _ عز وجل _ من نظره إليه في تلك الحال؛ لكرامته فيستحيي أن يرى مِنْ ولِيِّه، ومَنْ يَكْرُمُ عليه ما يشينه عنده.

وفي الشاهد شاهدٌ بذلك؛ فإن الرجلَ إذا اطَّلع على أخصِّ الناس به، وأحبِّهم إليه، وأقربهم منه _ من صاحب أو ولد أو من يحبه _ وهو يخونه؛ فإنه يلحقه من ذلك الاطلاع عليه حياءٌ عجيب، حتى كأنه هو الجاني وهذا هو غاية الكرم+.

إلى أن قال ×: =أما حياءُ الرب _ تعالى _ من عبده فذاك نوعٌ آخرُ لا تدركه الأفهامُ، ولا تكيِّفه العقولُ؛ فإنه حياءُ كرمٍ، وبرٍّ، وجودٍ، وجلالٍ؛ فإنه _ تبارك وتعالى _ حييٌّ كريمٌ، يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردَّهما صِفْراً، ويستحيي أن يعذب ذا شيبةٍ شابت في الإسلام+.

تعريف الحياء: أما تعريف الحياء فقد عرفه العلماء بتعريفات متقاربة هي _تقريباً_ من باب اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد، فمن تلك التعريفات ما يلي:

1_ عرفه ابن الصلاح بقوله: =وإنما حقيقة الحياء: خلق يبعث على ترك القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق+.

2_ وعرفه الزمخشري بأنه: =تَغَيُّرٌ وانكسار يلحق من فعل أو تركٍ يذم به+.

3_ وقال ابن مفلح: =وحقيقة الحياء: خلق يبعث على فعل الحسن، وترك القبيح+.

4_ وعرفه بعض العلماء بأنه =عبارة عن انقباض النفس عما تذم عليه، وثمرته ارتداعها عما تنزع إليه الشهوة من القبائح+.

أقسام الحياء: وأما أقسام الحياء فقد قَسَّم بعضُ العلماءِ الحياءَ إلى ثلاثةِ أقسام وبعضُهم إلى أكثر من ذلك.

قال الماوردي ×: =واعلم أن الحياء في الإنسان قد يكون من ثلاثة أوجه:

أحدها: حياؤه من الله _ تعالى _ ويكون بامتثال أوامره، والكف عن زواجره.

والثاني: حياؤه من الناس، ويكون بكف الأذى، وترك المجاهرة بالقبيح.

والثالث: حياؤه من نفسه، ويكون بالعفة، وصيانة الخلوات+.

وقال ابن القيم ×: =وقد قُسِّمَ الحياءُ على عشرة: حياءُ جناية، وحياءُ تقصيرٍ، وحياءُ إجلالٍ، وحياءُ كرمٍ، وحياءُ حشمةٍ، وحياءُ استصغارٍ للنفس، واحتقارٍ لها، وحياءُ محبةٍ، وحياءُ عبوديةٍ، وحياءُ شرفٍ وعزٍّ، وحياءُ المستحيي من نفسه.

فأما حياءُ الجناية، فمنه حياءُ آدمَ _ عليه السلام _ لما فر هارباً من الجنة، فقال الله _ تعالى _ : =أفراراً مني يا آدم؟

قال: لا يا رب، بل حياءاً منك+.

وحياءُ التقصيرِ: كحياء الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فإذا كان يوم القيامة قالوا: سبحانك ما عبدناك حقَّ عبادتك.

وحياءُ الإجلالِ: هو حياءُ المعرفةِ، وعلى حسب معرفة العبدِ بربه يكون حياؤه منه.

وحياءُ الكرمِ: كحياء النبي " من القوم الذين دعاهم إلى وليمة زينب، وطولوا الجلوس عنده، فقام استحياءاً أن يقول لهم: انصرفوا.

وحياءُ الحشمةِ: كحياء علي بن أبي طالب ÷ أن يسأل النبي " عن المذي؛ لمكانة ابنته منه.

وحياءُ الاستحقارِ واستصغارِ النفس: كحياء العبد من ربه _ عز وجل _ أن يسأله حوائجه؛ احتقاراً لنفسه، واستصغاراً لها.

وفي أثر إسرائيلي: =أن موسى _ عليه السلام _ قال: يارب! إنه لتعرض لي حاجةٌ من الدنيا؛ فاستحيي أن أسألك هي يا رب+.

فقال الله _ تعالى _ : =سلني حتى ملحَ عجينتك، وعلفَ شاتك+.

وأما حياءُ المحبةِ: فهو حياءُ المحبِّ من محبوبه، حتى إذا خطر على قلبه في غيبته هاج الحياءُ من قلبه، وأحسَّ به في وجهه، ولا يدري ما سببه.

وكذلك يعرضُ للمحب عند ملاقاة محبوبه، ومفاجأته له روعةٌ شديدة.

وأما حياءُ العبودية: فهو حياءٌ ممتزجٌ من محبةٍ، وخوفٍ، ومشاهدةِ عدم صلاح عبوديته لمعبوده، وأن قدرَه أعلى وأجلُّ منها؛ فعبوديته له توجب استحياءه منه لا محالة.

وأما حياءُ الشرفِ والعزة: فحياءُ النفسِ العظيمة الكبيرة إذا صدر منها ما هو دون قدرها من بذلٍ، أو عطاءٍ، أو إحسانٍ؛ فإنه يستحيي _ مع بذله _ حياءَ شرفِ نفسٍ، وعزة.

وهذا له سببان أحدهما: هذا، والثاني: استحياؤه من الآخذ، حتى كأنه هو الآخذُ السائلُ، حتى إنَّ بعض أهل الكرم لا تطاوعه نفسُه بمواجهته لمن يعطيه حياءاً منه، وهذا يدخل في التلوم؛ لأنه يستحيي من خجلة الآخذ.

وأما حياء المرء من نفسه: فهو حياء النفوس الشريفة العزيزة الرفيعة من رضاها لنفسها بالنقص، وقناعتها بالدون، فيجدُ نفسَه مستحيياً من نفسه، حتى لكأن له نَفْسين، يستحي بإحداهما من الأخرى.

وهذا أكملُ ما يكون من الحياء؛ فإن العبد إذا استحيا من نفسه فهو بأن يستحيي من غيره أجدر+ انتهى ملخصاً من كلام ابن القيم × .

إشكال في الحياء: قد يشكل على بعض الناس كونُ الحياءِ من الإيمان، وكونُه خيراً، أو لا يأتي إلا بخير مع أن صاحبه قد يمتنع من أن يواجِهَ بالحق من يستحيي منه؛ فيترك إنكار المنكر عليه، وأمرَه بالمعروف، وقد يحمله الحياء على الإخلال ببعض الحقوق، وغير ذلك مما هو معروف في العادة.

والجواب أن ذلك المانعَ ليس حياءاً حقيقياً بل هو صوريٌّ وإنما هو عجز ومهانةٌ، وخورٌ، وتسميته حياءاً من باب التجوز؛ لمشابهته الحياء الحقيقي.

هل الحياء غريزة أو اكتساب؟ ولسائل أن يسأل: هل الحياءُ غريزةٌ وطبيعةٌ تكون في الإنسان؟ أو هو اكتسابيٌّ وتخلق يأتي بالتدرب والأخذ بالأسباب؟

والجواب أن الحياءَ قد يكون غريزةً وطبيعةً في الإنسان، وقد يكون تخلُّقاً واكتساباً كسائر أعمال البر.

واستعماله على مقتضى الشرع يحتاج إلى كسب، ونية وعلم؛ فهو من الإيمان لهذا السبب، ولكونه باعثاً على أفعال البر، مانعاً من المعصية.

الحياء وسط بين رذيلتين: ثم إن الحياءَ وسطٌ بين رذيلتين إحداهما: الوقاحة، والأخرى: الخجل، ويقال لها: الخُرْق.

أما الوقاحةُ فمذمومةٌ بكلِ لسانٍ بالنسبة لكل إنسان وحقيقتها: لجاج النفس في تعاطي القبيح.

وأما الخرقُ وهو الدهشةُ من شدة الحياء،فيذم به الرجل لا سيما في المواطن التي تقتضي الإقدامَ، كالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والحكمِ بالحق، والقيام به، وأداء الشهادات على وجهها، ونحو ذلك.

مظاهر لقلة الحياء: ومع عظم مكانة الحياء، وما ورد في فضله، والنهي عن ضده إلا أن هناك مظاهرَ تشيع في أوساط الناس تدلُ على قلة الحياء، ومن ذلك على سبيل المثال:

1_ المجاهرةُ بالمعاصي عموماً.

2_ التدخينُ _ خصوصاً في الأماكن العامة _.

3_ كثرةُ اللجاج، والسباب، والخصومة، والصخب.

4_ عقوق الوالدين.

5_ قلة الأدب مع المربين، والمعلمين.

6_ أذية الجيران، والناس عموماً.

7_ رفع الصوت بالغناء.

8_ التفحيط.

9_ المزاح المسف البذيء.

10_ التبذلُ، والتكشفُ، والتعري.

11_ تبرج النساء ومزاحمتهن للرجال في الأسواق، والأماكن العامة.

12_ المعاكسات.

13_ تقليدُ الكفار في مستهجن العادات.

14_ تَقصُّدُ استعمال ما يدعو إلى الشهرة ولفت الأنظار.

15_ كثرةُ الحديث عن النفس على سبيل المفاخرة.

16_ الصخب في الأسواق.

17_ الكتاباتُ البذيئة على الجدارن، والأماكن العامة.

 أسباب اكتساب الحياء: الحياءُ _ وإن كان جبلياً _ قد يكتسب، وينمو بالأخذ بالأسباب، ومن تلك الأسباب ما يلي:

1_ استحضار مراقبة الله _ عز وجل _ للعبد.

2_ استحضار مراقبة الملائكة الشهود.

3_ الإمساكُ مما تقتضيه قلةُ الحياءِ من قولٍ أو فعلٍ.

4_ تذكرُ الآثارِ الطيبة للحياء، والآثارِ القبيحة لقلة الحياء.

5_ مجالسة أهل الحياء، ومجانبةُ أهل الوقاحة.

6_ مجاهدةُ النفس، وتدريبها على اكتساب الحياء، وتكلف ذلك مرة إثر مرة.

7_ قراءةُ القرآن بالتدبر؛ فإنه يهدي للتي هي أقوم، والحياء من جملة ذلك.

8_ تعاهدُ الإيمان وتقويتُه؛ فإن الحياء من الإيمان.

9_ تحري الصدق؛ فإنه يهدي إلى البر، والحياءُ من البرِّ، وتجنبُ الكذب؛ فإنه يهدي إلى الفجور وقلة الحياء من الفجور.

10_ الدعاءُ بأن يجعلك الله من أهل الحياء.

11_ استحضارُ حياء النبي " فلقد كان أشد حياءاً من العذراء في خدرها.

12_ مطالعةُ أخلاق الكمَّل من الرجال كالرسل.

13_ التناصحُ والتواصي بالحياء، وإشاعةُ روح الحياء في المجتمع،

14_ تربية الأولاد على هذا الخلق العظيم.

15_ الحرصُ على إزالة ما ينافي ذلك.

اللهم اجعلنا من أهل الحياء، وأعذنا من الوقاحة وسوء الأدب.

وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

 الرسالة الرابعة الحلم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذه معالم في الحلم يتبين من خلالها بعض الضوابط في شأنه.

مفهوم الحلم:

النفوس ترغب في أشياء، وتنْفُرُ من أخرى، وفي النفوس طبيعة غضب تثور عند منعها مما ترغب فيه، أو عند ملاقاتها لما تنفر منه.

ومن المخل بنظام الأفراد والجماعات إطلاق العنان لقوة الغضب تثور كلما منعت النفوس مما تحب، أو لقيت ما تكره.

والحكمة تقضي أن تكون قوة الغضب خاضعةً للعقل خضوعاً يجري في النفس مجرى الطبيعة، فلا تهيج إلا للأمر الذي ينبغي أن تهيج له، وفي الوقت الذي ينبغي أن تهيج فيه، ولا تتجاوز الحدّ الذي ينبغي أن تقف عنده؛ فذلك ما يعرف بالحلم، وهو ما نحن بأمسِّ الحاجة إليه؛ فالحلم _ إذاً _ هو ضبط النفس عند هيجان الغضب.

ولو قيل: من الحليم بحق؟ لقيل: هو من بلغ أن تكون قوة حلمه منقادة للعقل، جارية على مقتضى العلم، فهو الحليم بحق.

هل من شروط الحلم أن يفقد الإنسان الغضب جملة؟

ليس من شرط الحلم أن يفقد الرجل قوة الغضب، وإنما شرط الحلم أن لا يطغى الغضب حتى يدفع الرجل إلى الانتقام، أو يمنعه من الصفح حيث يكون الصفح أولى به.

فالحليم قد يأخذه الغضب لجهل جاهل عليه، لكن يكظم غيظه حتى لا يكون له أثر في غير نفسه، ومن أحكم ما قالته العرب:

و لربما ابتسم الكريم من الأذى

                   وفؤاده من حَرِّهِ يتأوه

هل الحلم يعارض الحزم؟

والحلم لا يعارض الأخذ بالحزم شَأْنُه شأن الفضائل؛ حيث يأخذ بعضها ببعض، وتتلاقى؛ لتتعاون على البر والتقوى؛ فإذا كان الحلم سكونَ النفس وعدمَ تهيُّجها للمكروه الذي يكفي في دفعه الصفح عنه _ فإن من الحزم الغضبَ للأذى الذي يصدر عن لؤم، ويتمادى ولو مع الإغضاء عنه( ).

قال المتنبي:

إذا قيل: رفقاً قل: فللحلم موضع

                   وحلم الفتى في غير موضعه جهل

وقال النابغة الجعدي ÷:

ولا خير في حلم إذا لم تكن له

                   بوادرُ تحمي صَفْوَه أن يكدرا

وقال الحسين بن عبد الصمد يمدح بعض الأمراء:

عجبوا لحلمك أن تحوَّل سطوةً

                   وزُلالِ خُلْقِكَ كيف عاد مكدرا

لا تعجبوا من رِقَّةٍ وقساوة

                   فالنار تُقْدَحُ من قضيب أخضرا

هل الحلم يشتبه بالذلة؟

والحلمُ لا يشتبه بالذلة في حال؛ فإن الذلة احتمال الأذى على وجه يذهب بالكرامة.

أما الحلم فهو إغضاء الرجل عن المكروه حيث يزيده الإغضاء رفعة ومهابة.

ولا يظهر معنى الحلم إلا مع القدرة على دفع الأذى.

هل الحلم فطري أم اكتسابي؟

وكما أن الحلم فطريٌّ جِبِلِّيٌ يولد مع الإنسان فهو كذلك يأتي بالتحلم، والتَّخَلق، والتصبر، والدّربة، والمران، ومجالسة الحلماء، والنظر في سير أهل الحلم.

قال الأحنف بن قيس ×: =كنا نختلف إلى قيس بن عاصم نتعلَّم منه الحلم كما نتعلم الفقه+.

والأخلاق كلها في حاجة إلى التعهد بالتربية والتهذيب، وأشدها إلى ذلك خلق الحلم.

من فضائل الحلم:

مكارم الأخلاق كلها خيرٌ، وكل مكرمة ترفع صاحبها في سماء السيادة والشرف درجات.

ومن أعظم تلك المكارم أثراً في سعادة الأفراد والجماعات خلق الحلم.

فالحلم خلق الأنبياء، ودأب الفضلاء، وأدب النبلاء.

وفي الحلم سلامة العرض، وراحة الجسد، واجتلاب الحمد، وبالحلم يحفظ الرجل على نفسه عزتها؛ إذ يرفعها عن مجاراة الطائفة التي تلذ المهاترة والإقذاع.

كان عروة بن الزبير إذا أسرع إليه أحدٌ بشتم، أو قولِ سوءٍ لم يُجِبْهُ، وقال: =إني أتركك رفعاً لنفسي+.

ولما ولي عمر بن عبد العزيز × خرج ليلة في السحر إلى المسجد ومعه حَرَسِيٌّ فمرَّا برجلٍ نائم في الطريق، فعثُر به عمر فقال الرجل: أمجنون أنت؟! قال عمر: لا، فَهَمَّ به الحرسيُّ، فقال عمر: مه؛ فإنه سألني: أمجنون أنت؟ فقلت: لا!.

وشتم رجلٌ الحسن، وأربى عليه فقال له الحسن: أما أنت فما أبقيت شيئاً، وما يعلم الله أكثر.

وشتم رجلٌ الأحنف بن قيس، وجعل يتبعه حتى بلغ حَيَّه، فقال له الأحنف: يا هذا إن كان بقي في نفسك شيء فهاته، وانصرف، لا يسمعك بعض سفهائنا؛ فتلقى ما تكره.

وكثيراً ما يشكو الحكماء من قلة الحلم في الناس، قال أبو العتاهية:

عذيريَ في الإنسان ما إن جفوتُه

                   صفا لي ولا إن صرت طوعَ يديه

وإني لمشتاقٌ إلى ظلِّ صاحب

                   يَرِقُّ ويصفو إنْ كدرتُ عليه

ويروى أن المأمون لما سمع هذين البيتين قال: خذو مني الخلافة، وأعطوني هذا الصاحب.

ثم إن الحلم قد يقطع شراً عظيماً لو لم يقابل بالحلم لتمادى وعظم، قال أيوب: =حلم ساعة يدفع شراً كبيراً+.

وقال الأحنف: =رب غيظ تجرَّعْتُهُ مخافة ما هو أشر منه+.

بل قد يضع الحلمُ مكانَ الضغينة مودة؛ ذلك أن الفضيلة محبوبةٌ في نفسها، وتدعو إلى إجلال من يتمسك بها؛ فكثيراً ما يكون الصفح عن المسيء دواءً لسوء خلقه، وتقويماً لعوجه؛ فيعود الجفاء إلى ألفة، والمناواة إلى مسالمة.

أما التسرع في دفع السيئة بمثلها، أو أشدَّ دونما نظر إلى الأثر السيء _ فذلك دليل ضيق الصدر، والعجز عن كبح جماح الغضب، وإنما يتفاضل الناس على قدر تدبرهم للعواقب، وإسكاتهم الغضب إذا طغى: [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)](فصلت).

ففي الحلم، والصفح، من الطمأنينة، والسكينة، والحلاوة، وشرف النفس، وعزِّها، وترفُّعِها عن تشفيها بالانتقام ما ليس شيء منه في المقابلة والانتقام.

قال الشافعي ×:

لما عفوت ولم أحقد على أحدٍ

                   أرحت نفسي من ظلم العداواتِ

وقال الشيخ محمد الشنقيطي ×:

وإني لأكسو الخلَّ حلَّةَ سندس

                   إذا ما كساني من ثياب حداده

ثم إنك ترى الناس في جانب الحليم متى كان خصمه أو مُنَاظِرُه ينحدر في جهالة، ولا يندى جبينه أن يقول سوءاً، قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ÷: =حلمك على السفيه يكثر أنصارك عليه+.

ومن فضل الحلم أن رئاسة الناس صغيرةً كانت أم كبيرة لا ينتظم أمرُها إلا أن يكون الرئيس راسخاً في خلق الحلم، قال معاوية ÷ لعرابة الأوسي: بمَ سدت قومك حتى قال فيك الشماخ:

رأيت عرابة الأوسي يسمو

                   إلى الخيرات منقطع القرين

إذا ما رايةٌ رفعت لمجدٍ

                   تلقَّاها عرابةُ باليمين

قال عرابة: غيري أولى مني بذلك يا أمير المؤمنين، قال معاوية: عزمت عليك لَتُخْبِرَنِّي، قال عرابة: يا أمير المؤمنين، كنت أحلم على جاهلهم، وأعطي سائلهم، وأسعى في قضاء حوائجهم.

وما ذلك إلا أن الناس يكرهون جافي الطبع، ولا يجتمعون حول مَنْ يأخذه الغضب لأدنى هفوة إلا أن يساقوا إليه سوقاً؛ فمن قلَّ نصيبُه من الحلم قلَّ أنصاره، وذهبت من قلوب الناس مودته، والرئيس بحق هو من يملك القلوب قبل أن يبسط سلطانه على الرقاب.

حلم سيد البشر:

لقد امتنّ ربنا _ جل وعلا _ على نبيه " بأن جبله على هذه السيرة الحميدة، وأن جنبه الغلظة، والفظاظة، فقال _ عز وجل _:[وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ](آل عمران:159).

ولقد كانت سيرة نبينا " حافلة بهذا الخلق العظيم، فلقد كان يلاقي الإساءة بالإحسان، والغلظة بالرفق، ويدفع السيئة بالحسنة؛ فهذه السيرة ترشد رئيس القوم، والداعية، والعالم، والمعلم أن يوسع صدره لمن يناقشه ويجادله ولو صاغ أقواله في غلظة وجفاء.

فسيرته " هي التي علمت معاوية ÷أن يقول: =والله لا أحمل سيفي على من لا سيف له؛ فإن لم يكن لأحدكم سوى كلمة يقولها؛ ليشتفي بها فإني أجعل لها ذلك دبر أذني، وتحت قدمي+.

ويقول: =لا أحمل سيفي ما كفاني سوطي، ولا أحمل سوطي ما كفاني مقولي+.

ولما أغلظ عليه رجل القول، فحلم عنه قيل له: أتحلم عن هذا؟ فقال: =إني لا أحول بين الناس وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين سلطاننا+.

وقال رجلٌ من قريش: ما أظن معاوية أغضبه شيءٌ قط!؛ فقال بعضهم: إن ذُكِرَتْ أُمُّه غضب؛ فقال مالك بن أسماء المنى القرشي: أنا أغضبه إن جعلتم لي جُعْلاً _ أي أجراً _ ففعلوا، فأتاه في الموسم، فقال له: يا أمير المؤمنين! إن عينيك تشبهان عيني أمِّكَ.

قال معاوية: نعم! كانتا عينين طالما أعجبتا أبا سفيان! ثم دعا مولاه شقران، فقال له: أعدد لأسماء المنى ديةَ ابنها؛ فإني قد قتلته وهو لا يدري.

فرجع وأخذ الجعل، فقيل له: إن أتيت عمر بن الزبير فقلتَ له ما قلت لمعاوية أعطيناك كذا وكذا؛ فأتاه، فقال له ذلك، فأمر عمر بن الزبير بضربه حتى مات، فبلغ ذلك معاوية، فقال: أنا _ والله _ قتلته، وبعث إلى أمه بديته، وأنشأ يقول:

ألا قل لأسماء المنى أمِّ مالك

                   فإني لَعَمْرُ الله أهلكت مالكا

قال ابن الأثير في تاريخه 9/225 متحدثاً عن صلاح الدين الأيوبي: =وكان × حليماً، حسن الأخلاق، متواضعاً، صبوراً على ما يكره، كثير التغافل عن ذنوب أصحابه، يسمع من أحدهم ما يكره، ولا يُعْلمه بذلك، ولا يتغير عليه.

وبلغني أنه كان جالساً، وعنده جماعة، فرمى بعض المماليك بعضاً بسرموزة _ رأس الخفِّ _ فأخطأته، ووقعت بالقرب منه، فالتفت إلى الجهة الأخرى يكلم جليسه؛ ليتغافل عنها+.

ومن فوائد الحلم السلامة من تشوش القلب، ومرض البدن، وسائر المشكلات الناجمة عن الغضب.

أما أعظم فوائد الحلم فهي الفوز برضا الخالق _ جل وعلا _ فإنه قد دعا إليه في آيات كثيرة، قال _ تعالى _:[وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ](آل عمران:134)، وأثنى على عباده المؤمنين بقوله:[وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً ](الفرقان:63).

والمؤمنون حقَّاً يضبطون أنفسهم عند الغضب؛ ابتغاء رضا الخالق _ جل وعلا _.

شتم رجلٌ عمر بن ذَرٍّ فقال له: =إني أمتُّ مشاتمةَ الرجال صغيراً فلن أُحْيِيها كبيراً، وإني لا أكافي من عصى الله فيّ بأكثر من أن أطيع الله فيه+.

وخلاصة القول أن الحلم يحتاج إليه عميد الأسرة في منزله، والتاجر في محل تجارته، والعالم في مجلس دراسته، والمعلم داخل فصله ومع طلابه، والقاضي في مقطع أحكامه، والرئيس الأعلى في سياسة رعيته.

بل يحتاج إليه كل إنسان ما دام الإنسان مدنيَّاً بالطبع، ولا يمكنه أن يعتزل الناس جملة، ويعيش في وحدة مطلقة.

ولئن كانت الحاجة إلى الحلم ماسّة في كل وقت فإنها في هذا الزمان أشدُّ مسيساً؛ لكثرة ضغوط الحياة، وقلة احتمال كثير من الناس لأتفه الأمور.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 الرسالة الخامسة منْ تركَ شيئاً للهِ عوّضَهُ الله خيراً منه

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فإن للشهوات سلطاناً على النفوس، واستيلاءاً وتمكناً في القلوب، فتركها عزيز، والخلاص منها عسير، ولكن من اتقى الله كفاه، ومن استعان به أعانه [وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ](الطلاق:3).

وإنما يجد المشقة في ترك المألوفات والعوائد من تركها لغير الله، أما من تركها مخلصاً لله فإنه لا يجد في تركها مشقة إلا أول وهلة؛ ليمتحن أصادق في تركها أم كاذب، فإن صبر على تلك المشقة قليلاً استحالت لذة.

وكلما ازدادت الرغبة في المحرم، وتاقت النفس إلى فعله، وكثرت الدواعي للوقوع فيه _ عظم الأجر في تركه، وتضاعفت المثوبة في مجاهدة النفس على الخلاص منه.

ولا ينافي التقوى ميل الإنسان بطبعه إلى الشهوات المحرمة، إذا كان لا يغشاها، ويجاهد نفسه على بغضها، بل إن ذلك من الجهاد ومن صميم التقوى.

ثم إن من ترك لله شيئاً عوضه الله خيراً منه، والعوض من الله أنواع مختلفة، وأجل ما يعوض به: الأنس بالله، ومحبته، وطمأنينة القلب بذكره، وقوته، ونشاطه، ورضاه عن ربه _ تبارك وتعالى _ مع ما يلقاه من جزاء في هذه الدنيا، ومع ما ينتظره من الجزاء الأوفى في العقبى.

وإليك نماذج لأمور من تركها لله عوضه الله خيراً منها:

1_ من ترك مسألة الناس، ورجاءهم، وإراقة ماء الوجه أمامهم، وعلق رجاءه بالله دون سواه _ عوضه خيراً مما ترك؛ فرزقه حرية القلب، وعزة النفس، والاستغناء عن الخلق =ومن يتصبر يصبره الله ومن يستعفف يعفه الله+.

2_ ومن ترك الاعتراض على قدر الله؛ فسلم لربه في جميع أمره _ رزقه الله الرضا واليقين، وأراه من حسن العاقبة ما لا يخطر له ببال.

3_ ومن ترك الذهاب للعرافين والسحرة رزقه الله الصبرَ، وصدقَ التوكلِ، وتَحقُّقَ التوحيدِ.

4_ ومن ترك التكالب على الدنيا جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة.

5_ ومن ترك الخوفَ من غير الله، وأفرد الله وحده بالخوف _ سلم من الأوهام، وأَمَّنه الله من كل شيء؛ فصارت مخاوفه أمناً وبرداً وسلاماً.

6_ ومن ترك الكذب، ولزم الصدق فيما يأتي ويذر _ هدي إلى البر، وكان عند الله صديقاً، ورزق لسان صدق بين الناس، فسودوه، وأكرموه، وأصاخوا السمع لقوله.

7_ ومن ترك المراء _ وإن كان محقاً _ ضُمِنَ له بيتٌ في ربض الجنة، وسلم من شر اللجاج والخصومة، وحافظ على صفاء قلبه، وأمن من كشف عيوبه.

8_ ومن ترك الغش في البيع والشراء زادت ثقة الناس به، وكثر إقبالهم على سلعته.

9_ ومن ترك الربا، وكسب الخبيث بارك الله في رزقه، وفتح له أبواب الخيرات والبركات.

10_ ومن ترك النظر إلى المحرم عوضه الله فراسة صادقة، ونوراً وجلاءً، ولذة يجدها في قلبه.

11_ ومن ترك البخل، وآثر التكرم والسخاء _ أحبه الناس، واقترب من الله ومن الجنة، وسلم من الهم والغم وضيق الصدر، وترقى في مدارج الكمال ومراتب الفضيلة [وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ](الحشر:9).

12_ ومن ترك الكبر، ولزم التواضع _ كمل سؤدده، وعلا قدره، وتناهى فضله، قال ": =ومن تواضع لله رفعه+.

13_ ومن ترك المنام ودفأه ولذته، وقام يصلي لله _ عز وجل _ عوضه الله فرحاً، ونشاطاً، وأنساً.

14_ ومن ترك التدخين، وكافة المسكرات والمخدرات _ أعانه الله، وأمده بألطاف من عنده، وعوَّضه صحة وسعادة حقيقية، لا تلك السعادة العابرة الوهمية.

15_ ومن ترك الانتقامَ والتشفي مع قدرته على ذلك _ عوضه الله انشراحاً في الصدر، وفرحاً في القلب؛ ففي العفو من الطمأنينة والسكينة والحلاوة وشرف النفس، وعزها، وترفعها ما ليس شيء منه في المقابلة والانتقام.

قال ": =وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً+رواه البخاري.

16_ ومن ترك صحبة السوء التي يظن أن بها منتهى أنسه، وغاية سروره _ عوضه الله أصحاباً أبراراً، يجد عندهم المتعة والفائدة، وينال من جراء مصاحبتهم ومعاشرتهم خيري الدنيا والآخرة.

17_ ومن ترك كثرة الطعام سلم من البِطْنة، وسائر الأمراضِ؛ لأن من أكل كثيراً شرب كثيراً، فنام كثيراً، فخسر كثيراً.

18_ ومن ترك المماطلة في الدين أعانه الله، وسدد عنه، بل كان حقاً على الله عونه.

19_ ومن ترك الغضب حفظ على نفسه عزتها وكرامتها، ونأى بها عن ذل الاعتذار ومغبة الندم، ودخل في زمرة المتقين [الْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ].

جاء رجل إلى النبي " فقال: يا رسول الله أوصني! قال: =لا تغضب+رواه البخاري.

قال الماوردي ×: =فينبغي لذي اللب السوي والحزم القوي أن يتلقى قوة الغضب بحلمه فيصدَّها، ويقابلَ دواعي شرته بحزمه فيردها؛ ليحظى بأجلِّ الخيرة، ويسعد بحميد العاقبة+.

وعن أبي عبلة قال: =غضب عمر بن عبد العزيز يوماً غضباً شديداً على رجل، فأمر به، فأحضر وجُرِّد، وشُدَّ في الحبال، وجيء بالسياط، فقال: خلوا سبيله؛ أما إني لولا أن أكون غضباناً لسؤتك، ثم تلا قوله _ تعالى _: [وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ].

20_ ومن ترك الوقيعة في أعراض الناس، والتعرض لعيوبهم ومغامزهم _ عُوِّض بالسلامة من شرهم، ورزق التبصر في نفسه.

قال الأحنف بن قيس÷: =من أسرع إلى الناس في ما يكرهون قالوا فيه مالا يعلمون+.

وقالت أعرابية توصي ولدها: =إياك والتعرض للعيوب فتتخذ غرضاً، وخليق ألا يثبت الغرض على كثرة السهام، وقلما اعتورت السهام غرضاً حتى يهي ما اشتد من قوته+.

قال الشافعي×:

المرء إن كان مؤمناً ورعاً

                   أشغله عن عيوب الورى ورعه

كما السقيم العليل أشغله

                   عن وجع الناس كلهم وجعه

21_ ومن ترك مجاراة السفهاء، وأعرض عن الجاهلين حمى عرضه، وأراح نفسه، وسلم من سماع ما يؤذيه [خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ] (الأعراف: 199).

22_ ومن ترك الحسد سلم من أضراره المتنوعة؛ فالحسد داء عضال، وسم قتَّال، ومسلك شائن، وخلق لئيم، ومن لؤم الحسد أنه موكل بالأدنى فالأدنى من الأقارب، والأكفاء، والخلطاء، والمعارف، والإخوان.

قال بعض الحكماء: =ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحسود، نَفَسٌ دائم، وهم لازم، وقلب هائم+.

 23_ ومن سلم من سوء الظن بالناس سلم من تشوش القلب، واشتغال الفكر؛ فإساءة الظن تفسد المودة، وتجلب الهم والكدر، ولهذا حذرنا الله _ عز وجل _ منها فقال: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ] (الحجرات:12)، وقال ": =إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث+ رواه البخاري، ومسلم .

24_ ومن اطَّرح الدعة والكسل، وأقبل على الجد والعمل _ علت همته، وبورك له في وقته، فنال الخير الكثير في الزمن اليسير.

ومن هجر اللذات نال المنى ومن

                   أكبَّ على اللذات عضَّ على اليد

25_ ومن ترك تطلب الشهرة وحب الظهور رفع الله ذكره، ونشر فضله، وأتته الشهرة تُجَرِّرُ أذيالها.

26_ ومن ترك العقوق، فكان بَرَّاً بوالديه _ رضي الله عنه، ورزقه الله الأولاد الأبرار، وأدخله الجنة في الآخرة.

27_ ومن ترك قطيعة أرحامه، فواصلهم، وتودد إليهم، واتقى الله فيهم _ بسط الله له في رزقه، ونَسَأ له في أثره، ولا يزال معه ظهير من الله مادام على تلك الصلة.

28_ ومن ترك العشق، وقطع أسبابه التي تمده، وتجرَّع غصص الهجر، ونار البعاد في بداية أمره وأقبل على الله بكليته _ رُزِقَ السلوَّ، وعزة النفس، وسلم من اللوعة والذلة والأسر، ومُلئ قلبه حريةً ومحبة لله _ عز وجل _ تلك المحبة التي تلم شعث القلب، وتسد خلته، وتشبع جوعته، وتغنيه من فقره؛ فالقلب لا يسر ولا يفلح، ولا يطيب ولا يسكن، ولا يطمئن إلا بعبادة ربه، وحبه، والإنابة إليه.

29_ ومن ترك العبوس والتقطيب، واتصف بالبشر والطلاقة _ لانت عريكته، ورقَّت حواشيه، وكثر محبوه، وقل شانؤوه، قال ": =تبَسُّمك في وجه أخيك صدقة+ رواه الترمذي، وقال: =حسن غريب+.

قال ابن عقيل الحنبلي ×: =البشر مُؤَنِّسٌ للعقول، ومن دواعي القبول، والعبوس ضده+.

وبالجملة فمن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه؛ فالجزاء من جنس العمل [فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه(8)](الزلزلة).

مثال على من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه:

وإذا أردت مثالاً جلياً، يبين لك أن من ترك شيئاً لله عوضه خيراً منه فانظر إلى قصة يوسف _ عليه السلام _ مع امرأة العزيز، فلقد راودته عن نفسه فاستعصم، مع ما اجتمع له من دواعي المعصية، فلقد اجتمع ليوسف ما لم يجتمع لغيره، وما لو اجتمع كله أو بعضه لغيره لربما أجاب الداعي، بل إن من الناس من يذهب لمواقع الفتن بنفسه، ويسعى لحتفه بظلفه، ثم يبوء بعد ذلك بالخسران المبين في الدنيا والآخرة إن لم يتداركه الله برحمته.

أما يوسف _ عليه السلام _ فقد اجتمع له من دواعي الزنا ما يلي:

1_ أنه كان شاباً، وداعيةُ الشباب إلى الزنا قوية.

 2_ أنه كان عزباً، وليس له ما يعوضه ويرد شهوته.

3_ أنه كان غريباً، والغريب لا يستحيي في بلد غربته مما يستحيي منه بين أصحابه ومعارفه.

4_ أنه كان مملوكاً؛ فقد اشتريَ بثمن بخس دراهم معدودة، والمملوك ليس وازعه كوازع الحر.

5_ أن المرأة كانت جميلة.

6_ أن المرأة ذات منصب عال.

7_ أنها سيدته.

8_ غياب الرقيب.

9_ أنها قد تهيأت له.

10_ أنها غلقت الأبواب.

11_ أنها هي التي دعته إلى نفسها.

12_ أنها حرصت على ذلك أشد الحرص.

13_ أنها توعدته إن لم يفعل بالصغار.

ومع هذه الدواعي صبر إيثاراً واختياراً لما عند الله، فنال السعادة والعز في الدنيا، وإن له للجنة في العقبى، فلقد أصبح السيد، وأصبحت امرأة العزيز فيما بعد كالمملوكة عنده، وقد ورد أنها قالت: =سبحان من صير الملوك بذل المعصية مماليك، ومن جعل المماليك بعز الطاعة ملوكاً+.

فحري بالعاقل الحازم أن يتبصر في الأمور، وينظر في العواقب، وألا يؤثر اللذة الحاضرة الفانية على اللذة الآجلة الباقية.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

 الرسالة السادسة آداب زيارة المريض

لزيارة المريض آداب يحسن بالزائر مراعاتها، والأخذ بها، ومنها:

1_ استحضار الأجر المترتب على زيارة المريض؛ فقد قال النبي ": =إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع+رواه مسلم، وخرفة الجنة: جناها.

وقال: =ما من مسلم يعود مسلماً غُدْوَةً إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشية إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة+رواه الترمذي، وقال: =حديث حسن+.

2_ استحضار أن زيارة المريض حق لأخيك المسلم عليك، قال ": =حق المسلم على المسلم خمس، وذكر منها عيادة المريض+متفق عليه.

3_ أن الدعاء مستجاب عند المريض؛ فادع لنفسك وللمريض؛ فقد قال ": =إذا حضرتم المريض فقولوا خيراً؛ فإن الملائكة يؤمِّنون على ما تقولون+رواه مسلم.

وكان " يعود بعض أهله، ويمسح بيده اليمنى ويقول: =اللهم رب الناس، أذهب البأس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءاً لا يغادر سقما+متفق عليه.

وقال ": =من عاد مريضاً لم يحضر أجله فقال عنده سبع مرات: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك إلا عافاه الله من ذلك المرض+ رواه أبوداود، والحاكم، وقال: =صحيح على شرط البخاري+.

4_ مراعاة الوقت المناسب للزيارة في المنزل، أو المستشفى.

5_ ألا يطيل الزائر في المكث عند المريض بما يشق عليه أو على أهله، إلا إذا اقتضت المصلحة ذلك، أو كان المريض يرغب في إطالة المكث.

6_ إذا دخلت على المريض فهوِّن عليه مرضه؛ فقد كان النبي " إذا دخل على من يعوده قال: =لا بأس طهور إن شاء الله+رواه البخاري.

7_ ذكِّر المريض بالله، وأوصه بأن يحسن ظنه به _ عز وجل _.

8_ علِّق رجاءه بالله وحده، وذكِّره بأن الله هو الشافي.

9_ ذكِّره بفضائل المرض، وما يترتب عليه من المصالح العظيمة، والحكم الباهرة.

10_ ذكِّره بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.

11_ ذكِّره بفضائل الصبر، والرضا بقضاء الله وقدره.

12_ احرص على مراعاة شعور المريض؛ فلا ترفع الصوت عنده، ولا تنقل إليه ما يسوؤه، ولا تذكره بما يحزنه، ولا تحرجه بالأسئلة التي لا داعي لها.

13_ أدخل السرور على قلبه بالهدية، أو بنقل الأخبار السارة، أو نحو ذلك.

14_ لا تُقَنِّطْه من الشفاء، ولا تذكره بأناس ابتلوا بمثل مرضه فتأخر شفاؤهم أو لم يشفوا؛ فإن ذلك يحزنه، ويؤيسه من العافية.

15_ يجمل أن تُذكِّره بأناس أصيبوا بما أصيب به فشفاهم الله وعافاهم، فإن ذلك يقوي عزيمته، ويبعث رجاءه.

16_ لا تَذُمَّنَّ الطبيب الذي أشرف على علاجه، أو الذي أجرى له عملية؛ فإن ذلك مما يدخل الغم على قلبه.

17_ لا تؤاخذ المريض إن بدر منه جفوة أو سوء خلق؛ فالمرض يكدر النفس، ويؤثِّر في الطباع.

18_ تجنب ذكر الاقتراحات غير الوجيهة أمام المريض؛ كأن تصف له وصفة معينة وأنت لا تعلم، أو أن تشير عليه بقطع علاج مناسب كان يتعاطاه، أو نحو ذلك، وإن كان عندك اقتراح، وأردت إبداءَه فَقُلْه لقريبه، أو من يتولى شأنه.

19_ ذكِّره بفضل التوبة والرجوع إلى الله، وبيِّن له ما يحتاجه من أحكام تخص المريض إذا كان محتاجاً لذلك، وكنت عالماً بما تقول.

20_ ذكّره بمصائب الآخرين؛ لتهون عليه مصيبته.

 الرسالة السابعة الحسد

تعريف الحسد :

هو تمني زوال نعمة الآخرين، سواء تمناها الحاسد لنفسه أو لا فهذا هو الحسد المذموم،أما إذا تمنى مثل نعمة غيره دون أن يتمنى زوالها عنه فتلك الغبطة المحمودة.

أسبابه:

1_ العداوة والبغضاء.    

2_ الجهل بعواقب الأمور.

3_ ضعف الإيمان.                 

4_ ضعف اليقين بقضاء الله وقدره وحكمته.          

5_ حب الرئاسة والجاه.  

6_ ضيق العطن.

7_ الخوف من فوت المقاصد.

8_ شح النفس بالخير على عباد الله.

9_ الخوف من سقوط المنزلة إذا ارتفعت مكانةُ قِرْنه.

10_ ظهور النعمة وتحدُّث الناس بها؛ ولهذا يكثر الحسد في القرى أكثر من غيرها؛ لأن النعم تبرز وتظهر فيها أكثر من غيرها.

11_ الكبر وسوء الخلق من قبل المُنْعَم عليه، فهذا مما يسبب تسلط الناس عليه.

علاج الحسد:

أولاً: من جانب الحاسد:

1_ أن يدرك أنه بحسده معترِض على قدر الله.

2_ وأنه قد خرج من وصف المؤمنين.

3_ وأنه تشبه بإبليس وباليهود.

4_ وأنه تشبه بالكافرين عموماً؛ لأنهم لا يحبون الخير للمؤمنين.

5_ أن يستحضر أنه مبارِز لله؛ لأنه بحسده عادى مؤمناً، والمؤمنون أولياء الله.

6_ على الحاسد أن يرحم نفسه من آثار الحسد؛ من الهم والغم، ودوام النكد والكمد، بل ربما قتله الحسد.

لله درُّ الحسد ما أعْدَلَه

                   أتى على صاحبه فقتله

7_ أن يعلم أن الرافع الخافض هو الله وحده.

8_ وأنه إذا حسد فلن يضر محسوده، بل ربما انتفع المحسود بذلك، خصوصاً إذا وقع الحاسد في عِرْض المحسود.

9_ أن يعلم أنه لن تموت نفسٌ حتى تستوفي رزقها وأجلها.

10_ أن يشغل نفسه بما يعود عليه بالنفع.

11_ أن يتذكر عذاب الآخرة.

12_ مجاهدة النفس على ترك الحسد.

13_ أن يدرك أنه بحسده لن ينال إلا الخزي، والذم، والعار.

14_ أن يتذكر نعم الله الكثيرة عليه، وأن يستحضر أنه إذا حسد غيره كان ذلك سبباً لزوال نعمه؛ لأنه لم يشكرها.

ثانياً : علاج المحسود:

1_ تقوى الله، وحفظ حدوده.

2_ الاستعاذة الصادقة بالله من الشيطان الرجيم، ومن شر حاسد إذا حسد.

3_ الإكثار من قراءة القرآن.

4_ الإكثار من ذكر الله، والتحصن به.

5_ الصبر على حسد الحاسد.

اصبر على كيد الحسو

                   دِ فإنَّ صبركَ قاتلُه

كالنار تأكلُ بعضَها

                   إنْ لم تجد ما تأكلُه

6_ قوة التوكل على الله.

7_ الإقبال على الله بقوة محبته، والإخلاص له، والضراعة إليه.

8_ كثرة الاستغفار، والتوبة الصادقة من جميع الذنوب،والتي من آثارها تسلُط الحاسد.

9_ فراغ القلب من الاشتغال بالحاسد، والتفكرِ به، وجعله نسياً منسياً.

10_ الصدقة والإحسان إلى الحاسد، ومبادرته بالهدية؛ كي تنطفىء جذوة الحسد المستعرة في جوفه، وهذه شاقة على النفوس [وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ] (فصلت:35).

11_ تجريد التوحيد لله وحده.

12_ إخفاء المحاسن والنعم إلا ما لا بد من إظهاره.

13_ ترك التَّمَدُّح، وإظهار الفضل على الآخرين.

14_ التواضع للناس ؛ فذلك مما تُتألف به القلوب، وتُنفى السخيمة.

 الرسالة الثامنة مسائل في السلام وصيغه

1_ حقيقة السلام: قال ابن القيم ×: =فحقيقتها البراءة والخلاص والنجاة من الشر والعيوب، وعلى هذا المعنى تدور تصاريفها+( ).

2_ إطلاقات السلام في لغة العرب: قال ابن منظور: =ذكر محمد بن يزيد أن السلام في لغة العرب أربعة أشياء: فمنها: سلَّمت سلاماً مصدر سلمت، ومنها: السلام جمع سلامة، ومنها: السلام اسم من أسماء الله _ تعالى _ ومنها: السلام شجر+( ).

وقال: =قال ابن الأعرابي: السلام: الله، والسلام: السلامة، والسلامة: الدعاء+( ).

3_ معنى السلام المطلوب عند التحية: قال ابن منظور: =ومعنى السلام الذي هو مصدر سلَّمت أنه دعاء للإنسان بأن يسلم من الآفات في دينه ونفسه+( ).

وقال ابن القيم عن معنى السلام المطلوب عند التحية: =فيه قولان مشهوران؛ أحدهما: أن المعنى اسم السلام عليكم، والسلام هنا الله _ عز وجل _ ومعنى الكلام نزلت بركة اسمه عليه، وحلَّت عليكم ونحو هذا...+( ).

ثم قال القول الثاني: =أن السلام مصدر بمعنى السلامة، وهو المطلوب المدعو به عند التحية+.

ومن حجة أصحاب هذا القول أنه يُذكر بلا ألف ولام؛ بل يقول المُسلِّم: سلام عليكم، ولو كان اسماً من أسماء الله لم يستعمل كذلك؛ بل كان يطلق عليه معرفاً كما يطلق عليه سائر أسمائه الحسنى؛ فيقال: السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر؛ فإن التنكير لا يَصْرِفُ اللفظ إلى مُعَيَّن فضلاً عن أنه يصرفه إلى الله وحده، بخلاف المُعَرَّف فإنه ينصرف إليه تعييناً إذا ذكرت أسماؤه الحسنى+( ).

ثم قال بعد ذلك: =وفصل الخطاب في هذه المسألة أن يقال: الحق في مجموع القولين فكل منهما بعض الحق، والصواب في مجموعها+( ).

ثم قال بعد أن بين ذلك بكلام ذكر فيه بعض القواعد والأدلة على ما ذهب إليه: =وإذا ثبت هذا فالمقام لما كان مقام طلب السلامة، التي هي أهم ما عند الرجل أتى في لفظها بصيغة اسم من أسماء الله، وهو السلام الذي يطلب منه السلامة ؛ فتضمن لفظ السلام معنيين: أحدهما ذِكرُ الله كما في حديث ابن عمر _ رضي الله عنهما _ والثاني طلب السلامة، وهو مقصود المسلِّم؛ فقد تضمن سلام عليكم اسماً من أسماء الله، وطلب السلامة منه فتأمل هذه الفائدة+( ).

4_ أكثر إتيان السلام في القرآن: أكثر إتيان السلام في القرآن إنما هو بصيغة التنكير؛ فمن خلال التتبع للآيات المشتملة على السلام نجد أن أكثرها جاء بصيغة التنكير هكذا =سلام+.

وقليل منها جاء بصيغة التعريف =السلام+.

فمن الآيات التي ورد فيها السلام بصيغة التنكير ما يلي:

1_ [وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ](الأنعام :54).

2_ [وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ](الأعراف:46).

3_ [سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ](الرعد:24).

4_ [يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ](النحل:32).

5_ [وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً](مريم:15).

6_ [قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً](مريم:17).

7_ [قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى](النمل:59).

8_ [سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ](القصص:55).

9_ [قَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ](الزمر:73).

أما ورود السلام معرفاً ففي آيات قليلة لعلها تنحصر فيما يلي:

1_ [وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً](مريم:33).

2_ [قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى](طه:47).

5_ حكم تنكير السلام وتعريفه: تنكير السلام وتعريفه يستويان في الأصل؛ فتقول: سلام عليكم، وتقول: السلام عليكم، ولهذا جاء في رسالة النبي " إلى هرقل منكراً في رواية، ومعرفاً في رواية أخرى، والروايتان كلاهما في صحيح البخاري؛ فقد أخرج البخاري في صحيحه في كتاب بدء الوحي تلك الرسالة وفيها: =من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى+( ).

وفي كتاب الاستئذان: =من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم السلام على من اتبع الهدى+( ).

قال ابن منظور: =ويقال: السلام عليكم وسلام عليكم+( ).

وقال النووي في الأذكار: =فإن قال المبتدي: السلام عليكم _ حصل السلام، وإن قال: السلام عليك، أو سلام عليك حصل _ أيضاً _+( ).

وقال : =قال أبو الحسن الواحدي من أصحابنا : أنت في تعريف السلام وتنكيره بالخيار ، قلت _ أي النووي _ لكن الألف واللام أولى+( ).

وقال ابن حجر: ولو حذف اللام فقال: =سلام عليكم+ أجزأ( ).

6_ أيهما أفضل: تنكير السلام أو تعريفه؟ مر بنا في المسألة الماضية أن تنكير السلام وتعريفه سيان في الأصل.

وهناك من العلماء من يرى أن التعريف أفضل، قال الإمام النووي: =ولكن الألف واللام أولى+( ).

وقال: =اعلم أن الأفضل أن يقول المسلم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ فيأتي بضمير الجمع وإن كان المسلَّمُ عليه واحداً، ويقول المجيب: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته+( ).

وقال: =وممن نص على أن الأفضل في المبتدئ أن يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته الإمام أقضى القضاة أبو الحسن الماوردي في كتابه الحاوي في كتاب السير، والإمام أبو سعد المتولي من أصحابنا+( ).

كما قال بذلك ابن حجر، وعلل بأنها للتفخيم والتكبير( ).

أما ابن القيم فيظهر أنه يرى أفضلية التنكير في الأصل؛ لأنه تطرق لمسألة السلام وذكر فيها في كتابه (بدائع الفوائد) ثمانية وعشرين سؤالاً وأجاب عنها من(ص130 _ 182) في الجزء الثاني من ذلك الكتاب.

وقد قال في بداية الحديث: =سلام عليكم ورحمة الله؛ في هذا التسليم ثمانية وعشرون سؤالاً+( ).

وفي ضمن أسئلته التي أجاب عنها ما يظهر أنه يرجح التنكير؛ فمن ذلك مثلاً قوله في السؤال السادس: =ما الحكمة في الابتداء في النكرة بالسلام مع كون الخبر جاراً ومجروراً، وقياس العربية تقديم الخبر في ذلك نحو: في الدار رجل؟

وكذلك قوله في السؤال الثامن: =ما الحكمة في كون سلام المبتدىء بلفظ النكرة، وسلام الراد عليه بلفظ المعرفة؟+( ).

والحقيقة أن تنكير السلام وتعريفه يختلف من سياق إلى سياق، فقد يَرِدُ منكراً لدواع يقتضيها المقام وتستدعيها الحال والعكس،وهذا ما سيتضح في المسألة التالية.

7_ لماذا يَرِدُ السلام مُعَرَّفاً أحياناً، ويَرِدُ مُنَكَّراً أحياناً؟ أو متى يحسن إيراده منكَّراً ومتى يحسن إيراده معرَّفاً؟

والجواب على ذلك كما تقدم؛ فهناك مواضع يحسن أن ينكَّر فيها، كما أن هناك مواضع يحسن أن يعرَّف فيها.

وإليك بعض الأمثلة في ذلك مع توجيهها:

أ_ إذا أراد المُسَلِّم أن يُسَلِّم في أول حديثه وآخره يحسن أن يبتدئ بالتنكير وينتهي بالتعريف؛ قال ابن منظور: وكانوا يستحسنون أن يقولوا في الأول: =سلام عليكم+، وفي الآخر =السلام عليكم+، وتكون الألف واللام للعهد، يعني السلام الأول( ).

ب_ في ابتداء السلام في المكاتبة يكون بالنكرة وفي آخرها بالمعرفة؛ فيقول في الأول: =سلام عليكم+، وفي انتهاء المكاتبة: =السلام عليكم+.

قال ابن القيم ×: =وأما المسألة الثانية وهي ابتداء السلام في المكاتبة بالنكرة، واختتامها بالمعرفة؛ فابتداؤها بالنكرة كما تقدم في ابتداء السلام النطقي بها سواء؛ فإن المكاتبة قائمة مقام النطق، وأما تعريفه في آخر المكاتبة ففيه ثلاث فوائد:

أحدها: أن السلام قد وقع الأنس بينهما به، وهو مؤذن بسلامه عليه خصوصاً؛ فكأنه قال: سلام مني عليك كما تقدم، وهذا _ أيضاً _ من فوائد تنكير السلام الابتدائي للإيذان بأنه سلام مخصوص من المسلِّم؛ فلما استقر ذلك وعُلِمَ في صدر الكتاب كان الأحسن أن يسلم عليه سلاماً هو أعم من الأول؛ لئلا يبقى تكراراً محضاً؛ بل يأتي بلفظ يجمع سلامه وسلام غيره؛ فيكون قد جمع بين السلامين الخاص منه، والعام منه ومن غيره.

ولهذه الفائدة استحسنوا أن يكون قول الكاتب =وفلان يقرؤك السلام+ وفلان في آخر المكاتبة بعد والسلام عليك لهذا الغرض.

الفائدة الثانية: أنه قد تقدم أن السلام المُعَرَّف اسم من أسماء الله، وقد افتتح الكاتب رسالته بذكر الله فناسب أن يختمها باسم من أسمائه وهو السلام؛ ليكون اسمه _ تعالى _ في أول الكتاب وآخره؛ وهذه فائدة بديعة.

الفائدة الثالثة: بديعة جداً وهي جواب السؤال التاسع بعد هذا، وهي أن دخول الواو العاطفة في قول الكاتب =والسلام عليكم ورحمة الله+ فيها وجهان:

أحدهما : قول ابن قتيبة أنها عطف على السلام المبدوء به؛ فكأنه قال: =والسلام المتقدم عليكم+.

والقول الثاني: أنها لعطف فصول الكتاب بعضه على بعض؛ فهي عطف لجملة السلام على ما قبلها من الجمل كما تدخل الواو في تضاعيف الفصول، وهذا أحسن من قول ابن قتيبة لوجوه منها: أن الكلام بين السلامين قد طال؛ فعَطْفُ آخره بعد طوله على أوله قبيح غير مفهوم السياق.

الثاني: أنه إذا حمله على ذلك كان السلام الثاني هو الأول بعينه؛ فلم يفد فائدة متجددة، وفي ذلك شح بسلام متجدد، وإخلال بمقاصد المتكاتبين من تعداد الجمل والفصول واقتضاء كل جملة لفائدة غير الفائدة المتقدمة، حتى أن قارئ الكتاب كلما قرأ جملة منه لفائدة غير الفائدة المتقدمة تطلعت نوازع قلبه إلى استفادة ما بعدها؛ فإذا كررت له فائدة واحدة مرتين سَئِمَتْها نفسه؛ فكان اللائق بهذا المقصود أن يجدد له سلاماً غير الأول يَسُرُّه به كما سَرَّه بالأول وهو السلام العام الشامل، ولما فرغ الكاتب من فصول كتابه، وختمها أتى بالواو العاطفة مع السلام المعرف؛ فقال: =والسلام عليكم+ أي وبعد هذا كله السلام عليكم، وقد تقدم أن السلام إذا انبنى على اسم مجرور قبله كان سلام ردٍّ لا ابتداء فإنه يكون معرفاً نحو =وعليك السلام+ ولما كان سلام المكاتب ها هنا ليس بسلام رد _ قدَّم السلام على المجرور فقال: =والسلام عليكم+، وأتى باللام لتفيد تجديد سلام آخر والله أعلم.

وهذه فصاحة غريبة، وحكمة سلفية موروثة عن سلف الأمة، وعن الصحابة في مكاتبتهم، وهكذا كانوا يكتبون إلى نبيهم "، وقد فرغنا من جواب السؤال المتعلق بواو العطف+( ).

 ج _ السلام الذي يقصد به الخروج من الصلاة لا يكفيه إلا معرفاً: قال ابن منظور: =وأما السلام الذي يخرج به من الصلاة فروى الربيع عنه _ يعني الشافعي _ أنه قال: لا يكفيه إلا معرفاً؛ فإنه قال: أقل ما يكفيه أن يقول: =السلام عليكم+؛ فإن نقص من هذا حرفاً عاد فسلم، ووجهه أن يكون أراد بالسلام اسم الله فلم يجز حذف الألف+( ).

8_ هناك مسائل تتعلق بهذا المبحث لا يتسع المقام لذكرها، وإنما هذه إشارات لبعضها على سبيل الإجمال مع ذكر مواقعها في مراجعها:

 أ _ السر في نصب السلام في تسليم الملائكة على إبراهيم، ورفعه في تسليم إبراهيم _ عليه السلام _( ).

 ب_ السر في نصب السلام في قوله _ تعالى _:[وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً](الفرقان:63)، ورفعه في قوله: [وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ] (القصص :55)( ).

 ج _ السر في تسليم الله على يحيى بلفظ النكرة في قوله:[وَسَلامٌ عَلَيْهِ] (مريم:15)، وتسليم المسيح _ عليه السلام _ على نفسه بلفظ المعرفة بقوله: [وَالسَّلامُ عَلَيَّ] (مريم:33)، وما الحكمة في تقييد هذين السلامين بهذه الأيام الثلاثة: [يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً](مريم:33)( ).

 د _ ما الحكمة في تسليم النبي " على من اتبع الهدى في كتاب هرقل بلفظ النكرة، وتسليم موسى على من اتبع الهدى بلفظ المعرفة( ).

 الرسالة التاسعة حساب الجمّل أو التأريخ الشعري

الحمد لله رب العالمين: هذا النوع من الحساب يسمى بـ: =التاريخ الشعري+، أو =حساب الجُمَّل+؛ أما طريقة حسابه فتعتمد على ترتيب حروف الهجاء الترتيب الأبجدي لا الترتيب الألفبائي الذي نستخدمه، والترتيب الأبجدي كما يلي: أبجد، هوز، حُطي، كَلَمُن، سعفص، قرشت، ثخذ، ضظغ.

وكل حرف من هذه الحروف له قيمة عددية وهي كالتالي:

آحاد    عشرات  مئات

أ  = 1  ي = 10         ق = 100

ب = 2 ك = 20         ر = 200

ج = 3 ل = 30         ش = 300

د  = 4 م = 40 ت = 400

هـ = 5  ن = 50         ث = 500

و = 6  س = 60        خ = 600

ز = 7  ع = 70         ذ  = 700

ح = 8 ف = 80        ض = 800

ط = 9 ص = 90        ظ  = 900

غ = 1000

وقد اشترط أصحاب هذا الفن عدة شروط لضبطه وحسن استخدامه منها:

أن يتقدم على ألفاظه كلمة أرّخ أو أرّخوا، أو ما يدل على التاريخ، وإذا تصرف الشاعر في تقديم أو تأخير أو زيادة بعد لفظة (التاريخ) أشار إلى ذلك؛ لئلا يستغلق على القارئ.

ومن شروطه ألا يكون التاريخ في بيتين، بل في بيت واحد، ويستحسن أن يكون في عجز البيت لا في صدره.

ومن الأمثلة على ذلك قول ابن المبلط يؤرخ جلوس السلطان سليم الثاني سنة 974 هـ :

ودولة ملك قلت فيها مؤرخاً

                   بعز وتأييد ونصر وسلطان

تولى مليك العصر وابن مليكه

                   =سليم تولى الملك بعد سليمان+

ولو حسبنا جمل قوله: =سليم تولى الملك بعد سليمان+ لوجدناه يساوي =974+ وهو تاريخ جلوسه على العرش.

