الدقائق الممتعة
التصنيفات
الوصف المفصل
الدقائق الممتعة
عبد الملك القاسم
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فإن من نعم الله -عز وجل- على عباده نعمة القراءة التي يجول بها القارئ في قطوف دانية من العلم والمعرفة، وتجارب الأمم السابقة ونتاج عقول الآخرين.
ومن أجمل صنيع القارئ إذا استوى الكتاب بين يديه أن يجمع ما طاب له من تلك الثمار ليرجع إليها متى شاء.
وهذه مجموعة منتقاة جمعتها في فترات متباعدة، وبين الحين والآخر أعود لها وأستأنس بما فيها.
ورغبة في أن يعم الخير جمعتها في هذا الكتاب إتمامًا للفائدة.
أسأل الله - عز وجل - أن تكون اختيارات موفقة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
***
# * من أقوال شيخ الإسلام ابن تيمية في السجن:
مع أني في عمري، إلى ساعتي هذه، لم أدع أحدًا قط في أصول الدين إلى مذهب حنبلي، وغير حنبلي؛ ولا انتصرت لذلك؛ ولا أذكره في كلامي، ولا أذكر إلا ما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، وقد قلت لهم غير مرة: أنا أمهل من يخالفني ثلاث سنين إن جاء بحرف واحد عن أحد من أئمة القرون الثلاثة يخالف ما قلته فأنا أقر بذلك وأما ما أذكره فأذكره عن أئمة القرون الثلاثة بألفاظهم وبألفاظ من نقل إجماعهم من عامة الطوائف.
هذا مع أني دائمًا ومن جالسني يعلم ذلك مني: أني من أعظم الناس نهيًا عن أن ينسب معين إلى تكفير، وتفسيق ومعصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرًا تارة، وفاسقًا تارة أخرى، وعاصيًا أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها: وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية([1]).
* وقال - رحمه الله تعالى -:
ما ذكرتم من لين الكلام، والمخاطبة بالتي هي أحسن: فأنتم تعلمون أني من أكثر الناس استعمالا لهذا؛ لكن كل شيء في موضعه حسن؛ وحيث أمر الله ورسوله بالإغلاظ على المتكلم لبغيه #
وعدوانه على الكتاب والسنة: فنحن مأمورون بمقابلته؛ لم نكن مأمورين أن نخاطبه بالتي هي أحسن. ومن المعلوم أن الله -تعالى- يقول: }وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ{ [آل عمران: 139]، فمن كان مؤمنًا فإنه الأعلى بنص القرآن.
وقال: }وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ{ [المنافقون: 8]، وقال: }إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي{ [المجادلة: 19، 20]، والله محقق وعده لمن هو كذلك كائنًا من كان.
ومما يجب أن يعلم أنه لا يسوغ في العقل، ولا الدين طلب رضا المخلوقين لوجهين:
أحدهما: أن هذا غير ممكن، كما قال الشافعي t: إرضاء الناس غاية لا تدرك، فعليك بالأمر الذي يصلحك فالزمه، ودع ما سواه ولا تعانه.
والثاني: أنَّا مأمورون بأن نتحرى رضا الله ورسوله، كما قال تعالى: }وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ{ [التوبة: 62]، وعلينا أن نخاف الله فلا نخاف أحدًا إلا الله كما قال تعالى: }فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ{ [آل عمران: 175]، وقال: }فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ{ [المائدة: 44]، وقال: }فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ{ [النحل: 51]، }وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ{ [البقرة: 41]، فعلينا أن نخاف الله، ونتقيه في الناس، فلا نظلمهم بقلوبنا ولا جوارحنا، ونؤدي إليهم حقوقهم بقلوبنا وجوارحنا؛ ولا نخافهم في الله فنترك ما أمر الله ورسوله خيفة منهم.#
ومن لزم هذه الطريقة كانت العاقبة له كما كتبت عائشة إلى معاوية: (أما بعد: فإنه من التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس، وعاد حامده من الناس ذامًّا، ومن التمس رضى الله بسخط الناس t، وأرضى عنه الناس، فالمؤمن لا تكون فكرته وقصده إلا رضا ربه، واجتناب سخطه والعاقبة له؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله)([2]).
* وقال - رحمه الله تعالى -:
هذا وأنا في سعة صدرٍ لمن يخالفني، فإنه وإن تعدى حدود الله فيَّ بتكفير، أو تفسيق أو افتراء أو عصبية جاهلية: فأنا لا أتعدى حدود الله فيه، بل أضبط ما أقوله، وأفعله، وأزنه بميزان العدل، وأجعله مؤتمًّا بالكتاب الذي أنزله الله، وجعله هدى للناس، حاكمًا فيما اختلفوا فيه، قال الله تعالى: }كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ{ [البقرة: 231]، وقال تعالى: }فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ{ [النساء: 59] الآية، وقال تعالى: }لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ{ [الحديد: 25].
وذلك أنك ما جزيت من عصى الله فيك بخير من أن تطيع الله فيه: }إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ{ [النحل: 128]، وقال تعالى: }وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ{ [آل عمران: 120]([3]).
* وقال - رحمه الله تعالى -:
أما هذه القضية فليس لي فيها غرض معين أصلا، ولست فيها إلا واحدًا من المسلمين لي ما لهم وعليَّ ما عليهم، وليس لي ولله الحمد حاجة إلى شيء معين يطلب من المخلوق، ولا ضرر بطلب زواله من المخلوق، بل أنا في نعمة من الله سابغة ورحمة عظيمة أعجز عن شكرها.
ولكن عليَّ أن أطيع الله ورسوله، وأطيع أولي الأمر إذا أمروني بطاعة الله؛ فإذا أمروني بمعصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، هكذا دلَّ عليه (الكتاب) و(السنة) واتفق عليه (أئمة الأمة) قال الله تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً{ [النساء: 59].
وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «لا طاعة لمخلوق في معصية الله؛ إنما الطاعة في المعروف» وأن أصبر على جور الأئمة، وأن لا أخرج عليهم في فتنة؛ لما في الصحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ: «من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فمات فميتته جاهلية».
ومأمور أيضًا مع ذلك أن أقول، أو أقوم، بالحق حيث ما كنت؛ لا أخاف في الله لومة لائم، كما أخرجا في الصحيحين عن عبادة بن الصامت، قال: (بايَعْنا رسول الله ﷺ على السمع والطاعة في يسرنا وعسرنا، ومنشطنا ومكرهنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول - أو نقوم - بالحق حيث ما كنا لا نخاف في الله لومة لائم).
فبايعهم على هذه (الأصول الثلاثة الجامعة) وهي: الطاعة في طاعة الله؛ وإن كان الأمير ظالمًا، وترك منازعة الأمر أهله، والقيام بالحق بلا مخافة من الخلق.
والله - سبحانه - قد أمر في كتابه عند تنازع الأمة بالرد إلى الله ورسوله؛ لم يأمر عند التنازع إلى شيء معين أصلا، وقد قال الأئمة: إن أولي الأمر صنفان: العلماء والأمراء. وهذا يدخل فيه مشائخ الدين، وملوك المسلمين: كل منهم يطاع فيما إليه من الأمر، كما يطاع هؤلاء بما يأمرون به من العبادات، ويرجع إليهم في معاني القرآن، والحديث، والإخبار عن الله؛ وكما يطاع هؤلاء في الجهاد، وإقامة الحد، وغير ذلك، مما يباشرونه من الأفعال التي أمرهم الله بها.
وإذا اتفق هؤلاء على أمر فإجماعهم حجة قاطعة؛ فإن أمة محمد ﷺ لا تجتمع على ضلالة، وإن تنازعوا فالمرد إلى الكتاب والسنة"([4]).#
«الشيخ يطلب من خصومه أن يساووه في المعاملة في سجنه باليهود والنصارى... وذلك عندما سجن في موضوع الفتوى الحموية:
* وقال - رحمه الله تعالى -:
(.... ثم إن النصارى في حبس حسن: يشركون فيه بالله، ويتخذون فيه الكنائس، فيا ليت حبسنا كان من جنس حبس النصارى! ويا ليتنا سوينا بالمشركين، وعباد الأوثان! بل لأولئك الكرامة ولنا الهوان، فهل يقول من يؤمن بالله واليوم الآخر: إن رسول الله ﷺ أمر بهذا.
وبأي ذنب حبس إخوتي في دين الإسلام غير الكذب والبهتان، ومن قال إن ذلك فعل بالشرع فقد كفر بإجماع المسلمين»([5]).
* وقال - رحمه الله تعالى -:
«وأنا والله من أعظم الناس معاونة على إطفاء كل شر فيها وفي غيرها، وإقامة كل خير. وابن مخلوف([6]) لو عمل مهما عمل، والله ما أقدر على خير إلا وأعمله معه، ولا أعين عليه عدوه قط، ولا حول ولا قوة إلا بالله، هذه نيتي وعزمي؛ مع علمي بجميع الأمور، فإني أعلم أن الشيطان ينزغ بين المؤمنين ولن أكون عونًا للشيطان على # إخواني المسلمين، ولو كنت خارجًا لكنت أعلم بماذا أعاونه؛ لكن هذه المسألة قد فعلوها زورًا، والله يختار للمسلمين جمعيهم ما فيه الخيرة في دينهم، ودنياهم، ولن ينقطع الدور، وتزول الحيرة إلا بالإنابة إلى الله، والاستغفار، والتوبة، وصدق الالتجاء، فإنه سبحانه لا ملجأ منه إلا إليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله»([7]).
* وقال - رحمه الله تعالى -:
«ولكن - وحيث إن كثيرًا من ذوي البدع والضلال، والدعاة إلى عبادة الأموات من الأنبياء والصالحين، يتشاغبون في حياة الأنبياء والشهداء، ويزعمون أن حياتهم كالحياة الدنيوية، يأكلون ويشربون وينكحون كسائر أهل الدنيا، وبناء على ذلك جوزوا الاستعانة بهم في الشدائد والملمات، بل وندبوا إلى ذلك وضللوا من ينهى عن الاستغاثة بالأموات ويجعلها شركًا برب العالمين».
***
* قال رجل: كنت أمشي مع سفيان بن عُيينَةَ إذ أتاه سائل فسأله، فلم يكن معه ما يعطيه، فبكى، فقلت: يا أبا محمد! ما الذي أبكاك؟ قال: أي مصيبة أعظم من أن يأمل فيك رجل خيرًا فلا يصيبه...!
***#
* قيل: «خير السخاء ما وافق الحاجة». ولم يشترط فيه الكثرة والقلة.
***
* عن هشام بن معاوية والهيثم بن عدي؛ عن الحسن قالوا: وفد عبيد الله بن العباس على معاوية؛ فلما كان ببعض الطريق أصابتهُ السماء فأمَّ أبياتًا من الشِّعَرِ؛ وإذا أعرابي قد قام إليه، فلما رأى هيئته وبهاءه - وكان من أحسن الناس شارة وأحسنهم هيئة - قال الأعرابي لامرأته: إن كان هذا من قريش فهو من بني هاشم؛ وإن كان من اليمن فهو من بني آكل المُرَار([8])، فأنزله، وذلك في الليل، فقام الأعرابي إلى عنيزة له يذبحها فجاذبته امرأته وقالت: أكل الدهر مالك وشربه، ولم يبق لك ولبناتك إلا هذه العنيزة تضع درة كمخة عرقوب، ثم تريد أن تفجعهن بها؟! قال: والله لأذبحنها، فقالت: والله، إذًا لا يترك بناتك، قال: والله؛ للموت خير من اللؤم... ثم قال؛ وعبيد الله يسمع:
قرينتي، لا توقظي بُنَيَّهْ | ||
إن توقظيها تنتحب عَلَيَّهْ | ||
وتَنْزعِ الشَّفْرَةَ من يَدَيَّه | ||
أبغض بهذا وبها إليَّهْ | ||
ثم ذبح الشاة وأضرم النار، وجعل يقطع من أطايبها ويلقيه على النار، ثم قربه إلى عبيد الله بن العباس ومن معه، فجعل عبيد الله يأكل ويحدثه في خلال ذلك بما يلهيه ويضحكه، حتى إذا أصبح وانجلت السحابة وهمَّ بالرحيل قال لمقسم: كم معك من نفقتك؟ قال: خمسمائة دينار، قال: ألقها إلى الشيخ، قال: ما تريد إلا أن تسأل الناس في طريقك: إن هذا يرضيه عشر ما سميت، وتأتي معاوية ولا تدري علام توافقه؟ قال: ويحك، إنا نزلنا على هذا وما يملك إلا هذه الشاة، فخرج لنا من دنياه كلها، ونحن نعطيه بعض ما نملكه فهو أجود منا، قال: فألقاها إليه وارتحل، فأتى معاوية فقضى حوائجه، فلما انصرف قال لمقسم: انظر ما حال صاحبنا، فعدل إليه فإذا إبل وشياه وحال حسنة؛ فلما بصر الأعرابي بعبيد الله أكبَّ على أطرافه يقبلها ثم قال: بأبي أنت وأمي، قد مدحتك ولا أدري والله من أي خلق الله أنت. وأنشده:
توسَّمته لما رأيت مهابة | ||
عليه، وقلت المرءُ من آل هاشم | ||
وإلا؛ فمن آل المرار فإنهم | ||
ملوك، وأبناء الملوك الأكارم | ||
فقال عبيد الله: أصبت؛ أنا من ولد هاشم؛ وقد ولدني آكل المرار. فبلغ معاوية ذلك فقال: لله دَرُّ عبيد الله من أي بيضة خرج، وفي أي عُشٍّ درج هذه والله من فعال عبيد الله معلم الجود؛ وهو والله كما قال الحطيئة:
أولئك قومٌ، إن بَنَوا أحسنُوا البنا | ||
وإن عاهدوا أوفوا، وإن عَقَدُوا شَدُّوا | ||
وإن كانت النعماء فيهم جزَوْا بها، | ||
وإن أنعموا لا كدَّروها ولا كدُّوا | ||
***
* وقال بعض الحكماء: ذلل أخلاقك للمحاسن، وقُدها للمحامد، وعلمها المكارم، وعودها الجميل والإيثار على النفس فيما تحمد غبه ولا تداق الناس وزنًا بوزن وتكرَّم بالغنى عن الاستقصاء، وعظم قدرك بالتغافل عن دنيء الأمور، وأمسك رمق الضعيف بالمعونة، وصل من رغب إليك بجاهك - إن عجزت عما رجاه عندك، ولا تكن بحَّاثًا عمن غاب عنك فيكثر عناؤك، وتحفَّظ من الكذب فإنه أسقط الأخلاق للأقدار، وهو نوع من الفحش وضرب من الدناءة...
وأخذ بعض الشعراء هذا المعنى فقال:
كُويتب يرفعه تصغيره | كأنما تصغيره تكبيره | |||
لم يُر في سقوطه نظيره | الكلبُ من أخلاقه يميره | |||
والقرد يحكيه ويستعيره | أقبح من ظاهره ضميره | |||
إذا تغدى أطبقت ستوره | وسُمِّرت أبوابه ودوره | |||
وخرست حيطانه وسُورُهُ | والديدبان فوقها ناظوره | |||
وقام عند ستره نذيره | لا يقرب الباب ولا يطوره | |||
خلق من الناس، ولايزوره | إلا شقي غَرَّه غروره | |||
فإن دنا أحرقه سعيره | وكسَّرت ساقاه؛ لا يجيره | |||
خلق، ولا يرجى جُبُوره | حتى إذا استوفى وطم بيره | |||
ثم علا من كظة زفيره | وأحصنت من بعدها قدوره | |||
وأثبتت من خبزه كسوره | وحصلت فضلاته وسوره | |||
ودار في الدار بها وزيره | وصار في ديونه توفيره | |||
عاد إليه عائدًا سروره | ||||
***
* ذكر أن رجلا حمل لرجل حملا وبلغ به غاية بعيدة، فأعطاه (قيراطًا) فاستحقره واستزاده، فقال: أتستحقره، وإنك لو اشتريت به رغيفًا فأكلته دفعت به يومك، وكسبت عليه أضعافه؟ أو قربة ماء كفاك في شربك وطهورك يومين؟ أو باقة بقل زينت بها مائدتك وطبت في أكلك؟ أو ملحًا أجزأك في طبيخك وغيره أيامًا؟ وأشنانًا كفاك في تطيب يدك مدة؟ أو دخلت به الحمام نقيت جسدك؟ أو ابتعت به الصابون نظفت به ثوبك؟ أو احتجت إلى عبور نهر كان مقنعًا لملاحك، إلى غير ذلك من المنافع؟ لقد صغَّرت عظيمًا، واستحقرت جسيمًا، فانطلق الرجل به ولم يماكسه.
وقريبٌ من ذلك أن رجلا قال لرجل: ادفع لي دريهمًا، فقال: أتصغره؟ إنه عشر العشرة، والعَشَرة عُشر المائة، والمائة عشر الألف، والألف عشر ديتك.
***
* روي أن رجلا جاء إلى حاجب معاوية فقال له: قل له على الباب أخوك لأبيك وأمك وقال له: ما أعرف هذا ثم قال: ائذن له، فدخل فقال له: أي الإخوة أنت؟ فقال: ابن آدم وحواء، فقال: يا غلام أعطه درهمًا، فقال: تعطي أخاك لأبيك وأمك درهمًا، فقال: لو أعطيت كل أخ لي من آدم وحواء ما بلغ إليك هذا.
***
* قال الأصمعي: مررت بقوم قد اجتمعوا على رجل يضربونه، فقلت لرجل من القوم يضرب بهمَّة، ما حال هذا؟ قال: والله ما أدري ما حاله ولكني رأيتهم يضربونه فضربته معهم لوجه الله وطلبًا لمثوبته!!
***
* لما قدم حاتم الأصم إلى أحمد بن حنبل قال له أحمد بعد بشاشته به: أخبرني كيف التخلص إلى السلامة من الناس؟ فقال له حاتم: بثلاثة أشياء، فقال له أحمد: ما هي؟ قال: تعطيهم مالك ولا تأخذ مالهم وتقضي حقوقهم ولا تطالبهم بقضاء حقوقك وتصبر على أذاهم ولا تؤذهم، فقال أحمد: إنها صعبة، قال له حاتم: وليتك تسلم.
***#
* الحديث ذو شجون:
هذا المثل لضبة بن أدٍّ، وكان له ابنان: سعد وسعيد، فخرجا في طلب إبل لهما فرجع سعد ولم يرجع سعيد، فكان ضبة كلما رأى رجلا مقبلا قال: أسعد أم سعيد؟ فذهبت مثلا. ثم إن ضبة بينما هو يسير يومًا ومعه الحارث بن كعب في الشهر الحرام إذ أتى على مكان فقال له الحارث: أترى هذا الموضع؟ فإني لقيت فتى هيئته كذا وكذا فقتلته وأخذت منه هذا السيف فإذا بصفة سعيد، فقال له ضبة: أرني السيف أنظر إليه، فناوله فعرفه فقال له: إن الحديث ذو شجون ثم ضربه به حتى قتله، فلامه الناس في ذلك وقالوا: أقتلت في الشهر الحرام؟ قال: سبق السيف العذل، فذهبت مثلا.
***
* أعز العرب:
بنو تغلب قبيلة من العرب القدامى وشيخهم هو (عمرو بن كلثوم) شاعر شجاع، وكان ملك العرب ذاك الوقت هو عمر بن هند، فتحدث هذا الملك مع جلسائه يومًا قائلا: من أعز العرب؟ فقالوا: عمرو بن كلثوم فقال الملك: أريد أمه تخدم أمي، فقالوا: يأنف عمرو بن كلثوم أن تخدم أمه أمك، فغضب الملك؛ وقال: أيأنف عمرو من خدامة أمه لأمي؟ قالوا: نعم، قال: لا بد أن تخدم أمه أمي؛ فأرسل الملك إلى عمرو يستدعيه (زيارة)، قال: وتأتي بأمك لزيارة أمي، فلما بلغ عمرو استدعاء الملك إياه، وإذا هو لم يسبق #
ذلك ما يستريب منه ابن كلثوم.
فأجاب دعوة الملك وحمل أمه في كرامتها حتى قدم على الملك فاستقبلوه وأدخلوا أمه على أم الملك وأدخلوه هو على الملك، فلما وصلت أمه أم الملك قالت لها: إنما استدعيناك لتخدمينا ولكن قومي لعملك. فصرخت أم عمرو بن كلثوم بصوت عال: (يا لتغلب) فسمعها ابنها وهو عند الملك وعرف أن المسألة فيها مكيدة فمشع السيف من جرابه وضرب به رأس الملك وإذا هو بالأرض يدور، ثم مضى عمرو إلى أمه ومن لقيه ضربه بالسيف حتى خلص إلى أمه وخرج بها، ورجع إلى أهله لم يمسه سوء، ثم تمثل بقصيدته المعلقة المشهورة التي قال فيه يتمدح بشجاعته وعبقريته:
إذا ما الملك سام الناس خسفًا | ||
أبينا أن نُقرَّ الظلم فينا | ||
ألا لا يجهلن أحد علينا | ||
فنجهل فوق جهل الجاهلينا | ||
ونشرب إن وردنا الماء صفوًا | ||
ويشرب غيرنا كدرًا وطينًا | ||
***
* مما قيل في اختيار الجليس:
* قال ﷺ: «لا تصاحب إلا مؤمنًا ولا يأكل طعامك إلا تقي»([9]).
* قال الخطابي في شرحه لهذا الحديث في كتاب العزلة: (معناه لا تدع إلى مؤاكلتك إلا الأتقياء، لأن المؤاكلة توجب الألفة وتجمع بين القلوب، فتوخ أن يكون خلطاؤك وذو الاختصاص بك أهل التقوى).
* وقال عمر بن الخطاب t: لا تتكلم فيما لا يعنيك، واعتزل عدوك واحذر صديقك إلا الأمين، ولا أمين إلا من يخشى الله - عز وجل - ويطيعه، ولا تمش مع الفاجر فيعلمك فجوره، ولا تطلعه على سرك، ولا تشاور في أمرك إلا الذين يخشون الله - سبحانه وتعالى -.
* وقال أيضًا: «ما أعطي عبدٌ بعد الإسلام خيرًا من أخ صالح».
* وقال علي بن أبي طالب t: عليكم بالإخوان فإنهم عدة في الدنيا والآخرة. ألا تسمع إلى قول أهل النار: }فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ{ [سورة الشعراء: 100 - 101].
* وقال الغزالي في (الإحياء): قال عيسى ابن مريم - عليه السلام - (جالسوا من تذكركم الله رؤيته ومن يزيد في عملكم كلامه، ومن يرغبكم في الآخرة عمله).
* وقال مالك بن دينار: إنك إن تنقل الأحجار مع الأبرار خير لك من أن تأكل الخبيص([10]) مع الفجار وأنشد:
وصاحب خيار الناس تنج مسلمًا | ||
وصاحب شرار الناس يومًا فتندما | ||
* من جمع ست خصال لم يدع للجنة مطلبًا ولا عن النار مهربًا: من عرف ربه فأطاعه، وعرف شيطانه فعصاه، وعرف الحق فاتبعه، وعرف الباطل فاتقاه، وعرف الدنيا فرفضها، وعرف الآخرة فطلبها.
***
* كان بالكوفة رجل يقال له مصلح، فبلغ أن بالبصرة رجلا من المصلحين مقدمًا في شأنه، فسار الكوفي إلى البصرة فلما قدم عليه قال له: من أنت؟ قال: أنا مصلح جئتك من الكوفة لما بلغني خبرك، فرحب به وأدخله موضعه، وخرج يشتري له ما يأكل، فأتى جَبَّانًا فقال له: أعندك جبن؟ قال: عندي جبن كأنه سمن! فقال في نفسه: لم لا أشتري سمنًا حين هو يضرب به المثل؟! فذهب إلى من يبيع السمن فقال له: أعندك سمن؟ فقال: عندي سمن كأنه زيت! فقال في نفسه: لم لا أشتري زيتًا حين هو يضرب به المثل؟! فذهب إلى زيات وقال: أعندك زيت؟ قال: عندي زيت صاف كأنه الماء! فرجع إلى بيته، وأخذ صحفة وملأها ماء، وقدمها للضيف مع كسيرات يابسة وعرفه كيف جرى له، فقال الكوفي: أنا أشهد أنك بالإصلاح أحق من أهل الكوفة!!.
*** #
قيل للأحنف بن قيس: ممن تعلمت الحلم وحسن الخلق؟ قال: من خالي قيس بن عاصم المنقري، بينما هو جالس إذ جاءته جارية بسفود عليه شواء فسقط من يدها، فوقع على طفل له كان عنده فمات، فذهلت الجارية، فقال: لا روع عليك، أنت حرة لوجه الله - تعالى -.
***
* قال رجل لآخر: لو مت أنا الآن ما كنت تفعل؟ قال: كنت أكفنك وأدفنك، قال: فاكسني الساعة ما تكفني به وإذا مت فادفني عريانًا.
***
* صاح رجل بالمأمون: يا عبد الله.... يا عبد الله. فغضب وقال: أتدعوني باسمي؟ فقال الرجل: نحن ندعو الله باسمه فيجيبنا، فسكت المأمون وقضى حاجته.
***
* هارون الرشيد والفضيل بن عياض:
* روى الفضل بن الربيع، قال: حج أمير المؤمنين هارون الرشيد، فبينا أنا نائم بمكة إذ سمعت قرع الباب، فقلت: من هذا؟ قال: أمير المؤمنين، فخرجت مسرعًا، فقلت: يا أمير المؤمنين! لو أرسلت إلي لأتيتك فقال: ويحك، قد خطر في نفسي شيء، فانظر لي رجلا أسأله، فقلت: ها هنا سفيان بن عيينة، فقال: امض بنا إليه فأتيناه،
فقرعت الباب، فقال: من ذا؟ قلت: أجب أمير المؤمنين، فخرج مسرعًا، فقال: يا أمير المؤمنين! لو أرسلت إلي لأتيتك. فقال له: خذ لما جئناك له - رحمك الله - فحدثه ساعة، ثم قال: عليك دين؟ قال: نعم، قال: اقض دينه.
فلما خرجنا، قال: ما أغنى عني صاحبك شيئًا، انظر لي رجلا أسأله، فقلت: ههنا عبد الرزاق بن همام، فقال: امض بنا إليه، فأتيناه، فقرعت عليه الباب، فقال: من هذا؟ قلت: أجب أمير المؤمنين، فخرج مسرعًا، فقال: يا أمير المؤمنين! لو أرسلت إلي لأتيتك، فقال: خذ لما جئناك له - رحمك الله - فحادثه ساعة، ثم قال: أعليك دين؟ قال: نعم، قال: يا عباسيُّ! اقض دينه.
فلما انصرفنا، قال: ما أغنى عني صاحبك شيئًا انظر لي رجلا أسأله. قلت: ههنا الفضيل بن عياض، فقال: امض بنا إليه، فأتيناه وإذا هو قائم يصلي يتلو آية من القرآن يرددها. قال: اقرع الباب، فقرعته، فقال لي: من هذا؟ قلت: أجب أمير المؤمنين، فقال: مالي ولأمير المؤمنين؟ فقلت: سبحان الله! أما عليك طاعته؟ فنزل ففتح الباب، ثم ارتقى إلى الغرفة فأطفأ السراج، ثم التجأ إلى زاوية من زوايا البيت.
فدخلنا فجعلنا نجول عليه بأيدينا، فسبقت كف هارون قبلي إليه.#
فقال([11]): يا لها من كف ما أنعمها وألينها إن نجت غدًا من عذاب الله.
فقلت في نفسي: ليكلمنه الليلة بكلام نقي من قلب نقي. فقال له: خذ لما جئناك له - رحمك الله -.
فقال([12]): إن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة دعا سالم بن عبد الله، ومحمد بن كعب القرظي، ورجاء بن حيوة، فقال لهم: قد ابتليت بهذا البلاء فأشيروا علي، فعد الخلافة بلاء، وعددتها أنت وأصحابك نعمة!
فقال له سالم بن عبد الله: إن أردت النجاة من عذاب الله فصم عن الدنيا، وليكن إفطارك منها الموت.
وقال له محمد بن كعب: إن أردت النجاة من عذاب الله فليكن كبير المسلمين عندك أبًا، وأوسطهم عندك أخًا، وأصغرهم عندك ولدًا، فوقَّر أباك، وأكرم أخاك، وتحنن على ولدك.
وقال له رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة من عذاب الله فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مت إذا شئت. وإني لأقول لك هذا، وإني لأخاف عليك أشد الخوف في يوم تزل فيه الأقدام، فهل معك - رحمك الله - مثل هؤلاء من يشير عليك أو يأمرك بمثل هذا؟
فبكى هارون بكاءً شديدًا حتى غشي عليه.#
فقلت له: ارفق بأمير المؤمنين، قال: يا ابن أم الربيع، تقتله أنت وأصحابك وأرفق به أنا؟
ثم أفاق، فقال: زدني - رحمك الله -.
فقال: بلغني يا أمير المؤمنين، أن عاملا لعمر بن عبد العزيز شكا إليه، قال: فكتب إليه عمر: يا أخي، اذكر طول سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد، فإن ذلك يطرد بك إلى باب الرب نائمًا ويقظان وإياك أن يُنصرف بك من عند الله إلى النار، فيكون آخر العهد، ومنقطع الرجاء.
قال: فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم على عمر، فقال له: ما أقدمك؟ قال: خلعت قلبي بكتابك، لا وليت لك ولاية حتى ألقى الله.
فبكى هارون بكاءً شديدًا، ثم قال له: زدني - رحمك الله -.
فقال: يا أمير المؤمنين! إن العباس، عم المصطفى ﷺ، جاء إلى النبي ﷺ فقال له: أمِّرني، فقال له النبي ﷺ: «يا عبَّاس، يا عم النبي، نفس تنجيها خيرٌ من إمارة لا تحصيها، إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة، فإن استطعت أن لا تتأمرن على أحد فافعل».
قال: فبكى هارون بكاءً شديدًا، ثم قال له: زدني -رحمك الله.
قال: يا حسن الوجه، أنت الذي يسألك الله عن هذا الخلق، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار فافعل، وإياك أن تصبح وتمسي
وفي قلبك غش لرعيتك، فإن النبي ﷺ قال: «من أصبح لهم غاشًّا لم يرح رائحة الجنة».
فبكى هارون بكاءً شديدًا، ثم قال: عليك دين؟ قال: نعم، دين لربي لم يحاسبني عليه، فالويل لي إن سألني، والويل لي إن ناقشني، والويل لي إن لم أُلهم حجتي.
قال: فقال: إنما أعني من دين العباد.
قال: إن ربي لم يأمرني بهذا، إن ربي أمرني أن أصدق وعده، وأطيع أمره فقال: }وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ{ [الذاريات: 56 - 58].
فقال له: هذه ألف دينار، خذها فأنفقها وتقوَّ بها على عبادة ربك.
فقال: يا سبحان الله، أنا أدلك على النجاة وأنت تكافئني بمثل هذا؟ سلمك الله ووفقك، ثم صمت، فلم يكلمنا.
فخرجنا من عنده، فلما أن صرنا على الباب، قال لي هارون: يا عباسي! إذا دللتني على رجل فدلني على مثل هذا، هذا سيد المسلمين اليوم.
قال غير أبي عمر: فبينا نحن كذلك إذ دخلت عليه امرأة من نسائه، فقالت: يا هذا، قد ترى سوء ما نحن فيه من ضيق الحال، فلو قبلت هذا المال تفرجنا به، قال: مثلي ومثلكم كمثل قوم كان #
لهم بعير يأكلون من كسبه، فلما كبر نحروه وأكلوا لحمه.
فلما سمع هارون الكلام، قال: نرجع فعسى أن يقبل المال؛ قال: فدخل، فلما علم الفضيل، خرج فجلس على تراب في السطح على باب الغرفة، وجاء هارون فجلس إلى جنبه، فجعل يكلمه فلم يجبه.
فبينا نحن كذلك إذ خرجت جارية سوداء، فقالت: يا هذا، قد آذيت الشيخ منذ الليلة، فانصرف - رحمك الله - قال: فانصرفنا.
***
* أساليب الدعوة إلى الله:
قال الله تعالى: }ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ{ [النحل: 125].
1 - فالدعوة بالحكمة بحسب حال المدعو وفهمه وقبوله، ومن الحكمة العلم والحلم والرفق واللين والصبر على ذلك.
2 - بالموعظة الحسنة: وهي الأمر والنهي المقرون بالترغيب والتهريب والوعد والوعيد.
3 - المجادلة بالتي هي أحسن: وهي الطرق التي تكون أدعى لاستجابته عقلا ونقلا ولغة وعرفًا.
***#
* ميزان الرجولة:
يقول ابن الجوزي في صيد الخاطر: لا يغرك من الرجل طنطنته، وما تراه يفعل من صلاة وصوم وصدقة وعزلة عن الخلق، إنما الرجل هو الذي يراعي شيئين: حفظ الحدود، وإخلاص العمل.
فكم رأينا متعبدًا يخرق الحدود بالغيبة وفعل ما لا يجوز مما يوافق هواه؟ وكم قد اعتبرنا على صاحب دين أنه قصد بفعله غير الله. وهذه الآفة تزيد وتنقص في الخلق، فالرجل كل الرجل هو الذي يراعي حدود الله، وهي ما فرض عليه وألزم به.
والذي يحسن القصد فيكون عمله وقوله خالصًا لله - تعالى - لا يريد به الخلق ولا تعظيمهم له، فرب خاشع ليقال ناسك وصامت ليقال خائف، وتارك للدنيا ليقال زاهد. وعلامة المخلص أن يكون في جلوته كخلوته، وربما تكلف بين الناس التبسم والانبساط لينمحي عنه اسم زاهد، فقد كان ابن سيرين يضحك بالنهار، فإذا جن الليل فكأنه قتل أهل القرية.
واعلم أن المعمول معه لا يريد الشركاء، فالمخلص مفرد له بالقصد والمرائي قد أشرك ليحصل له مدح الناس.
وذلك ينقلب لأن قلوبهم بيد من أشرك معه فهو يقلبها عليه لا إليه، فالموفق من كانت معاملته باطنة وأعماله خالصة، وذلك الذي تحبه الناس وإن لم يبالهم، كما قد يمقتون المرائي وإن زاد تعبده.#
ثم إن الرجل الموصوف بهذه الخصال لا يتناهى عن كمال العلوم ولا يقصر عن طلب الفضائل، فهو يملأ الزمان بأكثر ما يسمعه الخير وقلبه لا يفتر عن العمل المحسوب له لأن شغله بالحق -سبحانه وتعالى.
***
* فَعَلَام الهم إذًا؟
مر إبراهيم بن أدهم على رجل ينطق وجهه بالهم والحزن فقال له: أيها الرجل إني سائلك عن ثلاث فأجبني، قال الرجل: نعم، فقال إبراهيم: أيجري في هذا الكون شيء لا يريده الله؟ قال: كلا، قال: أفينقص من رزقك شيء قدره الله؟ قال: كلا، قال: أينقص من أجلك لحظة كتبها الله لك في الحياة؟ كلا، فقال إبراهيم: فعلام الهم إذًا؟.
***
* موقف العز بن عبد السلام مع سلطان الديار المصرية:
قيل إنه خرج السلطان في يوم العيد في موكب عظيم، والشرطة مصطفون على جوانب الطريق وحاشيته يحيطون به، والأمراء يقبلون الأرض بين يديه، والعز - رحمه الله - يرى ذلك، فنادى السلطان قائلا: يا أيوب! ما حجتك عند الله إذ قال لك: ألم أبوئ لك مُلك مصر تبيح الخمور؟ فقال: أو يحدث هذا؟ فقال: #
نعم، في مكان كذا وكذا حانة يباع فيها الخمر، فقال السلطان: يا سيدي هذا أنا ما عملته، هذا من عهد أبي، فهز العز بن عبد السلام رأسه وقال: أنت من الذين يقولون إنا وجدنا آباءنا على أمة؟! فأصدر السلطان أمرًا بإبطال الحانة، ومنع جميع الخمور. وانتشر الخبر بين الناس. ورجع العز إلى مجلس درسه فجاءه أحد تلاميذه فسأله قائلا: يا سيدي كيف الحال؟ يا بني رأيته في تلك العظمة فأردت أن أهينه لئلا تكبر نفسه فتؤذيه، فقال: يا سيدي، أما خفته؟ فقال: والله يا بني لقد استحضرت عظمة الله - تعالى - فصار السلطان أمامي كالقط.
