×
ربح أيام العمر في تدبر سورة العصر: كتابٌ ذكر فيه المؤلف طريق الربح والنجاة والسعادة من خلال تدبر سورة العصر، وسار فيه على النحو التالي: بيَّن معاني الآيات ومفرداتها وجملها، ثم أتبَعَ ذلك بذكر الفوائد والأحكام، ثم ختم الكلام على السورة بوقفة تأمُّلٍ.

 ربح أيام العمر في تدبر سورة العصر

سليمان بن إبراهيم اللاحم


 الإهــداء

أهدي هذه السلسلة المباركة لجميع المسلمين، وبخاصة طلاب العلم الشرعي، وأخص منهم أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته، وكل من ينشد السعادة ويستلهم الرشد والهداية من كتاب الله عز وجل.

والله أسأل أن يعم بنفعه، وأن يضاعف أجره لي ولوالدي ووالديهم، ولكل من استفدت منهم من علماء المسلمين في التفسير وغيره، وكل من كان عونًا لي – ولو بالتشجيع على هذا العمل - وأن يبارك في ثوابه لأهلي وأولادي وإخواني وأخواتي وجميع أقاربي وجيراني، ومن أحبني في الله، ومن أحببته في الله، ومشائخي وزملائي وطلابي، وجميع إخواني المسلمين، فإن فضله عز وجل عظيم، وكرمه واسع، وجوده عميم.

أخي الكريم: هذا العمل جهد المقل، ولا يخلو من تقصير، كغيره من أعمال البشر، وكما قيل:

ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها

كفى المرء نبلا أن تعد معايبه

المؤلف

القصيم – بريدة

ص.ب 23440


بسم الله الرحمن الرحيم

 المقــدمة

الحمد لله الذي أوجد الإنسان من العدم بعد أن لم يكن شيئًا مذكورًا {الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا}([1]) والصلاة والسلام على من أرسله الله بالحق بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا. وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:

فإن الله عز وجل الذي خلق الخلق والذي هو أعلم بما يصلح به حالهم ومآلهم، وما يسعدهم في دنياهم وأخراهم لم يتركهم هملاً، بل أرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، ورسم لهم بذلك طريق الربح والنجاة والسعادة في الدنيا والآخرة، كما قال عز وجل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}([2]).

وما ضلت البشرية، وفقدت السعادة، وحل بها الاضطراب والفوضى والشقاء إلا بسبب بعدها عن منهج الله وصراطه المستقيم، قال عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}([3]).

وتعظم المصيبة ويشتد الأسى عندما ترى هذا الداء العضال يستشري حتى في المنتسبين إلى الإسلام، فترى كثيرًا منهم لا يعرفون إلى السعادة طريقًا، ولم يذوقوا لها طعمًا، وكتاب الله بين أظهرهم، حالهم كما قيل:

كالعيس في البيداء يقتلها الظما

والماء فوق ظهورها محمول ([4])

وصدق فيهم قول الحسن البصري رحمه الله حين قال: «مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا ألذ ما فيها».

وقول مالك بن دينار رحمه الله: «خرج أهل الدنيا من الدنيا ولم يذوقوا أطيب شيء فيها، قيل: وما هو؟ قال: معرفة الله»([5]). بل تأخذك الدهشة والحيرة عندما ترى كثيرًا من المسلمين يبحثون عن السعادة في غير موضعها حتى صدق فيهم قول الشاعر:

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها

إن السفينة لا تجري على اليبس ([6])

وسيتضح لك أخي الكريم طريق الربح والنجاة والسعادة تمامًا من خلال تدبرك ما ذكر الله عز وجل في سورة «العصر» وكلام أهل العلم عنها، والذي لخصته لك جمعًا واستنباطًا في هذا البحث، وسميته «ربح أيام العمر في تدبر سورة العصر» والذي سرت فيه على النحو التالي: بينت معاني الآيات ومفرداتها وجملها، ثم أتبعت ذلك بذكر الفوائد والأحكام، ثم ختمت الكلام على السورة بوقفة تأمل ثم الخاتمة والفهارس. فأصغ سمعك وأحضر قلبك. أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يوفقني وإياك وجميع المسلمين للعلم النافع والعمل الصالح وأن يسعدنا بطاعته، كما أسأله سبحانه وتعالى أن يرزقني وإياك وجميع المسلمين الإخلاص في القول والعمل، وأن يجعل هذا الجهد في ميزان حسناتي ووالدي إنه جواد كريم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المؤلف

* * *

 تفسير سورة العصر

{وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.