ومن شروطه أن تحسب الحروف على صورتها الكتابية لا حسب لفظها، فألف =فتى+ تحسب ياءاً، وتاء =التأنيث المنقطة+ تحسب تاءاً، و=غير المنقطة+ تحسب هاءاً، والحرف =المشدد+ يحسب واحداً، و=الهمزة الواقعة على السطر+ لا تحسب شيئاً كما أن =ألف الإطلاق+ تعد ألفاً.

وبعض الشعراء يتفنن في هذا تفنُّنَاً ويأتي بما يشبه المعجزات، ومن ذلك أن بعضهم أرَّخ عُرساً جَرى بحلب، فجعلَ جُمّل الحروف المهملة في البيت الأخير تاريخ العرس، وهو سنة 1130هـ، وجعل الحروف المعجمة في البيت ذاتِه التاريخَ نفسَه، وأضاف إلى ذلك ذكر التاريخ صراحة، والأبيات هي:

أيها الكامل يا من أخبرت

                   في علاه فئة بعد فئه

خذ تواريخاً ثلاثاً جمعت

                   لك في مفرد بيت منبئه

بصريح وحروف أعجمت

                   وحروف أهملت مختبئه

عم حول وسرور العرس وهــ

                   وست وثلاثون وألف ومئه

ونظم البهلول بيتين جعل التاريخ في كل شطر، بل جعل التاريخ مكرراً في الشطر الواحد، حتى إنه كرر التاريخ ثماني مرات في البيتين وهما:

أهديك مدحاً بليغاً

          يا سني غداً

                   بحر الفتوحات

          باهي الفضل والمنن

1136  1136           1136  1136

ألفاظه كنجوم

          فهي تشرق ما

                   بدا سنا بدرها

          أرخه عبد غني

1136  1136           1136  1136

ومن ذلك قول الشيخ حافظ الحكمي × في ختام منظومته في العقيدة:

أبياتها = يُسْرٌ + بعدِّ الجمَّل

                   تاريخها = الغفران + فافهم وادع لي

أما البيت الذي يؤرخ وفاة الشيخ محمد بن إبراهيم × والذي ورد السؤال عنه فإليك بيانه يقول البيت:

وفاته بأحرف أرختها

                   فقلت =جُدْ جوادُ واغفر لي وله+( )

التأريخ هو ما بين الأقواس: =جد جواد واغفر لي وله+.

(ج =3)+(د =4)+(ج =3)+(و=6)+(ا =1)+(د=4)

+(و= 6)+(ا= 1)+(غ=1000)+(ف=80)+(ر=200)    =1389 هـ

+(ل =30)+(ي=10)+(و=6)+(ل =30)+(هـ =5)

 الرسالة العاشرة معالم في الإمامة والخلافة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

فلقد جاء الإسلام بنظام كامل شامل للحكم، صالح لكل زمان ومكان وحال وأمة؛ فالإسلام هو الرسالة الأخيرة، الباقية إلى قيام الساعة، التي لا تصلح الأحوال والأمم إلا بها.

وإن من سنن الله _ عز وجل _ في خلقه أن جعل أمور الناس لا تستقيم إلا بالإمامة والولاية والخلافة؛ فلا بد من حاكم ومحكوم، وسائس ومسوس: حاكم يرعى مصالح العباد، ويحكمهم بشرع رب العباد، ويسير بهم على الطريقة التي تحقق العدل، وتستقيم بها الأمور.

ومحكوم يمتثل ما يوجه إليه من أوامر في غير معصية الله _ عز وجل _.

وبهذا ضمن الإسلام للناس صلاح معاشهم ومعادهم.

وفيما يلي معالم في الإمامة والخلافة.

أولاً: مفهوم الإمامة والخلافة:

أ_ تعريفهما في اللغة: الإمامة في اللغة مصدر الفعل أمَّ: تقول: أمَّهم وبِهم: تقدَّمهم، وهي الإمامة، والإمام كلُّ ما أتُم به من رئيس وغيره( ).

وأصل الخلافة في اللغة مادة خلف، تقول: خلف فلاناً إذا كان خليفة، ويقال: استخلف فلان فلاناً: جعله مكانه.

والخليفة: الذي يخلف من قبله.

والخلافة: الإمارة، والخليفة: السلطان الأعظم( ).

ب_ التعريف الاصطلاحي: قبل الدخول في التعريف الاصطلاحي يحسن التنبيه على أن الإمامة والخلافة مترادفان؛ فهما يؤديان إلى معنى واحد، وقد أشار إلى ذلك غير واحد من العلماء كالنووي وابن خلدون _ رحمهما الله _ وغيرهما( ).

وعلى هذا فتعريف أيٍّ منهما تعريف للآخر.

أما التعريف الاصطلاحي للإمامة: فقد عرفت بتعريفات عديدة متقاربة منها ما يلي:

1_ عرفها الماوردي × بقوله: =الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به+( ).

2_ وعرفها الجويني × بقوله: =الإمامة رياسة تامة، وزعامة تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدين والدنيا+( ).

3_ وعرفها ابن خلدون × بقوله: =هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها؛ إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة؛ فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين، وسياسة الدنيا به+( ).

ويكاد يكون تعريف ابن خلدون أشمل، وأعم.

ثانياً: حكم الإمامة وبيان ما تثبت به:

الإمامة ثابتة الوجوب بالكتاب والسنة، والإجماع والقواعد الشرعية.

وهو وجوب كفائي متوجه إلى أهل الحل والعقد باعتبارهم الممثلين للأمة، النائبين عنها في هذه المهمة العظيمة.

وإذا تقاعس أهل الحل والعقد عن ذلك لحق الإثم بكل من له قدرة واستطاعة حتى يسعى لإقامة هذا الواجب بحسب وسعه.

قال الله _ عز وجل _: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ] (النساء:59).

قال الطبري × في تفسير هذه الآية: =أولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: هم الأمراء والولاة فيما كان له طاعة، وللمسلمين مصلحة+( ).

ووجه الاستدلال من هذه الآية: أن الله _ عز وجل _ أوجب على المسلمين طاعة أولي الأمر منهم، وهم الأئمة.

والأمر بالطاعة دليل على وجوب نَصْب ولي الأمر؛ لأن الله _ تعالى _ لا يأمر بطاعة من لا وجود له، ولا يفرض طاعة من وجوده مندوب إليه؛ فالأمر بطاعته يقتضي الأمر بإيجاده؛ فدل على أن إيجاد إمام للمسلمين واجب عليهم( ).

وجاء في صحيح مسلم عن النبي " قال: =من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية+( ).

أي بيعة الإمام، وهذا واضح الدلالة على وجوب نصب الإمام؛ لأنه إذا كانت البيعة واجبة في عنق المسلم، والبيعة لا تكون إلا لإمام _ فَنَصْب الإمام واجب( ).

والأدلة من الكتاب والسنة كثيرة جداً، والمقام لا يسمح بالتفصيل.

أما الإجماع على وجوب نصب الإمام فقد نقله عدد غير قليل من العلماء، وأول ذلك إجماع الصحابة _ رضوان الله عليهم _ على تعيين خليفة للنبي " بعد وفاته قبل تجهيزه ودفنه.

قال ابن حجر الهيتمي ×: =اعلم أن الصحابة _ رضوان الله عليهم _ أجمعوا على أن نصب الإمام بعد انقراض زمن النبوة واجب، بل جعلوه أهم المهمات؛ حيث اشتغلوا به عن دفن رسول الله _ عليه السلام _+( ).

أما القواعد الشرعية فدلت على وجوب الإمامة، ومن أصرح القواعد في ذلك القاعدة القائلة: =ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب+.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين إلا بها؛ فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع؛ لحاجة بعضهم إلى بعض+( ).

ويقول معللاً ذلك: =لأن الله أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد، والعدل، وإقامة الحج، والجمع، والأعياد، ونصر المظلوم، وإقامة الحدود لا يتم إلا بالقوة والإمارة+( ).

ثالثاً: صلة الإمارة والخلافة بالعقيدة:

الإسلام شريعة وعقيدة، وكلٌّ لا يتجزأ، والذي يعنينا في هذا الصدد، ما يتعلق بموضوع الإمامة، وهل هي من موضوعات العقيدة أم من موضوعات الفقه؟

والحق أن لها جوانبَ عقديةً، ولها جوانب فقهية، ولها جوانب تاريخية، ولذلك فعلماء السلف _ رحمهم الله _ عند ذكرهم لعقائدهم يذكرون ذلك، فلا نكاد نجد أحداً ذكر عقيدته إلا وينص على التربيع بالخلفاء الأربعة وأن ترتيبهم في الخلافة على ترتيبهم في الفضل، وينصون على الصلاة خلف كل إمام بر أو فاجر، وعلى الجهاد والحج معه، وعلى تحريم الخروج على الأئمة، وعلى السمع والطاعة لهم في غير معصية.

وهذه كلها من مباحث الإمامة، ولذلك نجد المتكلمين ينصون على باب الإمامة في أواخر كتبهم في العقيدة.

كما أن العلماء يوردون ذلك في مسائل العقيدة للرد على الانحرافات والبدع التي نشأت حول هذا الموضوع، كبدعة الروافض واعتقاداتهم الفاسدة في الإمامة، وأنها من أركان الدين، واعتقاد العصمة، والرجعة، وعلم الغيب ونحو ذلك في أئمتهم؛ فيذكرها علماء السلف للرد عليهم، وتبيين مخالفتهم في ذلك.

ويذكرون مع بدعة الروافض بدعة الخوارج في وجوب الخروج على الأئمة الفسقة ونحو ذلك.

ومما يجعلها من المسائل المتعلقة بالعقيدة في العصر الحاضر هو إنكار بعض المنتسبين للدين أنها من الدين، وهذه من أخطر المسائل الفكرية المعاصرة _ كما سيأتي الحديث عنها في فقرة آتية _.

أما الجوانب الفقهية في موضوع الإمامة فكثيرة: من ذلك شروط الأئمة، وكيفية اختيار إمام المسلمين، وأهل الحل والعقد، وشروطهم، وعددهم، والشورى وأحكامها، والبيعة وأحكامها، ونحو ذلك.

أما الجوانب التاريخية في الموضوع: فهو دراسة الموضوع من ناحية سيرة الخلفاء الراشدين، ثم مَنْ بَعْدَهم _ رضوان الله عليهم _ والأحداث التي حصلت في عهودهم، والنتائج والعبر والأحكام المستخلصة من ذلك.

ولذلك فموضوع الإمامة هذا من أدلة الترابط والتلازم بين الأحكام العقدية والفقهية، وأن كلاً منها ملازم للآخر وقائم عليه، ولذلك فقد جعل الله _ عز وجل _ طاعة الأئمة والنصح لهم وعدم الخروج عليهم بغير مبرر شرعي من العبادة التي يثاب فاعلها، ويعاقب تاركها بالعذاب الأخروي يوم القيامة.

رابعاً: الإمامة _ في حد ذاتها _ وسيلة لا غاية:

فهي وسيلة إلى إقامة أمة تقف نفسها على الخير، والعدل، تحق الحق، وتبطل الباطل، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله.

خامساً: مسألة الإمامة ليست من أصول الدين التي لا يسع المكلف الجهل بها:

بخلاف مفهوم الإمامة عند بعض الطوائف كالشيعة الإمامية _ مثلاً _ فالإمامة هي الأصل الذي تدور عليه أحاديثهم، وترجع إليه عقائدهم، وتلمس أثره في فقههم، وأصولهم، وتفاسيرهم، وسائر علومهم؛ فهم _ على سبيل المثال _ يرون أن الإمامة منصب إلهي كالنبوة، وأنها تثبت لعلي ÷ بعد النبي " ويرون عصمة الأئمة، وحصر الإمامة باثني عشر إماماً وهم:

1_ علي بن أبي طالب ÷ ولد قبل البعثة بعشر سنوات، واستشهد سنة أربعين.

2_ الحسن بن علي (الزكي) ( 3 _ 50هـ) .

3_ الحسين بن علي (سيد الشهداء) (4 _ 61هـ).

4_ أبو محمد علي بن الحسن (زين العابدين) (38 _ 95 هـ).

5_ أبو جعفر محمد بن علي (الباقر) (57 _ 114 هـ).

6_ أبو عبدالله جعفر بن محمد (الصادق) (83 _ 148 هـ).

7_ أبو إبراهيم موسى بن جعفر (الكاظم) (128 _ 183هـ).

8_ أبو الحسن علي بن موسى (الرضا) (148 _ 202 أو 203 هـ).

9_ أبو جعفر محمد بن علي (الجواد) (195 _ 220 هـ).

10_ أبو الحسن علي بن محمد (الهادي) (212 _ 254هـ).

11_ أبو محمد الحسن بن علي (العسكري) (232 _ 260هـ).

12_ أبو القاسم محمد بن الحسن (المهدي).

وهذا هو الحجة _ بزعمهم _ ويرون أنه ولد سنة 256هـ، وغاب غيبة صغرى سنة 260هـ، وغيبة كبرى سنة 329هـ، وسيظل حياً إلى يوم القيامة؛ حتى لا تخلو الأرض من حجة وإلا لساخت .

ويعتقدون بأن الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري _ حي غائب منتظر، وسيعود ليملأ الأرض عدلاً ومعروفاً وإحساناً كما ملئت ظلماً وجوراً وطغياناً.

ويرون أن الإمامة ركن من أركان الدين كالشهادتين والصلاة والزكاة.

كما أنهم لا يرون إيمان من لا يقر بالإمامة، بل يرون أن منكر الإمامة شر من اليهود والنصارى، وأنه لا يسع أحداً العذر بالجهل بالأئمة، بل يذهبون إلى أبعد من ذلك، فيرون أن من لم يعرف إمامه لم يعرف الله _ عز وجل _.

ويرون أنه لا بد أن يكون في كل عصر إمامٌ هادٍ.

ويرون أن الأئمة هم أولو الأمر الذين أمر الله بطاعتهم.

سادساً: مقاصد الإمامة:

مر في الفقرة الماضية أن الإمامة وسيلة لا غاية؛ فهي وسيلة إلى مقاصد معينة يستطيع الإمام _ بما له من صلاحيات خاصة _ أن يحقق ما يعجز عن بلوغه آحاد المسلمين.

ويمكن إجمال مقاصد الإمامة بما يلي _مع ملاحظة أن بعضها داخل في بعض_:

1_ إقامة أمر الله _ عز وجل _ في الأرض على الوجه الذي شرع.

2_ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

3_ حفظ الدين، ونشره والدعوة إليه.

4_ دفع الشبه والبدع والأباطيل.

5_ حماية البيضة =الحوزة+، وتحصين الثغور.

6_ إقامة الحدود، وتنفيذ الأحكام.

7_ سياسة الدنيا بالدين.

8_ نشر العدل، ورفع الظلم.

9_ جمع الكلمة، ونبذ الفرقة.

10_ نشر الأمن، وتأمين السبل.

11_ القيام بعمارة الأرض، واستغلال خيراتها فيما هو صالح للإسلام والمسلمين.

12_ بث العلم، ورفع الجهل.

هذه هي مقاصد الإمامة على وجه الإجمال، أما التفصيل فلا يتسع له المقام( ).

سابعاً: خلافة أبي بكر ÷ ثبتت باختيار المسلمين، ومبايعتهم له:

فكثير من النصوص دلت على أن المسلمين اختاروه، ولم يختاروا غيره، ودلت على رضا الله ورسوله بذلك، ودلت على أنه أفضل الأمة بعد نبيها.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =التحقيق أن النبي " دل المسلمين على استخلاف أبي بكر وأرشدهم إليه بأمور متعددة من أقواله وأفعاله، وأخبر بخلافته إخبار راضٍ بذلك حامد له، وعزم على أن يكتب بذلك عهداً ثم علم أن المسلمين يجتمعون عليه؛ فترك الكتاب اكتفاءاً بذلك؛ فلو كان التعيين مما يشتبه على الأُمة لبيَّنه رسول الله " بياناً قاطعاً للعذر، لكن لما دلهم دلالات متعددة على أن أبا بكر هو المتعين، وفهموا ذلك حصل المقصود، ولهذا قال عمر ابن الخطاب في خطبته التي خطبها بمحضر من المهاجرين والأنصار:

=وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر+ رواه البخاري ومسلم...+( ).

إلى أن قال: =فخلافة أبي بكر الصديق دلت النصوص الصحيحة على صحتها وثبوتها ورضا الله ورسول الله " له بها، وانعقدت بمبايعة المسلمين له، واختيارهم إياه اختياراً استندوا فيه إلى ما علموه من تفضيل الله ورسوله بها، وأنها حق، وأن الله أمر بها وقدَّرها، وأن المؤمنين يختارونها، وكان هذا أبلغ من مجرد العهد بها؛ لأنه حينئذ يكون طريق ثبوتها العهد، وأما إذا كان المسلمون قد اختاروه من غير عهد، ودلت النصوص على صوابهم فيما فعلوه، ورضا الله ورسوله بذلك _ كان ذلك دليلاً على أن الصديق كان فيه من الفضائل التي بان بها عن غيره ما علم المسلمون به أنه أحقهم بالخلافة؛ فإن ذلك لا يحتاج إلى عهد خاص+( ).

فابن تيمية × _ إذاً _ يرى أن الرسول " لم يصدر عنه أمر إلى المسلمين بأن يكون أبو بكر هو الخليفة من بعده، وإنما علم من الله _ سبحانه _ أن المسلمين سيختارونه؛ لمزاياه التي يتمتع بها، ويفوق بها غيره( ).

ثامناً: خلافة أمير المؤمنين علي ÷ ثبتت باختيار المسلمين، ومبايعتهم له: وليست نَصِّيَّة، ولم يَدَّعِ هو ذلك، بل هو براء مما تنسبه إليه الرافضة.

تاسعاً: ثبوت شرعية الطرق التي تمت بها مبايعة وتولية الخلفاء الراشدين: فخلافة عمر، كانت بنص من أبي بكر _ رضي الله عنهما _.

وخلافة عثمان كانت باجتماع من أهل الحل والعقد المعيَّنين من قبل عمر÷.

وخلافة علي ÷ كانت باجتماع من أهل الحل والعقد غير المعينين.

عاشراً: أن الذي يقوم باختيار الإمام هم عقلاء الأمة، وعلماؤها _ أهل الحل والعقد _.

حادي عشر: مشروعية الاستخلاف مع ضرورة موافقة أهل الحل والعقد، ومبايعتهم للمستخلف.

ثاني عشر: لا يجوز نكث البيعة؛ فهي واجبة في عنق المسلم متى وجد الإمام المستحق لها.

ثالث عشر: طريق القهر والغلبة ليست من الطرق الشرعية: وإنما تنعقد بها الإمامة؛ نظراً لمصلحة المسلمين؛ كما في خلافة عبدالملك بن مروان حين قتل ابن الزبير، وتمت له الخلافة.

رابع عشر: يجوز إمامة المفضول مع وجود الأفضل: فلا يشترط في الإمام أن يكون أفضل أهل زمانه، وإنما ذلك من باب الأولى.

وكما لا يشترط إمامة الأفضل لا يشترط كذلك العصمة في الإمام من باب أولى.

خامس عشر: على الإمام واجبات كثيرة وقد مر شيء من ذلك عند الحديث عن مقاصد الإمامة.

ومنها _ زيادة على ما مضى _:

1_ استيفاء الحقوق المالية، وصرفها في مصارفها الشرعية.

2_ اختيار الأكفياء للمناصب القيادية.

3_ الإشراف على تدبير الأمور وتفقد أحوال الرعية.

4_ الرفق بالرعية، والنصح لهم، والبعد عن تتبع عوراتهم.

سادس عشر: للإمام على رعيته حقوق كثيرة تعينه على القيام بواجباته، ومنها:

1_ السمع والطاعة في المنشط والمكره، وحين الأثرة في غير معصية الله _عز وجل_.

وهذه الطاعة ليست مشروطة بكونه عادلاً، بل ولو كان فيه فسق، وفجور، وجور.

2_ النصرة، والتقدير، وإنزاله منزلته اللائقة به.

3_ المناصحة للولاة، والدعاء لهم بالصلاح، ومداراتهم، والبعد عن مداهنتهم وإغراقهم بالإطراء الكاذب.

4_ التعاون معهم على البر والتقوى.

5_ إقامة الجمع والجماعات والأعياد والجهاد معهم ولو كانوا فجاراً.

وسيأتي مزيد بيان لهذه الفقرة والتي سبقتها فيما سيأتي من فقرات.

سابع عشر: مشروعية الشورى: وأنها واجبة عند اختيار الإمام، أما في تدبير شؤون الرعية فهي مستحبة؛ فإنه ينبغي للإمام أن يشاور، وليس ذلك واجباً عليه.

كما أنه إذا استشار فليس ملزماً باتباع مستشاريه؛ لأنه هو المسؤول الأول عن تصريف الأمور؛ فيتحمل وحده كافة التبعات.

ثامن عشر: لا يجوز الخروج على الأئمة: وهو نقض بيعتهم، وشق عصا الطاعة لهم من قوم لهم شوكة ومنعة بتأويل سائغ _ كما تقرره كتب الفقه _.

وحكم ذلك أنه من الكبائر، ويسمى الخارجون على الإمام بغاةً، وتجرى عليهم أحكام أهل البغي( ).

وسيأتي مزيد بيان لهذه الفقرة في الفقرة التالية.

تاسع عشر: وسطية أهل السنة في التعامل مع الأئمة، وهذه الفقرة جماع لكثير مما مضى من الفقرات، وتأكيد عليه.

فأهل السنة والجماعة وسط في هذا الباب بين المفْرطين والمفَرِّطين، فليسوا كالمُفْرطين الغلاة، الذين يدينون بالخروج على أئمة الجور، ويرون أنهم _وحدهم_ هم سبب الشر والفساد، وأن الخروج عليهم كفيل بإصلاح الأحوال.

وذلك كحال الخوارج الذين يرون أن الفساد سببه الولاة، وأن الخروج عليهم واجب متعين، وأن الوسيلة الوحيدة للإصلاح عندهم _ كما يشهد تاريخهم _ هو الخروج على أئمة الجور، بل ربما خرجوا على أئمة العدل، كما فعلوا مع علي ÷( ).

وكحال المعتزلة الذين جعلوا الخروج على الأئمة أصلاً من أصول دينهم( ).

وليسوا كالمُفَرِّطين المداهنين، المتخاذلين، المخذلين، الذين سكتوا عن ظلم الولاة، وتركوا نصحهم، والإنكار عليهم، بل ربما زينوا لهم باطلهم، وسوَّغوا لهم ظلمهم، وفسادهم، وربما أنكروا على من ينكر عليهم ولو بالحكمة والموعظة الحسنة.

وليسوا كالمدَّاحين، المنافقين، الذين يغالون في الولاة، ويمدحونهم بما ليس فيهم، وربما ادّعوا لهم العصمة، وخلعوا عليهم صفات لا تليق إلا برب العالمين، وأطاعوهم بكل ما أمروا به حقاً كان أم باطلاً.

كما فعل الوزير الرافضي ابن العلقمي مع آخر بني العباس المستعصم، عندما غشّه، وخدعه، وزيّن له باطله وسوء عمله، وأشار عليه بتقليص جيشه، ثم بعد ذلك قاده إلى الهاوية عندما أشار عليه بأن يخرج بخاصته للتفاوض مع =هولاكو+ زعيم التتار، ثم بعد ذلك تمكن =هولاكو+ من الخليفة وقتل من معه، فكان غنيمة باردة له ولجنده، ثم بعد ذلك فعل التتار ببغداد ما فعلوا( ).

وقل مثل ذلك في شأن النصير الطوسي الرافضي الذي كان يدبّج القصائد الطوال في مدح الخليفة الآنف الذكر، وعندما تمكن =هولاكو+ أشار الطوسي عليه بقتل الخليفة( ).

وقل مثل ذلك في شأن كثير ممن يؤلهون الولاة، ويخلعون عليهم صفات الربوبية والألوهية، كما قال ابن هانئ الأندلسي في مدح المعز لدين الله العبيدي:

ما شئت لا ما شاءت الأقدار

                   فاحكم فأنت الواحد القهار

وكأنما أنت النبي محمد

                   وكأنما أنصارك الأنصار( )

وكما علل أحدهم زلزالاً حدث في مصر في عهد أحد السلاطين قائلاً:

ما زلزلت مصر من سوء يراد بها

                   لكنها رقصت من عدله فرحا( )

أما أهل السنة والجماعة فتمسكوا بالحق، وتعاملوا مع ولاة الأمور على وفق ما جاء في الشرع.

فهم يدينون لولاة أمورهم بالسمع والطاعة، وفي المنشط والمكره، وفي العسر واليسر، وعلى أثرة عليهم، ما لم يؤمروا بمعصية، فإن أمروا بمعصية فيرون أن لا سمع ولا طاعة؛ إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإنما تكون الطاعة بالمعروف.

كما أنهم يدينون بالنصيحة لولاة الأمر، ويتعاونون معهم على البر والتقوى وإن كانوا فجَّاراً؛ لأن هدفهم الوحيد تحصيل المنافع وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها؛ فلا يمتنعون من إعانة الظالم على الخير، وترغيبه فيه، فيشاركون الأئمة الظلمة في الخير، ويفارقونهم في الشر.

ولذلك فهم يرون إقامة الجمع والجماعات والأعياد معهم، ويرون أن الجهاد ماضٍ إلى قيام الساعة مع كل برّ وفاجر( ).

ثم إنهم لا ينزعون يداً من طاعة، ولا ينازعون الأمر أهله، ولا يرون أن الأئمة يتحملون مسؤولية كل منكر وفساد، نعم هم يتحملون المسؤولية الكبرى، ولكن كل مسلم عليه مسؤولية يجب أن يقوم بها حسب قدرته واستطاعته.

كما أنهم لا يدينون بالخروج على أئمة الجور _ فضلاً عن أئمة العدل _ إلا إذا رأوا كفراً بواحاً عندهم فيه من الله برهان، وكان لديهم قوة ومنعة، ولم يترتب على الخروج مفسدة أعظم؛ لئلا يجرّوا الأمة إلى البلايا والرزايا.

ثم إنهم أبعد الناس عن إغراق الولاة بالمديح الكاذب، والإطراء القاتل الذي يدخل الغرور في قلوب الولاة، ويورثهم الإعجاب بالنفس،وتناسيَ العيوبِ، وظنَّ الكمال، فلا يعرفون بذلك مواطن الخلل، ولا يسعون في علاجها.

إضافة إلى ذلك فأهل السنة لا يرون المداهنة في الدين، ولا مهادنة المعتدين والظالمين، ولا يتوانون في الاحتساب على أئمة الجور، ولا يجبنون عن الصدع بكلمة الحق حسب ما يستدعيه المقام، وتقتضيه المصلحة، لا يداهنون بذلك أحداً، ولا يخافون في الله لومة لائم.

على أنهم لا يرون أن يقوم بذلك الواجب كل أحد بعينه، إلا أنه لا بد أن يقوم به من يقوم من العلماء وذوي البصيرة والحكمة؛ حتى ينتفي الحرجُ عن الأمة.

وخير مثال تطبيقي لتعامل أهل السنة مع ولاة الأمر ما قام به الإمام أحمد ابن حنبل × إبان القول بفتنة خلق القرآن؛ فلقد أوذي، فلم تلن له قناة، ولم يفتّ له عضد، ولم يتوان عن قول الحق، بل صدع به، وتحمّل تبعات ذلك.

وفي الوقت نفسه، لم يأمر أتباعه بالخروج على ولاة الأمر، بل نهاهم عن ذلك، وحذرهم أشد التحذير.

ومن الأمثلة على ذلك ما كان من أمر شيخ الإسلام ابن تيمية × فلقد أوذي من قبل السلطة بسبب نشره لعقيدة السلف، وتقريره لها، ورده على سائر الطوائف والفرق الضالة، وسجن بسبب ذلك، ولاقى الويلات إثر الويلات، فما سكت عن الحق، وما تخلى عما يدعو إليه، كما أنه لم يأمر بالخروج على الأئمة، بل كان شديداً في التحذير منه( ).

عشرون: إنكار الإمامة: إنكار الإمامة من أعظم المسائل خطراً وضرراً، وقد ظهر ذلك جلياً في العصر الحاضر.

وقد كان ذلك عملياً ونظرياً.

أما الجانب العملي فكان على يد مصطفى كمال أتاتورك الذي ألغى الخلافة الإسلامية في تركيا، وأعلن العلمانية؛ فحطَّم بذلك الخلافة والدولة الإسلامية العظمى.

أما الجانب النظري فكان على يد الشيخ علي عبدالرازق.

وبرغم ما في هجمة أتاتورك وجنايته على الإسلام من الضراوة والقسوة والشراسة _ فإن جناية علي عبدالرازق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم) أشد وأخطر؛ ذلك أن صنيع أتاتورك ردة صريحة، وخروج على الإسلام بقوة السلطان؛ فلا يكون لها أثر إلا بقدر بقاء القوة.

أما صنيع علي عبدالرازق فقد كان محاولة للتغيير في أصول الإسلام، ومسلماته.

وهذا _ بلا ريب _ يفعل فعله، ويمتد أثره؛ ليصبح هو التفسير الصحيح لعلاقة الإسلام بالسياسة والحكم.

وحينئذ توصد الأبواب _ لو قُدِّر لهذه المحاولة أن تنجح _ في وجه الإسلام، ويُحال بينه وبين القيادة والتوجيه لحياة الأمة المسلمة.

لقد كان كتاب علي عبدالرازق أول كتاب يقدمه رجل ينتمي إلى الإسلام، بل والعلم والقضاء معلناً عن نفسه بلا مواربة، مقدماً فيه الفكر العلماني في جرأة لا تعرف الحياء ولا الخجل.

ولم تكن كتابته مجرد فقرة قصيرة أو طويلة، بل ولم تكن مجرد مقال طويل يُنشر في إحدى الصحف.

وإنما كان كتاباً كاملاً يعرض منهجاً كلياً في معرفة الإسلام، وعلاقته بالحكم.

ومما يحسن التنبيه عليه أن الحكومة الكمالية حين ألغت الخلافة العثمانية سنة 1924م _ أصدر المجلس الوطني التركي رسالة شرح فيها وجهة نظر في إلغاء الخلافة.

إلا أن الرأي العام في العالم الإسلامي لم يقابل هذا العمل بالارتياح، بل أخذ بعض مفكري وعلماء الإسلام يتطارحون الرأي في إقامة الخلافة الإسلامية.

أما الرسالة التي أصدرها المجلس التركي فقد كانت بعنوان (الإسلام وسلطة الأمة) أو (الخلافة وسلطة الأمة).

وقد تُرجمت إلى العربية، وطُبعت بمطبعة المقتطف بمصر سنة 1924م.

وبعد صدور هذا الكتاب سنة 1925م أصدر علي عبدالرازق كتابه المذكور، وكان حينئذ قاضياً بمحكمة المنصورة الشرعية الابتدائية.

ويُلاحظ أن بين اسمي الكتاب ومضمونهما تشابهاً، إلا أن الكتاب الأول لم يبلغ ما بلغه كتاب علي عبدالرازق من القدح في علاقة الإسلام بالسياسة.

ومما يوضح الشبه بين الكتابين أنه قد جاء في كتاب (الإسلام وسلطة الأمة) ص5 ما نصه: =إن هذه المسألة _ الخلافة _ دنيوية وسياسية أكثر من كونها مسألة دينية، وإنها من مصلحة الأمة نفسها مباشرة، ولم يرد بيان صريح في القرآن الكريم ولا في الأحاديث النبوية في كيفية نصب الخليفة وتعيينه، وشروط الخلافة ما هي ...+.

وقال علي عبدالرازق في ص16 ما نصه: =إنه لعجب عجيب أن تأخذ بيدك كتاب الله الكريم، وتراجع النظر فيما بين فاتحته وسورة الناس، فترى فيه تصريف كل مثل، وتفصيل كل شيء من أمر هذا الدين [مَاْ فَرَّطْنَا فِيْ الكِتَاْبِ مِنْ شيء] ثم لا تجد فيه ذكراً لتلك الإمامة العامة، أو الخلافة.

إن في ذلك لمجالاً للمقال! ليس القرآن وحده الذي أهمل تلك الخلافة، ولم يتصد لها، بل السنة كالقرآن _ أيضاً _ وقد تركتها ولم تتعرض لها+.

وفي رسالة المجلس الوطني التركي ص4 ما نصه: =إن الفرقة المسماة بالخارجية تنكر وجوب الخلافة، وتقول إن أمر نصب الخليفة وتعيينه، ليس واجباً على الأمة الإسلامية، بل هو جائز، ووجوده وعدم وجوده سيان+.

ويقول علي عبدالرازق في ص33 ما نصه: =فكيف وقد قالت الخوارج: لا يجب نصب الإمام أصلاً، وكذلك قال الأصم من المعتزلة، وقال غيرهم _ أيضاً _ كما سبقت الإشارة إليه.

وحسبنا في هذا المقام نقضاً لدعوى الإجماع أن يثبت عندنا خلاف الأصم والخوارج وغيرهم، وإن قال ابن خلدون: إنهم شواذ+.

وهكذا ردد علي عبدالرزاق في كتابه ما جاء في رسالة المجلس الوطني التركي، وزاد عليها شيئاً من فساد الفهم، وسوء الأدب في حق النبي " وحق كبار الصحابة.

وقد قابلت الدوائر الاستعمارية والمراكز التبشيرية المسيحية كتاب علي عبدالرازق بالترحيب والتصفيق، وذلك لخشيتها من كل فكرة ترمي إلى تكتل العالم الإسلامي، وارتياحها إلى نشر مثل هذه الآراء الخبيثة التي ضمنها علي عبدالرازق كتابه، تلك الآراء التي تخدم أهداف الاستعمار وتحقق آماله في السيطرة على الشعوب الإسلامية، وإذلالها إلى الأبد.

وقد كشف المؤلف عن نفسه الخبيثة في حديثه مع مراسل صحيفة (البورص إجبسيان) حينما سأله هذا المراسل:

_ هل يمكن أن نعتبرك زعيماً للمدرسة؟

فأجاب: لست أعرف ماذا تعني بالمدرسة؟ فإن كنت تريد بهذا أن لي أنصاراً؛ يسرني أن أصرح لك أن الكثيرين يرون رأيي، لا في مصر وحدها، بل في العالم الإسلامي بأسره.

وقد وصلتني رسائل التأييد من جميع أقطار العالم التي نفذ إليها الإسلام.

ولا ريب أني رغم الحكم، لا أزال مستمراً في آرائي وفي نشرها، لأن الحكم لا يعدل طريقة تفكيري+.

=وسأسعى إلى ذلك بكل الوسائل الممكنة كتأليف كتب جديدة، ومقالات في الصحف، ومحاضرات، وأحاديث+.

والآراء التي أراد علي عبدالرازق أن ينشرها بين المسلمين، ويُؤلف فيها الكتب تتلخص في الطعن في حكومة النبي "، واتهام كبار الصحابة بأشنع التهم.

ولم يكن من بين هذه الآراء الحض على مكافحة الاستعمار، والجهاد في سبيل الاستقلال والحرية، ولا عجب في ذلك؛ فبيت عبدالرازق كان في ذلك الوقت من البيوت العريقة في خدمة الاستعمار؛ فقد أنشأ حسن عبدالرازق حزب الأمة سنة 1908 لمحاربة الحركة الوطنية، وبعد سنة 1919م انضم آل عبدالرازق إلى حزب الأحرار الدستوريين الذي كان يعمل مع الإنجليز+.

وسواء كان الكتاب المنسوب لعلي عبدالرازق من تأليفه هو _ كما هو مدون على غلاف الكتاب _ أو كان من تأليف بعض المستشرقين كما يذهب إلى ذلك آخرون( ) فإن الذي يعنينا هنا أن نقول: إن العلمانية أعلنت الحرب بغير مواربة على النظام السياسي الإسلامي، وبدأت جولتها معه، التي ربما خُيِّل لأتباعها أنها الجولة الأولى والأخيرة.

لقد كان صدور ذلك الكتاب المنبوذ _ والذي يعني عند مؤلفه ومن يشايعه إسقاط الخلافة والقضاء عليها من الناحية الشرعية _ عام 1925م، أي بعد عام واحد من إسقاط الخلافة والقضاء عليها واقعياً من قِبَلِ أتاتورك وأتباعه.

وبصدور ذلك الكتاب بدأت وقائع الجولة الأولى _ الظافرة بإذن الله _ من أهل الحق في الرد على أهل الباطل وضلالاتهم، وحمي الوطيس، وانتصب للحق أهله ودعاته، وظهرت الردود تلو الردود؛ لترد على الكائدين كيدهم في نحورهم، ولِتفضحَهم أمام أجيال الأمة المعاصرة واللاحقة، وتبين خيانتهم لله ولرسوله وللمؤمنين، ومتابعتهم لأولياء الشيطان من اليهود والنصارى الحاقدين.

فقام بالرد عليه السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار، وكذلك الشيخ محمد شاكر ( ) وكيل الأزهر سابقاً، وكذلك الأستاذ أمين الرافعي، وقد أفتى بعض كبار العلماء من أمثال الشيخ محمد شاكر، والشيخ يوسف الدجوي، والشيخ محمد بخيت، والسيد محمد رشيد رضا بِرِدَّةِ علي عبدالرازق مؤلف الكتاب المذكور.

كما ألف كبار العلماء كتباً في الرد عليه: فألَّف الشيخ محمد الخضر حسين (نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم) وألَّف الشيخ محمد بخيت مفتي الديار المصرية في وقته (حقيقة الإسلام وأصول الحكم) كما ألَّف الشيخ محمد الطاهر عاشور كتاب (نقد علمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم).

ومن قبل ذلك فقد عقدت له محاكمة في الأزهر من قبل هيئة كبار العلماء برئاسة الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوي شيخ الجامع الأزهر وعضوية أربعة وعشرين عالماً من كبار العلماء، وبحضور علي عبدالرازق نفسه، وقد تمت مواجهته بما هو منسوب إليه في كتابه، واستمعت المحكمة لدفاعه عن نفسه، ثم خلصت الهيئة إلى القرار التالي: =حكمنا؛ نحن شيخ الجامع الأزهر بإجماع أربعة وعشرين عالماً معنا من هيئة كبار العلماء بإخراج الشيخ علي عبدالرازق أحد علماء الجامع الأزهر والقاضي الشرعي بمحكمة المنصورة الابتدائية الشرعية ومؤلف كتاب (الإسلام وأصول الحكم) من زمرة العلماء.

كما حكم مجلس تأديب القضاة الشرعيين بوزارة الحقانية (العدل) بالإجماع بفصله من القضاء الشرعي+( ).

وإليك فيما يلي شيئاً من التفصيل عن تلك المحاكمة التي جرت؛ فقد انعقدت هيئة كبار العلماء برئاسة المرحوم محمد أبي الفضل الجيزاوي، شيخ الجامع الأزهر في ذلك الوقت، صباح الأربعاء 22 المحرم سنة 1344هـ (12 أغسطس سنة 1925م) وكان عدد أعضائها أربعة وعشرين عالماً، ولما مثل علي عبدالرازق أمام الهيئة حياها بقوله =السلام عليكم+ فلم يرد عليه أحد، وبعد مناقشة طويلة أصدرت الهيئة حكمها بإدانة المتهم، وإخراجه من زمرة العلماء.

ويترتب على الحكم المذكور: محو اسم المحكوم عليه من سجلات الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى، وطرده من كل وظيفة، وقطع مرتباته في أي جهة كانت، وعدم أهليته للقيام بأية وظيفة عمومية، دينية كانت أو غير دينية.

أما حيثيات الحكم، فيمكن إيجازها فيما يلي:

1_ أن الشيخ علياً جعل الشريعة الإسلامية, شريعة روحية محضة, لا علاقة لها بالحكم والتنفيذ في أمور الدنيا.

وقد ردت الهيئة على هذا الزعم الباطل بأن الدين الإسلامي هو إجماع المسلمين على ما جاء به النبي ", من عقائد, وعبادات, ومعاملات لإصلاح أمور الدنيا والآخرة, وأن كتاب الله تعالى وسنة رسوله ", كلاهما مشتمل على أحكام كثيرة في أمور الدنيا, وأحكام كثيرة في أمور الآخرة.

وقالت الهيئة: وواضح من كلامه _ المؤلف _ أن الشريعة الإسلامية عنده شريعة روحية محضة, جاءت لتنظيم العلاقة بين الإنسان وربه فقط, وأن ما بين الناس من المعاملات الدنيوية وتدبير الشئون العامة فلا شأن للشريعة به, وليس من مقاصدها.

وهل في استطاعة الشيخ أن يشطر الدين الإسلامي شطرين, ويلغي منه شطر الأحكام المتعلقة بأمور الدنيا, ويضرب بآيات الكتاب العزيز, وسنة رسول الله" عرض الحائط؟!

2_ ومن حيث إنه زعم أن الدين لا يمنع من أن جهاد النبي " كان في سبيل الملك, لا في سبيل الدين, ولا لإبلاغ الدعوة إلى العالمين.

فقد قال: =... وظاهر أول وهلة أن الجهاد لا يكون لمجرد الدعوة إلى الدين, ولا يحمل الناس على الإيمان بالله ورسوله+.

ثم قال: =... وإذا كان " قد لجأ إلى القوة والرهبة, فذلك لا يكون في سبيل الدعوة إلى الدين وإبلاغ رسالته إلى العالمين, وما يكون لنا أن نفهم إلا أنه كان في سبيل الملك+.

على أنه لا يقف عند هذا الحد, بل كما جوز أن يكون الجهاد في سبيل الملك, ومن الشئون الملكية _ جوز أن تكون الزكاة والجزية والغنائم, ونحو ذلك في سبيل الملك _ أيضاً _.

وجعل كل ذلك على هذا خارجاً عن حدود رسالة النبي " لم ينزل به وحي, ولم يأمر به الله _ تعالى _.

والشيخ علي لا يمنع أن يصادم صريح آيات الكتاب العزيز, فضلاً عن صريح الأحاديث المعروفة, ولا يمنع أنه ينكر معلوماً من الدين بالضرورة.

وذكرت الهيئة الآيات الواردة في الجهاد في سبيل الله, والآيات الخاصة بالزكاة, وتنظيم الصدقات, وتقسيم الغنائم, وهي كثيرة.

3_ ومن حيث إنه زعم أن نظام الحكم في عهد النبي " كان موضع غموض, أو إبهام, أو اضطراب, أو نقص, وموجباً للحيرة.

وقد رضي لنفسه بعد ذلك مذهباً, هو قوله: =إنما كانت ولاية محمد " على المؤمنين ولاية رسالة غير مشوبة بشيء من الحكم+.

وهذه هي الطريقة الخطيرة التي خرج إليها, وهي أنه جرد النبي " من الحكم.

وما زعمه الشيخ علي مصادم لصريح القرآن الكريم, فقد قال الله _تعالى_: [إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ] ثم أوردت الهيئة آيات كثيرة تتضمن معنى الآية السابقة, وتنحو نحوها.

4_ ومن حيث إنه زعم أن مهمة النبي ", كانت بلاغاً للشريعة مجرداً عن الحكم والتنفيذ.

ولو صح هذا لكان رفضاً لجميع آيات الأحكام الكثيرة الواردة في القرآن الكريم، ومخالفاً _ أيضاً _ لصريح السنة.

ثم أوردت الهيئة كثيراً من الأحاديث التي تهدم مزاعم المؤلف, وختمت ذلك بقولها: =فهل يجوز أن يقال بعد ذلك في محمد ", إن عمله السماوي لم يتجاوز حدود البلاغ المجرد من كل معاني السلطان وإنه لم يكلف أن يأخذ الناس بما جاءهم به,  ولا أن يحملهم عليه؟!+.

5_ ومن حيث إنه أنكر إجماع الصحابة على وجوب نصب الإمام, وعلى أنه لا بد للأمة ممن يقوم بأمرها في الدين والدنيا.

وقال إنه يقف في ذلك في صف جماعة غير قليلة من أهل القبلة, يعني بعض الخوارج والأصم؛ وهو دفاع لا يبرئه من أنه خرج على الإجماع المتواتر عند المسلمين، وحسبه في بدعته أنه في صف الخوارج, لا في صف جماهير المسلمين.

6_ ومن حيث إنه أنكر أن القضاء وظيفة شرعية, وقال إن الذين ذهبوا إلى أن القضاء وظيفة شرعية جعلوه متفرعاً عن الخلافة, فمن أنكر الخلافة أنكر القضاء.

وكلامه غير صحيح, فالقضاء ثابت بالدين على كل تقدير, تمسكاً بالأدلة الشرعية التي لا يستطاع نقضها.

7_ ومن حيث إنه زعم أن حكومة أبي بكر, والخلفاء الراشدين من بعده, رضي الله عنهم, كانت لا دينية, ودفاع الشيخ علي بأن الذي يقصده من أن زعامة أبي بكر لا دينية أنها لا تستند على وحي, ولا إلى رسالة _ مضحك موقع في الأسف, فإن أحداً لا يتوهم أن أبا بكر ÷ كان نبياً يوحى إليه حتى يُعني الشيخ علي بدفع هذا التوهم.

لقد بايع أبا بكر ÷, جماهير الصحابة من أنصار ومهاجرين, على أنه القائم بأمر الدين في هذه الأمة بعد نبيها محمد ".

وإن ما وصم به الشيخ علي أبا بكر ÷ من أن حكومته لا دينية, لم يُقْدِمْ على مثله أحد من المسلمين؛ فالله حسبه, ولكن الذي يطعن في مقام النبوة, يسهل عليه كثيراً أن يطعن في مقام أبي بكر وإخوانه الخلفاء الراشدين _ رضي الله عنهم أجمعين _.

هذه خلاصة الحيثيات التي بنت عليها هيئة كبار العلماء حكمها السالف الذكر.

ومنذ ذلك الحين لم تنقطع الكتابات في الرد على كتاب علي عبدالرازق سواء كان ذلك على هيئة كتاب، أو مقال.

وقد حاول بعضهم مساندة علي عبدالرازق، وإعادة وجاهته وقدره عند الناس؛ فبعد اثنين وعشرين عاماً غيرت هيئة كبار العلماء رأيها في الشيخ علي عبدالرزاق؛ فبعد أن كان سنة 1925 كافراً خارجاً على الإسلام, منكراً لكثير مما ورد في القرآن والسنة, إذا هو في سنة 1947 مؤمن يستحق العطف، ويستوجب العفو انظر إلى ما نشرته صحيفة الأهرام في 26_2_1647 تحت عنوان (العلماء يلوذون بالعرش في مسألة علي عبد الرزاق بك) وهو:

=عندما أصابت الأزهر تلك الصدمة التي نزلت فجأة في شيخه الأكبر المغفور له الشيخ مصطفى عبدالرازق اتجهت نية كبار العلماء إلى تكريم ذكراه في شخص شقيقه الأستاذ علي عبد الرزاق بك, وذلك بأن يلوذوا بالسدة الملكية ملتمسين عفوا مليكاً عن أثر القرار الذي اتخذته هيئة كبار العلماء من قبل؛ فما اختمرت هذه الفكرة حتى أخذت سبيلها إلى التنفيذ, وأُعِدَّت صيغة الالتماس الذي يرفع في هذا الشأن, وحمله إلى القصر العامر جماعة كبار العلماء وأعضاء المجلس الأعلى للأزهر+.

=ومما هو جدير بالذكر؛ أنه روعي في رفع هذا الالتماس أن تتقدم به الهيئتان العلمية والتنفيذية في الزهر: تمثل الأولى جماعة كبار العلماء, وتمثل الثانية المجلس الأعلى للأزهر, وأن يكون الملاذ  في ذلك؛ هو جلالة صاحب العرش, بعد أن تبين أن جماعة كبار العلماء لا تملك بوضعها الحالي أن تتخذ قراراً جديداً بإلغاء قرارها الأول في مسألة الأستاذ علي عبد الرزاق بك؛ إذ إن مثل هذا القرار يجب أن يصدر بأغلبية ثلثي أعضائها, على أن يكون من بينهم شيخ الأزهر، وذلك يقضي قراراً من عشرين عضواً, على حين أن الأحياء من أعضاء الجماعة لا يبلغون هذا العدد+.

هذا ما نشرته الصحف 26_2_1947, ومنه نرى أن علماء الأزهر, بما فيهم هيئة كبار العلماء كانوا مدفوعين من تلقاء أنفسهم إلى طلب العفو عن علي عبد الرزاق, وأن هيئة كبار العلماء لم يتوافر فيها العدد القانوني الذي يمكنها من إلغاء قرارها الصادر في12 أغسطس سنة 1925؛ فلذلك لجأت على الملك.

والحق أن هذا كله محض كذب وافتراء؛ فقد أراد الملك فاروق أن يعين علي عبد الرزاق وزيراً للأوقاف؛ فأمر شيوخ الأزهر بأن يقوموا بهذه الحركة؛ فأطاعوا وتبرعوا بالكذب.

وفي يوم 3 مارس سنة 1947 نشرت الصحف مرسوماً بتعيين علي عبدالرزاق وزيراً للأوقاف.

والعجب أن يكون تكريم ذكرى مصطفى على حساب الدين؛ هذا إذا نظرنا بعين الاعتبار إلى القرار الصادر سنة 1925. وإلى الضجة الهائلة التي أحدثها علماء الأزهر حول الكتاب ومؤلفه.

وعلى كل حال فإن الكتاب لقي وما زال يلقى الهوان، والرد عند كل مسلم أومضت في قلبه بارقة إيمان، وإخلاص.

بل إن بعض من تحمسوا للكتاب أول أمره، عادوا إلى مناوأته، وتخطئته.

بل إن علي عبد الرازق نفسه عندما عرض عليه قبل وفاته عام 1966م إعادة طبع الكتاب مرة أخرى رفض ذلك، كما أنه لم يحاول من قبلُ الردَّ على منتقديه وخصومه( ).

 الرسالة الحادية عشرة معالم في اعتقاد أهل السنة في الصحابة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

فهذه معالم في اعتقاد أهل السنة والجماعة في صحابة رسول الله ".

أولاً: تعريف الصحابي: الصحابي هو من لقي النبي " مؤمناً به، ومات على الإسلام.

قال الحافظ ابن حجر ×: =وأصحُّ ما وقفت عليه من ذلك أن الصحابي من لقي النبي " مؤمناً به، ومات على الإسلام؛ فيدخل فيمن لقيه من طالت مجالسته له، أو قصرت، ومن روى عنه أو لم يروِ، ومن غزا معه، أو لم يَغْزُ، ومن رآه رؤية ولو لم يجالسه، ومن لم يره لعارض كالعمى+( ).

إلى أن قال: =وهذا التعريف مبني على الأصح المختار عند المحققين كالبخاري، وشيخه أحمد بن حنبل، ومن تبعهما، ووراء ذلك أقوال أخرى شاذة+( ).

ثانياً: فضل الصحابة، ومنزلتهم في الأمة: صحابة رسول الله " أفضل جيل، وأكرم رعيل، وصفوة الخلق بعد الأنبياء _ عليهم السلام _.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =ومن استقرأ أحوال العالم في جميع الفرق تبين له أنه لم يكن قط طائفة أعظم اتفاقاً على الهدى، وأبعد عن الفتنة والتفرق والاختلاف _ من أصحاب رسول الله " الذين هم خير الخلق بشهادة الله بذلك؛ إذ يقول _ تعالى _: [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ](آل عمران:110) ( ).

ولقد شهدت نصوص القرآن بعدالتهم وفضلهم، وتواترت السنة بالثناء عليهم، كما شهدت لكثير منهم على وجه التخصيص بالعدالة، والفضل.

كما تكاثرت وتظاهرت النصوص عن السلف الصالح في بيان ذلك كله.

قال الله _ عز وجل _: [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29)] (الفتح).

وقال _ تعالى _: [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)] (التوبة).

وقال _ سبحانه وتعالى _: [لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18)]الفتح.

وقال:[لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)] (الحديد).

وقال النبي ": =خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم+( ).

وعن أبي هريرة ÷ قال: قال رسول الله ": =لا تسبوا أصحابي؛ فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه+( ).

قال البيضاوي ×: =وسبب التفاوت ما يقارن الأفضل من مزيد الإخلاص، وصدق النية+( ).

وقيل: السبب في التفاضل أن تلك النفقة أثمرت في فتح الإسلام، وإعلاء كلمة الله ما لا يثمر غيرها.

وكذلك الجهاد بالنفوس لا يصل المتأخرون فيه إلى فضل المتقدمين؛ لقلة عدد المتقدمين، وقلة أنصارهم، فكان جهادهم أفضل( ).

وعن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ في قول الله _ عز وجل _: =[قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى] قال: هم أصحاب محمد "+( ).

وقال ابن مسعود ÷: =إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد " خير قلوب العباد؛ فاصطفاه لنفسه؛ فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون عن دينه+( ).

وبالجملة فالآيات، والأحاديث، والآثار الواردة في الثناء عليهم، وتعداد فضائلهم لا تكاد تحصر( ).

ثالثاً: الاعتقاد الحق فيهم: الاعتقاد الحق في الصحابة الكرام _ رضي الله عنهم _: حبهم، والترضي عنهم، واعتقاد عدالتهم، والاعتراف بسابقتهم، والحرص على نشر فضائلهم، والكف عما شجر بينهم، والتبرؤ من طريقة الذين يبغضونهم ويسبونهم( ).

فهذا هو مجمل الاعتقاد الحق فيهم، وسيأتي شيء من البسط في ذلك في الفقرات التالية.

رابعاً: وسطية أهل السنة في أصحاب رسول الله " بين الرافضة والخوارج: فالرافضة _ قبحهم الله _ يسبون الصحابة _ رضي الله عنهم _ ويلعنونهم، وربما كفروهم، أو كفروا بعضهم، والغالبية منهم _ مع سبهم لكثير من الصحابة والخلفاء _ يغلون في علي وأولاده _ رضي الله عنهم _ ويعتقدون فيهم الإلهية.

وأما الخوارج فقد قابلوا هؤلاء الروافض، فكفروا عليَّاً ومعاوية، ومن معهم من الصحابة، وقاتلوهم، واستحلوا دماءهم وأموالهم.

وأما أهل السنة والجماعة فكانوا وسطاً بين غلو هؤلاء، وجفاء هؤلاء، فهداهم الله إلى الاعتراف بفضل الصحابة، وأنهم أكمل الأمة إيماناً وإسلاماً وعلماً وحكمة، ولكنهم لم يغلوا فيهم، ولم يعتقدوا عصمتهم، بل أحبوهم لحسن صحبتهم، وعظم سابقتهم، وحسن بلائهم في نصرة الإسلام، وجهادهم مع رسول الله "( ).

خامساً: حكم سب الصحابة أو تكفيرهم: هذه المسألة فيها تفصيل، وذلك كما يلي:

1_ من زعم أنهم ارتدوا إلا قليلاً منهم _ فهو كافر بلا ريب؛ لأنه مكذب لكلام الله _ عز وجل _ وكلام رسوله " بالرضا عنهم، والثناء عليهم، وتزكيتهم.

2_ من زعم فسق عامتهم فلا ريب في كفره _ أيضاً _.

3_ من سبهم سبَّاً يقدح في عدالتهم ودينهم _ فيحكم بكفره.

4_ من سبهم سباً لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم _ مثل وصف بعضهم بالبخل، أو الجبن، أو قلة العلم، أو عدم الزهد _ فهذا يستحق التعزير والتأديب، ولا يُحكم بكفره بمجرد ذلك( ).

سادساً: لوازم السبِّ والتكفير: يلزم من سب الصحابة أو تكفيرهم لوازم عديدة باطلة منها:

1_ الشك في القرآنِ، والحديثِ، ودينِ الإسلام؛ لأن الطعن في الناقل طعن في المنقول.

2_ يقتضي أن هذه الأمة شر أمة أُخرجت للناس، وخيرُ هذه الأمة هم أولُها؛ فإن كانوا كفاراً أو فسّاقاً  فإن هذه الأمة شر الأمم.

3_ يلزم من هذا _ أيضاً _ أحد أمرين، أولهما: نسبة الجهل إلى الله _تعالى_.

ثانيها: العبث بالنصوص التي فيها ثناء على الصحابة.

4_ الشك في تربية الرسول " لأصحابه؛ فإذا كان عجز هو عن تربيتهم وهو المؤيد بالوحي والكمالات ونحو ذلك؛ فإن هذا يقود إلى اليأس من إصلاح الناس، والشك في تربية الإسلام لأتباعه( ).

سابعاً: الخلفاء الراشدون أفضل الصحابة: الصحابة _ كما مر _ هم أفضل الناس بعد الأنبياء، وأفضل الصحابة المهاجرون؛ لجمعهم بين الهجرة والنصرة، ثم الأنصار، وأفضل المهاجرين الخلفاء الأربعة الراشدون:

أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي _ رضي الله عنهم _.

وإليك نبذة يسيرة عنهم:

1_ أبو بكر الصديق: عبدالله بن عثمان بن عامر من بني تيم بن مرة ابن كعب، أول من آمن برسول الله " من الرجال، وصاحبه في الهجرة، ونائبه في الصلاة والحج، وخليفته في أمته، أسلم على يديه خمسة من المبشرين بالجنة عثمان، والزبير، وطلحة، وعبدالرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص.

توفي في جمادى الآخرة سنة 13هـ عن 63 سنة وهؤلاء الخمسة مع أبي بكر وعلي بن أبي طالب وزيد بن حارثة هم الثمانية الذين سبقوا الناس بالإسلام.

قاله ابن إسحاق يعني من الذكور بعد الرسالة.

2_ عمر بن الخطاب: هو أبو حفص الفاروق عمر بن الخطاب من بني عدي ابن كعب بن لؤي، أسلم في السنة السادسة من البعثة بعد نحو أربعين رجلاً وإحدى عشرة امرأة، ففرح المسلمون به وظهر الإسلام بمكة بعده.

استخلفه أبو بكر على الأمة، فقام بأعباء الخلافة خير قيام إلى أن قتل شهيداً في ذي الحجة سنة 23هـ عن 63 سنة.

3_ عثمان بن عفان: هو أبو  عبدالله ذو النورين عثمان بن عفان من بني أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.

أسلم قبل دخول النبي " دار الأرقم كان غنياً سخياً تولى الخلافة بعد عمر ابن الخطاب باتفاق أهل الشورى إلى أن قتل شهيداً في ذي الحجة سنة 35هـ عن 90 سنة على أحد الأقوال.

4_ علي بن أبي طالب: وهو أبو الحسن علي بن أبي طالب، واسم أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب أول من أسلم من الغلمان، أعطاه رسول الله " الراية يوم خيبر؛ ففتح الله على يديه، وبويع بالخلافة بعد قتل عثمان _ رضي الله عنهما _ فكان هو الخليفة شرعاً إلى أن قتل شهيداً في رمضان سنة 40 هـ عن 63 سنة( ).

ثامناً: المفاضلة بين الخلفاء الراشدين: قبل الدخول في ثنايا المفاضلة بين الخلفاء الراشدين يحسن الإجابة لمن قد يعترض على ذلك، ويقول: الأولى أن نحب أصحاب رسول الله " جميعاً، ولا نفاضل بينهم.

ويقال لهذا: إن السنة هي المفاضلة بينهم على ما جاءت به الأحاديث الصحيحة، ودرج عليه السلف الصالح من تفضيل أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي _ رضي الله عنهم أجمعين _.

وقد سئل الإمام أحمد عن رجل يحب أصحاب رسول الله " ولا يفضل بعضهم على بعض وهو يحبهم قال: =السنة أن يفضل أبا بكر، وعمر، وعثمان وعلي من الخلفاء+( ).

وإنما الذي ذمه السلف هو التعرض لما شجر بين الصحابة من قتال وفتن بعد مقتل عثمان، ثم النزاع الذي حصل بين علي ومعاوية _ رضي الله عنهم _.

وبناءاً على ما مضى فإن أفضل الأمة بعد نبيها " أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي _ رضي الله عنهم _.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =فهذا متفق عليه بين أئمة المسلمين المشهورين بالإمامة في العلم والدين من الصحابة، والتابعين وتابعيهم.