***
* قد صفحت عنه وأعتقته:
رفع إلى الخليفة المنصور أن رجلا عنده ودائع وأموال لبني أمية فأمر بإحضاره. فلما أُدخل إليه قال له المنصور: قد رفع إلينا خبر الودائع والأموال التي عندك لبني أمية فأخرجها إلينا. فقال: يا أمير المؤمنين، أوارث أنت لبني أمية؟ قال: لا. قال: أفأوصوا لك بأموالهم؟ قال: لا. قال: فما سؤالك عما في يدي من ذلك؟
فأطرق المنصور ساعة، ثم رفع رأسه، وقال: إن بني أمية ظلموا المسلمين فيها، وأنا وكيل المسلمين في حقوقهم، وأريد أن آخذ ما ظلموا فيه المسلمين فأجعله في بيت مالهم، فقال: تحتاج يا أمير المؤمنين إلى إقامة البينة العادلة على أن ما في يدي لبني أمية مما #
خانوا وظلموا فيه دون غيره، فقد كان لبني أمية أموال غير أموال المسلمين. فقال المنصور: صدقت. ما يجب عليك شيء.
ثم قال له: هل لك من حاجة؟ قال: تجمع بيني وبين من سعى بي إليك، فوالله ما لبني أمية في يدي مالٌ ولا وديعة ولكني لما مثلت بين يديك، وسألتني عما سألتني عنه، علمت أنه ما ينجيني منك إلا هذا القول.
فلما جمع المنصور بينه وبين من سعى به عرفه وقال: هذا غلامي سرق ثلاثة آلاف دينار من مالي وهرب مني، وخاف من طلبي له فسعى به عند أمير المؤمنين.
فشد المنصور على الغلام وخوَّفه ثم أقر بكل ما ذكره الرجل.
فقال المنصور للشيخ: نسألك أن تصفح عنه، قال: قد صفحت عنه، وأعتقته، ووهبت له الثلاثة آلاف التي أخذها وثلاثة آلاف أخرى، ثم انصرف فكان المنصور يتعجب منه كلما ذكره ويقول: ما رأيت مثل هذا الشيخ قط.
***
* النبي المقيد:
ادعى رجل النبوة في البصرة فأتي به سليمان بن علي مقيدًا فقال له: أنت نبي مُرسل؟ قال: أما الساعة فإني نبي مقيد. قال: ويلك من بعثك؟ قال: ما هذه مخاطبة الأنبياء يا ضعيف العقل والله لولا أني مقيد لأمرت جبريل يُدمدمها عليكم، قال: والمقيد لا تجاب #
دعوته؟ قال: نعم الأنبياء خاصة إذا قيدوا لا يرتفع دعاؤهم! فضحك سليمان وقال: إني أطلقك الآن فأمر جبريل فإن أطاعك آمنًا بك وصدقناك! قال: صدق الله حيث يقول: }فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ{ [يونس: 88]، فضحك سليمان وسأل عنه فشُهد له أنه محرور فخلى سبيله.
***
* الحكمة في الدعوة إلى الله:
مر أبو الدرداء بجماعة قد تجمهروا على رجل وجعلوا يضربونه ويشتمونه، فأقبل عليهم وقال: ما الخبر؟!
قالوا: رجل وقع في ذنب كبير.
قال: أرأيتهم لو وقع في بئر أفلم تكونوا تستخرجونه منه؟ قالوا: بلى قال: لا تسبوه ولا تضربوه وإنما عظوه وبصروه واحمدوا الله الذي عافاكم من الوقوع في ذنبه.
قالوا: أفلا تبغضه؟!
قال: إنما أبغض فعله فإذا تركه فهو أخي فأخذ الرجل ينتحب ويعلن توبته.
***
* أفضل النساء:
سئل أعرابي عن النساء وكان ذا تجربة وعلم بهن فقال: أفضل النساء أطولهن إذا قامت، وأعظمهن إذا قعدت، وأصدقهن إذا #
قالت. التي إذا غضبت حلمت، وإذا ضحكت تبسمت، وإذا صنعت شيئًا جودت، التي تطيع زوجها، وتلزم بيتها، العزيزة في قومها، الذليلة في نفسها، الودود الولود، وكل أمرها محمود.
***
* هذا جزاء من يعجل:
شهد أعرابي عند معاوية بشهادة فقال معاوية: كذبت، فقال الأعرابي: إن الكاذب المزمل في ثيابك فقال معاوية: هذا جزاء من يعجل.
***
* لا تفسدها علينا:
يقال كان رجل شديد البخل وركب مرة دابته لمهمة، وفي منتصف الطريق تذكر شيئًا فعاد أدراجه إلى المنزل ونادى جاريته وقال لها: أخبري سيدتك، أني حين تناولت عشائي قبل خروجي طرحت للقطة لقمة، فحذار أن تطرح لها مرة أخرى وإلا فسدت عادتها علينا.
***
* بغض الموت:
قيل لرجل: ألا تغزو؟ قال: والله إني لأبغض الموت على فراشي فكيف أمضي إليه ركضًا؟([13]).#
* أدركني قبل الفجر:
روي أن أبا حنيفة - رحمه الله - جاءه رجل بالليل فقال: أدركني قبل الفجر وإلا طلقت امرأتي. قال: وما ذاك؟ قال: تركت الليلة كلامها فقلت لها: إن طلع الفجر ولم تكلميني فأنت طالق ثلاثًا وقد توسلت إليها بكل أمر أن تكلمني فلم تفعل فقال أبو حنيفة: اذهب فمر مؤذن المسجد أن ينزل فيؤذن قبل الفجر فلعلها إذا سمعته أن تكلمك. واذهب إليها وناشدها أن تكلمك قبل أن يؤذن المؤذن. ففعل الرجل وجلس يناشدها وأذن المؤذن فقالت: طلع الفجر وقد تخلصت منك، قال: كلمتيني قبل الفجر وتخلصت من اليمين.
***
* علامات صحة القلب:
1 - كثرة ذكر الله - تعالى - سرًّا وجهرًا وخدمته في كل حال بلا عجز ولا ملل.
2 - إذا فات الإنسان ورده مثل الصلاة مع الجماعة والقراءة وأذكار الصباح والمساء من ليل أو نهار تألم لذلك وتحسر على فواته.
3 - شحه بالوقت يمضي ضياعًا بلا علم ولا عمل ولا ذكر كالشحيح ببذل المال.
4 - الاهتمام بالله وحده دون سواه.
5 - ذهاب الهم في الدنيا وقت الصلاة والاهتمام بها وشدة الخروج منها.#
6 - الاهتمام بتصحيح الأقوال والأعمال وإخلاص النيات وتخليص النصيحة من غير أن يمازج صفوها والحرص على اتباع الأمر والنهي الشرعي، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
* إني أقول الطيبين الطاهرين:
قال رجل من العباسيين لأبي العيناء: تبغضني وقد أمرت بالصلاة عليَّ، تقول اللهم صلِّ على محمد وعلى آله؟ قال أبو العيناء: فإني أقول الطيبين الطاهرين فتخرج أنت منهم.
***
* من أدبك كل هذا الأدب:
سئل ابن المقفع: من أدبك كل هذا الأدب؟ فقال ابن المقفع: نفسي، فقيل له: أيؤدب الإنسان نفسه بغير مؤدب؟ فقال ابن المقفع: وكيف لا؟ وكنت إذا رأيت من غيري حسنًا أتيته، وإن رأيت قبيحًا أبيته وبهذا وحدي أدبت نفسي.
***
* رسالة وجواب:
كتب سلمان الفارسي إلى أبي الدرداء رضي الله عنهما، أما بعد: فإنك لن تنال ما تريد إلا بتركك ما تشتهي ولن تدرك ما تأمل إلا بالصبر على ما تكره فليكن كلامك ذكرًا، وصحتك فكرًا ونظرك عبرة، فإن الدنيا تنقلب وبهجتها تتغير فلا تغتر بها وليكن #
بيتك المسجد والسلام.
فأجابه أبو الدرداء:
أما بعد: فإني أوصيك بتقوى الله وأن تأخذ من صحتك لسقمك ومن شبابك لهرمك ومن فراغك لشغلك ومن حياتك لموتك، واذكر حياة لا موت فيه في إحدى المنزلتين إما في الجنة وإما في النار: فإنك لا تدري إلى أيهما تصير والسلام.
***
* قال ابن القيم - رحمه الله -:
وينحصر شر الشيطان في ستة أجناس لا يزال بابن آدم حتى ينال منه واحدًا منها أو أكثر:
1 - شر الكفر والشرك.
2 - ثم البدعة.
3 - ثم كبائر الذنوب.
4 - ثم صغائرها.
5 - ثم الاشتغال بالمباحات عن الخير.
6 - ثم بالعمل المفضول عن الفاضل.
والأسباب التي يعتصم بها العبد من الشيطان عشرة:
1 - الاستعاذة بالله منه.
2 - قراءة المعوذتين.
3 - قراءة آية الكرسي.
4 - قراءة البقرة.#
5 - قراءة خاتمة البقرة.
6 - قراءة أول (حم) المؤمن إلى إليه المصير.
7 - ولا إله الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة.
8 - كثرة ذكر الله.
9 - الوضوء مع الصلاة.
10 - إمساك فضول النظر والكلام والطعام ومخالطة الناس.
وليعلم أن الناس أربعة أقسام:
أحدها: من مخالطته كالغذاء، لا يستغنى عنه في اليوم والليلة، وهم العلماء بالله وأمره ومكايد عدوه وأمراض القلوب وأدويتها الناصحون لله ولكتابه ولرسوله ولخلقه، فهذا في مخالطته الربح كله.
الثاني: من مخالطته كالدواء، يحتاج إليه عند المرض فما دمت صحيحًا فلا حاجة لك في خلطته، وهم من لا يُستغنى عن مخالطتهم في مصلحة المعاش وقيام ما أنت محتاج إليه.
الثالث: من مخالطته كالداء، على اختلاف مراتبه وأنواعه وقوته وضعفه، وهم من في خلطتهم ضرر ديني أو دينوي، ومتى ابتليت بواحد من هؤلاء فلتعاشره بالمعروف حتى يجعل الله لك فرجًا، ومتى تمكنت من نقله إلى الخير فهي فرصة تغتنم.
الرابع: من مخالطته الهلك كله بمنزلة السم، وهم أهل البدع والضلالة.#
* وقال - رحمه الله -:
أكثر الخلق إذا نالوا الرئاسات تغيرت أخلاقهم ومالوا إلى الكبر وسرعة الانفعال، فمن الغلط أن تطالبه بالأخلاق التي كان يعامل بها قبل الرئاسة؛ ومخاطبة الرؤساء بالقول اللين مطلوب شرعًا وعقلا، وهكذا كان النبي ﷺ يخاطب العشائر والقبائل.
***
* وقال - رحمه الله -:
فإن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض، فإذا ظهرت أمارات العدل وتبين وجهه بأي طريق كان، فَثَمَّ شرعُ الله ودينه؛ ولم يحصر الله ورسوله طرق العدل في أمور معينة، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهو من الدين.
***
* وقال - رحمه الله -:
دل الكتاب والسنة وأقوال الصحابة أن السيئات تحبط الحسنات، كما أن الحسنات يذهبن السيئات، والحبوط نوعان: عام وخاص؛ فالعام حبوط الحسنات كلها بالردة والسيئات كلها بالتوبة، والخاص حبوط السيئات والحسنات بعضها ببعض، وهذا حبوط مقيد جزئي.
***#
وقال ابن القيم في (الوابل الصَّيب):
تفاضل الأعمال عند الله بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص والمحبة وتوابعها، فهذا العمل الكامل يكفر تكفيرًا كاملا والناقص بحسبه.
***
* وقال - رحمه الله -:
قاعدة نافعة: العبد من حين استقرت قدمه في هذه الدار فهو مسافر فيها إلى ربه، ومدة سفره هي عمره، والأيام والليالي مراحل فلا يزال يطويها حتى ينتهي السفر، فالكيس لا يزال مهتمًّا بقطع المراحل فيما يقرّبه إلى الله ليجد ما قَدَّمَ مُحْضَرًا، ثم الناس منقسمون إلى أقسام، منهم من قطعها متزودًا ما يقربه إلى دار السلام وهم ثلاثة أقسام: سابقون أَدَّوُا الفرائض وأكثروا من النوافل بأنواعها وتركوا المحارم والمكروهات وفضول المباحات ومقتصدون أدوا الفرائض وتركوا المحارم، ومنهم الظالم لنفسه الذي خلط عملا صالحًا وآخر سيئًا وهم في ذلك درجات متفاوتون تفاوتًا عظيمًا.
***
* وقال - رحمه الله - في (طبقات المكلفين):
طبقات المكلفين في الآخرة ثماني عشرة طبقة؛ أعلاها مرتبة الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم -، وهم ثلاث طبقات أعلاهم
أولو العزم الخمسة، ثم من عداهم ثم الأنبياء الذين لم يرسلوا إلى الأمم.
الرابعة: الصِّدّيقون ورثة الرسل القائمون بما بعثوا به علمًا وعملا ودعوة للخلق إلى الله على طريقهم.
الخامسة: أئمة العدل وولاته.
السادسة: المجاهدون في سبيل الله.
السابعة: أهل الإيثار والإحسان والصدقة.
الثامنة: من فتح الله عليه بابًا من أبواب الخير القاصر على نفسه من صلاة وصيام وحج وغيرها.
التاسعة: طبقة أهل النجاة وهم من يؤدي فرائض الله ويجتنب محارمَه.
العاشرة: طبقة قوم أسرفوا على أنفسهم وغَشوا كبائر ما نهى الله عنه، ولكن رزقهم الله التوبة النصوح قبل الموت فماتوا على توبة صحيحة.
***
* قال ابن القيم في (كتاب الفوائد):
قاعدة جليلة: إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه وألق سمعك واحْضَرْ حضورَ من يُخاطبه به من يتكلم به منه إليه فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله، قال تعالى: }إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ{ [ق: 37].
وذلك أن تمام التأثير لما كان موقوفًا على مؤثر مقتضى ومحل قابل وشرط لحصول الأثر وانتفاء المانع الذي يمنع منه، تضمنت الآية بيان ذلك كله بأوجز لفظ وأبينه وأدلة على المراد.
***
* وقال - رحمه الله -:
الصواب أن المعاد معلوم بالعقل مع الشرع، وأن كمال الرَّبّ وكمال أسمائه وعلمه وحكمته وقدرته وصفاته تقتضيه وتوجبه، وإنه منزه عما يقوله منكروه كما يستنزه كماله عن سائر العيوب والنقائص.
* وقال - رحمه الله -:
الرب يدعو عباده إلى معرفته من طريق تدبر آياته المتلوة، فإن القرآن قد حوى من تفاصيل معرفة الله بأسمائه وصفاته شيئًا عظيمًا، ويدعوهم إلى النظر في مفعولاته، فإنها دالَّة على أفعاله، والأفعال دالَّة على الصفات، فإن المفعول يدل على فاعل فعله.
وذلك يستلزم وجوده وقدرته، ومشيئته وعلمه لاستحالة صدور الفعل الاختياري من معدوم أو موجود لا قدرة له ولا حياة ولا علم ولا إرادة، ثم ما في المفعولات من التخصيصات المتنوعة دالٌّ على إرادة الفاعل وإن فعله ليس بالطبع بحيث يكون واحدًا غير متكرر، وما فيها من المصالح والحكم والغايات المحمودة دالٌّ على حكمته، وما فيها من النفع والإحسان، والخير دالٌّ على رحمته، وما فيها من البطش والعقوبة والانتقام دالٌّ على غضبه، وما فيها من الإكرام #
والتقريب والعناية دالٌّ على محبته وما فيها من الإهانة والإبعاد والخذلان دالٌّ على بغضه ومقته.
***
* وقال - رحمه الله -:
قاعدة: الإيمان له ظاهر وباطن: فظاهره قول اللسان وعمل الجوارح، وباطنه تصديق القلب وانقياده ومحبته؛ فلا ينفع ظاهر لا باطن له، ولا يجزي باطنُ لا ظاهر له إلا إذا تعذر بعجز أو إكراه أو خوف هلاك، فتخلُّفُ العمل طاهرًا مع عدم المانع دليل على فساد الباطن وخلوه من الإيمان، ونقصه دليل على نقصه، وقوته دليل قوته، فالإيمان قلب الإسلام ولبُّه، واليقين قلب الإيمان ولبُّه، وكل علم وعمل لا يزيد الإيمان واليقين قوة فمدخول، وكل إيمان لا يبعث على العلم فمدخول.
***
* وقال - رحمه الله -:
}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ{ [الأنفال: 24].
لما ذكر أقوال المفسرين فيها قال: والآية تتناول هذا كله، فإن الإيمان والإسلام والقرآن والجهاد يحيي القلوب الحياة الطيبة، وكمال الحياة في الجنة والرسول داع إلى الإيمان والجنة، فهو داع إلى الحياة في الدنيا والآخرة.
***#
* وقال - رحمه الله -:
لا يجعل العبد المعيار على ما ينفعه ويضره حبه وبغضه، بل المعيار ما اختاره الله له بأمره ونهيه، قال تعالى: }وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ{ [البقرة: 216].
***
* وقال - رحمه الله =:
أساس كل خير أن تعلم: أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فتتيقن حينئذ أن الحسنات من نعمه فتشكره عليها وتضرع إليه أن لا يقطعها عنك، وأن السيئات من خذلانه وعقوبته فتبتهل إليه أن يحول بينك وبينها.
***
* وقال - رحمه الله -:
للقلب ستة مواطن يجول فيها: ثلاثة سافلة، دنيا تتزين له، ونفس تحدثه وعدوا يوسوس له، وثلاثة عالية: علمُ يبين له وعقل يرشده ورب يعبده، والقلوب جوالة في هذه المواطن.
***
* وقال - رحمه الله -:
إنما يجد المشقة في ترك المألوفات من تركها لغير الله، فأمَّا من تركها صادقًا مخلصًا من قلبه لله فإنه لا يجد في تركها مشقة إلا في أول وهلة ليمتحن أصادقٌ هو في تركها أم كاذب؟ فإن صبر على # ترك المشقة استحالت لذة؛ من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه، والعوض أنواع مختلفة، وأجل ما يعوض به الأنس بالله ومحبته وطمأنينة القلب به وقوته ونشاطه وفرحه ورضاه عن ربه.
***
* وقال - رحمه الله -:
مبنى الدين على قاعدتين: الذكر والشكر، وليس المراد بالذكر مجرد ذكر اللسان بل الذكر القلبي واللساني وذلك يستلزم معرفته والإيمان به وبصفات كماله ونعوت جلاله والثناء عليه بأنواع المدح، وذلك لا يتم إلا بتوحيده؛ فذكره الحقيقي يستلزم ذلك كله ويستلزم ذكر نعمه وآلائه وإحسانه إلى خلقه.
وأما الشكر فهو القيام بطاعته، فذكره مستلزم لمعرفته وشكره متضمِّن لطاعته، وهذان هما الغاية التي خُلق لأجلها الجن والإنس.
***
* وقال - رحمه الله -:
قال أبو الدرداء t: يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم كيف يغبنون به قيام الحمقى وصومهم، والنذرة من صاحب تقوى أفضل من أمثال الجبال من عبادة المغترين، وهذا من جواهر الكلام وأدلة على كمال فقه الصحابة وتقدمهم على من بعدهم في كل خير y.
***#
* وقال - رحمه الله -:
لا شيء أفسد للأعمال من العُجْب ورؤية النفس، ولا شيء أصلح لها من شهود العبد منة الله وتوفيقه والاستعانة به والافتقار إليه وإخلاص العمل له.
***
* وقال - رحمه الله -:
مراتب دعوة النبي ﷺ خمس: النبوة، ثم إنذار عشيرته الأقربين، ثم إنذار قومه، ثم إنذار العرب، ثم إنذار الخلق كلهم، وهذه الأربعة من آثار الرسالة.
***
* وقال - رحمه الله -:
من الأسباب لشرح الصدر أمور: قوة التوحيد، والهدى والنور الذي يقذفه الله بقلب العبد، والعلوم النافعة، والإنابة إلى الله - تعالى -، ودوام ذكر الله، والإحسان إلى الخلق والشجاعة، وإخراج دغل القلب، وترك فضول النظر والكلام، والاستماع والمخالطة والأكل والنوم، وأضداد هذه الصفات سبب الهم والغم والضيق والحصر، ولنبينا محمد ﷺ من هذه الصفات الكاملة وغيرها أعلاها وأكملها، ولأتباعه منها بحسب اتباعهم له.... وبالله التوفيق.
***#
وقال - رحمه الله -:
قواعد طب الأبدان تدور على ثلاثة أصول: حفظ الصحة والحمية عن المؤذي واستفراغ المواد الفاسدة، ومن أصول الطب تدبير الغذاء والحركة والنوم وجميع التصرفات ولا يعدل إلى استعمال الأدوية إلا للضرورة أو الحاجة.
وأربعة أشياء تمرض الجسم: الكلام الكثير والنوم الكثير والأكل الكثير والجماع الكثير.
وأربعة تهدم البدن: الهم والحزن والجوع والسهر.
وأربعة تفرح: النظر إلى الخضرة وإلى الماء الجاري والمحبوب والثمار.
وأربعة تظلم البصر: المشي حافيًا والتصبح والمساء بوجه البغيض والثقيل والعدو، وكثرة البكاء وكثرة النظر في الخط الدقيق.
وأربعة تقوي الجسم: لبس الثوب الناعم ودخول الحمام المعتدل وأكل الطعام الحلو والدسم وشم الروائح الطيبة.
وأربعة تيبس الوجه وتذهب بهاءه وبهجته وطلاقته: الكذب والوقاحة وكثرة السؤال عن غير علم وكثرة الفجور.
وأربعة تزيد في ماء الوجه وبهجته: المروءة والوفاء والكرم والتقوي.
وأربعة تجلب الرزق: قيام الليل وكثرة الاستغفار بالأسحار وتعاهد الصدقة والذكر أول النهار وآخره.
وأربعة تمنع الرزق: نوم الصبيحة وقلة الصلاة والكسل والخيانة.
وأربعة تضر بالفهم: إدمان أكل الحامض والفواكه والنوم على القفا والهم والغم.
وأربعة تزيد في الفهم: فراغ القلب وقلة التملي من الطعام والشراب، وحسن تدبير الغذاء بالأشياء الحلوة والدسمة وإخراج الفضلات المثقلة للبدن.
ومما يضر بالعقل: إدمان أكل البصل والباقلا والزيتون والباذنجان وكثرة الجماع والوحدة والأفكار والسكر وكثرة الضحك والغم.
***
وقال - رحمه الله - في كتابه (إغاثة اللهفان):
القلوب ثلاثة: صحيح وهو الذي قد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره، فَسَلِمَ من عبودية ما سواه وسَلِم من تحكيم غير رسوله ﷺ.
والقلب الميت ضد هذا، وهو الذي لا حياة به فلا يعرف ربَّه ولا يعبده بأمره.
والقلب الثالث قلب له حياة وبه علة، ففيه من محبة الله والإيمان به والإخلاص له والتوكل عليه ما هو مادة حياته، وفيه من محبة الشهوات وإيثارها، والأخلاق الرذيلة ما هو مادة عطبه، وهو ممتحن بين هذين الداعيين، فالقلب الأول حي مُخْبِتٌ ليِّن واعٍ، والثاني يابس مَيْت، والثالث مريض، فإما إلى السلامة وإما إلى العطب.
وأمراض القلوب ترجع كلها إلى أمراض الشبهات والشهوات،
وحياة القلب وإشراقه مادة كل خير فيه، وموته وظلمته مادة كل شرِّ فيه، ولا يكون صحيحًا حيًّا إلا بمعرفة الحق وإيثاره، ولا سعادة له ولا نعيم ولا صلاح حتى يكون الله وحدَه هو معبوده، وغاية مطلوبه، ولا يتم له ذلك إلا بزكاة قلبه وتوبته واستفراغه من جميع المواد الفاسدة والأخلاق الرذيلة ولا يحصل له ذلك إلا بمجاهدة نفسه الأمَّارة بالسوء ومحاسبتها ومجاهدة شياطين الإنس والجن، شياطين الإنس بالإعراض ومقابلة الإساءة بالإحسان وشياطين الجن بالاعتصام بالله منهم ومعرفة مكائدهم وطرقهم والتحرز منها.
***
وقال - رحمه الله - في كتابه: (مدارج السالكين):
مدار اعتلال القلوب وأسقامها على أصلين: فساد العلم وفساد القصد ويترتب عليهما داءان قاتلان: الغضب والضلال، فالضلال ينتجه فساد العلم والغضب ينتجه فساد القصد، وهذان المرضان ملاك أمراض القلوب جميعها، ثم ذكر أن شفاء ذلك بالهداية العلمية والهداية العملية ومعرفة الحق واتباعه، والقرآن كله شفاء لهذين المرضين ولغيرهما وفيه الهداية التامة.
***
* وقال - رحمه الله -:
وبنى }إِيَّاكَ نَعْبُدُ{ على أربع قواعد: التحقق بما يحبه الله ويرضاه من قول اللسان والقلب وعمل القلب والجوارح، فالعبودية اسم #
جامع لهذه المراتب الأربع فقول القلب اعتقاده ما أخبر الله به عن نفسه وعن خلقه وعن الغيوب، وقول اللسان الإخبار عنه بذلك والدعوة إليه والذب عنه والقيام بذكره وتبليغ أوامره؛ وعمل القلب كالمحبة له، والتوكل عليه والإنابة إليه، والخوف منه والرجاء له وإخلاص الدين له والصبر له على أوامره وعن نواهيه وعلى أقداره والرضا به وعنه, والموالات فيه والمعاداة فيه والذل له والخضوع والإخبات والطمأنينة به وغير ذلك من أعمال القلوب التي فرضها أفرض من أعمال الجوارح ومستحبها أحب إلى الله من مستحبها، وعمل الجوارح بدونها إما عديم المنفعة أو قليل المنفعة.
وأعمال الجوارح، كالصلاة، والجهاد، ونقل الأقدام إلى مواضع العبادة، ومساعدة العاجز والإحسان إلى الخلق ونحو ذلك فـ }إِيَّاكَ نَعْبُدُ{ التزامٌ لأحكم هذه الأربعة، و}وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ{ طلب الإعانة عليها والتوفيق لها، و}اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ{ متضمن للتعريف بالأمرين على التفصيل وإلهام القيام بهما وسلوك طريق السالكين إلى الله بهما.
***
* وقال - رحمه الله -:
مدار السعادة الدنيوية والأخروية على الاعتصام بالله والاعتصام بحبله، فالأول يعصم من الهلكة والثاني يعصم من الضلالة، فإن السائر إلى الله كالسائر على طريق نحو مقصده فهو محتاج إلى #
هداية الطريق والسلامة فيها؛ فالدليل كفيل بعصمته من الضلالة، وأن يهديه إلى الطريق، والعدة والسلاح بها تحصل له السلامة من قطاع الطريق وآفاتها.
***
* وقال - رحمه الله -:
الإنصاف في معاملة الله أن يُعطي العبودية حقَّها، وأن لا ينازع ربَّه صفات إلهيته، وأن لا يشكر على نعمه سواه، ولا يستعين بها على معاصيه، ولا يحمد غيره ولا يعبد سواه.
وأما الإنصاف في حق العبيد فأن يعاملهم بمثل ما يحب أن يعاملوه به.
***
* وقال - رحمه الله -:
القلب في سيره إلى الله بمنزلة الطائر، فالمحبة رأسه والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى عُدم الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر.
* وقال - رحمه الله -:
سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما تخاف ضرره في الآخرة، وهذه العبارة من أحسن ما قيل في الزهد ولورع وأجمعها؛ وقال الإمام أحمد: الزهد #
على ثلاثة أوجه: ترك الحرام - وهو زهد العوام، والثاني ترك الفضول من الحلال - وهو زهد الخواص، والثالث ترك ما شغل عن الله - وهو زهد العارفين، وهذا من أجمع الكلام وأحسنه تفصيلا.
***
* وقال - رحمه الله -:
وفي ذكر الله أكثر من مائة فائدة: يرضي الرحمن، ويطرد الشيطان، ويزيل الهم، ويجلب السرور، ويقوِّي القلب والبدن، وينور القلب والوجه، ويجلب الرزق، ويكسب المهابة والحلاوة، ويورث محبة الله التي هي روح الإسلام، ويورث المعرفة والإنابة والقرب، وحياة القلب، وذكر الله للعبد هو قوت القلب وروحه، ويجلو صدأه، ويحط الخطايا، ويرفع الدرجات ويحدثُ الأنس، ويزل الوحشة، ويذكر بصاحبه، وينجي من عذاب الله، يوجب تنزل السكينة، وغشيان الرحمة، وحفوف الملائكة بالذاكر، ويشغل عن الكلام الضار، ويسعد الذاكر، ويسعد به جليسه، ويؤمن الحسرة يوم القيامة، وهو مع البكاء سبب إظلال الله للذاكر، وبه تحصل العطايا والثواب المتنوع من الله، وهو أيسر العبادات وأفضلها، وهو غراس الجنة، ويؤمن العبد من نسيان ربه، وانفراط أمور العبد، ويسير بصاحبه في كل حال من أحواله، وهو نور للعبد في دنياه وقبره ويوم حشره، وبه تخرج أعمال العبد #
وأقواله ولها نور، وهو رأس الولاية وطريقها، ويزيل خلة القلب ويفرق غمومه وهمومه، وينبه القلب من نومه، ويثمر المعارف والأحوال الجليلة، والذاكر القريب من مذكوره والله معه.
وأكرم الخلق على الله من لا يزال لسانه رطبًا من ذكر الله، ويزيل قسوة القلب، وما استُجْلبت نعَمُ الله واستُدفِعت نِقَمة بمثل ذكره، ويوجب صلاة الله وملائكته على الذاكر ومجالس الذكر ومجالس الملائكة ورياض الجنة وجميع الأعمال إنما شرعت لإقامة ذكر الله، وأفضل عامل أكثرهم لله ذكرًا، وإدامة الذكر تنوب مناب كثير من الطاعات البدنية والمالية والمركبة منها؛ وهو يعين على طاعة الله ويسهِّل كل صعب وييسر الأمور ويعطي الذاكر قوة في قلبه وبدنه، والذاكرون أسبق العمال وهو سدُّ بين العبد وبين نار جهنم، وتستغفر الملائكة للذاكر وتتباهى الجبال وبقاع الأرض بمن يذكر أسماءه وصفاته والثناء عليه بهما وتنزيهه عما لا يليق به، والخبر عن أحكام ذلك وذكر أمره ونهيه، ويكون الذكر بالقلب واللسان وهو الأكمل ثم القلب وحده، ثم اللسان وحده.
وأفضل أنواع الذكر القرآن، ثم الذكر والثناء على الله، ثم أنواع الأدعية.
***#
* وقال في كتابه (زاد المعاد في هدي خير العباد):
وربك يخلق ما يشاء ويختار؛ وإذا تأملت أحوال هذا الخلق رأيت هذا الاختيار والتخصيص فيه دالا على ربوبيته - تعالى - ووحدانيته وكمال حكمته وعلمه وقدرته، وأنه الله الذي لا إله إلا هو، لا شريك له يخلق كخلقه ويختار كاختياره ويدبِّر كتدبيره، ثم ذكر أمثلة من هذا النوع، وأن أكمل مختار من الخليقة محمد ﷺ، ثم قال: ومن ههنا تعلم اضطرار العباد فوق كل ضرورة إلى معرفة الرسول وما جاء به، وتصديقه فيما أخبر به وطاعته فيما أمر به، فإنه سبب السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة؛ فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق ليس إلا هدي الرسل وما جاءوا به، وخصوصًا خاتمهم، وبهديه توزن العقائد والأعمال الظاهرة والباطنة، وإذا كان الأمر كذلك فيجب على كل من نصح نفسه وأحبَّ نجاتها وسعادتها أن يعرف من هديه وسيرته وشأنه ما يخرج به عن الجاهلين ويدخل به في عداد أتباعه وشيعته وحزبه، والناس في هذا بين مستقل ومستكثر ومحروم، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
***
* وقال رحمه الله في كتابه (عدة الصابرين):
قال الله تعالى: }وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ{ [الرعد: 21].
يدخل في هذا ظاهر الدين وباطنُه، وحق الله وحق خلقه، #
فيصلون ما بينهم وبين الله بالقيام بحق عبوديته والاجتهاد في تكميلها ظاهرًا وباطنًا، وأُمِرْنا أن نصل بيننا وبين الرسول بالإيمان به وتصديقه وتحكيمه في كل شيء، واتباعه وتقديم محبته على كل أحد، وأمرنا أن نصل ما بيننا وبين الوالدين ببرهما وبصلة الأرحام، والقيام بحق الجيران والأصحاب والعيال والمعاملين وجميع المخالطين بأن نأتي إليهم ما نحب أن يأتوه إلينا، وأن نصل ما بيننا وبين الحفظة الكرام والكاتبين بأن نكرمهم ونستحيي منهم... فهذا كله مما أمر الله به أن يوصل.
***
* وقال - رحمه الله -:
من أعظم ما يعين على الصبر أن يدرك العبد ما في المأمور من الخير واللذة والكمال وما في المحظور من الشر والضرر، فإذا أدركهما كما ينبغي أضاف إلى ذلك عزيمة صادقة وتوكُّلا على الله.
ومما يعين على ذلك أن يعلم أن الصبر مصارعة داعي العقل وداعي الشهوة، وكل متصارعين أُريد أن يغلب أحدُهما الآخر أعين على ذلك وأُضعف الآخر، فَلْيَسْعَ بإضعاف دواعي الشهوة بأسباب معروفة وبتقوية داعي العقل فإنه لا يزال كذلك حتى يكون الحكم لداعي العقل ويضعف داعي الشهوة المهلك.
***#
وقال - رحمه الله -:
الكمال الإنساني في ثلاثة أمور: علوم يعرفها وأعمال يعمل بها وأحوال تترتب له على علومه وأعماله، وأفضل العلم والعمل والحال: العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، والعمل بمرضاته وما ترتب عليها من الأخلاق الجميلة والأوصاف الحميدة، فهذا أشرف ما في الدنيا وجزاؤه أشرف ما في الآخرة.
***
* وقال - رحمه الله -:
ثبت أن الإيمان نصفان: نصفٌ شكرٌ ونصفٌ صبرٌ باعتبار أن الإيمان إما فعل مأمورٍ فهو الشكر، أو ترك محظور وذلك هو الصَّبر، وإما بأن العبد بين أمرين إما حصول محابٍ ومسار فوظيفته الشكر، وإما حصول مكاره ومضار فوظيفته الصبر فمن قام بالأمرين استكمل الإيمان، وقد ذكر عدة اعتبارات أحسنها ما ذكرنا.