قال ابن كثير: «ذكروا أن عمرو بن العاص وفد على مسيلمة الكذاب، وذلك بعدما بعث رسول الله ﷺ‬ وقبل أن يسلم عمرو، فقال له مسيلمة: ماذا أنزل على صاحبكم في هذه المدة؟ قال: لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة. فقال: وما هي؟ فقال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} ففكر مسيلمة هنيهة ثم قال: وقد أنزل علي مثلها، فقال له عمرو: وما هو؟ فقال: «يا وبر يا وبر إنما أنت أذنان وصدر وسائرك حقر نقر» ثم قال: كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو: والله إنك لتعلم أني أعلم أنك تكذب»([7]).

وقال الشافعي رحمه الله: «لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم»([8]).

قال الله تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} الواو: حرف قسم وجر، و{وَالْعَصْرِ} مقسم به. والعصر: هو الزمان والدهر.

قال ابن كثير ([9]): «العصر: الزمان الذي يقع فيه حركات بني آدم من خير وشر».

وهو الأيام والليالي، كما قيل:

ولن يلبث العصران يوم وليلة

إذا طلبا أن يدركا ما تيمما ([10])

قوله: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} جواب القسم «والعصر» والمراد بالإنسان جنس الإنسان.

والخسر: ضد الربح، أي: إن الإنسان جنس الإنسان من حيث هو لفي خسران ونقصان وهلاك ([11]).

قال الزمخشري ([12]): «والخسر: الخسران، كما قيل: الكفر في الكفران، والمعنى: أن الناس في خسران من تجاراتهم إلا الصالحين وحدهم لأنهم اشتروا الآخرة بالدنيا فربحوا وسعدوا، ومن عداهم تجروا خلاف تجارتهم فوقعوا في الخسارة والشقاوة».

وقال ابن القيم([13]): «الإنسان من حيث هو إنسان خاسر، إلا من رحمه الله فهداه، ووفقه للإيمان والعمل الصالح في نفسه وأمر غيره به».

وقال أيضًا([14]): «فأقسم بالعصر الذي هو زمان أفعال الإنسان ومحلها على عاقبة تلك الأفعال وجزائها، ونبه بالمبدأ وهو خلق الزمان والفاعلين وأفعالهم على المعاد، وأن قدرته كما لم تقصر عن المبدأ لم تقصر عن المعاد، وأن حكمته التي اقتضت خلق الزمان وخلق الفاعلين وأفعالهم».

وإقسامه عز ومجل بالزمن بقوله: {وَالْعَصْرِ} وكذا في مواضع عدة من القرآن الكريم كقوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا}([15]).

وقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى}([16] وقوله تعالى: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى}([17])، كل ذلك للدلالة على أهمية الوقت، لأنه عمر الإنسان، ووقت العمل الصالح الذي به النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة، كما قال عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا}([18]).

وهو الذي سيحاسب عنه العبد ويسأل عنه يوم القيامة، كما قال ﷺ‬: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به»([19]).

وهو مما أقام الله به الحجة على الخلق كما قال عز وجل: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ}([20]). وفي الحديث: «أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة»([21]).

وهو أغلى وأنفس ما أعطاه الله للعبد وأمره بحفظه.

قال الشاعر:

والوقت أنفس ما عُنيت بحفظه

وأراه أسهل ما عليك يضيع

وقال الآخر:

دقات قلب المرء قائلة له

إن الحياة دقائق وثوان ([22])

وهو عمر الإنسان الذي بذهابه ذهاب المرء كما قيل:

يسر المرء ما ذهب الليالي

وكان ذهابهن له ذهابا

وكما قيل:

المرء يفرح بالأيام يقطعها

وكل يوم يدنيه إلى الأجل

وإقسامه عز وجل بالعصر على أن الإنسان لفي خسر إلا من اتصف بالصفات المذكورة يعد إشارة إلى أن الخسارة الحقيقية هي الخسارة في الدين، فهي المصيبة العظمى والطامة الكبرى، والجرح الذي لا يندمل، والكسر الذي لا يجبر، كما قال عز وجل: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}([23]).

وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}([24]).

فالمصيبة العظمى ، والخسار الذي لا خسار بعده أن يصاب الإنسان في دينه، فيموت على الكفر أو على المعاصي، كما قال تعالى عن أبي لهب {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}([25]). أي خسرت يداه وخسر فعلاً. نسأل الله السلامة – فليست المصيبة – أن يصاب الإنسان بالخسارة في ماله أو في نفسه أو في أهله أو ولده، أو قريبه أو صديقه سواء بمرض أو موت أو غير ذلك، وهذا – وإن كان كله يسمى مصيبة – لكن المصيبة العظمى هي المصيبة في الدين وكما قيل:

وكل كسر فإن الدين يجبره

وما لكسر قناة الدين جبران

وهي التهلكة والهلاك فإن الأنصار y لما أعز الله الإسلام قال بعضهم لبعض: لو رجعنا لإصلاح أموالنا ومزارعنا، كأنهم أرادوا ترك الجهاد، فأنزل الله: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}([26]).