وهو مذهب مالك، وأهل المدينة، والليث بن سعد، وأهل مصر، والأوزاعي، وأهل الشام، وسفيان الثوري، وأبي حنيفة، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وأمثالهم من أهل العراق، وهو مذهب الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد وغير هؤلاء من الأئمة.

وحكى مالك إجماع أهل المدينة على ذلك فقال: ما أدركت أحداً ممن يقتدى به يشك في تقدم أبي بكر وعمر+( ).

وقال ×: =ويقرون _ أي أهل السنة _ بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ÷ وغيره من أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر، ويثلثون بعثمان، ويربِّعون بعلي _ رضي الله عنهم _ كما دلت عليه الآثار، وكما أجمع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة+( ).

والأدلة على ما ذهب إليه الأئمة المذكورون في مسألة التفضيل كثيرة منها ما رواه البخاري عن نافع عن عبدالله بن عمر _ رضي الله عنهما _ قال: كنا نُخَيَّر بين الناس في زمن النبي " فنخيِّر أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان ابن عفان _ رضي الله عنهم _+( ).

وفي رواية: =كنا في زمن النبي " لا نعدل بأبي بكر أحداً، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي " نفاضل بينهم+( ).

وكلا الحديثين نص في المسألة.

وقد روي آثار مستفيضة عن علي ÷ نفسه؛ ففي صحيح البخاري عن محمد بن الحنفية أنه قال: =قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله " قال: أبو بكر، قلت ثم من؟ قال: عمر، وخشيت أن يقول عثمان قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين+( ).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =وقد روي هذا عن علي بن أبي طالب من نحو ثمانين وجهاً، وأنه كان يقوله على منبر الكوفة، بل كان يقول: لا أُوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري؛ فمن فضَّله على أبي بكر وعمر جلد بمقتضى قوله ÷ ثمانين سوطاً+( ).

وجاء في الصحيحين عن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ قال: =إني لواقف في قوم؛ فدعوا الله لعمر بن الخطاب، وقد وضع على سريره، إذا رجل من خلفي قد وضع مِرْفقه على منكبي يقول: رحمك الله، إن كنتُ لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك؛ لأني كثيراً ما كنت أسمع رسول الله " يقول: =كنت وأبو بكر وعمر، وفعلت وأبو بكر وعمر، وانطلقت وأبو بكر وعمر+.

فإن كنتُ لأرجو أن يجعلك الله معهما؛ فالتفت فإذا هو علي بن أبي طالب+( ).

تاسعاً: ترتيب الخلفاء في الخلافة: أحق الخلفاء الأربعة بالخلافة بعد النبي " أبو بكر ÷ لأنه أفضلهم وأسبقهم إلى الإسلام، ولأن النبي " قدمه في الصلاة، ولأن الصحابة _ رضي الله عنهم _ أجمعوا على تقديمه ومبايعته ولا يجمعهم الله على ضلالة، ثم عمر ÷ لأنه أفضل الصحابة بعد أبي بكر، ولأن أبا بكر عهد بالخلافة إليه، ثم عثمان ÷ لفضله، وتقديم أهل الشورى له وهم المذكورون في هذا البيت:

علي وعثمان وسعد وطلحة

                   زبير وذو عوف رجال المشورة

ثم علي ÷ لفضله، وإجماع أهل عصره عليه.

وهؤلاء الأربعة هم الخلفاء الراشدون المهديون الذين قال فيهم النبي ":

=عليكم بِسُنَّتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عَضُّوا عليها بالنواجذ+( ).

وقال _ عليه الصلاة والسلام _: =خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله الملك من يشاء، أو ملكه من يشاء+( ).

فكان آخرها خلافة علي هكذا قال ابن قدامة × وكأنه جعل خلافة الحسن تابعة لأبيه أو لم يعتبرها حيث إنه ÷ تنازل عنها( ).

فخلافة أبي بكر ÷ سنتان وثلاثة أشهر وتسع ليال من 13 ربيع الأول سنة 11هـ إلى 22 جمادى الآخرة سنة 13هـ.

وخلافة عمر ÷ عشر سنوات وستة أشهر وثلاثة أيام من 23 جمادى الآخرة سنة 13هـ إلى 26 ذي الحجة سنة 23هـ.

وخلافة عثمان ÷ اثنتا عشرة سنة إلا اثني عشر يوماً من 1 محرم سنة 24هـ إلى 18 ذي الحجة سنة 35هـ.

وخلافة علي ÷ أربع سنوات وتسعة أشهر من 19 ذي الحجة سنة 35هـ إلى 19 رمضان سنة 40هـ.

فمجموع خلافة هؤلاء الأربعة تسع وعشرون سنة وستة أشهر وأربعة أيام( ).

عاشراً: مسألة تفضيل علي على عثمان _ رضي الله عنهما _: أجمع السلف _ كما مر _ على أن أفضل الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر _ رضي الله عنهما _.

أما علي وعثمان فقد اختلفوا في أيهما أفضل، وهذه مسألة لا يضلل فيها المخالف.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =وقد اختلفوا في عثمان وعلي _ رضي الله عنهما _ بعد اتفاقهم على تقديم أبي بكر وعمر أيهما أفضل؛ فقدم قوم عثمان، وسكتوا، وربَّعوا بعلي، وقدَّم قومٌ علياً، وقوم توقفوا، لكن استقر أهل السنة على تقديم عثمان ثم علي+( ).

هذا حاصل الخلاف في المسألة تقديم عثمان، تقديم علي، التوقف في تقديم أحدهما على الآخر.

وأشار شيخ الإسلام ابن تيمية × إلى ترجيح الرأي الأول وهو تقديم عثمان لأمور:

أحدها: أن هذا هو الذي دلت عليه الآثار الواردة في مناقب عثمان ÷.

الثاني: إجماع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة، وما ذاك إلا لأنه أفضل؛ فترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة.

الثالث: أنه استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان ثم علي _ كما سبق _ من أنهم قدموه في البيعة، وكان علي من جملة من بايعه، وكان يقيم الحدود بين يديه( ).

حادي عشر: حكم تقديم علي على عثمان _ رضي الله عنهما _: بعد أن تبين رجحان القول بتقديم عثمان ثم علي، واستقرار أمر أهل السنة على ذلك لسائل أن يسأل فيقول: هل يضلل من يقدم علياً على عثمان؟

والجواب لا؛ فهذه مسألة لا يضلل من يخالف فيها؛ نظراً لاختلاف أهل السنة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية × بعد أن ذكر الخلاف في هذه المسألة واستقرار أمر أهل السنة على تفضيل عثمان ثم علي _ رضي الله عنهما _ قال: =وإن كانت هذه المسألة _ مسألة عثمان وعلي _ ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة+( ).

ثاني عشر: حكم تقديم علي ÷ على غيره من الخلفاء الأربعة في الخلافة: هذه المسألة مما يضلل بها المخالف؛ إذ لا يجوز تقديم علي ÷ على غيره من الخلفاء الثلاثة في الخلافة، أو ادعاء أنه أولى منهم فيها.

روي عن سفيان الثوري × أنه قال: =من زعم أن علياً كان أحق بالولاية منهما _ يعني أبا بكر وعمر _ فقد خطَّأ أبا بكر وعمر والمهاجرين والأنصار _رضي الله عن جميعهم_ وما أراه يرتفع له مع هذا عمل إلى السماء+( ).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية × بعد أن ذكر مسألة تفضيل عثمان على علي _ رضي الله عنهما _ وأنها ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة قال: =لكن التي يضلل فيها مسألة الخلافة، وذلك لأنهم يؤمنون أن الخليفة بعد رسول الله " أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي.

ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله+( ).

وخلاصة القول في مسألة تقديم علي على غيره من الخلفاء الثلاثة ما يلي:

1_ من قدمه في الخلافة على أي من الثلاثة فهو ضال.

2_ من قدمه في الفضيلة على أبي بكر وعمر فهو ضال _ أيضاً _.

3_ من قدمه في الفضيلة على عثمان فلا يضلل، وإن كان خلاف الراجح( ).

ثالث عشر: العشرة المبشرون بالجنة: المُعَيَّنُونَ من أهل الجنة كثيرون، ومنهم العشرة المبشرون بالجنة.

وخصوا بهذا الوصف لأن النبي " جمعهم في حديث واحد فقال: =أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبدالرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة+( ).

وقد سبق الكلام عن الخلفاء الأربعة، وأما الباقون فجمعوا في هذا البيت:

سعيد وسعد وابن عوف وطلحة

                   وعامر فهر والزبير المُمَدَّح

فطلحة: هو ابن عبيدالله من بني تميم بن مرة أحد الثمانية السابقين إلى الإسلام قتل يوم الجمل في جمادى الآخرة سنة 36هـ عن 64 سنة.

والزبير: هو ابن العوام من بني قصي بن كلاب ابن عمة رسول الله " انصرف يوم الجمل عن قتال علي فلقيه ابن جرموز فقتله في جمادى الأولى سنة 36هـ عن 67 سنة.

وعبدالرحمن بن عوف: من بني زهرة بن كلاب توفي سنة 32هـ عن 72 سنة ودفن بالبقيع.

وسعد بن أبي وقاص: هو ابن مالك من بني عبد مناف ابن زهرة أول من رمى بسهم في سبيل الله مات في قصره بالعقيق على عشرة أميال من المدينة، ودفن بالبقيع سنة 55هـ عن 82 سنة.

وسعيد بن زيد: هو ابن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي كان من السابقين إلى الإسلام توفي بالعقيق، ودفن بالمدينة سنة 51هـ عن بضع وسبعين سنة.

أبو عبيدة: هو عامر بن عبدالله بن الجراح من بني فهر من السابقين إلى الإسلام توفي في الأردن في طاعون عَمواس سنة 18هـ عن 58 سنة( ).

وممن شهد له النبي " بالجنة الحسن والحسين وثابت بن قيس بن شماس.

قال النبي ": =الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة+( ).

وقال " في ثابت بن قيس: =إنك لست من أهل النار ولكنك من أهل الجنة+( ).

رابع عشر: فضائل الصحابة ومراتبهم: مر شيء من ذلك في فقرة ماضية، وفيما يلي مزيد بيان لذلك.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم، ويفضلون من أنفق من قبل الفتح _ وهو صلح الحديبية _ وقاتل على من أنفق من بعد وقاتل.

ويفضلون المهاجرين على الأنصار، ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر _ وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر _: =اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم+( ).

وبأنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة كما أخبر النبي ".

بل لقد رضي الله عنهم ورضوا عنه، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة+( ).

وهذا النص الجامع من شيخ الإسلام ابن تيمية × يتضمن عدداً من المسائل:

الأولى: قوله: =ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم+.

قوله: =ويقبلون+: أي أهل السنة.

و =الفضائل+: جمع فضيلة وهي ما يفضل به المرء غيره، ويعد منقبة له.

و =المراتب+: الدرجات؛ لأن الصحابة درجات ومراتب.

الثانية: قوله: =ويُفَضِّلون من أنفق من قبل الفتح _ وهو صلح الحديبية _ وقاتل على من أنفق من بعد وقاتل+.

=الحديبية+: بئر قرب مكة، وقعت عنده البيعة تحت شجرة هناك حينما صد المشركون رسول الله " وأصحابه عن دخول مكة، فبايعوه على الموت، وسميت هذه البيعة فتحاً؛ لما حصل بسببها من الخير والنصر للمسلمين.

والدليل على تفضيل هؤلاء، قوله _ تعالى _: [لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى] (الفتح: 10).

الثالثة: قوله: =ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر _ وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر _: =اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم+.

يشير بذلك إلى مرتبة أهل بدر، وأنها من أعلى مراتب الصحابة.

وبدر هو المكان المعروف الذي كانت فيه الغزوة المشهورة، وكانت في السنة الثانية من الهجرة في رمضان، وسمى الله _ تعالى _ يومها: يوم الفرقان.

فأهل بدر الذين جعل الله على أيديهم هذا النصر المبين، والفرقان الذي هاب العرب به رسول الله " وأصحابه، وكان لهم منزلة عظيمة بعد هذا النصر اطلع عليهم الله _ عز وجل _ وقال:

=اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم+.

وقد اختلف العلماء بالمراد بالمغفرة في هذا الحديث، ومن أحسن من تكلم في توجيه ذلك العلامةُ ابن القيم × قال: =قول النبي " لعمر: =وما يدريك أن الله اطَّلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم+.

أشكل على كثير من الناس معناه؛ فإن ظاهره إباحة كل الأعمال لهم، وتخييرهم فيما شاؤوا منها، وذلك ممتنع.

فقالت طائفة، منهم ابن الجوزي: ليس المراد من قوله =اعملوا+ الاستقبال، وإنما هو للماضي، وتقديره: أَيُّ عملٍ كان لكم فقد غفرته.

قال: ويدلُّ على ذلك شيئان:

أحدهما: أنه لو كان للمستقبل كان جوابه قوله: =فسأغفر لكم+.

والثاني: أنه كان يكون إطلاقاً في الذنوب ولا وجه لذلك.

وحقيقة هذا الجواب: أني قد غفرت لكم بهذه الغزوة ما سلف من ذنوبكم.

لكنه ضعيف من وجهين:

أحدهما: أن لفظ =اعملوا+ يأباه؛ فإنه للاستقبال دون الماضي، وقوله =قد غفرت لكم+ لا يوجب أن يكون: =اعملوا+ مثله؛ فإن قوله =قد غفرت+ تحقيق لوقوع المغفرة في المستقبل كقوله [أَتَى أَمْرُ اللَّهِ] (النحل:1)، [وَجَاءَ رَبُّكَ] (الفجر:22)، ونظائره.

الثاني: أن الحديث نفسه يردّه؛ فإن سببه قصة حاطب، وتجسُّسه على النبي " وذلك ذنب واقع بعد غزوة بدر لا قبلها، وهو سبب الحديث؛ فهو مراد منه قطعاً.

فالذي نظن في ذلك _ والله أعلم _ أن هذا خطاب لقوم قد علم الله _ سبحانه _ أنهم لا يفارقون دينهم، بل يموتون على الإسلام، وأنهم قد يقارفون بعض ما يقارفه غيرهم من الذنوب، ولكن لا يتركهم الله _ سبحانه _ مصرِّين عليها، بل يوفِّقهم لتوبة نصوح، واستغفار، وحسنات تمحو أثر ذلك.

ويكون تخصيصهم بهذا دون غيرهم؛ لأنه قد تحقق ذلك فيهم، وأنهم مغفور لهم، ولا يمنع ذلك كون المغفرة حصلت بأسباب تقوم بهم، كما لا يقتضي ذلك أن يعطلوا الفرائض وثوقاً بالمغفرة؛ فلو كانت قد حصلت بدون الاستمرار على القيام بالأوامر لما احتاجوا بعد ذلك إلى صلاة، ولا صيام، ولا حج، ولا زكاة، ولا جهاد، وهذا محال.

ومِنْ أوجب الواجبات التوبة بعد الذنب؛ فضمان المغفرة لا يوجب تعطيل أسباب المغفرة، ونظير هذا قوله في الحديث الآخر: =أذنب عبدٌ ذنباً فقال: أي رب، أذنبت ذنباً فاغفره لي، فغفر له، ثم مكث ما شاء الله أن يمكث، ثم أذنب ذنباً آخر فقال: أي رب أصبت ذنباً فاغفر لي، فغفر له، ثم مكث ما شاء الله أن يمكث ثم أذنب ذنباً آخر فقال: رب أصبت ذنباً فاغفره لي، فقال الله: علمَ عبدي أنَّ له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء+( ).

فليس في هذا إطلاق وإذن منه _ سبحانه _ له في المحرمات والجرائم، وإنما يدل على أنه يغفر له ما دام كذلك إذا أذنب تاب.

واختصاصُ هذا العبد بهذا؛ لأنه قد علم أنه لا يصرُّ على ذنب، وأنه كلما أذنب تاب _ حكمٌ يعمّ كل من كانت حاله حاله، لكن ذلك العبد مقطوع له بذلك كما قطع به لأهل بدر.

وكذلك كل من بَشَّرَه رسول الله " بالجنة أو أخبره بأنه مغفور له لم يَفْهم منه هو ولا غيره من الصحابة إطلاق الذنوب والمعاصي له ومسامحته بترك الواجبات، بل كان هؤلاء أشد اجتهاداً وحذراً وخوفاً بعد البشارة منهم قبلها، كالعشرة المشهود لهم بالجنة.

وقد كان الصدِّيق شديد الحذر والمخافة، وكذلك عمر؛ فإنهم علموا أن البشارة المطلقة مقيَّدة بشروطها والاستمرار عليها إلى الموت، ومقيَّدة بانتفاء موانعها، ولم يَفْهَم أحدٌ منهم من ذلك الإطلاق الإذن فيما شاؤوا من الأعمال+( ).

الرابعة: قوله: =بأنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة+.

هذا الكلام في شأن أصحاب الشجرة، وهم أهل بيعة الرضوان وهي البيعة التي حصلت في الحديبية _ كما سبق الحديث عنه قريباً _ وقد ذكر لهم شيخ الإسلام مزيتين:

إحداهما: أن لا يدخل النار أحد منهم، ودليل ذلك ما جاء في صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله يقول: =أخبرتني أم مبشر أنها سمعت النبي " يقول عند حفصة: =لا يدخل النار _ إن شاء الله _ من أصحاب الشجرة الذين بايعوا تحتها+( ).

الأخرى: أن الله قد رضي عنهم، وهذ صريح القرآن كما في قوله _ تعالى _: [لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ](الفتح:18).

وممن لهم سابقة وفضل ومزية أهل أحد، ومما جاء في ذلك ما أورده الإمام البخاري × في صحيحه حيث عقد باباً في كتاب المغازي قال فيه: باب: =الذين استجابوا لله والرسول+.

حدثنا محمد، حدثنا أبو معاوية عن هشام عن أبيه عن عائشة _ رضي الله عنهما _ [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)] (آل عمران).

قالت لعروة: يابن أختي كان أبواك منهم: الزبير وأبو بكر، لما أصاب رسول الله " ما أصاب يوم أحد، وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا، قال: =من يذهب في إثرهم+.

فانتدب منهم سبعون رجلاً قال: كان فيهم أبو بكر والزبير+( ).

خامس عشر: أسس البحث في تاريخ الصحابة، وما جرى بينهم من الفتن:

يقوم البحث في تاريخ الصحابة، وما جرى بينهم من الفتن بعد استشهاد عثمان، وما حصل بين علي ومعاوية _ رضي الله عنهما _ على عدة أسس تتلخص فيما يلي:

1_ أن نعتقد أنهم خير القرون؛ لأن الله _ عز وجل _ زكَّاهم، وكذلك رسوله ".

2_ أن الكلام عما شجر بينهم ليس هو الأصل، بل الأصل الاعتقادي عند أهل السنة والجماعة هو الكفُّ والإمساك عما شجر بينهم؛ ليسلم المرء من الوقيعة فيهم أو انتقاصهم.

3_ إذا دعت الحاجة إلى ذكر ما شجر بينهم، فلا بد من التحقق والتثبت في الروايات المذكورة حول الفتن التي وقعت بين الصحابة؛ ذلك أن هذه الروايات دخلها الكذب والتحريف؛ فوجب التحقق والتثبت.

4_ إذا صحت الرواية في ميزان الجرح والتعديل في شأن الصحابة، وكان في ظاهرها القدح فيهم _ فليحمل ذلك على أحسن المحامل، وليلتمس لهم أحسن المخارج والمعاذير.

5_ أن ما ثبت في ميزان النقد العلمي فيما شجر بين الصحابة _ هم فيه مجتهدون؛ ذلك أن القضايا كانت مشتبهة، فلشدة اشتباهها تباينت اجتهاداتهم على ثلاثة أقسام:

أ_ قسم ظهر له بالاجتهاد أن الحق مع هذا الطرف، وأن مخالِفه باغٍ، فوجب عليه نصرةُ المحق بناء على ما ترجح عنده.

ب_ قسم عَكْسُ هؤلاء ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق مع الطرف الآخر؛ فوجب عليه مساعدته، وقتال الباغي عليه.

ج_ قسم اشتبهت عليه القضية، ولم يتبين له وجه الصواب؛ فاعتزل الفريقين، وهذا هو الواجب في حقه؛ لأنه لا يحل الإقدام على قتل المسلم حتى يظهر أنه مستحق لذلك.

فتلخَّص من ذلك كله أنهم ما بين مجتهدٍ مصيب فله أجران، ومجتهدٍ مخطئ فله أجر، وثالثٍ اشتبه عليه الحق؛ فآثر الاعتزال.

6_ ومن أسس البحث في تاريخ الصحابة، ومما يجدر بالمسلم أن يعلمه في شأن تلك الفتن: أن الصحابة _ مع اجتهادهم فيها وتأولهم _ قد حزنوا حزناً شديداً، وندموا لما آل إليه الأمر؛ إذ لم يخطر ببالهم أنه سيصل إلى ما وصل إليه.

7_ ومما ينبغي الإشارة إليه _ أيضاً _ أن الصحابة خير الناس حتى في حال القتال، والفتنة، والاختلافِ، فبرغم ما حصل بينهم إلا أنهم لم يكفِّروا بعضاً، بل كان بعضهم يترحَّم على بعض، ويأخذ العلم من بعض، بل كانوا يثنون على بعض، ويلتمسون المعاذير لبعض.

8_ منهج أهل السنة والجماعة في باب الصحابة _ وهو الحق _ أنهم لا يعتقدون أن كل واحدٍ من الصحابة معصوم من كبائر الذنوب وصغائرها، بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولكن لهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم.

وما يُنكَر على بعضهم فهو جزء يسير ينغمر في بحر حسناتهم.

هذا في الذنوب المحققة، فكيف بالأمور الاجتهادية التي إن أصابوا فيها فلهم أجران، وإن أخطأوا فلهم أجر واحد؟

هذه نبذة يسيرة حول أسس البحث في تاريخ الصحابة( ).

 الرسالة الثانية عشرة: معالم في التعامل مع الفتن

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلا ريب أن الأمة تعيش أحوالاً عصيبة، قد تكون أحرج أيام مرت بها عبر التاريخ؛ فالمصائب متنوعة، والجراحات عميقة، والمؤامرات تحاك تلو المؤامرات.

يضاف إلى ذلك ما تعانيه الأمة من الضعف، والهوان، والفُرقة، وتسلط الأعداء.

وما هذا الذي يجري في كثير من بلاد المسلمين _ إلا سلسلة من المكر الكبَّار، والكيد العظيم، والقتال الذي لا يزال مستمراً،[وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا ](البقرة: 217)،[وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ](البقرة: 109).

وفي مثل هذه الأحوال يكثر السؤال، ويلح خصوصاً من فئة الشباب المحبين لدينهم، الراغبين في نصرته؛ فتراهم، وترى كل غيور على دينه يقول: ما دوري في هذه الأحداث؟ وماذا أفعل؟ وكيف أتعامل مع هذا الخضم الموَّار من الشرور والفتن والأخطار؟

وقد يخالط بعضَ النفوس من جراء ذلك شيءٌ من اليأس، والإحباط، وقد يعتريها الشك في إصلاح الأحوال، ورجوع الأمة إلى عزها وسالف مجدها.

ومهما يكُ من شيء فإن هذه الأمة أمة مباركة موعودة بالنصر والتمكين متى توكلت على الله، وأخذت بالأسباب.

وهذا الدين أنزله الله _ عز وجل _ وبعث به الرسول " ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.

أما التعامل مع هذه النوازل والمصائب والفتن فهو مبين في كتاب الله _ عز وجل _ وسنة نبيه " موضح في كتب أهل العلم التي تكلمت على هذا الباب.

ومما تجدر الإشارة إليه، ويحسن الطَّرْق عليه في هذا الصدد مما هو معين _ بإذن الله _ على حسن التعامل مع الفتن، والمصائب، والخروج منها بأمان _ أمور كثيرة، وفيما يلي ذكر لشيء منها، مع ملاحظة أن بعضها داخل في بعض؛ فإلى تلك الأمور، والله المستعان وعليه التكلان.

أولاً: الاعتصام بالكتاب والسنة: وهذا المَعْلَم جماع هذا الباب كله؛ إذ جميع المعالم الآتية داخلة فيه، متفرعة عنه، قال الله _ عز وجل_:[وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] (آل عمران:101).

وقال النبي ": =تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يَرِدَا عليَّ الحوض+( ).

وقال " في حديث العرباض بن سارية ÷: =وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة+( ).

فالتمسك بالوحيين عصمةٌ من الزلل، وأمان _ بإذن الله _ من الضلال.

وليس الاعتصام بهما كلمة تتمضمض بها الأفواه من غير أن يكون لها رصيد في الواقع، وإنما هي عمل، واتباع في جميع ما يأتيه الإنسان ويذره.

ويعظم هذا الأمر حال الفتن؛ إذ يجب الرجوع فيها إلى هداية الوحيين؛ لكي نجد المخرج والسلامة منها، وهذا ما سيتبين في الفقرات التالية _ إن شاء الله _.

ثانياً: التوبة النصوح: فهي واجبة في كل وقت، وهي في هذه الأوقات أوجب [فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا](الأنعام: 43).

ولنا في قصة قوم يونس _ عليه السلام _ عبرة وموعظة؛ فهم لما رأوا نُذُر العذاب قد بدأت تلوح لجأوا إلى الله، وتضرعوا إليه، فرفع الله عنهم العذاب ومتعهم بالحياة إلى حين مماتهم، وانقضاء آجالهم.

فعلى الأمة أن تتوب، وأن تدرك أن ما أصابها إنما هو جارٍ على مقتضى سنن الله التي لا تحابي أحداً كائناً من كان؛ فتتوب من المنكرات التي أشاعتها من شرك، وحكم بغير ما أنزل الله، وتقصير في الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وتتوب من المظالم، والربا، والفسق، والمجون، والإسراف، والترف وما إلى ذلك مما هو مؤذن باللعنة، وحلول العقوبة.

وعلى كل فرد منا أن ينظر في حاله مع ربه، وفي جميع شؤونه؛ لأن [مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ](الشورى: 30)( ).

ثالثاً: النظر في التاريخ: خصوصاً تاريخ الحروب الصليبية، وذلك لأخذ العبرة، وطرد شبح اليأس، والبحث عن سبل النجاة والنصر.

فلو نظرنا _ على سبيل المثال _ إلى كتب التاريخ كتاريخ ابن الأثير أو البداية والنهاية لابن كثير لرأينا العجب من تسلط الصليبيين، ولرأينا أن بغداد وبيت المقدس _ على سبيل المثال _ يتكرر ذكرهما كثيراً؛ فلقد لاقت تلك البلاد من البلاء ما الله به عليم، ومع ذلك ظلت صامدة، محافظة _ إلى حد كبير _ على إسلامها وعراقتها.

والتاريخ يعيد نفسه في هذه الأيام، وتلك البلاد وغيرها من بلاد المسلمين _بإذن الله_ ستصمد في وجوه المعتدين.

ولو نظرنا في كتب التاريخ التي تحدثت عن غزو التتار لبلاد المسلمين، وكيف كانت شراسة تلك الهجمة، وكيف خالط النفوس من الرعب والأوجال ما خالطها، وكيف بلغ ببعضها اليأس من أن تقوم للإسلام قائمة بعد ذلك.

وما هي إلا أن كشف الله الغمة، وأعاد العز والمجد للأمة، بل إن التتار أنفسهم دخلوا في الإسلام.

ومن النظر في التاريخ النظر في سير أبطال الإسلام وقواده إبان الحروب الصليبية، وخصوصاً نور الدين محمود، وصلاح الدين الأيوبي _ عليهما رحمة الله _ فسيرتهما تحمل في طياتها عبراً عظيمة تفيد في هذا الشأن كثيراً؛ حيث حرصا على توحيد الأمة، ولم شعثها، ورفع الذلة والإحباط اللذين خالطا كثيراً من النفوس.

كما أنهما حرصا على الإعداد المتكامل للجهاد في سبيل الله؛ فنالت الأمة بذلك سؤدداً، ومجداً، ورفعة.

رابعاً: الإفادة من التجارب: فذلك من جميل ما ينبغي؛ فالحياة كلها تجارب، واستفادة من التجارب، وميزة إنسان على إنسان، وأمة على أمة هي القدرةُ على الاستفادة من التجارب وعدمُها؛ فالحوادث تمر أمام جمع من الناس؛ فيستفيد منها أناس بمقدار مائة، وآخرون بمقدار خمسين وهكذا، وآخرون تمر منهم الحوادث على عين بلهاء، وقلب معرض؛ فلا يفيدون منها شيئاً، ولا تحسُّ له وجبةً، ولا تسمع لهم ركزاً.

والفرق بين من يستفيد من التجربة ومن لا يستفيد أن الأول يستطيع انتهاز الفرص في حينها، وأن يتجنب الخطر قبل وقوعه.

على حين أن الثاني لا ينتهز فرصة، ولا يشعر بالخطر إلا بعد وقوعه؛ فلا يليق _ إذاً _ أن تمر بنا وبأمتنا التجارب؛ فنكررَ الخطأ، ولا نفيدَ من عبر الماضي.

ولا يحسن بنا أن نُغْفِل تعامل أسلافنا مع ما مر بهم من البلايا، وكيف تجاوزوا تلك المحن والفتن، بل علينا أن نقتبس من هداهم، ونستَلْهِم العبر من صنيعهم.

خامساً: التذكير بعاقبة الظلم: فمهما طال البلاء، ومهما استبد الألم فإن عاقبة الظلم وخيمة، وإن العاقبة الحميدة إنما هي للتقوى وللمتقين، كما بين ذلك ربنا في محكم التنزيل؛ فماذا كانت عاقبة النمرود، وفرعون، وهامان وقارون، وغيرهم ممن طغى وتجبر وظلم؟

إنها الدمار، والبوار، وجهنم وبئس القرار، وماذا كانت عاقبة الأنبياء والمصلحين المقسطين من عباد الله المؤمنين؟ إنها الفلاح والنصر، والتمكين، والجنة ونعم عقبى الدار.

وكما يحسن التحذير من الظلم العام على مستوى الأمة يحسن كذلك التحذير من الظلم أيَّاً كان نوعه، سواء في الحكم على الناس، أو الأقوال، أو الأشخاص.

سادساً: الثقة بالله، واليقين بأن العاقبة للتقوى وللمتقين: فإن من أهم ما يجب على المؤمن _ في هذا الصدد _ أن يُقَوِّي ثقته بربه، وأن ينأى بنفسه عن قلة اليقين بأن العاقبة للمتقين؛ فهناك من إذا شاهد ما عليه المسلمون من الضعف والتمزق، والتشتت، والتفرق، ورأى تسلط أعدائهم عليهم، ونكايتهم بهم _ أيس من نصر الله، وقنط من عز الإسلام، واستبعد أن تقوم للمسلمين قائمة، وظن أن الباطل سيدال على الحق إدالة دائمة مستمرة يضمحل معها الحق.

فهذا الأمر جد خطير، وهو مما يعتري النفوس الضعيفة، التي قل إيمانها، وضعف يقينها.

فهذا الشعور مما ينافي الإيمان الحقَّ، وهو دليلٌ على قلة اليقين بوعد الله الصادق، والتفاتٌ إلى الأمور المحسوسة دون نظر إلى عواقب الأمور وحقائقها.

وإلا كيف يُظَنُّ هذا الظن والله _ عز وجل _ قد كتب النصر في الأزل، وسبقت كلمته بأن العاقبة للتقوى وللمتقين، وأن جنده هم الغالبون، وهم المنصورون، وأن الأرض يرثها عباده الصالحون؟

فمن ظن تلك الظنون السيئة فقد ظن بربه السوء، ونسبه إلى خلاف ما يليق بجلاله، وكماله، وصفاته، ونعوته؛ فإن حمده، وعزته، وحكمته، وإلهيته تأبى ذلك، وتأبى أن يُذِل حزبه وجنده، وأن تكون النصرةُ والغلبةُ لأعدائه.

فمن ظن ذلك فما عرفه، ولا عرف ربوبيته، وملكه، وعظمته؛ فلا يجوز في حقه _ عز وجل _ لا عقلاً ولا شرعاً أن يُظْهِر الباطل على الحق، بل إنه يقذف بالحق على الباطل فإذا هو زاهق( ).

أما ما يشاهد من تسلط الكفار واستعلائهم _ فإنما هو استعلاء استثنائي، وهو استدراجٌ وإملاءٌ من الله لهم، وعقوبة للأمة المسلمة على بعدها عن دينها.

ثم إن سنة الله ماضية فـ[مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ] (النساء:123)، وهذه الأمة تذنب، فتعاقب بذنوبها عقوباتٍ متنوعةً منها ما مضى ذِكْرُه؛ كي تعود إلى رشدها، وتؤوب إلى ربها؛ فتأخذ حينئذ مكانها اللائق بها.

ثم إن هذه الأمة أمة مرحومة تعاقب في هذه الدنيا؛ حتى يخف العذاب عنها في الآخرة، أو يُغْفَرَ لها بسبب ما أصابها من بلاء.

سابعاً: الوقوف مع الشعوب الإسلامية المظلومة: وخصوصاً تلك الشعوب التي توالت عليها المصائب، وتتابعت عليها الخطوب؛ فنقف معها بالدعاء، والتثبيت، والتصبير، وبذل المستطاع.

كما ينبغي ألا تنسينا أي مصيبة من المصائب مصائبنا الأخرى؛ فوضع الأمور في نصابها يجدي كثيراً، ويصد شراً مستطيراً.

ثامناً: لزوم الاعتدال في جميع الأحوال: فينبغي في ذلك الخضم من الفتن والمصائب ألا يفارقنا هدوؤنا، وسكينتنا، ومروآتنا؛ فذلك دأب المؤمن الحق، الذي لا تبطره النعمة، ولا تقنطه المصيبة، ولا يفقد صوابه عند النوازل، ولا يتعدى حدود الشرع في أي شأن من الشؤون.

ويتأكد هذا الأدب في حق من كان رأساً مطاعاً في العلم، أو القدر؛ لأن لسان حال من تحت يده يقول:

اصبر نكن بك صابرين فإنما

                   صبر الرعية عند صبر الراس

قال كعب بن زهير ÷ في قصيدته المشهورة _البردة _:

لا يفرحون إذا نالت رماحهم

                   قوماً وليسوا مجازيعاً إذا نيلوا

فهو يمدح الصحابة _ رضي الله عنهم _ بأنهم لا يفرحون من نيلهم عدواً؛ فتلك عادتهم، ولا يحزنون إذا نالهم العدو؛ لأن عادتهم الصبر والثبات.

وقال عبد العزيز بن زرارة الكلابي × وهو من خيار المجاهدين من التابعين:

قد عشت في الدهر أطواراً على سنن

                   شتى فصادفت منها اللِّيْن والبَشِعا

كُلاًّ بلوتُ فلا النعماء تبطرني

                   ولا تَخَشَّعْتُ من لأوائها جزعا

لا يملأُ الهولُ قلبي قبل وقعته

                   ولا أضيق به ذرعاً إذا وقعا

فهذه الخصال يتمثلها عظماء الرجال؛ فلم يكونوا يتخلون عن مروآتهم، وعاداتهم النبيلة حتى في أحلك المواقف.

وها هو سيد العظماء، وسيد ولد آدم نبينا محمد " يضرب لنا أروع الأمثلة في ذلك؛ فهو يقوم بصغار الأمور وكبارها؛ فلم يمنعه قيامه بأمر الدين، وحرصه على نشره، وقيادته للأمة، وتقدمه في ساحات الوغى _ لم يمنعه ذلك كله من ملاطفة ذلك الطفل الصغير الذي مات طائره، وقولِه له: =يا أبا عمير ما فعل النغير؟+ ( ).

ولم يكن أحد يلهيه عن أحد

                   كأنه والد والناس أطفال

فإذا لزم المرء هذه الطريقة؛ فلم يَخِفَّ عند السراء، ولم يتضعضع حال الضراء _ فأحرِ به أن يعلو قدره، ويتناهى سؤدده، وأن تنال الأمة من خيره.

تذكر كتب السير التي تناولت سيرة عمر بن عبد العزيز ×: =أنه لما دَفَنَ ولَدَه عبد الملك _ وهو أبرُّ أولاده، وأكثرهم ديناً وعقلاً _ مرَّ بقوم يرمون؛ فلما رأوه أمسكوا، فقال: ارموا، ووقف، فرمى أحدُ الراميين فأخرج _ يعني أبعد عن الهدف _ فقال له عمر: أخرجت فقصِّر، وقال للآخر: ارمِ، فرمى فقصَّر _أي لم يبلغ الهدف_ فقال له عمر: قصَّرت فبلِّغ.

فقال له مسلمة بن عبد الملك: يا أمير المؤمنين! أَتُفْرِغ قلبك إلى ما تفرغت له، وإنما نفضت يدك الآن من تراب قبر ابنك، ولم تصل إلى منزلك؟

فقال له عمر: يا مسلمة! إنما الجزع قبل المصيبة، فإذا وقعت المصيبة فالْهُ عما نزل بك+( ).

فالأخذ بهذه السيرة _ أعني الاعتدال حال نزول الفتن _ ينفع كثيراً، ويدفع الله به شراً مستطيراً؛ لأن الناس حال الفتن يموجون، ويضطربون، وربما غاب عنهم كثير من العلم؛ فلذلك يحتاجون _ وخصوصاً من كان عالماً، أو رأساً مطاعاً _ إلى لزوم السكينة، والاعتدال؛ حتى يُثَبِّتوا الناس، ويعيدوا الطمأنينة إلى النفوس، ولا تقطعهم تلك النوازل عما هم بصدده من عمل.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =ولهذا لما مات النبي "ونزلت بالمسلمين أعظم نازلة نزلت بهم؛ حتى أوهنت العقول، وطيشت الألباب، واضطربوا اضطراب الأرشية في الطويِّ( ) البعيدة القعر؛ فهذا ينكر موته، وهذا قد أقعد، وهذا قد دهش فلا يعرف من يمر عليه، ومن يسلم عليه، وهؤلاء يضجون بالبكاء، وقد وقعوا في نسخة القيامة، وكأنها قيامة صغرى مأخوذة من القيامة الكبرى، وأكثر البوادي قد ارتدوا عن الدين، وذلت كماته؛ فقام الصديق ÷ بقلب ثابت، وفؤاد شجاع فلم يجزع، ولم ينكل قد جُمع له بين الصبر واليقين فأخبرهم بموت النبي " وأن الله اختار له ما عنده، وقال لهم: =من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)] (آل عمران).

فكأن الناس لم يسمعوا هذه الآية حتى تلاها الصديق فلا تجد أحداً إلا وهو يتلوها، ثم خطبهم فثبتهم وشجعهم.

قال أنس ÷: =خطبنا أبو بكر ÷ وكنا كالثعالب فما زال يشجعنا حتى صرنا كالأسود+.

وأخذ في تجهيز جيش أسامة مع إشارتهم عليه، وأخذ في قتال المرتدين مع إشارتهم عليه بالتمهل والتربص، وأخذ يقاتل حتى مانعي الزكاة فهو مع الصحابة يعلمهم إذا جهلوا، ويقويهم إذا ضعفوا، ويحثهم إذا فتروا؛ فقوى الله به علمهم ودينهم وقوتهم؛ حتى كان عمر _ مع كمال قوته وشجاعته _ يقول له: يا خليفة رسول الله تألَّف الناس، فيقول: علام أتألَّفهم؟ أعلى دينٍ مفترى؟ أم على شعرٍ مفتعل؟ وهذا باب واسع يطول وصفه+( ).

تاسعاً: لزوم الرفق، ومجانبة الغلظة والعنف: سواء في الدعوة، أو الرد، أو النقد، أو الإصلاح، أو المحاورة؛ فإن استعمال الرفق، ولين الخطاب ومجانبة العنف _ يتألف النفوس الناشزة، ويدنيها من الرشد، ويرغبها في الإصغاء للحجة.

ويتأكد هذا الأدب في مثل هذه الأحوال العصيبة التي نحتاج فيها إلى تلك المعاني التي تنهض بالأمة، وتشد من أزر الدعوة.

ولقد كان ذلك دأب الأنبياء، قال _ تعالى _ في خطاب هارون وموسى _عليهما السلام_ [اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)](طه).

ولقَّن موسى _ عليه السلام _ من القولِ اللَّين أحسنَ ما يخاطب به جبار يقول لقومه: أنا ربكم الأعلى، فقال _ تعالى _: [فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى(18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19)](النازعات).

قال ابن القيم ×: =وتأمل امتثال موسى لما أُمِر به كيف قال لفرعون:[هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19)].

فأخرج الكلام معه مخرج السؤال والعرض، لا مَخْرجَ الأمر، وقال:[إِلَى أَنْ تَزَكَّى] ولم يقل: =إلى أن أزكيك+؛ فنسب الفعل إليه هو، وذكر لفظ التزكِّي دون غيره؛ لما فيه من البركة، والخير، والنماء.

ثم قال:[وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ] أكون كالدليل بين يديك الذي يسير أمامك، وقال: [إِلَى رَبِّكَ]استدعاءًا لإيمانه بربه الذي خلقه، ورزقه، ورباه بنعمه صغيراً وكبيراً+( ).

ولهذا فإن الكلمة التي تُلقى أو تحرر في أدب، وسعة صدر _ تسيغها القلوب، وتهش لها النفوس، وترتاح لها الأسماع.

ولقد امتن ربنا _ جل وعلا _ على نبينا محمد " بأن جبله على الرفق ومحبة الرفق، وأن جنبه الغلظة، والفظاظة، فقال _ عز وجل _:[وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ](آل عمران:159).

ولقد كانت سيرته " حافلةً بهذا الخلق الكريم الذي مَنْ مَلَكَه بسط سلطانه على القلوب.

وكما كان " متمثلاً هذا الخلق فقد كان يأمر به، ويبين فضله.

قال ": =إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على غيره+( ).

وقال ": =إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه+( ).

ولما بعث أبا موسى الأشعري ومعاذاً إلى اليمن قال لهما: =يسِّرا ولا تعسِّرا، وبشِّرا ولا تنفِّرا، وتطاوعا ولا تختلفا+( ).

قال الإمام أحمد ×: =يأمر بالرفق والخضوع، فإن أسمعوه ما يكره لا يغضب؛ فيكون يريد ينتصر لنفسه+( ).

ولقد أحسن من قال:

لو سار ألفُ مَدَجَّجٍ في حاجة

                   لم يَقْضِها إلا الذي يترفق( )

وكان يقال: =من لانت كلمته وجبت محبته+( ).

وخلاصة القول أن الرفق هو الأصل، وهو الأجدى، والأنفع، وأن الشدة لا تصلح من كل أحد، ولا تليق مع كل أحد، فقد تلائم إذا صدرت من ذي قدر كبير في سن، أو علم، وكانت في حدود الحكمة، واللباقة، واللياقة.

أما إذا صدرت ممن ليس له قدر في سن، أو علم، أو كانت في غير موضعها، وتوجهت إلى ذي قدر أو جاه _ فإنها _ أعني الشدة _ تضر أكثر مما تنفع، وتفسد أكثر من أن تصلح.

عاشراً: الإقبال على الله _ عز وجل _: وذلك بسائر أنواع العبادات: قال النبي ":  =العبادة في الهرج كهجرة إلي+( )، والهرج: الفتن والقتل.

فحري بنا أن نزداد إقبالاً على الله ذكراً وإنابة، وصلاة، ونفقة، وبراً بالوالدين، وصلة للأرحام، وإحساناً إلى الجيران، وحرصاً على تربية الأولاد، ونحو ذلك من الأعمال الصالحة.

وجدير بنا أن نكثر من الاستغفار؛ فهو من أعظم أسباب دفع العذاب [وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ] (الأنفال:33)، وأن نُقْبِل على أعمال القلوب من خوف، ورجاء، ومحبة، وغيرها.

و حقيق علينا أن نُقْبِل _ كذلك _ على النفع المتعدي من أمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، ودعوة إلى الله، وإصلاح بين الناس، وإحسان إليهم، وما جرى مجرى ذلك.

حادي عشر: الحرص على جمع الكلمة ورأب الصدع: فالأمة مثخنة بالجراح، وليست بحاجة إلى مزيد من ذلك.

بل هي بحاجة إلى إشاعة روح المودة، والرحمة، ونيل رضا الله بترك التفرق ونبذ الخلاف.

وذلك يتحقق بسلامة الصدر، ومحبة الخير للمسلمين، والصفح عنهم، والتجاوز عن زلاتهم، والتماس المعاذير لهم، وإحسان الظن بهم، ومراعاة حقوقهم، ومناصحتهم بالتي هي أرفق وأحسن.

وتكون بالتغاضي، والبعد عن إيغار الصدور، ونكأ الجراح.

قال ربنا:[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا] (آل عمران:103)، وقال: [لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً] (النساء:114).

وقال النبي ": =مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر+متفق عليه.

ثاني عشر: قيام روح الشورى: خصوصاً بين أهل العلم، والفضل، والحل والعقد، وذلك بأن ينظروا في مصلحة الأمة، وأن يقدموا المصالح العليا قال الله _تعالى_ في وصف المؤمنين: [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] (الشورى: 38).

وقال _ عز وجل _ لنبيه ": [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] (آل عمران: 159).

فقد أذن الله له " بالاستشارة وهو غني عنها بما يأتيه من وحي السماء؛ تطييباً لنفوس أصحابه، وتقريراً لسنة المشاورة للأمة من بعده.

وكان أبو بكر الصديق ÷ من العلم بالشريعة، والخبرة بوجوه السياسة في منزلة لا تطاولها سماء، ومع هذا كان لا يبرم حكماً في حادثة إلا بعد أن تتداولها آراء جماعة من الصحابة( ).

وهكذا كان عمر ÷ في الشورى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =فكان عمر يشاور في الأمور لعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن ابن عوف وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبي موسى ولغيرهم، حتى كان يدخل ابن عباس معهم مع صغر سنه.

وهذا مما أمر الله به المؤمنين ومدحهم عليه بقوله:[وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ] (الشورى: 38).

ولهذا كان رأي عمر، وحكمه، وسياسته من أسدِّ الأمور، فما رؤي بعده مثله قط، ولا ظهر الإسلام وانتشر، وعزَّ كظهوره، وانتشاره، وعِزِّه في زمنه.

وهو الذي كسر كسرى، وقصر قيصر الروم والفرس، وكان أميره الكبير على الجيش الشامي أبا عبيدة، وعلى الجيش العراقي سعد بن أبي وقاص، ولم يكن لأحدٍ _ بعد أبي بكر _ مثل خلفائه ونوابه وعماله وجنده وأهل شوراه+( ).

وكما كانت هذه هي سيرةَ الخلفاء الراشدين في الشورى فكذلك كانت سيرة من جاء بعدهم، فهذا معاوية ÷الذي كان مضرب المثل في الدهاء والحلم وكياسة الرأي كان يأخذ بسنة الشورى.

جاء في كتاب الثمار للثعالبي ما يلي: =دهاء معاوية _ ذلك ما اشتهر أمره، وسار ذكره، وكثرت الروايات والحكايات فيه، ووقع الإجماع على أن الدهاة أربعة: معاوية، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد بن أبيه _ رضي الله عنهم _ فلما كان معاوية بحيث هو من الدهاء وبعد الغور _ وانضم إليه الدهاة الثلاثة الذين يرون بأول آرائهم أواخر الأمور _ فكان لا يقطع أمراً حتى يشهدوه، ولا يستضيء في ظلم الخطوب إلا بمصابيح آرائهم _ سلم له أمر الملك، وألقت إليه الدنيا أَزِمَّتها، وصار دهاؤه ودهاء أصحابه الثلاثة مثلاً+( ).

ثم إن للشورى فوائدَ عظيمةً منها تقريب القلوب، وتخليص الحق من احتمالات الآراء، واستطلاع أفكار الرجال، ومعرفة مقاديرها؛ فإن الرأي يمثِّل لك عقلَ صاحبه كما تمثل لك المرآةُ صورةَ شخصِه إذا استقبلها.

وقد ذهب الحكماء من الأدباء في تصوير هذا المغزى مذاهب شتى، قال بعضهم:

إذا عنَّ أمرٌ فاستشر فيه صاحباً

                   وإن كنت ذا رأي تشير على الصحبِ

فإني رأيت العين تجهل نفسها

                   وتدرك ما قد حل في موضع الشهب

وقال آخر:

اقرن برأيك رأي غيرك واستشر

                   فالحق لا يخفى على الاثنين

والمرء مرآةٌ تريه وجهه

                   ويرى قفاه بجمع مرآتين

وقال آخر:

الرأي كالليل مسوداً جوانبه

                   والليل لا ينجلي إلا بإصباح

فاضمم مصابيحَ آراءِ الرجال إلى

                   مصباح ضوئك تزددْ ضوءَ مصباح

وإذا كان العالم النحرير، والحكيم الداهية، والقائد الحصيف لا يستغنون عن الشورى _ فكيف بمن دونهم،بل كيف بمن كان شاباً في مقتبل عمره، ولم تَصْلُبْ بَعْدُ قناتُه، ولم تُحَنِّكْهُ التجارب؟!

ثالث عشر: الصبر: قال ربنا _ جل وعلا _:[إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ] (آل عمران: 120).

وقال _ عز وجل _: [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ] (آل عمران: 186).

ومن أعظم الصبرِ الصبرُ على هداية الناس، والصبر على انتظار النتائج؛ لأن استعجال الثمرة قد يؤدي إلى نتائج عكسية تضر أكثر مما تنفع؛ فالصبر إذا اقترن بالأمر كان عصمة من الملل واليأس والانقطاع، وتفجرت بسببه ينابيع العزم والثبات.

إنه الصبر المترع بأنواع الأمل العريض، وليس صبر اليائس الذي لم يجد بداً من الصبر فصبر.

وبالجملة فإن الصبر من أعظم الأخلاق، وأجلّ العبادات، وإن أعظمَ الصبرِ وأحمده عاقبةً الصبرُ على امتثال أمر الله، والانتهاء عمّا نهى الله عنه؛ لأنه به تَخْلُص الطاعة، ويصِحُّ الدين، ويُسْتَحَقُ الثوابُ؛ فليس لمن قل صبرُه على الطاعةِ حظٌّ من بِرٍّ، ولا نصيبٌ من صلاح.

ومن جميل الصبر: الصبرُ فيما يُخْشَى حدوثُه من رهبة يخافها، أو يُحْذَرُ حلولُه من نكبةٍ يخشاها، فلا يتعجلْ همَّ ما لم يأتِِ؛ فإن أكثر الهموم كاذبة، وإن الأغلب من الخوف مدفوع.

ومن جميل الصبرِ الصبرُ على ما نزل من مكروه، أو حلّ من أمر مخوف؛ فبالصبر في هذا تنفتحُ وجوهُ الآراءِ، وتُسْتَدْفَعُ مكائدُ الأعداءِ؛ فإن من قلّ صبره عَزُب رأيه، واشتد جزعُه، فصار صريعَ همومه، وفريسةَ غمومه.

وكما أن الأفرادَ بأمسِّ الحاجةِ إلى الصبر فكذلك الأمة؛ فأمة الإسلام كغيرها من الأمم؛ لا تخرج عن سنن الله الكونية، فهي عرضةٌ للكوارث، والمحن.

وهي _ في الوقت نفسه _ مكلفةٌ بمقتضى حكم الله الشرعي بحمل الرسالة الخالدة، ونشر الدعوة المباركة، وتحمُّلِ جميعِ ما تلاقيه في سبيلها برحابة صدر، وقوةِ ثباتٍ، ويقينٍ بأن العاقبة للتقوى وللمتقين.

وهي _ كذلك _ مطالبة بالجهاد في سبيل الله؛ لإعلاء كلمة الله، ونشر دين الله، وإزاحة ما يقف في وجه الدعوة من عقبات؛ فلا بد لها من الجهاد الداخلي الذي لا يتحقق إلا بمجاهدة النفس والهوى.

وهذا الجهاد لا يتحقق إلا بخلق الصبر، ومغالبة النفس والشيطان والشهوات؛ فذلك هو الجهاد الداخلي الذي يؤهِّل للجهاد الخارجي؛ لأن الناس إذا تُرِكوا وطباعَهم وما أُوْدِعَ فيها من حبٍّ للراحة، وإيثارٍ للدَّعة، ولم يُشَدَّ أَزْرُهُمْ بإرشاد إلهي تطمئن إليه نفوسهم، ويثقون بحسن نتائجه _ عجزت كواهِلُهم عن حمل أعباء الحياة، وخارت قواهم أمام مغرياتها، وذاب احتمالُهم إزاء ملذاتها وشهواتها؛ فَيَفْقِدُون كلَّ استعدادٍ لتحصيل السمو، والعزة، والمنزلة اللائقة.

فلهذا اختار الله لهم من شرائع دينه ما يصقُل أرواحهم، ويزكّي نفوسهم، ويمحص قلوبهم، ويربي ملكات الخير فيهم من صلاة، وزكاة، وصيام، وحج وغيرها من الشرائع.

رابع عشر: إشاعة روح التفاؤل: فإن ذلك مما يبعث الهمة، ويدعو إلى اطراح الخور والكسل، ويقود إلى الإقبال على الجد والعمل؛ فلنثق بالله _ عز وجل _ ونصره وتأييده، ولنحذر من كثرة التلاوم، وإلقاء التبعات على الآخرين، ولنحذر من القنوط واليأس، والتشاؤم؛ فالإسلام لا يرضى هذا المسلك بل يحذر منه أشد التحذير.

ثم لنثق بأن في طي هذه المحن منحاً عظيمة.

كم نعمة لا تستقل بشكرها

                   لله في طي المكاره كامنه

ولو لم يأت من ذلك إلا أن الأمة تصحو من رقدتها، وتعود إلى ربها ودينها.

ولو لم يأت من ذلك إلا أن هذا الجيل الجديد بدأ يعرف أعداءه، ويطرق سمعه مسائل الولاء والبراء، ويدرك ما يحاك حوله من مؤامرات، ويشعر بأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.

ولو لم يأت من ذلك إلا أن المسلمين صاروا يشعرون بروح الجسد الواحد، ويتعاطفون مع إخوانهم في كل مكان، ويحرصون على تتبع أخبارهم، وتقديم المستطاع لهم، كل ذلك مع ما يواجهونه من التضليل الإعلامي، وما يحارَبون به من سيل الشهوات العارم.

أين حال المسلمين الآن من حالهم قبل تسعين سنة؟ أين هم لمَّا سيطر الشيوعيون على روسيا، وانقلبوا على الحكم القيصري؟ ماذا فعل زعماء الشيوعية؟ يكفي أن نمثل بواحد منهم فحسب، إنه المجرم ستالين الذي قتل إبَّانَ فترة حكمه ثلاثين مليوناً من البشر، جُلُّهم من المسلمين.

إن أكثر المسلمين في ذلك الوقت لم يكونوا ليعلموا عن إخوانهم آنذاك شيئاً، بل إن كثيراً منهم لم يعلموا أن الجمهوريات الإسلامية التي استولى عليها الشيوعيون _ كانت بلاداً إسلامية إلا بعد أن انهارت الشيوعية قريباً.

أما الآن فإن المسلمين على درجة من الوعي والإدراك، والسعي في مصالح إخوانهم، والمؤمل أكثر من ذلك، وإنما المقصود أن يُبَيَّن أن الخير موجود، وأنه يحتاج إلى مزيد.

وبالجملة فإن التفاؤل دأب المؤمن، وهو سبيل التأسي بالنبي " خصوصاً في وقت اشتداد المحن؛ وليس أدل على ذلك مما كان في غزوة الأحزاب لما أحاطوا بالمدينة، وبلغت القلوب الحناجر، ومع ذلك كان _ عليه الصلاة والسلام _ يبشر أصحابه بمفاتيح الشام، وفارس، واليمن( ).

وإذا تُحدث عن الفأل، والحث على نشره _ فإن ذلك لا يعني القعود، والخمود، والهمود؛ كحال من يؤملون الآمال العراض، ويُفْرِطون في الأماني بحجة أن ذلك من الفأل، وهم كسالى قاعدون، لا يتقدمون خطوة، ولا ينهضون من كبوة.

لا ليس الأمر كذلك؛ بل إن الفأل المجدي هو ذلك الذي يحرك صاحبه، ويبعثه على الجد، ويشعره بالنجح، ويقوده إلى إحسان الظن، ويبشرْ بحسن العواقب.

خامس عشر: التثبت مما يقال، والنظر في جدوى نشره، والحرص على رد الأمور إلى أهلها: فالعاقل اللبيب لا يتكلم في شيء إلا إذا تثبَّت من صحته؛ فإذا ثبت لديه ذلك نَظَرَ في جدوى نشره؛ فإن كان في نشره حفز للخير،واجتماعٌ عليه نشره، وأظهره، وإن كان خلاف ذلك أعرض عنه، وطواه.

ولقد جاء النهي الصريح عن أن يحدث المرء بكل ما سمع، قال ": =كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع+( ).

وقد عقد الإمام مسلم × في مقدمة صحيحه باباً سماه =باب النهي عن الحديث بكل ما سمع+، وساق تحته جملة من الآثار منها الحديث السابق، ومنها ما رواه بسنده عن عمر بن الخطاب ÷ قال: =بحسب المرء من الكذب أن يحدث بكل ما سمع+( ).

وقال مسلم ×: حدثنا محمد بن المثنى قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: =لا يكون الرجل إماماً يقتدى به حتى يمسك عن بعض ما سمع+( ).

ويتعين هذا الأدب في وقت الفتن والملمات، فيجب على المسلم أن يتحرى هذا الأدب؛ حتى يقرب من السلامة، وينأى عن العطب.

قال الله _ تعالى _:[وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً] (النساء:83).

قال الشيخ العلامة عبد الرحمن السعدي × في تفسير هذه الآية: =هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق، وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة، والمصالح العامة مما يتعلق بالأمن، وسرور المؤمنين أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم _ أن يتثبتوا، ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم: أهل الرأي، والعلم، والنصح، والعقل، والرزانة، الذين يعرفون الأمور، ويعرفون المصالح وضدها.

فإذا رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطاً للمؤمنين، وسروراً لهم، وتحرزاً من أعدائهم _ فعلوا ذلك، وإن رأوا ما ليس فيه مصلحة، أو فيه مصلحة، ولكن مضرته تزيد على مصلحته لم يذيعوه، ولهذا قال _ سبحانه _: [لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ] أي يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة، وعلومهم الرشيدة.

وفي هذا دليل لقاعدة أدبية، وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولى من هو أهل لذلك، ويجعل إلى أهله، ولا يُتقدم بين أيديهم؛ فإنه أقرب إلى الصواب، وأحرى للسلامة من الخطأ.

وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها، والأمرُ بالتأمل قبل الكلام، والنظر فيه هل هو مصلحة؛ فيقدم عليه الإنسان، أم لا؛ فيحجم عنه؟+( ).

وقال × في موضع آخر حاثاً على الثبت، والتدبر، والتأمل قال: =وفي قوله _ تعالى _: [وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً](طه:114) أدبُ طالب العلم، وأنه ينبغي له أن يتأنى في تدبره للعلم، ولا يستعجل بالحكم على الأشياء، ولا يعجب بنفسه، ويسأل ربه العلم النافع والتسهيل+( ).

وقال ×: =قوله _ تعالى _: [لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ] (النور:12) هذا إرشاد منه لعباده إذا سمعوا الأقوال القادحة في إخوانهم المؤمنين رجعوا إلى ما علموا من إيمانهم، وإلى ظاهر أحوالهم، ولم يلتفتوا إلى أقوال القادحين، بل رجعوا إلى الأصل، وأنكروا ما ينافيه+( ).

قال ابن حبان ×: أنشدني منصور بن محمد الكريزي:

الرفقُ أيمنُ شيءٍ أنت تَتْبَعُه

                   والخُرق أشأمُ شيء يُقْدِم الرَّجُلا

وذو التثبت من حمد إلى ظَفَرٍ

                   من يركبِ الرفقَ لا يستحقبِ الزللا( )

هذا وسيتضح شيء من ذلك في الفقرة التالية.

سادس عشر: التروي في إبداء الرأي، والتأني في اتخاذ الموقف، وألا يقول كل ما يعلم: فاللائق بالعاقل أن ينظر في العواقب، وأن يراعي المصالح؛ فلا يحسن به أن يبدي رأيه في كل صغيرة وكبيرة، ولا يلزمه أن يتكلم بكل نازلة؛ لأنه ربما لم يتصور الأمر كما ينبغي، وربما أخطأ التقدير، وجانب الصواب، بل ليس من الحكمة أن يبدي الإنسان رأيه في كل ما يعلم حتى ولو كان متأنياً في حكمه، مصيباً في رأيه؛ فما كل رأي يُجهر به، ولا كل ما يعلم يقال، ولا كل ما يصلح للقول يصلح أن يقال عند كل أحد، أو في كل مكان أو مناسبة.