***
* وقال - رحمه الله -:
ومما ينبغي أن يعلم أن كل خصلة من خصال الفضل فقد أحل الله رسوله ﷺ في أعلاها وخَصَّه بذروة سنامها، فهو سيد الشاكرين وإمام الصابرين وأعظم المجاهدين وأشرف المتواضعين وأكمل النبيين وأقوى المتوكلين وأعلى العابدين؛ وهكذا جميع خصال الفضل والخير، قد جمعها الله فيه وتبوَّأ أكملها وأعلاها.#
* ساق الإمام ابن كثير في ثنايا تفسير قول الله تعالى: }غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ{ [غافر: 3]، فقال:
عن يزيد بن الأصم قال: كان رجل من أهل الشام ذو بأس، وكان يفد إلى عمر بن الخطاب، ففقده عمر فقال: ما فعل فلان بن فلان؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين، يتابع في هذا الشراب، وقال: فدعا عمر كاتبه، فقال: اكتب: (من عمر بن الخطاب إلى فلان ابن فلان، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، غافر الذنب وقابل التوب، شديد العقاب، ذي الطول، لا إله إلا هو إليه المصير)، ثم قال لأصحابه: ادعوا الله لأخيكم أن يُقْبِلَ بقلبه، ويتوب الله عليه، فلما بلغ الرجل كتابُ عمر جعل يقرؤه ويردده، ويقول: غافر الذنب، وقابل التوب شديد العقاب، قد حذرني عقوبته، ووعدني أن يغفر لي.
ورواه الحافظ أبو نعيم من حديث جعفر بن برقان، وزاد: (فلم يزل يُرَددها على نفسه، ثم بكى، ثم نزع فأحسن النزع، فلما بلغ عمر خبره، قال: هكذا فاصنعوا، إذا رأيتم أخاكم زل زلَّة فسددوه ووفقوه، وادعوا الله له أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعوانًا للشيطان.
***
* ذكر ابن إسحاق أن عمر بن الخطاب t، وعيَّاش بن أبي ربيعة المخزومي خرجا حتى قدما المدينة (فحدثني نافع مولى #
عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عمر، عن أبيه عمر بن الخطاب، قال: اتَّعدتُ، لما أردنا الهجرة إلى المدينة، أنا وعيَّاش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاصي بن وائل السهمي التَّناضِبَ من أضاة بني غفار، وفوق سرف، وقلنا: أينا لم يُصْبح عندها فقد حُبِس فَلْيَمْض صاحباه، قال: فأصبحت أنا وعيَّاش بن أبي ربيعة عند التَّناضب، وحُبس عنا هشام، وفُتن فافتتن.
فلما قدمنا المدينة نزلنا في بني عمرو بن عوف بقُباء، وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عياش بن أبي ربيعة، وكان ابن عمها وأخاهما لأمهما، حتى قدما علينا المدينة، ورسول الله ﷺ بمكة، فكلماه وقالا: إنَّ أُمَّك قد نذرت أن لا يمس رأسها مُشطٌ حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك، فرق لها، فقلت له: يا عياش، إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم، فوالله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت، قال: فقال: أبر قسم أُمِّي، ولي هنالك مالٌ فآخذه: قال: فقلت: والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالا، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما، قال: فأبى علي إلا أن يخرج معهما؛ فلما أبى إذا ذلك؛ قال: قلت له: أما إذ قد فعلت ما فعلت، فخُذ ناقتي هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول، فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريبٌ، فانج عليها.#
فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال له أبو جهل: يا ابن أخي، والله لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تُعقبني على ناقتك هذه؟ قال: بلى، قال: فأناخ، وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه، فأوثقاه وربطاه، ثم دخلا به مكة، وفتناه فافتتن.
قال ابن إسحاق: فحدثني به بعض آل عياش بن أبي ربيعة: أنهما حين دخلا به مكة دخلا به نهارًا موثقًا، ثم قالا: يا أهل مكة، هكذا فافعلوا بسفهائكم كما فعلنا بسفيهنا هذا.
قال ابن إسحاق: وحدثني نافع، عن عبد الله بن عمر، عن عمر في حديثه، قال: فكنا نقول: ما الله بقابل ممن افتتن صرفًا ولا عدْلا ولا توبة، قوم عرفوا الله، ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم! قال: وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم، فلما قدم رسول الله ﷺ المدينة، أنزل الله - تعالى - فيهم، وفي قولنا وقولهم لأنفسهم: }قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ{ [الزمر: 53 - 55].
قال عمر بن الخطاب: فكتبتها بيدي في صحيفة، وبعثت بها إلى هشام بن العاصي قال: فقال هشام بن العاصي: فلما أتتني جعلت #
أقرؤها بذي طُوى، أُصعَّد بها فيه وأصوب ولا أفهمها، حتى قلت: اللهم فهمنيها، قال: فألقى الله - تعالى - في قلبي أنها إنما أنزلت فينا، وفيما كنَّا نقول في أنفسنا ويقال فينا.
قال ابن هشام: فحدثني من أثق به: أنَّ رسول الله ﷺ قال، وهو بالمدينة: من لي بعيَّاش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاصي؟ فقال الوليد بن الوليد بن المغيرة: أنا لك يا رسول الله بهما، خرج إلى مكة، فقدمها مستخفيًا، فلقي امرأة تحمل طعامًا، فقال لها: أين تريدين يا أمة الله؟ قالت: أريد هذين المحبوسين - تعنيهما - فتبعها حتى عرف موضعهما، وكانا محبوسين في بيت لا سقف له؛ فلما أمسى تسور عليهما، ثم أخذ مروة فوضعها تحت قيديهما، ثم ضربهما بسيفه فقطعهما، فكان يقال لسيفه: (ذو المروة) لذلك، ثم حملهما على بعيره، وساق بهما فعثر فدميت أصبعه، فقال:
هل أنت إلا أصبعٌ دميت | ||
وفي سبيل الله ما لقيت | ||
ثم قدم بهما على رسول الله ﷺ المدينة([14]).
***
* }وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً{ [الفرقان: 27 - 29].#
ولهذه الآية قصة مناسبة لهذا المقام، فعن ابن عباس رضي الله عنهما (أن أبا معيط كان يجلس مع النبي ﷺ بمكة لا يؤذيه، وكان رجلا حليمًا، وكان بقية قريش إذا جلسوا معه آذوه، وكان لأبي معيط خليل غائب عنه بالشام، فقالت قريش: صبأ أبو معيط([15])، وقدم خليله([16])، من الشام ليلا، فقال لامرأته: ما فعل محمد مما كان عليه، فقالت: أشد مما كان أمرًا، فقال: ما فعل خليلي أبو معيط؟ فقالت: صبأ، فبات بليلة سوء، فلما أصبح أتاه أبو معيط فحياه فلم يرد عليه التحية، فقال: مالك لا ترد علي تحيتي؟ فقال: كيف أرد عليك تحيتك وقد صبوت؟ قال: أو قد فعلتها قريش؟ قال: نعم، قال: فما يبرئ صدورهم إن أنا فعلت؟ قال: تأتيه في مجلسه، وتبصق في وجهه، وتشتمه بأخبث ما تعلمه من الشتم، ففعل، فلم يزد النبي ﷺ أن مسح وجهه من البصاق، ثم التفت إليه فقال: «إن وجدتك خارجًا من جبال مكة أضرب عنقك صبرًا».
فلما كان يوم بدر وخرج أصحابه أبى أن يخرج، فقال له أصحابه: اخرج معنا، قال: قد وعدني هذا الرجل إن وجدني خارجًا من جبال مكة أن يضرب عنقي صبرًا، فقالوا: لك جمل أحمر لا يُدْرَك، فلو كانت الهزيمة طرت عليه، فخرج معهم، فلما هزم الله المشركين وحَلَّ به جمله في جُدَد من الأرض، فأخذه # رسول الله ﷺ أسيرًا في سبعين من قريش، وقُدم إليه أبو معيط، فقال: تقتلني من بين هؤلاء؟ قال: نعم، بما بصقت في وجهي، فأنزل الله في أبي معيط: }وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً{ [الفرقان: 27 - 29]([17]).
* وقال الإمام ابن كثير: وسواء كان سبب نزولها في عقبة بن أبي معيط أو غيره من الأشقياء فإنها عامة في كل ظالم... فكل ظالم يندم يوم القيامة غاية الندم، يعض على يديه قائلا: }يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلاً{ يعني من صرفه عن الهدى وعدل به إلى طريق الضلالة، وسواء في ذلك أمية بن خلف أو أخوه أبي بن خلف أو غيرهما([18]).
***
* قصة جبلة بن الأيهم الغساني آخر ملوك الغساسنة فهي دالة على خطر الاستعلاء والغرور، وأنه قد يؤدي إلى إذهاب الثبات بالكلية، ومفارقة دين الإسلام - والعياذ بالله تعالى - فقد كتب جبلة (إلى عمر t يُعلمه بإسلامه ويستأذنه في الوفود عليه، فسُرَّ بذلك هو والمسلمون، فكتب إليه عمر: أن اقدم فلك ما لنا #
وعليك مع علينا، فقدم في خمسمائة فارس من عدد جفنة، فلما دنا من المدينة ألبسهم الوشي المنسوج بالذهب والحرير الأصفر وجَلَّل الخيل بجلال الديباج وطوَّقها بالذهب والفضة، ولبس جَبَلة تاجه وفيه قُرطا مارية، فلم يبق في المدينة أحدٌ إلا خرج للقائه، وفرح المسلمون بقدومه وإسلامه، ثم حضر الموسم من عامه ذلك، فبينا هو يطوف بالبيت إذ وطئ على إزاره رجل من فزارة فحله، فالتفت إليه جبلة مغضبًا ولطمه فهشم أنفه، فاستعدى عليه إلى عمر t فبعث إليه يقول: ما دعاك إلى أن لطمت أخاك فهشمت أنفه؟
قال: إنه وطئ إزاري فحلَّه فلولا حرمة البيت لأخذت الذي فيه عيناه.
فقال له عمر: أما أنت فقد أقررت فإما أن تُرضيه وإلا أقدته منك.
قال: أتُقيده مني وأنا ملك وهو سوقة؟
قال عمر: يا جبلة إنه قد جمعك وإياه الإسلام فما تفضله إلا بالتقوى.
قال: والله لقد رجوت أن أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية.
قال عمر: هو ذاك.#
قال: إذا أتنصر.
قال: إن تنصرت ضربت عنقك.
فقال جبلة: أخرني إلى غد يا أمير المؤمنين.
قال: ذلك لك.
فلما كان الليل خرج هو وأصحابه فلم يلبث أن دخل قُسطنطينية على هرقل فتنصر، فأعظم قدومه وسُرَّ به، وأقطعه الأموال والأرضين والرباع.
***
* ذكر الإمام ابن كثير - رحمه الله - في تاريخه نقلا عن الإمام ابن الجوزي - رحمه الله - أن رجلا يدعى عبده بن عبد الرحيم.
كان من المجاهدين كثيرًا في بلاد الروم، فلما كان في بعض الغزوات والمسلمون محاصرو بلد من بلاد الروم إذ نظر إلى امرأة من نساء الروم في ذلك الحصن فهويها، فراسلها: ما السبيل إلى الوصول إليك؟ فقالت: أن تتنصر وتصعد إليَّ، فأجابها إلى ذلك، فما راع المسلمين إلا وهو عندها، فاغتم المسلمون بسبب ذلك غمًّا شديدًا، وشق عليهم مشقة عظيمة.
فلما كان بعد مدة مروا عليه وهو مع تلك المرأة في ذلك الحصن، فقالوا: يا فلان! ما فعل قرآنك؟ ما فعل علمك؟ ما فعل صيامك؟ ما فعل جهادك؟ ما فعلت صلاتك؟#
فقال: اعلموا أني أنسيت القرآن كله إلا قوله: }رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ{ [الحجر: 2 - 3]، وقد صار لي فيهم مال وولد)([19]).
***
* قال ابن القيم - رحمه الله -:
ولا يتم التوكل الكامل إلا بمعرفة الله وصفاته وأفعاله وإثبات الأسباب والاجتهاد فيها، وقوة الاعتماد على الله والاستناد إليه والسكوت، بحيث لا يبقى القلب مضطربًا من تشويش الأسباب، ولا بد من حسن الظن والثقة بالله في نيل ما توكل العبد على الله فيه، والتفويض إلى الله واستسلام القلب لهن ويتوكل على الله في كل مطلوب حصوله أو دفع مكروه، وأفضل التوكل ما كان في حصول خير ديني خاص أو عام([20]).
* وقال ابن القيم - رحمه الله -:
الصبر ثلاثة أقسام: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على امتحان الله؛ فالأولان صبر على ما يتعلق بالكسب؛ والثالث صبر على ما لا كسب للعبد فيه؛ وصبر الاختيار أكمل من صبر الاضطرار، وتمام الصبر أن يكون كما قال الله تعالى: }وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ{ [الرعد: 22].#
وأقواه أن يكون بالله معتمدًا فيه عليه لا على نفسه ولا على غيره من الخلق.
* وقال رحمه الله:
سمعت شيخ الإسلام يقول: الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه ولا معه؛ والصفح الجميل هو الذي لا عتاب معه؛ والهجر الجميل هو الذي لا أذى معه.
* وقال - رحمه الله -:
ما بطل حكمه من الإبدال بحصول مبدله لم يبق متعبدًا به بحال فإن وجود المبدل بعد الشروع فيه كوجوده قبل الشروع فيه.
***
* وقال - رحمه الله -:
من أصول مالك: اتباع عمل أهل المدينة وإن خالف الحديث، وسد الذرائع، وإبطال الحيل، ومراعاة المقصود والنيات في العقود، واعتبار القرائن وشواهد الحال في الدعاوى والحكومات، والقول بالمصالح والسياسة الشرعية.
ومن أصول أبي حنيفة: الاستحسان وتقديم القياس وترك القول بالمفهوم، ونسخ الخاص المتقدم بالعام المتأخر والقول بالحيل.
ومن أصول الشافعي: مراعاة الألفاظ والوقوف معها وتقديم الحديث على غيره.#
ومن أصول أحمد: الأخذ بالحديث ما وجد إليه سبيلا، فإن تعذر فقول الصحابي ما لم يخالف، فإن اختلفوا أخذ من أقوالهم أقواها دليلا، وكثيرًا ما يختلف قوله عند اختلاف أقوال الصحابة، فإن تعذر عليه ذلك كله أخذ بالقياس عند الضرورة، وهذا قريب من أصول الشافعي، بل هما عليه متفقان.
***
* قال - رحمه الله -:
شروط العمل بالظَّنِّيات والترجيح عند التعارض؛ فإن وقع التساوي ففيه قولان: التخيير والتوقف.
***
* وقال - رحمه الله -:
الحقوق المالية الواجبة لله أربعة أقسام:
أحدها: حقوق المال كالزكاة، فهذا يثبت في الذمة بعد التمكن من أدائه، فلو عجز عنه بعد ذلك لم يسقط، ولا يثبت في الذمة إذا عجزت عنه وقت الوجوب وألحق به زكاة الفطر.
القسم الثاني: ما يجب بسبب الكفارة، فإذا عجز عنها وقت انعقاد أسبابها ففي ثبوتها في ذمة إلى المسيرة أو سقوطها قولان مشهوران في مذهب الشافعي وأحمد.
القسم الثالث: ما فيه معنى ضمان المتلف؛ كجزاء الصيد وفدية الأذى، فإذا عجز عنه وقت وجوبه ثبت في ذمته تغليبًا لمعنى الغرامة وجزاء المتلف.#
القسم الرابع: دم النسك، كالمتعة والقران، فهذه إذا عجز عنها وجب عنها بدلها من الصيام.
وأما حقوق الآدميين فإنها لا تقسط بحال، لكن إن كان عجزه بتفريط منه في أدائها طولب بها في الآخرة، وإن كان بغير تفريط ففي إشغال ذمته بها وأخذ أصحابها من حسناته نظر.
***
* قال ابن القيم - رحمه الله -:
وينحصر شر الشيطان في ستة أجناس لا يزال بابن آدم حتى ينال منه واحدًا منها أو أكثر:
1 - شر الكفر والشرك. 2 - ثم البدعة.
3 - ثم كبائر الذنوب. 4 - ثم صغائرها.
5 - ثم الاشتغال بالمباحات عن الخير.
6 - ثم بالعمل المفضول عن الفاضل.
***
* وقال - رحمه الله -:
وروح العبادة هو الإجلال والمحبة، فإذا خلا أحدهما عن الآخر فسدت العبودية، فإذا اقترن بهذين الثناء على المحبوب المعظم فذلك حقيقة الحمد.
***
* وقال - رحمه الله -:
وأصل السكينة هي الطمأنينة والوقار والسكوت الذي يُنزله الله في قلب عبده عند اضطرابه من شدة المخاوف، فلا ينزعج بعد ذلك لما يرد عليه، ويوجب له زيادة الإيمان وقوة اليقين والثبات، والطمأنينة سكوت القلب إلى الشيء وعدم اضطرابه وقلقه، فالطمأنينة أثر السكينة.
***
* وقال - رحمه الله -:
المحبة لله هي روح العبودية والأسباب الجالبة لها عشرة:
1 - قراءة القرآن بالتدبر.
2 - التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض.
3 - دوام ذكره على كل حال.
4 - إيثاره على محاب النفس عند غلبات الهوى.
5 - مطالعة القلب لأسمائه وصفاته ومعرفتها.
6 - مشاهدة بره ونعمه الظاهرة والباطنة.
7 - انكسار القلب بين يديه.
8 - الخلوة به وقت النزول الإلهي.
9 - مجالسة المحبين الصادقين.
10 - مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله.
ومراتبها عشر:
1 - العلاقة. 2 - الإرادة. 3 - الصبابة.
4 - الغرام. 5 - الوداد. 6 - الشغف.
7 - العشق. 8 - التتيُّم. 9 - التعبد.#
10 - الخلة، ولها آثار وثمرات جليلة جميلة كثيرة، كالشوق والأنس واليقين والرغبة في الطاعة وكراهة المعصية ونحو ذلك.
***
* وقال - رحمه الله -:
الدين كله خُلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين، وحسن الخُلُق يقوم على أربعة أركان: الصبر والعفة والشجاعة والعدل؛ فالصبر: يحمله على الاحتمال وكظم الغيظ، والحلم والأناءة والرفق وعدم الطيش العجلة، والعفة: تحمله على اجتناب الرذائل والقبائح من القول والفعل، والشجاعة: تحمله على عزة النفس وإيثار معالي الأخلاق.
والشيم على البذل والندى الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته وتحمله على كظم الغيظ والحلم، فإنه بقوة نفسه وشجاعته، أمسك عنانها عن النزع والبطش، وحقيقة الشجاعة ملكة بين طرفي الإفراط والتفريط؛ فمنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة. ومنشأ جميع الأخلاق السافلة وبناؤها على أربعة أركان: الجهل والظلم والشهوة والغضب.
***
* وقال - رحمه الله -:
في النفس ثلاثة دواع متجاذبة: داع يدعوها إلى الاتصاف بأخلاق الشياطين من الكبر والحسد والعلو والبغي والشر والأذى والفساد
والغش؛ وداع يدعوها إلى أخلاق الحيوان وهي داعي الشهوة؛ وداع يدعوها إلى أخلاق الملك من الإحسان والنصح والبر والعلم والطاعة، فحقيقة المروءة بغض الداعيين الأولين وإجابة الداعي الثالث، وقلة المروءة أو عدمها هو الاسترسال مع ذينك الداعيين والتوجه لدعوتها.
***
* وقال - رحمه الله -:
الأدب اجتماع خصال الخير العبد، وهو ثلاثة أنواع: أدب مع الله بأن يصون قلبه أن يلتفت إلى غيره أو تتعلق إرادته بما يمقته عليه ويصون معاملته أن يشوبها بنقيضه، وأدب مع الرسول بكمال الانقياد وتلقي خبره بالقبول والتصديق، وأن لا يعارضه بغيره بوجه من الوجوه، وأدب مع الخلق بمعاملتهم على اختلاف مراتبهم بما يليق بهم ويناسب حالتهم.
***
* وقال - رحمه الله -:
الغنى نوعان: غنى بالله وغنى عن غير الله، وحقيقة الغنى غنى القلب وهو تعلقه بالله وحده، وحقيقة فقره المذموم تعلقه بغيره.
***
* وقال - رحمه الله -:
والحكمة نوعان: علمية وعملية، فالعملية الاطلاع على بواطن الأشياء ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها خلقًا وأمرًا، وقدرًا #
وشرعًا، والعلمية وضع الشيء في موضعه.
***
* وقال - رحمه الله -:
من أرد أن يحصل له الرضا عن الله الذي هو من أفضل الدرجات فليلزم ما جعل الله رضاه فيه، فإنه يوصله إلى مقام الرضا.
***
* وقال - رحمه الله -:
الشكر مبني على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور له، وحبه له، واعترافه بنعمته، والثناء عليه بها، وأن لا يستعملها فيما يكره.
***
* وقال - رحمه الله -:
الحياء خلق ناشئ عن حياة القلب ورؤية الآلاء الغزيرة ورؤية التقصير مع حقوق ربه، ويثمر اجتناب المحرمات والقيام بالواجبات، ولهذا قال ﷺ: «الحياء لا يأتي إلا بخير».
* وقال - رحمه الله -:
قال الله تعالى: }وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ{ [الزمر: 33]، فالذي جاء بالصدق هو من شأنه الصدق في قوله وعمله وحاله، وأعلى مراتب الصدق مرتبة الصِّدِّيقيَّة، وهي كمال الانقياد للرسول ﷺ مع كمال الإخلاص للمرسل.
***#
وقال - رحمه الله -:
البخل: وهو منع الحقوق الواجبة ثمرة الشح، والإيثار ثمرة الجود.
والجود عشر مراتب: الجود بالنفس، والجود بالراحة، والجود بالعلم، والجود بالمال، والجود بالجاه، والجود بنفع البدن، والجود بالعرض، والجود بالعفو عن جنايات الخلق، والجود بالخلق والبشر والبسط؛ والجود بتركه ما في أيدي الناس وهذا غير الجود بالمال، ولكل واحدة من هذه ثمرات جليلة طيبة.
***
قال ابن القيم في (الوابل الصَّيِّب):
تفاضل الأعمال عند الله بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص والمحبة وتوابعها، فهذا العمل الكامل يكفر تكفيرًا كاملا والناقص بحسبه.
* وقال - رحمه الله -:
المقبول من العمل قسمان:
أحدهما: أن يصلي ويعمل سائر الطاعات وقلبه متعلق بالله - عز وجل - ذاكرًا الله على الدوام فعمله في أعلى المراتب.
الثاني: أن يعمل العبد الأعمال على العادة والغفلة وينوي بها الطاعة والتقرب إلى الله، فأركانه مشغولة بالطاعة وقلبه لاه عن ذكر الله وكذلك سائر أعماله، فهذا عمله مقبول ومثاب عليه بحسبه.
***#
قال ابن القيم في كتابه (مفتاح دار السعادة):
كمال الإرادة بحسب كمال مرادها، وشرف العلم تابع لشرف معلومة؛ وكان أشرف المعلومات العلم بالله وصفاته وأفعاله وأحكامه وأكمل المرادات إرادة وجهه الأعلى، والإخلاص له قولا وعملا، ظاهرًا وباطنًا، فكان العلم بالله والإرادة له هي غاية العبد وسعادته، ولا سبيل له إلى هذا إلا بالعلم الموروث عن محمد ﷺ الذي هو الواسطة بين الله وبين عباده في تبليغ دينه، والطرق كلها مسدودة إلا طريقة ﷺ، فلهذا كان حقًّا على من يحب نجاة نفسه وسعادتها أن يجعل على هذين الأصلين مدار أقواله وأفعاله، العلم النافع والعمل الصالح الهدى ودين الحق.
***
* وقال - رحمه الله -:
كمال العبد أن يكون كاملا في نفسه مكمِّلا لغيره، وكماله بإصلاح قوتيه: العلمية والعملية؛ فصلاح القوة العلمية بالإيمان؛ وصلاح القوة العملية بعمل الصالحات؛ وتكميله غيره بتعليمه إياه وصبره عليه وتوصيته بالصبر على العلم والعمل؛ وقد تضمن ذلك ما دلت عليه سورة العصر.
***
* وقال - رحمه الله -:
مراتب العلم: سماعه ثم عقله ثم تعاهده ثم تبليغه، وقد تواترت
النصوص أن أفضل الأعمال الإيمان، والإيمان له ركنان: معرفة ما جاء به الرسول وعلمه وتصديقه بالقول العمل، والصَّدَّيقيّة شجرة أصولها العلم وفروعها التصديق وثمرتها العمل.
***
* وقال - رحمه الله -:
وقوع الذنب من العبد محفوف بجهلين: جهل بحقيقة الأسباب الصارفة عنه، وجهل بحقيقة المفسدة المترتبة عليه؛ وكل واحد من الجهلين تحته جهالات كثيرة، فما عصي الله إلا بجهل وبهذا فسر قوله تعالى: }إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ{ [النساء: 17]، وتوبة العبد محفوفة بتوبتين: من ربه توبة قبل وقوعها من العبد إذنًا وتوفيقًا، وتوبة بعدها قبولا وإنابة؛ فطاعات العباد كلها متقدمة عليها مِّنة الله بالتوفيق لها ثم مِّنة بعدها بقبولها وحصول آثارها الجليلة.
***
* وقال - رحمه الله -:
أعظم الأسباب التي يحرم بها العبد خير الدنيا والآخرة الغفلة المضادة للعلم، والكسل المضاد للإرادة والعزيمة، هذان أصل بلاء العبد وحرمانه منازل السعداء وكماله بكمال البصيرة وقوة العزيمة.
***#
* وقال - رحمه الله -:
العلم شجرة تثمر كل خلق جميل وعمل صالح ووصف محمود والجهل شجرة تثمر كل خلق رذيل وعمل خبيث ووصف ذميم.
***
* وقال - رحمه الله -:
العقل عقلان: عقل غريزي، وهو أب العلم ومربيه ومثمره، وعقل مكتسب مستفاد وهو ولد العلم وثمرته ونتيجته، فإذا اجتمعا فهو الكمال والنقص بنقصانهما أو نقصان أحدهما.
***
* وقال - رحمه الله -:
من قواعد الشرع أنه يسامح الجاهل ما لا يسامح العالم، ومن قواعده أن من عظمت حسناته وارتفعت مقاماته بالعلم وثمراته أنه يحتمل له ما لا يحتمل من غيره:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد | ||
جاءت محاسنه بألف شفيع | ||
***
* وقال - رحمه الله -:
الفكر هو إحضار معرفتين في القلب ليثمر منهما معرفة ثالثة كاستحضار الدنيا وصفاتها والآخرة وصفاتها ليثمر من ذلك أيهما أحق بالإيثار واستحضار الأخلاق والأعمال الصالحة والفاسدة هل وجودها خير أو عدمها ثم يؤثر العاقل أنفع الأمرين هكذا.#
والتفكر في القرآن نوعان: تفكر فيه ليقع على مراد الرب، وتفكر في معاني ما دعا عباده إلى التفكُّر فيه، وإذا تأملت ما دعا - سبحانه - عباده إلى التفكُّر فيه أوقعك على العلم به وبأسمائه وصفاته.
***
قال ابن القيم في كتابه (روضة المحبين):
ما حرم الله على عباده شيئًا إلا عوَّضهم خيرًا منه، كما حرم الاستقسام بالأزلام وعوَّضهم عنه الاستخارة، وحرَّم الربا وعوَّضهم عنه التجارة الرابحة، وحرَّم القمار وأعاضهم عنه المسابقة النافعة، وحرَّم عليهم الحرير وعوَّضهم عنه أنواع الملابس الفاخرة، وحرم الزِّنا واللواط وأعاضهم منها بالنكاح والتسري بالنساء الحسان، وحرَّم عليهم شرب الخمر وأعاضهم عنه الأشربة اللذيذة المتنوعة، وحرم آلات اللهو وعوضهم عنه سماع القرآن، وحرم عليهم الخبائث في المطاعم وغيرها وعوضهم عنها الطيبات فمن تلمح هذا وتأمله هان عليه ترك الهوى المردي واعتاض عنه بالنافع المجدي وعرف حكمة الله ورحمته في الأمر والنهي.
***
* وقال - رحمه الله -:
كل لذة أعقبت ألمًا ومنعت لذة أعظم منها فليست بلذة في الحقيقة وإن غالطت النفس في الالتذاذ بها، وهذه هي لذة الكفار والفسَّاق بعلوهم في الأرض وفسادهم وفرحهم بغير الحق ومرحهم.#
وأما اللذة التي لا تعقب ألمًا في دار القرار ولا توصل إلى لذة هناك فهي لذة باطلة إذ لا منفعة فيها ولا مضرة، وزمنها يسير ليس لتمتع النفس بها قدرٌ ولا بد أن تَشْغَل عما هو خير وأنفع منها؛ وكل لذة أعانت على لذات الآخرة فهي محبوبة مرضية للرب، فصاحبها يلتذ بها من وجهين: من جهة تنعمه بها، ومن جهة إيصالها إلى مرضاة ربه وإفضائها إلى لذة أكمل منها.
***
* وقال - رحمه الله -:
قوله ﷺ: «خذوا عني مناسككم» وهو أن يفعل كما فعل على الوجه الذي فعل، فإن كان قد فعل فعلا على وجه الاستحباب فهو مستحب وإن كان على وجه الوجوب فهو واجب.
***
* وقال - رحمه الله -:
الاحتياط يكون في الأعمال التي يترك المكلف منها عملا لآخر احتياطًا، وأما الأحكام الشرعية والإخبار عن الله ورسوله فطريق الاحتياط فيها أن لا يخبر عنه إلا بما أخبر به، ولا يثبت إلا ما أثبته، واللازم أن يقال في باب المياه ما ثبت تنجيسه بالدليل الشرعي نجسناه، وما شككنا فيه رددناه إلى أصل الطهارة.
***
* وقال - رحمه الله -:
الأحاديث كلها الواردة في وصف صلاته ﷺ تدل على معنى واحد، وهو أنه كان يطيل الركوع والسجود ويخفف القيام، وإن صلاته متوازية متقاربة إن طال القيام أطال الركوع والسجود وإن خفف القيام خفف الركوع والسجود.
***
* وقال - رحمه الله -:
إذا اجتمعت عبادتان، صغرى وكبرى، فالسُّنة تقديم الصغرى على الكبرى، كالوضوء مع الغسل والعمرة مع الحج.
***
* وقال - رحمه الله -:
وقد اشتملت ألفاظ التلبية على قواعد عظيمة وفوائد جليلة لأن قوله: «لبيك» يتضمن إجابة داع دعاك ومناد ناداك وهو الله، وذلك يتضمن المحبة والتزم دوام العبودية والخضوع والذل والإخلاص والتقرب من الله والإقرار بسمع الرب، وجعلت في الإحرام شعارًا لانتقال من حال إلى حال ومن منسك إلى منسك، كما جعل التكبير في الصلاة شعارًا للانتقال من ركن إلى آخر، ولهذا كانت السُّنة أن يلبي حتى يشرع في الطواف فيقطع التلبية ثم إذا سار لبى حتى يقف بعرفة فيقطعها، ثم يلبي حتى يقف بمزدلفة فيقطعها، ثم يلبي حتى يرمي جمرة العقبة فيقطعها.#
فالحاج كلما انتقل من ركن إلى ركن قال: «لبيك اللهم لبيك»، فإذا حل من نسكه قطعها، كما يكون سلام المصلي قاطعًا لتكبيره.
***
* قال ابن القيم - رحمه الله -:
جمع النبي ﷺ بين تقوى الله وحسن الخلق، لأن تقوى الله يُصلح ما بين العبد وبين ربه، وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه، فتقوى الله توجب له محبة الله، وحسن الخلق يدعو الناس إلى محبته، وجمع ﷺ بين الاستعاذة من المأثم والمغرم، لأن المأثم يوجب خسارة الآخرة والمغرم يوجب خسارة الدنيا وجمع ﷺ في قوله: «فاتقوا الله وأجملوا في الطلب»، بين مصالح الدنيا والآخرة، فإن من اتقى الله أدرك نعيم الآخرة ومن أجمل في الطلب استراح من نكد الدنيا وهمومها.
***
* وقال - رحمه الله -:
احترز من عدوين هلك بهما أكثر الخلق: صادٌّ عن سبيل الله بشبهاته ومفتون بدنياه ورئاسته، من خلق فيه قوة واستعداد لشيء كانت لذته في استعمال تلك القوة فيه، قلت: وكذلك كان نجاحه فيه أعظم من غيره وحرم صيد الجاهل والممسك على نفسه، فما ظن الجاهل الذي أعماله لهوى نفسه، مصدر ما في العبد من الخير والشر والصفات الممدوحة والمذمومة من صفة المعطي المانع، فهو #
يصرف عباده في ذلك، فحظُّ العبد الصادق من عبوديته بهما الشكر عند العطاء والافتقار عن المنع، فهو - سبحانه - يعطيه لشكره ويمنعه ليفتقر إليه، فلا يزال شكورًا مفتقرًا.
***
* وقال - رحمه الله -:
أصول المعاصي كلها، كبارها وصغارها، ثلاثة: تعلق القلب بغير الله، وطاعة القوة الغضبية، والقوة الشهوانية؛ وهي الشرك، والظلم، والفواحش، فغاية التعلق بغير الله شركٌ، وغاية القوة الغضبية القتلُ، وغاية القوة الشهوانية الزنا، ولهذا جمع الله الثلاثة في قوله: }وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ{ [الفرقان: 68].
***
* قال ابن القيم في (مراتب الجهاد):
* جهاد النفس على تعلم الهدى والعمل به والدعوة إليه والصبر على مشاق الدعوة.
* جهاد الشيطان على دفع ما يلقيه إلى العبد من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان، وجهاده على ما يلقى إليه من الإرادات والشهوات، فالأول يثمر اليقين والثاني بعده الصبر، وبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.
* جهاد الكفار والمنافقين بالقلب واللسان والمال والنفس.#
* جهاد أرباب الظلم والبدع والمنكرات باليد إذا قدر، ثم باللسان ثم القلب، فهذه ثلاث عشرة مرتبة من الجهاد، ومن مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق.
***
* وقال - رحمه الله -:
قواعد طب الأبدان تدور على ثلاثة أصول: حفظ الصحة والحمية عن المؤذي واستفراغ المواد الفاسدة، ومن أصول الطب تدبير الغذاء والحركة والنوم وجميع التصرفات ولا يعدل إلى استعمال الأدوية إلا للضرورة أو لحاجة.
***
* يقول الشافعي - رحمه الله -:
عفوا تعف نساؤكم في المحرم | ||
وتجنبوا ما لا يليق بمسلم | ||
إن الزنا دين فإن أقرضته | ||
كان الوفا من أهل بيتك فاعلم | ||
يا هاتكًا حُرم الرجال وقاطعًا | ||
سُبل المودة عشت غير مكرم | ||
لو كنت حرًّا من سلالة ماجد | ||
ما كنت هتاكًا لحرمة مسلم | ||
من يزن يزن ولو بجداره | ||
إن كنت يا هذا لبيبًا فافهم | ||
* قال ابن عيينة رحمه الله: (إذا كان نهاري نهار سفيه وليلي ليل
جاهل فما أصنع بالعمل الذي كتبت؟).
***
* وقال - رحمه الله -:
تزوجت البطالة بالتواني | ||
فأولدها غلامًا وغلامة | ||
فأما الابن فسموه بفقر | ||
وأما البنت فسموها ندامة! | ||
*قال علي محفوظ: (الخطابة معدودة من وسائل السيادة والزعامة، وكانوا يعدونها شرطًا للإمارة، فهي تكمل الإنسان وترفعه إلى ذرى المجد والشرف).
***
فقسا ليزدجروا ومن يك حازمًا | ||
فليقسُ أحيانًا على من يرحم | ||
***
* وصية الخطيب البغدادي:
(ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، فمتى كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله).
***
* (الاعتقاد بإمكانية الوصول إلى الهدف هو أول خطوة لبلوغه).#
* (تأتي سلطة الرئيس الناجح من عظمة الغاية التي يخدمها).