وقد فهم هذا المعنى سلف هذه الأمة من صحابة رسول الله ﷺ‬ ومن بعدهم من ذوي البصيرة في لدين، فنأوا بأنفسهم عن المعاصي، وهذا سلمة بن صخر البياضي t يأتي فزعًا مرعوبًا إلى رسول الله ﷺ‬ قائلاً: يا رسول الله هلكت وأهلكت. قال له رسول الله: ما أهلكك؟ قال: يا رسول الله وقعت على امرأتي وأنا صائم...» الحديث ([27]) فقد أحس t بعظم المعصية وسوء عاقبتها ، وجاء تائبًا يسأل عن المخرج منها.

قوله: {إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} استثنى عز وجل من جنس الإنسان عن الخسران الذين آمنوا بقلوبهم وعملوا الصالحات بجوارحهم ([28]).

والإيمان لغة التصديق، قال تعالى عن إخوة يوسف أنهم قالوا لأبيهم {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا}([29]) أي: بمصدق.

وشرعًا: قول باللسان واعتقاد بالجنان – وهو القلب، وعمل بالأركان – وهو الجوارح، وقد ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أن معناه من حيث اللغة: الإقرار فلا يكفي مجرد التصديق([30]).

والإيمان بمعناه اللغوي والشرعي يندرج تحته كل ما يجب الإيمان به من أركان الإيمان الستة، وهي: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وبكل ما يجب الإيمان به من الغيوب الماضية والمستقبلة.

وقوله {الصَّالِحَاتِ} أي: الأعمال الصالحات، والعمل لا يكون صالحًا إلا إذا توافر فيه شرطان: الإخلاص لله تعالى، ومتابعة الرسول ﷺ‬ .

يدل على هذين الشرطين أدلة كثيرة من الكتاب والسنة:

فمما يدل على وجوب الإخلاص لله تعالى من الكتاب قوله {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}([31]).

ومن السنة قوله تعالى في الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه»([32])، ومما يدل على وجوب متابعة الرسول ﷺ‬ من الكتاب، قوله تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}([33])، ومن السنة قوله ﷺ‬: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»([34]).

ويجمع الدلالة على الشرطين مثل قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ}([35]) أي أخلص العمل لله وهو متبع الرسول ﷺ‬ ([36]).

وقوله {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ}([37]).

وقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}([38]).

قوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} قال ابن القيم ([39]) «إرشاد إلى منصب الإمامة في قوة الدين. كقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ}([40]). فبالصبر واليقين تنال الإمام في الدين».

{وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} أي: أوصى بعضهم بعضًا بلزوم الحق والتمسك به، قولاً وفعلاً واعتقادًا.

قال الزمخشري ([41]): «بالأمر الثابت الذي لا يسوغ إنكاره وهو الخير كله من توحيد الله وطاعته، واتباع كتبه ورسله والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة».

وقال ابن كثير ([42]): «وهو أداء الطاعات وترك المحرمات».

{وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} أي: أوصى بعضهم بعضًا بالصبر، وهو لغة: الحبس والمنع، وشرعًا حبس النفس عن الجزع واللسان عن التشكي والجوارح عما حرم الله» وهو أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة ([43]).

قال ابن القيم([44]): (والصبر نوعان: نوع على المقدور كالمصائب، ونوع على المشروع، وهذا النوع أيضًا نوعان: صبر على لأوامر، وصبر عن النواهي، فذاك صبر على الإرادة والفعل، وهذا صبر عن الإرادة والفعل. فأما النوع الأول من الصبر فمشترك بين المؤمن والكافر، والبر والفاجر، ولا يثاب عليه لمجرده إن لم يقترن به إيمان واختيار، قال النبي ﷺ‬ في حق ابنته: «مرها فلتصبر ولتحتسب»([45]).

وقال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}([46]).

وقال تعالى: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا}([47]).

وقال: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا}([48]).

فالصبر بدون الإيمان والتقوى بمنزلة قوة البدن الخالي عن الإيمان والتقوى، وعلى حسب اليقين بالمشروع يكون الصبر على المقدور، وال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ}([49]). فمن قل يقينه قل صبره، ومن قل صبره خف واستخف، فالمؤمن الصابر رزين، لأنه ذو لب وعقل، ومن لا يقين له ولا صبر عنده خفيف طائش، تلعب به الأهواء والشهوات، كما تلعب الريح بالشيء الخفيف، والله المستعان).

وقال ابن كثير([50]): {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} على المصائب والأقدار، وعلى أذى من يؤذي ممن يأمرونه بالمعروف وينهونه عن المنكر».