بل الحكمة تقتضي أن يحتفظ الإنسان بآرائه إلا إذا استدعى المقام ذلك، واقتضته الحكمة والمصلحة، وكان المكان ملائماً، والمخاطبون يعقلون ما يقال.

وإذا رأى أن يبدي ما عنده فليكن بتعقل، وروية، ورصانة، وركانة، وزكانة.

وزِن الكلام إذا نطقت فإنما

                   يبدي العقولَ أو العيوبَ المنطقُ

قال أحد الحكماء: =إن لابتداء الكلام فتنةً تروق وجدَّةً تعجب؛ فإذا سكنت القريحة، وعدل التأمل، وصفت النفس _ فليعدِ النظر،وليكن فرحُه بإحسانه مساوياً لغمِّه بإساءته+( ).

وقال ابن حبان ×: =الرافق لا يكاد يُسْبَق كما أن العَجِل لا يكاد يَلْحَق، وكما أن من سكت لا يكاد يندم كذلك من نطق لا يكاد يسلم.

والعَجِل يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويَحْمد قبل أن يُجَرِّب، ويَذُم بعد ما يحمد، ويعزم قبل أن يفكر، ويمضي قبل أن يعزم.

والعَجِل تصحبه الندامة، وتعتزله السلامة، وكانت العرب تُكَنِّي العجلةَ أمَّ الندامات+( ).

وذكر بسنده عن عمر بن حبيب قال: =كان يقال: لا يوجد العجول محموداً، ولا الغضوب مسروراً، ولا الحر حريصاً، ولا الكريم حسوداً، ولا الشَّرِه غنياً، ولا الملول ذا إخوان+( ).

وقال ابن الجوزي ×: =ما اعتمد أحدٌ أمراً إذا هم بشيء مثل التثبت؛ فإنه متى عمل بواقعة من غير تأمل للعواقب كان الغالب عليه الندم؛ ولهذا أُمِر بالمشاورة؛ لأن الإنسان بالتثبت يفتكر؛ فتعرِض على نفسه الأحوال، وكأنه شاور.

وقد قيل: خمير الرأي خير من فطيره.

وأشد الناس تفريطاً من عمل بما ورده في واقعة من غير تثبت واستشارة؛ خصوصاً فيما يوجب الغضب؛ فإنه طلب الهلاك أو الندم العظيم+( ).

وقال ×: =فالله الله! التثبت التثبت في كل الأمور، والنظر في عواقبها؛ خصوصاً الغضب المثير للخصومة+( ).

وقال ابن القيم ×: =وقد جاء في حديث مرسل: =إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات+.

فبكمال العقل والصبر تُدفع فتنة الشهوة، وبكمال البصيرة واليقين تدفع فتنة الشبهة، والله المستعان+( ).

ثم إن التثبت والتأني، والنظر في العواقب من سمات أهل العلم والعقل، ولا يستغني عنها أحد مهما كان، ولا يكفي مجرد علم الإنسان، بل لا بد له _ مع العلم _ من هذه الأمور.

وإليك هذه الكلمة الحكيمة الرائعة التي رقمتها يراعة العلامة الشيخ محمود شاكر والتي تعبر عن كثير مما مضى ذكره، قال ×: =رُبَّ رجلٍ واسعِ العلم، بحرٍ لا يزاحم، وهو على ذلك قصير العقل مضلَّل الغاية، وإنما يَعْرِض له ذلك من قبل جرأته على ما ليس له فيه خبرة، ثم تهوره من غير روية ولا تدبر، ثم إصراره إصرار الكبرياء التي تأبى أن تعقل.

وإن أحدنا لَيقْدِم على ما يحسن، وعلى الذي يعلم أنه به مضطلع، ثم يرى بعد التدبر أنه أسقط من حسابه أشياء، كان العقل يوجب عليه فيها أن يتثبت، فإذا هو يعود إلى ما أقدم عليه؛ فينقضه نقض الغزل.

ومن آفة العلم في فن من فنونه، أن يحمل صاحبه على أن ينظر إلى رأيه نظرة المعجب المتنزه، ثم لا يلبث أن يفسده طول التمادي في إعجابه بما يحسن من العلم، حتى يقذفه إلى اجتلاب الرؤى فيما لا يحسن، ثم لا تزال تغيره عادة الإعجاب بنفسه حتى ينزل ما لا يحسن منزلة ما يحسن، ثم يصر، ثم يغالي، ثم يعنف، ثم يستكبر، ثم إذا هو عند الناس قصير الرأي والعقل على فضله وعلمه+( ).

ولقد كان الصحابة الكرام _ رضي الله عنهم _ يراعون هذا الأدب الحكيم؛ فما كانوا يتكلمون في كل شيء، بل كانوا يراعون المكان، والزمان، والحال، ويراعون العقول، والأفهام، ومراميَ الكلام.

والأمثلة على ذلك كثيرة جداً، منها ما جاء عن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ قال: =كنت أُقْرئ رجالاً من المهاجرين منهم عبد الرحمن بن عوف، فبينما أنا في منزله بمنى وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجة حجها إذ رجع إليَّ عبدالرحمن فقال: لو رأيت رجلاً أتى أمير المؤمنين اليوم فقال: يا أمير المؤمنين هل لك في فلان يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً؛ فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة، فتمت.

فغضب عمر ثم قال: إني _ إن شاء الله _ لقائمٌ العشيةَ في الناس، فمحذِّرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم.

قال عبد الرحمن: فقلت: يا أمير المؤمنين! لا تفعل؛ فإن الموسم يجمع رَعاعَ الناس وغوغاءهم؛ فإنهم هم الذين يغلبون على قُرْبك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيِّرها عنك كل مُطَيِّر، وأن لا يعوها، وأن لا يضعوها على مواضعها؛ فأَمْهِلْ حتى تَقْدُمَ المدينة؛ فإنها دار الهجرة والسنة؛ فَتَخْلُصَ بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول ما قلت متمكناً، فيعي أهل العلم مقالتك، ويضعونها على مواضعها.

فقال عمر: أما والله _ إن شاء الله _ لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة+( ).

قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ÷: =حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟!+( ).

وقال ابن مسعود ÷: =ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة+( ).

سابع عشر: التحلي بالشجاعة، والفهم الصحيح لمعناها: فالشجاعة فضيلة عظيمة، وخصلة من خصال الخير عالية.

وهي من أعظم ما ينهض بالأفراد والأمم؛ فالشجاع ينفر من العار، ويأبى احتمال الضيم.

والأمة لا تحوز مكانة يهابها خصومها، وتَقرُّ بِها عين حلفائها إلا أن تكون عزيزة الجانب، صلبة القناة.

وعزة الجانب، وصلابة القناة لا ينزلان إلا حيث تكون قوة الجأش، والاستهانة بملاقاة المكاره، وذلك ما يسمى شجاعة ( ).

والشجاعة لا تقتصر على الإقدام في ميادين الوغى، بل هي أعم من ذلك؛ فتشمل الشجاعة الأدبية في التعبير عن الرأي، وبالصدع بالحق، وبالاعتراف بالخطأ، وبالرجوع إلى الصواب إذا تبين.

بل وتكون بالسكوت أحياناً، قال الشيخ محمد البشير الإبراهيمي ×: =ولأنْ يسكت العاقل مختاراً في وقتٍ يحسن السكوت فيه خيرٌ من أن ينطق مختاراً في وقت لا يحسن الكلام فيه، وكلُّ نطْقةٍ تمليها الظروف لا الضمائر تثمر سكتة عن الحق ما من ذلك من بد+( ).

وليس من شرط الشجاعة ألا يجد الرجل في نفسه الخوف جملة من الهلاك، أو الإقدام، أو نحو ذلك؛ فذلك شعور يجده كل أحد من نفسه إذا هو هم بعمل كبير أو جديد.

بل يكفي في شجاعة الرجل ألا يعظم الخوف في نفسه حتى يمنعه من الإقدام، أو يرجع به الانهزام.

قال هشام بن عبد الملك لأخيه مسلمة _ المسمى ليث الوغى _: يا أبا سعيد! هل دخلك ذعر قط في حرب أو عدو؟ قال له مسلمة: ما سلمت في ذلك من ذعر ينبِّه على حيلة، ولم يغشني فيها ذعر سلبني رأي، قال هشام: هذه هي البسالة.

فالشجاعة _ إذاً _ هي مواجهة الخطر أو الألم أو نحو ذلك عند الحاجة في ثبات، وليست مرادفة لعدم الخوف كما يظن بعض الناس.

فالشجاعة لا تعتمد على الإقدام والإحجام فحسب، ولا على الخوف وعدمه.

بل ليس بالمحمود أن يتجرد الإنسان من كل خوف؛ فقد يكون الخوف فضيلة، وعدمه رذيلة؛ فالخوف عند الإقدام على أمر مهم تتعلق به مصالح الأمة، أو يحتاج إلى اتخاذ قرار حاسم _ فضيلةٌ؛ وأي فضيلة؛ إذ هو يحمل على الرويَّة، والتأني، والتؤدة؛ حتى يختمر الرأي، وينضج في الذهن؛ فلا خير في الرأي الفطير، ولا الكلام القضيب _ المرتجل _.

والعرب تقول في أمثالها: =الخطأ زاد العجول+( ).

كما أنها تمدح من يتريث، ويتأنى، ويقلب الأمور ظهراً لبطن، وتقول فيه: =إنه لحوَّل قُلَّب+.

ولهذا تتابعت نصائح الحكماء على التريث خصوصاً عند إرادة الإقدام على الأمور العظيمة المهمة، قال المتنبي:

الرأي قبل شجاعة الشجعانِ

                   هو أول وهي المحل الثاني

فإذا هما اجتمعا لنفس مِرَّةٍ

                   بلغت من العلياء كل مكانِ( )

وقال:

وكل شجاعة في المرء تغني

                   ولا مثل الشجاعة في الحكيم( )

وبالجملة فالشجاع ليس بالمتهور الطائش الذي لا يخاف مما ينبغي أن يخاف منه، ولا هو بالجبان الرعديد الذي يَفْرَقُ من ظله، ويخاف مما لا يخاف منه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =والشجاعة ليست هي قوةَ البدن؛ فقد يكون الرجل قوي البدن ضعيف القلب، وإنما هي قوة القلب وثباته، فإن القتالَ مدارُه على قوة البدن، وصنعته للقتال، وعلى قوة القلب، وخبرته به.

والمحمود منهما ما كان بعلم ومعرفة، دون التهور الذي لا يفكر صاحبه ولا يميز بين المحمود والمذموم؛ ولهذا كان القوي الشديد هو الذي يملك نفسه عند الغضب حتى يفعل ما يصلح دون مالا يصلح؛ فأما المغلوب حين غضبه فليس هو بشجاع ولا شديد+( ).

وقال × في موضع آخر: =ومما ينبغي أن يعلم أن الشجاعة إنما فضيلتها في الدين؛ لأجل الجهاد في سبيل الله، وإلا فالشجاعة إذا لم يستعن بها صاحبها على الجهاد في سبيل الله كانت إما وبالاً عليه إن استعان بها صاحبها على طاعة الشيطان، وإما غير نافعة له إن استعملها فيما لا يقربه إلى الله _ تعالى _.

فشجاعة علي، والزبير، وخالد، وأبي دجانة، والبراء بن مالك، وأبي طلحة، وغيرهم من شجعان الصحابة إنما صارت من فضائلهم لاستعانتهم بها على الجهاد في سبيل الله؛ فإنهم بذلك استحقوا ما حمد الله به المجاهدين.

وإذا كان كذلك فمعلوم أن الجهاد منه ما يكون بالقتال باليد، ومنه ما يكون بالحجة والبيان والدعوة+( ).

فما أحوجنا وما أحوج أمتنا إلى الشجاعة المنضبطة المتعقِّلة التي تجلب الخير، والمصلحة للأمة، وتنأى بها عن الشرور والبلايا والرزايا( ).

ثامن عشر: الدعاء: فالدعاء من أعظم أسباب النصر والسلامة من الفتن، كيف وقد قال ربنا _ عز وجل _: [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ] (غافر: 60).

فثمرة الدعاء مضمونة _ بإذن الله _ إذا أتى الداعي بشرائط الإجابة؛ فحري بنا أن نكثر الدعاء لأنفسنا بالثبات، وأن ندعو لإخواننا بالنصر، وأن ندعو على أعدائنا بالخيبة والهزيمة.

وإذا اشتبه على الإنسان شيء مما اختلف فيه الناس فليدع بما ورد عن عائشة _رضي الله عنها_ أن رسول الله " كان يقول إذا قام يصلي من الليل: =اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون؛ اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم+( ).

فإذا انطرح العبد بين يدي ربه وسأله التوفيق والهداية والصواب والسداد _ فإن الله لن يخيب رجاءه، وسيهديه _ بإذنه _ إلى سواء السبيل؛ فقد قال _ تعالى _ في الحديث القدسي: =يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم+( ).

تاسع عشر: البعد عن الفتن قدر المستطاع: فالفتنة في هذه الأزمان قائمة على أشدها؛ سواء فتنة الشهوات أو الشبهات؛ فالبعد عنها نجاة وسلامة، والقرب منها مدعاة للوقوع فيها.

قال النبي ": =إن السعيد لمن جُنِّبَ الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن ابتلي فصبر فواهاً+( ).

قال ابن الجوزي ×: =من قارب الفتنة بعدت عنه السلامة، ومن ادعى الصبر وكل إلى نفسه+( ).

وقال: =فإياك أن تغتر بعزمك على ترك الهوى مع مقاربة الفتنة؛ فإن الهوى مكايد، وكم من شجاع في الحرب اغتيل فأتاه ما لم يحتسب+( ).

وقال: =ما رأيت فتنة أعظم من مقاربة الفتنة، وقل أن يقاربها إلا من يقع فيها، ومن حام حول الحمى يوشك أن يرتع فيه+( ).

وقال ابن حزم ×:

لا تلم من عرَّض النفس لما

                   ليس يرضي غيره عند المحن

لا تقرب عرفجاً من لهب

                   ومتى قربته ثارت دُخَنْ( )

وقال:

لا تتبع النفس الهوى

                   ودع التعرض للمحن

إبليس حيٌّ لم يمت

                   والعين باب للفتن( )

وقال الشيخ أبو الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذاني ×:

من قارب الفتنة ثم ادعى الـ

                   عصمة قد نافق في أمره

ولا يجيز الشرع أسباب ما

                   يورِّط المسلمَ في حظره

فانجُ ودع عنك صداع الهوى

                   عساك أن تسلم من شره( )

ومما يدخل في ذلك البعد عن مجالس الخنا والزور، ومجالس الجدال بالباطل، ومجالس الوقيعة في عباد الله خصوصاً أهل العلم والفضل خصوصاً في أوقات الفتن التي يكثر فيها القيل والقال؛ فالبعد عن الفتن سبيل للنجاة منها إلا من كان لديه علم يزمُّه، وإيمان يردعه، وكان يأنس من نفسه نفع الناس، وتبصيرهم، وكشف الشبه، وبيانَ الحق؛ فأولى لمثل هذا ألا ينزوي في قعر بيته، ويدع الناس يتخبطون في دياجير الظُّلم.

سئل شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =هل الأفضل للسالك: العزلة أو الخلطة؟+.

فأجاب بقوله: =فهذه المسألة _ وإن كان الناس يتنازعون فيها إما نزاعاً كلياً وإما حالياً _ فحقيقة الأمر أن الخلطة تارة تكون واجبة، أو مستحبة، والشخص الواحد قد يكون مأموراً بالمخالطة تارة، وبالانفراد تارة.

وجماع ذلك أن المخالطة إن كان فيها تعاون على البر والتقوى فهي مأمور بها، وإن كان فيها تعاون على الإثم والعدوان فهي منهيٌّ عنها+.

إلى أن قال: =فاختيار المخالطة مطلقاً خطأ، واختيار الانفراد مطلقاً خطأ.

وأما مقدار ما يحتاج إليه كل إنسان من هذا وهذا، وما هو الأصلح له في كل حال _ فهذا يحتاج إلى نظر خاص+ا.هـ( ).

العشرون: الحذر من أن يؤتى الإسلام من أي ثغر من الثغور: سواء في ميدان التعليم، أو الإعلام، أو المرأة، أو الدعوة، وما جرى مجرى ذلك.

فهذه ثغور يجب على كل مسلم بحسبه أن يحافظ عليها خصوصاً في مثل هذه الأيام العصيبة، فلا يليق بنا أن نقول بأننا أمام أمور أعظم؛ فلا داعي أن نشتغل بهذه الأمور.

بل هي من صميم ما يجب علينا، وهي من أعظم ما يسعى الأعداء لتحقيقه.

وعلينا أن ندرك الخطر المحدق بالأمة، وأن نستشعر ما تتطلبه تلك المرحلة من الصبر، والحكمة، والروية، والثبات، وبُعْد النظرة، وصدق التوكل، وحسن الصلة بالله.

وعلينا أن نسعى سعينا في إصلاح عقائد المسلمين، وأخلاقهم، وعباداتهم، وسلوكهم، وأن نبذل الجهد في سبيل الرفع من إيمانهم، وتجنيبهم ما يسخط الله؛ فإذا علم الله منا صدق التوجه، وحسن النوايا أكرمنا بالنصر، وأيدنا بروح منه.

أما إذا تخاذلنا، وتفرقنا فإنه يوشك أن نُخذل، ونَفشلَ، وتَذهب رِيحُنا.

وكيف ننتصر إذا ابتعدنا عن الله؟ وهل سيدوم ذلك النصر لو كتب لنا؟

وماذا سيكون مصيرنا لو انتصرنا ونحن على تلك الحال المزرية؟

قال الله _ عز وجل _: [إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] (محمد:7)،وقال: [وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً] (النساء: 66).

الحادي والعشرون: ترسيخ الفهم الصحيح للإيمان بالقدر والتوكل على الله _عز وجل_: فالإيمان بالقدر يحمل على التسليم لله، والرضا بحكمه، والقيام بالأسباب المشروعة، لا على القعود، والإخلاد إلى الأرض؛ فهناك من يترك الأخذ بالأسباب، بحجة أنه متوكل على الله، مؤمن بقضائه وقدره، وأنه لا يقع في ملكه شيء إلا بمشيئته.

وذلك كحال بعض الذين يرون أن ترك الأخذ بالأسباب أعلى مقامات التوكل.

فهذا الأمر مما عمت به البلوى، واشتدت به المحنة، سواء على مستوى الأفراد، أو على مستوى الأمة.

فأمة الإسلام مرت بأزمات كثيرة، وفترات عسيرة، وكانت تخرج منها بالتفكير المستنير، والنظرة الثاقبة، والتصور الصحيح، فتبحث في الأسباب والمسببات، وتنظر في العواقب والمقدمات، ثم بعد ذلك تأخذ بالأسباب، وتلج البيوت من الأبواب، فتجتاز _ بأمر الله _ تلك الأزمات، وتخرج من تلك النكبات، فتعود لها عزتها، ويرجع لها سالف مجدها.

هكذا كانت أمة الإسلام في عصورها الزاهية.

أما في هذه العصور المتأخرة التي غشت فيها غواشي الجهل، وعصفت فيها أعاصير الإلحاد والتغريب، وشاعت فيها البدع والضلالات _ فقد اختلط هذا الأمر على كثير من المسلمين؛ فجعلوا من الإيمان بالقضاء والقدر تكأةً للإخلاد إلى الأرض، ومسوغاً لترك الحزم والجد والتفكير في معالي الأمور، وسبل العزة والفلاح، فآثروا ركوب السهل الوطيء الوبيء على ركوب الصعب الأشق المريء.

فكان المخرج لهم أن يتكل المرء على القدر، وأن الله هو الفعَّال لما يريد، وأن ما شاءه كان، وما لم يشأه لم يكن؛ فلتمضِ إرادتُه، ولتكن مشيئته، وليجرِ قضاؤه وقدره، فلا حول لنا ولا طول، ولا يدَ لنا في ذلك كله.

هكذا بكل يسر وسهولة، استسلام للأقدار دون منازعة لها في فعل الأسباب المشروعة والمباحة؛ فلا أمر بالمعروف، ولا نهي عن المنكر، ولا حرص على نشر العلم ورفع الجهل، ولا محاربة للأفكار الهدامة والمبادئ المضللة، كل ذلك بحجة أن الله شاء ذلك!

والحقيقة أن هذه مصيبة كبرى، وضلالة عظمى، أدت بالأمة إلى هوة سحيقة من التخلف والانحطاط، وسبَّبَت لها تسلط الأعداء، وجرَّت عليها ويلات إثر ويلات.

وإلا فالأخذ بالأسباب لا ينافي الإيمان بالقدر، بل إنه من تمامه؛ فالله _ عز وجل _ أراد بنا أشياء، وأراد منا أشياء، فما أراده بنا طواه عنا، وما أراده منا أمرنا بالقيام به، فقد أراد منا حمل الدعوة إلى الكفار وإن كان يعلم أنهم لن يؤمنوا، وأراد منا أن نكون أمة واحدة وإن كان يعلم أننا سنتفرق ونختلف، وأراد منا أن نكون أشداء على الكفار رحماء بيننا، وإن كان يعلم أن بأسنا سيكون بيننا شديداً وهكذا..

فالخلط بين ما أريد بنا، وما أريد منا، وبين الأمر الكوني القدري، والشرعي الديني هو الذي يُلبِس الأمر، ويوقع في المحذور.

ثم لا ريب أن الله _ عز وجل _ هو الفعال لما يريد، الخالق لكل شيء، الذي بيده ملكوت كل شيء، الذي له مقاليد السموات والأرض.

ولكنه _ تبارك وتعالى _ جعل لهذا الكون نواميس يسير عليها؛ وقوانين ينتظم بها، وإن كان هو _ عز وجل _ قادراً على خرق هذه النواميس وتلك القوانين، وإن كان _ أيضاً _ لا يخرقها لكل أحد.

فالإيمان بأن الله قادر على نصر المؤمنين على الكافرين _ لا يعني أنه سينصر المؤمنين وهم قاعدون عن الأخذ بالأسباب؛ لأن النصر بدون الأخذ بالأسباب مستحيل، وقدرة الله لا تتعلق بالمستحيل، ولأنه منافٍ لحكمةِ الله، وقُدْرَتُه _ عز وجل _ متعلقةٌ بحكمته.

فكون الله قادراً على الشيء لا يعني أن الفرد أو الجماعة أو الأمة قادرةٌ عليه؛ فقدرة الله صفة خاصة به، وقدرة العبد صفة خاصة به، فالخلط بين قدرة الله والإيمان بها، وقدرة العبد وقيامه بما أمره الله به _ هو الذي يحمل على القعود، وهو الذي يخدر الأمم والشعوب( ).

وهذا ما لاحظه وألمح إليه أحد المستشرقين الألمان وهو باول شمتز، فقال _ وهو يؤرخ لحال المسلمين في عصورهم المتأخرة _: =طبيعة المسلم التسليم لإرادة الله، والرضا بقضائه وقدره، والخضوع بكل ما يملك للواحد القهار.

وكان لهذه الطاعة أثران مختلفان؛ ففي العصر الإسلامي الأول لعبت دوراً كبيراً في الحروب، وحققت نصراً متواصلاً؛ لأنها دفعت في الجندي روح الفداء.

وفي العصور المتأخرة كانت سبباً في الجمود الذي خيم على العالم الإسلامي، فقذف به إلى الانحدار، وعزله وطواه عن تيار الأحداث العالمية+( ).

الثاني والعشرون: مراعاة المصالح والمفاسد: وقد مر شيء من ذلك؛ فلا يكفي مجرد سرد النصوص، وتنزيلها على أحوال معينة خصوصاً عند الفتن واشتباه الأمور بل لا بد من الروية، والاستنارة بأهل العلم والفقه والبصيرة، ولا بد من النظر في المصالح والمفاسد قال الشيخ السعدي ×: =قوله [فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى] (الأعلى: 9)، مفهوم الآية أنه إذا ترتب على التذكير مضرة أرجح تُرِكَ التذكير؛ خوف وقوع المنكر+( ).

وقال ابن القيم ×: =فإذا كان إنكار المُنْكَرِ يستلزم ما هو أنكر منه، وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه، ويمقت أهله+.

وقال: =ومن تأمل ما جرى في الإسلام من الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر، فطلب إزالته، فتولَّد منه ما هو أكبر منه؛ فقد كان رسول الله " يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها.

بل لما فتح الله مكة، وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت، وردِّه على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك _ مع قدرته عليه _ خشيةُ وقوع ما هو أعظم منه، من عدم احتمال قريش لذلك، لقرب عهدهم بالإسلام، وكونهم حديثي عهد بكفر+( ).

وقال ×: =فإنكار المنكر أربع درجات:

الأولى: أن يزول ويَخْلُفَهُ ضدُّه

الثانية: أن يَقِلَّ، وإن لم يَزُلْ بالجملة.

الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله.

الرابعة: أن يخلفه ما هو شرٌ منه.

فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة محلُّ اجتهاد، والرابعة محرمة.

فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون الشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله كرمي النُّشاب، وسباق الخيل، ونحو ذلك.

وإذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو، أو لعب، أو سماع مكاء وتصدية فإن نقلتهم إلى طاعة الله فهو المراد.

وإلا كان تركهم على ذلك خيراً من أن تُفرِغَهم لما هو أعظم من ذلك؛ فكان ما هم فيه شاغلاً لهم عن ذلك.

وكما إذا كان الرجل مشتغلاً بكتب المجون ونحوها، وخِفتَ من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلال والسحر فَدَعْهُ وكتبه الأولى، وهذا باب واسع.

وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية _ قدس الله روحه ونوَّر ضريحه _ يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر؛ فأنكر عليهم مَنْ كان معي؛ فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر؛ لأنها تصد عن ذكره وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس، وسبي الذرية، وأخذ الأموال؛ فَدَعْهم+( ).

الثالث والعشرون: حسن التعامل مع الخلاف والردود: فربما يحصل في وقت النوازل والفتن اختلاف في النظرة إليها من قبل بعض أهل العلم وربما يحصل خلاف حول أمر ما؛ فيحسن _ والحالة هذه _ أن تنشرح صدورنا لما يقع من الخلاف؛ فما من الناس أحد إلا وهو راد ومردود عليه، وكلٌّ يؤخذ من قوله ويرد إلا الرسول ".

ويجمل بنا أن نحسن الظن بأهل العلم والفضل إذا رد بعضهم على بعض، وألا ندخل في نياتهم، وأن نلتمس لهم العذر.

وإذا تبين لنا أن أحداً من أهل العلم والفضل أخطأ سواء كان راداً أو مردوداً عليه فلا يسوغ لنا ترك ما عنده من الحق؛ بحجة أنه أخطأ.

وإذا كنا نميل إلى أحد من الطرفين أكثر من الآخر فلا يجوز لنا أن نتعصب له، أو نظن أن الحق معه على كل حال.

وإذا كان في نفس أحدٍ منا شيء على أحد الطرفين _ فلا يكن ذلك حائلاً دون قبول الحق منه.

قال ربنا _ جل وعلا _:[وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى](الأنعام:152).

وقال:[وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] (المائدة:8)، وقال:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ](النساء: 135).

قال ابن حزم ×: =وجدت أفضل نعم الله _ تعالى _ على المرء أن يطبعه على العدلِ وحُبِّه، وعلى الحق وإيثاره+( ).

وقال: =وأما من طبع على الجور واستسهاله، وعلى الظلم واستخفافه _ فلييأس من أن يصلح نفسه، أو يقوِّم طباعه أبداً، وليعلم أنه لا يفلح في دين ولا في خلق محمود+( ).

وقال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور ×: =والعدل مما تواطأت على حسنه الشرائع الإلهية، والعقول الحكيمة، وتمدَّح بادعاء القيام به عظماءُ الأمم، وسجلوا تمدُّحهم على نقوش الهياكل من كلدانية، ومصرية، وهندية.

وحسن العدل بمعزل عن هوى يغلب عليها في قضية خاصة، أو في مبدأ خاص تنتفع فيه بما يخالف العدل بدافع إحدى القوتين: الشاهية والغاضبة+( ).

وإذا كان لدينا قدرة على رأب الصدع، وجمع الكلمة، وتقريب وجهات النظر فتلك قربة وأي قربة.

قال الله _ عز وجل _: [لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً] (النساء:114).

وإذا لم نستطع فلنجتهد بالدعاء والضراعة إلى الله أن يقرب القلوب، ويجمع الكلمة على الحق، ولنحذر كل الحذر من الوقيعة بأهل العلم، أو السعاية بينهم، ولنعلم بأنهم لا يرضون منا بذلك مهما كان الأمر.

وإذا سلَّمَنا الله من هذه الردود، فاشتَغل الواحد منا بما يعنيه _ فهو خير وسلامة _إن شاء الله تعالى _.

والذي يُظَنُّ بأهل الفضل سواء كان الواحد منهم رادَّاً أو مردوداً عليه _ أنهم لا يرضون منا أن نتعصَّب لهم أو عليهم تفنيداً، أو تأييداً بل يرضيهم كثيراً أن نشتغل بما يرضي الله، وينفع الناس، ويؤسفهم كثيراً أن تأخذ تلك الردود أكثر من حجمها، وأن تفسر على غير وجهها.

هذا وإن العاقل المحب لدينه وإخوانه المسلمين ليتمنى من صميم قلبه أن تجتمع الكلمة، وألا يحتاج الناس أو يضطروا إلى أن يردوا على بعض، وما ذلك على الله بعزيز، ولكن:

فيا دارها بالحزن إن مزارها

                   قريب ولكن دون ذلك أهوال

فمن العسير أن تتفق آراء الناس، واجتهاداتهم، ومن المتعذر أن يكونوا جميعاً على سنة واحدة في كل شيء، ومن المحال أن يُعْصَم الناس فلا يخطئوا.

ثم ليكن لنا في سلفنا الكرام قدوة؛ فهم خير الناس في حال الوفاق وحال الخلاف؛ حيث كانوا مثالاً يحتذى في الرحمة، والعدل، والإنصاف حتى في حال الفتنة والقتال.

روي أنه أُنشد في مجلس أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ÷ قول الشاعر:

فـتىً كان يدنيه الغنى من صديقه

                   إذا مـا هـو استغنى ويبعده الفقر

كـأن الـثريا عـلقـت بجبينه

                   وفي خده الشِّعرى وفي الآخر البدر

فلما سمعها علي ÷ قال: هذا طلحة بن عبيد الله، وكان السيف ليلتَئذٍ مجرداً بينهما.

فانظر إلى عظمة الإنصاف، وروح المودة، وشرف الخصومة.

ولا ريب أن هذه المعاني تحتاج إلى مراوضة النفس كثيراً، وإلى تذكيرها بأدب الإنصاف، وإنذارها ما يترتب على العناد والتعصب من الإثم والفساد.

وإذا استقبلنا الخلاف والردود بتلك الروح السامية، والنفس المطمئنة صارت رحمةً، وإصلاحاً، وتقويماً، وارتقاءاً بالعقول، وتزكية للنفوس.

وبهذا نحفظ لرجالنا، وأهل العلم منا مكانتهم في القلوب، ونضمن _ بإذن الله _ لأمتنا تماسكها وصلابة عودها، ونوصد الباب أمام من يسعى لتفريقها والإيضاع خلالها.

والعجيب أن ترى أن اثنين من أهل العلم قد يكون بينهما خلاف حول مسألة أومسائل، وتجد أتباعهما يتعادون، ويتمارون، وكل فريق يتعصب لصاحبه مع أن صاحبي الشأن بينهما من الود، والصلة، والرحمة الشيء الكثير!

وأخيراً لنستحضر أن ذلك امتحان لعقولنا وإيماننا؛ فلنحسن القول، ولنحسن العمل، ولنجانب الهوى.

الرابع والعشرون: إشاعة روح التعاون على البر والتقوى والحرص على الإفادة من كل أحد: فهذا مما ينمي روح المودة، ويقضي على الكسل والبطالة؛ فإن من النعم الكبرى كثرةَ طرق الخير، وتعَدُّدَ السبل الموصلة إلى البر؛ فلا يسوغ _ والحالة هذه _ أن يُقَلَّل من أي عمل من أعمال الخير؛ فالمسلم بحاجة إلى ما يقربه إلى ربه، والأمة بحاجة إلى كل عمل من شأنه رفعُ راية الإسلام، وإعزازُ أهله.

وإذا شاعت روح التعاون بين أفراد الأمة في شتى الميادين _ أمكن الإفادة من كل شخص مهما قلت مواهبه، ومن كل فرصة ووسيلة ما دامت جارية على مقتضى الشرع.

أما إذا اقتصر كل واحد منا على باب من أبواب الخير، ورأى أنه هو السبيل الوحيد للنهوض بالأمة، وقبض يده عن التعاون مع غيره ممن فُتِحَ عليهم أبوابٌ أخرى من الخير _ فإننا سنحرم خيراً كثيراً، وستُفْتَح علينا أبواب من الشر لا يعلمها إلا الله _ عز وجل _.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية × في معرض كلام له في بيان أن أفضل الأعمال يتنوع بحسب أجناس العبادة، وباختلاف الأزمنة، والأمكنة، والأشخاص، والأحوال، قال: =وهذا باب واسع يغلو فيه كثير من الناس، ويتَّبعون أهواءهم؛ فإن من الناس من يرى أن العمل إذا كان أفضل في حقه لمناسبته له، ولكونه أنفع لقلبه، وأطوع لربه _ يريد أن يجعله أفضل لجميع الناس، ويأمرهم بمثل ذلك.

والله بعث محمداً " بالكتاب والحكمة، وجعله رحمة للعباد، وهدياً لهم يأمر كل إنسان بما هو أصلح له؛ فعلى المسلم أن يكون ناصحاً للمسلمين، يقصد لكل إنسان ما هو أصلح.

وبهذا تبين لك أن من الناس من يكون تطوعه بالعلم أفضل له، ومنهم من يكون تطوعه بالجهاد أفضل له، ومنهم من يكون تطوعه بالعبادات البدنية _كالصلاة والصيام_ أفضل له.

والأفضل مطلقاً ما كان أشبه بحال النبي " باطناً وظاهراً؛ فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد "، والله _ سبحانه وتعالى _ أعلم+( ).

وبناءً على ما مضى فإنه لا غضاضة على من فتح عليه في باب من أبواب الخير دون أن يفتح عليه في غيره؛ ولا على من فتح عليه من أبواب الخير دون أن يفتح على غيره فيه؛ فكل ميسر لما خلق له، وقد علم كل أناس مشربهم؛ فلا غرو _ إذاً _ أن تتنوع الأعمال ما دامت على مقتضى الشرع؛ فهذا يُكِبُّ على العلم والبحث والتأليف، وذاك يقوم بتعليم الناس عبر الدروس، وهذا يسد ثغرة الجهاد، وذاك يقوم بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا يقوم على رعاية الأرامل والأيتام، ويتعاون مع جمعيات البر المعنية بهذا الشأن، وذاك يقوم بتربية الشباب في محاضن التربية والتعليم، وهذا يقوم بتعليم الناس كتاب الله، وتحفيظهم إياه، وذاك يعنى بشؤون المرأة، وما يحاك حولها، وهذا يهتم بعمارة المساجد، ودلالة المحسنين على ذلك، وذاك يسعى في تنظيم الدروس والمحاضرات والدورات العلمية، وتسهيل مهام أهل العلم في ذلك الشأن، وهذا يعنى بالجاليات التي تفد إلى بلاد المسلمين يعلمهم أمور دينهم إن كانوا مسلمين، ويدعوهم إلى الإسلام إن كانوا غير مسلمين، وهذا مفتوح عليه في باب الشبكة العالمية _ الإنترنت _ حيث ينشر الخير من خلالها، ويصد الشر عن المسلمين، وذاك قد فتح عليه في الإعلام ونشر الخير عبر وسائله المتنوعة، وهذا يعنى بالمسلمين في بقاع الأرض؛ حيث يسعى في تعليمهم، وبيان قضاياهم، ويحرص على رفع الظلم عنهم، وهذا يسعى سعيه في الإصلاح بين الناس، وذاك يقوم بشؤون الموتى من تغسيلهم، ودفنهم ونحو ذلك، وهذا منقطع للعبادة، والذكر، والتلاوة، وعمارة بيوت الله، وذاك مفتوح عليه في باب الصيام، وهذا مفتوح عليه في باب الصلاة، وذاك مفتوح عليه في باب الصدقة، وذاك الفذُّ الجامع لأكثر تلك الخصال وهكذا. . .

وبهذه النظرة الشاملة نأخذ بالإسلام من جميع أطرافه، ونسد كافة الثغرات التي تحتاج إلى من يقوم بها، ويمكننا اغتنام جميع الفرص، وكافة المواهب، ونستطيع من خلال ذلك إشاعة روح العمل للإسلام، والقضاء على الكسل والبطالة.

وبذلك يقل التلاوم، ويكثر العمل، ويُنْبذ الخلاف، ونسلم من القيل والقال، وننهض بأمتنا إلى أعلى مراقي السعود، وأقصى مراتب المجادة.

وبعد: فهذه إشارات مجملة، ومعالم عامة في التعامل مع الفتن والمصائب، وكل واحد منها يحتاج إلى بسط وتفصيل، والمقام لا يسمح بذلك؛ فأسأل الله أن ينفع بما ذكر؛ إنه سميع قريب.

 الرسالة الثالثة عشرة من صور تكريم الإسلام للمرأة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فهذه صفحات قليلة تتضمن صوراً من تكريم الإسلام للمرأة.

وقبل الدخول في ثنايا الموضوع سَتُورَدُ بعض الآيات الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة التي تدل على عظم شأن المرأة في الإسلام، ومدى عناية الإسلام بها، وتكريمه لها.

وسيلاحظ القارئ قلة الحواشي والعزو؛ رغبة في الاختصار، وأملاً في انتشار الكتاب ويسر توزيعه؛ فإلى تلك الصفحات، والله المستعان وعليه التكلان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال _ تعالى _:[وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً] (النساء:36).

وقال _ تعالى _: [قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً] (الأنعام:151).

وقال _ عز وجل _:[وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً (24)] (الإسراء).

وقال _ تبارك وتعالى _:[وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ] (لقمان:14).

 وقال:[وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] (البقرة:228).

وقال:[يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً] (النساء:1).

وقال:[لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً] (النساء:7).

وقال:[الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ] (النساء:34).

وقال:[إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً] (الأحزاب:35).

وقال:[وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً] (الأحزاب:58).

وقال:[وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ] (الروم:21).

وقال:[وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ] (النحل:72).

وقال:[فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ] (آل عمران:195).

وقال:[مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] (النحل:97).

وقال:[وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً] (الأحزاب :36).

وقال:[فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ] (محمد:19).

1_ جاء رجل إلى النبي " فقال: يا رسول الله من أولى الناس بحسن صحابتي؟ قال: =أمك+، قال: ثم من؟ قال: =أمك+، قال: ثم من؟ قال : =أمك+، قال ثم من؟ قال: =أبوك+رواه البخاري ومسلم.

2_ قال النبي ": =اتقوا الله في النساء، فإنهن عوانٍ عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن+رواه البخاري ومسلم.

3_ وقال ": =دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها الذي أنفقته على أهلك+ رواه مسلم.

4_ وقال ": =ابدأ بنفسك، فتصدق عليها، فإن فَضُل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء، فهكذا وهكذا+ رواه مسلم.

5_ وقال ": =استوصوا بالنساء؛ فإن المرأة خلقت من ضِلَع أعوج، وإن أعوج شيء في الضِّلع أعلاه، إن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، استوصوا بالنساء خيراً+ رواه البخاري ومسلم.

6_ وقال ": =لا يَفْرَك _ أي يبغض _ مؤمنٌ مؤمنةً؛ إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر+ رواه مسلم.

7_ وقال ": =أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً، وخياركم خياركم لنسائهم+ أخرجه أحمد والترمذي، وقال: حسن صحيح.

8_ وقال ": =إن من أشر الناس منزلةً يوم القيامة الرجلَ يفضي إلى امرأته، وتفضي إليه، ثم ينشر سرها+رواه مسلم.

9_ وقال: =إني أحرج عليكم حق الضعيفين: اليتيم والمرأة+أخرجه أحمد، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم وقال: صحيح الإسناد على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.

10_ وقال ": =النساء شقائق الرجال+ أخرجه أحمد، وابن ماجه، والترمذي، وأبو داود، وصححه أحمد شاكر في تحقيق الترمذي.

11_ وقال ": =لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يضاجعها+أخرجه البخاري ومسلم.

12_ وقال ": =من كانت له امرأتان، فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشِقُّه مائل+رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، والحاكم، وقال الذهبي: على شرط البخاري ومسلم.

13_ وقال ": =لا تُنكح الأيِّم حتى تستأمر، ولا تُنكح البكر حتى تستأذن+.

قالوا: يا رسول الله! وكيف إذنها؟ قال: =أن تسكت+رواه البخاري.

14_ وقال ": =من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن ستراً له من النار+رواه البخاري ومسلم.

15_ وقال ": =لا يكون لأحد ثلاث بنات، أو ثلاث أخوات، أو بنتان، أو أختان، فيتقي الله فيهن، ويحسن إليهن إلا دخل الجنة+أخرجه أحمد.

لقد رفع الإسلام مكانة المرأة، وأكرمها بما لم يكرمها به دين سواه؛ فالنساء في الإسلام شقائق الرجال، وخير الناس خيرهم لأهله؛ فالمسلمة في طفولتها لها حق الرضاع، والرعاية، وإحسان التربية، وهي في ذلك الوقت قرة العين، وثمرة الفؤاد لوالديها وإخوانها.

وإذا كبرت فهي المعززة المكرمة، التي يغار عليها وليها، ويحوطها برعايته، فلا يرضى أن تمتد إليها أيدٍ بسوء، ولا ألسنةٌ بأذى، ولا أعينٌ بخيانة.

وإذا تزوجت كان ذلك بكلمة الله، وميثاقه الغليظ؛ فتكون في بيت الزوج بأعز جوار، وأمنع ذمار، وواجب على زوجها إكرامها، والإحسان إليها، وكف الأذى عنها.

وإذا كانت أماً كان برُّها مقروناً بحق الله _ تعالى _ وعقوقها والإساءة إليها مقروناً بالشرك بالله، والفساد في الأرض.

وإذا كانت أختاً فهي التي أُمر المسلم بصلتها، وإكرامها، والغيرة عليها.

وإذا كانت خالة كانت بمنزلة الأم في البر والصلة.

وإذا كانت جدة، أو كبيرة في السن زادت قيمتها لدى أولادها، وأحفادها، وجميع أقاربها؛ فلا يكاد يرد لها طلب، ولا يُسَفَّه لها رأي.

وإذا كانت بعيدة عن الإنسان لا يدنيها قرابة أو جوار كان لها حق الإسلام العام من كف الأذى، وغض البصر، ونحو ذلك.

وما زالت مجتمعات المسلمين ترعى هذه الحقوق حق الرعاية، مما جعل للمرأة قيمة واعتباراً لا يوجد لها عند المجتمعات غير المسلمة.

ثم إن للمرأة في الإسلام حق التملك، والإجارة، والبيع، والشراء، وسائر العقود، ولها حق التعلم، والتعليم، بما لا يخالف دينها، بل إن من العلم ما هو فرض عين يأثم تاركه ذكراً أم أنثى.

بل إن لها ما للرجال إلا بما تختص به من دون الرجال، أو بما يختصون به دونها من الحقوق والأحكام التي تلائم كُلاً منهما على نحو ما هو مفصل في مواضعه.

ومن إكرام الإسلام للمرأة أن أمرها بما يصونها، ويحفظ كرامتها، ويحميها من الألسنة البذيئة، والأعين الغادرة، والأيدي الباطشة؛ فأمرها بالحجاب والستر، والبعد عن التبرج، وعن الاختلاط بالرجال الأجانب، وعن كل ما يؤدي إلى فتنتها.

ومن إكرام الإسلام لها: أن أمر الزوج بالإنفاق عليها، وإحسان معاشرتها، والحذر من ظلمها، والإساءة إليها.

بل ومن المحاسن _ أيضاً _ أن أباح للزوجين أن يفترقا إذا لم يكن بينهما وفاق، ولم يستطيعا أن يعيشا عيشة سعيدة؛ فأباح للزوج طلاقها بعد أن تخفق جميع محاولات الإصلاح، وحين تصبح حياتهما جحيماً لا يطاق.

وأباح للزوجة أن تفارق الزوج إذا كان ظالماً لها، سيئاً في معاشرتها، فلها أن تفارقه على عوض تتفق مع الزوج فيه، فتدفع له شيئاً من المال، أو تصطلح معه على شيء معين ثم تفارقه.

ومن صور تكريم الإسلام للمرأة أن نهى الزوج أن يضرب زوجته بلا مسوغ، وجعل لها الحق الكامل في أن تشكو حالها إلى أوليائها، أو أن ترفع للحاكم أمرها؛ لأنها إنسان مكرم داخل في قوله _ تعالى _: [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً](الإسراء:70).

وليس حسن المعاشرة أمراً اختيارياً متروكاً للزوج إن شاء فعله وإن شاء تركه، بل هو تكليف واجب.

قال النبي ": =لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد، ثم يضاجعها+رواه البخاري ومسلم.

فهذا الحديث من أبلغ ما يمكن أن يقال في تشنيع ضرب النساء؛ إذ كيف يليق بالإنسان أن يجعل امرأته _ وهي كنفسه _ مهينة كمهانة عبده بحيث يضربها بسوطه، مع أنه يعلم أنه لا بد له من الاجتماع والاتصال الخاص بها.

ولا يفهم مما مضى الاعتراض على مشروعية ضرب الزوجة بضوابطه، ولا يعني أن الضرب مذموم بكل حال.

لا، ليس الأمر كذلك؛ فلا يطعن في مشروعية الضرب إلا من جهل هداية الدين، وحكمة تشريعاته من أعداء الإسلام ومطاياهم ممن نبتوا من حقل الغرب، ورضعوا من لبانه، ونشأوا في ظله.

هؤلاء الذين يتظاهرون بتقديس النساء والدفاع عن حقوقهن؛ فهم يطعنون في هذا الحكم، ويتأففون منه، ويعدونه إهانة للمرأة.

وما ندري من الذي أهان المرأة؟ أهو ربّها الرحيم الكريم الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟

أم هؤلاء الذين يريدونها سلعة تمتهن وتهان، فإذا انتهت مدة صلاحيتها ضربوا بها وجه الثرى؟

إن هؤلاء القوم يستنكفون من مشروعية تأديب المرأة الناشز، ولا يستنكفون أن تنشز المرأة، وتترفع على زوجها، فتجعله _ وهو رأس البيت _ مرؤوساً، وتصر على نشوزها، وتمشي في غلوائها، فلا تلين لوعظه، ولا تستجيب لنصحه، ولا تبالي بإعراضه وهجره.

تُرى كيف يعالجون هذا النشوز؟ وبم يشيرون على الأزواج أن يعاملوا به الزوجات إذا تمَرَّدْنَ ؟

لعل الجواب تضمنه قول الشنفرى الشاعر الجاهلي حين قال مخاطباً زوجته:

إذا ما جئتِ ما أنهاكِ عنه

                   فلم أنكر عليك فطلقيني

فأنتِ البعلُ يومئذٍ فقومي

                   بسوطك _ لا أبا لك _ فاضربيني

نعم لقد وجد من النساء _ وفي الغرب خاصة _ من تضرب زوجها مرة إثر مرة، والزوج يكتم أمره، فلما لم يعد يطيق ذلك طلَّقها، حينئذٍ ندمت المرأة، وقالت: أنا السبب؛ فلقد كنت أضربه، وكان يستحيي من الإخبار بذلك، ولما نفد صبره طلَّقني!

وقالت تلك المرأة القوامة: أنا نادمة على ما فعلت، وأوجه النصيحة بألا تضرب الزوجات أزواجهن!

لقد أذن الإسلام بضرب الزوجة كما في قوله _ تعالى _:[وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ](النساء:34).

وكما في قوله " في حجة الوداع: =ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مُبَرِّح+.

ولكن الإسلام حين أذن بضرب الزوجة لم يأذن بالضرب المبرح الذي يقصد به التشفي، والانتقام، والتعذيب، وإهانة المرأة، وإرغامها على معيشة لا ترضى بها.

وإنما هو ضرب للحاجة وللتأديب، تصحبه عاطفة المربي والمؤدب؛ فليس للزوج أن يضرب زوجته بهواه، وليس له إن ضربها أن يقسو عليها.

فالإسلام أذن بالضرب بشروط منها:

أ _ أن تصر الزوجة على العصيان حتى بعد التدرج معها.

ب_ أن يتناسب العقاب مع نوع التقصير؛ فلا يبادر إلى الهجر في المضجع في أمر لا يستحق إلا الوعظ والإرشاد، ولا يبادر إلى الضرب وهو لم يجرب الهجر؛ ذلك أن العقاب بأكثر من حجم الذنب ظلم.

ج_ أن يستحضر أن المقصود من الضرب العلاجُ والتأديب والزجر لا غير؛ فيراعي التخفيف فيه على أحسن الوجوه؛ فالضرب يتحقق باللكزة، أو بالمسواك ونحوه.

د_ أن يتجنب الأماكن المخوفة كالرأس والبطن والوجه.

هـ _ألا يكسر عظماً، ولا يشين عضواً، وألا يدميها، ولا يكرر الضربة في الموضع الواحد.

و_ ألا يتمادى في العقوبة قولاً أو فعلاً إذا هي ارتدعت وتركت النشوز.

فالضرب _ إذاً _ للمصلحة لا للإهانة، ولو ماتت الزوجة بسبب ضرب الزوج لوجبت الدية والكفارة، إذا كان الضرب لغير التأديب المأذون فيه.

أما إذا كان التلف مع التأديب المشروع فلا ضمان عليه، هذا مذهب أحمد ومالك.

أما الشافعي وأبو حنيفة فيرون الضمان في ذلك، ووافقهم القرطبي _ وهو مالكي _.

وقال النووي × في شرح حديث حجة الوداع السابق: =وفي هذا الحديث إباحة ضرب الرجل امرأته للتأديب، فإن ضربها الضرب المأذون فيه فماتت وجبت ديتها على عاقلة الضارب، ووجبت الكفارة في ماله+.

ومن هنا يتبين لنا أن الضرب دواء ينبغي مراعاة وقته، ونوعه، وكيفيته، ومقداره، وقابلية المحل، لكن الذين يجهلون هداية الإسلام يقلبون الأمر، ويلبسون الحق بالباطل.

ثم إن التأديب بالضرب ليس كل ما شرعه الإسلام من العلاج، بل هو آخر العلاجات مع ما فيه من الكراهة؛ فإذا وجدت امرأة ناشز أساءت عشرة زوجها، وركبت رأسها، واتبعت خطوات الشيطان، ولم ينجع معها وعظ ولا هجران _ فماذا يصنع الرجل في مثل هذه الحال؟ هل من كرامته أن يهرع إلى مطالبة زوجته كل ما نشزت؟ وهل تقبل المرأة ذلك، فينتشر خبرها، فتكون غرضاً للذم، وعرضة للَّوم؟

إن الضرب بالمسواك، وما أشبهه أقلُّ ضرراً على المرأة نفسها من تطليقها الذي هو نتيجة غالبة لاسترسالها في نشوزها، فإذا طُلِّقت تصدع بنيان الأسرة، وتفرق شملها، وتناثرت أجزاؤها، وإذا قيس الضرر الأخف بالضرر الأعظم كان ارتكاب الأخف حسناً جميلاً.

كما قيل: وعند ذكر العمى يستحسن العورُ.

فالضرب طريق من طرق العلاج يجدي مع بعض النفوس الشاردة التي لا تفهم بالحسنى، ولا ينفع معها الجميل، ولا تفقه الحجة، ولا تقاد بزمام الإقناع.

ثم إذا أخطأ أحد من المسلمين سبيل الحكمة، فضرب زوجته وهي لا تستحق، أو ضربها ضرباً مبرحاً _ فالدين براء من تبعة هذه النقائص، وإنما تبعتها على أصحابها.

هذا وقد أثبتت دراسات علم النفس أن بعض النساء لا ترتاح أنفسهن إلا إذا تعرضن إلى قسوة وضرب شديد مبرح، بل قد يعجبها من الرجل قسوته، وشدته، وعنفه؛ فإذا كانت مرأة من هذا النوع فإنه لا يستقيم أمرها إلا بالضرب.

وشواهد الواقع والملاحظات النفسية على بعض أنواع الانحراف تقول: إن هذه الوسيلة قد تكون أنسب الوسائل لإشباع انحراف نفسي معين، وإصلاح سلوك صاحبه، وإرضائه في الوقت ذاته؛ فربما كان من النساء من لا تحس قوة الرجل الذي تحب أن يكون قواماً عليها إلا حين يقهرها عضلياً.

وليست هذه طبيعة كل امرأة، ولكن هذا الصنف من النساء موجود، وهو الذي يحتاج إلى هذه المرحلة الأخيرة؛ ليستقيم على الطريقة.

والذين يولعون بالغرب، ويولون وجوههم شطره يوحون إلينا أن نساء الغرب ينعمن بالسعادة العظمى مع أزواجهن، ولكن الحقيقة الماثلة للعيان تقول غير ذلك؛ فتعالوا نطالع الإحصاءات التي تدل على وحشية الآخرين الذين يرمون المسلمين بالوحشية:

أ_ نشرت مجلة التايم الأمريكية أن ستة ملايين زوجة في أمريكا يتعرضن لحوادث من جانب الزوج كل عام، وأنه من ألفين إلى أربعة آلاف امرأة يتعرضن لضرب يؤدي إلى الموت، وأن رجال الشرطة يقضون ثلث وقتهم للرد على مكالمات حوادث العنف المنزلي( ).

ب_ ونشر مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي عام 1979م أن 40% من حوادث قتل النساء تحدث بسبب المشكلات الأسرية، وأن 25% من محاولات الانتحار التي تُقْدم عليها الزوجات يسبقها نزاع عائلي( ).

ج _ دراسة أمريكية جرت في عام 1407هـ _1987م أشارت إلى أن 79% يقومون بضرب النساء وبخاصة إذا كانوا متزوجين بهن، وكانت الدراسة قد اعتمدت على استفتاء أجراه د.جون بيرير الأستاذ المساعد لعلم النفس في جامعة كارولينا الجنوبية بين عدد من طلبته.

وقد أشارت الدراسة إلى أن استعداد الرجال لضرب زوجاتهم عالٍ جداً، فإذا كان هذا بين طلبة الجامعة فكيف بمن هو دونهم تعليماً؟

د _ وفي دراسة أعدها المكتب الوطني الأمريكي للصحة النفسية جاء أن 17% من النساء اللواتي يدخلن غرف الإسعاف ضحايا ضرب الأزواج أو الأصدقاء، وأن 83% دخلن المستشفيات سابقاً مرة على الأقل للعلاج من جروح وكدمات أصبن بها _ كان دخولهن نتيجة الضرب.

 وقال إفان ستارك معد هذه الدراسة التي فحصت (1360) سجلاً للنساء: إن ضرب النساء في أمريكا ربما كان أكثر الأسباب شيوعاً للجروح التي تصاب بها النساء، وأنها تفوق ما يلحق بهن من أذى نتيجة حوادث السيارات، والسرقة، والاغتصاب مجتمعة.

وقالت جانيس مور _ وهي منسقة في منظمة الائتلاف الوطني ضد العنف المنزلي ومقرها واشنطن _: إن هذه المأساة المرعبة وصلت إلى حد هائل؛ فالأزواج يضربون نساءهم في سائر أنحاء الولايات المتحدة، مما يؤدي إلى دخول عشرات منهن إلى المستشفيات للعلاج.

وأضافت بأن نوعية الإصابات تتراوح ما بين كدمات سوداء حول العينين، وكسور في العظام، وحروق وجروح، وطعن بالسكين، وجروح الطلقات النارية، وما بين ضربات أخرى بالكراسي، والسكاكين، والقضبان المحماة.

وأشارت إلى أن الأمر المرعب هو أن هناك نساء أكثر يُصبن بجروح وأذى على أيدي أزواجهن ولكنهن لا يذهبن إلى المستشفى طلباً للعلاج، بل يُضمِّدن جراحهن في المنزل.

وقالت جانيس مور: إننا نقدر بأن عدد النساء اللواتي يُضربن في بيوتهن كل عام يصل إلى ستة ملايين امرأة، وقد جمعنا معلومات من ملفات مكتب التحقيقات الفيدرالية، ومن مئات الملاجئ التي توفر المأوى للنساء الهاربات من عنف وضرب أزواجهن( ).

 وجاء في كتاب (ماذا يريدون من المرأة) ما يلي( ):

_ ضرب الزوجات في اليابان هو السبب الثاني من أسباب الطلاق.

_ 772 امرأة قتلهن أزواجهن في مدينة ساو باولو البرازيلية وحدها عام 1980م.

_ يتعرض ما بين ثلاثة إلى أربعة ملايين من الأمريكيات للإهانة المختلفة من أزواجهن وعشاقهن سنوياً.

_ أشارت دراسة كندية اجتماعية إلى أن ربع النساء هناك _ أي أكثر من ثمانية ملايين امرأة _ يتعرضن لسوء المعاملة كل عام.

_ في بريطانيا تستقبل شرطة لندن وحدها مائة ألف مكالمة سنوياً من نساء يضربهن أزواجهن على مدار السنين الخمس عشرة الماضية.

_ تتعرض امرأة لسوء المعاملة في أمريكا كل ثمان ثوان.

_ مائة ألف ألمانية يضربهن أزواجهن سنوياً، ومليونا فرنسية.

_ 60% من الدعوات الهاتفية التي تتلقاها شرطة النجدة في باريس أثناء الليل_ هي نداءات استغاثة من نساء تُساء معاملتهن.

وبعد فإننا في غنى عن ذكر تلك الإحصاءات؛ لعلمنا بأنه ليس بعد الكفر ذنب.

ولكن نفراً من بني جلدتنا غير قليل لا يقع منهم الدليل موقعه إلا إذا نسب إلى الغرب وما جرى مجراه؛ فها هو الغرب تتعالى صيحاته من ظلم المرأة؛ فهل من مدكر؟

إذا لم يكن للمرء عين صحيحة

                   فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر

ومن صور تكريم الإسلام للمرأة: أن أنقذها من أيدي الذين يزدرون مكانها، وتأخذهم الجفوة في معاشرتها؛ فقرر لها من الحقوق ما يكفل راحتها، وينبه على رفعة منزلتها، ثم جعل للرجل حق رعايتها، وإقامة سياج بينها وبين ما يخدش كرامتها.

ومن الشاهد على هذا قوله _ تعالى _: [وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ](البقرة: 228).

فجعلت الآية للمرأة من الحقوق مثل ما للرجل؛ وإذا كان أمر الأسرة لا يستقيم إلا برئيس يدبره فأحقهم بالرياسة هو الرجل الذي شأنه الإنفاق عليها، والقدرة على دفع الأذى عنها.

وهذا ما استحق به الدرجة المشار إليها في قوله _ تعالى _: [وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ] وقوله : [الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ](النساء:34).

بل إن الله _ عز وجل _ قد اختص الرجل بخصائص عديدة تؤهله للقيام بهذه المهمة الجليلة.

ومن تلك الخصائص ما يلي:

أ_ أنه جُعل أصلها، وجعلت المرأة فرعه، كما قال _ تعالى _: [وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا] (النساء:1).

ب _ أنها خلقت من ضلعه الأعوج، كما جاء في قوله ": =استوصوا بالنساء فإن المرأة خلقت من ضلَع أعوج، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه؛ إن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوجاً؛ استوصوا بالنساء خيراً+.

ج _ أن المرأة ناقصة عقل ودين، كما قال ": =ما رأيت ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم منكن+ قالت امرأة: يا رسول الله، وما نقصان العقل والدين؟ قال: =أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل، وتمكث الليالي ما تصلي، وتفطر في رمضان؛ فهذا نقصان الدين+.