***
* ودع الكذوب فلا يكن لك صاحبًا | ||
إن الكذوب يضير حرًّا يصحب | ||
يلقاك يقسم أنه بك واثق | ||
وإذا توارى عنك فهو العقرب | ||
يعطيك من طرف اللسان حلاوة | ||
ويروغ منك كما يروغ الثعلب | ||
(علي بن أبي طالب)
***
* (إن الذي لا يحسن الابتسامة لا ينبغي له أن يفتح متجرًا).
(مثل صيني)
***
* واحرص على حفظ القلوب من الأذى | ||
فرجوعها بعد التنافر يصعب | ||
إن القلوب إذا تنافر ودها | ||
مثل الزجاجة كسرها لا يشعب | ||
***
* قد يمكث الناس دهرًا ليس بينهم | ||
ود فيزرعه التسليم واللطف | ||
***
* اقبل معاذير من يأتيك معتذرًا | ||
إن بر عندك فيما قال أو فجرا | ||
فقد أجلك من أرضاك ظاهره | ||
وقد أطاعك من يعصيك مستترًا | ||
***
* (لا يوجد في الدنيا نجاح دائم ولا فشل دائم، كل واحد منا قادر بغروره واستهتاره وكسله وأنانيته أن يحول النصر إلى هزيمة، وكل فاشل يستطيع بإيمانه واستمراره وكفاحه وصبره أن يحول الهزيمة إلى نصر).
(مصطفى أمين)
***
* إذا غامرت في شرف مروم | ||
فلا تقنع بما دون النجوم | ||
فطعم الموت في أمر صغير | ||
كطعم الموت في أمر عظيم | ||
يرى الجبناء أن العجز عقل | ||
وتلك خديعة الطبع اللئيم | ||
وكل شجاعة في المرء تغني | ||
ولا مثل الشجاعة في الحكيم | ||
وكم من عائب قولا صحيحًا | ||
وآفته من الفهم السقيم | ||
(المتنبي)
***
* وما نيل المطالب بالتمني | ||
ولكن تؤخذ الدنيا غلابًا | ||
وما استعصى على قوم منال | ||
إذا الإقدام كان لهم ركابًا | ||
فرب صغير قوم علموه | ||
سما وحمى المسومة العرابا | ||
وكان لقومه نفعًا وفخرًا | ||
ولو تركوه كان أذى وعابا | ||
فعلم ما استطعت لعل جيلا | ||
سيأتي يحدث العجب العجابا | ||
(أحمد شوقي)
***
* (كم من عجلة تهب ريثًا)، (رب حثيث مكيث)، (نريد بالمكث ما تريد بالحث)، (وأنه لا صلح إلا الرجل المكيث).
***
* إذا درت نياقك فاحتلبها | ||
فما تدري الفصيل لمن يكون | ||
وإن هبت رياحك فاغتنمها | ||
فإن لكل خافقة سكون | ||
ولا تغفل عن الإحسان فيها | ||
فما تدري السكون متى يكون؟ | ||
***#
في تمييز الكلام جيده من رديئه
ونادره من بارده والكلام في المعاني (فصلان)
* الفصل الأول: من الباب الثاني في تمييز الكلام:
الكلامُ - أيدك الله - يحسن بسلاسته، وسهولته، ونصاعته، وتخير لفظه، وإصابة معناه، وجودة مطالعه، ولين مقاطعه، واستواء تقاسيمه، وتعادل أطرافه، وتشابه أعجاز بهواديه، وموافقة مآخيره لمباديه، مع قلة ضروراته، بل عدمها أصلا، حتى لا يكون لها في الألفاظ أثر؛ فنجد المنظوم مثل المنثور في سهولة مطلعه، وجودة مقطعه، وحسن رصفه وتأليفه، وكمال صوغه وتركيبه.
فإذا كان الكلام كذلك كان بالقبول حقيقًا، وبالتحفظ خليقًا؛ كقول الأول:
هم الألي وهبوا للمجد أنفسهم | ||
فما يبالون ما نالوا إذا خمدوا | ||
قال معن بن أوس:
لعمرك ما أهويت كفي لريبة | ||
ولا حملتني نحو فاحشة رجلي | ||
ولا قادني سمعي ولا بصري لها | ||
ولا دلني رأيي عليها ولا عقلي | ||
وأعلم أني لم تصبني مصيبة | ||
من الدهر إلا قد أصابت فتى قبلي | ||
ولست بماش ما حييت لمنكر | ||
من الأمر لا يمشي إلى مثله مثلي | ||
***
* تقول العرب:
يقولون للمطر: سماء، كما في قول الشاعر:
إذا سقط السماء بأرض قوم | ||
رعيناه وإن كانوا غضابًا | ||
ويقولون: ضحكت الأرض، إذا أنبتت، لأنها تُبدي عن حسن النبات كما يفتر الضاحك عن الثغر، ويقال: ضحكت الطالعة، والنور يضاحك الشمس.
قال الأعشى:
يضاحك الشمس منها كوكب شرق | ||
مؤزر بعميم النبت مكتهل | ||
يقولون: ضحك السحاب بالبرق، وحن بالرعد، وبكى بالقطر، ويقولون: لقيت من فلان عرق القربة، أي شدة ومشقة، وأصل هذا أن حامل القربة يتعب من نقلها حتى يعرق، ويقولون أيضًا لقيت منه عرق الجبين، والعرب تقول: بأرض فلان شجر قد صاح؛ وذلك إذا طال فتبين للناظر بطوله، ودل على نفسه؛ لأن الصائح يدل على نفسه، ويقولون: هذا شجر واعد، وإذا أقبل بماء # ونضرة؛ كأنه يعد بالثمر؛ قال سويد بن أبي كاهل:
لعاع تهاداه الدكادك واعد |
***
* ومن الأرداف قول المرأة لمن سألته: أشكو إليك قلة الجُرذان، وذلك أن قلة جرذان البيت ردف لعدم خيره؛ ويقولون: فلان عظيم الرماد، يريدون أنه كثير الإطعام للأضياف؛ لأن كثرة الإطعام يردف كثرة الطبخ.
***
* ومن المنظوم قول الحطيئة:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم | ||
ومن يقيس بأنف الناقة الذنبا | ||
***
*(لقد كتبت ما تقدم من الكلام وما أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما أعلم عندي، وإني لكثير الإسراف على نفسي غير محكم لكثير من أمري ولو أن المرء لا يعظ حتى يحكم نفسه إذن لتواكل الخير ولرفع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإذن لاستحلت المحارم وقل الواعظون والساعون لله بالنصيحة في الأرض والشيطان وأعوانه يودون أن لا يأمر أحد بمعروف ولا ينهى عن منكر وإذا أمرهم أو نهاهم عابوه بما فيه([21]).
***#
* دخل مسلمة بن عبد الملك على الخليفة عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - في مرضه الذي مات فيه - فقال: يا أمير المؤمنين، إنك أفرغت أفواه ولدك من هذا المال، وتركتهم عَيْلة لا شيء لهم، فلو أوصيت بهم إليَّ وإلى نظرائك من أهل بيتك فسكت عمر، فقال مسلمة: ألا توصي يا أمير المؤمنين؟
قال: فبم أوصي؟ فوالله لا أعلم أنَّ لي من مال، فقال مسلمة: هذه مائة ألف دينار، فمُر فيها بما أحببت، قال عمر: أو تقبل يا مسلمة؟ قال: نعم، قال عمر: تُردُّ عليَّ من أُخذت منه ظلمًا.
ثم أدركته الغيبوبة، فبكى مسلمة، وقال: يرحمك الله، لقد ألنت منا قلوبًا قاسية، وأبقيت لنا في الصالحات ذكرًا.
فلما أفاق عمر قال: أسندوني، ثم قال لمسلمة: أَبِالفَقْر تخوفني يا مسلمة؟
أما قولك: إني أفرغت أفواه ولدي من هذا المال فوالله ما منعتهم حقًّا هو لهم.
وأما قولك: لو أوصيت بهم، فإن وليي الله الذي نزل الكتاب، وهو يتولى الصالحين، وإن بني أحد رجلين، إما رجل يتقي الله فسيجعل الله له رزقًا، وإما مكب على المعاصي، فإني لم أكن لأقويه على معصية الله.
ثم دعا أولاده - وكانوا بضعة عشر - فدعاهم - فدخلوا عليه فنظر إليهم، وصعد النظر وصوبه، وبكى ثم قال: بنفسي فتية تركتهم
ولا مال لهم!!
أي بَنيَّ: لقد تركتكم وتركت لكم خيرًا كثيرًا، لا تمرون بأحد من المسلمين، وأهل ذمتهم إلا رأوا لكم حقًّا.
يا بني: إن أباكم مثل بين أمرين؛ إما أن تستغنوا ويدخل أبوكم النار، أو تفتقروا ويدخل أبوكم الجنة، فكان أن تفتقروا ويدخل الجنة أحب، وقوموا يعصمكم الله، قوموا يرزقكم الله([22]).
ومرت الأيام، وكبر الصغار، وأثرى هؤلاء الفتية الفقراء ووزعوا المال يمينًا وشمالا في سبيل الله، وكان من قرابتهم وعمومتهم من ترك لهم الآباء أكداس المال من كل أنواعه فبددوها وعادوا فقراء مملقين يتكففون الناس.
لقد عهدنا جل الآباء في عصرنا يضعون نصب أعينهم توريث المال والمتاع للذرية، ويوصون أبناءهم بمسارب تثميره.
***
* رضا الناس غاية لا تدرك:
قال الإمام عبد الرحمن بن بطة الحافظ: يصف حاله مع أهل زمانه: (عجبت من حالي في سفري وحضري، مع الأقربين مني والأبعدين، والعارفين والمنكرين، فإني وجدت بمكة وخراسان وغيرهما من الأماكن أكثر من لقيت بها موافقًا أو مخالفًا دعاني إلى # متابعته على ما يقوله وتصديق قوله والشهادة له، فإن كنت صدقته فيما يقول وأجزت له ذلك - كما يفعل أهل هذا الزمان - سماني موافقًا، وإن وقفت من حرف من قوله أو في شيء من فعله سماني مخالفًا، وإن ذكرت في واحد منها أن الكتاب والسنة بخلاف ذلك وارد سماني خارجيًّا، وإن قرأت عليه حديثًا في التوحيد سماني مشبهًا، وإن كان في الرؤية سماني سالميًّا، وإن كان في الإيمان سماني مرجئًا، وإن كان في الأعمال سماني قدريًّا، وإن كان في المعرفة سماني كراميًّا، وإن كان في فضائل أبي بكر وعمر سماني ناصبيًّا، وإن كان في فضائل أهل البيت سماني رافضيًّا، وإن سكت عن تفسير آية أو حديث فلم أجب فيهما إلا بهما سماني ظاهريًّا، وإن أجبت بغيرهما سماني باطنيًّا، وإن أجبت بتأويل سماني أشعريًّا، وإن جحدتهما سماني شفعويًا، وإن كان في القنوت سماني حنفيًّا، وإن كان في القرآن سماني حنبليًّا، وإن ذكر رجحان ما ذهب كل واحد إليه من الأخبار - إذ ليس في الحكم والحديث محاباة - قالوا: طعن في تزكيتهم، ثم أعجبت من ذلك أنهم يسمعونني فيما يقرءون علي من أحاديث رسول الله ﷺ ما يشتهون من هذه الأسامي.
وفي الختام بين سبيله ومنهجه تجاه الفرق والآراء فقال: (وإني مستمسك بالكتاب والسنة، وأستغفر الله الذي لا إله إلا هو وهو الغفور الرحيم).#
نعم إن إرضاء البشر شيء ليس في الإمكان، ذلك أن علمهم قاصر، وعقولهم محدودة، يعتورهم الهوى والنقص، ويتفاوتون فيما بينهم تفاوتًا بينًا في الإدراك والفهم، فكيف نرضيهم؟
***
* أرفع الصبر ما كان اختياريًّا:
قال ابن قيم الجوزية: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - يقول: كان صبر يوسف عن مطاوعة امرأة العزيز على شأنها أكمل من صبره على إخوته له في الجب، وبيعه وتفريقهم بينه وبين أبيه، فإن هذه الأمور جرت عليه بغير اختياره لا كسب له فيها، ليس للعبد فيها حيلة غير الصبر، وأما صبره عن المعصية فصبر اختيار ورضا، ومحاربة للنفس، ولا سيما مع الأسباب التي تقوى معها دواعي الموافقة، فإنه كان شابًّا، وداعيةُ الشباب إليها قوية، وعزبًا ليس له ما يعوضه ويبرد شهوته، وغريبًا، والغريب لا يستحي في بلد غربته مما يستحي منه من بين أصحابه ومعارفه وأهله، ومملوكًا؛ والمملوك أيضًا ليس وازعه كوازع الحر، والمرأة جميلة، وذات منصب، وهي سيدته، وقد غاب الرقيب، وهي الداعية إليه نفسها، والحريصة على ذلك أشد الحرص،ومع ذلك توعدته - إن لم يفعل - بالسجن والصغار، ومع هذه الدواعي كلها صبر اختيارًا، وإيثارًا لما عند الله، وأين هذا من صبره في الجب على ما ليس من كسبه([23]).#
* أهل الحديث هم أهل الحق:
قال قوام السنة الأصبهاني: (ومما يدل على أن أهل الحديث هم أهل الحق أنك لو طالعت جميع كتبهم المصنفة من أولهم إلى آخرهم، قديمهم وحديثهم، ومع اختلاف بلدانهم وزمانهم، وتباعد ما بينهم في الديار، وسكون كل واحد منهم قطرًا من الأقطار وحدتهم في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة، ونمط واحد، يجرون على طريقة لا يحيدون عنها، ولا يميلون فيها، قولهم في ذلك واحد، ونقلهم واحد، لا ترى فيهم اختلافًا ولا تفرقًا في شيء ما وإن قل، بل ولو جمعت ما جرى على ألسنتهم ونقلوه عن سلفهم وجدته كأنه جاء عن قلب واحد، وجرى على لسان واحد، وهل على الحق دليل أبين من هذا؟)([24]).
***
* قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ولا بد في جميع الواجبات والمستحبات أن تكون خالصة لله رب العالمين؛ كما قال تعالى: }وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ{ [البينة: 3 - 5]، وقال تعالى: }تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ{ [الزمر: 1 - 2].#
فكل ما يفعله المسلم من القرب الواجبة والمستحبة، كالإيمان بالله ورسوله والعبادات البدنية والمالية ومحبة الله ورسوله والإحسان إلى عباد الله بالنفع ومال: هو مأمور بأن يفعله خالصًا لله رب العالمين، لا يطلب من مخلوق عليه جزاء: لا دعاء ولا غير دعاء، فهذا مما لا يسوغ أن يطلب عليه جزاء، لا دعاء ولا غيره.
وأما سؤال المخلوق غير هذا فلا يجب بل ولا يستحب إلا في بعض المواضع، ويكون المسئول مأمورًا بالإعطاء قبل السؤال، إذا كان المؤمنون ليسوا مأمورين بسؤال المخلوقين فالرسول أولى بذلك ﷺ، فإنه أجل قدرًا وأغنى بالله من غيره، فإن سؤال المخلوقين فيه ثلاث مفاسد:
* مفسدة الافتقار إلى غير الله وهي من نوع الشرك.
* ومفسدة إيذاء المسئول وهي من نوع ظلم الخلق.
وفيه ذل لغير الله وهو ظلم للنفس، فهو مشتمل على أنواع الظلم الثلاثة وقد نزه الله رسوله عن ذلك كله.
وحيث أمر الأمة بالدعاء له فذاك من باب أمرهم بما ينتفعون به كما يأمرهم بسائر الواجبات والمستحبات، وإن كان هو ينتفع بدعائهم له فهو أيضًا ينتفع بما يأمرهم به من العبادات والأعمال الصالحة، فإنه ثبت عنه في الصحيح أنه قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم #
شيء»، ومحمد ﷺ هو الداعي إلى ما تفعله أمته من الخيرات، فما يفعلونه له فيه من الأجر مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء.
ولهذا لم تجرِ عادة السلف بأن يهدوا إليه ثواب الأعمال، لأن له مثل ثواب أعمالهم بدون الإهداء من غير أن ينقص من ثوابهم شيء، وليس كذلك الأبوان، فإنه ليس كل ما يفعله الولد يكون للوالد مثل أجره، وإنما ينتفع الوالد بدعاء الولد ونحوه مما يعود نفعه إلى الأب، كما قال في الحديث الصحيح: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له»، فالنبي ﷺ - فيما يطلبه من أمته من الدعاء - طلبه طلب أمر وترغيب ليس بطلب سؤال، فمن ذلك أمره لنا بالصلاة والسلام عليه، فهذ أمر الله به في القرآن بقوله: }صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا{.
والأحاديث عنه في الصلاة والسلام معروفة.
***
* وقال شيخ الإسلام:
فصل جامع:
قد كتبت فيما تقدم في مواضع قبل بعض القواعد، وآخر مسودة الفقه: أن جماع الحسنات العدل، وجماع السيئات الظلم؛ وهذا أصل جامع عظيم.
وتفصيل ذلك: أن الله خلق الخلق لعبادته، فهذا هو المقصود #
المطلوب لجميع الحسنات، وهو إخلاص الدين كله لله، وما لم يحصل فيه هذا المقصود: فليس حسنة مطلقة مستوجبة لثواب الله في الآخرة، وإن كان حسنة من بعض الوجوه له ثواب في الدنيا، وكل ما نهى عنه فهو زيغ وانحراف عن الاستقامة، ووضع للشيء في غير موضعه: فهو ظلم.
ولهذا جمع بينهما -سبحانه- في قوله: }قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ{ [الأعراف: 26]، فهذه الآية في سورة الأعراف المشتملة على أصول الدين، والاعتصام بالكتاب، وذم الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، كالشرك وتحريم الطيبات، أو خالفوا ما شرعه الله من أمور دينهم، كإبليس، ومخالفي الرسل من قوم نوح إلى قوم فرعون، والذين بدلوا الكتاب من أهل الكتاب؛ فاشتملت السورة على ذم من أتى بدين باطل ككفار العرب؛ ومن خالف الدين الحق كله كالكفار بالأنبياء؛ أو بعضه ككفار أهل الكتاب.
وقد جمع - سبحانه - في هذه السورة وفي الأنعام وفي غيرهما ذنوب المشركين في نوعين:
أحدهما: أمر بما لم يأمر الله به كالشرك ونهى عما لم ينه الله عنه كتحريم الطيبات.
فالأول: شرع من الدين ما لم يأذن به الله.
والثاني: تحريم لما لم يحرمه الله.#
وكذلك في الحديث الصحيح حديث عياض بن حمار: عن النبي ﷺ: عن الله -تعالى-: «إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، فحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا».
ولهذا كان ابتداع العبادات الباطلة من الشرك ونحوه: هو الغالب على النصارى ومن ضاهاهم من منحرفة المتعبدة والمتصوفة، وابتداع التحريمات الباطلة هو الغالب على اليهود ومن ضاهاهم من منحرفة المتفقهة، بل أصول دين اليهود فيه آصار وأغلاق من التحريمات؛ ولهذا قال لهم المسيح: }وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ{ [آل عمران: 50]، وأصل دين النصارى فيه تأله بألفاظ متشابهة، وأفعال مجملة، فالذين في قلوبهم زيغ اتبعوا ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، قررته في غير هذا الموضع: بأن توحيد الله الذي هو إخلاص الدين له، والعدل الذي نفعله نحن هو جماع الدين يرجع إلى ذلك، فإن إخلاص الدين لله أصل العدل، كما أن الشرك بالله ظلم عظيم.
***
* قال الشيخ المباركفوري في (تحفة الأحوذي): في قوله: «وفساد عريض»: (وذلك لأنكم إن لم تزوجوها إلا من ذي مال أو جاه ربما بقي أكثر نسائكم بلا أزوج وأكثر رجالكم بلا نساء فيكثر الافتتان بالزنا، وإذا أراد الرجل أن يزوج ابنته فلا بد من مراعاة أربعة أمور #
في مذهب الجمهور: أن يراعي الدين والنسب والصنعة، فلا تزوج المسلمة من كافر، ولا الصالحة من فاسق، ولا الحرة من عبد، فإن رضيت المرأة أو وليها بغير كفء صح النكاح.
ومما يناسب ذكره هنا قصة زواج مبارك أبو الإمام العظيم عبد الله بن المبارك - رحمه الله - وكان رجلا تركيًّا، وكان عبدًا لرجل خوارزمي من التجار من همذان من بني حنظلة، وكان رجلا تقيًّا صالحًا، كثير الانقطاع للعبادة، محبًّا للخلوة، شديد التورع، ومن حديثه: (أنه كان يعمل في بستان لمولاه وأقام فيه زمانًا، ثم إن مولاه صاحب البستان جاءه يومًا، وقال له: أريد رُمانًا حلوًا، فمضى إلى بعض الشجر، وأحضر منها رمانًا، فكسره فوجده حامضًا، فحَرَدَ - أي غضب - عليه، وقال: أطلب الحلو فتحضر لي الحامض!! هات حُلوًا، فمضى، وقطع من شجرة أخرى، فلما كسره وجده أيضًا حامضًا، فاشتد حرده عليه، وفعل ذلك مرة ثالثة، فذاقه، فوجده أيضًا حامضًا، فقال له بعد ذلك: أنت ما تعرف الحلو من الحامض؟ فقال: لا، فقال: وكيف ذلك؟ فقال: لأني ما أكلت منه شيئًا حتى أعرفه، فقال: ولِمَ لم تأكل؟ قال: لأنك ما أذنت لي بالأكل منه، فعجب من ذلك صاحب البستان، وكشف عن ذلك فوجده حقًّا، فعظم في عينيه، وزاد قدره عنده، وكانت له بنت خُطبت كثيرًا، فقال له: يا مبارك، من #
ترى تزوج هذه البنت؟ فقال: أهل الجاهلية كانوا يزوجون للحسب، واليهود للمال، والنصارى للجمال، وهذه الأمة للدين، فأعجبه عقله، وقال لها: ما أرى لهذه البنت زوجًا غير مبارك فتمت عليه بركة أبيه، وأنبته الله نباتًا.
***
* شذرات وقطوف:
التحفظ والاحتراز من أكل الحرام... ولكن!!
* قال - رحمه الله -:
ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام، والظلم والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، ومن النظر المحرم وغير ذلك ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه!! حتى يرى الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة، وهو يتكلم بالكلمة من سخط الله لا يُلقي لها بالا ينزل منها أبعد مما بين المشرق والمغرب، وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم، ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات لا يبالي ما يقول([25]).
***
* تصيد الأخطاء:
قال الإمام الشعبي: (لو أصبت تسعًا وتسعين، وأخطأت واحدة: لأخذوا الواحدة وتركوا التسع والتسعين)؛ وإذا تبين هذا: # عُلم أن مجرد تصيد الأخطاء، وتتبع العثرات، والبحث عن الهفوات، كل ذلك مع التغافل عن الحسنات، دليل على فساد القصد وسوء الطوية وقلة الدين.
***
* أيهما أعظم؟!
كان للمشركين شجرة يعلقون عليها أسلحتهم ويسمونها (ذات أنواط) فقال بعض الناس: يا رسول الله: اجعل لنا أنواط كما لهم ذات أنواط؟ فقال ﷺ: «الله أكبر، قلتم كما قال قوم موسى لموسى: اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة، إنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم» فأنكر النبي ﷺ مجرد مشابهتهم الكفار في اتخاذ شجرة يعكفون عليها، معلقين عليها سلاحهم، فكيف بما هو أطمَّ من ذلك من مشابهتهم المشركين أو ما هو الشرك بعينه؟ أيهما أعظم - يا ترى - شجرة يعلق عليها سلاح نهي عنها لأن فيها اقتداء بفعل الكفار أم نظام حياة فيه التشريع والتحليل والتحريم والإلزام والعقوبة على المخالفة؟!([26]).
بالراعي تصلح الرعية وبالعدل تمتلك البرية، ومن عدل في سلطانه استغنى عن أعوانه، والظلم مسلبة النعم ومجلبة النقم، وأقرب الأشباه صرعة الظلم، وأنفذ السهام دعوة المظلوم.
***#
الزكاة لشراء كتب العلم:
قال ابن تيمية: (ومن ليس معه ما يشتري كتبًا يشتغل فيها، يجوز له الأخذ من الزكاة ما يشتري به ما يحتاج إليه من كتب العلم الذي لا بد لمصلحة دينه ودنياه منه)([27]).
***
* الذهاب إلى الأسواق والمنتزهات:
(ليس للإنسان أن يحضر الأماكن التي يشهد فيها المنكرات ولا يمكنه الإنكار إلا لموجب شرعي: مثل أن يكون هناك أمر يحتاج إليه لمصلحة دينه أو دنياه لا بد فيه من حضوره أو مكرهًا، فأما حضوره لمجرد الفرجة وإحضار امرأته تشاهد ذلك، فهذا مما يقدح في عدالته ومروءته إذا أصر عليه والله أعلم)([28]).
* شرح حديث: «أنت ومالُك لأبيك»:
عن عائشة رضي الله عنها: أن رجلا أتى رسول الله ﷺ يخاصمُ أباه في دَيْن عليه، فقال نبي الله ﷺ: «أنت ومالك لأبيك»([29]).
قال ابن حبان: معناه أنه ﷺ زجر عن معاملته أباه بما يعامل به الأجنبيين، وأمر ببره والرفق به في القول والفعل إلى أن يصل إليه ماله فقال له: أنت ومالك لأبيك، لأن مال الابن يملكه الأب في #
حياته عن غير طيب نفس من الابن به.
***
* القيام والتقبيل:
سئل الإمام مالك - رحمه الله -: قيل: فالرجل يقوم للرجل له الفقه والفضل فيجلسه في مجلسه؟ قال: يكره ذلك ولا بأس أن يوسع له.
وسُئل عن الرجل يقبل يد الوالي أو رأسه، قال ليس ذلك من عمل الناس (عمل أهل المدينة) وهو من عمل الأعاجم([30]).
***
* القيام وإصلاح ذات البين:
(ولم تكن عادة السلف على عهد النبي ﷺ وخلفائه الراشدين أن يعتادوا القيام لما يرونه عليه السلام كما يفعله كثير من الناس، فكانوا إذا رأوه لم يقوموا له، لما يعلمون من كراهته لذلك.. وأما القيام لمن يقدم من سفر ونحو ذلك تلقيًا له فحسن).
(وإذا كان من عادة الناس إكرام الجائي بالقيام ولو ترك لاعتقد أن ذلك لترك حقه أو قصد خفضه، ولم يعلم العادة الموافقة للسنة، فالأصلح أن يقام له لأن ذلك أصلح لذات البين، وإزالة التباغض والشحناء)([31]).
***#
* التوكل على الله:
حُكي أن حاتمًا الأصم كان رجلا كثير العيال، وكان له أولاد ذكور وإناث، ولم يكن يملك حبة واحدة، وكان قدمه التوكل.
فجلس ذات ليلة مع أصحابه يتحدث معهم، فتعرضوا لذكر الحج، فداخل الشوق قلبه، ثم دخل على أولاده، فجلس معهم يحدثهم، ثم قال لهم لو أذنتم لأبيكم أن يذهب إلى بيت ربه في هذا العام حاجًّا، ويدعو لكم، ماذا عليكم لو فعلتم؟
فقالت زوجته وأولاده: أنت على هذه الحالة لا تملك شيئًا ونحن على ما ترى من الفاقة، فكيف تريد ذلك ونحن بهذه الحالة؟
وكان له ابنة صغيرة فقالت: ماذا عليكم لو أذنتم له، ولا يهمكم ذلك، دعوه يذهب حيث يشاء فإنه مناول للرزق وليس برزَّاق.
فذكرتهم ذلك، فقالوا: صدقت والله هذه الصغيرة يا أبانا انطلق حيث أحببت.
فقام من وقته وساعته أحرم بالحج، وخرج مسافرًا.
وأصبح أهل بيته يدخل عليهم جيرانهم يوبخونهم كيف أذنوا له بالحج!
وتأسف على فراقه أصحابه وجيرانه.
فجعل أولاده يلومون تلك الصغيرة، ويقولون: لو سكت ما تكلمنا.#
فرفعت الصغيرة طرفها إلى السماء، وقالت: إلهي وسيدي ومولاي، عودت القوم بفضلك، وأنك لا تضيعهم فلا تخيبهم، ولا تخجلني معهم.
فبينما هم على هذه الحالة، إذ خرج أمير البلدة: متصيدًا، فانقطع عن عسكره، فحصل له عطش شديد، فاجتاز بيت الصالح حاتم الأصم، فاستسقى منه ماء وقرع الباب، فقالوا: من أنت؟
قال: الأمير ببابكم يستسقيكم، فرفعت زوجة حاتم رأسها إلى السماء، وقالت: إلهي وسيدي سبحانك! البارحة بتنا جياعًا، واليوم يقف الأمير على بابنا يستسقينا!
ثم إنها أخذت كوزًا جديدًا وملأته ماءً، وقالت: للمتناول منها: اعذرونا.
فأخذ الأمير الكوز وشرب منه، فاستطاب الشرب من ذلك الماء، فقال: هذه الدار لأمير؟ فقالوا: لا والله، بل لعبد من عباد الله الصالحين يعرف بحاتم الأصم.
(وخلال ذلك لحق به أتباعه وجيشه) فقال الأمير: لقد سمعت به.
فقال الوزير: يا سيدي، لقد سمعت أنه البارحة أحرم بالحج، وسافر ولم يخلف لعياله شيئًا, وأخبرت أنهم البارحة باتوا جياعًا.
فقال الأمير: ونحن أيضًا قد ثقلنا عليهم اليوم، وليس من المروءة
أن يثقل على مثلهم.
ثم حل الأمير منطقته من وسطه ورمى بها في الدار، ثم قال لأصحابه: من أحبني فليلق منطقته، فحل جميع أصحابه مناطقهم، ورموا بها إليهم، ثم انصرفوا.
فقال الوزير: السلام عليكم أهل البيت، لآتينكم الساعة بثمن هذه المناطق.
فلمَّا أنزل الأمير، رجع إليهم الوزيرُ، ودفع إليهم ثمن المناطق مالا جزيلا واستردها منهم.
فلما رأت الصبية الصغيرة ذلك بكت بكاءً شديدًا، فقالوا لها: ما هذا البكاء؟ إنما يجب أن تفرحي، فإن الله قد وسع علينا.
فقالت: يا أُمَّ، والله إنما بكائي كيف بتنا البارحة جياعًا، فنظر إلينا مخلوق نظرة واحدة، فأغنانا بعد فقرنا، فالكريم الخالق إذا نظر إلينا لا يكلنا إلى أحد طرفة عين، اللهم انظر إلى أبينا وبره بأحسن التدبير.
هذا ما كان من أمرهم، وأما ما كان من أمر حاتم أبيهم، فإنه لما خرج محرمًا ولحق بالقوم، توجه أمير الركب، فطلبوا له طبيبًا، فلم يجدوا، فقال: هل من عبد صالح؟
فدل على حاتم، فلما دخل عليه وكلمه دعا له فعوفي الأمير من وقته.
فأمر له بما يركب وما يأكل وما يشرب فنام تلك الليلة مفكرًا في
أمر عياله، فقيل له في منامه، يا حاتم من أصلح معاملته معنا أصلحنا معاملتنا معه.
ثم أخبر بما كان من أمر عياله، فأكثر الثناء على الله - تعالى -، فلما قضى حجه ورجع، تلقته أولاده، فعانق الصبية الصغيرة، وبكى، ثم قال: (صغار قوم كبار قوم آخرين)، إن الله لا ينظر إلى أكبركم، ولكن ينظر إلى أعرفكم به فعلكيم بمعرفته والاتكال عليه، فإنه من توكل على الله فهو حسبه.
***
* العلم يرفع:
قال أبو يوسف: توفي أبي وخلفني صغيرًا في حجر أمي، فأسلمتني إلى قصَّار أخدمه فكنت أدع القصار وأمرُّ إلى حلقة أبي حنيفة، فأجلس أستمع، فكانت أمي تجيء خلفي إلى الحلقة فتأخذ بيدي وتذهب بي إلى القصَّار.
وكان أبو حنيفة يعنى بي لما يرى من حضوري وحرصي على التعلم، فلما كثر ذلك على أمي، وطال عليها هربي، قالت لأبي حنيفة: ما لهذا الصبي فساد غيرك، هذا صبي يتيم لا شيء له، وإنما أطعمه من مغزلي وآمل أن يكسب دانقًا يعود به على نفسه.
فقال لها أبو حنيفة: هو ذا يتعلم أكل الفالوذج بدهن الفُستق، فانصرفت عنه.#
قال أبو يوسف: ثم لزمت أبا حنيفة وكان يتعاهدني بماله، فما ترك لي خلة فنفعني الله بالعلم ورفعني حتى تقلدت القضاء، وكنت أجالس هارون الرشيد وأكل معه على مائدته، فلما كان في بعض الأيام، قدم إلى هارون الرشيد فالوذج، فقال لي يا يعقوب: كل منه فليس يعمل لنا مثله كل يوم.
فقلت: وما هذا يا أمير المؤمنين؟
فقال: هذا فالوذج بدهن الفستق، فضحكت، فقال لي: مم تضحك؟ فقلت: خيرًا أبقى الله أمير المؤمنين قال: لتخبرني، وألح عليَّ.
فأخبرته بالقصة من أولها إلى آخرها، فعجب من ذلك وقال: لعمري إن العلم ليرفع وينفع دينًا دنيا، وترحم على أبي حنيفة وقال: كان ينظر بعين عقله ما لا يراه بعين رأسه([32]).
***
* أخرج الهروي في ذم الكلام (ص 270) عن سليمان بن أحمد بن أيوب قال: سمعت زكريا بن يحيى الساجي يقول: (كنا نمشي في بعض أزقة البصرة إلى بعض المحدثين؛ فأسرعنا المشي، ومعنا رجل ماجن متهم في دينه، فقال: ارفعوا أرجلكم عن أجنحة الملائكة لا تكسروها؛ كالمستهزئ، فلم يزل من موضعه، حتى #
جفت رجلاه وسقط).
ونظير هذا في زماننا رجل يستهزئ، بالسنن، ويقول عنها إنها من التوافه والمحدثات والقشور، وآخر يستهزئ بمن يلبس إزاره إلى إنصاف ساقيه ويقول: باب ما ورد في الفانيلة، وآخر يستهزئ بسنة حل الأزرار، ويكشف عن فخذه النتنة الخبيثة ويقول: اكشفوا عن أفخاذكم كما فعل الرسول ﷺ، ألا قاتل الله الهوى والجفاء، انظر ماذا يفعل بصاحبه فكيف إذا اجتمع معه أن يكون عصبيًّا غبيًّا، فإنا لله وإنا إليه راجعون؛ فاللهم عياذًا بك من هؤلاء نسأل الله العلي العظيم أن يرينا فيهم عجائب قدرته، وعظيم عقابه، وشديد عذابه، إن ربي لسميع الدعاء، (اللهم فعياذًا بك ممن قصر في العلم والدين باعه، وطالت في الجهل وآذى عبادك ذراعه؛ فهو لجهله يرى الإحسان إساءة والسنة بدعة والمعروف منكرًا، ولظلمه يجزي بالحسنة سيئة كاملة، وبالسيئة الواحدة عشرًا؛ قد اتخذ بطر الحق وغم الناس سلمًا إلى ما يحبه من الباطل؛ ويرضاه، ولا يعرف من المعروف ولا ينكر من المنكر إلا ما وافق إرادته وهواه، يستطيل على أولياء الله وحزبه بأصغريه، ويجالس أهل الغي والجهالة ويزاحمهم بركبتيه، قد ارتوى من ماء آجن وتضلع؛ واستشرق إلى مراتب ورثة الأنبياء وتطلع؛ يركض في ميدان جهله مع الجاهلين؛ ويبرز عليهم في الجهالة فيظن أنه من السابقين، وهو عند الله ورسوله #
والمؤمنين عن تلك الوراثة النبوية بمعزل، وإذا نزل الورثة منازلهم منها فمنزله منها أقصى وأبعد منزل:
نزلوا بمكة في قبائل هاشم | ||
ونزلت بالبيداء أبعد منزل | ||
وعياذًا بك ممن جعل الملامة بضاعته، والعذل نصيحته، وهو دائمًا بيدي في الملامة ويعيد، ويكرر على العذل فلا يُفيد ويستفيد. بل عياذًا بك من عدو في صورة ناصح، وولي في مسلاخ بعيد كاشح؛ يجعل عداوته حذرًا وإشفاقًا وتنقيره إسعافًا وأرفافًا([33]).
بل عياذًا بك ممن جعل رد السنن طريقته؛ والسخرية والاستهزاء بأهلها سجيته، وهو لفرط حمقه وعظيم اتباعه لهواه، وتركه للهدي، لا يدري ولا يدري أنه لا يدري.
وإذا كان العين لا تكاد تفتح، والميزان بهم يخفُّ ولا يرجح، فما أحرى اللبيب بأن لا يعيرهم من قلبه جزءًا من الالتفات؛ ويسافر في طريق مقصده بينهم سفره إلى الأحياء بين الأموات.
***
* قال ابن قيم الزوجية - رحمه الله - تعالى([34]):
(العبد من حينئذ استقرت قدمه في هذه الدار؛ فهو مسافر فيها إلى ربه ومدة سفره هي عمره الذي كتب له؛ فالعمر هو مدة سفر # الإنسان في هذه الدار إلى ربه، ثم قد جعلت الأيام والليالي مراحل لسفره، فكل يوم وليلة مرحلة من المراحل، فلا يزال يطويها مرحلة بعد مرحلة حتى ينتهي السفر؛ فالكيس الفطن هو الذي يجعل كل مرحلة نصب عينيه، فيهتم بقطعها سالمًا غانمًا، فإذا قطعها جهل الأخرى نصب عينيه، ولا يطول عليه الأمد؛ فيقسو قلبه، ويمتد أمله، ويحصر بالتسويف والوعد والتأخير والمطل.
بل يعد عمره تلك المرحلة الواحدة؛ فيجتهد في قطعها بخير ما بحضرته، فإنه إذا تيقن قصرها، وسرعة انقضائها؛ هان عليه العمل، فطوعت له نفسه الانقياد إلى التزود، فإذا استقبل المرحلة الأخرى من عمره استقبلها كذلك، فلا يزال هذا دأبه حتى يطوي مراحل عمره كلها؛ فيحمد سعيه، ويبتهج بما أعده ليوم فاقته وحاجته، فإذا طلع صبح الآخرة، وانقشع ظلام الدنيا؛ فحينئذ يحمده سراه، وينجاب عنه كراه، فما أحسن ما يستقبل يومه وقد لاح صباحه، واستبان فلاحه.
ثم الناس في قطع هذه المراحل قسمان:
- فقسم قطعوها - مسافرين فيها - إلى دار الشقاء، فكلما قطعوا منها مرحلة قربوا من تلك الدار وبعدوا عن ربهم وعن دار كرامته، فقطعوا تلك المراحل بمساخط الرب، ومعاداته، ومعاداة رسله وأوليائه ودينه، والسعي في إطفاء نوره وإبطال دعوته وإقامة دعوة غيرها.
فهؤلاء جعلت أيامهم يسافرون فيها إلى الدار التي خلقوا لها، واستعملوا بها، فهم مصحوبون فيها بالشياطين الموكلة بهم، يسوقونهم إلى منازلهم سوقًا، كما قال تعالى: }أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا{ [مريم: 83]، أي: تُزعجهم إلى المعاصي والكفر إزعاجًا، وتسوقهم سوقًا.
القسم الثاني: قطعوا تلك المراحل سائرين فيها إلى الله وإلى دار السلام، وهو ثلاثة أقسام:
* ظالم لنفسه.
* ومقتصد.
* وسابق بالخيرات - بإذن الله -.
وهؤلاء كلهم مستعدون للسير، موقنون بالرُّجعى إلى الله، ولكن متفاوتون في التزود وتعبئة الزاد واختياره، وفي نفس السير وسرعته وبطئه.
***
* قال ابن قيم الجوزية - رحمه الله - تعالى([35]):
(السائر إلى الله والدار الآخرة، بل كل سائر إلى مقصد، لا يتم سيره ولا يصل إلى مقصوده إلا بقوتين:
* قوة علمية.
* وقوة عملية.#
فبالقوة العلمية يبصر منازل الطريق، ومواضع السلوك؛ فيقصدها سائرًا فيها، ويجتنب أسباب الهلاك، ومواضع العَطَب، وطرق المهالك المنحرفة عن الطريق الموصل.
فقوته العلمية كنور عظيم بيده، يمشي في ليلة عظيمة مظلمة شديدة الظلمة، فهو يبصر بذلك النور ما يقع الماشي في الظلمة في مثله؛ من الوهاد والمتآلف، ويعثر به؛ من تكون نسبة قلبه فيها إلى الدار الآخرة كنسبة جسمه إلى هذه الدار بعد أن كان في بطن أمه فيولد قلبه ولادة حقيقية كما ولد جسمه حقيقة وكما كان بطن أمه حجابًا لجسمه عن هذه الدار فهكذا نفسه وهواه حجاب لقلبه عن الدار الآخرة، فخروج قلبه عن نفسه بارزًا إلى الدار الآخرة كخروج جسمه من بطن أمه بارزًا إلى هذه الدار.
وهذا معنى ما يذكر عن المسيح أنه قال: (يا بني إسرائيل، إنكم لن تلجوا ملكوت السماء حتى تولدوا مرتين).
ولما كان أكثر الناس لم يولدوا هذه الولادة الثانية ولا تصورها - فضلا عن أن يصدقوا بها - فيقول القائل: كيف يولد الرجل الكبير، أو كيف يولد القلب، لم يكن لهم إليها همة ولا عزيمة؛ إذ كيف يعزم على الشيء من لا يعرفه ولا يصدقه؟
ولكن إذا كشف حجاب الغفلة عن القلب صدَّق بذلك، وعَلِم أنه لم يولد قلبه بعد.#
* قال ابن القيم الجوزية - رحمه الله - تعالى([36]):
محاسبة لنفس نوعان:
* نوع قبل العمل.
* ونوع بعده.
فأما النوع الأول؛ فهو يقف عند أول همته وإرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبن له رجحانه على تركه.
قال الحسن البصري - رحمه الله -: (رحم الله عبدًا وقف عند همه، فإن كان لله مضى وإن كان لغيره تأخر).
وشرح هذا بعضهم فقال: إذا تحركت النفس من الأعمال وهمَّ به العبد، وقف أولا ونظر: هل ذلك العمل مقدور له أو غير مقدور ولا مستطاع؟
فإن لم يكن مقدورًا لم يقدم عليه، وإن كان مقدورًا وقف أخرى ونظر: هل فعله خير له من تركه، أو تركه خير له من فعله؟
فإن كان الثاني تركه ولم يقدم عليه، وإن كان الأول وقف وقفة ثالثة ونظر: هل الباعث عليه إرادة وجه الله وثوابه أم إرادة الجاه والثناء والمال من المخلوق؟ فإن كان الثاني لم يقدم عليه وإن أفضى به إلى مطلوبه؛ لئلا تعتاد النفس الشرك؛ ويخفى عليها العمل لغير الله، فبقدر ما يخف عليها ذلك يثقل عليها العمل لله، حتى يصير أثقل شيء عليها، وإن كان الأول وقف وقفة أخرى ونظر: هل هو # معان عليه، وله أعوان يساعدونه وينصرونه إذا كان العمل محتاجًا إلى ذلك أم لا؟
فإن لم يكن له أعوان أمسك عنه؛ كما أمسك النبي ﷺ عن الجهاد بمكة حتى صار له شَوْكة وأنصار، وإن وجده معانًا عليه فليقدم عليه فإنه منصور، ولا يفوت النجاح إلا من فوت خصلة من هذه الخصال، وإلا مع اجتماعها لا يفوته النجاح.
فهذه أربع مقامات يحتاج إلى محاسبة نفسه عليها قبل الفعل؛ فما كل ما يريد العبد فعله يكون مقدورًا له، ولا كل ما يكون مقدورًا له يكون فعله خيرًا له من تركه، ولا كل ما يكون فعله خيرًا له من تركه يفعله لله، ولا كل ما يفعله لله يكون معانًا عليه، فإذا حاسب نفسه على ذلك تبيَّن له ما يقدم عليه، وما يُحجم عنه.
النوع الثاني: محاسبة النفس بعد العمل؛ وهو ثلاثة أنواع:
أحدها: محاسبتها على طاعة قصرت فيها من حق الله؛ فلا توقعها على الوجه الذي ينبغي.
وحق الله في الطاعة ستة أمور...، وهي: (الإخلاص في العمل)، و(النصيحة لله فيه)، و(متابعة الرسول فيه)، و(شهود مشهد الإحسان فيه)، و(شهود منة الله عليه فيه)، و(شهود تقصيره فيه بعد ذلك كله).
الثاني: أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركه خيرًا له من فعله.
الثالث: أن يحاسب نفسه على أمر مباح، أو معتاد: لم فعله؟ وهل أراد به الله والدار الآخرة؟ فيكون رابحًا، أو أراد به الدنيا وعاجلها، فيخسر ذلك الربح ويفوته الظفر به.
***
* قال ابن القيم الجوزية - رحمه الله -([37]):
(قد أكثركثر الناس من الكلام في (الزهد)، وكل أشار إلى ذوقه، ونطق عن حاله وشاهده، فإن غالب عبارات القوم عن أذواقهم وأحوالهم، والكلام بلسان العلم أوسع من الكلام بلسان الذوق، وأقرب إلى الحجة والبرهان.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - يقول: (الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما تخاف ضرره في الآخرة)([38]).
وهذه العبارة من أحسن ما قيل في: (الزهد والورع) وأجمعها.
***
* وقال أيضًا - رحمه الله - تعالى:
الزهد على أربعة أقسام:
أحدها: فرض على كل مسلم، وهو الزهد في الحرام.
وهذا متى أخل به انعقد سبب العقاب، فلا بد من وجود مسببه ما لم ينعقد سبب آخر يضاده.
الثاني: زهد مستحب، وهو على درجات في الاستحباب بحسب المزهود فيه، وهو الزهد في المكروه وفضول المباحات والتفنن في الشهوات المباحة.
الثالث: زهد الداخلين في هذا الشأن، وهم المشمرون في السير إلى الله وهو نوعان:
أحدهما: الزهد في الدنيا جملة، وليس المراد تخليها من اليد ولا إخراجها وقعوده صفرًا منها، وإنما المراد إخراجها من قلبه بالكلية، فلا يلتفت إليها، ولا يدعها تساكن قلبه وإن كانت في يده.
الآفات كثيرة، غير أنها تتجمع في آفتين اثنين، وهما:
الآفة الأولى: الهوى...!
قال الشعبي - رحمه الله تعالى -([39]): (إنما سُمي الهوى هوى، لأنه يَهْوي بصاحبه) فالهوى (عن الخير صاد، وللعقل مضاد؛ لأنه ينتج من الأخلاق قبائحها، ويظهر من الأفعال فضائحها، ويجعل ستر المروءة مهتوكًا، ومدخل الشر مسلوكًا)([40]).
وما دام الهوى والعقل متعاديان، (فالواجب على المرء: أن يكون لرأيه مسعفًا، ولهواه مسوفًا، فإذا اشتبه عليه أمران اجتنب أقربهما من هواه؛ لأن في مجانبته الهوى إصلاح السرائر، وبالعقل تصلح الضمائر)([41]).#
قال الشاطبي - رحمه الله تعالى -([42]): (قد جعل الله اتباع الهوى مضادًا للحق، وعده قسيمًا له، كما في قوله تعالى: }يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ{... [ص: 26] الآية، وقال تعالى: }فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى{ [النازعات: 37: 39]، وقال في قسميه: }وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى{ [النازعات: 39 - 41]، وقال: }وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى{ [النجم: 3 - 4].
فقد حصر الأمر في شيئين: الوحي؛ وهو الشريعة، والهوى، فلا ثالث لهما.
وإذا كان الأمر كذلك فهما متضادان، وحين تعين الحق في الوحي توجه للهوى ضده. فاتباع الهوى مضاد للحق).
وتأمل؛ فكل موضوع ذكر الله - تعالى - فيه الهوى فإنما جاء به في معرض الذم له ولمُتَّبعيه.
وقد روي هذا المعنى عن ابن عباس أنه قال: (ما ذكر الله الهوى في كتابه إلا ذمه)، فهذا كله واضح في أن قصد الشارع: الخروج عن اتباع الهوى.
والهوى يأتي العاقل من أحد وجهين:
الأول: من جهة قوى سلطانه.#
والثاني: من جهة خفاء مكره.
فأما الوجه الأول:
فهو أن يقوى سلطان الهوى بكثرة دواعيه؛ حتى تستولي عليه مغالبة الهوى والشهوات فيكل العقل عن دفعها، ويضعف عن منعها، مع وضوح قبحها في العقل المقهور بها.
وحسم هذا السبب؛ بأن يستعين المرء بالعقل على النفس النفور؛ فيشعرها ما في عواقب الهوى من شدة الضرر، وقبح الأثر، وكثرة الإجرام، وتراكم الآثام.
فإذا انقادت النفس للعقل بما قد أشعرت من عواقب الهوى لم يلبث الهوى أن يصير بالعقل مدحورًا، وبالنفس مقهورًا.
فهو أن يخفي الهوى بكُره؛ حتى تتموه أفعاله على العقل، فيتصور القبيح حسنًا، والضرر نفعًا.
وهذا يدعو إليه أحد شيئين:
أما أن يكون للنفس ميل إلى ذلك الشيء، فتتصوره حسنًا لشدة ميلها، وحسمه: أن يجعل فكر قلبه حكمًا على نظر عينه؛ فإن العين رائدة الشهوة، والشهوة من دواعي الهوى، والقلب رائد الحق، والحق من دواعي العقل.
وأما السبب الثاني: فهو اشتغال الفكر في تمييز ما اشتبه، فيطلب الراحة في اتباع ما استسهل؛ حتى يظن أن ذلك أوفق أمر به، وأحمد حاليه، اغترارًا بأن الأسهل محمود، والأعسر مذموم، فلن يعدم أن يَتَورَّط بخدع الهوى وريبة المكر في كل مخوف حذر، ومكروه عسر([43]).
***
* علم النفس:
قال ابن القيم - رحمه الله - في أقسام النفوس وطبائعها، وانقسام الناس بالنسبة إليها: وسألت يومًا شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عن هذه المسألة وقطع الآفات والأشغال بتنقية الطريق وتنظيفها؟
فقال لي جملة كلامه: النفس مثل الباطوس - وهو جب القذر - كلما نبشته ظهر وخرج، ولكن إن أمكنك أن تسقف عليه وتعبره وتجوزه فافعل، ولا تشتغل بنبشه فإنك لن تصل إلى قراره، وكلما نبشت شيئًا ظهر غيره.
فقلت: سألت عن هذه المسألة بعض الشيوخ، فقال لي: مثل آفات النفس مثلا الحيات والعقارب التي في طريق المسافر، فإن أقبل على تفتيش الطريق عنها والاشتغال بقتلها انقطع ولم يمكنه السير قط، ولكن لتكن همتك المسير والإعراض عنها وعدم الالتفات إليها، فإذا عرض لك فيها ما يعوقك عن المسير فاقتله ثم امض على سيرك.
فاستحسن شيخ الإسلام ذلك جدًّا، وأثنى على قائله([44]).
قال ابن القيم - رحمه الله - بعد أن ذكر الخلاف في السمع # والبصر: أيهما أشرف؟
قال شيخ الإسلام تقي الدين - قدس الله روحه ونور ضريحه: وفصل الخطاب إن إدراك السمع أعم وأشمل، وإدراك البصر أتم وأكمل، فهذا له التمام والكمال، وذاك له العموم والشمول، فقد ترجح كل منهما بما اختص به كلامه. تم كلامه([45]).
وقال المعتصم يومًا لبعض أصحابه: يا فلان... إذا نصر الهوى ذهب الرأي.
وسمعت رجلا يقول لشيخنا: إذا خان الرجل في نقد الدراهم سلبه الله معرفة النقد، أو قال: - نسيه - فقال الشيخ: هكذا من خان الله - تعالى - ورسوله في مسائل العلم([46]).
***
* ديوان العرب:
قصيدة (كُتبَ الموت) لعمر بن مظفر بن الوردي:
كتب الموت على الخلق فكم | ||
قل من جمع وأفنى من دولا | ||
أين نمرود وكنعان ومن | ||
ملك الأرض وولى وعزل؟ | ||
أين من سادوا وشادوا وبنوا؟ | ||
هلك الكل ولم تغن القلل | ||
أين أرباب الحجي أهل النهى؟ | ||
أين أهل العلم والقوم الأول؟ | ||
يا بني اسمع وصايا جمعت | ||
حكمًا خصت بها خير الملل | ||
سيعيد الله كلا منهم | ||
وسيجزي فاعلا ما قد فعل | ||
اطلب العلم ولا تكسل فما | ||
أبعد الخير على أهل الكسل | ||
واهجر النوم وحصله فمن | ||
يعرف المطلوب يحقر ما بذل | ||
لا تقل قد ذهبت أربابه | ||
كل من سار على الدرب وصل | ||
في ازدياد العلم إرغام العدا | ||
وجمال العلم إصلاح العمل | ||
جمل المنطق بالنحو فمن | ||
يحرم الإعراب بالنطق اختبل | ||
انظم الشعر ولازم مذهبي | ||
فاطراح الرفد في الدنيا أقل | ||
فهو عنوان على الفضل وما | ||
أحسن الشعر إذا لم يبتذل | ||
مات أهل الفضل لم يبق سوى | ||
مقرف من على الأصل اتكل | ||
ملك كسرى عنه تغني كسرة | ||
وعن البحر اجتزاء بالوشل | ||
اعتبر (نحن قسمنا بينهم) | ||
تلقه حقًّا، وبالحق نزل | ||
ليس ما يحوي الفتى من عزمه | ||
لا، ولاما فات يومًا بالكسل | ||
اطرح الدنيا فمن عاداتها | ||
تخفض العالي، وتُعلى من سفل | ||
عيشة الراغب في تحصيلها | ||
عيشة الجاهل فيها أو أقل | ||
كم جهول بات فيها مكثرًا | ||
وعليم بات منها في علل | ||
كم شجاع لم ينل فيها المنى | ||
وجبان نال غايات الأمل | ||
أي كف لم تفد ما تفد | ||
فرماه الله منه بالشلل | ||
فاترك الحيلة فيها واتكل | ||
إنما الحيلة في ترك الحيل | ||
لا تقل أصلي وفصلي أبدًا | ||
إنما أصل الفتى ما قد حصل | ||
قد سود المرء من غير أب | ||
وبحسن السبك قد ينفى الزغل | ||
وكذا الورد من الشوك، وما | ||
ينبت النرجس إلا من بصل | ||
مع أني أحمد الله على | ||
نسبي، إذ بأبي بكر اتصل | ||
قيمة الإنسان ما يحسنه | ||
أكثر الإنسان منه أو أقل | ||
وادرع جدا وكدا واجتنب | ||
صحبة الحمقى وأرباب الخلل | ||
بين تبذير وبخل رتبة | ||
وكلا هذين إن دام قتل | ||
لا تخض في سب سادات مضوا | ||
إنهم ليسوا بأهل للزلل | ||
وتغافل عن أمور، إنه | ||
لم يفز بالحمد إلا من غفل | ||
ليس يخلوا المرء من ضد، ولو | ||
حاول العُزْلةَ في رأس جبل | ||
مل عن النمام واهجره، فما | ||
بلغ المكروه إلا من نقل | ||
دار جار السوء إن جار، وإن | ||
لم تجد صبرًا، فما أحلى النقل | ||
جانب السلطان، واحذر بطشه | ||
لا تخاصم من إذا قال فعل | ||
لا تل الحكم وإن هم سألوا | ||
رغبة فيك، وخالف من عذل | ||
إن نصف الناس أعداء لمن | ||
ولي الأحكام، هذا إن عدل | ||
فهو المحبوس عن لذاته | ||
وكلا كفيه في الحشر تغل | ||
فالولايات وإن طابت لمن | ||
ذاقها، فالسم في ذاك العسل | ||
نصب المنصب أو هي جسدي | ||
وعناني عن مدارة السفل | ||
قصر الآمال في الدنيا تفز | ||
فدليل العقل: تقصير الأمل | ||
إن من يطلبه الموت على | ||
عزة منه جدير بالوجل | ||
غب، وزر غبًّا تزد حبًّا، فمن | ||
أكثر الترداد أضناه الملل | ||
خذ بحد السيف، واترك غمده | ||
واعتبر فضل الفتى دون الحلل | ||
لا يضر الفضل إقلال، كما | ||
لا يضر الشمس أطباق الطفل | ||
حبك الأوطان عجز ظاهر | ||
فاغترب تلق عن الأهل بدل | ||
فبمكث الماء يبقى آسنًا | ||
وسرى البدر به البدر اكتمل | ||
عد عن أسهم لفظي واستتر | ||
لا يصيبنك سهم من ثعل | ||
لا يغرنك لين من فتى | ||
إن للحيات لينًا يعتزل | ||
#
إنما مثل الماء سهل سائغ | ||
ومتى سخن آذى وقتل | ||
أنا كالخيزران صعب كسره | ||
وهو لين كيفما شئت انفتل | ||
غير أني في زمان من يكن | ||
فيه ذا مال: هو المولى الأجل | ||
واجب عند الورى إكرامه | ||
وقليل الماء فيهم يستقل | ||
وصلاة وسلام أبدًا | ||
للنبي المصطفى خير الدول | ||
وعلى الآل الكرام السعدا | ||
وعلى الأصحاب والقوم الأول | ||
ما نوى الركب بعشاق إلى | ||
أيمن الحي، وما غنى رمل | ||
***
* ذكاء الشعبي:
ذكر الصفدي في كتابه الوافي بالوفيات عند مروره بترجمة حياة الشعبي المتوفي في عام 104هـ فقال: حكى الشعبي قال: انفذني عبد الملك بن مروان إلى ملك الروم، فلما وصلت إليه جعل لا يسألني عن شيء إلا أجبته، وكانت الرسل لا تطيل الإقامة عنده، فحبسني أيامًا كثيرة حتى استحثثت خروجي فلما أردت الانصراف قال لي: أمن أهل بيت المملكة أنت؟ قلت: لا ولكني رجل من # العرب في الجملة، فهمس في أذن أحدهم بشيء، فدعت إلى رقعة، وقال لي إذا أديت الرسائل إلى صاحبك فأوصل إليه هذه الرقعة، قال: فأديت الرسائل عند وصولي عبد الملك، وأنسيت الرقعة. فلما صرت في بعض الدار أريد الخروج تذكرتها فرجعت ووصلتها إليه، فلما قرأها قال: أقال لك شيئًا قبل أن يدفعها إليك؟ قلت: نعم، وأخبرته بسؤالي وجوابي، ثم رجعت من عند عبد الملك، فلما بلغت الباب رددت فلما مثلت بين يديه قال: أتدري ما في الرقعة؟ قلت: لا، قال: أقرأها فقرأتها فإذا فيها: عجبت من قوم فيهم مثل هذا كيف ملكوا غيره، فقلت: والله لو علمت هذا ما حملتها وإنما قال هذا لأنه لم يرك قال: أفتدري لم كتبها؟ قلت: لا، قال: حسدني عليك وأراد أن يغريني بقتلك. قال: فتأدى ذلك إلى ملك الروم، فقال: ما أردت إلا ما قال.
وكان الشعبي ضئيلا نحيفًا فقيل له يومًا: إنا نراك ضئيلا، فقال: زوحمت في الرحم، وكان أحد توأمين، وأقام في الرحم سنتين... ويقال إن الحجاج سأله يومًا فقال: كم عطاؤك في السنة؟ فقال: ألفين، فقال: ويحك كم عطاؤك؟ قال: ألفان، فقال: كيف لحنت في الأولى؟ فقال: لحن الأمير فلحنت، فلما أعرب أعربت، وما ينبغي أن يلحن الأمير فأعرب فاستحسن منه ذلك وأجازه.
***#
* ابن حمدي اللص:
قال التنوخي، حدثني عبد الله الحارثي، قال حدثني بعض التجار البغداديين قال: خرجت بسلع لي ومتاع من بغداد أريد واسطًا، وكان البريدي بها، والدنيا مفتتنة جدا فقطع علي وعلى الكار الذي كنت فيه لص كان في الطريق يقال له ابن حمدي، يقطع قريبًا من بغداد، فأفقرني وكان معظم ما أملكه معي، فسهل علي الموت، وطرحت نفسي له.
وكنت أسمع في بغداد: أن ابن حمدي هذا فيه فتوة وظرف، وأنه إذا قطع لم يعرض لأرباب البضائع اليسيرة، التي تكون دون الألف درهم، وإذا أخذ ممن حاله ضعيفة شيئًا، قاسمه عليه وترك شطر ماله في يده، وأنه لا يفتش امرأة ولا يسلبها.... وحكايات كثيرة مثل ذلك.
فأطمعني ذلك في أن يرق لي، فصعدت إلى الموضع الذي هو جالس فيه، وخاطبته في أمري وبكيت، ورققته ووعظته، وحلفت له أن جميع ما أملكه قد أخذه، وأني أحتاج إلى أن أتصدق من بعده.
فقال لي: يا هذا الله بيننا وبين هذا السلطان الذي أحوجنا إلى هذا، فإنه قد أسقط أرزاقنا، وأحوجنا إلى هذا العمل، ولسنا فيما نفعله نرتكب أمرًا أعظم مما يرتكبه السلطان.#
وأنت تعلم أن ابن شيرزاد ببغداد يصادر الناس ويفقرهم، حتى أنه يأخذه الموسر المكثر فلا يخرج من حبسه إلا وهو لا يهتدي إلى شيء غير الصداقة، وكذلك يفعل البريدي بواسط والبصرة والديلم بالأهواز وقد علمت أنهم يأخذون أصول الضياع، والدور والعقار، ويتجاوزون ذلك إلى الحرم والأولاد، فاحسب أننا مثل هؤلاء، وأن واحدًا منهم صادرك، فقلت: أعزك الله ظلم الظلمة لا يكون حجة والقبيح لا يكون سنة، وإذا وقفت أنا وأنت بين يدي الله - عز وجل - أترضى أن يكون هذا جوابك له؟
فأطرق مليًّا ولم أشك في أنه يقتلني ثم رفع رأسه فقال: كم أخذ منك؟ فصدقته فقال: أحضروه فأحضر فكان كما ذكرت فأعطاني نصفه، فقلت له: الآن قد وجب حقي عليك، وصار لي بإحسانك إليَّ حرمة، فقال: أجل، قلت: إن الطريق فاسد وما هو إلا أن أتجاوزك حتى يؤخذ هذا مني أيضًا، فأنفذ معي من يوصلني إلى المأمن([47])، وقد فعل ذلك فسلمت بما أفلت معي.
***
* قال ابن ناصر الدين: (لقد حدثني من حضر لحد بن رجب أن الشيخ زين الدين بن رجب جاءه قبل أن يموت بأيام، وقال له: احفر لي هنا لحدًا، وأشار إلى البقعة التي دفن فيها، قال: فحفرت له، فلما فرغت تدلى في القبر واضطجع فيه فأعجبه، وقال: هذا # جيد، ثم خرج، قال: فوالله ما شعرت به بعد أيام إلا وقد أتي به ميتًا محمولا في نعشه فوضعته في ذلك اللحد وواريته فيه)([48]).
***
* الفأل الحسن:
قال ابن القيم: (وقال الأصمعي: سألت ابن عون عن الفأل، فقال: أن يكون مريضًا فيسمع: يا سالم وأخبرك عن نفسي بقضية من ذلك وهي أني أضللت بعض الأولاد يوم التروية بمكة، وكان طفلا، فجهدت في طلبه والنداء عليه في سائر الركب، فلم أقدر له على خبر، فأيست منه، فقال لي إنسان: إن هذا عجز، اركب وادخل الآن إلى مكة فتطلبه فيها، فركبت فرسًا، فما هو إلا أن استقبلت جماعة يتحدثون في سواد الليل في الطريق وأحدهم يقول: ضاع له شيء فلقيه، فلا أدري انقضاء كلمته كان أسرع أم وجدان الطفل مع بعض أهل مكة في محملة عرفته بصوته)([49]).
***
* هكذا سادوا:
روى البغدادي عن الحاكم أنه قال: (سمعت أبا عبد الله بن يعقوب يقول: سمعت أحمد بن سلمة يقول: عقد لأبي الحسين مسلم بن الحجاج مجلسًا للمذاكرة، فذكر له حديث لم يعرفه، فانصرف إلى منزله، وأوقد السراج، وقال لمن في الدار: لا يدخلن أحد منكم هذا البيت، فقيل له: أهديت لنا سلة فيها تمر، فقال: قدموها إلي، فقدموها إليه، فكان يطلب الحديث ويأخذ تمرة تمرة يمضغها، فأصبح وقد فني التمر ووجد الحديث.
ثم قال الحاكم: زادني الثقة من أصحابنا أنه مات منها([50]).
***
* ذكاء الخليل بن أحمد:
قال السيوطي: (كان الخليل بن أحمد آية في الذكاء، وكان الناس يقولون: لم يكن في العربية بعد الصحابة أذكى منه.... ويقال: أنه كان عند رجل دواء لظلمة العين ينتفع بها الناس، فمات واحتاج الناس إليه، فقال الخليل: أله نسخة معروفة؟ قالوا: لا، قال: فهل له أنية كان يعمله فيها؟ قالوا: نعم، قال: فجيئوني بها، فجاؤوه، فجعل يشم الإناء، ويخرج نوعًا نوعًا، حتى أخرج خمسة عشر نوعًا، ثم سئل عن جمعها، ومقدارها، فعرف ذلك، فعمله وأعطاه الناس فانتفعوا به، ثم وجدت النسخة في كتب الرجل، فوجدوا الأخلاط ستة عشر خلطًا، كما ذكر الخليل فلم يفته منها إلا خلط واحد، وهو أول من جمع حروف المعجم في بيت واحد وهو:
صف خلق خود كمثل الشمس إذ بزغت | ||
يحظى الضجيع به نجلاء معطاء | ||
ثم قال: وسبب موته أنه قال: أريد أن أعمل نوعًا من الحساب، تمضي به الجارية إلى القاضي فلا يمكنه أن يظلمها، فدخل المسجد وهو يعمل فكره، فصدمته سارية وهو غافل فانصدع فمات!!([51]).
* قال الخطابي عن حديث: «نهى عن الحلق قبل الصلاة يوم الجمعة» (الحلق مكسورة الحاء مفتوحة اللام، جماعة الحلقة، وكان بعض مشايخنا يرويه أنه ني عن الحلق بسكون اللام، وأخبرني أنه بقي أربعين سنة لا يحلق رأسه قبل الصلاة يوم الجمعة، فقلت له: إنما هو الحلَق جمع الحَلَقة، وإنما كره الاجتماع قبل الصلاة للعلم والمذاكرة وأمر أن يستغل بالصلاة وينصت للخطبة والذكر، فإذا فرغ منها كان الاجتماع والتحلق بعد ذلك، فقال: قد فرجت عني وجزاني خيرًا وكان من الصالحين رحمه الله)([52]).
* قال الإمام النووي: (وخطر لي أن أشتغل في الطب واشتريت كتاب القانون فأظلم قلبي وبقيت أيامًا لا أقدر على الاشتغال فأفقت على نفسي وبعت القانون فأنار قلبي)([53]).
وقال: (بقيت أكثر من شهرين أو أقل لما قرأت: (ويجب الغسل من إيلاج الحشفة في الفرج) أعتقد إن ذلك قرقرة البطن، وكنت #
أستحم بالماء البارد كلما قرقر بطني...)([54]).
* وذكر الذهبي عن ابن حزم: (أن سبب تعلمه الفقه أنه شهد جنازة فدخل المسجد، فجلس ولم يركع، فقال له الرجل: قم فصل تحية المسجد، وكان قد بلغ - أي ابن حزم ستًّا وعشين سنة - قال: فقمت وركعت، فلما رجعنا من الصلاة على الجنازة، دخلت المسجد، فبادرت بالركوع، فقيل لي: اجلس اجلس، ليس هذا وقت الصلاة - وكان بعد العصر - قال: فانصرفت وقد خزنت - وفي بعض المصادر وقد خزيت - وقلت للأستاذ الذي رباني: دلني على دار الفقيه أبي عبد الله بن دحون، قال: فقصدته، وأعلمته بما جرى، فدلني على موطأ مالك، فبدأت به عليه، وتتابعت قراءتي عليه وعلى غيره نحوًا من ثلاثة أعوام، وبدأت بالمناظرة)([55]).
***
* الفراسة:
وعن قتيبة قال: (رأيت محمد بن الحسن والشافعي قاعدين بفناء الكعبة، فمر رجل فقال أحدهما لصاحبه: تعال حتى نزكن - أي نتفرس - على هذا الرجل الآتي أي حرفة معه.
فقال أحدهما: خياطًا، وقال الآخر: نجارًا، فبعثا إليه #
فسألاه، فقال: كنت خياطًا وأنا اليوم نجارًا)([56]).
***
* يا جامع المال:
سمع العطوي الشاعر رجلا يحدث أن رجلا قال لعمر بن الخطاب t أن فلانًا قد جمع مالا فقال t: فهل جمع له أيامًا؟ فأخذ العطوي هذا المعنى فقال:
أرفه بعيش فتى يغدو على ثقة | ||
إن الذي قسم الأرزاق يرزقه | ||
فالعرض منه مصون لا يدنسه | ||
والوجه من جديد ليس يخلقه | ||
جمعت مالا ففكر هل جمعت له | ||
يا جامع المال أيامًا تفرقه | ||
المال عندك مخزون لوارثه | ||
ما المال مالك إلا حين تنفقه | ||
***
* رجال أغلى من الذهب:
جلس أمير المؤمنين عمر بن الخطاب t ذات يوم مع أصحابه، وسألهم عن أمنية كل واحد منهم إذ قال لهم: تمنوا. قال: رجل في الجالسين أتمنى لو أن لي دارًا مملوءة بالذهب، فأنفقه في سبيل الله - عز وجل -، نظر إليهم أمير المؤمنين وقال مرة ثانية: تمنوا.#
فقال آخر: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤًا وزبرجدًا وجواهر، أنفقها في سبيل الله، وأتصدق بها، هنا قال أمير المؤمنين: أتمنى أن هذه الدار مملوءة رجالا مثل أبي عبيدة بن الجراح، فقد كان يعرف قيمة الرجال ويعرف أن أمثال أبي عبيدة الجراح أغلى من الذهب.
***
* الناس في الخير أربعة:
الناس في الخير أربعة أقسام: منهم من يفعله ابتداء، ومنهم من يفعله اقتداء، ومنهم من يتركه حرمانًا، ومنهم من يتركه استحسانًا، فمن فعله ابتداء فهو كريم، ومن فعله اقتداء فهو حكيم، ومن تركه حرمانًا فهو شقي، ومن تركه استحسانًا فهو دنيء.
***
* قال شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه -: ولا يكن قلبك مثل الإسفنجة يتشرب كل شيء، بل اجعله مثل الزجاجة ترى الحقائق من ورائها ولا يدخلها شيء، يأخذ ما ينفعه ويترك ما يضره، يأخذ الصالح ويترك الفاسد.