فلا يمكن _ والحالة هذه _ أن تستقل بالتدبير والتصرف.

د _ نقص قوَّتها، فلا تقاتل ولا يُسهَم لها.

هـ _ ما يعتري المرأة من العوارض الطبيعية من حمل وولادة، وحيض ونفاس، فيشغلها عن مهمة القوامة الشاقة.

و_أنها على النصف من الرجل في الشهادة _ كما مر _ وفي الدية، والميراث، والعقيقة، والعتق.

هذه بعض الخصائص التي يتميز بها الرجل عن المرأة.

قال الشيخ محمد رشيد رضا ×: =ولا ينازع في تفضيل اللهِ الرجلَ على المرأة في نظام الفطرة إلا جاهل أو مكابر؛ فهو أكبر دماغاً، وأوسع عقلاً، وأعظم استعداداً للعلوم، وأقدر على مختلف الأعمال+.

وبعد أن استبان لنا عظم شأن القوامة، وأنها أمر يأمر به الشرع، وتقره الفطرة السوية، والعقول السليمة _ فهذا ذكر لبعض ما قاله بعض الغربيين من الكتاب وغيرهم في شأن القوامة؛ وذلك من باب الاستئناس؛ لأن نفراً من بني جلدتنا لا يقع الدليل موقعه عندهم إلا إذا صدر من مشكاة الغرب.

أ _ تقول جليندا جاكسون حاملة الأوسكار التي منحتها ملكة بريطانيا وساماً من أعلى أوسمة الدولة، والتي حصلت على جائزة الأكاديمية البريطانية، وجائزة مهرجان مونتريال العالمي تقول: =إن الفطرة جعلت الرجل هو الأقوى والمسيطر بناءاً على ما يتمتع به من أسباب القوة التي تجعله في المقام الأول بما خصه الله به من قوة في تحريك الحياة، واستخراج خيراتها، إنه مقام الذاتية عند الرجل التي تؤهله تلقائياً لمواجهة أعباء الحياة وإنمائها، واطراد ذلك في المجالات الحياتية+.

ب _ الزعيمة النسائية الأمريكية (فليش شلافي) دعت المرأة إلى وجوب الاهتمام بالزوج والأولاد قبل الاهتمام بالوظيفة، وبوجوب أن يكون الزوج هو رب الأسرة وقائد دفتها.

ج _ وفي كتاب صدر عن حياة الكاتبة الإنجليزية المشهورة (أجاثا كريستي) ورد فيه قولها: =إن المرأة الحديثة مُغَفَّلة؛ لأن مركزها في المجتمع يزداد سوءاً يوماً بعد يوم؛ فنحن النساء نتصرف تصرفاً أحمق؛ لأننا بذلنا الجهد خلال السنين الماضية؛ للحصول على حق العمل والمساواة في العمل مع الرجل.

والرجال ليسوا أغبياء؛ فقد شجعونا على ذلك معلنين أنه لا مانع مطلقاً من أن تعمل الزوجة وتضاعف دخل الزوج.

ومن المحزن أن نجد بعد أن أثبتنا نحن النساء أننا الجنس اللطيف الضعيف أننا نعود اليوم لنساوى في الجهد والعرق الذي كان من نصيب الرجل وحده+.

د _ وتقول طبيبة نفسية أمريكية: =أيما امرأة قالت: أنا واثقة بنفسي، وخرجت دون رقيب أو حسيب فهي تقتل نفسها وعفتها+.

هذا ما يقول العقلاء من أولئك القوم، فماذا يقول العلم الحديث في ذلك الشأن؟

لقد أثبت العلم الحديث أخيراً وَهْمَ محاولات المساواة بين الرجل والمرأة، وأن المرأة لا يمكن أن تقوم بالدور الذي يقوم به الرجل؛ فقد أثبت الطبيب (د. روجرز سبراي) الحائز على جائزة نوبل في الطب _ وجود اختلافات بين مخ الرجل ومخ المرأة، الأمر الذي لا يمكن معه إحداث مساواة في المشاعر وردود الأفعال، والقيام بنفس الأدوار.

وقد أجرى طبيب الأعصاب في جامعة (بيل) الأمريكية بحثاً طريفاً رصد خلاله حركة المخ في الرجال والنساء عند كتابة موضوع معين أو حل مشكلة معينة، فوجد أن الرجال بصفة عامة يستعملون الجانب الأيسر من المخ، أما المرأة فتستعمل الجانبين معاً.

وفي هذا دليل _ كما يقول أستاذ جامعة بيل _ أن نصْفَ مُخِّ الرجل يقوم بعمل لا يقدر عليه مُخُّ المرأة إلا بشطريه.

وهذا يؤكد أن قدرات الرجل أكبر من قدرات المرأة في التفكير، وحل المشكلات.

وهذا ما اكتشفه البروفيسور ريتشارد لين من القسم السيكيولوجي في جامعة ألستر البريطانية حيث يقول: =إن عدداً من الدراسات أظهرت أن وزن دماغ الرجل يفوق مثيله النسائي بحوالي أربع أوقيات+.

وأضاف لين: =أنه يجب الإقرار بالواقع، وهو أن دماغ الذكور أكبر حجماً من دماغ الإناث، وأن هذا الحجم مرتبط بالذكاء+.

وقال: =إن أفضلية الذكاء عند الذكور تشرح أسباب حصول الرجال في بريطانيا على ضعفي ما تحصل عليه النساء من علامات الدرجة الأولى+.

وسواء صح ما قالوه أم لم يصح فإن الله _ سبحانه _ أخبرنا في كتابه بالاختلاف بين الجنسين على وجه العموم فقال _ عز وجل _: [وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى] (آل عمران: 36).

فكل ميسر لما خلق له، وكل يعمل على شاكلته.

ولا يفهم من خلال ما مضى أن ضعف المرأة ونقصها الخلْقي يعد من مساوئها بل هو من أعظم محاسنها.

قال العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ×: =ألا ترى أن الضعف الخِلْقيَّ والعجز عن الإبانة في الخصام عيب ناقص في الرجال مع أنه يعد من جملة محاسن النساء التي تجذب إليها القلوب.

قال جرير:

إن العيون التي في طرفها حور

                   قتلننا ثم لم يحيين قتلانا

يَصْرَعْن ذا اللب حتى لا حراك به

                   وهن أضعف خلق الله أركانا

وقال ابن الدمينة:

بنفسي وأهلي من إذا عرضوا له

                   ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب

فلم يعتذرْ عُذْرَ البريء ولم تزل

                   به سكتة حتى يقال مريب

فالأول تشبيب بهن بضعف أركانهن، والثاني بعجزهن عن الإبانة في الخصام كما قال _ تعالى _: [وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ] (الزخرف: 18).

ولهذا التباين في الكمال والقوة بين النوعين صح عن النبي " أنه قال: =اللعن على من تشبه منهما بالآخر+...+.

وقال × بعد أن ذكر بعض الأدلة على فضيلة الذكر على الأنثى: =فإذا عرفت من هذه أن الأنوثة نقص خلقي، وضعف طبيعي _ فاعلم أن العقل الصحيح الذي يدرك الحكم والأسرار يقضي بأن الناقص الضعيف بخلقته وطبيعته يلزم أن يكون تحت نظر الكامل في خلقته، القوي بطبيعته؛ ليجلب له ما لا يقدر على جلبه من النفع، ويدفع عنه ما لا يقدر على دفعه من الضر+.

ومن إكرام الإسلام للمرأة: أن أباح للرجل أن يعدد، فيتزوج بأكثر من واحدة، فأباح له أن يتزوج اثنتين، أو ثلاثاً، أو أربعاً، ولا يزيد عن أربع بشرط أن يعدل بينهن في النفقة، والكسوة، والمبيت، وإن اقتصر الزوج على واحدة فله ذلك.

هذا وإن في التعدد حكماً عظيمة، ومصالح كثيرة لا يدركها الذين يطعنون في الإسلام، ويجهلون الحكمة من تشريعاته، ومما يبرهن على الحكمة من مشروعية التعدد ما يلي:

1_ أن الإسلام حرم الزنا، وشدَّد في تحريمه؛ لما فيه من المفاسد العظيمة التي تفوق الحصر والعد، والتي منها: اختلاط الأنساب، وقتل الحياء، والذهاب بالشرف وكرامة الفتاة؛ إذ الزنا يكسوها عاراً لا يقف حده عندها، بل يتعداه إلى أهلها وأقاربها.

ومن أضرار الزنا: أن فيه جناية على الجنين الذي يأتي من الزنا؛ حيث يعيش مقطوع النسب، محتقراً ذليلاً.

ومن أضراره: ما ينتج عنه من أمراض نفسية وجسدية يصعب علاجها، بل ربما أودت بحياة الزاني كالسيلان، والزهري، والهربس، والإيدز، وغيرها.

والإسلام حين حرَّم الزنا وشدَّد في تحريمه فتح باباً مشروعاً يجد فيه الإنسان الراحة، والسكن، والطمأنينة ألا وهو الزواج، حيث شرع الزواج، وأباح التعدد فيه كما مضى.

ولا ريب أن منع التعدد ظلم للرجل وللمرأة؛ فمنعه قد يدفع إلى الزنا؛ لأن عدد النساء يفوق عدد الرجال في كل زمان ومكان، ويتجلى ذلك في أيام الحروب؛ فَقَصْر الزواج على واحدة يؤدي إلى بقاء عدد كبير من النساء دون زواج، وذلك يسبب لهن الحرج، والضيق، والتشتت، وربما أدى بهن إلى بيع العرض، وانتشار الزنا، وضياع النسل.

2_ أن الزواج ليس متعة جسدية فحسب: بل فيه الراحة، والسكن، وفيه _أيضاً_ نعمة الولد، والولد في الإسلام ليس كغيره في النظم الأرضية؛ إذ لوالديه أعظم الحق عليه؛ فإذا رزقت المرأة أولاداً، وقامت على تربيتهم كانوا قرة عين لها؛ فأيهما أحسن للمرأة: أن تنعم في ظل رجل يحميها، ويحوطها، ويرعاها، وترزق بسببه الأولاد الذين إذا أحسنت تربيتهم وصلحوا كانوا قرة عين لها؟ أو أن تعيش وحيدة طريدة ترتمي هنا وهناك؟!

3_ أن نظرة الإسلام عادلة متوازنة: فالإسلام ينظر إلى النساء جميعهن بعدل، والنظرة العادلة تقول بأنه لابد من النظر إلى جميع النساء بعين العدل.

إذا كان الأمر كذلك؛ فما ذنب العوانس اللاتي لا أزواج لهن؟ ولماذا لا يُنظر بعين العطف والشفقة إلى من مات زوجها وهي في مقتبل عمرها؟ ولماذا لا ينظر إلى النساء الكثيرات اللواتي قعدن بدون زواج؟

أيهما أفضل للمرأة: أن تنعم في ظل زوج معه زوجة أخرى، فتطمئن نفسها، ويهدأ بالها، وتجد من يرعاها، وترزق بسببه الأولاد، أو أن تقعد بلا زواج ألبتة؟

وأيهما أفضل للمجتمعات: أن يعدد بعض الرجال فيسلم المجتمع من تبعات العنوسة؟ أو ألا يعدد أحد، فتصطلي المجتمعات بنيران الفساد؟

وأيهما أفضل: أن يكون للرجل زوجتان أو ثلاث أو أربع؟ أو أن يكون له زوجة واحدة وعشر عشيقات، أو أكثر أو أقل؟

4_ أن التعدد ليس واجباً: فكثير من الأزواج المسلمين لا يعددون؛ فطالما أن المرأة تكفيه، أو أنه غير قادر على العدل فلا حاجة له في التعدد.

5_ أن طبيعة المرأة تختلف عن طبيعة الرجل: وذلك من حيث استعدادها للمعاشرة؛ فهي غير مستعدة للمعاشرة في كل وقت، ففي الدورة الشهرية مانع قد يصل إلى عشرة أيام، أو أسبوعين كل شهر.

وفي النفاس مانع _ أيضاً _ والغالب فيه أنه أربعون يوماً، والمعاشرة في هاتين الفترتين محظورة شرعاً، لما فيها من الأضرار التي لا تخفى.

وفي حال الحمل قد يضعف استعداد المرأة في معاشرة الزوج، وهكذا.

أما الرجل فاستعداده واحد طيلة الشهر، والعام؛ فبعض الرجال إذا منع من التعدد قد يؤول به الأمر إلى سلوك غير مشروع.

6_ قد تكون الزوجة عقيماً لا تلد: فيُحْرَمُ الزوج من نعمة الولد، فبدلاً من تطليقها يبقي عليها، ويتزوج بأخرى ولود.

وقد يقال: وإذا كان الزوج عقيماً والزوجة ولوداً؛ فهل للمرأة الحق في الفراق؟

والجواب: نعم فلها ذلك إن أرادت.

7_ قد تمرض الزوجة مرضاً مزمناً: كالشلل وغيره، فلا تستطيع القيام على خدمة الزوج؛ فبدلاً من تطليقها يبقي عليها، ويتزوج بأخرى.

8_ قد يكون سلوك الزوجة سيئاً: فقد تكون شرسة، سيئة الخلق لا ترعى حق زوجها؛ فبدلاً من تطليقها يبقي الزوج عليها، ويتزوج بأخرى؛ وفاء للزوجة، وحفظاً لحق أهلها، وحرصاً على مصلحة الأولاد من الضياع إن كان له أولاد منها.

9_ أن قدرة الرجل على الإنجاب أوسع بكثير من قدرة المرأة: فالرجل يستطيع الإنجاب إلى ما بعد الستين، بل ربما تعدى المائة وهو في نشاطه وقدرته على الإنجاب.

أما المرأة فالغالب أنها تقف عن الإنجاب في حدود الأربعين، أو تزيد عليها قليلاً؛ فمنع التعدد حرمان للأمة من النسل.

10_ أن في الزواج من ثانية راحة للأولى: فالزوجة الأولى ترتاح قليلاً أو كثيراً من أعباء الزوجية؛ إذ يوجد من يعينها ويأخذ عنها نصيباً من أعباء الزوج.

ولهذا، فإن بعض العاقلات إذا كبرت في السن وعجزت عن القيام بحق الزوج أشارت عليه بالتعدد.

11_ التماس الأجر: فقد يتزوج الإنسان بامرأة مسكينة لا عائل لها، ولا راع، فيتزوجها بنيَّة إعفافها، ورعايتها، فينال الأجر من الله بذلك.

12_ أن الذي أباح التعدد هو الله _ عز وجل _: فهو أعلم بمصالح عباده، وأرحم بهم من أنفسهم.

وهكذا يتبين لنا حكمة الإسلام، وشمول نظرته في إباحة التعدد، ويتبين لنا جهل من يطعنون في تشريعاته.

ومن إكرام الإسلام للمرأة: أن جعل لها نصيباً من الميراث؛ فللأم نصيب معين، وللزوجة نصيب معين، وللبنت وللأخت ونحوها نصيب على نحو ما هو مُفَصَّل في مواضعه.

ومن تمام العدل أن جعل الإسلام للمرأة من الميراث نصف ما للرجل، وقد يظن بعض الجهلة أن هذا من الظلم؛ فيقولون: كيف يكون للرجل مثل حظ الأنثيين من الميراث؟ ولماذا يكون نصيب المرأة نصف نصيب الرجل؟

والجواب أن يقال: إن الذي شرع هذا هو الله الحكيم العليم بمصالح عباده.

ثم أي ظلم في هذا؟ إن نظام الإسلام متكامل مترابط؛ فليس من العدل أن يؤخذ نظام، أو تشريع، ثم ينظر إليه من زاوية واحدة دون ربطه بغيره، بل ينظر إليه من جميع جوانبه؛ فتتضح الصورة، ويستقيم الحكم.

ومما يتبين به عدل الإسلام في هذه المسألة: أن الإسلام جعل نفقة الزوجة واجبة على الزوج، وجعل مهر الزوجة واجباً على الزوج _ أيضاً _.

ولنفرض أن رجلاً مات، وخلَّف ابناً، وبنتاً، وكان للابن ضعف نصيب أخته، ثم أخذ كل منهما نصيبه، ثم تزوج كل منهما؛ فالابن إذا تزوج مطالب بالمهر، والسكن، والنفقة على زوجته وأولاده طيلة حياته.

أما أخته فسوف تأخذ المهر من زوجها، وليست مطالبة بشيء من نصيبها لتصرفه على زوجها، أو على نفقة بيتها، أو على أولادها؛ فيجتمع لها ما ورثته من أبيها، مع مهرها من زوجها، مع أنها لا تُطالَب بالنفقة على نفسها وأولادها.

أليس إعطاء الرجل ضعف ما للمرأة هو العدل بعينه إذاً؟

هذه هي منزلة المرأة في الإسلام؛ فأين النظم الأرضية من نظم الإسلام العادلة السماوية، فالنظم الأرضية لا ترعى للمرأة كرامتها، حيث يتبرأ الأب من ابنته حين تبلغ سن الثامنة عشرة أو أقل؛ لتخرج هائمة على وجهها تبحث عن مأوى يسترها، ولقمة تسد جوعتها، وربما كان ذلك على حساب الشرف، ونبيل الأخلاق.

وأين إكرامُ الإسلام للمرأة، وجَعْلُها إنساناً مكرماً من الأنظمة التي تعدها مصدر الخطيئة، وتسلبها حقها في الملكية والمسؤولية، وتجعلها تعيش في إذلال واحتقار، وتعدها مخلوقاً نجساً؟

وأين إكرام الإسلام للمرأة ممن يجعلون المرأة سلعة يتاجرون بجسدها في الدعايات والإعلانات؟

وأين إكرام الإسلام لها من الأنظمة التي تعد الزواج صفقة مبايعة تنتقل فيه الزوجة؛ لتكون إحدى ممتلكات الزوج؟ حتى إن بعض مجامعهم انعقدت؛ لتنظر في حقيقة المرأة وروحها أهي من البشر أو لا؟!

وهكذا نرى أن المرأة المسلمة تسعد في دنياها مع أسرتها وفي كنف والديها، ورعاية زوجها، وبر أبنائها سواء في حال طفولتها، أو شبابها، أو هرمها، وفي حال فقرها أو غناها، أو صحتها أو مرضها.

وإن كان هناك من تقصير في حق المرأة في بعض بلاد المسلمين أو من بعض المنتسبين إلى الإسلام _ فإنما هو بسبب القصور والجهل، والبُعد عن تطبيق شرائع الدين، والوزر في ذلك على من أخطأ، والدين براء من تبعة تلك النقائص.

وعلاج ذلك الخطأ إنما يكون بالرجوع إلى هداية الإسلام وتعاليمه؛ لعلاج الخطأ.

هذه هي منزلة المرأة في الإسلام على سبيل الإجمال: عفة، وصيانة، ومودة، ورحمة، ورعاية، وتذمم إلى غير ذلك من المعاني الجميلة السامية.

أما الحضارة المعاصرة فلا تكاد تعرف شيئاً من تلك المعاني، وإنما تنظر للمرأة نظرة مادية بحتة، فترى أن حجابها وعفتها تخلف ورجعية، وأنها لابد أن تكون دمية يعبث بها كل ساقط؛ فذلك سر السعادة عندهم.

وما علموا أن تبرج المرأة وتهتكها هو سبب شقائها وعذابها.

وإلا فما علاقة التطور والتعليم بالتبرج، والاختلاط، وإظهار المفاتن، وإبداء الزينة، وكشف الصدور، والأفخاذ، وما هو أشد؟!

وهل من وسائل التعليم والثقافة ارتداء الملابس الضيقة والشفافة والقصيرة؟!

ثم أي كرامة حين توضع صور الحسناوات في الإعلانات والدعايات؟!

ولماذا لا تروج عندهم إلا الحسناء الجميلة، فإذا استنفدت السنوات جمالها وزينتها أهملت ورميت كأي آلة انتهت مدة صلاحيتها؟!

وما نصيب قليلة الجمال من هذه الحضارة؟ وما نصيب الأم المسنة، والجدة، والعجوز؟

إن نصيبها في أحسن الأحوال يكون في الملاجىء، ودور العجزة والمسنين؛ حيث لا تُزار ولا يُسأل عنها.

وقد يكون لها نصيب من راتب تقاعد، أو نحوه، فتأكل منه حتى تموت؛ فلا رحم هناك، ولا صلة، ولا ولي حميم.

أما المرأة في الإسلام فكلما تقدم السن بها زاد احترامها، وعظم حقها، وتنافس أولادها وأقاربها على برها _ كما سبق _ لأنها أدَّت ما عليها، وبقي الذي لها عند أبنائها، وأحفادها، وأهلها، ومجتمعها.

أما الزعم بأن العفاف والستر تخلف ورجعية _ فزعم باطل، بل إن التبرج والسفور هو الشقاء والعذاب، والتخلف بعينه، وإذا أردت الدليل على أن التبرج هو التخلف فانظر إلى انحطاط خصائص الجنس البشري في الهمج العراة الذين يعيشون في المتاهات والأدغال على حال تقرب من البهيمية؛ فإنهم لا يأخذون طريقهم في مدارج الحضارة إلا بعد أن يكتسوا.

ويستطيع المراقب لحالهم في تطورهم أن يلاحظ أنهم كلما تقدموا في الحضارة زادت نسبة المساحة الكاسية من أجسادهم، كما يلاحظ أن الحضارة الغربية في انتكاسها تعود في هذا الطريق القهقرى درجة درجة حتى تنتهي إلى العري الكامل في مدن العراة التي أخذت في الانتشار بعد الحرب العالمية الأولى، ثم استفحل داؤها في السنوات الأخيرة.

وهكذا تبين لنا عظم منزلة المرأة في الإسلام، ومدى ضياعها وتشردها إذا هي ابتعدت عن الإسلام.

هذه نبذة يسيرة، وصور موجزة من تكريم الإسلام للمرأة.

وإذا أردت مزيد تفصيل وعزو فارجع إلى كتاب (رسائل في الزواج والحياة الزوجية) للكاتب.

 الرسالة الرابعة عشرة: من أقوال الرافعي في المرأة (نقول من كتاب وحي القلم)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فإن الباطل ما بَرِح يحارب الحقَّ بسيوفه المفلولة، وشُبُهاته الضئيلة، ثم يرجع خائباً بغير جدوى، وقد عاد اليوم إلى جولة جديدة يتولى كبرها نفرٌ غير قليل من بني جلدتنا ومن غير بني جلدتنا، وتلك الجولة _ كسابقاتها _ تهدف إلى إضعاف سلطان الدين في القلوب، وتنحية الشريعة عن الحياة، والقضاء على البقية الباقية من كرامة المرأة المسلمة، وإلحاقها بركب المرأة الغربية.

ويزعم أولئك النفر أنهم أتوا ببضاعة جديدة هي من ثمرات قرائحهم، ونتائج أفكارهم غير مبالين بسخط الله، ولا غضب الأمة، ولا مُتَحَرِّجين مما سينطق به التاريخ مِنْ وضْع أيديهم في أيدٍ خفية لا شأن لها إلا نصبُ المكايد لأمة كان لها العزم النافذ والكلمة العُليا.

ويود الغيورون على دينهم وأمَّتهم أن يُفْرِغوا أقلامهم، ومحاضراتهم للعمل على رقي شعوبهم، وإصلاح شؤونهم، ويودُّون من صميم أفئدتهم أن يقضوا صباحهم ومساءهم في البحث عن وسائل عزتهم، وخلاصهم من التبعية لغيرهم.

ولكن نفراً جلسوا على رأس الفتنة وهي نائمة، فصاروا يهمزونها بنزق وغرور؛ ليبعثوها حية جذعة تخب في ثياب جديدة، وتصب في قوالب شتى.

ولا شأن لأولئك النفر إلا اللهج باسم حرية الفكر، ولا يقصدون من وراء ذلك إلا النيل من هداية الإسلام، والغضَّ من شأن رجالاته العظام.

ولو صُرِفَ النظر عن ناحيتهم، وترك حبلهم على غاربهم _ لهبطوا في أمتنا في خسار يهتز له قلب العدو شماتةً وفرحاً.

والنفوس التي تتزحزح عن الإيمان قيد شعرة تبتعد عن مراقي الفلاح سبعين خريفا؛ فلابد _ إذاً _ من أن نكون على مرقبة من دعايتهم، وننفق ساعاتٍ في التنبيه على أغلاطهم؛ لعلهم ينصاعون إلى رشدهم، أو لعل الأمة تحذر عاقبة هذا الذي يبدو على أفواههم.

هذا وإن دعوى تحرير المرأة وما يدور في هذا الفلك لمن أخطر تلك الدعاوى؛ ذلك أنها تمسُّ الأمة في صميمها، وتعمل عملها في سبيل القضاء عليها، وهذه الدعوى ليس بدعاً من القول يثار حديثاً، بل هي معركة قديمة قد أُثيرت ورُدَّت.

ولقد كان لحَمَلَة الأقلام من أهل الإسلام جهادٌ عظيم، وسعي مشكور في رد تلك الدعوى إبَّان قيامها؛ تلك الدعوى التي ظن أصحابها أنها الطعنة القاضية على المرأة المسلمة وكرامتها [وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً](الأحزاب:25).

ومن أبرز أولئك الأعلام الذين كان لهم القِدحُ المُعَلَّى في رد تلك الدعوى أديب الأمة، وكاتب الإسلام الكبير مصطفى صادق الرافعي؛ حيث كان × حامل أدب الأصالة في زمانه، ورافع لواء البلاغة، والدفاع عن القرآن، واللغة العربية.

وكان سهم الإسلام النافذ في صدور الداعين إلى التبرج والسفور والرذيلة، ولهذا كان خصومه يرهبونه أشد الرهبة، ويحاولون كفَّ بأسه بالثناء عليه، وجعله إماماً لأهل زمانه.

ومَنْ لا يدري ما الإيمان ولا الإخلاص قد يجيء على باله أن يشتري سكوت المؤمنين المخلصين بكلمة مديح أو إطراء.

والناظر في كتب الرافعي × يلحظ أنه أديب الأمة المسلمة، يُعبِّر بلسانها، وينطق عن ذاتها.

ولعل أبرز كتب الرافعي كتاب (وحي القلم) فهذا الكتاب آخر كتاب أنشأه، ولكنه _ كما يقول الأديب محمد سعيد العريان ضابط الكتاب ومصمم حواشيه _ أول ما ينبغي أن يُقرأ له، فهو كتاب يجمع كل خصائص الرافعي: الأدبية، والعقلية، والنفسية متميزة بوضوح في أسلوبه ومواضيعه؛ ففيه دينه وخلقه، وفيه شبابه وعاطفته، وفيه سمته ووقاره، وفيه غضبه وسخطه، وفيه فكاهته ومرحه في مجموعة فصول، ومقالات، وقصص من وحي قلمه، وفيض خاطره، فيها روعة الأدب، وسمو الفكر، وجمال البيان؛ كما أن فيه نظراتٍ في النفس، والكون، والحياة.

كما أن فيه جوانبَ عديدةً عن المرأة، وما يُكَاد لها، وما يثار حولها، وما ينبغي أن تكون عليه من العفَّة والشرف، والحجاب، والديانة، والصيانة، وحسن التَّبَعُّل للزوج، وما جرى مجرى ذلك من الأخلاق الفاضلة.

كما أن فيه تحذيراً للمرأة من الرذيلة، والتبرج، والسفور، وأمثال هذه الأخلاق المرذولة، وما تجرُّه من ويلات.

كما أن فيه مناقشاتٍ لكثير من الشبهات التي يوردها دعاة الرذيلة، كدعوى الحرية، وتحرير المرأة، ونبذ التقاليد، والسير في ركاب الغرب، ونحو ذلك.

فكان × يرد تلك الدعاوى بأساليب شتى؛ فتارة يسوق الحديث في قالب التهكم، وتارة يصبه في قالب النصح للمرأة، وتارة بمناقشة تلك الدعاوى مناقشة عقلية مقنعة، وتارة يدير الحديث على ذكر العواقب المترتبة على تلك الدعاوى، وهكذا...

ولقد يسَّر الله لي قراءة هذا الكتاب أكثر من مرة، وكنت أضع خطوطاً على بعض الكلمات التي تمر بي في هذا الشأن؛ فبدا لي أن أجمعها في كتيِّب؛ عسى الله أن ينفع بها.

وسيرى القارئ الكريم أن هذه النقول جاءت على قسمين:

القسم الأول: هو عبارة عن كلمات منتقاة من مقالات متعددة من الكتاب، وخصوصاً الجزء الأول منه.

القسم الثاني: وهو عبارة عن مقالين بكاملهما، والمقالان هما:

1_ مقال بعنوان: (احذري).

وهو عبارة عن تحذيرات عديدة أطلقها للمرأة الشرقية كي تحافظ على دينها، وعفتها، وأصالتها، وتنأى بنفسها عن دعاوى المبطلين.

2_ مقال بعنوان: (عربة اللقطاء).

ويعني بالعربة: العربة التي تُقِلُّ اللقطاء، واللقطاء: جمع لقيط وهم أولاد السِّفاح.

وهذا المقال يذكر فيه قصته لمَّا كان جالساً ذات يوم على ساحل الشاطىء، فأقبَلَت عربةٌ تُقِلُّ اللُّقطاءَ الذين أُتي بهم من الملجأ؛ ليقضوا بعض الوقت على شاطىء البحر؛ فرآهم الرافعي، فتأثَّر لمرآهم، ولأحاديثهم مع بعض الأطفال الآخرين الذين كانوا على شاطىء الساحل مع آبائهم وأمهاتهم؛ فكتب هذا المقال الرائع المؤثِّر يصور فيه ما رأى، ويُحَذِّر من خلاله من الرذيلة، ويصور ما تؤول إليه من عواقب وخيمة( ).

فهذا هو خلاصة ما في الصفحات الآتية، والله المستعان وعليه التكلان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

1_ ولكن المرأة هي التي خُلِقت لتكون للرجل مادة الفضيلة، والصبر، والإيمان، فتكون له وحياً، وإلهاماً، وعزاءاً، وقوةً، أي زيادة في سروره، ونقصاً في آلامه.

ولن تكون المرأة في الحياة أعظم من الرجل إلا بشيء واحد: هو صفاتها التي تجعل رَجُلَها أعظم منها. (2/151)

2_ شرف المرأة رأس مال للمرأة. (1/171)

3_ والمرأة لا يحميها الشرف لا يحميها شيء، وكل شريفة تعلم أن لها حياتين: إحداهما العفة.

وكما تدافع عن حياتها الهلاك تدافع السقوط عن عفتها؛ إذ هو هلاك حقيقتها الاجتماعية، وكل عاقلة تعلم أن لها عقلين: تحتمي بأحدهما من نزوات الآخر، وما عقلها الثاني إلا شرف عرضها. (1/293)

4_ وأساس الفضيلة في الأنوثة الحياء؛ فيجب أن تعلم الفتاة أن الأنثى متى خرجت من حيائها، وتهجَّمت، أي توقَّحت، أي تبذَّلت _ استوى عندها أن تذهب يميناً، أو شمالاً، وتهيَّأت لكلٍ منهما، ولأيٍّ اتفق، وصاحبات اليمين في كنف الزوج، وظلِّ الأسرة، وشرف الحياة، وصاحبات الشمال ما صاحبات الشمال؟ (1/302)

5_ انظر ما فعلت كلمة الحرية بكلمة التقاليد، وكيف أصبحت هذه الكلمة السامية من مبذوء الكلام ومكروهه حتى صارت غير طبيعية في هذه الحضارة، ثم كيف أحالتها؛ فجعلتها في هذا العصر أشهر كلمة يُتَهكَّم بها على الدين، والشرف، وقانون العُرف الاجتماعي في خوف المَعَرَّةِ والدنيئة، والتصاون من الرذائل، والمبالاة بالفضائل؛ فكل ذلك تقاليد.

وقد أخذت الفتيات المتعلمات هذه الكلمة بمعانيها تلك وأَجْرَيْنها في اعتبارهن مكروهةً وحشيةً، وأضفن إليها من المعاني حواشي أخرى، حتى ليكاد الأب والأم يكونان عند أكثر المتعلمات من (التقاليد).

أهي كلمة أبدعتها الحرية، أم أبدعها جهلُ العصر وحماقته، وفجوره، وإلحاده؟ أهي كلمة تَعَلَّقَها الفتياتُ المتعلمات لأنها لغة من اللغة، أم لأنها من لغة مَنْ يُحبِبْن.

(تقاليد)...؟ فما هي المرأة بدون التقاليد؟

إنها البلادُ الجميلةُ بغير جيش، إنها الكنز المخبوء مُعَرَّضاً لأعين اللصوص، تحوطه الغفلة لا المراقبة.

هب الناس جميعاً شرفاء متعففين متصاونين فإن معنى كلمة (كنز) متى تركت له الحرية، وأغفل من تقاليد الحراسة أوجدت حريته هذه بنفسها كلمة (لص). (1/163_164)

6_ العلم للمرأة، لكن بشروط أن يكون الأب وهيبة الأب أمراً مُقرراً في العلم، والأخ وطاعة الأخ من حقائق العلم، والزوج وسيادة الزوج شيئاً ثابتاً في العلم، والاجتماع وزواجره الدينية والاجتماعية قضايا لا ينسخها العلم.

بهذا وحده يكون النساء في كل أمة مصانعَ عمليةً للفضيلة، والكمال، والإنسانية، ويبدأ تاريخ الطفل بأسباب الرجولة التامة؛ لأنه يبدأ من المرأة التامة.

بغير هذا الشرط فالمرأة الفلاحة في حجرها طفل قذر هي خير للأمة من أكبر أديبة تخرج ذرية من الكتب. (1/169)

7_ يظنون أننا في زمن إزاحة العقبات النسائية واحدة واحدة من حرية المرأة وعِلْمها، أما أنا فأرى حرية المرأة وعلمها لا يوجدان إلا في العقبات النسائية عقبة بعد عقبة.(1/162)

8_ إن نفس الأنثى لرجل واحد؛ لزوجها وحده. (1/131)

9_ وما هو الحجاب إلا حفظ روحانية المرأة للمرأة، وإغلاء سعرها في المجتمع، وصونها من التبذل الممقوت؛ لضبطها في حدودٍ كحدود الربح في هذا القانون الصارم: قانون العرض والطلب، والارتفاع بها أن تكون سلعة بائرة ينادى عليها في مدارج الطرق والأسواق. (1/195)

10_ ولقد جاءت إلى مصر كاتبة إنجليزية، وأقامت أشهراً تخالط النساء المتحجبات، وتَدْرُسُ معاني الحجاب؛ فلما رجعت إلى بلادها كتبت مقالاً عنوانه: (سؤال أحمله من الشرق إلى المرأة الغربية) قالت في آخره: إذا كانت هذه الحرية التي كسبناها أخيراً، وهذا التنافس الجنسي، وتجريد الجنسين من الحجب المشوقة الباعثة التي أقامتها الطبيعة بينهما _ إذا كان هذا سيصبح أثره أن يتولى الرجال عن النساء، وأن يزول من القلوب كل ما يحرك أوتار الحبِّ الزواجي _ فما الذي نكون قد ربحناه؟ لقد _ والله _ تضطرنا هذه الحال إلى تغيير خططنا، بل تستقر طوعاً وراء الحجاب الشرقي؛ لنتعلم من جديدٍ فنَّ الحبِّ الحقيقي. (1/205)

11_ إن سموَّ الرجل بنفسه عن الزوجة والولد طيران إلى الأعلى، ولكنه طيران على أجنحة الشياطين، طيران بالرجل إلى فُوَّهة البركان الذي في الأعلى. (1/228)

12_ وما هو الحجاب الشرعي إلا أن يكون تربية عملية على طريقة استحكام العادة لأسمى طباع المرأة، وأخصُّها الرحمة، هذه الصفة النادرة التي يقوم الاجتماع الإنساني على نزعها والمنازعة فيها ما دامت سنةُ الحياة نزاعَ البقاء؛ فيكون البيت اجتماعاً خاصَّاً مسالماً للفرد تحفظ المرأة به منزلتها، وتؤدي فيه عملها، وتكون مَغْرَساً للإنسانية، وغارسة لصفاتها معاً. (1/196)

13_ وما كان الحجاب مضروباً على المرأة نفسها، بل على حدود الأخلاق أن تجاوز مقدارها، أو يخالطها السوء، أو يتدسس إليها؛ فكل ما أدى إلى هذه الغاية فهو حجاب، وليس يؤدي إليها شيء إلا أن تكون المرأة في دائرة بيتها، ثم إنساناً فقط فيما وراء هذه الدائرة إلى آخر حدود المعاني. (1/197)

14_ على أن هذا الذي يسميه القوم حرية ليس حرية إلا في التسمية، أما المعنى فهو كما ترى: إما شرود المرأة في التماس الرزق حين لم تجد الزوج الذي يَعُولها، أو يكفيها، ويقيم لها ما تحتاج إليه؛ فمثل هذه هي حرية النكد في عيشها، وليس بها الحرية، بل هي مستعبدة للعمل شر ما تستعبد امرأة.

وإما انطلاق المرأة في عبثاتها، وشهواتها مستجيبة لشهواتها بذلك إلى انطلاق حرية الاستمتاع بالرجال بمقدار ما يشتريه المال، أو تعين عليه القوة، أو يسوِّغه الطيش، أو يجلبه التهتك، أو تدعو إليه الفنون؛ فمثل هذه هي حرية سقوطها، وما بها الحرية، بل يستعبدها التمتع.

والثالثة حرية المرأة في انسلاخها من الدين وفضائله؛ فإن هذه المدنية قد نسخت حرام الأديان وحلالها بحرام قانوني؛ فلا مَسْقَطَة للمرأة، ولا غضاضة عليها قانوناً فيما كان يُعَدُّ من قَبْلُ خزياً أقبح الخزي، وعاراً أشد العار؛ فمثل هذه هي حرةٌ حريةَ فسادِها، وليس بها الحريةُ ولكن تستعبدها الفوضى.

والرابعة غطرسة المرأة المتعلمة، وكبرياؤها على الأنوثة والذكورة معاً، فترى أن الرجل لم يبلغ بعد أن يكون الزوج الناعم كقفاز الحرير في يدها، ولا الزوج المؤنث الذي يقول لها: نحن امرأتان؛ فهي من أجل ذلك مُطْلَقَةٌ مُخَلاَّةٌ كيلا يكون عليها سلطان، ولا إِمْرَةٌ؛ فمثل هذه حرة بانقلاب طبيعتها وزيغها، وهي مستعبدة لهوسها وشذوذها، وضلالها.

حرية المرأة في هذه المدنية أوّلها ما شئت من أوصاف وأسماء، ولكنَّ آخرها دائماً: إما ضياع المرأة، أو فساد المرأة. (1/294_295)

15_ هكذا ينبغي لنساء المسلمين في الصبر، والإباء، والقوة، والكبرياء بالنفس على الحياة كائنة ما كانت، والرضا والقناعة ومؤازرة الزوج وطاعته، واعتبار ما لهن عند الله ما لهن عند الرجل، وبذلك يرتفعن على نساء الملوك في أنفسهن، وتكون المرأة منهن وما في دارها شيء وعندها أنَّ في دارها الجنة.

وهل الإسلام إلا هذه الروح السماوية التي لا تهزمها الأرض أبداً، ولا تُذلُّها أبداً ما دام يأسها وطمعها مُعَلَّقين بأعمال النفس في الدنيا لا بشهوات الجسم من الدنيا؟ هل الرجل المسلم الصحيحُ الإسلام إلا مثل الحرب يثور حولها غبارُه، ويكون معها الشَّظَفُ، والبأس، والقوة، والاحتمال، والصبر؛ إذ كان مفروضاً على المسلم أن يكون القوةَ الإنسانية لا الضعف، وأن يكون اليقينَ الإنسانيَّ لا الشك، وأن يكون الحقَّ في هذه الحياة لا الباطل؟

وهل امرأة المسلم إلا تلك المفروض عليها أن تُمِدَّ هذه الحرب بأبطالها وعتاد أبطالها، وأخلاق أبطالها، ثم لا تكون دائماً إلا من وراء أبطالها؟

وكيف تلد البطل إذا كان في أخلاقها الضعةُ والمطامع الذليلة، والضجر، والكسل، والبلادة؟

ألا إن المرأة كالدار المبنية لا يسهل تغيير حدودها إلا إذا كانت خراباً. (1/146_147)

16_ فأكبر الشأن هو للمرأة التي تجعل الإنسان كبيراً في إنسانيته، لا التي تجعله كبيراً في حيوانيته؛ فلو كانت هذه الثانية التي يصطلح الناس على وصفها بالجمال فهي القبيحة لا الجميلة؛ إذ يجب على المؤمن الصحيح الإيمان أن يعيش فيما يَصْلُح به الناس، لا فيما يصطلح عليه الناس؛ فإن الخروج من الحدود الضيِّقة للألفاظ إلى الحقائق الشاملة هو الاستقامة بالحياة على طريقها المؤدي إلى نعيم الآخرة وثوابها. (1/155)

17_ فليس الحجاب إلا كالرمز لما وراءه من أخلاقه ومعانيه، وروحه المَعْبَدية، وهو كالصدفة لا تحجب اللؤلؤة، ولكن تُربيها في الحجاب تربية لؤلؤية؛ فوراء الحجاب الشرعي الصحيح معاني التوازن، والاستقرار، والهدوء، والاطراد، وأخلاقُ هذه المعاني وروحُها الديني القوي الذي ينشئ عجيبة الأخلاقِ الإنسانية كلها؛ أي صبر المرأة وإيثارها.

وعلى هذين تقوم قوةُ المدافعة، وهذه القوة هي تمام الأخلاق الأدبية كلها، وهي سرُّ المرأة الكاملة؛ فلن تجد الأخلاق على أتمها وأحسنها وأقواها إلا في المرأة ذات الدين، والصبر، والمدافعة. (1/197)

18_ وما تخطئ المرأة في شيء خطأها في محاولة تبديل طبيعتها، وجعلها إيجابية، وانتحالها صفات الإيجاب، وتمردها على صفات السلب. (1/197)

19_ فخروج المرأة من حجابها خروج من صفاتها؛ فهو إضعاف لها، وتضريةٌ للرجال بها، وماذا تجدي عادة الحذر إذا أفسدتها عادة الاسترسال والاندفاع؟ فيكون حذراً ليكون إغفالاً ، ثم يكون إغفالاً ليعوِّد الزلة والغلطة، ومتى رجع غلطةً فهذا أول السقوط، ومبدأ الانقلاب، والتحول.

وليس الفرق بين امرأةٍ نفورٍ من الريبة، شَمُوسٍ لا تُطلع الرجال، ولا تطعمهم، وبين امرأة قَرورٍ على الريبة، هلوكٍ فاجرةٍ _ ليس الفرق إلا حجاب الحذر أُسدل على واحدة، وانكشف عن أخرى.

وإذا قَرَّت المرأة في فضائلها فإنما هي في حجابها ودينها، وإنما ذلك الحجاب ضابط حريتها الصحيحة باعتبارها امرأة غير الرجل؛ فهو مسمى بالحجاب؛ لاتصاله بالحرية وضبطه لها.

ولكن الضعفاء الذين يعرفون ظاهراً من الرأي لا يدركون مذهبه، ولا يحققون ما ينتهي إليه، وينفذون في حكمهم على الظاهر لا على البصيرة، هؤلاء لا يعرفون معنى الحجاب إلا في القماش والكساء والأبنية كأن حجاب الأخلاق شيء يصنعه الحائك، والباني، والمستعبد، ولا تصنعه الشريعة، والأدب، والحياة الاجتماعية؛ فهم كما ترى حين يأتون بنصف العلم يأتون بنصف الجهل.

لم يخلق الله المرأة قوةَ عقل فتكون قوة إيجاب، ولكنه أبدعها قوةَ عاطفة؛ لتكون قوة سلب؛ فهي بخصائصها، والرجل بخصائصه، والسلب بطبيعته متحجِّب صابر، هادئ منتظر، ولكنه بذلك قانون طبيعي تتم به الطبيعة.

وينبغي أن يكون العلم قوةً لصفات المرأة لا ضعفاً، وزيادةً لا نقصاً؛ فما يحتاج العالَم إذا خرج صوتها في مشاكله أن يكون كصوت الرجل صيحةً في معركة، بل تحتاج هذه المشاكل صوتاً رقيقاً مؤثراً محبوباً مُجْمَعاً على طاعته كصوت الأم في بيتها. (1/198_199)

20_ أيتها الفتاة: إن صدق الحياة تحت مظاهرها لا في مظاهرها التي تكذب أكثر مما تصدق؛ فساعدي الطبيعة، واحجبي أخلاقك عن الرجل؛ لتعمل هذه الطبيعة فيه بقوتين دافعتين: منها، ومنكِ، فيسرع انقلابُه إليك وبحثه عنك.

وقد يجد الفاسق فاسقاتٍ وبغايا، ولكن الرجل الصحيح الرجولة لن يجد غيرك، وإنما سفورك وسفور أخلاقك تمكينٌ للرجل نفسه أن يُرْجِف بكِ الظن، ويسيء فيك الرأي، وعقابك على ذلك ما أنتِ فيه من الكساد والبوار؛ عقاب الطبيعة لمستقبلك بالحرمان، وعقاب أفكارك لنفسك بالألم. (1/199)

21_ ولو حدَّثتك بجملة من أخبارهن _ أي النساء المقلدات للأوربيات وما مارست منهن لتكرَّهتَ، وتسخطت، ولأيقنت أن كلمة (تحرير المرأة) إنما كانت خطأ مطبعياً، وصوابها:( تجرير المرأة). (1/204)

22_ وقد تستثقل الزوجة واجباتها بين الزوج والنسل والدار، فتغتاظ، وتشكو من هذه الرَّجرَجة اليومية في الحياة، ثم لا تعلم أن نساءً غيرَها قد انقلبت بهن الحياة في مثل الخسف بالأرض، وقد تجزع للمستقبل، وتنسى أنها في أمان شرفها، ثم لا تعلم أن نساءاً يترقَّبْن هذا الآتي كما يترقب المجرم غَدَ الجريمة من يوم فيه الشرطةُ، والنيابةُ، والمحكمة، وما وراء هذا كله. (1/291_292)

23_ وهناك حقيقة أخرى فيها العزاء كلُّ العزاء للزوجات، وهي أن الزوجة امرأة شاعرة بوجود ذاتها، والأخرى لا تشعر إلا بضياع ذاتها.

والزوجة امرأة تجد الأشياء التي تتوزع حُبَّها، وحنان قلبها؛ فلا يزال قلبها إنسانياً على طبيعته، يفيض بالحب، ويستمد من الحب.

والأخرى لا تجد من هذا شيئاً، فتنقلب وحشية القلب، يفيض قلبها برذائل، ويستمد من رذائل؛ إذ كان لا يجد شيئاً مما هيَّأته الطبيعة؛ ليتعلق به من الزوج، والدار، والنسل.

والزوجة هي امرأة خالصة الإنسانية، أما الأخرى فمن امرأة، ومن حيوان، ومن مادة مهلكة، وتمام السعادة أن النسل لا يكون طبيعياً مستقرَّاً في قانونه إلا للزوجات وحدهن؛ فهو نعمتهن الكبرى، وثواب مستقبلهن، وماضيهن، وبركتهن على الدنيا.

ومهما تكن الزوجة شقيَّة بزوجها فإن زوجها قد أولدها سعادتها، وهذه وحدها مزية ونعمة.

أما أولئك فليس لهن عاقبة؛ إذ النسل قلب لحالتهن كلها، وهو غنىً إنسانيٌّ، ولكن عندهن لا يكون إلا فقراً، وهو رحمةٌ، ولكنها لا تكون إلا لعنةً عليهنَّ، وعلى ماضيهن. (1/292)

24_ الأسرة لا تقوم على سواد عيني المرأة، وحمرة خَدَّيها، بل على أخلاقها وطباعها. (1/293)

25_ من سقوط النفس أن يغتر الشاب فتاةً حتى إذا وافق غِرَّتَها مَكَر بها بعد أن يلبسها عارَها الأبديَّ. (1/212)

26_ فإن عفاف المرأة لا تحفظه المرأة بنفسها ما لم تتهيأْ لها الوسائل والأحوال التي تعين نفسها على ذلك.

وأهم وسائلها، وأقواها، وأعظمها تشدُّد الرجال في قانون العِرْض والشرف.

فإذا تراخى الرجال ضعفت الوسائل، ومن بين هذا التراخي، وهذا الضعف تنبثق حرية المرأة متوجهة بالمرأة إلى الخير أو الشر على ما تكون أحوالها وأسبابها في الحياة.

وهذه الحرية في المدينة الأوروبية قد عوَّدت الرجال أن يَغُضُّوا، ويتسمَّحوا؛ فتهافت النساء عندهم، تنال كلٌ منهن حُكمَ قلبها، ويخضع الرجل. (1/294)

27_ والدِّين حرية القيد لا حرية الحرية؛ فأنت بعد أن تُقَيِّد رذائلك، وضراوتك وشرَّك، وحيوانيتك _ أنت من بعد هذا حرٌ ما وسعتك الأرض، والسماء، والفكر، لأنك من بعد هذا مُكَمِّل للإنسانية، مستقيم على طريقتها.

28_ إن الدين في نفس المرأة شعورٌ رقيق، ولكن هو الفولاذ السَّميك الصُّلْب الذي تُصَفَّح به أخلاقها الدافعة. (1/319)

29_ وليس من امرأةٍ إلا وقد خلق الله لها طبيعة ياقوتية، هي فطرتها الدينية التي فيها: إن بقيت لها هذه بقيت معها تلك، ولكنها حين تنخلع من هذه الفطرة تخذلها الفطرة والطبيعة معاً؛ فيجعل الله عقابها في عملها، ويَكِلُها إلى نفسها؛ فإذا هي مقبلةٌ على أغلاطها ومساوئها بطرق عقلية إن كانت عالمة، وبطرق مفضوحة إن كانت جاهلة.

وما بدٌّ أن تستسِرَّ بطباع إما فاسدة، وإما فيها قوة الاستحالة إلى الفساد، ويرجع ضميرها الخالي محاولاً أن يمتلئ من ظاهرها بعد أن كان ظاهرها هو يمتلئ من ضميرها، وتصبح المرأة بعد ذلك في حكم أسباب حياتها مصرفةً بهذه الأسباب، خاضعة لما يُصَرِّفها، ويذهب الدين، وينزل مكانه الشيطان، ويزول الاستقرار ويحل محله الاضطراب، وتنطفئ الأشعة التي كانت تذيب الغيوم، وتمنعها أن تتراكم؛ فإذا الغيوم مُلْتَفٌ بعضها على بعض، وتُخْذَل القوة السامية التي كانت تنصر المرأة على ضعفها، فتنصرها بذلك على أقوى الرجال، فإذا المرأة من الضعف إلى تهافت، تغلبها الكلمة الرقيقة، وتغتَرُّها الحيلة الواهنة، وتوافق انخداعها كلُّ رغبة مُزَيَّنة، ويستذلُّها طمعها قبل أن يستذلها الطامع فيها، ولتكن بعد ذلك من هي كائنة أصلاً، وحَسَباً، وعقلاً، وأدباً، وعلماً، وفلسفةً؛ فلو أنها امرأة من (الأسمنت المُسلَّح) لتفتَّتت بالطبيعة التي في داخلها ما دامت الطبيعة متوجهةً إلى الهدم بعد أن فقدت ما كان يمسكها أن تهدم وأن تنهدم. (1/323)

30_ فكل ما تراه من أساليب التجميل والزينة على وجوه الفتيات وأجسامهن في الطرق _ فلا تعدَّنَّه من فرط الجمال، بل من قلة الحياء. (1/302)

31_ وما أوَّلُ الدعارة إلا أن تمد المرأة طَرْفَها في غير حياء كما يمد اللصُّ يده من غير أمانة. (1/297)

32_ وهذه الزينة تتصنع بها المرأة تكاد تكون صورة المكر، والخداع، والتعقد، وكلما أسرفت في هذه أسرفت في تلك.

بل الزينة لوجه المرأة وجسمها سلاح من أسلحة المعاني كالأظافر والمخالب والأنياب، غير أن هذه لوحشية الطبيعة الحية المفترسة، وتلك لوحشية الغريزة الحية التي تريد أن تفترس. (2/63)

33_ إن الساقطة لا تنظر في المرآة أكثر ما تنظر إلا ابتغاء أن تتعهد من جمالها وجسمها مواقع نظرات الفجور، وأسباب الفتنة، وما يستهوي الرجل، وما يفسد العفة عليه؛ فكأن الساقطة، وخيالها في المرآة رجل فاسق ينظر إلى امرأة فاسقة لا امرأة تنظر إلى نفسها. (1/77)

34_ من مصائبنا نحن الشرقيين أننا لا نأخذ الرذائل كما هي، بل نزيد عليها ضعفنا فإذا هي رذائل مضاعفة. (1/204)

35_ أما الفتاة فكانت في الأكثر للزواج، فعادت للزواج في الأقل، وفي الأكثر للهو والغزل.

وكان لها في النفوس وقار الأم، وحرمة الزوجة؛ فاجترأ عليها الشبان اجتراءهم على الخليعة الساقطة.

وكانت مقصورة لا تُنال بعيب ولا يتوجَّه عليها ذمٌّ؛ فمشت إلى عيوبها بقدميها، ومشت إليها العيوبُ بأقدام كثيرة.

وكانت بجملتها امرأة واحدة، فعادت مما ترى، وتعرف، وتكابد كأن جسمها امرأة، وقلبها امرأة أخرى، وأعصابها امرأة ثالثة. (1/162_163)

المقال الأول: احذري (1/262_267).

المقال الثاني: عربة اللقطاء (1/306_313).

احذري أيتُها الشرقيةُ وبالغِي في الحذر، واجعلي أخصَّ طباعِك الحذرَ وحده.

احذري تمدّن أوربا أن يجعل فضيلَتكِ ثوباً يُوسَّعُ ويُضيَّق؛ فلُبْسُ الفضيلةِ على ذلك هو لُبْسُها وخَلْعُها.

احذري فنَّهم الاجتماعيَّ الخبيث الذي يَفْرِضُ على النساء في مجالس الرجال أن تؤدّي أجسامُهُنَّ ضريبة الفن.

احذري تلك الأنوثة الاجتماعية الظريفة؛ إنها انتهاء المرأة بغاية الظَّرف والرقة إلى . . . إلى الفضيحة.

احذري تلك النسائية( ) الغَزليَّة؛ إنها في جملتِها تَرخِيصٌ اجتماعي للحُرَّة أن... أن تُشَارِك البَغِيَّ في نصفِ عملها.

أيتها الشرقية:احذري احذري!

احذري التمدن الذي اخْتَرَعَ لقتل لَقَبِ الزوجة المقدَّس، لَقَبَ (المرأة الثانية).

واخترعَ لقتل لقبِ العذراء المقدَّس، لَقَبَ (نصف عذراء).

واخترعَ لقتل دينية معاني المرأة، كلمةَ (الأدب المكشوف).

وانتهى إلى اختراع السُّرعة في الحب؛ فاكتفى الرجل بزوجة ساعة.

وإلى اختراع استقلال المرأة، فجاء بالذي اسمُهُ (الأبُ) من الشارع، لتُلْقِي بالذي اسمُهُ (الابن) إلى الشارع.

أيتها الشرقية: احذري .. احذري!

احذري وأنت النجم الذي أضاء منذ النبوة، أن تقلدي هذه الشمعة التي أضاءت منذ قليل.

إن المرأة الشرقية هي استمرار متصل لآداب دينها الإنساني العظيم.

هي دائماً شديدة الحفاظ؛ حارسة لحوزتها؛ فإن قانون حياتها دائماً هو قانون الأمومة المقدس.

هي الطهر والعفة، هي الوفاء والأَنَفة، هي الصبر والعزيمة، هي كل فضائل الأم.

فما هو طريقها الجديد في الحياة الفاضلة، إلا طريقها القديم بعينه؟

أيتها الشرقية: احذري .. احذري!

احذري _ ويحكِ _ تقليد الأوربية التي تعيشُ في دنيا أعصابها محكومةً بقانونِ أحلامها.

لم تَعُدْ أنوثتُها حالةً طبيعيَّةً نفسيَّةً فقط، بل حالةً عقليَّةً _ أيضاً _ تَشُكُّ وتُجادل.

أنوثةٌ تَفَلْسَفَتْ فرأت الزواج نصف الكلمة فقط، والأمَّ نصف المرأة فقط.

ويا ويل المرأة حين تنفجرُ أنوثتُها بالمبالغة، فتنفجرُ بالدواهي على الفضيلة.

إنها بذلك حُرَّةٌ مساويةٌ للرجل، ولكنها بذلك ليست الأنثى المحدودة بفضيلتها.

أيتها الشرقية: احذري .. احذري!

احذري خَجَل الأوربية المترجِّلة من الإقرار بأنوثتها.

إن خَجَلَ الأنثى يجعلُ فضيلتَها تخجلُ منها.

إنه يُسقِط حياءها، ويكسو معانيها رُجُولةً غيرَ طبيعيَّة، إن هذه الأنثى المترجِّلة تنظر إلى الرجل نظرة رجل إلى أنثى، والمرأةُ تعلو بالزواج درجةً إنسانية، ولكن هذه المكذوبة تنحطُّ درجة إنسانية بالزواج.

أيتها الشرقية: احذري . . احذري!

احذري تَهَوُّس الأوربية في طلب المساواة بالرجل؛ لقد ساوتْهُ في الذهاب إلى الحلاق، ولكن الحلاق لم يجد في وجهها اللِّحْية . . .

إنها خُلِقت لتَحْبِيبِ الدنيا إلى الرجل، فكانت بمساواتها مادّة تبغيض.

العجيبُ أن سرَّ الحياة يأبى أبداً أن تَتَساوى المرأةُ بالرجلِ إلا إذا خَسِرتْه.

والأعجبُ أنها حين تخضع يرفعها هذا السر ذاته عن المساواة بالرجل إلى السيادة عليه.

أيتها الشرقية: احذري .. احذري!

 احذري أن تَخْسَري الطباع التي هي الأليقُ بأمٍّ أنجبت الأنبياء في الشرق.

أمٌّ عليها طابَعُ النفسِ الجميلة، تَنْشُرُ في كل موضعٍ جَوَّ نفسِها العالية؛ فلو صارت الحياةُ غَيماً ورعداً وبَرقاً _ لكانت هي فيها الشمسَ الطالعةَ.

ولو صارت الحياةُ قَيْظاً وحَرُوراً واختِناقاً _ لكانت هي فيها النسيمَ يَتَخَطَّر.

أمٌ لا تُبالي إلا أخلاق البُطولةِ وعزائمَها؛ لأن جَدَّاتِها ولَدْن الأبطال.

أيتها الشرقية: احذري .. احذري!

احذري هؤلاء الشبَّان المتدنين بأكثر من التمدن؛ يُبالغُ الخبيثُ في زينته، وما يدري أن زينتَه مُعْلِنَةٌ أنه إنسان من الظاهر.

ويبالغُ في عَرض رُجولتِهِ على الفتيات، يحاولُ إيقاظ المرأةِ الراقدَة في العذراء المسكينة!

ليس لامرأة فاضلة إلا رَجُلُها الواحد؛ فالرجالُ جميعاً مَصائبُها إلا واحداً.

وإذ هي خالطتِ الرجال، فالطبيعيُّ أنها تُخالط شَهَوات، ويجب أن تحذَرَ وتُبالغ.

أيتها الشرقية: احذري .. احذري!

احذري؛ فإن في كل امرأة طبائعَ شريفةً مُتَهوِّرة؛ وفي الرجال طبائع خسيسة متهوّرة.

وحقيقة الحجاب أنه الفصل بين الشرف فيه الميلُ إلى النزولِ، وبين الخِسَّةِ فيها الميل إلى الصعود.

فيكِ طبائعُ الحبّ، والحَنان، والإيثار، والإخلاص، كلما كَبِرْتِ كَبُرَتْ.

طبائع خَطِرَة، إن عملت في غير موضعها _ جاءت بعكس ما تعملُه في موضعها.

فيها كلُّ الشرفِ ما لم تنخدعْ، فإذا انخدعت فليس فيها إلا كلُّ العار.

أيتها الشرقية: احذري .. احذري!

احذري كلمة شيطانيةً تسمعينها: هي فَنِّية الجمال أو فنِّية الأنوثة، وافهميها أنتِ هكذا: واجبات الأنوثة، وواجبات الجمال.