***
* ها هو الإمام الأوزاعي (عبد الرحمن بن عمرو) الذي نعته الذهبي بشيخ الإسلام وعالم أهل الشام، يستدعيه عبد الله بن علي - عم السفاح الذي أجلى بني أمية عن الشام، وأزال الله - سبحانه - دولتهم على يده - فتغيب الأوزاعي عنه ثلاثة أيام، ثم حضر بين # يديه، قال الأوزاعي: دخلت عليه وهو على سرير وفي يده خيزرانة والمسودة عن يمينه وشماله، معهم السيوف مصلتة، والعمد الحديد، فسلمت عليه فلم يرد، ونكت بتلك الخزيرانة التي في يده، ثم قال: يا أوزاعي، ما ترى فيما صنعنا من إزالة أيدي أولئك الظلمة عن العباد والبلاد؟ أجهادًا ورباطًا هو؟ قال: فقلتُ: أيها الأمير، سمعت يحيى بن سعيد الأنصاري يقول: سمعت محمد بن إبراهيم التيمي يقول: سمعت علقمة بن وقاص يقول: سمعت عمر بن الخطاب: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه»([57]).
قال الأوزاعي: فنكت بالخيزرانة أشد مما كان ينكت، وجعل من حوله يقبضون أيديهم على قبضات سيوفهم، ثم قال: يا أوزاعي، ما تقول في دماء بني أمية؟ فقلت: قال رسول الله ﷺ: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة»([58]).
فنكت بها أشد من ذلك، ثم قال: ما تقول في أموالهم؟ فقلت: إن كانت في أيديهم حرامًا فهي حرام عليك أيضًا، وإن كانت لهم #
حلالا فلا تحل لك إلا بطريق شرعي، فنكت أشد مما كان ينكت قبل ذلك، ثم قال: ألا نوليك القضاء؟ فقلت: إن أسلافك لم يكونوا يشقون علي في ذلك، وإني أحب أن يتم ما ابتدأوني به من الإحسان، فقال: كأنك تحب الانصراف؟ فقلت: إن ورائي حرمًا، وهم محتاجون إلى القيام عليهن وسترهن، قلوبهن مشغولة بسببي، قال: وانتظرت رأسي أن يسقط بين يدي، فأمرني بالانصراف، فلما خرجت إذا برسوله من ورائي، وإذا معه مائتا دينار، فقال: يقول لك الأمير: استنفق هذه، قال: فتصدقت بها، وإنما أخذتها خوفًا([59]).
وهكذا سار الأوزاعي في طريقة إلى الله - تعالى - وبعد وفاته مر على قبره ذلك الأمير عبد الله بن علي فوقف وقال: والله ما كنت أخاف أحدًا على وجه الأرض كخوف هذا المدفون في هذا القبر، والله إني كنت إذا رأيته رأيت الأسد بارزًا، نعم، لقد اعتصم الأوزاعي بالله وحده وحفظ في الرخاء فحظه الله في الشدة }فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ{ [يوسف: 64].
***
* كتب سفيان الثوري - رحمه الله - إلى عباد بن عباد - رحمه الله - فقال: (أما بعد: فإنك في زمان كان أصحاب النبي ﷺ يتعوذون أن يدركوه، ولهم من العلم ما ليس لنا، ولهم من القدم ما ليس #
لنا، فكيف بنا حين أدركناه على قلة علم، وقلة صبر، وقلة أعوان على الخير، وفساد من الناس وكدر من الدنيا؟.
فعليك بالأمر الأول والتمسك به، وعليك بالخمول، فإن هذا زمن الخمول، وعليك بالعزلة، وقلة مخالطة الناس، فقد كان الناس إذا التقوا ينتفع بعضهم ببعض، فأما اليوم، فقد ذهب ذاك، والنجاة في تركهم فيما نرى.
وإياك والأمراء أن تدنو منهم، وتخالطهم في شيء من الأشياء، وإياك أن تُخدع، فيُقال لك: تشفع، وتدرأ عن مظلوم، أو ترد مظلمة، فإن ذلك خديعة إبليس، وإنما أتخذها فجار القراء سلمًا.
وكان يقال: اتقوا فتنة العابد الجاهل، والعالم الفاجر، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون، وما لقيت من المسألة والفتيا، فاغتنم ذلك، ولا تنافسهم فيه.
وإياك أن تكون كمن يجبُّ أن يعمل بقوله، أو ينشر قوله، أو يسمع من قوله، فإذا ترك ذاك منه، عُرف فيه.
وإياك وحب الرئاسة، فإن الرجل تكون الرئاسة أحب إليه من الذهب والفضة، وهو باب غامض لا يبصره إلا العلماء السماسرة،فتفقد نفسك، واعمل بنية، واعلم أنه قد دنا من الناس أمر ينتهي الرجل أن يموت، والسلام([60]).#
* قال ابن الجوزي - رحمه الله -:
(رأيت كثيرًا من الناس يتحرزون من رشاش نجاسة ولا يتحاشون من الغيبة، ويكثرون من الصدقة، ولا يبالون بمعاملات الربا، ويتهجدون بالليل ويؤخرون الفريضة عن الوقت في أشياء يطول عدها من حفظ فروع وتضييع أصول فبحثت عن سبب ذلك فوجدته من شيئين:
أحدهما: العادة.
والثاني: غلبة الهوى في تحصل المطلوب، فإنه قد يغلب فلا يترك سمعًا ولا بصرًا...)([61]).
***
* باب الهبة والعطية:
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عن الصدقة والهدية أيها أفضل؟
فأجاب: الحمد لله. (الصدقة) ما يعطى لوجه الله عبادة محضة من غير قصد في شخص معين ولا طلب غرض من جهته؛ لكن يوضع في مواضع الصدقة كأهل الحاجات، وأما (الهدية) فيقصد بها إكرام شخص معين؛ إما لمحبة وإما لصداقة؛ وإما لطلب حاجة؛ ولهذا كان النبي ﷺ يقبل الهدية، ويثيب عليها، فلا يكون لأحد عليه منة، ولا يأكل أوساخ الناس التي يتطهرون بها من ذنوبهم، وهي # الصدقات، ولم يكن يأكل الصدقة لذلك وغيره.
وإذا تبين ذلك فالصدقة أفضل؛ إلا أن يكون في الهدية معنى تكون به أفضل من الصدقة: مثل الإهداء لرسول الله ﷺ في حياته محبة له، ومثل الإهداء لقريب يصل به رحمه، وأخ له في الله: فهذا قد يكون أفضل من الصدقة.
***
* قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -:
(فالمحبة النافعة ثلاث أنواع: محبة الله، ومحبة في الله، ومحبة ما يعين على طاعة الله - تعالى - واجتناب معصيته.
والمحبة الضارة ثلاثة أنواع: المحبة مع الله، ومحبة ما يبغضه الله تعالى، ومحبة ما تقطع محبته عن محبة الله تعالى أو تنقصها.
فهذه ستة أنواع، عليها مدار محاب الخلق، فمحبة الله - عز وجل - أصل المحاب المحمودة، وأصل الإيمان والتوحيد، والنوعان الآخران تبع لها.
والمحبة مع الله أصل الشرك والمحاب المذمومة، والنوعان الآخران تبع لها)([62]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: (اعلم أن كل من أحب شيئًا لغير الله فلا بد أن يضره محبوبه ويكون ذلك سببًا لعذابه... إلى أن قال: فمن أحب شيئًا لغير الله فالضرر حاصل له # إن وجد أو فقد: فإن فقد عذب بالفراق وتألم، وإن وجد فإنه يحصل له من الألم أكثر مما يحصل له من اللذة، وهذا أمر معلوم بالاعتبار والاستقراء، وكل من أحب شيئًا دون الله لغير الله فإن مضرته أكثر من منفعته فصارت المخلوقات وبالا عليه، إلا ما كان لله وفي الله فإنه كمال وجمال للعبد وهذا معنى ما يروى عن النبي ﷺ أنه قال: «الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه»([63]).
***
* التذلل والتدلل:
(العبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقارًا إليه وخضوعًا له كان أقرب إليه وأعز له وأعظم لقدره، فأسعد الخلق أعظمهم عبودية لله وأما المخلوق فكما قيل: احتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره، ولقد صدق القائل:
بين التذلل والتدلل نقطة | ||
في رفعها تتحير الأفهام)([64]) | ||
***#
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -:
القلوب ثلاثة:
القلب الأول: قلب خال من الإيمان وجميع الخير، فذلك قلب مظلم، قد استراح الشيطان من إلقاء الوساوس إليه؛ لأنه قد اتخذه بيتًا ووطنًا، وتحكم فيه بما يريد، وتمكَّن منه غاية التمكن.
القلب الثاني: قلب قد استنار بنور الإيمان، وأوقد فيه مصباحه لكن عليه ظلمة الشهوات وعواطف الأهوية، فللشيطان هناك إقبال وإدبار، ومجالات ومطامع، فالحرب دول وسجال.
القلب الثالث: قلب محشو بالإيمن، قد استنار بنور الإيمان، وانقشعت عنه حجب الشهوات، وأقلعت عنه تلك الظلمات، فلنوره في صدره إشراق، ولذلك الإشراق إيقاد، لو دنا منه الوسواس؛ احترق به، فهو كالسماء التي حُرِست بالنجوم، فلو دنا منها الشيطان يتخطاها؛ رُجم فاحترق، وليست السماء بأعظم حرمة من المؤمن، وحراسة الله - تعالى - له أتم من حراسة السماء، والسماء متعبَّد الملائكة، ومستقر الوحي، وفيها أنوار الطاعات، وقلب المؤمن مستقر التوحيد، والمحبة والمعرفة، والإيمان وفيه أنوارها، فهو حقيق أن يُحرس ويحفظ من كيد العدو، فلا ينال منه شيئًا إلا خطفه.
قيل لابن عباس رضي الله عنهما: إن اليهود تزعم أنها لا تُوسوس في صلاتها!#
فقال: وما يصنع الشيطان بالقلب الخرب)([65]).
***
* قال ابن المبارك:
اغتنم ركعتين زلفًا إلى الله | ||
إذا كنت ريحًا مستريحًا | ||
وإذا ما هممت بالنطق في الباطل | ||
فاجعل مكانه تسبيحًا([66]) | ||
***
* مدح وهجاء:
هذان البيتان من الشعر يمدح بهما قائلهما قومه:
حلموا فما ساءت لهم شيم | ||
سمحوا فما شحَّت لهم منن | ||
سلموا فما زلت لهم قدم | ||
رشدوا فما ضلت لهم سنن | ||
الطريف أن البيتين يصيران هجاءً إذا قرئ كل بيت معكوسًا من نهايته.
***
* قيل:
* من عرف نفسه لن يُفتن بثناء الناس عليه.
* لا يتعرض لنقائض الناس إلا كل ناقص.
عليكم سلام الله إن مودع | ||
وعيناي من ألم الفرقة تدمع | ||
فإن نحن عشنا يجمع الله بيننا | ||
وإن نحن متنا فالقيامة تجمعُ | ||
***
*قال الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - موصيًا ابنه: يا بني أنوي الخير فإنك بخير ما نويت الخير.
***
* قال الشافعي - رحمه الله تعالى -: إن الحر من حفظ وداد لحظه وتعليم لفظه.
***
* قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: (أنفع الناس لك شخص مكنك من نفسه حتى تزرع فيه خيرًا أو تصنع إليه معروفًا، فإنه نعم العون لك على منفعتك وكمالك، فانتفاعك به في الحقيقة مثل انتفاعه بك أو أكثر)([67]).
***
* ولله ما أحلى قول الجرجاني:
يقولون لي: فيك انقباض وإنما | ||
رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما | ||
أرى الناس من داناهم هان عندهم | ||
ومن أكرمته عزة النفس أكرما | ||
#
ولم أقض حق العلم إن كنت كلما | ||
بدا مطمع صيرته لي سلما | ||
وما زلت منحازًا بعرضي جانبًا | ||
عن الذل اعتد الصيانة مغنمًا | ||
إذا قيل: هذا منهل قلت: قد أرى | ||
ولكن نفس الحر تحتمل الظما | ||
أنزهها عن بعض ما لا يشينها | ||
مخافة أقوال العدا: فيم أو لما؟ | ||
فأصبح عن عيب اللئيم مسلمًا | ||
وقد رحت في نفس الكريم معظمًا | ||
وإني إذا ما فاتني الأمر لم أبت | ||
أقلب كفي إثره متندما | ||
ولكنه إن جاء عفوًا قبلته | ||
وإن مال لم أتبعه: هلَّا وليتما | ||
وأقبض خطوي عن حظوظ كثيرة | ||
إذا لم أنلها وافر العرض مكرمًا | ||
وأكرم نفسي أن أضاحك عابسًا | ||
وأن أتلقى بالمديح مذمما | ||
وكم طالب رقي بنعماه لم يصل | ||
إليه وإن كان الرئيس المعظما | ||
وكم نعمة كانت على الحر نقمة | ||
وكم مغنم يعتده الحر مغرمًا | ||
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي | ||
لأخدم من لاقيت لكن لأخدما | ||
#
أأشقى به غرسا وأجنيه ذلة | ||
إذا فاتباع الجهل قد كان أحزما | ||
وإني لراض عن فتى متعفف | ||
يروح ويغدو ليس يملك درهما | ||
ببيت يراعي النجم من سوء حاله | ||
ويصبح طلقا ضاحكًا مبتسمًا | ||
لا يسأل المثرين ما بأكفهم | ||
ولو مات جوعًا عفة وتكرما | ||
فإن قلت: زند كاب، فإنما | ||
كبا حين لم نحرس حماه وأظلما | ||
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم | ||
ولو عظموه في النفوس لعظما | ||
ولكن أهانوه فهانوا ودنسوا | ||
محياه بالأطماع حتى تجهما! | ||
وما كل برق لاح لي يستفزني | ||
ولا كل من لاقيت أراضاه منعما | ||
ولكن إذا ما اضطرني الضر لم أبت | ||
أقلب فكري منجدًا ثم متهمًا | ||
***
* من خدم العلم خدمه الناس.
* من خدم المحابر دانت له المنابر.
* من صان العلم صانه العلم.
* من أهان العلم هان على الناس.#
* خطب يسير في خطب كبير:
قاله قصير بن سعد اللخمي لجذيمة بن مالك بن نصر الذي يقال له: جذيمة الأبرش وجذيمة الوضاح، والعرب تقول للذي به البرص: به وضح، تفاديًا من ذكر البرص.
وكان جذيمة ملك ما على شاطئ الفرات، وكانت الزباء ملكة الجزيرة، وكانت من أهل باجرمى وتتكلم بالعربية وكان جذيمة قد وترها بقتل أبيها، فلما استجمع أمرها، وانتظم شمل ملكها، أحبت أن تغزو جذيمة، ثم رأت أن تكتب إليه أنها لم تجد ملك النساء إلا قبحًا في السماع، وضعفًا في السلطان، وأنها لم تجد لملكها موضعًا، ولا لنفسها كفؤًا غيرك، فأقبل إليَّ لأجمع ملكي إلى ملكك وأصل بلادي ببلادك، وتقلد أمري مع أمرك، تريد بذلك الغدر، فلما أتى كتابها جذيمة وقدم عليه رسلها استخفه ما دعته إليه، ورغب فيما أطمعته فيه، فجمع أهل الحجاز والرأي من ثقاته، وهو يومئذ ببقة شاطئ الفرات، فعرض عليهم ما دعته إليه وعرضت عليه، فاجتمع رأيهم على أن يسير إليها فيستولي على ملكها، وكان فيهم قصير، وكان أريبًا حازمًا أثيرًا عند جذيمة، فخالفهم فيما أشاروا به، وقال: رأي فاتر، وغدْر حاضر، فذهبت كلمته مثلا، ثم قال لجذيمة: الرأي أن تكتب إليها، فإن كانت صادقة في قولها فلتُقبل إليك، وإلا لم تمكنها من نفسك، ولم تقع في #
حبالتها وقد وترتها وقتلت أباها، فلم يوافق جذيمة ما أشار به، فقال قصير:
إني امرؤ لا يميل العجز ترويتي | ||
إذا أتت دون شيء مرة الوذم | ||
فقال جذيمة: لا، ولكنك امرؤ رأيك في الكن لا في الضح، فذهبت كلمته مثلا، ودعا جذيمة عمرو بن عدي ابن أخته فاستشاره فشجعه على المسير، وقال: إن قومي مع الزباء، ولو قد رأوك صاروا معك، فأحب جذيمة ما قاله، وعصى قصيرًا، فقال قصير: لا يطاع لقصير أمر، فذهب مثلا، واستخلف جذيم عمرو بن عدي على ملكه وسلطانه، وجعل عمرو بن عبد الجن معه على جنوده وخيوله، وسار جذيمة في وجوه أصحابه، فأخذ على شاطئ الفرات من الجانب الغربي، فلما نزل دعا قصيرًا فقال: ما الرأي يا قصير؟ فقال قصير: ببقة خلفت الرأي، فذهبت مثلا، قال: ما ظنك بالزباء؟ قال: القول رادف، والحزم عثراته تخاف، فذهبت مثلا، واستقبله رسل الزباء بالهدايا والألطاف، فقال: يا قصير كيف ترى؟ قال: خطب يسير في خطب كبير، فذهبت مثلا، وستلقاك الجيوش، فإن سارت أمامك فالمرأة صادقة، وإن أخذت جنبتيك وأحاطت بك من خلفك فالقوم غادرون بك، فاركب العصا فإنه يشق غباره، فذهبت مثلا، وكانت العصا فرسًا لجذيمة لا تجارى، وإني راكبها ومسايرك عليها، فلقيته الخيول والكتائب، فحالت بينه # وبين العصا، فركبها قصير، ونظر إليه جذيمة على متن العصا موليًّا فقال: ويل أمه حزمًا على متن العصا، فذهبت مثلا، وجرت به إلى غروب الشمس، ثم نفقت، وقد قطعت أرضًا بعيدة، فبنى عليها برجًا يقال له: برج العصا، وقالت العرب: خير ما جاءت به العصا، فذهبت مثلا، وسار جذيمة وقد أحاطت به الخيل حتى دخل على الزباء، فلما رأته تكشفت فإذا هي مضفورة الأسب، فقالت: يا جذيمة أدأب عروس ترى؟ فذهبت مثلا، فقال جذيمة: بلغ المدى، وجف الثرى، وأمر غدر أرى، فذهبت مثلا.
ودعت بالسيف والنطع ثم قالت: إن دماء الملوك شفاء من الكلب، فأمرت بطست من ذهب قد أعدته له وسقته الخمر حتى سكر وأخذت الخمر منه مأخذها، فأمرت براهشيه فقطعا، وقدمت إليه الطست، وقد قيل لها: إن قطر من دمه شيء في غير الطست طلب بدمه، وكانت الملوك لا تُقتل بضرب الأعناق إلا في القتال تكرمة للملك، فلما ضعفت يداه سقطتا فقطر من دمه في غير الطست، فقالت: لا تضيعوا دم الملك، فقال جذيمة: دعوا دمًا ضيعه أهله، فذهبت مثلا، فهلك جذيمة، وجعلت الزباء دمه في ربعة لها، وخرج قصير من الحي الذي هلكت العصا بين أظهرهم حتى قدم على عمرو بن عدي وهو بالحيرة، فقال له قصير: أثائر أنت؟ قال: بل ثائر سائر، فذهبت مثلا، ووافق قصير الناس وقد اختلفوا؛ #
فصارت طائفة مع عمرو بن عدي اللخمي، وجماعة منهم مع عمرو بن عبد الجن الجرمي، فاختلف بينهما قصير حتى اصطلحا وانقاد عمرو بن عبد الجن لعمرو بن عدي، فقال قصير لعمرو بن عدي: تهيَّأ واستعد ولا تطلن دم خالك، قال: وكيف لي بها وهي أمنع من عقاب الجو؟ فذهبت مثلا، وكانت الزباء سألت كاهنة لها عن هلاكها، فقالت: أرى هلاك بسبب غلام مهين، غير أمين، وهو عمرو بن عدي، ولن تموتي بيده، ولكن حتفك بيدك، ومن قبله ما يكون ذلك، فحذرت عمر، واتخذت لها نفقًا من مجلسها الذي كانت تجلس فيه إلى حصن لها في داخل مدينتها، وقالت: إن فجأني أمر دخلت النفق إلى حصني، ودعت رجلا مصورًا من أجود أهل بلاده تصويرًا وأحسنهم عملا، فجهزته وأحسنت إليه، وقالت: سر حتى تقدم على عمرو بن عدي متنكرًا فتخلوا بحشمه وتنضم إليهم وتخالطهم وتعلمهم ما عندك من العلم بالصور، ثم أثبت لي عمرو بن عدي معرفة؛ فصوره جالسًا وقائمًا وراكبًا ومتفضلا، ومتسلحًا بهيئته ولبسته ولونه، فإذا أحكمت ذلك فأقبل إلي، فانطلق المصور حتى قدم على عمرو بن عدي وصنع الذي أمرته به الزباء، وبلغ من ذلك ما أوصته به، ثم رجع إلى الزباء بعلم ما وجهته له من الصورة على ما وصفت، وأرادت أن تعرف عمرو بن عدي فلا تراه على حال إلا عرفته وحذرته وعلمت
علمه، فقال قصير لعمرو بن عدي: أجدع أنفي، واضرب ظهري، ودعني وإياها، فقال عمرو: ما أنا بفاعل، وما أنت لذلك مستحقًّا عندي، فقال قصير: خل عني إذن وخلالك ذم، فذهبت مثلا، فقال له عمرو: فأنت أبصر، فجدع قصير أنفه، وأثر آثار بظهره، فقالت العرب: لمكر ما جدع قصير أنفه، وفي ذلك يقول المتلمس:
في طلب الأوتار ما حزَّ أنفه | ||
فصير، ورام الموت بالسيف بيهس | ||
ثم خرج قصير كأنه هارب، وأظهر أن عمرًا فعل ذلك به، وأنه زعم أنه مكر بخاله جذيمة وغره من الزباء؛ فسار قصير حتى قدم على الزباء، فقيل لها: إن قصيرًا بالباب، فأمرت به فأدخل عليها، فإذا أنفه قد جدع وظهره قد ضرب، فقالت: ما الذي أرى بك يا قصير؟ قال: زعم عمرو أني قد غررت خاله، وزينت له المصير إليك، وغششته، ومالأتك ففعل بي ما ترين، فأقبلت إليك وعرفت أني لا أكون مع أحد هو أثقل عليه منك، فأكرمته وأصابت عنده من الحزم والرأي وما أرادت، فلما عرف أنها استرسلت إليه ووثقت به، قال: إن لي بالعراق أموالا كثيرة وطرائف وثيابًا وعطرًا فابعثيني إلى العراق لأحمل ما لي وأحمل إليك من بزوزها وطرائفها وثيابها وطيبها، وتصيبين في ذلك أرباحًا عظامًا.
وبعض ما لا غنى بالملوك عنه، وكان أكثر ما يطرفها من التمر الصرفان، وكان يعجبها، فلم يزل يزين ذلك حتى أذنت له، ودفعت إليه أموالا وجهزت معه عبيدًا، فسار قصيرًا بما دفعت إليه حتى قدم العراق وأتى الحبرة متنكرًا، فدخل على عمرو فأخبره الخبر، وقال: جهزني بصنوف البز والأمتعة لعل الله يمكن من الزباء فتصيب ثأرك وتقتل عدوك، فأعطاه حاجته، فرجع بذلك إلى الزباء، فأعجبها ما رأت وسرها، وازدادت به ثقة، وجهزته ثانية فسار حتى قدم على عمرو فجهزه وعاد إليها، ثم عاد الثالثة وقال لعمرو: اجمع لي ثقات أصحابك وهيئ: الغرائر والمسوح واحمل كل رجلين على بعير في غرارتين، فإذا دخلوا مدينة الزباء أقمتك على باب نفقها وخرجت الرجال من الغرائر فصاحوا بأهل المدينة، فمن قاتلتهم قتلوه، وإن أقبلت الزباء تريد النفق جللتها بالسيق، ففعل عمرو بذلك، وحمل الرجال في الغرائر بالسلاح وسار يكمن النهار ويسير الليل، فلما صار قريبًا من مدينتها تقدم قصير فبشرها وأعلمها بما جاء من المتاع والطرايف، وقال لها: آخر البز على القلوص، فأرسلها مثلا، وسألها أن تخرج فتنظر إلى ما جاء به، وقال لها: جئت بما صاء وصمت، فذهبت مثلا، ثم خرجت الزباء فأبصرت الإبل تكاد قوائمها تسوخ في الأرض من ثقل أحمالها فقالت: يا قصير: #
ما للجمال مشيها وئيدًا | ||
أجندلا يحملن أم حديدًا | ||
أصر فا فانًا تآرزًا شديدًا | ||
قال ابن القيم رحمه الله والذنوب منزلة السموم، إن لم تهلكه أضعفته ولا بد وإذا ضعفت قوته لم يقدر على مقاومة الأمراض.
* قال طبيب القلوب:
رأيت الذنوب تميت القلوب | ||
وقد يورث الذل إدمانها | ||
وترك الذنوب حياة القلوب | ||
خير لنفسك عصيانها | ||
***
* مصيبة امرأة:
سعيد أبو عثمان، ثقة من أهل العلم، قال: نظر رجل إلى امرأة فقال: ما رأيت مثل هذا الحسن وهذه النضارة، وما ذاك إلا من قلة الحزن، فقالت: يا عبد الله، والله إني ليذبحني الحزن ما يشركني فيه أحد، قال: وكيف؟ قالت: ذبح زوجي شاة مضحيًا، ولي صبيان يلعبان، فقال أكبرهما للأصغر: أريك كيف صنع أبي بالشاة؟ فعلَّقه فذبحه فما شعرنا به إلا متشحطًا فلما استعلت الضجة هرب الغلام ناحية الجبل فرهقه ذئب فأكله، ونحن لا نعلم، واتبعه أبوه يطلبه فمات عطشًا، فأفردني الدهر، قال: فكيف صبرك؟ قالت: # لو رأيت في الجزع مدركًا ما اخترت عليه([68]).
* امرأة تعظ الملك العاشق:
ذكر الحسين بن محمد الدامغاني: خرج بعض الملوك يتصيد وانفرد عن أصحابه، فمر بقرية فرأى امرأة جميلة فراودها عن نفسها، فقالت: إني غير طاهر فأتطهر وآتيك، فدخلت بيتها وخرجت إليه بكتاب فقالت: انظر في هذا حتى آتيك، فنظر فإذا فيه ما أعد الله للزاني من العقوبة فتركها وذهب.
فلما جاء زوجها أخبرته الخبر، فكره أن يقربها مخافة أن يكون للملك فيها حاجة فاعتزلها، فاستعدى عليه أهل الزوجة إلى الملك وقالوا: إن لنا أرضًا في يد الرجل فلا هو يعمرها ولا هو يردها علينا قد عطلها، فقال الملك: ما تقول؟ فقال: إني رأيت في هذه الأرض أسدًا وأنا أتخوف دخولها منه، ففهم الملك القصة فقال: اعمر أرضك فإن الأسد لا يدخلها، ونعم الأرض أرضك([69]).
***
* قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: (فكلما كثر البر والتقوى قوي الحسن والجمال، وكلما قوي الإثم والعدوان قوي القبح والشين، حتى ينسخ ذلك ما كان للصورة من حسن وقبح، فكم ممن لم تكن صورته حسنة، ولكن له من الأعمال الصالحة ما # عظم به جماله وبهاؤه، حتى ظهر ذلك على صورته؛ ولهذا يظهر ذلك ظهورًا بينا عند الإصرار على القبائح في آخر العمر عند قرب الموت؛ فنرى وجوه أهل السنة والطاعة كلما كبروا ازداد حسنها وبهاؤها، حتى يكون أحدهم في كبره أحسن وأجمل منه في صغره، ونجد وجوه أهل البدعة والمعصية كلما كبروا عظم قبحها وشينها، حتى لا يستطيع النظر إليها من كان منبهرًا بها في حال الصغر لجمال صورتها.
***
*فمن أسباب مضاعفة الحسنات، ورفعة الدرجات - بل هو أساسها وأصلها - صحة العقيدة، وقوة الإيمان.
وأهل السنة والجماعة أصح الناس عقيدة، وأقواهم إيمانًا، ولذلك فأعمالهم تضاعف مضاعفة كبيرة، ودرجاتهم ترفع وتعلوا علوًّا لا يدانيه أحد ولا يشاركهم فيه إلا من كان على مثل ما هم عليه من العقيدة والإيمان.
(ولهذا كان السلف يقولون: أهل السنة والجماعة إن قعدت بهم أعمالهم - قامت بهم عقائدهم، وأهل البدع إن كثرت أعمالهم قعدت بهم عقائدهم.
ووجه الاعتبار أن أهل السنة مهتدون، وأهل البدع ضالون، ومعلوم الفرق بين من يمشي على الصراط المستقيم وبين من هو #
منحرف عنه إلى طريق الجحيم)([70]).
***
* قال المزني - رحمه الله -: قرأت كتاب الرسالة على الإمام الشافعي ثمانين مرة فما من مرة إلا وكان يقف على خطأ، فقال الشافعي: هيه - أي حسبك واكفف - أبى الله أن يكون كتابًا صحيحًا غير كتابه.
***
* الحذر من العجب بالعلم والخيلاء فيه:
* قال وهب بن منبه([71]) إن العلم طغيانًا كطغيان المال.
* وقال مسروق([72]) بحسب الرجل من العلم أن يخشى الله - عز وجل - وبحسب الرجل من الجهل أن يعجب بعلمه.
* وقال أبو وهب([73]) المروزي: سألت ابن المبارك عن الكبر؟ فقالت: أن تزدري الناس، وسألته عن العجب؟ فقال: أن ترى أن عندك شيئًا ليس عند غيرك.
* وقال ابن عبد البر([74]): ومن أفضل آداب العالم تواضعه وترك الإعجاب بعلمه وبُعد حبَّ الرئاسة عنه. اهـ.#
* وقال البيهقي([75]): اعلم أن أصل الجاه حب انتشار الصيت والاشتهار وذلك خطر عظيم، والسلامة في الخمول، وأهل العلم لم يقصدوا الشهرة ولم يتعرضوا لها ولا لأسبابها، فإن وقعت من قبل الله - تعالى - فروا عنها وكانوا يؤثرون الخمول([76]).
والمذموم طلب الإنسان الشهرة، وأما وجودها من جهة الله - تعالى - من غير طلب الإنسان فليس بمذموم، غير أن في وجودها فتنة على الضعفاء، فإن مثل الضعيف كالغريق القليل الصنعة في السباحة إذا تعلق به أحد غرق وغرقه، فأما السابح النحرير فإن تعلق الغرقى به سبب لنجاتهم وخلاصهم. اهـ.
* وقال شيخ الإسلام([77]): الغرض هنا أن الله يبغض المختال الفخور البخيل به، فالبخيل به الذي منعه والمختال إما أن يختال فلا يطلبه ولا يقبله، وإما أن يختال على بعض الناس فلا يبذله، وهذا كثيرًا ما يقع عند بعض الناس أنه يبخل بما عنده من العلم ويختال به، وأنه يختال عن أن يتعدى عن غيره، وضد ذلك التواضع في طلبه وبذله، والتكرم بذلك. اهـ.
* قال الذهبي([78]): ومن طلب العلم للعمل كسره العلم، وبكى
على نفسه ومن طلب العلم للمدارس والإفتاء والفخر والرياء تحامق واختال وازدرى بالناس وأهلكه العجب، ومقتته الأنفس، و}قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا{ [الشمس: 9 - 10]، أي: دسسها بالفجور والمعصية. اهـ.
***
* الانقياد للعلم:
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما([79]) قال: قدم عيينة بن حصن فنزل على ابن أخيه الحرِّ بن قيس وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولا كانوا أو شبانًا، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس: فاستأذن الحر لعيينة فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى همَّ به فقال الحر: يا أمير المؤمنين، إن الله - تعالى - قال لنبيه: }خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ{ [الأعراف: 199]، وإن هذا من الجاهلين، فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافًا عند كتاب الله([80]).
وعن عبد الله بن عباس([81]) أن عمر بن الخطاب t خرج # إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام، قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين، فدعاهم، فاستشارهم، ثم قال: ادع لي الأنصار،فدعوتهم فاستشارهم، ثم قال: ادع لي من كان ههنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم له، فلم يختلف عليه منهم رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء، قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان غائبًا في بعض حاجاته فقال: إن عندي من هذا علمًا، سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه».
فحمد الله عمر ثم انصرف.
قال ابن عبد البر([82]): وفيه دليل عظيم ما كان عليه القوم من الإنصاف للعلم والانقياد، وكيف لا يكون كذلك وهم خير الأمم! اهـ.
***
* الحذر من حسد الأقران:
الحسد مركوز في طباع البشر، وهو أن يكون الإنسان يكره أن يفوقه أحد من جنسه في شيء من الفضائل.
والحسد هو ذنب إبليس عندما حسد آدم - عليه السلام - لما رآه قد فاق الملائكة بأن الله خلقه بيده، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء وأسكنه في جواره.#
وقد وصف الله اليهود بالحسد في مواضع من كتابه([83]).
* وقال شيخ الإسلام ابن تيمية([84]): وقد يبلى بعض المنتسبين إلى العلم وغيرهم بنوع من الحسد لمن هداه الله لعلم نافع أو عمل صالح، وهو خلق مذموم مطلقًا، وهو في هذا الموضع من أخلاق المغضوب عليهم. اهـ.
ويقع بين العلماء وطلبة العلم من الحسد ما يحصل به بغي بعضهم على بعض، فتجد أحدهم يحمل ما قاله الآخر من كلام محتمل لحق وباطل على الباطل، وينال منه بسبب ذلك ويأمر بهجره، مع أن قرينه لم يرد إلا الحق كما هو معلوم من سيرته وعقيدته.
***
* قال علي بن أبي طالب t([85]): لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه وقد رأيت رسول الله ﷺ يمسح على ظاهر خُفيه.
* وقال الشعبي([86]): ما حدثوك هؤلاء عن النبي ﷺ فخذه، وما قالوه برأيهم فألقه في الحش.#
* وقال حماد بن زيد([87]) قال لي أيوب: لو جئت حتى تنظر في شيء من الرأي؟ قال: قلت: نعم، قال: فسكت سكتة ثم قال: قيل للحمار: ما لك لا تجتر؟ قال: أكره مضغ الباطل.
***
* وقال الإمام شمس الدين ابن قيم الجوزية، في كتابه (الوابل الصيب من الكلم الطيب) (سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - يقول: إن في الدنيا جنة - يعني بها: جنة الإيمان وبما جاء به رسول الله ﷺ - من لم يدخلها - أي يتصف بها في الدنيا - لا يدخل جنة الآخرة.
وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري - يعني بذلك: إيمانه وعلمه - أين رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.
وكان يقول في محبسه في القعلة: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهبًا ما عدل عندي شكر هذه النعمة، أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير.
وكان يقول في سجوده وهو محبوس: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، ما شاء الله وقال لي مرة: المحبوس من #
حبس قلبه عن ربه - تعلى -، والمأسور من أسره وهواه، ولما دخل القلعة وصار من داخل سورها، نظر إليه وقال: }فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ{ [الحديد: 13].
***
* قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: (فإن للصدقة تأثيرًا عجيبًا في دفع البلاء، ولو كانت من فاجر أو ظالم بل من كافر، فإن الله يدفع بها عنه أنواعًا من البلاء، وهذا أمر معلوم عند الناس خاصتهم وعامتهم، وأهل الأرض كلهم مقرون به لأنهم جربوه).