بكلمة يكون الإحساس فاسداً، وبكلمة يكون شريفاً، ولا يَتَسَقَّط الرجل امرأةً إلا في كلمات مُزَيَّنَة مثلِها. . .

يجب أن تَتَسَلَّحَ المرأة مع نظرتها، بنظرةِ غضَب ونظرةِ احتقار.

أيتها الشرقية: احذري .. احذري!

احذري أن تُخْدَعي عن نفسك؛ إن المرأةَ أشدُّ افتقاراً إلى الشرف منها إلى الحياة.

إن الكلمة الخادعةَ إذ تقال لك، هي أخت الكلمةِ التي تقال ساعةَ إنفاذ الحكم للمحكوم عليه بالشَّنْق . . .

يَغْتَرُّونكِ بكلمات الحب والزواج والمال، كما يُقال للصاعِد إلى الشنَّاقة( ): ماذا تشتهي؟ ماذا تريد؟ الحب؟ الزواج؟ المال؟!

هذه صَلاَة الثعلب حين يَتظاهر بالتقوى أمام الدَّجاجة.

الحب؟ الزواج؟ المال؟ يا لحمَ الدَّجاجة! بعض كلماتِ الثعلب هي أنياب الثعلب.

أيتها الشرقية: احذري .. احذري!

احذري السقوط؛ إن سقوطَ المرأة لِهوْلِهِ وشدَّتهِ ثلاث مَصائبَ في سُقوطِها هي، وسقوط من أوجدها، وسقوط من تُوجِدهم!

نَوَائب الأسرةِ كلها قد يَسْتُرها البيت، إلا عارَ المرأة؛ فَيدُ العار تَقْلِب الحِيطانَ كما تقلب اليد الثوبَ فتجعل ما لا يرى هو ما يُرى.

والعار حكمٌ يُنفذه المجتمع كلُّه، فهو نَفْيٌ من الاحترام الإنساني.

أيتها الشرقية: احذري .. احذري!

احذري لو كان العار في بئر عميقة لقلبها الشيطان مِئْذنةً ووقفَ يُؤذّن عليها.

يفرَح اللعين بفضيحةِ المرأة خاصَّةً، كما يفرح أبٌ غنيٌ بمولود جديد في بيته.

واللصُّ، والقاتل، والسكِّير، والفاسق، كلُّ هؤلاء على ظاهر الإنسانية كالحرِّ والبرد.

أما المرأة حين تسقط فهذه من تحت الإنسانية هي الزلزلة.

ليس أفظعُ من الزلزلة المرتجة تشق الأرض، إلا عارَ المرأة حين يشق الأسرة.

 أيتها الشرقية: احذري .. احذري!

عربة اللقطاء ( )

جلستُ على ساحل الشاطئ في (اسكندرية) أتأمل البحر، وقد ارتفعَ الضُّحى، ولكنَّ النهارَ لَدْنٌ ناعمٌ رطيبٌ كأنَّ الفجرَ ممتدٌ فيه إلى الظُّهر.

وجاءت عَربة اللُّقَطَاء فأشرفَتْ على الساحل، وكأنها في منظرها غمَامةٌ تتحرك، إذ تَعلوها ظُلَّةٌ كبيرة في لَون الغَيْم، وهي كعَربات النقل، غيرَ أنها مُسوَّرةٌ بألواح من الخشب كجوانب النعش تُمْسك مَن فيها من الصِّغار أن يتدحرجوا منها إذ هي تدرُج وتَتَقَلْقَل.

ووقفتْ في الشارع؛ لتُنْزِل رَكْبَها إلى شاطيء البحر؛ أولئك ثلاثون صغيراً من كل سَفِيج لَقيط ومَنْبوذ، وقد انكمشوا وتَضاغَطُوا إذ لا يمكن أن تُمَطَّ العربة فَتَسعَهم، ولكن يمكن أن يُكْبَسُوا ويتداخَلُوا حتى يَشْغَلَ الثلاثة أو الأربعة منهم حَيِّزَ اثنين.

ومَنْ منهم إذا تألَّم سيذهب فيشكو لأبيه؟

وترى هؤلاء المساكينَ خَلِيطاً مُلْتَبِساً يُشْعِرك اجتماعُهم أنهم صَيْدٌ في شَبكة لا أطفالٌ في عربة، ويَدُلُّك منظرهم البائس الذليل أنهم ليسوا أولادَ أمَّهات وآباء، ولكنهم كانوا وساوِسَ آباء وأمهات.

هذه العربة يجرُّها جوادان أحدهما أدهم، والآخر كُمَيْت( ).

فلما وقفتْ لَوَى الأدهم عُنقَه والتفتَ ينظر: أيفرِغون العربةَ، أم يزيدون عليها؟

أما الكُمَيْت فحرَّك رأسه وعَلكَ لِجامَه كأنه يقول لصاحبه: إن الفكرَ في تخفيف العبء الذي تَحملُه يجعلُه أثقلَ عليك مما هو، إذ يُضيف إليه الهمَّ، والهمُّ أثقل ما حملتْ نفس؛ فما دمتَ في العملِ فلا تَتَوهَّمَنَّ الراحةَ؛ فإن هذا يُوهِن القوة، ويَخْذُلُ النشاط، ويَجْلِبُ السأم؛ وإنما رُوحُ العمل الصبر، وإنما رُوح الصبر العزم.

ورآهم الأدهم يُنْزِلون اللُّقَطَاء، فاستخفَّه الطرب، وحرَّك رأسه كأنما يسخَر بالكميت وفلسفته، وكأنما يقولُ له: إنما هو النُّزُوعُ إلى الحرية، فإن لم تكن لك في ذاتها، فلتكنْ لك في ذاتك، وإذا تعذَّرَت اللذةُ عليك، فاحتفظ بخَيالها، فإنه وُصْلَتُكَ بها إلى أن تُمكنَ وتتَسهَّل؛ ولا تجعلَنَّ كلَّ طباعِك طباعاً عاملةً كادِحةً، وإلا فأنت أداةٌ ليس فيها إلا الحياةُ كما تريدك، وليكن لك طبعٌ شاعرٌ مع هذه الطباع العاملةِ، فتكون لك الحياةُ كما تريدك وكما تريدها.

إن الدنيا شيءٌ واحدٌ في الواقع؛ ولكنَّ هذا الشيء الواحدَ هو في كل خيال دنيا وحدها.

وفي العربة امرأتان تقومان على اللقطاء؛ وكلتاهما تزويرٌ للأم على هؤلاء الأطفال المساكين.

فلما سكنت العربةُ انحدرتْ منها واحدة وقامت الأخرى تُناولُها الصغار قائلةً: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة. . . إلى أن تمَّ العدد وخلا قَفَصُ الدَّجاجِ من الدجاج؟

ومشى الأطفالُ بوجوه يتيمة، يَقرأ من يقرأ فيها أنها مُسْتَسلِمةٌ، مستكينة، معترفة أنْ لا حق لها في شيء من هذا العالم، إلا هذا الإحسانَ البخْس القليل.

جاؤوا بهم لينظروا الطبيعةَ والبحرَ والشمس، فغفل الصغار عن كل ذلك، وصرفوا أعينهم إلى الأطفال الذين لهم آباء وأُمَّهات.

وآ كبدي! أضنى الأسى كَبِدِي؛ فقد ضاق صدري بعد انفساحه، ونالني وَجَعُ الفكرِ في هؤلاء التُّعساء، وعرتني منهم علة كدس الحمى في الدم؛ وانقلبت إلى مثواي، والعربةُ وأهلها ومكانها وزمانها في رأسي.

فلما طاف بي النوم طاف كلُّ ذلك بي، فرأيتُني في موضعي ذاك، وأبصرتُ العربةَ قد وقفتْ، وتحاوَرَ الأدهم والكميت؛ فلما أفرغوها وشعر الجوادان بخفَّتها التفتا معاً، ثم جمعا رأسيهما يتحدَّثان!

قال الكميت: كنت قبل هذا أجرُّ عربة الكلاب التي يقتلها الشّرْطَةُ بالسُّم، فآخذ الموتَ لهذه الكلاب المسكينة، ثم أرجع بها موتى؛ وكنت أذهبُ وأجيء في كل مراد ومُضطرب من شوارع المدينة وأزقتها وسككها، ولا أشعر بغير الثقل الذي أجره؛ فلما ابتليت بعربة هؤلاء الصغار الذين يسمونهم اللقطاء، أحسست ثقلاً آخر وقع في نفسي وما أدري ما هو؟ ولكن يخيل إليَّ أن ظل كل طفل منهم يثقل وحده عربة.

قال الأدهم: وأنا فقد كنتُ أجرُّ عربةَ القمامةِ والأقذار، وما كان أقذَرَها وأنتَنها، ولكنها على نفسي كانت أطهرَ من هؤلاء وأنظف؛ كنت أجِدُ ريحها الخبيثةَ ما دمت أجرُّها؛ فإذا أنا تركتُ العربة استَرْوَحْتُ النَّسيم واستطعَمْت الجوّ، أما الآن فالريحُ الخبيثةُ في الزمن نفسِه، كأن هذا الزمن قد أرْوَحَ وأنتنَ منذ قُرِنْتُ بهؤلاء وعرَبتهم.

قال الكُميت: إن ابن الحيوان يستقبل الوجود بأمه؛ إذ يكون وراءها كالقطعة المتممة لها، ولا تقبل أمه إلا هذا ولا يصرفها عنه صارف، فترغم الوجود على أن يتقبل ابنها، وعلى أن يعطيه قوانينه؛ أما هؤلاء الأطفال فقد طردهم الوجود منه كما طرد الله آباءهم وأمهاتهم من رحمته؛ وقد هديت الآن إلى أن هذا هو سرُّ ما نشعر به؛ فلسنا نجرُّ للناس، ولكن للشياطين.

وهنا وقف على حُوذيّ( ) العربة صديقٌ من أصدقائه فقال: من هؤلاء يا أبا علي؟

قال الحوذي: هؤلاء ... هؤلاء يا أبا هاشم.

قال أبو هاشم: سبحان الله! أما تترك طبعك في النكتة يا شيخ؟ قال الحوذي: وهل أعرفهم أنا؟ هم بضاعة العربة والسلام: اركبوا يا أولاد، انزلوا يا أولاد، هذا كلُّ ما أسمع.

قال أبو هاشم: ولكن ما بالك ساخطاً عليهم، كأنهم أولادُ أعدائك؟

قال الحوذي: ليت شعري من يدري أيُّ رجلٍ سيخرج من هذا الطفل، وأيَّةُ امرأةٍ ستكون من هذه الطفلة؟

انظر كيف تعلقت هذه البنت وعمرها سنتان، في عنق هذا الولد الذي كان من سنتين ابن سنتين( ). . . لا أراني أحملُ في عربتي أطفالاً كالأطفال الذين تحملهم العربات إلى أبواب دورهم؛ فإن هؤلاء اللقطاء يُحملون إلى باب الملجأ، وهو بابٌ للحارات والسكك لا يأخذُ إلا منها؛ فلا يُرسل إلا إليها.

وأنا والله يا أبا هاشم، ضيِّقُ الصدر، كاسف البال من هذه المهنة؛ ويخيل إليَّ أني لا أحملُ في عربتي إلا الجنونَ، والفجورَ، والسرقةَ، والقتلَ، والدعارةَ، والسكْرَ، وعواصفَ، وزوابعَ.

قال أبو هاشم: ولكنَّ هؤلاء الأطفال مساكين، ولا ذنبَ لهم.

قال الحوذي: نعم لا ذنب لهم، غير أنهم هم في أنفسهم ذنوب؛ إنَّ كلّ واحد من هؤلاء إنْ هو إلا جريمة تُثبِتُ امتدادَ الإثم والشر في الدنيا؛ ولدتْهم أمهاتُهم لِغَيَّة( ) فقطع صاحبُه عليه وقال: وهل وَلَدْنَهُمْ إلا كما تلد سائرُ الأمهات أولادَهن؟

قال: نعم، إنه عملٌ واحد، غير أن أحوالَه في الجهتين مختلفة لا تتكافأ؛ وهل تستوي حالُ من يشتري المتاع، ومن يسرقُ المتاع؟

ها هنا باعثٌ من الشهوة قد عجز أن يسموَ سموَّه _ وما سموُّه إلا الزواج _ فَتَسَفَّل وانحطَّ، ورجِعَ فِسقاً، وعاد أَوَّلُهُ على آخره: كان أوله جُرْماً فلا يزال إلى آخره جُرْماً، ولا يزال أبداً يعودُ أولُه على آخره؛ فلما حملت المرأة وفاءتْ إلى أمرِها، وذهب عنها جنونُ الرجلِ والرجلُ معاً؛ انطوتْ للرجال على الثأر والحقد والضغينة؛ فلا يكون ابنُ العارِ إلا ابنَ هذه الشرور _ أيضاً _.

والأمهاتُ يُعددْن لأجِنَّتهن الثيابَ والأكْسِيَة قبل أن يُولدوا، ويُهيِّئْن لهم بالفكرِ آمالاً وأحلاماً في الحياة، فيُكْسِبْنَهُم في بطونهن شعورَ الفرَح، والابتهاج، وارتقابَ الحياة الهنيئة، والرغبة في السموِّ بها؛ ولكنَّ أمهات هؤلاء يُعدِدْن لهم الشوارع والأزقة منذُ البَدء، ولا تترقبُ إحداهن طولَ أشهر حملها أن يجيئها الوليد، بل أن يتركها حيَّاً أو مقتولاً؛ فيورِثْنهم بذلكَ وهم أجنَّةٌ شعورَ اللهفةِ والحسْرة والبغض والمقت، ويطبعنهم على فكرة الخطيئة والرغبة في القتل، فلا يكونُ ابنُ العار إلا ابنَ هذه الرذائل _ أيضاً _.

وتظلُّ الفاسقة مدةَ حملها تسعة أشهر في إحساس خائف، مترقب، منفرد بنفسه، منعزل عن الإنسانية، ناقم، متبرّم، متستر، منافق؛ فلو كان السَّفيحُ من أبوين كريمين لجاء ثُعباناً آدميَّاً فيه سُمُّه من هذا الإحساس العنيف.

ومتى ألقت الفاسقةُ ذا بطنها( ) قطعتْه لِتوِّه من روابط أهلِه وزمنِه وتاريخِه ورمتْ به ليموت؛ فإن هلك فقد هلك، وإن عاش لمثلِ هذه الحياة فهو موت آخرُ شرٌ من ذلك؛ ومهما يتولَّهُ الناسُ والمحسنون فلا يزالُ أوَّلُه يعود على آخره؛ مما في دمهِ وطباعه الموروثة، ولا يبرحُ جريمةً ممتدَّةً متطاولة، ولا ينفكُّ قصةً فيها زانٍ وزانيةٌ، وفيها خطيئةٌ ولَعنة.

فهؤلاء _ كما رأيتَ _ أولادُ الجُرأة على الله، والتعدي على الناس، والاستخفاف بالشرائع، والاستهزاء بالفضائل؛ وهم البغض الخارج من الحب، والوقاحة الآتية من الخجل، والاستهتارُ المنبعثُ من النَّدامة؛ وكلٌّ منهم مسألةُ شرّ تطلبُ حلَّها أو تعقيدها من الدنيا، وفيهم دماءٌ فوَّارة تجمعُ سمومها شيئاً فشيئاً كلما كبروا سنةً فسنة.

قال أبو هاشم: ألا لعنة الله على ذلك الرجل الفاسق الذي اغتر تلك المرأة فاستزلَّها وهوَّرها في هذه المَهواة، أكان حق الشهوة عليه أعظم من حق هذا الآدميّ؟ أما كان ينبغي أن يكون هذا الآخرُ هو الأول في الاعتبار، فيعلمَ أن هذا اللقيط المسكين هو سبيلُه إلى صاحبته، وهو البلاغ إلى ما يحاوله منها؛ فيكون كأنما دخل بين الاثنين ثالثٌ يراهما، فلعلهما يستحيان؟

قال الحوذيُّ الفيلسوف: لعنة الله على ذلك الرجل، ولعنات الله كلُّها، ولعناتُ الملائكة والناس أجمعين على تلك المرأة التي انقادت له واغترت به، إن الرجل ليس شيئاً في هذه الجريمة، فقد كانت بصقةٌ واحدةٌ تُغرقُه، وكانت صفعةٌ واحدةٌ تهزمه، وكان مع المرأة الحكومةُ والشرائعُ والفضائلُ، ومعها جهنمُ _ أيضاً _.

ألم تعلم الحمقاء أن الرجلَ الذي ليس زوجاً لها ليس رجلاً معها، وأن الشريعة لو أيقنت أنه رجلٌ لما حرمت عليها أن تخالطه؟ إنه ليس الرجلُ هو الذي ساور هذه المرأة، بل مادةُ الحياة التي رأت في المرأة مُستودعها، فتريد أن تقتحم إلى مقرها عنوةً أو خداعاً أو رضىً أو كما يتفق؛ إذ كان قانون هذه المادة أن توجد، ولا شيء إلا أن توجد؛ فلا تعرفُ خيراً ولا شرَّاً ، ولا فضيلةً ولا رذيلة.

لأيهما يجبُ التحصين: أللصاعقة المُنقضَّة، أم للمكان الذي يُخشى أن تنقضَّ عليه؟

لقد أجابت الشريعةُ الإسلامية: حصنوا المكان، ولكن المدنية أجابت: حصِّنوا الصاعقة!

وكانت المرأتان المصاحبتان لجماعة اللُّقطاء تتناجيان، فقالت الكبرى منهما: يا حسرتا على هؤلاء الصغار المساكين! إن حياة الأطفال فيما فوق مادة الحياة، أي في سرورهم وأفراحهم، وحياةُ هؤلاء البائسين فيما هو دون مادة الحياة، أي في وجودهم فقط.

وكِبَرُ الأطفال يكون منه إدخالهم في نظام الدنيا، وكِبَرُ هؤلاء إخراجهم من (الملجأ) وهو كلُّ النظام في دنياهم، ليس بعده إلا التشريدُ، والفقرُ، وابتداء القصة المحزنة.

فقالت الصُّغرى: ولم لا يفرحون كأولاد الناس، أليست الطبيعةُ لهم جميعاً، وهل تجمع الشمسُ أشعتها عن هؤلاء لتُضاعفها لأولئك؟

قالت الأخرى: الطبيعة؟ تقولين الطبيعة؟ إنك يا ابنتي عذراء لم تبدأ في حياتك حياةٌ بعد، ولم تجاوبي بقلبك القلبَ الصغير الذي كان تحت قلبك تسعة أشهر؛ وإنما أنتِ مع هؤلاء (موظَّفة) لا تعرفين منهم إلا جانب النظام وقانونَ الملجأ.

لقد ولدتُ يا ابنتي خمسة أطفال، وبالعين البليغة التي أنظرُ بها إليهم أنظر إلى هؤلاء، فما أراهم إلا منقطعين من صلة القلب الإنساني: يعبسُ لهم حتى الجوّ، وُيظلم عليهم حتى النور، ويبدو الطفل منهم على صِغَرِه كأنه يحملُ الغمَّ المقبل عليه طولَ عمره.

يا لهفي على عودٍ أخضرَ ناعمٍ ريَّانَ كان للثَّمر فقيل له: كن للحطب!

الفرحُ يا ابنتي هو شعورُ الحيّ بأنه حيٌّ كما يهوى، ورؤيتُه نفسه على ما يشاء في الحياة الخاصة به.

وهؤلاء اللقطاء في حياة عامَّة قد نُزعت منها الأمُّ والأبُ والدارُ، فليس لهم ماض كالأطفال، وكأنهم يبدؤون من أنفسهم لا من الآباء والأمهات.

قالت الصغيرة: ولكنهم أطفال.

قالت تلك: نعم يا ابنتي هم أطفال، غير أنهم طُردوا من حقوق الطفولة كما طُردوا من حقوق الأهل، وحسبُك بشقاء الطفل الذي لم يعرف من حنان أمه إلا أنها تقتله، ولا من شفقتها إلا أنها طرحته في الطريق.

إن الطبيعة كلَّها عاجزة أن تعطي أحدهم مكاناً كالموضع الذي كان يتبوَّؤُه بين أمه وأبيه.

ليس الأطفالُ يا ابنتي إلا صوراً مُبهمةً صغيرةً من كل جمال العالم، تفسِّرها أعينُ ذويهم بكل التفاسير القلبية الجميلة؛ فأين أين العيونُ التي فيها تفسيرُ هذه الصُّور اللقيطة؟

ألا لعنة الله والملائكة والناس أجمعين على أولئك الرجال الأنذالِ الطّغام الذين أولدوا النساء هؤلاء المنبوذين! يزعمون لأنفسهم الرجولة، فهذه هي رجولتهم بين أيدينا، هذه هي شهامتهم، هذه هي عقولهم، هذه هي آدابُهم!

عجباً، إن سيِّئات اللصوص والقتلةِ كلها يُنسى ويتلاشى، ولكنَّ سيئات العشاق والمحبين تعيش وتكبر.

أكان ذنبُ المرأة أنها صادقة فصدَّقتْ، وأنها مُخْلِصة فأخلصتْ، وأنها رقيقة فلانت، وأنها مُحسنة فرَحمتْ، وأنها سليمة القلب فانخدعت؟

وآ كبدي للمسكينة! هل انخدعتْ إلا من ناحيةِ الأمومة التي خُلقت لها؟ هل انخدعتْ إلا الأمُّ التي فيها؟ وهل خدعها من ذلك اللئيم إلا الأب الذي فيه؟

وآ كبدي لمن تُفْجع بالنكبة الواحدة ثلاث فجائع: في كرامتها التي ابتُذِلتْ، وفي الحبيب الذي تبرَّأ منها، وفي طفلها الذي قطعته بيدها من قلبها، وتركته لما كتب عليه!

إن هذا لا يُعوّضُه في الطبيعة إلا أن يكون لكل رجل من أولئك الأنذال ثلاث ُ أرواح، فيُقتل ثلاثَ مرات: واحدةً بالشنق، والثانيةَ بالحرق، والثالثةَ بالرَّجْم بالحجارة.

وكان اللقطاء قد تَبَعْثروا على الساحل جَماعاتٍ وَشتَّى، فوقف أحدهم على طفل صغير يلعبُ بما بين يديه، وأمُّه على كَثَب منه، وهي تتلهَّى بالمخرَّم تتلوَّى فيه أصابعُها.

فنظر الطفلُ إلى اللقيط وأومأ إلى جماعته ثم قال له: أأنتم جميعاً أولاد هاتين المرأتين أم أحدهما؟ قال اللقيط: هما المراقِبَتَان؛ وأنتَ أفليستْ هذه التي معك مراقِبة؟ قال الطفل: ما معنى مُراقبة؟ هذه ماما! قال الآخر: فما معنى ماما؟ هذه مُراقبة.

قال الطفل: وكلكم أهلُ دار واحدة؟ قال: نحن في الملجأ، ومتى كبرنا أخذونا إلى دورنا.

فقال الطفل: وهل تبكي في الملجأ إذا أردت شيئاً ليعطوك؛ ثم تغضبُ إذا أعطوك ليزيدوك؟ وهل يُسكتونك بالقرش والحلوى؟ والقبلة على هذا الخد وعلى هذا الخد؟ إن كان هذا فأنا أذهبُ معكم إلى الملجأ؛ فإن أبي قد ضربني اليوم، وقد أمر (ماما) أن لا تعطيني شيئاً إذا بكيت، ولا تزيدني إذا غضبت، ولا...

وهنا صاحت المراقبة الصغيرة: تعال يا رقْم عشرة.

فلَوَى اللقيطُ المسكين ُ وجهه، وانصاعَ وأدبر.

ومشى الأطفال بوجوه يتيمة، يقرأ من يقرأ فيها أنها مستسلمةٌ، مستكينةٌ، معترفة أن لا حق لها في شيء من هذا العالمِ إلا هذا الإحسان البخس القليل.

 الرسالة الخامسة عشر من مفاسد الزنا

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:

فالزنا فسادٌ كبير، وشرٌ مستطير، له آثار كبيرة، وتنجم عنه أضرار كثيرة، سواء على مرتكبيه، أو على الأمة بعامة.

وبما أن الزنا يكثر وقوعه، وتكثر الدواعي إليه، فهذه نبذة عن آثاره ومفاسده، وآفاته وأضراره:

1_ الزنا يجمع خِلالَ الشرّ كلها: من قلة الدين، وذهاب الورع، وفساد المروءة، وقلة الغيرة، ووأد الفضيلة.

2_ أنه يقتل الحياء، ويلبس وجه صاحبه رقعة من الصفاقة والوقاحة.

3_ سواد الوجه وظلمته، وما يعلوه من الكآبة والمقت الذي يبدو للناظرين.

4_ ظلمة القلب، وطمس نوره.

5_ الفقر اللازم لمرتكبيه، وفي أثر يقول الله _ تعالى _: =أنا مهلك الطغاة، ومفقر الزناة+.

6_ أنه يذهب حرمة فاعله، ويسقطه من عين ربه وأعين عباده، ويسلب صاحبه اسم البر، والعفيف، والعدل، ويعطيه اسم الفاجر، والفاسق، والزاني، والخائن.

7_ الوحشة التي يضعها الله في قلب الزاني، وهي نظير الوحشة التي تعلو وجهه؛ فالعفيف على وجهه حلاوة، وفي قلبه أنس، ومَنْ جالسه استأنس به، والزاني بالعكس من ذلك تماماً.

8_ أن الناس ينظرون إلى الزاني بعين الريبة والخيانة، ولا يأمنه أحد على حرمته ولا ولده.

9_ ومن أضراره الرائحة التي تفوح من الزاني، يشمُّها كل ذي قلب سليم، تفوح مِنْ ِفِيْهِ، ومن جسده.

10_ ضيقة الصدر وحرجه؛ فإن الزناة يعاملون بضد قصودهم؛ فإن من طلب لذة العيش وطيبه بمعصية الله عاقبه الله بنقيض قصده؛ فإن ما عند الله لا يُنال إلا بطاعته، ولم يجعل الله معصيته سبباً إلى خيرٍ قَطُّ.

ولو علم الفاجر ما في العفاف من اللذة والسرور، وانشراح الصدر، وطيب العيش _ لرأى أن الذي فاته من اللذة أضعافُ أضعاف ما حصل له.

11_ الزاني يعرض نفسه لفوات الاستمتاع بالحور العين في المساكن الطيبة في جنات عدن.

12_ الزنا يجرئ على قطيعة الرحم، وعقوق الوالدين، وكسب الحرام، وظلم الخلق، وإضاعة الأهل والعيال، وربما قاد إلى سفك الدم الحرام، وربما استعان عليه بالسحر والشرك وهو يدري أو لا يدري؛ فهذه المعصية لا تتم إلا بأنواع من المعاصي قبلها ومعها، ويتولد عنها أنواع أخر من المعاصي بعدها؛ فهي محفوفة بجند من المعاصي قبلها، وجند بعدها، وهي أجلب شيء لشرِّ الدنيا والآخرة، وأمنع شيء لخير الدنيا والآخرة.

13_ الزنا يذهب بكرامة الفتاة، ويكسوها عارًا لا يقف عندها، بل يتعداها إلى أسرتها؛ حيث تدخل العار على أهلها، وزوجها، وأقاربها، وتنكس به رؤوسهم بين الخلائق.

14_ أن العار الذي يلحق من قُذف بالزنا أعلق من العار الذي ينجر إلى من رمي بالكفر وأبقى؛ فإن التوبة من الكفر على صدق القاذف تذهب رجسه شرعًا، وتغسل عاره عادةً، ولا تبقي له في قلوب الناس حطة تنزل به عن رتبة أمثاله ممن ولدوا في الإسلام، بخلاف الزنا؛ فإن التوبة من ارتكاب فاحشته _ وإن طهرت صاحبها تطهيراً، ورفعت عنه المؤاخذة بها في الآخرة _ يبقى لها أثر في النفوس، ينقص بقدره عن منزلة أمثاله ممن ثبت لهم العفاف من أول نشأتهم.

وانظر إلى المرأة ينسب إليها الزنا كيف يتجنب الأزواج نكاحها وإن ظهرت توبتها؛ مراعاة للوصمة التي ألصقت بعرضها سالفًا، ويرغبون أن ينكحوا المشركة إذا أسلمت رغبتهم في نكاح الناشئة في الإسلام.

15_ إذا حملت المرأة من الزنا، فقتلت ولدها جمعت بين الزنا والقتل، وإذا حملته على الزوج أدخلت على أهلها وأهله أجنبيًا ليس منهم، فورثهم ورآهم وخلا بهم، وانتسب إليهم وهو ليس منهم إلى غير ذلك من مفاسد زناها.

16_ أن الزنا جناية على الولد؛ فإن الزاني يبذر نطفته على وجه يجعل النسمة المخلَّقة منها مقطوعة عن النسب إلى الآباءِ، والنسبُ معدودٌ من الروابط الداعية إلى التعاون والتعاضد؛ فكان الزنا سبباً لوجود الولد عارياً من العواطف التي تربطه بأدنى قربى يأخذون بساعده إذا زلَّت به نَعْلُهُ، ويتقوى به اعتصابهم عند الحاجة إليه.

كذلك فيه جناية عليه، وتعريض به؛ لأنه يعيش وضيعاً في الأمة، مدحوراً من كل جانب؛ فإن الناس يسخفون بولد الزنا، وتنكره طبائعهم، ولا يرون له من الهيئة الاجتماعية اعتبارًا؛ فما ذنب هذا المسكين؟ وأي قلب يحتمل أن يتسبب في هذا المصير؟!

17- زنا الرجل فيه إفساد المرأة المصونة، وتعريضها للفساد والتلف.

18_ الزنا يهيج العداوات، ويذكي نار الانتقام بين أهل المرأة وبين الزاني؛ ذلك أن الغيرة التي طبع عليها الإنسان على محارمه تملأ صدره عند مزاحمته على موطوءته، فيكون ذلك مظنة لوقوع المقاتلات وانتشار المحاربات؛ لما يجلبه هتك الحرمة للزوج وذوي القرابة من العار والفضيحة الكبرى، ولو بلغ الرجل أن امرأته أو إحدى محارمه قتلت كان أسهل عليه من أن يبلغه أنها زنت.

قال سعاد بن عبادة ÷: =لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح+.

فبلغ ذلك رسول الله " فقال: =أتعجبون من غيرة سعد ! والله لأنا أغير منه، والله أغير مني؛ ومن أجل غيرة الله حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن+ أخرجه البخاري ومسلم.

19_ للزنا تأثير على محارم الزاني؛ فشعور محارمه بتعاطيه هذه الفاحشة يُسْقِطُ جانباً من مهابتهن له _ كما مرَّ _ ويسهل عليهن بذل أعراضهن _ إن لم يكن ثوبُ عفافهن منسوجاً من تربية دينية صادقة _.

بخلاف من ينكر الزنا ويتجنبه، ولا يرضاه لغيره؛ فإن هذه السيرة تكسبه مهابة في قلوب محارمه، وتساعده على أن يكون بيته بيتاً طاهراً عفيفاً.

20_ للزنا أضرار جسيمة على الصحة يصعب علاجها والسيطرة عليها، بل ربما أودت بحياة الزاني، كالإيدز، والهربس، والزهري، والسيلان ونحوها.

21_ الزنا سبب لدمار الأمة؛ فلقد جرت سنة الله في خلقه أنه عند ظهور الزنا يغضب الله _ عز وجل _ ويشتد غضبه، فلابد أن يؤثر غضبه في الأرض عقوبة.

قال ابن مسعود ÷: =ما ظهر الربا والزنا في قرية إلا أذن الله بإهلاكها+.

ومما يدل على عظم شأن الزنا أن الله _ سبحانه _ خصَّ حدَّه من بين الحدود بخصائص، قال ابن القيم ×: =وخصَّ سبحانه حدَّ الزنا من بين الحدود بثلاث خصائص :

أحدها: القتل فيه بأشنع القتلات، وحيث خففه جمع فيه بين العقوبة على البدن بالجلد، وعلى القلب بتغريبه عن وطنه سنة.

الثاني: أنه نهى عباده أن تأخذهم بالزناة رأفة في دينه؛ بحيث تمنعهم من إقامة الحد عليهم، فإنه _ سبحانه _ من رأفته بهم شرع هذه العقوبة؛ فهو أرحم بهم، ولم تمنعه رحمته من أمره بهذه العقوبة؛ فلا يمنعكم أنتم ما يقوم بقلوبكم من الرأفة من إقامة أمره.

وهذا _ وإن كان عاماً في سائر الحدود _ ولكنْ ذُكر في حد الزنا خاصةً؛ لشدة الحاجة إلى ذِكْره؛ فإن الناس لا يجدون في قلوبهم من الغلظة والقسوة على الزاني ما يجدونه على السارق والقاذف وشارب الخمر؛ فقلوبهم ترحم الزاني أكثر مما ترحم غيره من أرباب الجرائم، والواقع شاهد بذلك؛ فنهوا أن تأخذهم هذه الرأفة وتحملهم على تعطيل حد الله.

وسبب هذه الرحمة: أن هذا ذنب يقع من الأشراف، والأوساط، والأرذال، وفي النفوس أقوى الدواعي إليه، والمشارك فيه كثير، وأكثر أسبابه العشق، والقلوب مجبولة على رحمة العاشق، وكثير من الناس يعد مساعدته طاعة وقربة، وإن كانت الصورة المعشوقة محرمةً عليه، ولا يُستنكر هذا الأمر؛ فإنه مستقر عند من شاء الله من أشباه الأنعام.

ولقد حكي لنا من ذلك شيء كثير عن ناقصي العقول كالخدم والنساء.

وأيضاً فإن هذا ذنب غالباً ما يقع مع التراضي من الجانبين؛ ولا يقع فيه من العدوان والظلم والاغتصاب ما تنفر النفوس منه، وفيها شهوة غالبة له، فيصور ذلك لها، فتقوم بها رحمة تمنع من إقامة الحد، وهذا كله من ضعف الإيمان.

وكمال الإيمان: أن تقوم به قوة يقيم بها أمر الله، ورحمةٌ يرحم بها المحدود؛ فيكون موافقاً لربِّه _ تعالى _ في أمره ورحمته.

الثالث: أنه _ سبحانه _ أمر أن يكون حدهما بمشهد من المؤمنين، فلا يكون في خلوة بحيث لا يراهما أحدٌ، وذلك أبلغ في مصلحة الحد، وحكمة الزجر+ا. هـ.

ومما يحسن التنبيه عليه في هذا الشأن: أن فاحشة الزنا تتفاوت بحسب مفاسدها؛ فالزاني والزانية مع كل أحد أشد من الزنا بواحدة أو مع واحد، والمجاهر بما يرتكب أشد من الكاتم له، والزنا بذات الزوج أشد من الزنا بالتي لا زوج لها؛ لِمَا فيه من الظلم، والعدوان عليه، وإفساد فراشه، وقد يكون هذا أشد من مجرد الزنا أو دونه.

والزنا بحليلة الجار أعظم من الزنا ببعيدة الدار؛ لما يقترن بذلك من أذى الجار، وعدم حفظ وصية الله ورسوله ".

وكذلك الزنا بامرأة الغازي في سبيل الله أعظم إثماً عند الله من الزنا بغيرها، ولهذا يقال للغازي خذ من حسنات الزاني ما شئت.

وكذلك الزنا بذوات المحارم أعظم جرماً، وأشنع، وأفظع؛ فهو الهلاك بعينه.

وكما تختلف درجات الزنا بحسب المزني بها، فكذلك تتفاوت درجاته بحسب الزمان والمكان، والأحوال؛ فالزنا في رمضان ليلاً أو نهاراً أعظم إثماً منه في غيره.

وكذلك في البقاع الشريفة المفضلة هو أعظم منه فيما سواها.

وأما تفاوته بحسب الفاعل: فالزنا من المحصن أقبح من البكر، ومن الشيخ أقبح من الشاب، ومن العالم أقبح من الجاهل، ومن القادر على الاستغناء أقبح من الفقير العاجز.

وقد يقترن بالفاحشة من العشق الذي يوجب اشتغال القلب بالمعشوق، وتأليهه، وتعظيمه، والخضوع له، والذل له، وتقديم طاعته وما يأمر به على طاعة الله، ومعاداة من يعاديه، وموالاة من يواليه _ ما قد يكون أعظم ضرراً من مجرد ركوب الفاحشة.

كيفية التوبة من الزنا:

وبعد أن تبين عظم جرم الزنا، وآثاره المدمرة على الأفراد والأمة؛ فإنه يحسن التنبيه على وجوب التوبة من الزنا، فيجب على من وقع في الزنا، أو تسبب في ذلك، أو أعان عليه أن يبادر إلى التوبة النصوح، وأن يندم على ما مضى، وألا يرجع إليه إذا تمكن من ذلك.

ولا يلزم من وقع في الزنا رجلاً كان أو امرأة أن يسلم نفسه، ويعترف بجرمه؛ ليقام عليه الحد، بل يكفي في ذلك أن يتوب إلى ربِّه، وأن يستتر بستره _ عزَّ وجل_.

وإن كان عند الزاني صورٌ لمن كان يفجر بها، أو تسجيل لصوتها أو لصورتها فليبادر إلى التخلص من ذلك، وإن كان أعطى تلك الصور أو ذلك التسجيل أحداً من الناس فليسترده منه، وليتخلص منه بأي طريقة.

وإن كانت المرأة قد وقع لها تسجيل أو تصوير وخافت أن ينتشر أمرها _ فعليها أن تبادر إلى التوبة، وألا يكون ذلك معوقاً لها عن الإقبال على ربها، بل يجب عليها أن تتوب، وألا تستسلم للتهديد والترهيب؛ فإن الله كافيها ومتوليها، ولتعلم أن من يهددها جبان رعديد، وأنه سوف يفضح نفسه إن هو أقدم على نشر ما بيده.

ثم ماذا يكون إذا هو نفذ ما يهدد به؟ أيهما أسهل: فضيحة في الدنيا ويعقبها توبة نصوح، وتنتهي بنهاية الحياة؟ أو فضيحة على رؤوس الأشهاد يوم القيامة ثم يعقبها دخول النار وبئس القرار؟

ومما ينفع في هذا الصدد إن هي خافت من نشر أمرها: أن تستعين برجل رشيد من محارمها؛ ليعينها على التخلص مما وقعت فيه؛ فربما كان ذلك الحل ناجعًا مفيداً.

فإن على مَنْ وقع في ذلك الجرم أن يبادر إلى التوبة النصوح، وأن يقبل على ربِّه بكليته، وأن يقطع علاقته بكل ما يذكره بتلك الفعلة، وأن ينكسر بين يديه مخبتاً منيباً، عسى أن يقبله، ويغفر سيئاته، ويبدلها حسنات، [وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً (69) إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70)] (الفرقان).

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

 الرسالة السادسة عشر لطائف في تفاضل الأعمال لصالحة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد: فإن الله _ عز وجل _ خلق الخلق لعبادته، وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته، ولقد افترض عليهم فرائض، وأوجب عليهم واجبات، ونهاهم عن محرمات.

كما أنه _ عز وجل _ سنَّ لهم سنناً، وندبهم إلى مستحبات، ورغَّبهم في ترك مكروهات.

أما الفرائض الواجبة فهي أحب الأعمال إلى الله، وأعظم ما يقرب إليه، وهي معروفة محددة بالنص، ويعظم أجرها ويتضاعف بحسب تكميلها، وإيقاعها على أحسن الوجوه.

وأما السنن والمستحبات فكثيرة جداً، سواء كانت أفعالاً أو تروكاً، وهي التي تسدُّ ثلم الفرائض، وتكمِّلها، وتجبر نقصها.

كما أنها من أعظم ما يُنال به محبةُ الله _ عز وجل _ ومن هذه الأعمال ما هو فروض كفايات إذا قام به بعض الأمة سقط الإثم عن الباقي، وإن تُركت وعطِّلت كان الإثم على الأمة كلها.

وأما المنهيات فكثيرة متنوعة، سواء كان النهي للتحريم أو الكراهة؛ فإن كانت محرمة أَثِم العبد بفعلها، وإن كانت مكروهة أُجِر بتركها.

ولا ريب أن المسلم بحاجة إلى ما يزيده قرباً من ربه، وأن الأمَّة بحاجة إلى كل عمل من شأنِه رفعُ رايةِ الإسلامِ، وإعزازُ أهله.

وإن من نعم الله _ عز وجل _ أن كثرت طرقُ الخير، وتعددت السبل الموصلة إليه.

وهذا الموضوع يبحث في معرفة أفضل الأعمال، ومراتبها، وتفاوتها، ومقاصدها، وأجناسها، وما يناسب كل حال، ووقت، وشخص.

كما أنه يبحث في مسألة العزلة والخلطة، ويبحث في فضيلة الأعمال في نفسها، وفضيلته العارضة إلى غير ذلك مما سيرد ذكره _ إن شاء الله _.

وهذا الباب العظيم باب لطيف من أبواب العلم والعمل؛ إذ هو يفتح للعبد أبواباً كثيرة من الخير، ويغلق عنه أبواباً لا تحصى من الشر، ويدعوه إلى تنزيل الأعمال منازلها، وأن يجعل لكل مقام ما يليق به.

كما أنه سبيل لتحصيل الأجور العظيمة في الأعمال؛ بل إنه يفتح آفاقاً كثيرة من الخير، وينهض بالأفراد إلى أعلى مقامات العبادة، ويصعد بالأمة إلى أرقى درجات السيادة، ويُتَوصَّل من خلاله إلى الإفادة من كل شخص مهما قلَّت إمكاناتُه، ومن كل فرصة ووسيلة ما دامت جارية على مقتضى الشرع.

وكم حصل من الجهل أو التفريط بهذا الأصل من ضياع الفرص، وحرمان الأمة من خير عظيم، وطاقات كثيرة.

ولقد جاءت نصوص الشرع متظاهرة متضافرة في بيان هذا الأصل، كما أن العلماء قد بينوه، وجلُّوه غاية الجلاء.

والحديث في الصفحات الآتية إنما هو جمع لبعض ما تيسر في هذا الباب، والله المستعان وعليه التكلان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

عن أبي هريرة ÷قال: قال رسول الله ": =إن الله _ تعالى _ قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه+( ).

قال ابن رجب × في شرح هذا الحديث: وقوله: =وما تقرب إليَّ عبدي...+ لما ذكر أن معاداةَ أوليائهِ محاربةٌ له ذكر بعد ذلك وصف أوليائه الذين تَحْرُم معاداتُهم، وتجِب موالاتُهم؛ فذكر ما يتقرب به إليه، وأصل الولاية: القرب، وأصل العداوة: البعد؛ فأولياء الله هم الذين يتقربون إليه بما يقربهم منه، وأعداؤه الذين أبعدهم عنه بأعمالهم المقتضية لطردهم، وإبعادهم، فَقَسم أولياءه المقربين إلى قسمين:

أحدهما: مَنْ تقرَّب إليه بأداء الفرائض، ويشمل ذلك فعل الواجبات، وترك المحرمات؛ لأن ذلك كله من فرائض الله التي افترضها على عباده.

والثاني: مَنْ تقرَّب إليه بعد الفرائض بالنوافل؛ فظهر بذلك أنه لا طريق يوصل إلى التقرب إلى الله _ تعالى _ وولايته، ومحبته سوى طاعته التي شرعها على لسان رسوله "؛ فمن ادعى ولاية الله، والتقرب إليه، ومحبته بغير هذه الطريق تبين أنه كاذب في دعواه+.

إلى أن قال ×: =فلذلك ذكر في هذا الحديث أن أولياء الله على درجتين:

أحدهما: المتقربون إليه بأداء الفرائض، وهذه درجة المقتصدين أصحاب اليمين.

والدرجة الثانية: درجة السابقين المقربين، وهم الذين تقربوا إلى الله بعد الفرائض بالاجتهاد في نوافل الطاعات،والانكفاف عن دقائق المكروهات بالورع، وذلك يوجب للعبد محبة الله+.

وبهذا يتبين لنا أن الفرائض التي افترضها الله _ عز وجل _ هي أفضل الأعمال الصالحة.

لقد تكلم علماء السلف في هذه المسألة، ولا تكاد تجد في أقوالهم حول تحديد أفضل الأعمال فروقاً جلية واضحة.

وإنما هي أقوال متقاربة، قد تكون من باب اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد، ومن باب النظر إلى اختلاف الأحوال والأشخاص.

جاء في مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية × سؤال لأبي القاسم المغربي يقول فيه: =يتفضل الشيخ الإمام بقية السلف، وقدوةُ الخلف، أعلمُ من لقيت ببلاد المشرق والمغرب، تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية بأن يوصيني بما يكون فيه صلاح ديني ودنياي ويرشدني إلى كتاب يكون عليه اعتمادي في علم الحديث، وكذلك في غيره من العلوم الشرعية، وينبهني على أفضل الأعمال الصالحة بعد الواجبات، ويبين لي أرجح المكاسب، كل ذلك على قصد الإيماء، والاختصار، والله _ تعالى _ يحفظه، والسلام الكريم عليه ورحمة الله وبركاته+.

فأجابه شيخ الإسلام ابن تيمية × إجابة مطولة تعرف بالوصية الصغرى.

ومما جاء فيها مما نحن بصدده وهو الحديث عن أفضل الأعمال بعد الفرائض قولُه: =وأما ما سألت عنه من أفضل الأعمال بعد الفرائض فإنه يختلف باختلاف الناس، وما يناسب أوقاتهم؛ فلا يمكن فيه جوابٌ جامعٌ مفصَّل لكل أحد.

لكن مما هو كالإجماع بين العلماء بالله وأمره أن ملازمة ذكر الله دائماً هو أفضل ما شغل العبد به نفسه في الجملة.

وعلى ذلك دل حديث أبي هريرة: =سبق المفرِّدون+؛ قالوا: يا رسول الله! ومن المفرِّدون؟ قال: =الذاكرون الله كثيراً والذاكرات+رواه مسلم.

وعن أبي الدرداء ÷ عن النبي " أنه قال: =ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والفضة، والورِق، ومن أن تلقوا عدوَّكم، فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم+؛ قالوا: بلى يا رسول الله؛ قال: =ذكر الله+رواه أبو داود.

والدلائل القرآنية، والإيمانية بصراً، وخبراً، ونظراً على ذلك كثيرة.

وأقلُّ ذلك أن يلازم العبد الأذكار المأثورة عن معلم الخير، وإمام المتقين " كالأذكار المؤقتة في أول النهار، وعند أخذ المضجع، وعند الاستيقاظ من المنام، وأدبار الصلوات.

والأذكار المقيدة مثل ما يقال عند الأكل، والشرب، واللباس، والجماع، ودخول المنزل، والمسجد، والخلاء، والخروج من ذلك، وعند المطر والرعد إلى غير ذلك.

وقد صنفت له الكتب المسماة بعمل اليوم والليلة؛ ثم ملازمة الذكر مطلقاً، وأفضله: =لا إله إلا الله+.

وقد تعرض أحوال يكون بقية الذكر مثل: =سبحان الله والحمد لله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله+ أفضل منه.

ثم يُعلَم أن كلَّ ما تكلم به اللسان، وتصوَّره القلب مما يقرِّب إلى الله من تعلُّم علم، وتعليمه، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر _ فهو من ذكر الله.

ولهذا من اشتغل بطلب العلم النافع بعد أداء الفرائض، أو جلس مجلساً يتفقَّه فيه الفقه الذي سماه الله ورسوله فقهاً _ فهذا أيضاً من ذكر الله.

وعلى ذلك إذا تدبرت لم تجد بين الأولين في كلماتهم في أفضل الأعمال كبير اختلاف+ا. هـ.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية × مقرراً هذا المعنى: =وقد تقدم أن الأفضل يتنوع تارةً بحسب أجناس العبادات، كما أن جنس الصلاة أفضل من جنس القراءة، وجنس القراءة أفضل من جنس الذكر، وجنس الذكر أفضل من جنس الدعاء.

وتارة يختلف باختلاف الأوقات؛ كما أن القراءة والذكر والدعاء بعد الفجر والعصر هو المشروع دون الصلاة.

وتارة باختلاف عمل الإنسان الظاهر؛ كما أن الذكر والدعاء في الركوع والسجود هو المشروع دون القراءة، وكذلك الذكر والدعاء في الطواف مشروع بالاتفاق، وأما القراءة في الطواف ففيها نزاع معروف.

وتارة باختلاف الأمكنة كما أن المشروع بعرفة، والمزدلفة، وعند الجمار، وعند الصفا والمروة _ هو الذكر، والدعاء دون الصلاة ونحوها.

والطواف بالبيت للوارد أفضل من الصلاة، والصلاة للمقيمين بمكة أفضل.

وتارة باختلاف مرتبة جنس العبادة؛ فالجهاد للرجال أفضل من الحج، وأما النساء فجهادهن الحج.

والمرأة المتزوجة طاعتها لزوجها أفضل من طاعتها لأبويها، بخلاف الأيِّمة؛ فإنها مأمورة بطاعة أبويها.

وتارة يختلف باختلاف حال قدرة العبد وعجزه؛ فما يَقْدِر عليه من العبادات أفضل في حقه مما يعجز عنه، وإن كان جنسُ المعجوز عنه أفضل.

وهذا باب واسع يغلو فيه كثير من الناس، ويتَّبعون أهواءهم؛ فإن من الناس من يرى أن العمل إذا كان أفضل في حقه لمناسبته له، ولكونه أنفع لقلبه، وأطوع لربه _ يريد أن يجعله أفضل لجميع الناس، ويأمرهم بمثل ذلك.

والله بعث محمداً بالكتاب والحكمة، وجعله رحمة للعباد، وهدياً لهم يأمر كل إنسان بما هو أصلح له؛ فعلى المسلم أن يكون ناصحاً للمسلمين، يقصد لكل إنسان ما هو أصلح.

وبهذا تبين لك أن من الناس من يكون تطوعه بالعلم أفضل له، ومنهم من يكون تطوعه بالجهاد أفضل له، ومنهم من يكون تطوعه بالعبادات البدنية _كالصلاة والصيام_ أفضل له.

والأفضل مطلقاً ما كان أشبه بحال النبي " باطناً وظاهراً؛ فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد "، والله _ سبحانه وتعالى _ أعلم+.

سئل شيخ الإسلام ابن تيمية ×: =هل الأفضل للسالك: العزلة أو الخلطة؟+.

فأجاب بقوله: =فهذه المسألة وإن كان الناس يتنازعون فيها إما نزاعاً كلياً وإما حالياً؛ فحقيقة الأمر أن الخلطة تارة تكون واجبة، أو مستحبة، والشخص الواحد قد يكون مأموراً بالمخالطة تارة، وبالانفراد تارة.

وجماع ذلك أن المخالطة إن كان فيها تعاون على البر والتقوى فهي مأمور بها، وإن كان فيها تعاون على الإثم والعدوان فهي منهيٌّ عنها؛ فالاختلاط بالمسلمين في جنس العبادات كالصلوات الخمس، والجمعة، والعيدين، وصلاة الكسوف، والاستسقاء، ونحو ذلك هو مما أمر الله به ورسوله ".

وكذلك الاختلاط بهم في الحج، وفي غزو الكفار، والخوارج المارقين وإن كانوا أئمة ذلك فجاراً، وإن كان في تلك الجماعات فجارٌ.

وكذلك الاجتماع الذي يزداد به العبد إيماناً، إما لانتفاعه به، وإما لنفعه له، ونحو ذلك.

ولابد للعبد من أوقات ينفرد بها بنفسه في دعائه، وذكره، وصلاته، وتفكُّره، ومحاسبة نفسه، وإصلاح قلبه، وما يختص به من الأمور التي لا يشركه فيها غيره؛ فهذه يحتاج فيها إلى انفراده بنفسه، إما في بيته _ كما قال طاووس: نعم صومعةُ الرجل بيته، يكف فيها بصره ولسانه _ وإما في غير بيته.

فاختيار المخالطة مطلقاً خطأ، واختيار الانفراد مطلقاً خطأ.

وأما مقدار ما يحتاج إليه كل إنسان من هذا وهذا، وما هو الأصلح له في كل حال _ فهذا يحتاج إلى نظر خاص كما تقدم+ا. هـ .

قال ابن القيم × في فصل نفيس عقده في كتابه: (الوابل الصيب) حول هذا المعنى: =الفصل الثالث: قراءة القرآن أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدعاء.

هذا من حيث النظر لكل منهما مجرداً، وقد يعرض للمفضول ما يجعله أولى من الفاضل، بل يعيِّنُه؛ فلا يجوز أن يُعْدَلَ عنه إلى الفاضل.

وهذا كالتسبيح في الركوع والسجود؛ فإنه أفضل من قراءة القرآن فيهما، بل القراءة فيهما منهيٌّ عنها تحريم أو كراهة.

وكذلك التسميع، والتحميد في محلهما أفضل من القراءة، وكذلك التشهد، وكذلك =رب اغفر لي، وارحمني، واهدني، وعافني، وارحمني+ بين السجدتين أفضل من القراءة.

وكذلك الذكر عقيب السلام من الصلاة _ ذكر التهليل، والتسبيح، والتكبير، والتحميد _ أفضل من الاشتغال بالقراءة، وكذلك إجابة المؤذن، والقول كما يقول أفضل من القراءة، وإن كان فضل القرآن على كل كلام كفضل الله _ تعالى _ على خلقه، لكن لكل مقام مقال متى فات مقاله فيه، وعُدِل عنه إلى غيره اختلت الحكمة، وفقدت المصلحة المطلوبة منه.

وهكذا الأذكارُ المقيدةُ بمحالَّ مخصوصة أفضلُ من القراءة المطلقة، والقراءةُ المطلقةُ أفضلُ من الأذكار المطلقة، اللهم إلا أن يعرض للعبد ما يجعل الذكر، والدعاء أنفع له من قراءة القرآن.

مثاله: أن يتفكر في ذنوبه؛ فيحدث ذلك له توبة من استغفار، أو يعرض له ما يخاف أذاه من شياطين الإنس والجن؛ فَيَعْدِلَ إلى الأذكار والدعوات التي تُحَصِّنه وتحفظه.

وكذلك _ أيضاً ¬_ قد يعرض للعبد حاجة ضرورية إذا اشتغل عن سؤالها، أو ذكرٌ لم يحضر قلبه فيه، وإذا أقبل على سؤالها، والدعاء إليها اجتمع قلبه كله على الله _ تعالى _ وأحدث له تضرعاً، وخشوعاً، وابتهالاً؛ فهذا يكون اشتغاله بالدعاء _ والحالة هذه أنفع _ وإن كان كلٌّ من القراءة والذكر أفضلَ وأعظمَ أجراً.

وهذا باب نافع يحتاج إلى فِقْهِ نَفْسٍ، وفرقانٍ بين فضيلة الشيء في نفسه، وبين فضيلته العارضة؛ فيعطى كل ذي حقٍّ حقَّه، ويوضع كل شيء موضعه؛ فللْعين موضع، وللرِّجْل موضع، وللماء موضع، وللَّحم موضع.

وحفظ المراتب هو من تمام الحكمة التي هي نظام الأمر والنهي، والله _ تعالى _ الموفق+ا. هـ

إلى أن قال ×: =وقلت لشيخ الإسلام ابن تيمية × يوماً: سئل بعض أهل العلم: أيما أنفع للعبد: التسبيح أو الاستغفار؟ فقال: إذا كان الثوب نقيَّاً فالبخور، وماء الورد أنفع، وإن كان دَنِساً فالصابون والماء الحارُّ أنفع له؛ فقال لي ×: فكيف والثياب لا تزال دَنِسة؟

ومن هذا الباب أن سورة [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)](الإخلاص) تعدل ثلث القرآن، ومع هذا فلا تقوم مقام آيات المواريث، والطلاق، والخلع، والعُدَد، ونحوها، بل هذه الآيات في وقتها عند الحاجة أنفع من تلاوة سورة الإخلاص.

ولما كانت الصلاة مشتملة على القراءة والذكر والدعاء وهي جامعة لأجزاء العبودية على أتم الوجوه _ كانت أفضل من كلٍّ من القراءة والذكر والدعاء بمفرده؛ لجمعها ذلك كلَّه مع عبودية سائر الأعضاء؛ فهذا أصل نافع جداً يفتح للعبد باب معرفة مراتب الأعمال، وتنزيلها منازلها؛ لئلا يشتغل بمفضولها عن فاضلها؛ فيربح إبليس الفضل الذي بينهما، أو ينظر إلى فاضلها، فيشتغل به عن مفضولها إن كان ذلك وقته؛ فتفوته مصلحته بالكلية؛ لظنه أن اشتغاله بالفاضل أكثر ثواباً، وأعظم أجراً.

وهذا يحتاج إلى معرفة بمراتب الأعمال، وتفاوتها، ومقاصدها، وفقهٍ في إعطاء كل عمل منها حقَّه، وتنزيله في مرتبته، وتفويته لما هو أهم منه، أو تفويت ما هو أولى منه، وأفضل؛ لإمكان تداركه، والعود إليه.

وهذا المفضول لا يمكن تداركه؛ فالاشتغال به أولى، وهذا كترك القراءة لرد السلام، وتشميت العاطس _ وإن كان القرآن أفضل _ لأنه يمكنه الاشتغال بهذا المفضول، والعود إلى الفاضل، بخلاف ما إذا اشتغل بالقراءة فاتته مصلحةُ ردِّ السلام، وتشميت العاطس، وهكذا سائر الأعمال إذا تزاحمت، والله _ تعالى _ الموفق+ ا. هـ

وهذه الفقرة جماع لما مضى من الفقرات الماضية.

ومن أحسن من فصَّل في هذه المسألة الإمام ابن القيم × في كتابه (مدارج السالكين)، وذلك لما تكلم على أفضل العبادة وأنفعها؛ فأتى بكلام عظيم نفيس.

قال ×: =ثم أهل مقام إياك نعبد لهم في أفضل العبادة وأنفعها، وأحقها بالإيثار والتخصيص أربع طرق؛ فهم في ذلك أربعة أصناف+.

ثم شرع في ذكر تلك الأصناف فقال: =الصنف الأول: عندهم أنفع العبادات، وأفضلها أشقها على النفوس، وأصعبها.

قالوا: لأنه أبعد الأشياء عن هواها، وهو حقيقة التعبد+.

ثم شرع في بسط حججهم، ثم انتقل إلى الصنف الثاني فقال: =الصنف الثاني: قالوا: أفضل العبادات التجرد، والزهد في الدنيا، والتقلل منها غاية الإمكان، واطِّراح الاهتمام بها، وعدم الاكتراث بكل ما هو منها+.

ثم شرع في شرح قولهم، ثم انتقل إلى الصنف الثالث فقال: =الصنف الثالث: رأو أن أنفع العبادات ما كان فيه نفع متعدٍّ؛ فرأوه أفضل من ذي النفع القاصر، فرأو خدمة الفقراء، والاشتغال بمصالح الناس، وقضاء حوائجهم، ومساعدتهم بالمال، والجاه، والنفع، فتصدوا له، وعملوا عليه+.

ثم شرع في شرح رأي أولئك، وانتقل بعد ذلك إلى الصنف الرابع، وبسط القول فيه أكثر مما قبله، وكأنه × قد ارتضى ذلك الرأي، فإليك كلامه في ذلك الصنف بتمامه، يقول × في المدارج: =الصنف الرابع قالوا: إن أفضل العبادة: العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت، ووظيفته؛ فأفضل العبادات في وقت الجهاد الجهاد، وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة الليل، وصيام النهار، بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض كما في حال الأمن.

والأفضل في وقت حضور الضيف _ مثلاً _ القيام بحقه، والاشتغال به عن الورد المستحب، وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل.

والأفضل في أوقات السحر: الاشتغال بالصلاة والقرآن، والدعاء والذكر والاستغفار.

والأفضل في وقت استرشاد الطالب، وتعليم الجاهل: الإقبال على تعليمه، والاشتغال به.

والأفضل في أوقات الأذان: ترك ما هو فيه من ورده، والاشتغال بإجابة المؤذن.

والأفضل في أوقات الصلوات الخمس: الجد، والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه، والمبادرة إليها في أول الوقت، والخروج إلى الجامع، وإن بَعُد كان أفضل.

والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه، أو البدن، أو المال: الاشتغال بمساعدته، وإغاثة لهفته، وإيثار ذلك على أورادك وخَلْوَتك.

والأفضل في وقت قراءة القرآن جمعيةُ القلب، والهمةِ على تدبره وتفهمه، حتى كأن الله _ تعالى _ يخاطبك به؛ فتجمع قلبك على فهمه وتدبره، والعزم على تنفيذ أوامره أعظم من جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك.

والأفضل في وقت الوقوف بعرفة: الاجتهاد في التضرع، والدعاء، والذكر دون الصوم المُضعفِ عن ذلك.

والأفضل في أيام عشر ذي الحجة: الإكثار من التعبد، لاسيما التكبير والتهليل والتحميد؛ فهو أفضل من الجهاد غير المتعين.

والأفضل في العشر الأخير من رمضان: لزوم المسجد فيه، والخلوة، والاعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس والاشتغال بهم، حتى إنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلمَ، وإقرائهم القرآنَ عند كثير من العلماء.

والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم، أو موته: عيادته، وحضور جنازته، وتشييعه، وتقديم ذلك على خلوتك وجَمْعِيَّتِكَ.

والأفضل في وقت نزول النوازل، وأذاة الناس لك: أداءُ واجبِ الصبر مع خلطتك بهم، دون الهرب منهم؛ فإن المؤمن الذي يخالط الناس؛ ليصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم، ولا يؤذونه.

والأفضل خُلْطَتُهم في الخير؛ فهي خير من اعتزالهم فيه، واعتزالهم في الشر؛ فهو أفضل من خلطتهم فيه.

فإن عَلِم أنه إذا خالطهم أزاله أو قَلَّله فخلطتهم حينئذ أفضل من اعتزالهم.

فالأفضل في كل وقت وحال: إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت، ووظيفته، ومقتضاه.

وهؤلاء هم أهل التعبُّد المطلق، والأصناف قبلهم أهل التعبد المقيد؛ فمتى خرج أحدهم عن النوع الذي تعلق به من العبادة وفارقه يرى نفسه كأنه قد نقص، وترك عبادته؛ فهو يعبد الله على وجه واحد.

وصاحبُ التعبد المطلق ليس له غرض في تعبُّدٍ بعينه يُؤثره على غيره، بل غرضه تتبع مرضاة الله _ تعالى _ أين كانت؛ فمدارُ تعبُّدِه عليها؛ فهو لا يزال متنقلاً في منازل العبودية، كلما رفعت له منزلةٌ عَمِلَ على سيره إليها، واشتغل بها حتى تلوح له منزلةٌ أخرى؛ فهذا دأبه في السير حتى ينتهي سيره؛ فإن رأيت العلماء رأيته معهم، وإن رأيت العباد رأيته معهم، وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم، وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم، وإن رأيت المتصدقين المحسنين رأيته معهم، وإن رأيت أرباب الجَمْعِيَّة وعكوف القلب على الله رأيته معهم؛ فهذا هو العبد المطلق، الذي لم تملكه الرسوم، ولم تقيِّده القيود، ولم يكن عمله على مراد نفسه، وما فيه لذتها، وراحتها من العبادات، بل هو على مراد ربه، ولو كانت راحة نفسه ولذتها في سواه؛ فهذا هو المتحقق بـ: [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] حقاً، القائم بهما صدقاً، مَلْبَسُه ما تهيأ، ومأكلُه ما تيسر، واشتغاله بما أمر الله به في كل وقت بوقته، ومجلسه حيث انتهى به المكان، ووجده خالياً، لا تملكه إشارة، ولا يتعبده قيد، ولا يستولي عليه رسم، حُرٌّ مجرد، دائرٌ مع الأمر حيث دار، يدين بدين الآمر أنى توجهت ركائبه، ويدور معه حيث استقلت مضاربه، يأنس به كلُّ محقٍّ، ويستوحش منه كل مبطل، كالغيث حيث وقع نفع، وكالنخلة لا يسقط ورقها، وكلُّها منفعة حتى شوكُها، وهو موضع الغلظة منه على المخالفين لأمر الله، والغضب إذا انتهكت محارم الله؛ فهو لله، وبالله ومع الله، قد صحب الله بلا خلق، وصحب الناس بلا نفس، بل إذا كان مع الله عزل الخلائق عن البين، وتخلى عنهم، وإذا كان مع خلقه عزل نفسه من الوسط وتخلى عنها، فواهاً له! ما أغْرَبَه بين الناس! وما أشدَّ وحشته منهم! وما أعظم أنسه بالله وفرحه به، وطمأنينته وسكونه إليه!! والله المستعان، وعليه التكلان+ا. هـ

قال العلامة ابن القيم × مقرراً هذا المعنى: =فتفاضل الأعمال عند الله _تعالى_ بتفاضل ما في القلوب من الإيمان، والإخلاص، والمحبة، وتوابعها، وهذا العمل الكامل هو الذي يكفِّر السيئات تكفيراً كاملاً، والناقص بحسبه.

وبهاتين القاعدتين تزول إشكالات كثيرة، وهما:

تفاضل الأعمال بتفاضل ما في القلوب من حقائق الإيمان، وتكفير العمل للسيئات بحسب كماله ونقصانه.

وبهذا يزول الإشكال الذي يورده من نَقَصَ حظُّه من هذا الباب على الحديث الذي فيه: = أن صوم يوم عرفة يُكفِّر سنتين، ويوم عاشوراء يكفِّر سنة+.

قالوا: فإذا كان دأبه دائماً أنه يصوم يوم عرفة، فصامه، وصام يوم عاشوراء؛ فكيف يقع تكفير ثلاث سنين كل سنة؟، وأجاب بعضهم عن هذا بأن ما فَضُل عن التكفير ينال به الدرجات.

ويا لله العجب؛ فليت العبد إذا أتى بهذه المكفرات كلها أن تكفِّر عنه سيئاته باجتماع بعضها إلى بعض، والتكفير بهذه مشروط بشروط، موقوف على انتفاء موانع في العمل وخارجه؛ فإن علم العبد أنه جاء بالشروط كلها، وانتفت عنه الموانع كلها _ فحينئذ يقع التكفير.

وأما عمل شملته الغفلة أو لأكثره، وفقد الإخلاص الذي هو روحه، ولم يوفّ حقه، ولم يقدرْه حق قدره _ فأي شيء يكفر هذا؟ فإذا وثق العبد من عمله بأنه وفَّاه حقَّه الذي ينبغي له ظاهراً وباطناً، ولم يَعْرِضْ له مانعٌ يمنع تكفيره، ولا مبطل يحبطه _ من عجب، أو رؤية نفسه فيه، أو يَمُنُّ به، أو يطلب من العباد تعظيمه، أو يستشرف بقلبه لمن يعظمه عليه، أو يعادي من لا يعظمه عليه، ويرى أنه قد بخسه حقَّه، وأنه قد استهان بحرمته _ فهذا أي شيء يكفِّر ومحبطات الأعمال ومفسداتها أكثر من أن تحصر؟

وليس الشأن في العمل، إنما الشأن في حفظ العمل مما يفسده ويحبطه؛ فالرياء _وإن دقَّ_ محبط للعمل، وهو أبواب كثيرة لا تحصر، وكونُ العملِ غيرَ مقيدٍ باتباع السنة _ أيضاً _ موجبٌ لكونه باطلاً، والمنُّ به على الله _ تعالى _ بقلبه مفسدٌ له، وكذلك المن بالصدقة، والمعروف، والبر، والإحسان، والصلة مفسدٌ لها+.

إلى أن قال ×: =فمعرفة ما يفسد الأعمال في حال وقوعها، ويبطلها ويحبطها بعد وقوعها من أهم ما ينبغي أن يفتش عليه العبد، ويحرص على عمله، ويحذره+ا. هـ.

وبعد هذا البيان الجلي من علماء الإسلام الذين مضى النقل عنهم يتضح لنا عظمة ديننا، وشموله، وكثرة أبواب الخير فيه.

كما أن البحث في هذا الشأن يبعث الإنسان إلى أن يقدم لدينه، ولنفسه ما يجده عند الله _ عز وجل _.

وعلى هذا فإنه لا غضاضة على من فتح عليه من أبواب الخير دون أن يفتح عليه في غيره؛ ولا على من فتح عليه من أبواب الخير دون أن يفتح على غيره فيه فكل ميسر لما خلق له، وقد علم كل أناس مشربهم؛ فلا غرو _ إذاً _ أن تتنوع الأعمال ما دامت على مقتضى الشرع؛ فهذا يكب على العلم والبحث والتأليف، وذاك يقوم بتعليم الناس عبر الدروس، وهذا يسد ثغرة الجهاد، وذاك يقوم بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا يقوم على رعاية الأرامل والأيتام، ويتعاون مع جمعيات البر المعنية بهذا الشأن،وذاك يقوم بتربية الشباب في محاضن التربية والتعليم، وهذا يقوم بتعليم الناس كتاب الله، وتحفيظهم إياه، وذاك يعنى بشؤون المرأة، وما يحاك حولها، وهذا يهتم بعمارة المساجد، ودلالة المحسنين على ذلك، وذاك يسعى في تنظيم الدروس والمحاضرات والدورات العلمية، وتسهيل مهام أهل العلم في ذلك الشأن، وهذا يعنى بالجاليات التي تفد إلى بلاد المسلمين يعلمهم أمور دينهم إن كانوا مسلمين، ويدعوهم إلى الإسلام إن كانوا غير مسلمين، وذاك يعنى بالمسلمين في بقاع الأرض؛ حيث يسعى في تعليمهم، وبيان قضاياهم، ويحرص على رفع الظلم عنهم، وذاك يسعى سعيه في الإصلاح بين الناس، وهذا يقوم بشؤون الموتى من تغسيلهم، ودفنهم ونحو ذلك، وذاك منقطع للعبادة، والذكر، والتلاوة، وعمارة بيوت الله، وهذا مفتوح عليه باب الصيام، وذاك مفتوح عليه باب الصلاة، وهذا مفتوح عليه باب الصدقة، وذاك الفذُّ الجامع لأكثر تلك الخصال وهكذا. . .

اللهم فقهنا في ديننا، وعلِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك المؤمنين الموحدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

 الرسالة السابعة عشر الجوال اداب ، وتنبهات

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فإن الهاتف _ بجميع خدماته _ يقوم بدور مهم، ويقدم خدمة جليلة، ويوفر جهداً كبيراً، سواء في الوقت، أو في المال، أو الذهاب، أو الإياب.

ولقد تكلم الفضلاء من أهل العلم على الهاتف وآدابه، وما يجب وما ينبغي أن يراعى في ذلك.

وعلى رأس أولئك صاحب الفضيلة الشيخ العلامة الدكتور بكر أبو زيد _حفظه الله ومتعه بالعافية_ حيث ألف كتابه الماتع الرائع (أدب الهاتف).

وهو بسبق حائزٌ تفضيلا

                   مستوجبٌ ثنائي الجميلا

والحديث ها هنا سيكون حول أدب الجوال على وجه الخصوص.

وما يقال في حق الهاتف العادي يقال في حق الجوال، إلا أن الجوال ينفرد في أمور خاصة قد لا توجد في الهاتف العادي؛ فالجوال _ في الأغلب _ يكون خاصاً بشخص لا يرد عليه غيره، بخلاف الهاتف العادي؛ حيث يكون في مكان عام، أو مكتب أو منزل، وقد يرد عليه أكثر من شخص.

ثم إن الجوال يمتاز بخدمات أخرى لا توجد في الهاتف.

ولاريب أن الجوال نعمة كبيرة، يقضي بها الإنسان حاجاته بأقرب طريق، وأيسر كلفة.

ولكن هناك أمور تنافي شكر هذه النعمة، وهناك ملحوظات يحسن التنبه لها، والتنبيه عليها؛ حتى تتم الفائدةُ المرجوَّةُ من هذه النعمة، ولأجل ألا تكون سبباً في جلب الضرر على أصحابها.

فمما يحسن التنبيه عليه ومراعاته في هذا الأمر ما يلي:

أولاً: الاقتصاد في المكالمات: حتى لا تحصل الخسارة المالية بدون داعٍ، ولأجل ألا يتأذى الإنسان من جراء الإطالة.

وعلى هذا فإنه يحسن بالمُتَّصل أن يقتصد في كلامه، وأن يتجنب التطويل في المقدمات، والسؤال عن الحال.

وينبغي له أن يحذر من كثرة الاتصالات بلا داعٍ، وأن يحذر فضول الكلام في المهاتفة؛ فإن بعض الناس قد يمتد به الحديث ساعات وساعات.

يقول العلامة الشيخ بكر أبو زيد _ حفظه الله _: =احذر فضول المهاتفة، حتى لا يصيبك سُعار الاتصال؛ فكم من مصاب به؛ فمن حين يرفع رأسه من نومته يدني مذكرته _ نوتته _ ولا كالطفل يلتقم ثديَ أمِّه، فيشغل نفسَه وغيرَه عبر الهاتف من دار إلى دار، ومن مكتب إلى آخر يروِّح عن نفسه، ويلقي بالأذى على غيره.

وليس لنا مع هؤلاء حديثٌ إلا الدعاء بالعافية، وننصحهم بمعالجة وضعهم من هذا الفضول+( ).

ثانياً: الحذر من إحراج المتَّصَلِ عليه: كأن يَمْتَحِنَ المتَّصِلُ المتَّصَلَ عليه بقوله: هل تعرفني؟ فإذا قال: لا، بدأ يلومه، ويعاتبه على نسيانه له، وعدم تخزينه لرقم هاتفه.

مع أن المتَّصَل عليه قد يكون ذا مكانة في العلم أوالقدر أوالسن، وقد يكون ممن لا يخزن الأرقام في جواله، وقد يكون جواله مليئاً ولا يتسع للمزيد؛ فأولى للمتصل أن يخبر عن اسمه في البداية إن كان يريد أن يُعْرف، وأن ينأى عن تلك الأساليب المحرجة.

عن جابر بن عبد الله _ رضي الله عنهما _ قال: أتيت النبي " فدعوت، فقال النبي ": =من هذا؟+ فقلت: أنا، فخرج وهو يقول: =أنا أنا!!+( ).

ثالثاً: مراعاة حال المُتَّصَل عليه، والتماس العذر له: فقد يكون مريضاً، أو في مكان لا يسمح له بالتفصيل كأن يكون في مسجد، أومقبرة، أو بين أناس لا يود أن يقطع حديثهم أو نحو ذلك؛ فإذا لم يَرُدَّ، أو ردَّ ردَّاً مقتضباً، أو كانت الحفاوة أقل من المعتاد _ فعلى المتصل أن يبسط له العذر، وألايسيء به الظن.

كما يحسن بالمتَّصَلِ عليه أن يخبر المتَّصِل فيما بعد، أو يرد عليه رداً سريعاً يبين من خلاله أنه في مكان لا يسمح له بالحديث؛ فذلك أسلم للقلوب، وأبعد لها من الوحشة والنُّفرة.

رابعاً: إغلاق الجوال أو وضعه على الصامت عند دخول المسجد: وذلك لئلا يشوشَ على المصلين، ويقطعَ عليهم خشوعهم وإقبالهم على صلاتهم.

وإذا حصل أنْ نسي ولم يغلقْه أويضعه على الصامت فليبادر إلى إغلاقه وإسكاته إذا اتصل أحد؛ لأن بعض الناس يدعه يرن وربما كان بنغمات موسيقية مؤذية، فلا يُغْلِقُهُ ولا يسكته؛ خوفاً من حدوث الحركة في الصلاة.

والذي ينبغي لهذا أن يعلم أن تلك الحركة لمصلحة الصلاة، بل لمصلحة المصلين عموماً.

كما ينبغي أن يُبْسَطَ العذرُ لمن نسي إغلاقَ جوالِه أو وَضْعَهُ على الصامت، وألا يشدد في النكير عليه، والنظرِ شزراً إليه، خصوصاً إذا كان ممن يُخشى نُفُورُه، وغضبه، أو أن يكون فاضلاً نسي؛ فلا يحسن إحراجه وتبكيتُه.

ولنا في رسول الله " أسوة حسنة حينما لَطُف بالأعرابي الذي بال في المسجد، وأمر أن يهراق سِجْلٌ أو ذنوبٌ من ماء على مكان بوله.

عن أبي هريرة ÷ قال: =قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي ": =دعوه، وأهريقوا على بوله سِجلاً من ماء _ أو ذنوباً من ماء _ فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين+( ).

خامساً: البعد عن استعمال النغمات الموسيقية: لما في ذلك من الحرمة، وانتقاص العقلاء لمن يستعملها، ولما فيها من التشويش والأذى.

ويقبح استعمالها إذا كان في المساجد، أو المجالس العامة.

سادساً: استعمال الجوال في مجالس العلم ومجالس الأكابر عموماً: لأن استعماله يذهب بهيبة المجلس، ويقطع الفائدة على المتعلمين، ويؤذي من يلقي الدرس أو الفائدة، ويزري بمن يستعمل الجوال في تلك المجالس.

بل ينبغي للإنسان ألا يتصل وألا يردَّ على المتصل إذا كان في مجلس يسوده الجد، ويتكلم فيه متكلم واحد، أو أن يكون في ذلك المجلس من يَكْبُره في السن والقدر؛ لأن الاتصال أو الرد يقطع الحديث، ويكدر على الحاضرين، وينافي أدب المحادثة والمجالسة، قال أبو تمام:

من لي بإنسان إذا أغضبته

                   وجهلت كان الحلمُ ردَّ جوابه

وتراه يصغي للحديث بسمعه

                   وبقلبه ولعله أدرى به

وقد يُغْتَفَرُ الاتصال أو الرد إذا كان في الأمر ضرورةٌ، أو حاجةٌ يُخشى فواتُها ويراعى في ذلك ترك التطويل.

ويغتفر _ أيضاً _ لكبير القدر أو السن أن يتصل أو يرد، ويغتفر _ كذلك _ إذا كان الإنسان في مجلس إخوانه أو أصدقائه الذين يطرح الكلفةَ بينهم، أو الذين لم يسترسل حديثهم.

ويجمل بالمرء _ أيضاً _ إذا أراد الاتصال أن يستأذن ويخرج عن المجلس.

سابعاً: تسجيل المكالمات، أو وضع الجوال على مكبر الصوت بحضرة الآخرين دون علم الآخر: فقد يتصل أحدٌ من الناس على صاحبه، أو يتصل عليه صاحبه فيسجل المكالمة، أو يضع الجوال على مكبر الصوت وحولَه مَنْ يسمع الحديث، ويعرف المتكلم.

وهذا العمل لا يليق بالعاقل خصوصاً إذا كان الحديث خاصاً أو سِرِّياً؛ فقد يكون ضرباً من الخيانة، أو نوعاً من النميمة.

ويقبح إذا كان المُتَّصل عليه من أهل العلم ثم سجل المتصِّل حديثه دون إذنه، ثم نشره بعد ذلك، أو وضعه في الإنترنت، أو كتبه وزاد فيه ونقص.

قال الشيخ العلامة الدكتور بكر أبو زيد _ حفظه الله _: =لا يجوز لمسلم يرعى الأمانة ويبغض الخيانة أن يسجل كلام المتكلم دون إذنه وعلمه مهما يكن نوع الكلام: دينياً، أو دنيوياً كفتوى، أو مباحثة علمية، أو مالية، وما جرى مجرى ذلك+( ).

وقال _ حفظه الله _: =فإذا سجلتَ مكالمته دون إذنه وعِلْمِه فهذا مكر وخديعة، وخيانة للأمانة.

وإذا نشرتَ هذه المكالمةَ للآخرين فهي زيادة في التَّخون، وهتك الأمانة.

وإن فعلت فَعْلَتَكَ الثالثة: التصرف في نص المكالمة بتقطيع، وتقديم، وتأخير، ونحو ذلك إدخالاً أو إخراجاً _ دبلجة _ فالآن ترتدي الخيانة مضاعفة، وتسقط على أم رأسك في: =أم الخبائث+ غير مأسوف على خائن.

والخلاصة أن تسجيل المكالمة هاتفية أو غير هاتفية دون علم المتكلم وإذنه فجور، وخيانة، وجرح في العدالة، ولا يفعلها إلا الضامرون في الدين، والخلق، والأدب، لاسيما إن تضاعفت _ كما ذكر_ فاتقوا الله _ عباد الله _ ولا تخونوا أماناتكم، ولا تغدروا بإخوانكم+( ).

أما إذا كان المتكلم يعلم أن صاحبه قد وضع الجهاز على مكبر الصوت، ولم يحرج المتكلم من ذلك _ فلا بأس.

ثامناً: إلقاء الجوال في الأماكن العامة: كإلقائه بين الزملاء، أو الأطفال، فهذا مدعاة لوقوع الحرج، فقد يُتَّصل عبر جوالك بأناس لا ترتضيهم، وقد يُساء إلى أحد من الناس عبر جوالك، وقد يسرق جوالك، وقد يستعرض ما فيه من رسائل تكره أن يطلع عليها غير ك.

وقد حصل ويحصل من جراء ذلك أذى كثير، وإحراج شديد.

تاسعاً: الحذر من استعمال الجوال في التصوير: فبعض الجوالات تتوافر فيها هذه الخدمة، وقد تُستعمل في تصوير المحارم خصوصاً في المناسبات العامة كالولائم وغيرها.

ولا يَخْفَى حُرْمَةُ هذا الصنيع، وتَسبُّبُه في انتهاك الحرمات، وتفريق البيوت، وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، ويعظم الأمر إذا نشرت الصورة، وأضيف إليها بعض التعديلات، بحيث يرى صاحب الصورة في وضع عارٍ أو نحو ذلك.

فعلى مَنْ تسوِّل له نفسه ذلك أن يحذر مغبة صنيعه، وعلى النساء خصوصاً لزوم الستر والحشمة حتى لا يقع المحذور.

عاشراً: مراعاة أدب الرسائل: فالجوال يشتمل على هذه الخدمة، والذي يليق بالعاقل أن يراعي الأدب في الرسائل؛ فإذا أراد أن يرسل رسالة فلتكن جميلة معبرة أو مُبَشِّرة، أو مُعَزِّية، أو مسلية، أو أن تكون مشتملة على ذكرى، أو حكمة، أو موعظة، أو مثل سائر، أو نحو ذلك.

حادي عشر: التثبت في شأن الرسالة: فإذا كانت متضمنة لمعلومة فليتثبت من صحتها، وإذا كانت متضمنة لخبر فليكن الخبر صحيحاً؛ لأنه سينقل عن المُرْسِل.

وليستحضر المُرْسِل أن رسالته ربما تدوالتها الأيدي، وانتشرت في الآفاق؛ فله غنمها وعليه غرمها؛ فلينظر ماذا يحب أن ينقل عنه، أو يتسبب فيه.

ومما يحسن التنبيه عليه في هذا الشأن ما يكون في بعض الرسائل من التواصي بأمر من الأمور، دون نظر إلى مشروعيته، كالتواصي بصيام آخر يوم من أيام السنة؛ لأنه وافق يوم الأثنين، أو أن يخصص ويوحد الدعاء في وقت ما لأحد أو على أحد، أو أن يُحَرِّج المُرسِلُ المُرْسَل إليه بأن يرسل الرسالة إلى عشرة أو أكثر أو أقل؛ فهذا مما لا ينبغي، وربما دخل في قبيل البدع والمحدثات.

أما إذا تواصى الناس بالدعاء لأحد من المسلمين، أو على أحدٍ من أعداء الملة، واغتُنِم الوقت أو المكان فلا بأس في ذلك دون أن يشار إلى توحيد للدعاء، أو نحو ذلك.

ثاني عشر: الحذر من الرسائل السيئة: التي تشتمل على الكلمات البذيئة، والنكات السخيفة، والرسومات القبيحة، والصور الفاضحة.

وكذلك العبارات التي تحتمل معنيين: أحدهما سيئ وهو الذي يبدو لأول وهلة، ثم يتضح أنه معنى صحيح بعد التدقيق، أو الكلمات المتقطعة التي تزيد كلما ضغط زر الجوال؛ ويتبين من خلال ذلك فسوق، وسوء أدب.

يقول الماوردي ×: =ومما يجري مجرى فحش القول، وهُجْرِه في وجوب اجتنابه ولزوم تَنَكُّبه _ ما كان شنيع البديهة، مستنكر الظاهر، وإن كان بعد التأمل سليماً، وبعد الكشف والرويَّة مستقيماً+( ).

وكذلك المزاح الثقيل، واستعمال عبارات الغرام خصوصاً مع النساء اللواتي يغرُّ بَعْْضَهُنَّ الثناءُ، ومعسول الكلام.

وكذلك العبارات المشتملة على السب، والقذف، ونحو ذلك.

فهذا كله مما يخالف الشرع، وينافي الأدب، ولا يتلاءم مع شكر هذه النعمة.

ثالث عشر: التأكد من صحة الرقم: حتى لا تقع الرسالة بيد من لم يُقْصَد إرسالُها إليه، فيقع الحرج، ويساء الظن بالمرسل إن كانت رسالة لا تناسب.

رابع عشر: مراعاةُ الذوق، وحالِ المُرسل إليه: فقد تكون الرسالة ملائمة لشخص، ولكنها غير ملائمة لآخر، وقد تكون صالحة لأن ترسل لكبير قدر أو سنٍّ، ولا تصلح أن ترسل إلى غيره، وقد يصلح أن يرسلها شخص ولا يصلح أن يرسلها آخر، وقد تصلح لأن ترسلها لمن يَعْرفك ويَعْرف مقاصدك، ولا يصلح أن ترسلها لشخص لا يعرف مقاصدك، أو لشخص شديد الحساسية سيء الظن؛ فمراعاة تلك الأحوال أمر مطلوب.

وكم حصل من جراء التفريط بذلك الأدب من إساءة ظن، وقيام لسوق العداوة.

خامس عشر: النظر في جوالات الآخرين واستعراض الرسائل دون رضاهم: فذلك من كشف الستر، ومن التطفل المذموم، بل هو ضرب من ضروب الخيانة، وباب من أبواب سوء الظن؛ لأن الناظر في رسائل جوال غيره ربما رأى رسالة ففهمها على غير وجهها، أو ظن أنها أرسلت إلى امرأة يعاكسها، وقد يكون صاحب الجوال أرسلها إلى زوجته.

وقد تكون الرسالة وردت إليه وهو لم يرض بها، فيسيء الناظرُ الظنَّ في صاحبه وهو براء من ذلك.

وهذا يؤكد ما مضى التنبيه عليه من حفظ الجوال، والحذر من إلقائه بين الآخرين، ويوجب أن يستحضر العاقل أنه ربما استعرض الجوالَ غير صاحبه فيرى الرسائل ويكشف الستر، وربما أساء الظن.

وينبغي للمُرْسِل أن يحتاط لذلك، خصوصاً النساء؛ لأنه ربما استعرض الجوال زوج صاحبتها، أو أخوها، وربما كان مريض النفس، فكان ذلك سبباً فيما لا تحمد عقباه.

سادس عشر: ترك الإنكار على من أرسل رسالة لا تليق: فهذا مما لا ينبغي، بل على المسلم إذا وصلت إليه رسالة لا تليق أن يبادر في الإنكار على صاحبه بالرفق واللين؛ ففي هذا إقامة لشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيه تواصٍ بالحق، وتنبيهٌ على الخطأ، وتعليم للجاهل إذا كان المرسل لا يفقه ما أرسل.

كما يحسن بالإنسان أن يبادر إلى مسح الرسالة السيئة؛ حتى يسلم من الحرج إذا ضاع جواله، أو نسيه في مكان ما، أو وقع في يد غيره.

سابع عشر: استعمال الجوال للمعاكسات: وهذا الأمر يكاد يكون أخطر ما في الجوال؛ فقد كان العقلاء في السابق يحذِّرون خطر الهاتف، وينبهون على وجوب أخذ الحيطة من وضعه في أيدي السفاء، فجاء الجوال، فعم وطم، وصار بيد العاقل والسفيه، والرجل والمرأة، والصغير والكبير.

فالواجب على العقلاء أن ينتبهوا لهذا الخطر الذي سَهَّل مهمة المعاكسات كثيراً، والواجب _ أيضاً _ على المتلاعبين بالأعراض أن يحذروا عاقبة أمرهم، وأن يراقبوا ربهم، وأن يستحضروا اطلاعه عليهم.

كما يجب عليهم أن يقفوا مع أنفسهم وقفة صادقة، وأن يدركوا أن السعادة الحقة لا تكون بهذه الأساليب المحرمة، بل إن تلك الأساليب من أعظم أسباب اضطرابهم وقلقهم، وحيرتهم، وفساد أحوالهم، وضياع أموالهم.

كما أنه سبب لفضيحتهم وشقائهم، ودمارهم في الدنيا والآخرة، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، ولذة العفة خير من لذة الشهوة المحرمة.

ثامن عشر: كثرة العبث بالجوال في المجالس: خصوصاً في مجالس الأكابر من أهل العلم والفضل؛ فبعض الناس لا يفتأ أن يقلب جواله، ويستعرض نغماته وأجراسه، ويلعب في التسالي التي يحتويها الجوال إلى غير ذلك مما لا يليق بالعاقل، ومما يجعله عرضة للتندر، والاستهجان.

تاسع عشر: التشبع، والادعاء: كحال من يريد لفت الأنظار، وإظهار العظمة، وبيان أنه إنسان مهم، حيث يوهم من حوله بأن فلاناً من أهل الفضل، والمكانة يبحث عنه، ويتصل به.

يقول الشيخ بكر أبو زيد _ حفظه الله _: =في الجماعة أفراد يحملون همَّ العظمة، وأن يحمدوا بما لم يفعلوا.

وقد صح عن النبي " أنه قال: =المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور+( ).

ومن المهاتفين العُراة إجراؤهم المهاتفَة الوهمية لبعض ذوي القدرة، والمكانة، أو ذوي القدر والجاه واليسار، أو يُسِرُّ إلى بعض خواصه أن يتصل به، على أنه ذاك الذي يشار إليه، فترى المسكين يوهم الحاضرين عنده بالاهتمام البالغ، وبعض العبارات والحركات لهذه المقامات؛ ليبين للحضور أنه شخصٌ مرموق رفيع المستوى، كأنه يقول: =ها أنا ذا؛ فاعرفوني+، وهو اتصال وهميٌّ مكذوب.

وقد شاهدت وشاهد غيري من ذلك عجباً.

والمهم أن يعرف أولئك أنهم عراة، وقلَّ أن تخفى حالهم؛ فلا تسلك أيها المسلم سبيلهم+( ).

هذه إشارة عجلى وتنبيهات عابرة حول الجوال، وما ينبغي في أدبه وما لا ينبغي.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 الرسالة الثامنة عشر الإنترنت امتحان الإيمان والأخلاق والعقول

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذه صفحات يسيرة تدور حول الإنترنت، وإحسان التعامل معه، وما يدور في ذلك الفلك، وسيكون الحديث من خلال المسائل التالية:

_ الإنترنت امتحان.

_ أمور تعين على النجاة من فتنة الإنترنت:

1_ إحسان التعامل مع الإنترنت.            2_ الحذر من خطوات الشيطان.

3_ تخصيص الوقت، وتحديد الهدف.        4_ النظر في العواقب.

5_ تجنب المثيرات.                                     6_ غض البصر.

7_ التثبت.                                             8_ التأني في إبداء الرأي.

9_ الاعتدال في الطرح.                      10_ لزوم المراقبة لله _ عز وجل _.

11_ المشاركة في تقديم النافع المعين.        12_ إنكار المنكر.

_ تساؤلات.

فإلى تلك المسائل، والله المستعان، وعليه التكلان.

الإنترنت ثورة كبرى في عالم المعلومات، وميدان فسيح لامتحان الإيمان والأخلاق بل والعقول.

فالخير مفتوح الأبواب، والشر معروض بشتى الأساليب، وبإمكان الذي يتعامل مع الإنترنت أن يطلق لسانه بما شاء، وأن يُسَرِّحَ بصرَه كما يريد، وأن يخط بيده ما يرغب؛ فلا حسيب عليه، ولا رادع له، ولا مُوْقِف له عند حد.

 فإن تسامى واستعلى، ونظر في العاقبة، واستحضر رقابة ربه، وشهوده عليه _ أفلح وأنجح، واقتحم تلك العقبة.

 وإنْ هو أطلق لنفسه العنان، ومال حيث يميل الهوى، وغاب عنه رادع الإيمان ووازع التقوى _ أوشك أن يرتكس في حمأة الرذيلة، ويسقط على أم رأسه في الحضيض، فلا يكون من وراء ذلك إلا إذلال النفس، وموت الشرف، والضعة والتسفُّل.

هناك أمور تعين على النجاة من فتنة الإنترنت وغوائله ومنها:

1_ إحسان التعامل مع الإنترنت: فحريٌ بالعاقل أن يحسن التعامل مع الإنترنت، وأن لا يُفْرِطَ في الثقة في نفسه، فيوقعها في الفتنة، ثم يصعب عليه الخلاص منها.

وجدير به إذا أراد أن يقدم أية مشاركة، أو مداخلة، أو ما جرى مجرى ذلك أن ينظر في جدوى ما يقدم، وأن يحذر من أذية المؤمنين، وإشاعة الفاحشة فيهم، وأن ينأى بنفسه عن القيل والقال، واستفزاز المشاعر، وكيل التهم، وتسليط الناس بعضهم على بعض.

 وإذا أراد أن يعقب أو يرد فليكن ذلك بعلم، وعدل، ورحمة، وأدب، وسمو عبارة.

 وإذا أراد أن يشارك فليشارك باسمه الصريح، وإن خشي على نفسه إن صرح باسمه، أو رغب في إخلاص عمله، فليحذر من كتابة ما لا يجوز ولا يليق، وليستحضر وقوفه بين يدي الله يوم تبلى السرائر.

 2_ الحذر من خطوات الشيطان: فعلى العاقل كذلك أن يحذر خطوات الشيطان؛ فهو متربص ببني آدم، وقاعد لهم بكل سبيل؛ فهو عدوهم الذي يسعى سعيه في سبيل إغوائهم.

 قال ربنا _ تبارك وتعالى _ في غير موطن في القرآن الكريم: [وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ](البقرة:168).

 فالعاقل اللبيب لا يثق بعدوه أبداً، ولا يلقي نفسه في براثن الفتن، ولا يُفْرِط في الثقة مهما بلغ من العقل، والدين، والعلم.

 ومن هنا تجده ينأى عن الفتن، ولا يستشرف لها؛ فإذا تعرضت له أُعِين عليها، وصاحبه اللطف الإلهي.

 وإنْ هو وثق بنفسه، وسعى إلى حتفه بظلفه وُكِلَ إلى نفسه، وزال عنه اللطف.

 فهذا يوسف _ عليه السلام _ لم يتعرض للفتنة، بل هي التي تعرضت له.

 ومع ذلك لم يثق بإيمانه، وعلمه، وشرفه المُعْرِق، بل فر من الفتنة، واستعاذ بالله من شرها، واعترف بأنه إن لم يصرف الله عنه كيد النسوة صبا إليهن وكان من الجاهلين.

 ولما كانت هذه هي حالَه صاحَبَهُ اللطف، وأُعِين على الخلاص من ذلك البلاء العظيم.

3_ تخصيص الوقت، وتحديد الهدف: فمما يعين على تعدي هذه البلايا أن يخصص الإنسان وقتاً محدداً، وعملاً معيناً، وأن يكون له هدف واضح، ويتعامل من خلال ذلك مع الإنترنت.

 أما إذا استرسل مع تصفُّح الأوراق، والانتقال من موقع إلى موقع دون هدف أو غاية _ ضاع وقته، وقلَّت فائدته، وإفادته.

4_ النظر في العواقب: فمما يعين على النجاة من فتنة الإنترنت أن ينظر العاقل في العواقب، وأن يقهر نفسه، ويلجمها بلجام التقوى.

 قال ابن الجوزي ×: =بالله عليك يا مرفوع القدر بالتقوى لا تبع عزها بذل المعاصي، وصابر عطش الهوى في هجير المشتهى وإن أمضَّ وأرمض + يعني وإن آلم وأحرق.

 وقال ×: =وفي قوة قهر الهوى لذة تزيد على كل لذة؛ ألا ترى إلى كل مغلوب بالهوى كيف يكون ذليلاً؛ لأنه قُهِر، بخلاف غالب الهوى؛ فإنه يكون قوياً لأنه قَهَر+.

5_ تجنب المثيرات: وذلك بأن يتجنب المتعامل مع الإنترنت المثيراتِ؛ فيبتعد عن المواقع المنحطة، وعن المنتديات التي يثار فيها الكلام الفاحش، وعن المقالات التي تثير الغرائز، وتحرك الكوامن.

 وينأى بنفسه عن الصور الفاضحة، واللقطات المثيرة؛ فإن مَثَلَ النفوسِ _ بما جُبِلَتْ عليه من ميل للشهوات، وما أودع فيها من غرائز تميل مع الهوى حيث مال _ كمثل البارود، والوقود، وسائر المواد القابلة للاشتعال؛ فإن هذه المواد، وما جرى مجراها متى كانت بعيدة عما يشعل فتيلها، ويذكي أوارها _ بقيت ساكنة وادعة، لا يخشى خطرها، والعكس.

 وكذلك النفوس؛ فإنها تظل وادعة ساكنة هادئة؛ فإذا اقتربت مما يثيرها، ويحرك نوازعها إلى الشرور من مسموع،أو مقروء،أو منظور،أو مشموم _ ثارت كوامنها، وهاجت شرورها، وتحرك داؤها، وطغت أهواؤها.

قال ابن حزم ×:

لا تلُم مَنْ عَرَّضْ النفسَ لما

                   ليس يُرضي غيرَه عند المحنْ

لا تُقَرِّبْ عرفجاً من لهبٍ

                   ومتى قَرَّبْتَهُ ثارتْ دُخنْ

وقال:

لا تُتْبِعِ النفسَ الهوى

                   ودَعِ التعرضَ للمحن

إبليسُ حيٌّ لم يمت

                   والعينُ بابٌ للفتن

وقال أبو الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذاني ×:

من قارفَ الفتنةَ ثم ادعى الـ

                   عصمة قد نافقَ في أمره

ولا يجيز الشرعُ أسباب ما

                   يورط المسلمَ في حظره

فانجُ ودعْ عنك صُداعَ الهوى

                   عساك أن تسلمَ من شَرِّه

6_ غض البصر: لأن الصورة القبيحة تعرض للإنسان ولو بدون قصد؛ فإذا غض بصره أرضى ربه، وأراح قلبه؛ فالعين مرآة القلب، وإطلاق البصر يورث المعاطب، وغض البصر يورث الراحة؛ فإذا غض العبد بصره غض القلب شهوته وإرادته، وإذا أطلق بصره أطلق القلب شهوته.

 قال ربنا _ عز وجل _:[قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ](النور:30).

 قال شيخ الإسلام ابن تيمية × في هذه الآية: =فجعل _ سبحانه _ غض البصر، وحفظ الفرج هو أقوى تزكيةٍ للنفوس، وزكاة النفوس تتضمن زوال جميع الشرور من الفواحش، والظلم، والشرك، والكذب ، وغير ذلك +.

 7_ التثبت: على الإنسان حال تعامله مع الإنترنت أن يتثبت مما يقوله، ويسمعه، ويقرؤه، ويرويه، وبذلك يُعْلَمُ عقلُ الإنسان، ورزانته، وإيمانه.

 كيف والإنترنت يُكْتَبُ فيه الغث في السمين، ويَكْتُبُ كل من هب ودب، وبأسماء مجهولة مستعارة؟

فعلى العاقل أن ينظر في هذا الأمر؛ فإذا اطلع على خبر أو أمر من الأمور تَثَبَّتَ في شأنه، وإذا ثبت له نظر في جدوى نشره، فإن كان في ذلك حفز للخير، واجتماع عليه نشره، وأظهره، وإن كان خلاف ذلك طواه وأعرض عنه.

 وكم حصل من جراء التفريط في هذا الأمر من الشر والخلل.

 وكم من الناس من يلغي عقله، ويتعامل مع ما ينشر في الإنترنت وكأنه وحي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

 وإلا فإن العاقل اللبيب يتثبت، ويتأنى حتى ولو اطلع على كلام لشخص معروف موثوق، فضلاً عن مجهول، أو غير موثوق.

 ولقد جاء النهي الصريح عن أن يحدث المرء بكل ما سمع.

قال ": =كفى بالمرء كذباً أن يحدِّث بكل ما سمع+رواه مسلم.

 ويتعين هذا الأدب في وقت الفتن والملمات، فيجب على الناصح لنفسه أن يتحرى هذا الأدب؛ حتى يقرب من السلامة، وينأى عن العطب.

 قال الله _ تعالى _:[وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً](النساء: 83).

 قال الشيخ العلامة عبد الرحمن السعدي × في تفسير هذه الآية: = هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق، وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة، والمصالح العامة مما يتعلق بالأمن، وسرور المؤمنين أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم _ أن يتثبتوا، ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم: أهل الرأي، والعلم، والنصح، والعقل، والرزانة، الذين يعرفون الأمور، ويعرفون المصالح وضدها.

 فإذا رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطاً للمؤمنين، وسروراً لهم، وتحرزاً من أعدائهم _ فعلوا ذلك، وإن رأوا ما ليس فيه مصلحة، أو فيه مصلحة، ولكن مضرته تزيد على مصلحته لم يذيعوه، ولهذا قال: [لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ]أي يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة، وعلومهم الرشيدة.

 وفي هذا دليل لقاعدة أدبية، وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يُوَلَّى من هو أهل لذلك، ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم؛ فإنه أقرب إلى الصواب، وأحرى للسلامة من الخطأ.

 وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها، والأمرُ بالتأمل قبل الكلام، والنظر فيه هل هو مصلحة فيقدم عليه الإنسان أم لا فيحجم عنه+.

 وقال × في موضع آخر حاثاً على التَّثبُّت، والتدبر، والتأمل قال: =وفي قوله _ تعالى _ : [وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً](طه:114) أدبُ طالب العلم، وأنه ينبغي له أن يتأنى في تدبره للعلم، ولا يستعجل بالحكم على الأشياء، ولا يعجب بنفسه، ويسأل ربه العلم النافع والتسهيل+.

 وقال ×: =قوله _ تعالى _:[لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ](النور:12) هذا إرشاد منه لعباده إذا سمعوا الأقوال القادحة في إخوانهم المؤمنين رجعوا إلى ما علموا من إيمانهم، وإلى ظاهر أحوالهم، ولم يلتفتوا إلى أقوال القادحين، بل رجعوا إلى الأصل، وأنكروا ما ينافيه+.

قال ابن حبان ×: أنشدني منصور بن محمد الكريزي:

الرفقُ أيمنُ شيءٍ أنت تَتْبَعُه

                   والخُرقُ أشأمُ شيء يُقْدِم الرَّجُلا

وذو التثبت من حمد إلى ظفرٍ

                   من يركبِ الرفقَ لا يستحقبِ الزللا

8_ التأني في إبداء الرأي: فمما ينبغي للعاقل في هذا الشأن ألا يحرص على إبداء رأيه في كل أمر، وألا يقول كل ما يعلم بل اللائق به أن يراعي المصالح؛ فلا يحسن به أن يبدي رأيه في كل صغيرة وكبيرة، ولا يلزمه أن يتكلم بكل نازلة؛ لأنه ربما لم يتصور الأمر كما ينبغي، وربما أخطأ التقدير، وجانب الصواب، والعرب تقول في أمثالها: =الخطأ زاد العَجُول+.

بخلاف ما إذا تريث وتأنى؛ فإن ذلك أدعى لصفاء القريحة، وأحرى لأنْ يختمر الرأي في الذهن، وأخلق بالسلامة من الخطأ.

 والعرب تمدح من يتريث، ويتأنى ويقلب الأمور ظهراً لبطن، وتقول فيه: =إنه لحُوَّلٌ قُلَّب+.

 بل ليس من الحكمة أن يبدي الإنسان رأيه في كل ما يعلم حتى ولو كان متأنياً في حكمه، مصيباً في رأيه؛ فما كل رأي يجهر به، ولا كل ما يعلم يقال.

 بل الحكمة تقتضي أن يحتفظ الإنسان بآرائه إلا إذا استدعى المقام ذلك، واقتضته الحكمة والمصلحة، وكان دأبه في ذلك المشاورة خصوصاً في الأمور الكبار.

وزن الكلام إذا نطقت فإنما

                   يبدي العقولَ أو العيوبَ المنطقُ

 قال أحد الحكماء: =إن لابتداء الكلام فتنةً تروق وجدَّةً تعجب؛ فإذا سكنت القريحة، وعدل التأمل، وصفت النفس _ فليعدِ النظر، وليكن فرحُه بإحسانه مساوياً لغمِّه بإساءته+.

 وقال ابن حبان ×: =الرافق لا يكاد يُسْبَق كما أن العَجِل لا يكاد يَلْحَق، وكما أن من سكت لا يكاد يندم كذلك من نطق لا يكاد يسلم.

 والعَجِل يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويحمد قبل أن يجرب، ويذم بعد ما يحمد، ويعزم قبل أن يفكر، ويمضي قبل أن يعزم.

 والعَجِل تصحبه الندامة، وتعتزله السلامة، وكانت العرب تُكَنِّي العجلة: أمَّ الندامات+.

وذكر بسنده عن عمر بن حبيب قال: =كان يقال: لا يوجد العجول محموداً، ولا الغضوب مسروراً، ولا الحر حريصاً، ولا الكريم حسوداً، ولا الشَّرِه غنياً، ولا الملول ذا إخوان+.

 ولهذا تتابعت نصائح الحكماء على التريث خصوصاً عند إرادة الإقدام على مواقع الخطر، قال المتنبي:

الرأي قبل شجاعة الشجعان

                   هو أول وهي المحل الثاني

فإذا هما اجتمعا لنفسٍ مِرَّةٍ

                   بلغت من العلياء كل مكان

وقال:

وكل شجاعة في المرء تغني

                   ولا مثل الشجاعة في الحكيم

9_ الاعتدال في الطرح: فمما ينبغي للعاقل: أن يعتدل في طرحه، وأن يحذر من المبالغة، وتضخيم الأمور؛ لأن الحقيقة تضيع بين التهويل والتهوين.

 والعرب تقول في أمثالها: =خير الناس هذا النمط الأوسط+.

10_ لزوم المراقبة لله _ عز وجل _: وأعظم زاجر وواعظ للمرء، ومعين له على الإفادة من الإنترنت، والسلامة من شروره وغوائله _ لزوم المراقبة لله _ عز وجل _ واستشعار اطلاعه _ تبارك وتعالى _.

وما أبصَرَتْ عَيْنايَ أَجْمَلَ مِنْ فَتَىً

                   يخَافُ مَقَامَ اللهِ فيْ الخَلَواتِ

فحري بالعاقل أن يستحضر هذا المعنى جيداً، وأن يتذكر دائماً أن الغيب عند الله علانية، فكيف يليق بالمرء أن يجعل الله _ عز وجل _ أهون الناظرين إليه؟ ! وحقيق عليه أن يدرك أنه من أخفى خبيئة ألبسه الله ثوبها، ومن أضمر شيئاً أظهره الله عليه سواء كان ذلك خيراً أو شراً؛ فالجزاء من جنس العمل، و[مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ](النساء:123).

وإليك أخي القارئ الكريم هذه الكلماتِ النورانيَّةَ في هذا الشأن من بعض أئمة السلف _ رحمهم الله ورضي عنهم _:

قال أبو حازم سلمة بن دينار ×: =لا يُحْسِن عبد فيما بينه وبين الله _ تعالى _ إلا أحسن الله فيما بينه وبين العباد، ولا يُعَوِّر _ يفسد _ فيما بينه وبين الله _ تعالى _ إلا عوَّر الله فيما بينه وبين العباد، ولَمُصَانَعَةُ وجه واحد أيسر من مصانعة الوجوه كلها؛ إنك إذا صانعت الله مالت الوجوه كلُّها إليك،وإذا أفسدت ما بينك وبينه شنأتك _ أبغضتك _ الوجوه كلها+.

 وقال المعتمر بن سليمان ×: =إن الرجل يصيب الذنب في السر، فيصبح وعليه مذلته+.

قال ابن الجوزي ×: =نظرت في الأدلة على الحق _ سبحانه وتعالى _ فوجدتها أكثر من الرمل، ورأيت من أعجبها: أن الإنسان قد يخفي ما لا يرضاه الله _ عز وجل _ فيظهره الله _ سبحانه _ عليه ولو بعد حين، وينطق الألسنة به، وإن لم يشاهده الناس.

 وربما أوقع صاحبَه في آفة يفضحه بها بين الخلق؛ فيكون جواباً لكل ما أخفى من الذنوب، وذلك؛ ليعلم الناس أن هنالك من يجازي على الزلل، ولا ينفع مِنْ قَدَره وقدرته حجاب ولا استتار، ولا يضاع لديه عمل.

 وكذلك يخفي الإنسان الطاعة، فتظهر عليه، ويتحدث الناس بها، وبأكثر منها، حتى إنهم لا يعرفون له ذنباً، ولا يذكرونه إلا بالمحاسن؛ لِيُعْلَمَ أن هنالك ربَّاً لا يُضيع عَمَلَ عامل.

 وإن قلوب الناس لَتَعْرِفُ حال الشخص، وتحبه، أو تأباه، وتذمه، أو تمدحه وفْقَ ما يتحقق بينه وبين الله _ تعالى _ فإنه يكفيه كلَّ همٍّ، ويدفع عنه كل شر.

 وما أصلح عبد ما بينه وبين الخلق دون أن ينظر إلى الحق إلا انعكس مقصوده، وعاد حامده ذامَّاً+.

وقال ×: =إن للخلوة تأثيراتٍ تَبيْنُ في الجلوة؛ كم من مؤمن بالله _ عز وجل _ يحترمه عند الخلوات، فيترك ما يشتهي؛ حذراً من عقابه، أو رجاءً لثوابه، أو إجلالاً له؛ فيكون بذلك الفعل كأنه طرح عوداً هنديَّاً على مجمر، فيفوح طيبه، فيستنشقه الخلائق، ولا يدرون أين هو.

 وعلى قدر المجاهدة في ترك ما يهوى تقوى محبتُه، أو على مقدار زيادة دفع ذلك المحبوب المتروك يزيد الطيب، ويتفاوت تفاوتَ العود.

 فترى عيون الخلق تعظِّم هذا الشخص، وألسنتهم تمدحه، ولا يعرفون لِمَ، ولا يقدرون على وصفه؛ لبعدهم عن حقيقة معرفته.

 وقد تمتد هذه الأراييح _ يعني الروائح _ بعد الموت على قدرها؛ فمنهم من يذكر بالخير مدة مديدة ثم ينسى، ومنهم من يذكر مائة سنة ثم يخفى ذكره، وقبره، ومنهم أعلام يبقى ذكرهم أبداً.

 وعلى عكس هذا من هاب الخلق، ولم يحترم خلوته بالحق فإنه على قدر مبارزته بالذنوب، وعلى مقادير تلك الذنوب _ يفوح منه ريح الكراهة، فتمقته القلوب.

فإن قلَّ مقدار ما جنى قل ذكر الألسن له بالخير، وبقي مجرد تعظيمه.

وإن كثر كان قصارى الأمر سكوت الناس عنه لا يمدحونه، ولا يذمونه.

وربَّ خالٍ بذنب كان سبب وقوعه في هُوَّة شِقْوة في عيش الدنيا والآخرة، وكأنه قيل له: ابق بما آثرت؛ فيبقى أبداً في التخبيط.

فانظروا إخواني إلى المعاصي أثَّرت، وعَثَّرت.

قال أبو الدرداء ÷: إن العبد ليخلو بمعصية الله _ تعالى _ فيلقي الله بغضه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر.

 فتلمحوا ما سطرته، واعرفوا ما ذكرته، ولا تهملوا خلواتكم ولا سرائركم؛ فإن الأعمال بالنية، والجزاء على مقدار الإخلاص+.

 وقال ابن الجوزي ×: =إنه بقدر إجلالكم لله _ عز وجل _ يجلكم، وبمقدار تعظيم قدره واحترامه يعظم أقداركم وحرمتكم.

 ولقد رأيت _ والله _ من أنفق عمره في العلم إلى أن كَبِرت سنُّه، ثم تعدى الحدود، فهان عند الخلق، وكانوا لا يلتفتون إليه مع غزارة علمه، وقوة مجاهدته.

 ولقد رأيت من كان يراقب الله _ عز وجل _ في صبوته _ مع قصوره بالإضافة إلى ذلك العالم _ فَعَظَّم اللهُ قدره في القلوب، حتى عَلِقَتْهُ، ووصفته بما يزيد على ما فيه من الخير.

 ورأيت من كان يرى الاستقامة إذا استقام، وإذا زاغ مال عنه اللطف.

ولولا عموم الستر، وشمول رحمة الكريم لافتضح هؤلاء المذكورون، غير أنه في الأغلب تأديب، أو تلطف في العقاب+.

11_ المشاركة في تقديم النافع المفيد: وكما أنه يجب على المسلم أن ينأى بنفسه عن شر الإنترنت فكذلك ينبغي له أو يجب عليه ألا يحرم نفسه من خيره، خصوصاً إذا كان ذا دراية، وتخصص فيه؛ فلا يحسن به أن يكون قصاراه ألا يقع في المحذور.

 بل عليه أن يقدم النافع المفيد، من المشاركات الهادفة، والاقتراحات النافعة، والدلالة على المواقع الإسلامية الموثوقة.

12_ إنكار ما يراه من منكر: فعلى المتعامل مع الإنترنت ألا يحقر نفسه في إنكار ما يراه من منكر أو قبيح في الإنترنت كل ذلك بحسب قدرته واستطاعته.

وأخيراً إليك أيها الأخ الكريم هذه التساؤلات:

ألا تشعر _ وأنت تقلب بصرك في الصور الخليعة _ بظلمة في قلبك، ووهن في بدنك، وزهد بالفضيلة ورغبة في الرذيلة؟!

 ألا تحسُّ _ وأنت تطالع المهاترات، وتصيغ سمعك لما يقال في فلان وفلان _ بقسوة في قلبك، وإساءة في ظنك، وتشاؤمٍ في نظرتك.

 ألا تشعر _ إذا قضيت الساعات الطوال أمام الإنترنت بلا فائدة _ بضيق في صدرك، وتكسُّرٍ لحاجاتك؟ حتى إنك لا تطيق من بجانبك، ولا تحرص على الرد بمن يتصل بك عبر الهاتف؟

وفي مقابل ذلك ألا تشعر بنشاط، وأنس، وسرور وقوةٍ إذا قدمت الخير، وغضضت البصر عن الحرام، واتقيت الله في الخلوة؟ !.

 أسأل الله _ بأسمائه الحسنى وصفاته العلى _ أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، مباركين أينما كنا، والحمد لله رب العالمين.

 الرسالة التاسعة عشر: توبة الأمة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فإن الأمة تمر بأحوال غريبة، وأهوال عصيبة، فالخطوب تحيط بها، والأمم من كل مكان تتداعى عليها.

وإن مما يلفت النظر في هذا الشأن غفلة الأمة عن التوبة؛ فإذا تحدث متحدث عن التوبة تبادر إلى الذهن توبة الأفراد فحسب، أما توبة الأمة بعامة فقلَّ أن تخطر بالبال.

وهذا من الأخطاء في باب التوبة؛ ذلك أن سنته _ عز وجل _ في الأفراد، وفي مغفرته للتائبين وعفوه عن المذنبين _ هي هي سنته _ سبحانه _ في الأمم والشعوب.

فالأمة التي تعود إلى طريق الرشاد، وتَصْدُق في التوبة والإنابة إلى رب العباد _ يفتح الله لها، ويرفع من شأنها، ويعيدها إلى عزتها ومجدها، وينقذها من وهدتها التي انحدرت إليها، وينجيها من الخطوب التي تحيط بها؛ نتيجة الذنوب التي ارتكبتها، والمنكرات التي أشاعتها من شرك، وبدع، وحكم بغير ما أنزل الله، وموالاة لأعداء الله، وخذلان لأوليائه، وتقصير في تبليغ دعوة الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتركٍ للصلوات ونحو ذلك مما هو مؤذن بالعقوبة، وحلول اللعنة كالربا والفسوق، والمجون، ونقص المكاييل وغير ذلك.

فإذا تابت إلى ربها متعها الله بالحياة السعيدة، وجعل لها الصولة والدولة، ورزقها الأمن والأمان، ومكن لها في الأرض.

قال _ تعالى _ :[وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً] (النور: 55).

وإذا أردت مثالاً على توبة الأمة من القرآن الكريم فانظر إلى قوله _ تعالى _: [فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ] (يونس: 98).

وهؤلاء القوم الذين ذكروا في هذه الآية هم قوم يونس _ عليه السلام _ وقريتهم هي نينوى التي تقع شرقي مدينة الموصل في شمالي العراق.

ومعنى الآية _ كما يقول المفسرون _: أن قوم يونس _ عليه السلام _ لما أظلهم العذاب، وظنوا أنه قد دنا منهم، وأنهم قد فقدوا يونس _ قذف الله في قلوبهم التوبة، وفرقوا بين كل أنثى وولدها، وعَجُّوا إلى الله أربعين ليلة _ أي رفعوا أصواتهم بالتلبية والدعاء _ فلما علم الله منهم صدق التوبة كشف عنهم العذاب، وقال: [وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ] (يونس: 98) أي لم نعاجلهم بالعقوبة، فاستمتعوا بالحياة الدنيا إلى حين مماتهم وقت انتهاء أعمارهم.

فما أحوج أمتنا اليوم أن تعج إلى الله منيبة تائبة، ليرضى عنها، ويرفع عنها ما هي فيه من الذلة، والمهانة، والخيبة، والتبعية لأعدائها.

هذا ومما يجب على الأمة في هذا الباب زيادة على ما مضى ما يلي:

1_ التوبة من الإسراف: فالإسراف نذير شؤم، ومؤذن هلاك؛ فهو يفضي إلى الفاقة، وينزل بأهله إلى طبقة المقلين أو المعدمين.

والإسراف في الترف ينبت في النفوس أخلاقاً مرذولة من نحو الجبن، والجور، وقلة الأمانة، والإمساك عن البذل في وجوه الخير.

أما أن الإسراف في الترف يدعو إلى الجبن فلأنَّ شِدَّةَ تعلق النفوس بالزينة واللذائذ يقوِّي حرصها على الحياة، ويحملها هذا الحرصُ على تجنب مواقع الحروب، وإن كانت مواقف شرف وذود عن الدين، والنفس، والمال، والعرض.

وأما أن الإسراف في الترف يسهل على النفوس ارتكاب الجور فلأن المنغمس في الترف يحرص على اكتساب المال ليشبع شهواته، فلا يبالي أن يأخذه من طرق غير مشروعة، فيمد يده إلى الاستيلاء على ما في يد غيره من طريق الرشوة، أو من طريق الغصب إن كان ذا سلطان وقوة.

وأما أنه يَذْهَبُ بالأمانة فلأن الغريق في الترف إنما همُّه الوصولُ إلى زينة أو لذة، أو مطعم ونحوه _ كثيراً ما تدفعه هذه الشهوات إلى أن يخون من ائتمنه، فيمد يده إلى المال الذي ائتُمن عليه، وينفقه في شهواته الطاغية.

وأما أنه يمسك الأيدي عن فعل الخير فلأن من اعتاد الترف حتى أخذ بمجامع قلبه كان أعظم قصدِه من جمع المال إنفاقَه فيما يَلَذُّه من مأكول، أو يتزين به من نحو ملبوس أو مفروش.

لذلك كان الغالبُ على المترفين المسرفين قبضَ أيديهم حيث يبسط غيرهم يده؛ إسعاداً لذوي الحاجات من الفقراء والمنكوبين، أو إجابة لما تدعو إليه المروءة والمكارم.

ومن هنا نستبين أن للإسراف سيئةً أخرى هي قطع صلة التعاطف والتوادد بين كثير من أفراد الأمة.

ولهذا تجد من الموسرين المترفين من ينفق الأموال الطائلة في سبيل لذَّاته وشياطينه، وإذا سئل بذل القليل في مشروع جليل أعرض ونأى بجانبه.

هذا وللإسراف في الترف أثر كبير في إهمال النصيحة والدعوة إلى الحق؛ ذلك أن من اعتاد التقلب في الزينة، وأَلِفَتْ نفسُه العيش الناعم _ يغلب عليه الحرص على هذا الحال؛ فيتجنب المواقف التي يمكن أن تكون سبباً لفوات بعض النعيم.