* وقال أيضًا: (وقد دل النقل والفطرة وتجارب الأمم - على اختلاف أجناسها ومللها ونحلها - على أن التقرب إلى الله رب العالمين، وطلب مرضاته، والبر والإحسان إلى خلقه من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير، وأضدادها من أكبر الأسباب الجالبة لكل شر؛ فما استجلبت نعم الله - تعالى - واستدفعت نقمة بمثل طاعته والتقرب إليه والإحسان إلى خلقه).
* وقال أيضًا: (من رفق بعباد الله رفق الله به، ومن رحمهم رحمه، ومن أحسن إليهم؛ أحسن إليه، ومن جاد عليهم؛ جاد عليه، ومن نفعهم نفعه، ومن سترهم ستره، ومن منعهم خيره، منعه خيره، ومن عامل خلقه بصفة؛ عامله الله - تعالى - بتلك الصفة بعينها في الدنيا والآخرة، فالله تعالى لعبده حسب ما يكون العبد لخلقه).#
* وقال رحمه الله: فإن الصدقة تفدي من عذاب الله تعالى؛ فإن ذنوب العبد وخطاياه تقتضي هلاكه، فتجيء الصدقة تفديه من العذاب، وتفكه منه؛ ولهذا قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح لما خطب النساء يوم العيد: «يا معشر النساء، تصدقن ولو من حليكن فإني رأيتكن أكثر أهل النار» وكأنه حثهن ورغبهن على ما يفدين به أنفسهن من النار.
* وقال أيضًا: (والمتصدق كلما تصدق بصدقة انشرح لها قلبه، وانفسح لها صدره).
* وقال عبد العزيز بن عيمر: (الصلاة تبلغك نصف الطريق، والصوم يبلغك باب الملك، والصدقة تدخلك عليه).
* وقال عبيد بن عيمر: (يحشر الناس يوم القيامة أجوع ما كانوا قط، وأعطش ما كانوا قط، فمن أطعم لله أشبعه الله، ومن سقى لله سقاه الله، ومن كسا لله كساه الله).
***
* وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: والله - سبحانه - جعل مما يعاقب به الناس علىالذنوب سلب الهدى والعلم النافع، كقوله: }وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ{ [النساء: 155]، وقال: }وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ{ [البقرة: 88]، وقال: }وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ{ [الأنعام: 109 - 110]، وقال: }فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ# اللَّهُ مَرَضًا{ [البقرة: 10]، وقال: }فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ{ [الصف: 5]([88]).
* عن يزيد بن أبي حبيب t قال: من فتنة العالم أن يكون الكلام أحب إليه من الاستماع وإن وجد من يكفيه فإن في الاستماع سلامة وزيادة في العلم، والمستمع شريك المتكلم في الكلام، إلا من عصم الله ترمق وتزيد وزيادة ونقصان([89]).
***
* الأسباب التي تسقط عقوبة السيئات([90]):
وتسقط عقوبة جهنم عن فاعل السيئات بنحو عشرة أسباب:
1- التوبة: قال تعالى: }إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا{ [الفرقان: 70] وكون التوبة سببًا لغفران الذنوب وعدم المؤاخذة بها لا خلاف فيه بين الأمة، وليس هناك من سبب لمغفرة جميع الذنوب؛ إلا التوبة.
قال تعالى: }قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ{ [الزمر: 53].
2 - الاستغفار: قال تعالى: }وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ{ [الأنفال: 33].
***
* العلاقة بين الاستغفار والتوبة:
وكل واحد من الاستغفار والتوبة يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق، وأما عند اقتران أحد اللفظين بالآخر؛ فالاستغفار: # طلب وقاية شر ما مضى، والتوبة: الرجوع وطلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله.
3 - الحسنات: فإن الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بواحدة، والويل لمن تغلب آحاده عشراته.
قال تعالى: }إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ{ [هود: 114].
وقد روى أبو ذر عن رسول الله ﷺ؛ قال: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة؛ تمحها، وخالق الناس بخلق حسن»([91]).
4 - المصائب الدنيوية: عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي ﷺ؛ قال: «ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا، غم حتى الشوكة يشاكها؛ إلا كفر الله بها من خطاياه»([92]).
5 - عذاب القبر:
6 - دعاء المؤمنين واستغفارهم: في الحياة وبعد الممات.
7 - ما يهدي إليه بعد موته: من ثواب صدقة أو حج ونحو ذلك.
8 - أهوال يوم القيامة وشدائده: ابتلاء الله للعبد في عرصات يوم القيامة: فقد ثبت في الصحيحين: «أن المؤمنين إذا عبروا الصراط؛ وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هذبوا ونقوا؛ أذن لهم في دخول الجنة».
9 - شفاعة النبي ﷺ:
10 - عفو أرحم الراحمين - سبحانه وتعالى -.
***#
* استواء الله على عرشه:
من المعلوم الذي لا يحيد عنه مسلم بأن الله مستو على عرشه - استواء يليق بجلاله وبعظمته -سبحانه وتعالى-، بائن من خلقه، بالكيفية التي يعلمها هو -سبحانه-؛ كما قال مالك -رحمه الله-: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة).
وقد ذكر - سبحانه - أنه مستو على عرشه، علي على خلقه، في سبعة مواضع من كتابه([93]).
والعبارات التي تدور عليها تفاسير السلف للاستواء أربع عبارات وهي: استقر، وعلا، وصعد، وارتفع، ومعناها واحد.
***
* أقوال مأثورة:
* قال حذيفة t: (القلوب أربعة: قلب أغلف؛ فذلك قلب الكافر، وقلب مصفح، وذلك قلب المنافق، وقلب أجرد فيه سراج يزهر؛ فذلك قلب المؤمن، وقلب فيه إيمان ونفاق؛ فمثل الإيمان فيه كمثل شجرة يمدها ماء طيب، ومثل المنافق مثل قرحة يمدها قيح ودم، فأيهما غلب عليه؛ غُلب)([94]).
* قال سعيد بن جبير t: (إن العبد ليعمل الخطيئة فيدخل بها الجنة، ويعمل الحسنة فيدخل بها النار).#
قالوا: كيف؟! قال: (يعمل الخطيئة، فلا تزال نصب عينيه: إذا ذكرها؛ ندم، وتضرع إلى الله، وبادر إلى محوها، وانكسر وذل لربه، وزال عنه عجبه وكبره، ويعمل الحسنة، فلا تزال نصب عينيه؛ يراها ويمنُّ بها، ويعتد بها، ويتكبر بها، حتى يدخل بها النار([95]).
* روى ابن جريج عن عطاء - رحمه الله -؛ قال: (إن الرجل ليحدثني بالحديث، فأنصت له كأني لم أسمعه، وقد سمعته قبل أن يولد).
وتراه يصغي للحديث بسمعه | ||
وبقلبه ولعله أدرى به([96]) | ||
قال ابن عساكر - رحمه الله تعالى -: (اعلم يا أخي وفقنا الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته: أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في حق هتك أستار ومنتقصهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب؛ ابتلاه الله قبل موته بموت القلب؛ }فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ{ [النور: 63]([97]).
***
* قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
ومن له في الأمة لسان صدق عام بحيث يثني عليه ويحمد في جماهير أجناس الأمة فهؤلاء أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، وغلطهم قليل بالنسبة إلى صوابهم، وعامته من موارد الاجتهاد التي يعذرون فيها، وهم الذين يتبعون العلم والعدل فهم بعداء عن الجهل والظلم، وعن اتباع الظن وما تهوى الأنفس([98]).
***
* قال هلال بن العلاء: يستدل على عقل الرجل بعد موته بكتب صنفها وشعر قاله.؟
* وقال أبو عمرو بن العلاء: الإنسان في فسحة من عقله، وفي سلامة من أفواه الناس ما لم يضع كتابًا أو يقل شعرًا.
* وقال العتابي: من صنع كتابًا فقد استشرف للمدح والذم، فإن أحسن فقد استهدف للحسد والغيبة، وإن أساء فقد تعرض للشتم، واستقذف بكل لسان.
* وقال إبراهيم بن العباس الصولي: (المتصفح للكتاب أبصر بمواقع الخلل فيه من منشئه).
***
* سئل شيخ الإسلام ابن تيمية: أيهما أنفع للعبد التسبيح أم الاستغفار؟#
فأجاب: إذا كان الثوب نقيًّا فالبخور وماء الورد أنفع له وإن كان دنسًا فالصابون والماء الحار أنفع، فالتسبيح بخور الأصفياء والاستغفار صابون العصاة.
***
* عن علاقة السلطان بالدين يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إن السلطان والدين توأمان فالدين أصل والسلطان حارس، وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع.
***
* قال ابن تيمية - قدس الله روحه -: ومن العلوم علوم لو علمها كثير من الناس لضرهم ذلك، ونعوذ بالله من علم لا ينفع، وليس اطلاع كثير من الناس بل أكثرهم على حكمة الله في كل شيء نافعًا لهم، بل قد يكون ضارًّا قال تعالى: }لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ{ [المائدة: 101].
***
* ومن لا يصانع في أمور كثيرة | ||
يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم | ||
***
ومن نكد لدنيا على الحر أن يرى | ||
عدوا له ما من صداقته بد | ||
***
فما زادنا تخرا على ذي قرابه | ||
غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقر | ||
* القاضي علي عبد العزيز الجرجاني:
ما تطعمت لذة العيش حتى | ||
صرت للبيت والكتاب جليسًا | ||
ليس شيء عندي أعز من العلم | ||
فما أبتغي سواه أنيسًا | ||
إنما الذل في مخالطة الناس | ||
فدعهم وعش عزيزًا رئيسًا | ||
***
* قال ابن مسعود: أفرس الناس ثلاثة: صاحب مصر حين قال: }أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا{ [يوسف: 23]، وابنة شعيب حين قالت: }يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ{ [القصص: 26]، وأبو بكر حين استخلف عمر.
***
* ولو كان سهمًا واحدًا لاتقيته | ||
ولكنه سهم وثان وثالث | ||
***
* قال ابن رجب في القواعد الفقهية: (يأبى الله العصمة لكتاب غير كتابه والمنصف من اغتفر قليل الخطأ المرء في كثير صوابه).
***
* كان الحسن البصري يقول: وإن هملجت([99]) بهم البراذين وطقطقت بهم البغال، فإن ذل المعصية في رقابهم، أبى الله إلا أن # يذل من عصاه.
***
* أوردها سعد وسعدُ مشتمل | ||
ما هكذا يا سعد تورد الإبل | ||
***
وأنت امرؤ فينا خلقت لغيرنا | ||
حياتك لا نفع وموتك فاجع | ||
***
* قال إبراهيم النخعي: ليس من كمال المروءة كثرة الالتفات في الطريق([100]).
* قال ابن تيمية: ومذهب أهل السنة أنه لا إثم على من اجتهد، وإن أخطأ([101]).
***
* قال الشافعي - رحمه الله تعالى -: ما من أحد من المسلمين يطيع الله ولا يعصيه، ولا أحد يعصي ولا يطيعه، فمن كانت طاعته أغلب من معاصيه فهو عدل.
***
*حلبنا الدهر اشطره ومرت | ||
بنا عقب الشدائد والرخاء | ||
وجربنا وجرب أولونا | ||
فلا شيء أعز من الوفاء | ||
***
بشراك قد جاء الإله وأنعما | ||
والدهر من بعد العبوس تبسما | ||
***
* قال إبراهيم: ما من قرية إلا وفيها من يدفع عن أهلها به وإني لأرجو أن يكون أبو وائل منهم (الأسود بن يزيد)([102]).
فما سبتني قبل اليوم غانية | ||
ولا دعاني إلى الفحشاء فجار | ||
***
* قال عيسى عليه السلام: لا يحزنك قول الناس فيك، فإن كان كاذبًا كانت حسنة لم تعملها، وإن كان صادقًا كانت سيئة عجلت عقوبتها([103]).
***
* قال شيخ الإسلام ابن تيمية: كل عاصي لله فهو جاهل، وكل خائف منه فهو عالم مطيع لله، وإنما يكون جاهلا لنقص خوفه من الله إذ لو تم خوفه من الله لم يعصه([104]).
***#
* قال الحسن: أبي قوم المداومة، والله ما المؤمن بالذي يعمل شهرًا أو شهرين أو عامًا أو عامين لا والله ما جعل لعمل المؤمن أجلا دون الموت([105]).
***
* من كلام لسماحة الشيخ ابن باز: من يقول: حلق اللحية وتقصير الثوب قشور، هذا كلام خطر وليس في الدين قشور بل كله لب وإصلاح وينقسم إلى أصول وفروع، ومسألة اللحية من الفروع لكن لا يجوز أن يسمى شيء من أمور الدين قشورًا ويخشى على من قال هذا الكلام مستهزئ أن يرتد بذلك عن دينه - عياذًا بالله -.
***
* قال الإمام الغزالي: أيها الولد إن معنى التربية يشبه عمل الفلاح الذي يقلع الشوك، ويخرج النباتات الأجنبية من بين الزرع ليحسن نباته ويكمل ريعه([106]).
***
* يقول ابن القيم رحمه الله: على قدر نية العبد وهمته ومرارته ورغبته في معالي الأمور يكون توفيقه - سبحانه - وإعانته فالمعونة من الله تنزل على العباد على قدر همهم ونياتهم ورغبتهم ورهبتهم والخذلان ينزل عليهم أيضًا على حسب عكس ذلك، فالله سبحانه أحكم الحاكمين وأعلم العالمين يضع التوفيق في مواضعه اللائقة به، ويضع الخذلان في مواضعه اللائقة به بعد العلم الحكيم وما أوتي من أوتي إلا من قبل إضاعة الشرك وإهمال الافتقار والدعاء.
ولا ظفر من ظفر بمشيئة الله وعونه لا بقيامه الشكر وصدق الافتقار والدعاء وملاك ذلك كله الصبر.
***
* قال الحسن: يا ابن آدم ترك الخطيئة أيسر من طلب التوبة([107]).
***
* قال الفضيل: ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص: أن يعافيك الله منهما.
***
* قال ابن القيم: (مثل القلب مثل الطائر، كلما علا: بعد عن الآفات وكلما نزل: احتوشته الآفات).
***
* لا دار للمرء بعد الموت يسكنها | ||
إلا التي كان قبل الموت يبنيها | ||
فإن بناها بخير طاب مسكنها | ||
وإن بناها بشر خاب بانيها | ||
***
* ما أنت إلا كزرع عند خضرته | ||
بكل شيء من الآفات مقصود | ||
فإن سلمت من الآفات أجمعها | ||
فأنت عند كمال الأمر محصود | ||
***
* قيل للحسن البصري: ما سر زهدك في الدنيا؟
فقال: علمت بأن رزقي لن يأخذه غيري فاطمأن قلبي له، وعلمت بأن عملي لا يقوم به غيري فاشتغلت به، وعلمت أن الله مطلع علي فاستحييت أن أقابله على معصية، وعلمت أن الموت ينتظرني فأعددت الزاد للقاء الله.
***
* قال ابن الوردي:
لا تقل أصلي وفصلي أبدًا | ||
إنما أصل الفتى ما قد حصل | ||
* وقال الشاعر:
الفخر فيمن عدد الحسنات لا | ||
من عدد الأعمام والأخوالا | ||
* وقال آخر:
ليس الفتى من قال كان أبي | ||
إن الفتى من قال ها أنذا | ||
***
* قال أبو سليمان الخطابي في خاتمة كتابه (غريب الحديث): (وكل من عثر منه على حرف أو معنى يجب تغييره؛ فنحن نناشده الله في
إصلاحه، وأداء حق النصيحة فيه؛ فإن الإنسان ضعيف، لا يسلم من الخطأ...).
كتبته مجتهدًا | ||
وليس يخلو من غلط | ||
فقل لمن قد لامني | ||
من ذا الذي ما ساء قط | ||
***
* قال عبد الرحمن بن مهدي: (من يبرئ نفسه من الخطأ؛ فهو مجنون)([108]).
***
* من درر ابن تيمية: إذا لم تجد للعمل حلاوة في قلبك وانشراحًا فاتهمه، فإن الرب تعالى شكور، يعني أنه لا بد أن يثيب العامل على عمله في الدنيا من حلاوة يجدها في قلبه، وقوة انشراح وقرة عين فحيث لم يجد ذلك فعمله مدخول.
***
* قال ابن تيمية - رحمه الله -:
والأعمال ثوابها ليس لمجرد صورها الظاهرة بل لحقائقها التي في القلوب، والناس يتفاضلون في ذلك تفاضلا عظيمًا.
***#
* قال ابن تيمية - رحمه الله -:
فعل الحسنات له آثار محمودة في النفس وفي الخارج، وكذلك السيئات، والله تعالى جعل الحسنات سببًا لهذا والسيئات سببًا لهذا، كما جعل أكل السم سببًا للمرض والموت، وأسباب الشر لها أسباب تدفع بمقتضاها، فالتوبة والأعمال الصالحة يمحى بها السيئات، والمصائب في الدنيا تكفر بها السيئات.
* قال ابن تيمية - رحمه الله -:
الجاهل في كلامه على الأشخاص والطوائف والمقالات بمنزلة الذباب الذي لا يقع إلا على العقر ولا يقع على الصحيح والعاقل يزن الأمور جميعًا هذا وهذا.
***
* قال الإمام ابن الجوزي - رحمه الله -:
(اللهم لا تعذب لسانًا يخبر عنك ولا عينا تنظر إلى علوم تدل عليك، ولا قدمًا تمشي إلى خدمتك، ولا يدًا تكتب حديث رسولك فبعزتك لا تدخلني النار، فقد علم أهلها أني كنت أذب عن دينك).
***
* قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:
لعن الفاسق المعين لا يجوز، وإنما جاء الشرع بلعن الأنواع مثل: لعن الله الظالمين، لعن الله من غير منار الأرض ونحو ذلك، ونحن #
نعلم أن أكثر المسلمين لا بد لهم من ظلم، فإن فتح هذا الباب ساغ أن يلعن أكثر موتى المسلمين، والله - تعالى - أمر بالصلاة على موتى المسلمين وبالدعاء بالمغفرة والرحمة لعموم المؤمنين، لم يأمر بلعنتهم، فمن لعن أحدًا من المسلمين فقد ترك المأمور وفعل المحظور، وخصوصًا الأموات فإن لعنهم أعظم من لعنة الأحياء كما قال ﷺ: «لا تسبوا الأموات فإنهم أفضوا إلى ما قدموا».
***
* قال ابن تيمية - رحمه الله -:
وأصحاب النبي ﷺ، ولله الحمد، من أصدق الناس حديثًا عنه، لا يُعرف منهم من تعمد عليه كاذبًا مع أنه يقع من أحدهم من الهنات ما يقع، ولهم ذنوب وليسوا معصومين، ومع هذا فقد جرب أصحاب النقد والامتحان أحاديثهم واعتبروها بما يعتبر به الأحاديث، فلم يوجد عن أحد منهم تعمُّد كذبة بخلاف من بعدهم فإنهم لا يساويهم ولا يقاربهم أحد رضي الله عنهم، ولهذا كان الصحابة كلهم ثقات باتفاق أهل العلم بالحديث والفقه حفظًا من الله لهذا الدين.
ولم يتعمد أحد الكذب على رسول الله ﷺ إلا هتك الله ستره وكشف أمره، وقد كان التابعون بالمدينة ومكة والشام والبصرة لا يكاد يعرف فيهم كذاب، لكن الغلط لم يسلم منه بشر.
***
* قال ابن تيمية - رحمه الله -:
والعقوبات الشرعية إنما شرع رحمة من الله بعباده، فهي صادرة عن رحمة الخالق وإرادة الإحسان إليهم، ولهذا ينبغي لمن يعاقب الناس على ذنوبهم أن يقصد بذلك الإحسان إليهم والرحمة لهم كما يقصد الوالد تأديب ولده، وكما يقصد الطبيب معالجة المريض.
***
* وقال - رحمه الله -:
ويجري القصاص في اللطمة والضربة ونحو ذلك.
***
* وقال - رحمه الله -:
وغلظ المعصية وعقابها بقدر فضيلة الزمان والمكان، والكبيرة الواحدة لا تحبط جميع الحسنات لكن قد تحبط ما يقابلها.
***
* وقال - رحمه الله -:
والتعزيز يكون على فعل المحرمات وترك الواجبات.
***
* الأولاد زينة الحياة الدنيا، وقرة عين الآباء قال تعالى: }الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا{ [الكهف: 46]، وقال تعالى: }رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ{ [الفرقان: 74]، وهذا في الحياة الدنيا، وأما في الآخرة فهم ريحانة الآباء في الجنة قال ﷺ: «الولد من ريحان الجنة»
رواه الحكيم الترمذي عن خولة بنت حكيم بسند ضعيف، ويستحب طلبهم من الله - تعالى - فقد حكى القرآن عن زكريا - عليه السلام -: }وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا{ [مريم: 5 - 6]، وقال - تعالى - في حكمة مباشرة النساء: }فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ{ [البقرة: 187]، فعن مجاهد والحكم وعكرمة والحسن البصري والسدي والضحاك: هو الولد وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هو الولد وفي الحديث: «ألا تدعو عليهم يا رسول الله، قال: لا، لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئًا».
***
* وبعض الناس إذا أخطأ قريبه أو صاحبه لم يكن إنكاره عليه مثل إنكاره على من لا يعرفه وربما ظهر تحيز وتمييز غير شرعي في المعاملة بسبب ذلك، بل ربما تغاضى عن خطأ صاحبه وشدد في خطأ غيره.
وعين الرضا عن كل عيب كليلة | ||
كما أن عين السخط تبدي المساويا | ||
***
* قال ابن القيم - رحمه الله -:
وقد ذكر في مناقب (الفضيل بن عياش) أنه ضحك يوم موت ابنه علي، فسئل عن ذلك فقال: إن الله - تعالى - قضى بقضاء فأحببت أن أرضى بقضائه، وهدي رسول الله أكمل وأفضل، فإنه جمع بين الرضا بقضاء الله - تعالى - وبين رحمة الطفل؛ فإنه لما قال له سعد بن عبادة: ما هذا يا رسول الله؟ قال: «هذه رحمة، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء».
والفضيل ضاق عن الجمع بين الأمرين فلم يتسع للرضا بقضاء الرب وبقاء الرحمة للولد، هذا جواب شيخنا سمعته منه([109]).
***
* قال ابن القيم - رحمه الله -:
الحادية والستون (من فضائل الذكر) أن الذكر يعطي الذاكر قوة حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لا يطيق فعله بدونه.
وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - في مشيته وكلامه وإقدامه وكتابته أمرًا عجيبًا، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة أو أكثر، وقد شاهد العسكر من قوته في الحرب أمرًا عظيمًا إلى أن قال:
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يذكر أثرًا في هذا الباب، ويقول: إن الملائكة لما أمروا بحمل العرش قالوا: يا ربنا كيف نحمل عرشك وعليه عظمتك وجلالك، فقال: قولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله، فلما قالوها حملوه([110]).
***#
* وقال ابن القيم: وحضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر ثم جلس يذكر الله - تعالى - إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفت إليَّ وقال: هذه غدوتي، ولو لم أتغد هذا الغداء لسقطت قوتي، أو كلامًا قريبًا من هذا.
***
* الأسباب لشرح الصدر أمور: قوة التوحيد، والهدى والنور الذي يقذفه الله بقلب العبد، والعلوم النافعة، والإنابة إلى الله - تعالى -، ودوام ذكر الله، والإحسان إلى الخلق والشجاعة، وإخراج دغل القلب، وترك فضول النظر والكلام، والاستماع والمخالطة والأكل والنوم، وأضداد هذه الصفات سبب الهم والغم والضيق والحصر، ولنبينا محمد ﷺ من هذه الصفات الكاملة وغيرها أعلاها وأكملها، ولأتباعه منها بحسب اتباعهم له... وبالله التوفيق.
***
* قال ابن القيم - رحمه الله -:
ما أخذ العبد ما حرم عليه إلا لسوء ظنه بالله، أو لعدم صبره.
التوحيد مفزع أعدائه وأوليائه، فأما أعداؤه فينجيهم من كرب الدنيا وشدائدها، وأما أولياؤه فينجيهم من كرب الدنيا والآخرة وشدائدها، فلا يلقي في الكرب العظام إلا الشرك ولا ينجي منها إلا التوحيد([111]).#
* قال ابن تيمية - رحمه الله -:
الصبر على أداء الطاعات أكمل من الصبر على اجتناب المحرمات وأفضل؛ فإن مصلحة فعل الطاعة أحب إلى الشارع من مصلحة ترك المعصية، ومفسدة عدم الطاعة أبغض إليه وأكره من مفسدة وجود المعصية.
***
* قال ابن القيم قال لي شيخ الإسلام - رحمه الله - مرة: العوارض والمحن هي كالحر والبرد؛ فإذا علم العبد أنه لا بد منهما لم يغضب لورودهما، ولم يغتم لذلك، ولم يحزن([112]).
***
* وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: لا بد للسالك إلى الله من همة تسيره وترقيه، وعلم يبصره ويهديه([113]).
* وقال العارف: يسير إلى الله - عز وجل - بين مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس([114]).
***
* قال ابن القيم - رحمه الله -: وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - يقول: العارف لا يرى له على أحد حقًّا، ولا يشهد له على غيره فضلا، ولذلك لا يعاتب، ولا يطالب، ولا يضارب.#
ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - من ذلك أمرًا لم أشاهده من غيره، وكان يقول كثيرًا: ما لي شيء، ولا مني شيء، ولا في شيء، وكان كثيرًا ما يتمثل بهذا البيت:
أنا المكدي وابن المكدي | ||
وهكذا كان أبي وجدي | ||
وكان إذا أثنى عليه في وجهه يقول: والله إني إلى الآن أجدد إسلامي كل وقت، وما أسلمت بعد إسلامًا جيدًا.
***
* ويقول: أعظم الكرامة لزوم الاستقامة([115]).
***
* قال ابن القيم - رحمه الله -: ورأيت شيخ الإسلام - قدس الله روحه - في المنام وكأني ذكرت له شيئًا من أعمال القلب، وأخذت في تعظيمه، منفعته - لا أذكره الآن - فقال: أما أنا فطريقتي: الفرح بالله والسرور به أو نحو هذا من العبارة.
وهكذا كانت حاله في الحياة يبدو ذلك على ظاهره، وينادي به عليه حاله([116]).
***
* وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة.#
* عن الحسن البصري t قال: كانوا يقولون: موت العالم ثَلَمَةٌ في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار([117]).
***
* قال الإمام محمد بن شهاب الزهري - رحمه الله -: (ما عبد الله بمثل الفقه)([118]).
***
* وهذا الأعمش لم تفته التكبيرة الأولى من سبعين سنة، كما قال وكيع([119]).
وقال سفيان الثوري t لرجل من العرب، (ويحكم، اطلبوا العلم، فإني أخاف أن يخرج العلم من عندكم فيصير إلى غيركم، فتذلوا، اطلبوا العلم فإنه شرف في الدنيا، شرف في الآخرة([120]).
***
* وروى الحافظ الدارمي في (سننه)([121])، والخطيب البغدادي في (الرحلة في طلب الحديث)، بسندهما إلى التابعي الجليل أبي قلابة (عبد الله بن زيد) الجرمي البصري أحد الأعلام، المتوفى سنة 104 هـ # رحمه الله تعالى، أنه قال: (أقمت في المدينة ثلاثة أيام ما لي بها حاجة إلا قدوم رجل بلغني عنه الحديث، فبلغني أنه يقدم فأقمت حتى قدم فحدثني به).
***
* وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، قال: سمعت مكحولا يقول: طُفت الأرض كلها في طلب العلم، وقال سعيد بن عبد العزيز: قال مكحول: ما سمعت شيئًا فاستودعته صدري، إلا وجدته حين أريده)([122]).
***
* قال سفيان الثوري: (لو رأيتني ولي عشر سنين، طولي خمسة أشبار ووجهي كالدينار، وأنا كشعلة نار، ثيابي صغار، وأكمامي قصار، وذيلي بمقدار، ونعلي كآذان الفأر، أختلف إلى علماء الأمصار، كالزهري وعمر بن دينار، أجلس بينهم كالمسمار، محبوتي كالجوزة، ومقلمتي كالموزة، وقلمي كاللوزة، فإذا أتيت قالوا: وسعوا للشيخ الصغير ثم ضحك)([123]).
***
* قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: (لا ينبغي لمن عنده شيء من العلم أن يضيع نفسه)([124])، وقد روى هذا الأثر عن عمر بن # الخطاب t:
***
* تساقوا كؤوس العلم في روضة التقى | ||
فكلهم من ذلك الري لا يظما | ||
نفوس على لفظ الجدال قد انطوت | ||
فنبصرها حربًا ونعقلها سلمًا | ||
وما ذاك من جهل بهم غير أنهم | ||
لهم أسهم شتى تنكبت المرمي | ||
أولئك مثل الطيب كل له شذى | ||
ومجموعه أذكى أريجًا إذا شما | ||
ثم يقول بعد إنشاده: كانت تلك المجالس عسلا بمثلهم فتعلقمت بمثلنا!
***
* الإمام النووي - رحمه الله تعالى -، في المقدمة الحافلة لكتابه العظيم، (المجموع)([125])، في (باب آداب المتعلم): قال الشافعي - رحمه الله تعالى -: لا يطلب أحد هذا العلم بالملك وعز النفس فيفلح، ولكن من طلبه بذل النفس، وضيق العيش، وخدمة العلماء أفلح، وقال أيضًا: لا يدرك العلم إلا بالصبر على الذل، وقال أيضًا: لا يصلح طلب العلم إلا لمفلس، فقيل: ولا الغني المكفي؟ قال: ولا الغني المكفي.#
* وقال ابن عباس رضي الله عنهما (تدارس العلم ساعة من الليل خير من إحيائها، وفي رواية تذاكر العلم بعض ليلة أحب إلي من إحيائه)([126]).
وقال الإمام الشافعي t: (طلب العلم أفضل من صلاة النافلة)([127]).
***
* قال الإمام مالك - رحمه الله تعالى -: أدركت بهذه البلدة - يعني المدينة - أقوامًا ليس لهم عيوب فعابوا الناس فصارت لهم عيوب، وأدركت بهذه البلدة أقوامًا كانت لهم عيوب فسكتوا عن عيوب الناس فنسيت عيوبهم، الإعلان بالتوبيخ للسخاوي 106 في الخاتمة.
***
* قال ابن القيم - رحمه الله -:
أنزه الموجودات وأظهرها وأنورها وأشرفها وأعلاها ذاتًا وقدرًا وأوسعها عرش الرحمن جل جلاله، ولذلك صلح لاستوائه عليه، وكل ما كان أقرب إلى العرش كان أنور وأنزه وأشرف مما بعده عنه، ولهذا كانت جنة الفردوس أعلى الجنان وأشرفها وأنورها وأجلها لقربها من العرش إذ هو سقفها، وكل ما بعد عنه كان أظلم #
وأضيق، ولهذا كان أسفل سافلين شر الأمكنة وأضيقها وأبعدها من كل خير([128]).
***
* وقال الحافظ ابن أبي حاتم الرازي في (تقدمة الجرح والتعديل)([129])، وفي ترجمة أبيه (الإمام أبي حاتم محمد بن إدريس الرازي): سمعت أبي يقول: بقيت بالبصرة في سنة أربع عشرة ومائتين: ثمانية أشهر، وكان في نفسي أن أقيم سنة، فانقطعت نفقتي، فجعلت أبيع ثياب بدني شيئًا بعد شيء، حتى بقيت بلا نفقة، ومضيت أطوف مع صديق لي إلى المشيخة، وأسمع منهم إلى المساء، فانصرف رفيقي ورجعت إلى بيت خال، فجعلت أشرب الماء من الجوع!).
***
* وجاء في (تهذيب التهذيب)([130])، في ترجمة الحافظ الجوال (يعقوب بن سفيان الفارسي) الفسوي، المولود قبل سنة 200، والمتوفى سنة 277 - رحمه الله تعالى -: (قال أبو عبد الرحمن النهاوندي: سمعت يعقوب بن سفيان يقول: كتبت عن ألف شيخ وكسر، كلهم ثقات، وقال ابن حمزة: قال لي يعقوب بن سفيان: #
أقمت في الرحلة ثلاثين سنة).
وسيأتي خبر إملاقه في رحلته وفقده بصره.
***
* وجاء في (تذكرة الحفاظ)([131])، في ترجمة (حجاج بن الشاعر): (هو الحافظ الأوحد المأمون، أبو محمد حجاج بن سويف بن حجاج الثقفي البغدادي، روى عنه أبو داود ومسلم وبقي بن مخلد وأبو يعلى وابن أبي حاتم وخلق، ومات في سنة 259 - رحمه الله تعالى -.
قال صالح جزرة: سمعت حجاج بن الشاعر يقول: جمعت لي أمي مائة رغيف، فجعلتها في جراب وانحدرت إلى شبابة بالمدائن، فأقمت مائة يوم ببابه، أجيء بالرغيف أغمسه في دجلة وآكله فلما نفدت خرجت!).
***
* وقال الحافظ ابن كثير في (البداية والنهاية)([132])، في ترجمة الإمام (البخاري) محمد بن إسمعيل المولود سنة 194، والمتوفى سنة 256 - رحمه الله تعالى -، أمير المؤمنين في الحديث، وصاحب الفضل على الناس، إلى يوم الناس: (رحل إلى سائر مشايخ الحديث في البلدان التي أمكنته الرحلة إليها، وكتب عن أكثر من ألف شيخ، قال الفربري: سمع (الصحيح) من البخاري معي نحو # من سبعين ألفًا، لم يبق منهم أحد غيري).
***
* وهذا الإمام مالك إمام دار الهجرة النبوية، المولود سنة 95، والمتوفى سنة 179 t ألم به الفقر حتى باع خشب سقف بيته، قال القاضي عياض شيخ المالكية في عصره في كتابه (ترتيب المدارك لمعرفة أعلام مذهب مالك) في (باب ابتداء طلب مالك للعلم وصبره علي)([133]).
(قال ابن القاسم: أفضى بمالك طلب العلم إلى أن نقض سقف بيته فباع خشبة! ثم مالت عليه الدنيا بعد)، ثم نقل القاضي عياض([134]): (قال مالك: لا ينال هذا الأمر - يعني العلم - حتى يذاق طعم الفقر).
***
* وقال الحافظ الذهبي في (تذكرة الحفاظ)([135])، في ترجمة (الإمام الحافظ الجوال أبي علي الحسن بن علي البلخي الوخشي)، المتوفى ببلخ سنة 471 - رحمه الله تعالى -: (قال الوخشي يومًا: سمعت ورحلت وقاسيت المشاق، والذل، ورجعت إلى وخش - وخش قرية من أعمال بلخ -، وما عرف أحد قدري، ولا فهم ما حصلته!#
فقلت: أموت ولا ينتشر ذكري، ولا يترحم أحد علي، فسهل الله ووفق نظام الملك، حتى بنى هذه المدرسة - في وخش - وأجلسني فيها حتى أحدث.
لقد كنت بعسقلان أسمع من ابن مصحح وغيره، فضاقت علي النفقة، وبقيت أيامًا بلا أكل، فأخذت لأكتب فعجزت! فذهبت إلى دكان خباز، وقعدت بقربه لأشم رائحة الخبز وأتقوى بها! ثم فتح الله علي).