وللإسراف أثر في الصحة؛ فقد دلت المشاهدات على أن المسرف في نحو المأكل والمشرب لا يتمتع بالصحة التي يتمتع بها المقتصدون فيما يأكلون ويشربون.

والإسراف في الترف يقل معه النبوغ في العلم؛ ذلك أن النفس المحفوفة بالرفاهية من كل جانب يضعف طموحها إلى اللذات العقلية؛ لأنها في لذة قد تشغلها أن تطلب لذة كلذة العلوم طلباً يبلغ بها مرتبة العبقرية.

ومن الجلي أن مرتبة العبقرية لا تُدْرك إلا باحتمال مصاعب، واقتحام أخطار، والمسرفُ في الترف ضعيف العزيمة لا يثبت أمام المكاره والشدائد.

هذه بعض مضار الإسراف؛ فحق الأمة التي تريد النهوض من كبوتها أن تقلع عن الإسراف في الرفاهية، وتضع مكان الإسراف بذلاً في وجوه البر والإصلاح؛ فمما تشكو منه الأمة إطلاق الأيدي بإنفاق المال في غير جدوى، وتدبير المال على غير حكمة وحسن تقدير.

قال العلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي × : =إن أمة تنفق الملايين في الشهر على القهوة والدخان، وتنفق مثلها على المحرمات، وتنفق مثلها على البدع الضارة، وتنفق أمثال ذلك كله على الكماليات التي تنقص الحياة ولا تزيد فيها، ثم تدَّعي الفقر إذا دعاها داعي العلم لما يحييها _ لأمة كاذبة على الله، سفيهة في تصرفاتها+.

وقال ×: =المال الذي تنفقه في المحرمات يسوقك إلى النار، والمال الذي تبدده في الشهوات يجلب لك العار، والمال الذي تدخره للورثة الجاهلين تهديه إلى الأشرار، وتبوء أنت بالتبار والخسار.

 أما المال الذي تحيي به العلم، وتميت به الجهل _ فهو الذي يتوجك في الدنيا بتاج الفخار، وينزلك عند الله منزلة الأبرار+.

ولا يعني التحذير من الإسراف في الترف أن يكون الناس على سنة واحدة من الإعراض عن الزينة والملاذِّ؛ فقد قال _ تعالى _: [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ] (الأعراف: 32).

وإنما المقصود من ذلك الدعوةُ إلى أخذ النفوس بالاقتصاد، وحمايتها من الإفراط في الزينة واللذيذ من العيش.

ولهذا سلكت هداية القرآن الكريم بالناس هذا الطريق القويم، وهو طريق الاقتصاد؛ فبعد أن أمر في آيات كثيرة بالإنفاق في وجوه الخير نهى عن الإسراف نهياً بالغاً، فقال _ تعالى _: [وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً] (الإسراء: 29).

وألحق المبذرين بقبيل الشياطين فقال _ تعالى _: [إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ] (الإسراء: 27).

وعدهم في زمرة من يستحقون بغضه فقال _ عز وجل _: [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ] (الأعراف: 31).

وأثنى على عباده المؤمنين بفضيلة الاقتصاد فقال: [وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً] (الفرقان: 67).

وإذا كان الإسراف يوقع الأفراد والجماعات في مضارّ كثيرة كان واجباً على أولياء الأمور ودعاة الإصلاح أن يتعاونوا على الجهاد في هذا السبيل؛ حتى يبتعد الناس عن الإسراف في مآكلهم، ومشاربهم، وملابسهم، ومراكبهم، ومساكنهم، وأمتعة بيوتهم.

وحين يُحذَّر من عواقب الإسراف، ويُدعى إلى الاقتصاد _ يبين أنه لا فضيلة في الاقتصاد إلا بعد أن يؤدي الرجل حق المال من نحو النفقات الواجبات عليه لأقاربه، والزكوات المفروضة لأهلها، وبعد أن يبسط يده بالإعانة على بعض المصالح العامة كإنشاء مساجد، أو مدارس، أو مستشفيات، أو ملاجىء، أو إعداد وسائل الاحتفاظ بسيادة الأمة والدفاع عن حقوقها.

2_ التوبة من التبعية الثقافية والفكرية: فمما يؤسف عليه، ويندى له جبين الحق ما يُرى من حال كثير من مثقفينا ومفكرينا؛ فلا تراهم يرفعون بالإسلام رأساً، ولا يَهُزُّون لنصرته قلماً، ولا يحفلون إلا بزبالة أفكار الغرب، ولا يثقون إلا بما يصدر من مشكاته.

إن كثيراً من هؤلاء الذين تخرجوا في المؤسسات الحضارية الغربية، وعاشوا في المجتمعات الإسلامية _ يجهلون الإسلام جهلاً كاملاً.

ولا يعني ذلك الجهل أنهم لم يسمعوا بالإسلام، أو أنهم لم يحفظوا في صغرهم شيئاً من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، أو أنهم لم يسجدوا لله يوماً من الأيام سجدة، أو لم يعرفوا أخبار رسول الله " وصحابته الكرام

_ رضوان الله عليهم _.

لا، ليس الأمر كذلك، وإنما المقصود أن هؤلاء يجهلون نظرة الإسلام إلى الكون، والحياة، والإنسان.

ويجهلون حقائق الإسلام، وشرائعه الحكيمة، ومقاصده النبيلة.

ويجهلون قيم الإسلام،ومُثُلَه،وأخلاقه، وخصائص حضارته، وتطوراتها، ومراحلها.

ويجهلون أسباب تقدم المسلمين في التاريخ، وأسباب تأخرهم.

ويجهلون القوى التي حاربتهم، والمؤامرات التي نسجت عبر التاريخ للقضاء عليهم.

فهؤلاء الذين نسميهم مثقفين ومفكرين عندما واجهو الغرب، وحضارته، وفنه، وأدبه _ لم يواجهوه إلا بعقول خواء، وأفئدة هواء، ونفوس مجردة من معاني الأصالة والعزة والأنفة؛ فلم يواجهوا الحضارة الحاضرة مواجهة مدركة، فاحصة، مقوّمة.

وإنما واجهوها مواجهة سطحية تنطلق من مواطن الجهل، والذلة، والشعور بالهزيمة، فانبهروا بكل ما فيها دونما تمييز بين الحق والباطل، والضار والنافع؛ فنكسوا رؤوسهم حِطَّةً أمام الغرب.

ولهذا تراهم يَهُشُّون ويطربون إذا ذكر اسم فرويد، أو نيتشه، أو ت. إس إليوت، أو ماركيز، أو غيرهم من مفكري الغرب على اختلاف توجهاتهم ومدارسهم الفكرية.

وإذا ذكر الله ورسوله اشمأزت قلوبهم، واستولى عليهم الشعور بالهزيمة والذلة.

ومن هنا فإن مثقفينا _ في فروع الحياة كلها إلا من رحم ربك _ قد نقشوا ما عند الغربيين، وظنوا أنه لا ثقافة إلا ثقافتهم، ولا أدب إلا أدبهم، ولا واقع إلا واقعهم؛ فهم جهلوا الإسلام وحضارته، وعرفوا كل شيء عن الغرب.

وأكثر هؤلاء لا يتبرؤون من الإسلام، بل يصرحون بانتمائهم للأمة الإسلامية.

ولكنهم يفهمون الإسلام من إطار المفهوم الغربي للدين.

والمفهوم الغربي للدين يتلخص في أن الدين عبارة عن رابطة فردية خاصة بين الإنسان وربه؛ فالإنسان يؤمن بمجموعة من القيم والأخلاق التي يستقيها من إيمانه بالله، تصوغ شخصيته، وتجعل منه إنساناً اجتماعياً يستقيم سلوكه العام في إطار الإيمان الديني.

أما الحياة بشمولها فإنها _ في نظرهم _ لا بد أن تخضع لحركة العقل المتغير عبر الزمان والمكان.

يقول الدكتور محسن عبد الحميد _ أحد علماء العراق _ : =من خلال عشرات المواقف الأليمة جداً التي مرت في حياتي التدريسية، والتي أثبتت لي بشكل قطعي هذا الجهل العام بين كثير من مثقفينا للإسلام أروي الحوادث الآتية:

_ في محاضرة عامة لاقتصادي مسلم استعرض المذاهب الاقتصادية كلها منذ أقدم العصور إلى العصر الحديث في مختلف الملل والنحل، ولم يتطرق إلى الإسلام أو حضارته في مجال الاقتصاد منهجاً وعلماً.

فلما سُئل عقب انتهاء المحاضرة عن سبب ذلك قال بالحرف الواحد: أنا متأسف؛ لأنني لا أعرف عن وجهة نظر الإسلام في هذا الموضوع شيئاً.

ولما أهدي له فيما بعد كتاب حول أحكام الاحتكار في الفقه الإسلامي تعجب كثيراً، وذكر أنه لم يكن يظن أن الفقهاء بحثوا مثل هذه الموضوعات.

_ وحضرت مرة مناقشة رسالة علمية في الفقه الجنائي الإسلامي مقارناً بالفقه الجنائي الغربي _ استغرب مناقش قانوني في اللجنة أن يكون فقهاء المسلمين قد ناقشوا بعمق نظرية قانونية كان هو يعتقد أنها نظرية غربية صِرْفة.

_ وكنا نتناقش يوماً في غرفة الأساتذة حول وضع المرأة في الإسلام؛ فانبرى أحد المختصين في علم الاجتماع، فقال: إن الإسلام ظلم المرأة عندما جعل الرجل قوَّاماً عليها.

فلما سألناه: ما المعنى اللغوي للقوامة في الآية الكريمة حتى نحدد موقفنا منه _ تلعثم ولم يعرف معناها.

فقال له أحدنا: كيف تصدر يا أستاذ هذا الحكم الظالم على الإسلام وأنت لا تعرف معنى القوامة؟+

ثم إن نظرة كثير من أولئك تجاه المسلمين وقضاياهم هي هي نظرة الغرب؛ فالغرب يرى أن الإسلام دين قسوة وهمجية، وأن أهله قساة عتاة أجلاف غلاظ الأكباد.

وينطلي هذا الهراء على كثير من أولئك المثقفين، فيسايرون أعداءهم، ويسيرون في ريحهم، وما علموا أن الإسلام دين العدل والرحمة، وأن أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس.

وما الحسام الذي يأمر الإسلام بانتضائه للجهاد في سبيل الله إلا كمبضع طبيب ناصح يشرط به جسم العليل؛ لينزف دمه الفاسد؛ حرصاً على سلامته.

وما الجهاد _ دفعاً كان أو طلباً _ إلا تخليص للعباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وما هو إلا وسيلة للحياة الكريمة العزيزة الطيبة.

وأمة الإسلام خير أمة جاهدت في سبيل الله فانتصرت، وغلبت فرحمت، وحكمت فعدلت، وساست فأطلقت الحرية من عقالها، وفجرت ينابيع المعارف بعد نضوبها.

واسأل التاريخ؛ فإنها قد استودعته من مآثرها الغرِّ ما بَصُر بضوئه الأعمى، وازدهر في الأرض ازدهار الكواكب في كبد السماء.

فماذا فعل المسلمون لما انتصروا على خصومهم؟ ماذا قال النبي " لما انتصر على قريش وفتح مكة؟ ألم يصفح عنهم؟ وينس ما فعلوه به؟

وماذا فعل المسلمون لما انتصروا على كسرى وقيصر؟ هل خانوا العهود؟ وهل انتهكوا الأعراض؟ وهل قتلوا الشيوخ والأطفال والنساء؟

وماذا فعل صلاح الدين لما انتصر على الصليبيين؟ ألم ينعم على قائدهم بالعفو؟ ألم يعالجه، ويطلق سراحه؟

فهذه المواقف وأمثالها كثيرة في تاريخ المسلمين، مما كان لها أبلغ الأثر في محبة الناس للإسلام، والدخول فيه عن قناعة ويقين.

أفغير المسلمين يقوم بمثل هذا؟ آلغرب يقدم لنا مثل هذه النماذج؟

الجواب ما تراه وتسمعه؛ فمن أين خرج هتلر، وموسوليني، ولينين، وستالين، ومجرمو الصرب؟ أليست أوربا هي التي أخرجت هؤلاء الطواغيت الشياطين الذين قتلوا الملايين من البشر، والذين لاقت البشرية منهم الويلات إثر الويلات؟ ألا يعد أولئك هم طلائع حضارة أوربا؟ فمن الهمج العتاة القساة الأجلاف إذاً؟

أما ما يقع من أخطاء، وانحراف عن سبيل الرشاد من بعض المنتسبين إلى الإسلام _ فإن تبعته عليهم، لا على الإسلام، ولا يجوز بحال أن تعم تلك النظرة على جميع المسلمين.

ثم من الذي صنع القنابل النووية والجرثومية، وأسلحة الدمار الشامل؟ ومن الذين لوثوا الهواء بالعوادم، والأنهار بالمبيدات؟ ومن الذي يدعم اليهود وهم في قمة الإرهاب والتسلط والظلم؟

أما آن لكثير من مثقفينا أن يصحوا من رقدتهم؟ وألا ينظروا إلى الغرب بعين عوراء متغافلين عن ظلمه، وإفلاسه الروحي؟

هذه هي حال كثير من مثقفينا، ومع ذلك تجدهم يتصدرون وسائل الإعلام، ويتطرقون لقضايا الأمة.

ولو صُرف النظر عن ناحيتهم، وترك حبلُهم على غاربهم _ لهبطوا بكثير من شبابنا في خسار يهتز له قلب عدوهم شماتةً وفرحاً.

والنفوس التي تتزحزح عن الإيمان قيد شعرة تبتعد عن مراقي الفلاح سبعين خريفاً.

فلا بد _ إذاً _ من أن نكون على مرقبة من دعايتهم، وننفق ساعات في التنبيه على أغلاطهم؛ لعلهم ينصاعون إلى رشدهم، أو لعل الأمة تحذر عاقبة هذا الذي يبدو على أفواههم.

فحقيق على هؤلاء أن يؤوبوا إلى رشدهم، وأن يقدموا لأمتهم ما يرفع عنها الذلة والتبعية، وأن يبحثوا في سبل رقيها وفلاحها.

وإن من أعظم ما يعينهم على ذلك أن يدرسوا الإسلام دراسة واعية متأنية من مصادره الأصيلة، وأن يكون لديهم من الشجاعة الأدبية والأمانة العلمية_ ما يبعثهم إلى الرجوع إلى الحق والاعتزاز به.

أما السير في ركاب الغرب، والأخذ بكل ما يصدر منه دونما تمحيص _ فذلك محض الهوان، وعنوان التخلي عن العزة والكرامة؛ فالأمة العزيزة هي التي تعرف مقدار ما تعطي، ومقدار ما تأخذ، ونوع ما تعطي، ونوع ما تأخذ، وهي التي تعد نفسها بكل ما أوتيت من قوة؛ حتى تحمي رأيها فيما تأخذ وما تدع، وما تعطي وما تمنع.

ورحم الله الشيخ محمد الخضر حسين إذ يقول:

كنا بدورَ هداية ما من سَنَىً

                   إلا ومن أنوارها يستوقد

كنا بحورَ معارف ما من حُلىً

                   إلا ومن أغوارها يتصيد

كنا جلاءًا للصدور من القذى

                   ولواؤنا بيد السعادة يعقد

ما صافحت راحاتنا دوحاً ذوى

                   إلا وأينع منه غصن أغيد

ومن احتمى بطرافنا السامي الذُّرا

                   آوى إلى الحرم الذي لا يضهد

لا يمْتري أهْلُ التمدن أنهم

                   لو لم يسيروا إثرنا لم يصعدوا

فَسلوا متى شئتم سَراتَهُمُ فما

                   من أمة إلا لنا فيها يد

لا فخر في الدنيا بغير مجادة

                   تعنو لها الأمم العظام وتسجد

لكننا لم نرعَ فيها حُرْمةً

                   بذمامها من الرقاب تقلد

أخذت مطيَّات الهوى تحدو بنا

                   في كل لاغية كساعة نولد

حتى انزوى من ظلها الممدود ما

                   فيه مقام يستطاب ومقعد

أبناءَ هذا العصر هل من نهضة

                   تشفي غليلا حره يتصعد

ورحم الله الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي إذ يقول:

فأين الذي رفعته الرماح

                   وأين الذي شيَّدته القُضُبْ

وأين شواهقُ عزٍّ لنا

                   تكاد تمس ذراها السحب

لقد أشرق العلم من شرقنا

                   وما زال يَضْؤُلُ حتى غرب

وكنا صعدنا مراقي المعالي

                   فأصبح صاعدنا في صبب

وكم كان منا ذوو همة

                   سمت بهم لمعالي الرتب

وكم من هِزَبْرٍ تهز البرايا

                   بوادره إن ونى أو وثب

وأقْسِمُ لولا اغترار العقول

                   لما كف أربابها عن أرب

ولولا الذي دَبَّ ما بينهم

                   لما استصعبوا في العلا ما صعب

3_ التوبة الإعلامية: فالإعلام في كثير من بلاد المسلمين يروِّج للرذيلة، ويزري بالعفة والفضيلة، فتراه يصب في قالب العشق والصبابة، والترف والهزل، ويسعى لتضليل الأمة عن رسالتها الخالدة.

فجدير بإعلام المسلمين أن تكون له شخصيته المتميزة، وأن يكون داعية إلى كل خير وفلاح.

وواجب على كل إعلامي مسلم أن يتضلع بمسؤوليته، وأن يدرك حجم الأمانة الملقاة على عاتقه، فهو يرسل الكلمة فتسير بها الركبان؛ فله غنمها، وعليه غرمها.

4_ التوبة من التفرق والتدابر: فالناظر في أحوال الأمة يرى عجباً؛ فأعداؤها يحيطون بها من كل جانب، ويكيدون لها ويتربصون بها الدوائر.

ومع ذلك ترى الفرقة، والتدابر، والتنافر؛ فالعقوق، والقطيعة، وإساءة الظن، وقلة المراعاة لحقوق الأخوة في الله _ تشيع في أوساط المسلمين.

ولا ريب أن ذلك مما يسخط الله _ عز وجل _ ومما يفرح الأعداء، ويذهب الريح، ويورث الفشل.

فواجب على الأمة أن تجمع كلمتها على الحق، وأن ينبري أهل العلم والفضل والإصلاح لرأب الصدع، ونبذ الفرقة.

قال ربنا _ تبارك وتعالى _: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ(102)وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(103)] (آل عمران).

5_ التوبة من التبرج: تلك السنة الإبليسية الجاهلية التي فتحت على المسلمين باب شر مستطير.

ففي أكثر بلدان المسلمين تخلت النساء عن الحجاب، وأخذن بالتبرج، والتهتك، والتبذل، والسفور على تفاوت فيما بين البلدان.

وهذا الصنيع نذير شر وشؤم، ومؤذن لعنة وعذاب؛ ذلك أن التبرج موجب لفساد الأخلاق، وضيعة الآداب، وشيوع الجرائم والفواحش، وانعدام الغيرة، واضمحلال الحياء.

وبسببه تتحطم الروابط الأسرية، وتنعدم الثقة بين أفرادها.

وهذا التبرج لم يكن معروفاً عند المسلمين، وإنما هو سنة جاهلية انقطعت بالإسلام، قال _ تعالى _ مخاطباً نساء المسلمين:[وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى](الأحزاب: 33).

وفي العصور المتأخرة دخل التبرج على المسلمين بسبب الإعراض عن هداية الدين، وبسبب الحملات الضارية على المرأة المسلمة؛ كي تتخلى عن وقارها وحيائها وحشمتها ودينها.

كما دخل على المسلمين من باب التقليد الأعمى للغرب ومحاولة اللحاق بركابه؛ لئلا يقال: متخلفون رجعيون!

وإذا أنكر منكر على أولئك الذين يدعون إلى التبرج والسفور وصموه بالتخلف والرجعية؛ فهل تقليد الغرب في مستهجن عاداته إلا التخلف بعينه؟ أو ليس هذا التقليد مما يزيد الشعوب المقلدة وهناً على وهن؟!

وإذا أردت الدليل على أن التبرج تخلف عن ركب الحضارة فانظر إلى انحطاط خصائص الجنس البشري في الهمج من العراة الذين لا يزالون يعيشون في المتاهات والأدغال على حال تَقْرُب من البهيمية؛ فإنهم لا يأخذون طريقهم في مدارج الحضارة إلا بعد أن يكتسوا.

ويستطيع المراقب لحالهم في تطورهم أن يلاحظ أنهم كلما تقدموا في الحضارة زادت نسبة المساحة الكاسية من أجسادهم.

كما يلاحظ أن الحضارة الغربية في انتكاسها تعود في هذا الطريق القهقرى درجة بعد درجة حتى ينتهي الأمر إلى العري الكامل في مدن العراة التي أخذت في الانتشار بعد الحرب العالمية الأولى، ثم استفحل داؤها في السنوات الأخيرة.

ونحن إذا احتجنا إلى الاستفادة من خبرة الغرب، وتفوقه في الصناعات الآلية التي كانت سبباً في مجده وسيادته _ فمن المؤكد أننا لسنا في حاجة إلى استيراد قواعد في السلوك والتربية والأخلاق التي تدل الأمارات والبوادر على أنها ستؤدي إلى تدمير حضارته، والقضاء عليها قضاءًا تاماً في القريب العاجل.

إننا في حاجة إلى مواد البناء؛ لأن لدينا من عوامل الضعف والهدم ما يكفي.

ومن مصائبنا _ نحن الشرقيين _ أننا لا نأخذ المصائب كما هي، بل نزيد عليها ضعفنا فإذا هي رذائل مضاعفة.

ومع ذلك تجد من أبناء جلدتنا من لا يصيخون السمع إلى هداية الدين، بل هم يلحدون في آيات الله، فيميلون بها عن وجهها حيناً، ويجادلون فيها أشد المجادلة حيناً آخر.

في الوقت الذي يَخْضعون لهذه المزاعم الداعرة، ويرونها فوق النقاش والمراء.

هؤلاء قوم لا تقوم عندهم الحجة بالقرآن والسنة، ولكنها تقوم بهذه الظنون والأوهام؛ فإذا عارضتهم بالثابت من الشرع _ وهم يزعمون أنهم مسلمون _ لووا رؤوسهم، وقالوا: نحدثك في العلم فتحدثنا في الدين؟ وكأن هذه الأوهام عندهم أثبت من الشرع المطهر.

أترى فرقاً بين هؤلاء وبين أمم قد خلت من قبلهم من الضالين كانوا يقولون إذا ذُكِّروا بآيات الله: [قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ] (الأنفال:31)؛ [لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ] (النحل:25).

وبالجملة فإن الحقيقة الماثلة للعيان تقول: بأن التبرج أقرب الوسائل إلى تلويث الأعراض، ونكد العيش، وأنه إلى ابتذال المرأة أقرب منه إلى كرامتها، وإلى عنائها أقرب منه إلى راحة بالها.

قال الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي ×: =وما هو الحجاب إلا حفظ روحانية المرأة للمرأة، وإغلاء سعرها في الاجتماع، وصونها من التبذل الممقوت+.

وقال: =وأساس الفضيلة في الأنوثة الحياء؛ فيجب أن تعلم الفتاة أن الأنثى متى خرجت من حيائها وتهجَّمت؛ أي توقَّحت، أي تبذَّلت _ استوى عندها أن تذهب يميناً، أو تذهب شمالاً، وتهيأت لكل منهما ولأيهما اتفق.

وصاحبات اليمين في كنف الزوج، وظل الأسرة، وشرف الحياة،وصاحبات الشمال ما صاحبات الشمال... ؟+.

وقال: =فكل ما تراه من أساليب التجميل والزينة على وجوه الفتيات وأجسامهن في الطرق _ فلا تَعُدَّنَّه من فرط الجمال، بل من قلة الحياء+.

وإذا كان الأمر كذلك فإنه يجب على الأمَّة المسلمة أن تتوب من التبرج والسفور، وأن تحاربه بكل ما أوتيت من قوة، وأن تدعو في الوقت نفسه إلى لزوم الحجاب والحشمة للمرأة المسلمة؛ ففي الحجاب العفة، والستر، والطهر، والسلامة من الفتنة، والنجاة من الوعيد وغير ذلك من فضائل الحجاب.

كما يجب على المرأة المسلمة أن تحافظ على حجابها، وأن تعتز به، وألا تلتفت إلى دعاوى المبطلين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وأن يكون حجابها مستوعباً جميع بدنها، وألا يكون الحجاب زينة في نفسه، وأن يكون صفيقاً لا يشف، وأن يكون فضفاضاً غير ضيق، وألا يكون مُبخَّراً مطيباً، وألا يشبه لباس الرجل، أو الكافرات، وألا يكون لباس شهرة، فإذا كانت كذلك فأحْرِ بها أن تسعد في نفسها، وأن تَسعدَ الأمةُ بها.

6_ التوبة من التقصير في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فأمة الإسلام هي الأمة القوامة على الأمم، وهي الشاهدة على الأولين والآخرين، والبشرية جمعاء بأمسّ الحاجة إلى هداية الإسلام، ومع ذلك تجد التقصير في جانب الدعوة إلى الله.

والتبعة في ذلك تقع على أهل العلم بخاصة؛ فما بال كثير منهم يعرف مناهج الصلاح، ويبصر طائفة من قومه يتهافتون على عماية، أو يهيمون في جهالة ولا تنهض به الهمة؛ ليعمل على إفاقتهم من سكرتهم، وإراءتهم معالمَ فوزهم؟

وما بال الخلاف يدب في صفوف كثير من الدعاة، فيفشلهم، ويذهب ريحهم؟

وما بال كثير منهم يخطىء سبيل الحكمة، ويؤثر مصلحته الخاصة على مصلحة الأمة؟

وما بال كثير منهم ينزوي وينطوي على نفسه غير مكترث بمصير الأمة، وغير مبال بوعيد الله لمن كتم العلم؟

وما بال الشرك يضرب بجرانه في كثير من بلاد المسلمين على مرأى ومسمع من أهل العلم دون أن يُغيَّر أو ينكر؟

وما بال القبور تشيَّد، وتعظَّم، ويطاف عليها، وتهدى لها النذور، ويدعى أصحابها من دون الله _ عز وجل _؟

إن السكوت عن الدعوة جرم عظيم، وذنب يجب التوبة منه؛ ذلك أنه إذا انزوى العارفون بوجوه الإصلاح رفع البغي لواءه، وبقي إخوان الفساد يترددون على أماكن المنكرات.

والبغيُ يضرب على الأمة الذلةَ والمسكنةَ، والانهماكُ في المنكرات يميت خصال الرجولة من نحو الشجاعة، وشدة البأس، والبذل في سبيل الخير.

وإذا تفشى وباء الفساد تداعت الأخلاق الفاضلة إلى سقوط، ونضب ماء الحياء من الوجوه، ووهنت رابطة الاتحاد في القلوب، وتضاءلت الهمم عن معالي الأمور، وقلَّت الرغبة في الآداب والعلوم.

وما عاقبة الأمة المصابة بالذل والإحجام، والجهل والتفرق، وقلة الإنفاق في سبيل البر إلا الدمار.

ولا يحسب الذين ينقطعون عن إرشاد الضالين، ووعظ المسرفين أن إقبالهم على شأنهم، واقتصارَهم في العمل الصالح على أنفسهم يجعلهم في منجاة من سوء المنقلب الذي ينقلب إليه الفاسقون؛ فالذي جرت به سنة الله في الأمم أن وباء الظلم والفسوق إذا ضرب في أرض، وظهر في أكثر نواحيها _ لا تنزل عقوبته بديار الظالمين أو الفاسقين خاصة، بل تتعداها إلى ما حولها، وترمي بشرر يلفح وجوه جيرانهم الذين تخلوا عن نصيحتهم، ولم يأخذوا على أيديهم، قال _ تعالى _: [وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً] (الأنفال: 25).

وعن زينب بنت جحش _ رضي الله عنها _ قالت: قلت: يا رسول الله أَنَهْلِكُ وفينا الصالحون؟ قال: =نعم؛ إذا كثر الخبث+ رواه مسلم.

ومن البلية في سكوت أهل العلم أن العامة يتخذونه حجة على إباحة الأشياء أو استحسانها؛ فإذا نهيتهم عن بدعة سيئة، وسقت إليهم الدليل على قبحها ومخالفتها لما شرع الله _ كان جوابهم أنهم فعلوها بمرأى أو مسمع من فلان من أهل العلم ولم يعترض فعلهم بإنكار!

ومن أثر التهاون بالإرشاد أن يتمادى المفسدون في لهوهم، ولا يقفوا في اتباع شهواتهم عند غاية؛ فتقع أعين الناس على هذه المناكر كثيراً، فتألفها قلوبهم، حتى لا يكادوا يشعرون بقبح منظرها، أو يتفكرون في سوء عاقبتها.

ومن أثر هذا أن يقبل عليهم الحق بنوره الساطع ووجهه الجميل، فتجفل منه طباعهم، وتجفوه أذواقهم لأول ما يُشْرف عليها.

وإذا كان الأمر كذلك كان لزاماً على الأمة أفراداً وجماعات أن تتوب من التقصير في الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يقوم كل فرد بحسبه بما أوجب الله عليه من نصرة دين الله.

هذا بلسانه، وهذا بقلمه، وهذا بماله، وهذا بجاهه، ولكلٍّ وجهةٌ هو موليها، وقد علم كل أناس مشربهم.

ومما ينبغي التنبيه عليه أن ارتكاب الذنوب لا يسوغ ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله: فكثيرٌ من الناس إذا قصَّر في الطاعة، أو وقع في المعصية _ ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله؛ بحجة أنه مُقَصِّر، وأنه يفعل خلاف ما يأمر به، وأنه يخشى أن يدخل في الوعيد لمن دعا وترك ما يدعو إليه كما في قوله _ تعالى _: [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ] (البقرة: 44)، وقوله: [كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ] (الصف: 3).

وهذا خطأ يجب على المسلم أن يحذره ويتجنبه؛ فترك أحد الواجبين ليس مسوغاً لترك الآخر، والذم الوارد في النصوص إنما هو لترك المعروف، لا للأمر بالمعروف، قال _ تعالى _: [لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)] (المائدة).

فانظر كيف نعى الله عليهم ترك التناهي مع أنهم مشتركون في المنكر؛ فلا يجوز للمسلم أن يجمع بين إساءتين، وإلا لتعطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

قال ابن حزم ×: =ولو لم يَنْهَ عن الشر إلا من ليس فيه شيء منه، ولا أمر بالمعروف إلا من استوعبه _ لما نهى أحد عن شر، ولا أمر بخير بعد النبي "+.

وقال النووي ×: =قال العلماء: ولا يشترط في الآمر والناهي أن يكون كامل الحال، ممتثلاً ما يأمر به، مجتنباً ما ينهى عنه، بل عليه الأمرُ وإن كان مُخِلاً بما يأمر به، والنهيُ وإن كان متلبساً بما ينهى عنه؛ فإنه يجب عليه شيئان: أن يأمر نفسه، وينهاها، ويأمر غيره، وينهاه؛ فإذا أخل بأحدهما كيف يباح له الإخلال بالآخر؟+

قال سعيد بن جبير ×: =لو كان المرء لا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء _ ما أمر أحد بمعروف، ولا نهى عن منكر+.

قال الإمام مالك × معلقاً على قول سعيد بن جبير: = وصدق سعيد؛ ومن ذا الذي ليس فيه شيء+.

وقال الحسن لمُطَرّف بن عبد الله: =عظْ أصحابك.

فقال: إني أخاف أن أقول ما لا أفعل!

قال: يرحمك الله، وأيُّنا يفعل ما يقول؟ يود الشيطان أنه قد ظفر منا بهذا؛ فلم يأمر أحد بمعروف، ولم ينه أحد عن منكر+.

وقال الطبري ×: =وأما من قال: لا يأمر بالمعروف إلا من ليست فيه وصمة، فإن أراد أنه الأوْلى فجيِّد، وإلا فيستلزم سد باب الأمر بالمعروف إذا لم يكن هناك غيره+.

وعلى هذا فعلى من وقع في معصية، أو قصَّر في طاعة ألا يدع الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله حسب قدرته واستطاعته؛ فلربما اهتدى على يده عاص، أو أسلم كافر، أو تسبب في ذلك؛ فكان له من الأجر مثل ما لهم من غير أن ينقص ذلك من أجورهم.

ولا يفهم مما سبق أنه لا بأس في ترك المعروف وفعل المنكر للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر.

بل يجب عليه فعل المعروف، وترك المنكر؛ لأنه يعرض نفسه لغضب الله عند التساهل في هذا.

بل ينبغي له أن يكون أولَ ممتثل لما يأمر به، وأولَ مُنْتَهٍ عما ينهى عنه.

وغاية ما في الأمر أن فعل المعروف، وترك المنكر ليس شرطاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فلا يقال لمن أمر بالمعروف، ولم يفعله، أو نهى عن المنكر، وفعله: لا تأمر بالمعروف، ولا تنهَ عن المنكر، وإنما يقال له: داوم على أمرك ونهيك، واتق الله فيما تأتي وما تذر.

وإذا كان هذا في شأن من هو عاص أو مقصر _ فكيف إذا كان الشخص ذا علم، وصلاح وهو مقصر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟

فعليه أن يتوب من ذلك، وأن يستدرك ما فات؛ لأن الله سائله عن علمه ماذا عمل به [لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً] (هود: 7).

وبعد أن تبين لنا حاجة الأمة إلى التوبة، وإلى التميز، والحذر من تقليد الأعداء الكفار في مستهجن العادات _ هذه نظرة في حال المجتمعات البعيدة عن الله؛ فهناك من يرى أن السعادة لا تتحقق إلا بإتْباع النفوس هواها، وإرسالها مع كافة رغائبها وشهواتها؛ بحيث لا يبقى عليها حسيب ولا رقيب، ولا يقف في طريقها دين، أو عرف، أو نحو ذلك؛ فهذا سر السعادة، وتلك جنة الفردوس عند أولئك.

ولهذا ترى نفراً غير قليل من هؤلاء يدعو إلى الإباحية، وإلى فتح أبواب الحرية؛ لتتخلص المجتمعات من كبتها وعقدها، ولتنعم بالسعادة كما يزعمون!

فهل هذا الكلام صحيح؟ وهل تلك المجتمعات الكافرة تنعم بالسعادة حقاً؟

والجواب ما تراه وتسمعه؛ فها هي أمم الكفر قد فتحت أبواب الحرية على مصاريعها؛ فلم يَعُدْ يَرْدَعُها دين، أو يَزُمُّها ورعٌ، أو يحميها حياء؛ فمن كفر وإلحاد إلى مجون، وخلاعة وإباحية مطلقة، ومن خمور ومخدرات إلى زناً، ولواط، وشذوذ بكافة أنواعه مما يخطر بالبال، ومما لا يخطر؛ فكيف تعيش تلك الأمم؟ وهل وصلت للسعادة المنشودة؟

والجواب: لا؛ فما زادهم ذلك إلا شقاءاً وحسرةً؛ فسنة الله _ عز وجل _ في الأمم هي سنته في الأفراد؛ فمتى أعرضت عن دينه القويم أصابها ما أصابها بقدر بعدها وإعراضها.

ولهذا تعيش تلك الأمم حياة شقية تعيسة صعبة معقدة؛ حيث يشيع فيها القلق، والاضطراب، والتفكك، والقتل، والسرقة، والشذوذ، والاغتصاب، والمخدرات، وأمراض الجنس، وتفقد فيها الطمأنينة، والراحة، والمحبة، والبر، والصلة، والتعاطف، والتكافل إلى غير ذلك من المعاني الجميلة.

قال _ تعالى _: [وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى] (طه: 124).

كيف تسعد تلك الأمم وفي داخل كل إنسان منها أسئلة محيرة؟ من خلق الحياة؟ وما بدايتها؟ وما نهايتها؟ وما سر تلك الروح التي لو خرجت لأصبح الإنسان جماداً؟

إن هذه الأسئلة قد تهدأ في بعض الأحيان؛ بسبب مشاغل الحياة، ولكنها لا تلبث أن تعود مرة أخرى.

وكيف لا تحرم تلك الأمم السعادة وهي تعيش بلا دين يزكي نفوسها، ويضبط عواطفها، ويردعها عن التمادي في باطلها، ويسد جوعتها بالتوجه إلى فاطرها؟

إن الكنيسة بتعاليمها المحرفة لا تستطيع أن تجيب عن الأسئلة الماضية بدقة ووضوح، ولا تملك منهجاً يزكي النفوس، ويقنع العقول، وتسير عليه أمور الناس بانتظام.

ولقد زاد هذا الأمر ضراوة بعد أن تراجعت الكنيسة أمام ضربات الإلحاد.

فما أغنت الحرية المزعومة والإباحية المطلقة عن تلك المجتمعات فتيلاً أو قطميراً، ولا جلبت لها السعادة الحقة، ولا الحياة الكريمة.

ولهذا يبحث الناس هناك عما يريحهم من هذا العناء والشقاء؛ فمنهم من يلجأ إلى المخدرات والمهدئات التي تضاعف البلاء، وتزيد في الشقاء.

ومنهم من يروي غليله بالشذوذ الجنسي، حتى يفقد إنسانيته وصحته؛ ويكون عرضة للإصابة بأمراض الشذوذ المتنوعة كالزهري، والسيلان، والهربس، والإيدز، وما يصاحب هذه الأمراض من ضيق وتكدر.

ومنهم من يروي غلته بالسطو، والسرقة؛ حتى إن الناس هناك لا يكادون يأمنون على أموالهم، وممتلكاتهم؛ بل لقد أصبحت السرقة تعتمد على الدراسة والتكنولوجيا الحديثة؛ المجهزة بأحدث الوسائل، والأساليب القائمة على أحدث المبتكرات، والتخطيط لكل عملية سطو.

ومنهم من يسلك طريق القتل؛ ليتشفى من المجتمع، ويطفىء نار حقده، فتراه يتحين الفرص، وينتهز الغِرَّة؛ ليهجم على ضحية يفقدها الحياة، ثم يبحث عن ضحية أخرى.

بل لقد أصبح القتل عند بعضهم متعة، ونوعاً من اللذة.

وكثيراً ما يكون القتل لأتفه الأسباب، حتى إن الواحد قد يقتل أقرب الأقربين إليه.

ومنهم من يبلغ به الشقاء والهم غايته؛ فلا يجد ما يسعده، أو يريحه من همومه وغمومه، ولا يرى ما ينفس به كربته، أو يعينه على تحمل أعباء حياته؛ فيلجأ حينئذ إلى الانتحار؛ رغبة في التخلص من الحياة بالكلية.

ولقد أصبح الانتحار سمة بارزة في تلك المجتمعات، وصارت نسبته تتزايد وتهدد الحضارة الغربية بأكملها.

ولقد أقلق كثرة الانتحار علماء الاجتماع في تلك البلاد؛ حيث أصبح عدد المنتحرين يفوق عدد القتلى في الحروب، وفي حوادث السيارات.

أما طرق الانتحار فتأخذ أساليب متنوعة؛ فهذا ينتحر بالغرق، وذاك بالحرق، وهذا بابتلاع السموم، وذاك بالشنق، وهذا بإطلاق الرصاص على نفسه، وذاك بالتردي من شاهق، وهكذا.

أما أسباب الانتحار فمعظمها تافهة حقيرة، لا تستدعي سوى التغافل، وغض الطرف عنها؛ فهذا ينتحر بسبب الإخفاق في امتحان الدراسة أو الوظيفة، وذاك بسبب وفاة المطرب الذي يحبه، أو هزيمة الفريق الذي يميل إليه، وهذا ينتحر بسبب وفاة عشيقته، وهذه تنتحر بسبب تخلي عشيقها عنها، بل ومنهم من انتحر بعدما توفي كلبه كما فعل (جاك أشورت ) وكان عمره 46 سنة.

بل إن هناك من ينتحر بلا سبب ظاهر، ويبقى السبب الأول للانتحار وهو الكفر بالله، وما يستتبعه من الضنك، والشدة، وقلة التفكير في المصير.

والغريب في الأمر أن نسبة كبيرة من المنتحرين ليسوا من الفقراء؛ حتى يقال: إنهم انتحروا بسبب قلة ذات اليد، وإنما هم من الطبقات المغرقة في النعيم والبعيدة الصيت والشهرة، والرفيعة الجاه والمنصب، بل وينتشر في طبقات المثقفين.

ومما يلفت النظر أن أشد البلاد انحلالاً أكثرها انتحاراً.

ومن الأشياء التي استحدثوها لمحاربة التخفيف من الانتحارات المتزايدة _ إنشاءُ مركز يتلقى مكالمات المُقْدِمين على الانتحار، أو من لديهم مشكلة عاطفية، أو الذين يعانون من ضيق الصدر، وهذه الخدمات تقدم ليلاً ونهاراً وبالمجان.

والعجيب في الأمر أن يكون للانتحار مؤيدون وأنصار، حيث تكونت في بريطانيا جمعية للمنتحرين، وأصدرت كُتَيِّباً وأخذت توزعه على أعضائها الذين يحبذون ويؤيدون حق المرضى بالانتحار عندما يتألمون، وعندما يقرر الطبيب أن حالتهم ميؤوس منها.

وقد نَص الكتيب على الوسائل السريعة والفعالة وغير المؤلمة التي يمكن أن تساعد الساعين إلى الانتحار على تنفيذ رغبتهم!

فلماذا ينتحر هؤلاء؟ ولماذا يستبد بهم الألم، ويذهب بهم كل مذهب؟

والجواب: أنهم فقدوا السبب الأعظم للسعادة، ألا وهو الإيمان بالله _ عز وجل _ فلم تغن عنهم حريتهم شيئاً، ولم يجدوا ما يطفىء لفح الحياة وهجيرها وصخبها؛ فلا يكادون يحتملون أدنى مصيبة تنزل بهم.

فهل اطلع على تلك الحال من يريدون أن تكون بلاد الإسلام كتلك البلاد تهتكاً، وتوقحاً، ودعارة، وفساداً؟

وهل يريدون أن يكون مصير بلاد الإسلام كذلك المصير؟

إن كانوا لم يطلعوا فتلك مصيبة، وإن كانوا مطلعين فالمصيبة أعظم.

هذه مقتطفات يسيرة مختصرة تنبه على وجوب التوبة العامة من الأمة.

ومن أراد الاستزادة والعزو فليرجع إلى كتاب (التوبة وظيفة العمر) لكاتب هذه الصفحات؛ ففي ذلك الكتاب تفصيل لكثير مما أجمل هنا.

فلعل في هذه الصفحات موعظةً وذكرى، ولعل الأمة تتوب إلى ربها، وتحسن ظنها به _ جل وعلا _ وأن تدرك أن الصبر والتقوى كفيلان برد كل عدوان، قال الله _ عز وجل _: [إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ] (آل عمران:120).

وقال _ تبارك وتعالى _: [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ] (آل عمران:186).

اللهم مُنَّ علينا وعلى أمتنا بالتوبة التي ترضيك عنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

 الرسالة العشرون: لماذا تدخن؟

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: ( )

فإن التدخين وباء خطير، وشر مستطير، وبلاء مدمر، وقد وقع في شَرَكِه فئام من الناس، وكثير من أولئك يملكون قلوباً حية، وعواطف للإسلام قوية، إلا أنهم بُلوا بالتدخين.

وأكثر هؤلاء لا يكابرون في ضرر التدخين، ولا يشكّون في أثره وحرمته، بل تراهم يؤمّلون في تركه، ويسعون للخلاص منه؛ فلهؤلاء حق على إخوانهم أن يعينوهم ويأخذوا بأيدهم.

ولو توجهت بالسؤال إلى كل مدخن وقلت له: =لماذا تدخن؟+ لأجابوك إجابات مختلفة.

فمن قائل: أدخن إذا ضاق صدري؛ كي أروّح عن نفسي، ومن قائل: أدخن كي أتسلى في غربتي، وبعدي عن أهلي، إلى قائل: أدخن إذا سامرت زملائي؛ ليكتمل فرحي وأنسي، إلى قائل: أدخن، لأتخلص من القلق، والتوتر، والغضب، إلى قائل: أدخن مجاملة للرفاق، إلى قائل: أدخن بفرط إعجابي بفلان من الناس، فهو يدخن وأنا أتابعه، وأعمل على شاكلته، إلى مسكين يقول: تعلقت به منذ الصغر فعزّ عليّ تركه، إلى مكابر عنيد يقول: أدخن لقناعتي بجدوى التدخين؛ فلا ضرر فيه، ولا عيب، ولا حرمة.

هذه _ تقريباً _ هي الأسباب الحاملة على التدخين، فإذا كان الأمر كذلك، فاسمح لي أيها الأخ الحبيب بالحوار معك مدة يسيرة؛ عسى أن نصل الى نتيجة مرضية.

أخي الحبيب: ألست مقتنعاً في حرمة التدخين، ومن أثره البالغ؟ ألا تفكر جاداً في تركه إلى غير رجعة؟ ستقول: بلى، ولكن آمل أن أزداد قناعة بضرر التدخين، وإمكانية تركه، وأقول لك: إليك ما تريد، فأعرني سمعك قليلاً، وأصغ فؤادك لما أقول:

1_ أخي الحبيب: تذكر قبل كل شيء أنك عبد لله، وأكرم بها من عبودية، فعبوديتك لله تحررك من كل شيء حتى من نفسك التي بين جنبيك، فتصبح حراً طليقاً عبداً لرب واحد لا لأرباب متفرقين.

وإن مقتضى عبوديتك لله أن تطيعه فلا تعصيه، وذلك عنوان فلاحك وسعادتك.

إذا تقرر هذا عندك، فتذكر أن الدخان خبيث، وأنه تبذير وإسراف، وأنه قتل للنفس، وإلقاء باليد الى التهلكة، وأنه إيذاء للمسلمين، فهل هذه الأمور من طاعة الله، أو من معصيته؟

2_ التدخين يبعث على النفور منك، ومن مجالستك، بل والسلام عليك؛ لأن رائحتك لا تشجع على شيء من ذلك.

3_ التدخين قد يتسبب في حرمانك من نعمة الذرية، فهو يضعف النسل، ويضعف القدرة الجنسية، بل وربما قاد الى العقم.

4_ وإذا رزقت بأولاد فربما تعرضوا للتشويه، ونقص النمو، وزيادة العيوب الخلقية؛ فللتدخين أثر بالغ على صحة أولاد المدخن.

5_ وإذا رزقت أولاداً، فلا شك أنك ترغب في صلاحهم واستقامتهم ورجولتهم، وإذا كنت مدخناً ربما كانت النتيجة عكس ذلك تماماً؛ فربما تسببت في إغوائهم، وانحرافهم، لأنهم مولعون بمحاكاتك وتقليدك.

6_ التدخين قد يصرفك عن برِّ والديك، وصلة أرحامك؛ لأنك تخشى علمهم بأنك تدخن، فلهذا تتحاشى قربهم، وتألف البعد عنهم، فأي خير يرجى من عمل يتسبب في عقوق والديك وقطيعة أرحامك؟

7_ بالتدخين تساهم في خذلان أمتك، ودعم أعدائها الذين يحاربونها ليل نهار.

وبفضل جهدك قد غدوت لصانعي

                   تلك السموم السود خير معين

تحبوهم المال الذي لولاه لم

                   يجدوا السبيل لكيد هذا الدين

8_ بالتدخين تقصِّر عمرك، وتهدد حياتك بالفناء؛ فمعظم وفيات العالم الصناعي إنما هي بسبب التدخين، حيث يموت سنوياً في العالم بسبب التدخين وحده مليونان وخمسمائة ألف شخص، فالدخان يجلب لك الموت العاجل، فضلاً عن أن سنوات العمر الأخير تكون معاناة من الأثر السيء للدخان.

وقد أجمعت البحوث العلمية على أن السجائر هي من كبرى المهلكات التي تصيب الإنسان بالعجز، وتهدده بالفناء.

9_ الدخان يحرمك السعادة الحقة، ويوهمك بالسعادة المزيفة، وإلا كيف يسعد الإنسان وحياته مليئة بالأسقام، مهددة بالأخطار.

10_ التدخين يؤثر على عقلك، ويضعف تفكيرك، ويورثك البلادة، وهذا مشاهد في الطلاب وغيرهم، ولقد أجرى المختصون الأمريكان تجارب لاختبار الذكاء بين طلاب المدارس فتبين لهم بشكل واضح أن المدخنين أقل ذكاءاً ومقدرة على الفهم من غيرهم ممن لا يدخنون.

11_ التدخين يعرضك للجلطة، وتصلّب الشرايين، وموت الفجأة.

12_ التدخين يؤذي عينيك أيّما أذى، فهو يزيد من احتمال إصابتها بالماء الأزرق، ومرض إعتام العيون، كما أنه يؤدي إلى التهاب الجفون، وتحسسها، بل ويؤدي إلى التهاب عصب الأبصار والعمى.

13_ التدخين يثلم مروءتك، وينقص من قدرك، ويدل على ضعف إرادتك.

14_ التدخين يثقل عليك العبادة، ويدعوك لمخالطة الأشرار والأراذل، ويزهدك بالأكابر، والأخيار، والأفاضل.

15_ التدخين يوهن قواك، ويضعف قدرتك، ويورثك الخمول والكسل.

16_ لا يكاد عضو من أعضاء المدخن يسلم من أضرار التدخين.

17_ التدخين سبب رئيس للسرطان بأنواعه المتعددة؛ فهو سبب لسرطان الرئة، والحنجرة، والشفة، والبنكرياس، والمثانة، والكلى.

18_ التدخين يتسبب في تسوس الأسنان، واصفرارها، واسودادها، ويتسبب في التهاب اللثة، وتقرحات الفم واللسان، وتشويه الشفاه، ووسخ الأسنان.

19_ التدخين يسبب الربو، وضيق النفس، والسعال، والبصاق، وضعف كفاءة الرئة، وسوء الهضم، وتليّف الكبد، والسكتة الدماغية، والذبحة القلبية، وإصابة شرايين المخ بالتصلب، ويسبب الغثيان، والإمساك المزمن، والصداع والأرق، والفشل الكلوي، وضعف السمع، وفقدان حاسة الشم أو إضعافها، وضعف الجهاز المناعي، والاستعداد للإصابة بأمراض خطيرة، وزيادة أمراض الحساسية، والتهابات الجلد، وقرحة المعدة، والاثني عشر.

20_ أضف إلى ذلك أن المدخنين ـ كغيرهم ـ عرضة لسائر الأمراض، ولكنها تزداد لديهم وتتضاعف بسبب التدخين.

أخي الحبيب: ألم تقتنع بعد؟ أليس فيما مضى ذكره عبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد؟ ستقول ـ كعادتك ـ: بلى، وأقول لك: متى ستقلع عن التدخين إذاً؟ ستقول غداً، أو بعد غد، أو بعد ذلك سأحاول الإقلاع عن التدخين.

إذاً أظنك لم تقتنع بما قيل سابقاً، بل ستستمر على التدخين، ولن تقلع أبداً ! ستقول: لا، عفواً، إنني مقتنع تمام الاقتناع بما مضى ولكن يصعب عليَّ تركُ التدخين، وأخشى ألا أستمر على تركه.

إذاً ما الحل أيها الحبيب، هل نقف معك أمام طريق مسدود؟ ونرضى منك أن تواصل التدخين حتى يهوي بك في مكان سحيق؟ ستقول: لا يا أخي لم يصل الأمر إلى هذا الحد، إذاً ما العمل؟ ربما تقول: لعلي أسلك طريقاً آخر؛ كي أنجو من أضرار التدخين حيث سأتحول عن التدخين إلى الغليون أو الشيشة، فلعلها أقل ضرراً أو أهون خطراً.

وأقول لك: ما أنت _ والحالة هذه _ إلا كالمستجير من الرمضاء بالنار.

أما علمت أن ما مضى ذكره من أضرار التدخين ينطبق على الشيشة والغليون ونحوها، ربما تقول: إذاً سأنتقل إلى نوع خفيف من السجائر ذات المحتوى المنخفض من النيكوتين والقطران؛ فحنانيك بعض الشر أهون من بعض.

وأقول لك: إن هذه خدعة كبرى قد ثبت ضررها وعدم جدواها وذلك لما يلي:

أ_ أن ذلك سبب لتدخين أكبر عدد من السجائر.

ب_ أن المدخنين في هذه الحالة يسحبون عددا أكبر من الأنفاس من السيجارة الواحدة.

ج _ وأنهم يستنشقون الدخان بعمق، ويحتفظون به أطول فترة ممكنة، ليعوضوا نسبة النيكوتين التي فقدوها.

د_ كل ذلك يؤدي إلى امتصاص المزيد من النيكوتين والقطران، ويحدث هذا بطريقة لا إرادية ودون أن يشعر بها المدخن، فكيف تلجأ إلى هذا الحل إذاً؟ ربما تقول بعد ذلك: لقد أعيتني الحيل وضاقت بي السبل.

أقاطعك فأقول: لا يا أخيّ، ما أعيتك الحيل ولا ضاقت بك السبل، فلكل داء دواء ولكل معضلة حل، وما من قفل بلا مفتاح، وإلا فما هو بقفل.

ستقول: ما الحل؟ أقول لك: أن تقلع عن التدخين فوراً وأن تهجره بلا رجعة.

ستقول بزفرة، ولهفة، وأمل، وشوق: كيف الوصول الى ذلك السبيل، وكيف النجاة من هذا الداء الوبيل؟ وما العلاج الناجع، والدواء النافع من هذا السم الزعاف الناقع؟

أقول لك حينئذ: أيها الحبيب، كل ما تريده فستجده ـ إن شاء الله ـ ما يشفي علتك، ويروي غلتك، فمما يعينك على ترك التدخين ما يلي:

1_ استحضار أضرار التدخين، واستحضار حرمته في الدين.

2_ التوبة النصوح: فتب إلى ربك، وعد إلى رشدك، قبل أن يتلف التدخين جسدك، وقبل أن يفجأك الموت على غرّة منك، فأقدم غير هياب، ولا وجل، ولا متردد، وإياك والتأجيل، فإن التأجيل ذنب يجب أن نتوب منه.

3_ استعن بالله وفوّض أمرك إليه، والتمس إعانته ولطفه، وتضرع إليه بالدعاء، واسأله بصدق وإخلاص وإلحاح أن يعينك على ترك التدخين.

4_ أقبل على الله بالمحافظة على الصلاة، فإنها تنهى عن الفحشاء، والمنكر، وبالصيام، فإنه علاج نبوي يهذب النفس، ويسمو بالخلق، ويقوي الإرادة، ويعين على محاربة الهوى، وأقبل على كتاب ربك، ففيه الهداية للتي هي أقوم، وأكثر من ذكر الله عز وجل، ففيه الطمأنينة والسكينة، واستعذ بالله من الشيطان الرجيم، فإن الشيطان هو الذي يزين لك المعصية، فإذا استعذت بالله من الشيطان بصدق، أعانك الله منه.

5_ استحضر الثمرات الحاصلة بترك التدخين.

6_ وتذكّر أن من ترك شيئاً لله عوّضه الله خيراً منه، وأن العوض أنواع مختلفة، وأجل ما تعوّض به: الأنس بالله، ومحبته، وطمأنينة القلب بذكره.

7_ وتذكّر الأجر المترتب على ترك التدخين؛ فكما أن ثواب الطاعة الشاقة أعظم مما لا مشقة فيه،فكذلك ثواب ترك المعصية إذا شق وعظم.

8_ وتذكر أنك بترك التدخين تنقذ نفسك من ضرر محقق.

9_ تذكر لذة الانتصار على النفس ومخالفة الهوى، فإن تلك اللذة أعظم من لذة كاذبة عابرة.

10_ قارن بين لذة التدخين _ إذا كان فيه من لذة _ بالضرر البالغ الذي يحصل من جرّائه، حينئذ يتبين لك الغبن، فكيف إذاً تقدم على لذة وهمية سريعة الزوال يكون بعدها هلاكك وعطبك؟!

11_ العزيمة الصادقة، والإرادة القوية، التي هي عنوان عظماء الرجال.

12_ الصبر خصوصاً في بداية الأمر: فالذي يريد ترك التدخين سيجد مشقة كبرى خصوصاً في بداية الأمر؛ فالإقلاع عن التدخين ثقيل على النفس، ولكنه ليس متعذراً ولا مستحيلاً، والصعوبة في تركه تكمن في ضغط العادة، ولأن كثيراً من المدخنين _ وخصوصاً المفرطين منهم _ يشعرون بالكآبة في الأسابيع التالية لإقلاعهم عن التدخين، إلى جانب معاناة الرغبة الشديدة في التدخين، ذلك أن نتائج ترك التدخين ربما تتضمن الخمول، وشدة التوتر، وسرعة الغضب، والقلق، والنوم المتقطع، وصعوبة التركيز الذهني، وأعراضاً أخرى في المعدة والأمعاء، مع انخفاض في الدم ومعدل النبض العام.

ومع هذا فبعض تلك النتائج قد يكون نفسياً فقط، وقد لا تظهر تلك الأعراض إذا كانت العزيمة صادقة، والإرادة قوية.

ثم إن تلك المشقة لا تزال تهون شيئاً فشيئاً إلى أن يألف المدخّن ترك التدخين.

قال ابن القيم ×: =إنما يجد المشقة في ترك المألوفات والعوائد من تركها لغير الله، أما من تركها مخلصا من قلبه لله، فإنه لا يجد في تركها مشقة إلا في أول وهلة، ليمتحن أصادق هو في تركها أم كاذب؛ فإن صبر على ترك المشقة قليلاً استحالت لذة+.

فيا أيها الحبيب تجرّع مرارة الصبر، وغصص الحرمان في البداية، لتذوق الحلاوة، وتحصل على اللذة الحقيقية في النهاية.

والصبر مثل اسمه مرّ مذاقته

                   لكن عواقبه أحلى من العسل

واعلم أن الصابر معان من الله، قال النبي " في الحديث المتفق عليه: =ومن يتصبر يصبره الله+.

واستحضر أن الصبر على التدخين أسهل بكثير مما يوجبه التدخين، فإنه يورث ألماً، وعقوبةً، وهمّاً، وغمّاً، وندامةً، وذلاً، وضرراً _ كما مرّ _.

13_ الحذر من اليأس فقد تحاول ترك التدخين مرة أو أكثر فلا تفلح، وقد تتركه فترة ثم ترجع إليه مرة أخرى، فربما قادك ذلك إلى اليأس، وربما ألقى الشيطان في قلبك أن لا سبيل إلى ترك التدخين، وأنّ كل محاولة منك ستبوء بالإخفاق؛ فإياك أن يدبّ هذا الشعور إليك، أو أن يجد منفذاً إلى قلبك، بل حاول مرة بعد أخرى، ولا تيأسنّ مهما حاولت وأخفقت، فلعلك إن أخفقت مرات نجحت في آخر المطاف، بل من الناس من ينجح في أول محاولة جادة.

14_ البعد عن رفقة السوء، وعن كل ما يذكر بالتدخين، من فراغ، ورؤية مدخنين، أو شم دخان.

15_ لا تلتفت إلى هؤلاء، فقد تبتلى بأناس يخذلونك إذا رأوك هممت بترك التدخين، فربما عوّقوك، ووضعوا العراقيل والصعوبات في طريقك، فلا تلتفت إلى هؤلاء، بل أدر ظهرك لهم، وتوكل على ربك، واستشعر روح التحدي والإصرار، وستصل الى غايتك بإذن الله.

16_ وإذا ضعفت نفسك عن ترك التدخين فوراً، وأن تهجره مباشرة بلا رجعة _ فلا أقل من أن تتدرج، وتمضي في طريقك لتركه، فتقلل من شربه، إلى أن تتركه بالكلية، ومما يعينك على ذلك أن تدع المجاهرة في شربه؛ لأن المجاهرة تقودك إلى شربه في كل مكان.

ومن ذلك أن تمكث في أماكن تعينك على ترك التدخين كأن تجالس الأخيار والصالحين، وأن تتردد على الوالدين، وعلى من تستحي من التدخين أمامهم، فذلك يبعدك، ويسليك عن التدخين إلى أن تعتاد تركه والسلوَّ عنه.

17_ عرض الحال على من يعين، سواء كان طبيباً ناصحاً، أو من تتوسم فيه الخير والصلاح، والنصح، فستجد عنده ما يعينك على الخروج من مأزقك.

وأخيراً أسأل الله أن يعينك، وأن يهديك لأرشد أمرك، وأن يحبب إليك الإيمان، ويزينه في قلبك، وأن يكره إليك الكفر والفسوق والعصيان، ويجعلك من الراشدين.