***
* وقال الدكتور محمد فؤاد سزكين في كتابه (تاريخ التراث العربي)([136])، في ترجمة (بقي بن مخلد): (وقام بقي بن مخلد القرطبي برحلتين إلى مصر والشام والحجاز وبغداد، طلبًا للعلم، امتدت الرحلة الأولى أربعة عشر عامًا، الثانية عشرين عامًا)، انتهى، ولا تنسى أن ارتحاله كله كان من الأندلس، وعلى قدميه، كما صرح هو بذلك، قال - رحمه الله تعالى -: (كل من رحلت إليه فماشيًا على قدمي، وكل من سمعت منه في البلدان ماشيًا على قدمي، قال تلميذه أبو عبد الملك أحمد بن محمد القرطبي: كان بقي طوالا، قويًّا جلدًا على المشي، لم ير راكبًا دبة قط، متواضعًا ملازمًا لحضور الجنائز، فلله دره وصبره وشوقه للعلم، ولله بذله #
حياته في تحصيله وجمعه.
لولا عجائب صنع الله ما نبتت | ||
تلك الفضائل في لحم ولا عصب | ||
* وقال الشافعي أيضًا: (حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد ويحملوا على الإبل، ويطاف بهم في العشائر، ينادي عليهم هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام.
وقال أيضًا لبعض أصحابه: (لا تخوضن في أصحاب رسول الله ﷺ، فإن خصمك النبي ﷺ غدًا ولا تشتغل بالكلام، فإن اطلعت من أهل الكلام على التعطيل، ولا تشتغل بالنجوم([137]).
وقال أيضًا: (مذهبي في أهل الكلام تقنيع رؤوسهم بالسياط، وتشريدهم في البلاد)([138]).
***
* جاء في (تذكرة الحفاظ) للذهبي([139])، في ترجمة الحجة الحافظ الإمام شيخ الإسلام، وإمام أئمة الحديث الأعلام، في الحفظ والدراية والتثبت (أبي بسطام شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري)، المولود سنة 82، والمتوفى سنة 160 - رحمه الله تعالى -، الذي قال فيه الإمام أحمد: هو أمة وحده في هذا الشأن، وقال فيه # الشافعي: لولا شعبة ما عرف الحديث بالعراق، وقال فيه الأصمعي: لم نر أحدًا قط أعلم بالشعر من شعبة، حكى ما يلي:
(قال عبد الرحمن بن يونس المستملي،سمعت سفيان بن عيينة يقول: سمعت شعبة يقول: من طلب الحديث أفلس! بعت طست أمي بسبعة دنانير!)، وقال الإمام أحمد بن حنبل في كتاب (العلل ومعرفة الرجال)([140]): أقام شعبة على الحكم بن عتيبة ثمانية عشر شهرًا، حتى باع جزوع بيته!).
***
* نتائج المعصية:
قلة التوفيق وفساد الرأي، وخفاء الحق وفساد القلب، وخمول الذكر، وإضاعة الوقت، ونفرة الخلق والوحشة بين العبد وبين ربه، ومنع إجابة الدعاء، وقسوة القلب، ومحق البركة في الرزق والعمر، وحرمان العلم ولباس الذل وإهانة العدو وضيق الصدر، والابتلاء بقرناء السوء الذين يفسدون القلب ويضيعون الوقت، وطول الهم والغم، وضنك المعيشة، وكسف البال...تتولد من المعصية والغفلة عن ذكر الله كما يتولد الزرع عن الماء والإحراق عن النار، وأضداد هذه تتولد عن الطاعة([141]).
***#
قال أبو حاتم: إفناء المرء عمره بكثرة الأسفار، ومباينة الأهل والأوطان في طلب العلم دون العمل به، أو الحفظ له، ليس من شيم العقلاء، ولا من زي الألباء، وأن جرد ما يستعين المرء به على الحفظ: الطبع الجيد، مع الهمة واجتناب المعاصي([142]).
***
* وحكى الحافظ ابن عبد البر، في كتابه النافع العظيم (جامع بيان العلم وفضله، وما ينبغي في روايته وحمله)([143])، في (باب الحض على استدامة الطلب، والصبر على اللأواء والنصب) عن الإمام الشافعي أيضًا: (قال: كنت يتيمًا في حجر أمي، فدفعتني في الكتاب، ولم يكن عندها ما تعطي المعلم، فكان المعلم قد رضي مني أن أخلفه إذا قام.
فلما ختمت القرآن، دخلت المسجد فكنت أجالس العلماء، وكنت أسمع الحديث أو المسألة فأحفظها، ولم يكن عند أمي ما تعطيني أشتري به قراطيس، فكنت إذا رأيت عظمًا يلوح - أي يلمع لبياضه - آخذه فأكتب فيه، فإذا امتلأ طرحته في جرة كانت لنا قديمًا.
ثم قدم وال على اليمن، فكلمه لي بعض القرشين أن أصحبه، ولم يكن عند أمي ما تعطيني أتجمل به، فرهنت رداءها بستة عشر # دينارًا، فأعطتني فتجملت بها معه...).
***
* لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة والمحاكمة إليهما واعتقدوا عدم الاكتفاء بهما وعدلوا إلى الآراء والقياس والاستحسان وأقوال الشيوخ، عرض لهم من ذلك فساد في فطرهم وظلمة في قلوبهم وكدر في أفهامهم ومحق في عقولهم. وعمتهم هذه الأمور وغلبت عليهم، حتى ربي فيها الصغير وهرم عليها الكبير، فلم يروها منكرًا، فجاءتهم دولة أخرى قامت فيها البدع مقام السنن والنفس مقام العقل، والهوى مقام الرشد، والضلال مقام الهدى، والمنكر مقام المعروف، والجهل مقام العلم، والرياء مقام الإخلاص، والباطل مقام الحق، والكذب مقام الصدق، والمداهنة مقام النصيحة، والظلم مقام العدل، فصارت الدولة والغلبة لهذه الأمور وأهلها هم المشار إليهم، وكانت قبل ذلك لأضدادها وكان أهلها هم المشار إليهم.
فإذا رأيت دولة هذه الأمور قد أقبلت وراياتها قد نصبت وجيوشها قد ركبت، فبطن الأرض والله خير من ظهرها، وقمم الجبال خير من السهول، ومخالطة الوحش أسلم من مخالطة الناس([144]).
***#
وجاء في (ذيل طبقات الحنابلة) للحافظ ابن رجب([145])، في ترجمة الإمام أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي (علي بن عقيل) البغدادي، المقرئ، الفقيه، الأصولي الواعظ، المتكلم، ذي العلوم والفنون، أحد الأئمة الأعلام في الإسلام، ومن أفاضل العالم، وأذكياء بني آدم، المولود سنة 431، والمتوفى سنة 513، - رحمه الله تعالى -، ما خلاصته:
(أنه كان يقول: إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي، وأنا منطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنافي عشر الثمانين أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين سنة.
وأنا أقصر بغاية جهدي أوقات أكلي، حتى أختار سف الكعك وتحسيه بالماء على الخبز، لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ، توفرًا على مطالعة، أو تسطير فائدة لم أدركها فيه، وإن أجل تحصيل عند العقلاء بإجماع العلماء هو الوقت، فهو غنيمة تنتهز فيها الفرص، فالتكاليف كثيرة، والأوقات خاطفة.
***#
* أعجب العجاب:
من أعجب الأشياء أن تعرفه ثم لا تحبه، وأن تسمع داعيه ثم تتأخر عن الإجابة، وأن تعرف قدر الربح في معاملته ثم تعامل غيره، وأن تعرف قدر غضبه ثم تتعرض له، وأن تذوق ألم الوحشة في معصيته ثم لا تطلب الأنس بطاعته، وأن تذوق عصره القلب عند الخوض في غير حديثه والحديث عنه ثم لا تشتاق إلى انشراح الصدر بذكره ومناجاته، وأن تذوق العذاب عند تعلق القلب بغيره ولا تهرب منه إلى نعيم الإقبال عليه والإنابة إليه.
وأعجب من هذا علمك أنك لا بد لك منه وأنك أحوج شيء إليه وأنت عنه معرض وفيما يبعدك عنه راغب.
***
* على قدر فضل المرء تأتي خطوبه | ||
ويعرف عن الصبر فيما يصيبه | ||
ومن قل فيما يتقيه اصطباره | ||
فقد قل مما يرتجيه نصيبه | ||
***
* كم قطع زرع قبل التمام فما ظن الزرع المستحصد.
* لا بد من سنة الغفلة ورقاد الهوى، ولكن كن خفيف النوم فحراس البلد يصيحون: دنا الصباح.
* نور العقل يضيء في ليل الهوى لتلوح جادة الصواب فيتلمح البصير في ذلك النور عواقب الأمور.
* أخرج بالعزم من هذا الفناء([146]) الضيق المحشو بالآفات إلى ذلك الفناء الرحب الذي فيه ما لا عين رأت، فهناك لا يتعذر مطلوب ولا يفقد محبوب.
* يا بائعًا نفسه بهوى من حبه ضنى، ووصله أذى وحسنه إلى فناء، لقد بعت أنفس الأشياء بثمن بخس كأنك لم تعرف قدر السلعة ولا خسة الثمن، حتى إذا قدمت يوم التغابن([147]) تبين لك الغبن في عقد التبايع: لا إله إلا الله سلعة، الله مشتريها وثمنها الجنة والدلال الرسول، ترضى ببيعها بجزء يسير مما لا يساوي كله جناح بعوضة:
* إذا كان شيء لا يساوي جميعه | ||
جناح بعوض عند من صرت عبده | ||
ويملك جزء منه كلك ما الذي | ||
يكون على ذي الحال قدرك عنده | ||
***
* العبد لا يريد بمعصيته مخالفة سيده ولا الجرأة على محارمه، ولكن غلبات الطبع، وتزيين النفس والشيطان، وقهر الهوى، والثقة بالعفو، ورجاء المغفرة، هذا من جانب العبد.
وأما من جانب الربوبية فجريان الحكم، وإظهار عز الربوبية وذل العبودية، وكمال الاحتياج، وظهور آثار الأسماء الحسنى: كالعفو والغفور والتواب والحليم، لمن جاء تائبًا نادمًا، والمنتقم والعدل وذي البطش الشديد لم أصر ولزم المجرة، فهو - سبحانه - يريد أن يري عبده تفرده بالكمال ونقص العبد وحاجته إليه، ويشهده كمال قدرته وعزته وكمال مغفرته وعفوه ورحمته، وكمال بره وستره وحلمه وتجاوزه وصفحه، وأن رحمته به إحسان إليه لا معارضة، وأنه إن لم يتغمده برحمته وفضله فهو هالك لا محالة، فلله كم في تقدير الذنب من حكمة وكم فيه مع تحقيق التوبة للعبد من مصلحة ورحمة.
التوبة من الذنب كشرب الدواء للعليل، ورب علة كانت سبب الصحة.
لعل عتبك محمود عواقبه | ||
وربما صحت الأجساد بالعلل | ||
* لولا تقدير الذنب هلك ابن آدم من العجب.
* ذنب يذل به أحب إليه من طاعة يدل بها عليه.
* شمعة النصر إنما تنزل في شمعدان الإنكسار.
لا يكرم العبد نفسه بمثل إهانتها، ولا يعزها بمثل ذلها، ولا يريحها بمثل تعبها، كما قيل:
سأتعب نفسي أو أصادف راحة | ||
فإن هوان النفس في كرم النفس | ||
ولا يشبعها بمثل جوعها، ولا يؤمنها بمثل خوفها، ولا يؤنسها بمثل وحشتها.
***
* (اقشعرت الأرض وأظلمت السماء وظهر الفساد في البر والبحر من ظلم الفجرة، وذهبت البركات وقلت الخيرات وهزلت الوحوش وتكدرت الحياة فن فسق الظلمة، وبكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة والأفعال الفظيعة، وشكا الكرام الكاتبون والمعقبات إلى ربهم من كثرة الفواحش وغلبة المنكرات والقبائح، وهذا والله منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه، ومؤذن بليل بلاء قد أدلهم ظلامه، فاعزلوا عن طريق هذا السبيل بتوبة نصوح ما دامت التوبة ممكنة وبابها مفتوح، وكأنكم بالباب وقد أغلق وبالرهن وقد غلق وبالجناح وقد علق }وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ{ [الشعراء: 227]).
* (اشتر نفسك اليوم، فإن السوق قائمة والثمن موجود والبضائع رخيصة، وسيأتي على تلك السوق والبضائع يوم لا تصل فيه إلى قليل ولا كثير...}ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ{ [التغابن: 9]، }وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ{ [الفرقان: 27]).
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى | ||
وأبصرت يوم الحشر من قد تزودا | ||
ندمت على أن لا تكون كمثله | ||
وأنك لم ترصد كما كان أرصدا | ||
العمل بغير إخلاص ولا اقتداء كالمسافر يملأ جرابه رملا يثقله ولا ينفعه.
***
* وقال القاضي ابن خلكان في (وفيات الأعيان)([148])، في ترجمة إمام العربية وعلومها (محمود بن عمر الخوارزمي الزمخشري) المولود سنة 467 هـ، والمتوفى سنة 538 - رحمه الله تعالى -:
(سمعت من بعض المشايخ أن إحدى رجليه - أي الزمخشري - كانت ساقطة، وأنه كان يمشي في جارن خشب، وكان سبب سقوطها، أنه كان في بعض أسفاره ببلاد خوارزم أصابه ثلج كثير وبرد شديد في الطريق، فسقطت منه رجله، وأنه كان بيده محضر فيه شهادة خلق كثير ممن اطلعوا على حقيقة ذلك، خوفًا من أن يظن من لم يعلم صورة الحال، أنها قطعت لريبة.
والثلج والبرد كثيرًا ما يؤثر في الأطراف في تلك البلاد فتسقط! خصوصًا خوارزم فإنها في غاية البرد، ولقد شاهدت خلقًا كثيرًا مما سقطت أطرافهم بهذا السبب، فلا يستبعده من لا يعرفه)، ثم ذكر ابن خلكان سببًا آخر لانقطاع رجل الزمخشري.
***
* وجاء في (تذكرة الحفاظ)([149]) في ترجمة (ابن المقرئ) محمد بن إبراهيم الأصبهاني المتوفى سنة 381 هـ - رحمه الله تعالى -([150]) (الإمام الرحال الحافظ الثقة، قال أبو طاهر أحمد بن محمود: سمعت ابن المقرئ يقول: طفت الشرق والغرب أربع مرات!).
ثم قال الحافظ الذهبي: وروى اثنان عن ابن المقرئ أنه قال: مشيت بسبب نسخة (المفضل بن فضاله المصري) سعبين مرحلة([151])، ولو عرضت على خباز برغيف لم يقبلها! ودخلت بيت المقدس عشر مرات)، ولا تنس أن بلده أصبهان.
قال ابن مندة: طفت الشرق والغرب مرتين، وقال أبو زكريا بن مندة: كنت مع عمي عبيد الله في طريق نيسابور، فلما بلغنا بئر مجة، حكى لي عمي قال: كنت قافلا عن خراسان مع أبي فلما وصلنا إلى هنا، إذ نحن بأربعين وقرًا من الأحمال،فظننا أن ذلك ثياب، فإذا خيمة صغيرة فيها شيخ، وإذا هو والدك!
***
* قال إبراهيم الحربي: أفنيت من عمري ثلاثين سنة برغيفين، إن جاءتني بهما أمي وأختي أكلت، وإلا بقيت جائعًا عطشان إلى الليلة الثانية([152]).#
وأفنيت ثلاثين سنة من عمري برغيف في اليوم والليلة، إن جاءتني امرأتي أو إحدى بناتي به أكلته، وإلا بقيت جائعًا عطشان إلى الليلة الأخرى.
والآن آكل نصف رغيف وأربعة عشرة تمرة إن كان برنيا، أو نيفًا وعشرين إن كان دقلا، ومرضت ابنتي فمضت امرأتي فأقمت عندها شهرًا فقام بإفطاري في هذا الشهر بدرهم ودانقين ونصف! ودخلت الحمام واشتريت لهم صابونًا بدانقين، فقامت نفقة شهر رمضان كله بدرهم وأربعة دوانق ونصف.
قال أبو القاسم بن بكير: سمعت إبراهيم الحربي يقول: ما كنا نعرف من هذه الأطبخة شيئًا، كنت أجيء من عشي إلى عشي وقد هيأت لي أمي باذنجانة مشوية أو لعقة بن، أو باقة فجل.
قال أبو علي الخياط المعروف بالميت: كنت يومًا جالسًا مع إبراهيم الحربي على باب داره، فلما أن أصبحنا قال لي: يا أبا علي، قم إلى شغلك، فإن عندي فجلة قد أكلت البارحة خضرها، أقوم أتغدى بجزرتها).
***
* قال القاضي في ترتيب المدارك 3/250 في ترجمة (عبد الرحمن بن قاسم العتقي المصري)، أحد أصحاب مالك والليث وغيرهما، المولود سنة 132 والمتوفى بمصر سنة 191 #
- رحمه الله تعالى -: (قال ابن القاسم: كنت أتي مالكًا غلسًا فأسأله عن مسألتين، ثلاثة، أربعة، وكنت منه في ذلك الوقت انشراح صدر، فكنت آتي كل سحر.
فتوسدت مرة عتبته، فغلبتني عيني فنمت، وخرج مالك إلى المسجد ولم أشعر به، فركضتني جارية سوداء برجلها، وقالت لي: إن مولاك قد خرج، ليس يغفل كما تغفل أنت، اليوم له تسع وأربعون سنة، فما صلى الصبح إلا بوضوء العتمة - ظنت السوداء أنه مولاه من كثرة اختلافه إليه.
قال ابن القاسم: وأنخت بباب مالك سبع عشرة سنة، ما بعت فيها ولا اشتريت شيئًا، قال: فبينما أنا عنده، إذ أقبل حاج مصر، فإذا شاب متلثم دخل علينا، فسلم على مالك، فقال: أفيكم ابن القاسم؟ فأشير إلي، فأقبل يقبل عيني، ووجدت منه ريحًا طيبة، فإذا هي رائحة الولد، وإذا هو ابني، وكان ابن القاسم ترك أمه حاملا به، وكانت ابنة عمه، وقد خيرها عند سفره لطول إقامته، فاختارت البقاء).
***
* وقال القاضي ابن خلكان في (وفيات الأعيان)([153])، في ترجمة (داود بن علي الأصبهاني البغدادي الظاهري) إمام الظاهرية، # المولود سنة 201، والمتوفى سنة 270 - رحمه الله تعالى -: (انتهت إليه رئاسة العلم ببغداد).
* قال أبو عبد الله المحاملي صليت صلاة عيد الفطر في جامع المدينة، وقلت: أدخل على داود بن علي فأهنيه، فجئته وإذا بين يديه طبق فيه أوراق هندباء([154])، وعصارة فيها نخالة وهو يأكل، فهنأته وعجبت من حاله! ورأيت أن جميع ما في الدنيا ليس بشيء!.
فخرجت من عنده ودخلت على رجل من محبي الصنيعة - أي فعل الخير والكرم - يقال له: الجرجاني، فخرج إلي حاسر الرأس حافي القدمين، وقال لي: ما عني القاضي؟! قلت: مهم! قال: ما هو؟ قلت: في جوارك داود بن علي ومكانه من العلم ما تعلمه، وأنت كثير الصلة والرغبة في الخير تغفل عنه؟! وحدثته بما رأيت.
* فقال الجرجاني: داود شر الخلق! وجهت إليه البارحة بألف درهم ليستعين بها فردها علي، وقال للغلام: قل له: بأي عين رأيتني؟ وما الذي بلغك من حاجتي وخلتي حتى بعثت لي بهذا؟!
* قال المحاملي: فعجبت وقلت للجرجاني: هات الدراهم، فإني أحملها إليه، فدفعها إلي، وقال للغلام: ائتني بكيس آخر، #
فوزن ألفًا أخرى، وقال: تلك لنا وهذه لعناية القاضي، فأخذت له الألفين وجئت إليه، فقرعت الباب ودخلت وجلست ساعة، ثم أخرجت الدراهم وجعلتها بين يديه، فقال: هذا جزاء من ائتمنك على سره؟ أنا بأمانة العلم أدخلتك إلي، ارجع فلا حاجة لي فيما معك.
قال المحاملي: فرجعت وقد صغرت الدنيا في عيني، وأخبرت الجرجاني فقال: إني أخرجت هذه الدراهم لله - تعالى - فلا ترجع في مالي، فليتول القاضي إخراجها في أهل البر والعفاف)، انتهى، وقد ذكرني موقف الإمام داود الظاهري - رحمه الله تعالى - بما قيل:
إذا سمت عين من تهواه عن ذهب | ||
فالتبر والترب في الدنيا لديك سوا | ||
***
* قال بلال بن سعد: (ربَّ مسرور مغبون يأكل ويشرب ويضحك، وقد حق له في كتاب الله - عز وجل - أنه من وقود النار).
المخلوق إذا خفته استوحشت منه وهربت منه، والرب تعالى إذا خفته أنست به وقربت إليه.
أفر إليك وأين منك إلا | ||
إليك يفر المستجير | ||
لو نفع العلم بلا عمل لما ذم الله سبحانه أحبار أهل الكتاب، ولو
نفع العمل بلا إخلاص لما ذم المنافقين.
دافع الخطرة([155]) فإن لم تفعل صارت كفرة، فدافع الفكرة فإن لم تفعل صارت شهوة، فجاربها، فإن لم تفعل صارت عزيمة وهمة فإن لم تدافعها صارت فعلا، فإن لم تتداركه بضده صار عادة فيصعب عليك الانتقال عنها.
التقوى ثلاث مراتب:
إحداهما: حمية القلب والجوارح عن الآثام والمحرمات.
الثانية: حميتها عن المكروهات.
الثالثة: الحمية عن الفضول وما لا يعني.
فالأولى تعطي العبد حياته، والثانية تفيده صحته وقوته، والثالثة تكسبه سروره وفرحه وبهجته.
***
غموض الحق حين تذب عنه | ||
يقلل ناصر الخصم المحق | ||
تضل عن الدقيق فهوم قوم | ||
فتقضي للمجل على المدق([156]) | ||
بالله أبلغ ما أسعى وأدركه | ||
لأبي ولا بشفيع لي من الناس | ||
إذا أيست وكاد إلياس يقطعني | ||
جاء الرجا مسرعًا من جانب اليأس | ||
لما طلب آدم الخلود في الجنة من جانب الشجرة عوقب بالخروج منها، ولم طلب يوسف الخروج من السجن من جهة صاحب الرؤيا لبث فيه بعض سنين.
***
* وجاء في (تاريخ بغداد) للخطيب البغدادي([157])، وفي ترجمة الحافظ الإمام العلامة (يعقوب بن شيبة السدوسي البصري)، المولود سنة 182، والمتوفى سنة 262 - رحمه الله تعالى -، صاحب (المسند الكبير المعلل) الذي ما صنف مسند معلل أحسن منه، ما يلي:
(قال أبو الحسن أحمد بن يوسف بن البهلول: حدثني أبي، قال: حدثني يعقوب بن شيبة، قال: أظل عيد من الأعياد رجلا - يشير إلى نفسه - وعنده مائة دينار ولا يملك سواها، فكتب إليه رجل من إخوانه يقول له: قد أظلنا هذا العيد، ولا شيء عندنا ننفقه على الصبيان، ويستدع منه ما ينفقه.
فجعل المائة دينار في صرة وختمها، وأنفذها إليه، فلم تلبث الصرة عد الرجل إلا يسيرًا حتى وردت عليه - أي على الرجل - رقعة أخ من أخواته، وذكر إضاقته في العيد، ويستدعي منه مثل ما استدعاه، فوجه بالصرة إليه بختمها، وبقي الأول لا شيء عنده!.
فكتب إلى صديق له وهو الثالث الذي صارت إليه الدنانير يذكر حاله، ويستدعي منه ما ينفقه في العيد، فأنفذ إليه الصرة، بخاتمها، فلما عادت إليه صرته التي أنفذها بحالها، ركب إليه ومعه الصرة، وقال له: ما شأن هذه الصرة التي أنفدتها إليّ؟ فقال له: إنه أظلنا العيد، ولا شيء عندنا ننفقه على الصبيان! فكتبت إلى فلان أخينا، أستدعي منه ما ننفقه، فأنفذ إليَّ هذه الصرة، فلما وردت رفعتك عليَّ أنفدتها إليك.
فقال: قم بنا إليه، فركبا جميعًا إلى الثاني ومعهما الصرة، فتفاوضوا الحديث، ثم فتحوها فاقتسموها أثلاثًا.
قال أبو الحسن: قال لي أبي: والثلاثة: يعقوب بن شيبة، وأبو حسان الزيادي القاضي، وأنسيت أنا الثالث!).
***
* قسو القلب وصفاؤه:
ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب والعبد عن الله، خلقت النار لإذابة القلوب القاسية، أبعد القلوب من الله القلب القاسي، إذا قسا القلب قحطت العين، قسوة القلب من أربعة أشياء إذا جاوزت قدر الحاجة: الأكل والنوم والكلام والمخالطة، كما أن البدن إذا مرض لم ينفع فيه الطعام والشراب، فكذلك القلب إذا مرض بالشهوات لم تنجع فيه المواعظ.#
من أراد صفاء قلبه فليؤثر الله على شهوته، القلوب المتعلقة بالشهوات محجوبة عن الله بقدر تعلقها بها، القلوب آنية الله في أرضه، فأحبها إليه أرقها وأصلبها وأصفاها، شغلوا قلوبهم بالدنيا، ولو شغلوها بالله والدار الآخرة لجالت في معاني كلامه وآياته المشهودة ورجعت إلى أصحابها بغرائب الحكم وطرف الفوائد، إذا غذي القلب بالتذكر وسُقي بالتفكر ونقي من الدغل([158])، رأى العجائب وألهم الحكمة ليس كل من تحلى بالمعرفة والحكمة وانتحلها كان من أهلها، بل أهل المعرفة والحكمة الذين أحيوا قلوبهم بقتل الهوى، وأما من قتل قلبه فأحيى الهوى، فالمعرفة والحكمة عارية على لسانه.
خراب القلب من الأمن والغفلة، وعمارته من الخشية والذكر.
إذا زهدت القلوب في موائد الدنيا قعدت على موائد الآخرة بين أهل تلك الدعوة، وإذا رضيت بموائد الدنيا فاتتها تلك الموائد.
الشوق إلى الله ولقائه نسيم يهب على القلب يروِّح عنه وهج الدنيا.
من وطن قلبه عند ربه سكن واستراح، ومن أرسله في الناس اضطراب واشتد به القلق.
لا تدخل محبة الله في قلب فيه حب الدنيا إلا كما يدخل الجمل
في سم الإبرة، إذا أحب الله عبدًا اصطنعه لنفسه واجتباه لمحبته واستخلصه لعبادته، فشغل همه به، ولسانه بذكره وجوارحه بخدمته.
القلب يمرض كما يمرض البدن وشفاؤه في التوبة والحمية، ويصدأ كما تصدأ المرآة وجلاؤه بالذكر، ويعرى الجسم وزينته التقوى، ويجوع ويظمأ كما يجوع البدن، وطعامه وشرابه المعرفة والمحبة والتوكل والإنابة والخدمة.
([1]) مجموع الفتاوى 2/229.
([2]) مجموع الفتاوى 3/233.
([3]) مجموع الفتاوى 3/245- 246.
([4]) مجموع الفتاوى 3/249، 250.
([5]) مجموع الفتاوى 3/254.
([6]) ابن مخلوف هو قاضي مالكي، كان من ألد أعداء شيخ الإسلام ابن تيمية ولما نصره الله عليهم، عفا عنهم وقال فيهم: (كل من أساء إليَّ فهو في حل، وكل من أساء إلى الله ورسوله فالله ينتقم منه)، فلم يكن رحمه الله يحمل في صدره حتى على أعدائه شيئًا، فقال ابن مخلوف بعد ذلك: (ما رأينا مثل ابن تيمية حرضنا عليه فلم نقدر عليه وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا).
([7]) مجموع الفتاوى 3/371.
([8]) آكل المرار حُجر جد امرئ القيس، بنو آكل المرار سادة اليمن وملوكها.
([9]) رواه أحمد والترمذي وأبو داود وحسنه الترمذي والبغوي وابن مفلح.
([10]) وقوله الخبيص المراد به نوع من الحلوى صنع من التمر مخلوطًا بالسمن.
([11]) أي الفضيل بن عياض.
([12]) أي الفضيل بن عياض.
([13]) أما أهل الإيمان: فيطلبون الموت في الله رجاء أن يتخذهم الله شهداء، ولسان حالهم يقول:
ولست أبالي حين أُقتل مسلمًا | ||
على أي جنب كان في الله مصرعي | ||
([14]) السيرة النبوية لابن هشام 1/476.
([15]) أي: كفر بالأصنام ودان بالإسلام.
([16]) قيل: هو أبي بن خلف.
([17]) وقال الإمام السيوطي في هذا الأثر: أخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل بسند صحيح، انظر "الدستور المنثور" 6/250.
([18]) تفسير القرآن العظيم 6/166.
([19]) البداية والنهاية 11/64.
([20]) السعدية 2/23.
([21]) لطائف المعارف 22.
([22]) انظر: أبا نعيم الأصبهاني: الحلية 5/333، ومختصره صفة الصفوة، لابن الجوزي 2/126، طبعة دار المعرفة، تحقيق محمود فاخوري، ومحمد رواس قلعجي.
([23]) تهذيب مدارج السالكين ص 353 - 354.
([24]) موقف ابن تيمية من الأشاعرة . د. عبد الرحمن بن صالح المحمود 1/74.
([25]) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي 54.
([26]) الولاء والبراء في الإسلام 326 د. محمد سعيد القحطاني.
([27]) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية 2/16.
([28]) مجموع الفتاوى 28/2396.
([29]) صحيح ابن حبان 1/316.
([30]) أبو زيد القيرواني: الجامع 197.
([31]) ابن تيمية الفتاوى 274.
([32]) تاريخ بغداد 14/244، وفيات الأعيان 6/380.
([33]) من كلام العلامة ابن القيم -رحمه الله- بتصرف يسير.
([34]) طريق الهجرتين، وباب السعادتين ص 176 - 177.
([35]) طريق الهجرتين، وباب السعادتين، ص 174 - 175.
([36]) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، 1/134 - 136.
([37]) مدارج السالكين 2/12.
([38]) انظر تفصيل ذلك في مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية، 10/620 - 651.
([39]) أدب الدنيا والدين للماوردي، ص 39.
([40]) أدب الدنيا والدين للماوردي، ص 38.
([41]) روضة العقلاء، لابن حبان، ص 19.
([42]) الموافقات، (2/121).
([43]) أدب الدنيا والدين للماوردي، ص 39 - 45.
([44]) مدارج 2/313.
([45]) بدائع 1/72.
([46]) روضة المحبين ص 480.
([47]) الفرج بعد الشدة 4/238.
([48]) شذرات الذهب 6/40.
([49]) مفتاح دار السعادة 2/246.
([50]) تاريخ بغداد 13/103.
([51]) بغية الوعاة 1/558.
([52]) المعالم 1/247.
([53]) تذكرة الحفاظ 4/1470.
([54]) شذرات الذهب 5/355.
([55]) السير 18/199.
([56]) توالي التأسيس ص 166.
([57]) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، ومالك.
([58]) أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي وأحمد.
([59]) البداية والنهاية لابن كثير (1/120، 121).
([60]) أخرجه أبو نعيم في (الحلية) (6/376 - 377).
([61]) صيد الخاطر، ص 193 - 194.
([62]) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 2/149 - 150.
([63]) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 1/28 - 29، بتصرف يسير.
([64]) فتاوى شيخ الإسلام 1/39.
([65]) صحيح الوابل الصيب من الكلم الطيب، للهلالي، ص 50 - 51.
([66]) المرجع السابق، ص 106.
([67]) كتاب الفوائد لابن القيم رحمه الله تعالى ص 260 بتصرف يسير.
([68]) صفة الصفوة 4/434.
([69]) روضة المحبين ص 466.
([70]) الفتاوى السعدية ص 36.
([71]) المعرفة والتاريخ 1/179.
([72]) رواه أبو خيثمة في (العلم) رقم 15، 46 بإسناد صحيح.
([73]) تذكرة الحفاظ 1/378.
([74]) جامع بيان العلم وفضله ص 223.
([75]) الزهد الكبير ص 122.
([76]) المراد به ما هو ضد الشهرة.
([77]) مجموع الفتاوى 14/231.
([78]) سير أعلام النبلاء 18/192.
([79]) رواه البخاري.
([80]) رواه البخاري.
([81]) رواه البخاري.
([82]) التمهيد 8/370.
([83]) مقتبس من كلام الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم ص 238.
([84]) اقتضاء الصراط المستقيم ص 6.
([85]) رواه أحمد في المسند 1/95، وأبو داود رقم: 164.
([86]) رواه عبد الرزاق في المصنف 11/256 ورواه الدارمي 1/67.
([87]) رواه أبو زرعة الدمشقي في التاريخ 1/472.
([88]) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 14/152.
([89]) الصمت 89.
([90]) ذكر هذه الأسباب شيخ الإسلام في الفتاوى 4/432، 7/487، 10/45.
([91]) أخرجه: أحمد والترمذي.
([92]) أخرجه: البخاري، ومسلم.
([93]) انظر آيات الاستواء في العقيدة الواسطية.
([94]) الفتاوى 7/304.
([95]) طريق الهجرتين ص 172.
([96]) سير أعلام النبلاء 5/86.
([97]) التبيان في آداب حملة القرآن ص 25.
([98]) مجموع الفتاوى 11/43.
([99]) الهملجة: حسن سير الدابة.
([100]) الآداب الشرعية 2/212.
([101]) الفتاوى 19/123.
([102]) الزهد للإمام أحمد ص 494.
([103]) الآداب الشرعية 1/34.
([104]) الإيمان: ص 19.
([105]) كتاب الزهد للإمام أحمد ص 385.
([106]) ريعه: أي النماء والزيادة.
([107]) الزهد للإمام أحمد 393.
([108]) الآداب الشرعية 2/145.
([109]) المستدرك على الفتاوى 1/146.
([110]) الوابل الصيب ص 164، 165.
([111]) السعدية 2/259.
([112]) المستدرك على الفتاوى 1/145.
([113]) الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية ص 35.
([114]) الشهادة الزكية ص 35.
([115]) مدارج 2/176.
([116]) مدارج 2/104.
([117]) الدارمي رقم 330.
([118]) شرح السنة للبغوي 1/279.
([119]) السير 6/228.
([120]) جامع بيان العلم وفضله 1/56.
([121]) سنن الدارمي 1/136.
([122]) تذكرة الحفاظ 1/108.
([123]) السير 8/404.
([124]) رواه البخاري في ترجمة باب 1/162.
([125]) المجموع 1/64.
([126]) شرح السنة 1/279.
([127]) شرح السنة 1/280.
([128]) الفوائد 40.
([129]) (363).
([130]) تهذيب التهذيب 11/783.
([131]) تذكرة الحفاظ 2/550.
([132]) البداية والنهاية 11/25.
([133]) 1/130.
([134]) 2/68.
([135]) تذكرة الحفاظ 4/173.
([136]) 1/238.
([137]) السير 10/28.
([138]) السير 10/29.
([139]) تذكرة الحفاظ 1/195.
([140]) العلل ومعرفة الرجال 1/365.
([141]) الفوائد 47.
([142]) روضة العقلاء 39.
([143]) 1/98.
([144]) الفوائد 64.
([145]) ابن رجب 1/142.
([146]) الفناء: بكسر الفاء: المتسع أمام الدار، ويجمع على أفنية.
([147]) أي يوم القيامة.
([148]) وفيات الأعيان: 2/82.
([149]) تذكرة الحفاظ 3/973.
([150]) تذكرة الحفاظ 3/1032.
([151]) تذكرة الحفاظ 3/93.
([152]) تاريخ بغداد 6/13.
([153]) 1: 175- 176.
([154]) نوع من البقول رخيص مبذول.
([155]) أي ما يخطر في البال.
([156]) جل: عظم. دق: صغر.
([157]) تاريخ بغداد 14: 282.
([158]) أي الفساد.18