وقال ابن القيم أيضًا([51]) بعد ما ذكر قول الشافعي: «لو فكر الناس كلهم في هذه السورة لكفتهم» قال: «وبيان ذلك أن المراتب أربع باستكمالها يحصل للشخص غاية كماله: إحداها: معرفة الحق، الثانية: عمله به، الثالثة: تعليمه من لا يحسنه، الرابعة: صبره على تعلمه والعمل به وتعليمه.

فذكر تعالى المراتب الأربعة في هذه السورة، وأقسم سبحانه في هذه السورة بالعصر أن كل أحد في خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهم الذين عملوا بما علموه من الحق فهذه مرتبة أخرى، وتواصوا بالحق، ووصى بعضهم بعضًا بالصبر عليه والثبات، فهذه مرتبة رابعة، وهذه نهاية الكمال؛ فإن الكمال أن يكون الشخص كاملاً في نفسه مكملاً لغيره، وكماله بإصلاح قوتيه العلمية والعملية، فصلاح القوة العلمية بالإيمان، وصلاة القوة العلمية والعملية، فصلاح القوة العلمية بالإيمان، وصلاح القوة العملية بعمل الصالحات، وتكميله غيره بتعليمه إياه، وصبره عليه، وتوصيته بالصبر على العلم والعمل. فهذه السورة على اختصارها هي من أجمع سور القرآن للخير بحذافيره. والحمد لله الذي جعل كتابه كافيًا عن كل ما سواه، شافيًا من كل داء، هاديًا إلى كل خير».

وقال أيضًا ([52]): «فإن العبد له حالتان: حالة كمال في نفسه، وحالة تكميل لغيره، وكماله وتكميله موقوف على أمرين: علم بالحق، وصبر عليه. فتضمنت السورة جميع مراتب الكمال الإنساني، من العلم النافع والعمل الصالح، والإحسان إلى نفسه وإلى أخيه به، وانقياده وقبوله لمن يأمره بذلك».

الفوائد والأحكام:

1- أن لله عز وجل أن يقسم بما شاء من مخلوقاته لقوله {وَالْعَصْرِ} وذلك لأن إقسامه عز وجل بما خلق يدل على عظمته هو، فكأنه عز وجل يقول: أقسم بما خلقت. أما المخلوق فلا يجوز أن يقسم بغير الله لأن القسم تعظيم للمقسم به، ولا يجوز ذلك إلا لله. قال ﷺ‬: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك»([53]).

وقال ﷺ‬: «لا تلحفوا بآبائكم، من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت»([54]).

2- الإشارة إلى ما في العصر وهو الوقت من العبرة والآية، فإن مرور الليالي والأيام والشهور والأعوام وجريان الأفلاك وتعاقب الفصول من أعظم الآيات الكونية، كما أن في ذلك دلالة على أهمية العصر وهو الوقت في حياة الإنسان، لأن الله عز وجل أقسم به للدلالة والتنبيه على أهميته وذلك لأنه محل العمل الصالح الذي به سعادة العبد في دنياه وأخراه، فالأيام والليالي خزائن للأعمال الصالحة، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا}([55]).

قال ابن القيم([56]): «فأقسم سبحانه بالعصر لمكان العبرة والآية فيه، فإن مرور الليل والنهار على تقدير قدره العزيز العليم منتظم لمصالح العالم على أكمل ترتيب ونظام، وتعاقبهما واعتدالهما تارة، وأخذ أحدهما من صاحبه تارة، واختلافهما في الضوء والظلام، والحر والبرد، وانتشار الحيوان وسكونه، وانقسام العصر إلى القرون والسنين والأشهر والأيام، والساعات وما دونها – آية من آيات الرب تعالى، وبرهان من براهين قدرته وحكمته...».

3- أن كل إنسان خاسر إلا من اتصف بالصفات الأربع المذكورة في السورة لأن الله أقسم بالعصر، أن الإنسان لفي خسر، واستثنى من ذلك من اتصف بالصفات المذكورة.

4- أن حقيقة الخسران أن يصاب الإنسان في دينه لأن الصفات الأربع المذكورة كلها مما يتعلق بالدين.

فليست الخسارة أن يصاب الإنسان في ماله أو في نفسه، أو في أهله أو ولده أو قريبه أو صديقه، سواء بمرض، أو بموت، فهذه كلها – وإن كانت تعد من المصائب – إلا أن الخسارة العظمى والمصيبة الكبرى: أن يصاب الإنسان في دينه فيموت والعياذ بالله على الكفر، أو يموت على المعاصي. نسأل الله السلامة. قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}([57]).

5- أن حقيقة الربح والفوز أن يسلم للإنسان دينه، فكل خسارة أو مصيبة دون ذلك تهون.

6- وجوب الإيمان والعمل الصالح لقوله: {إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}.

7- أنه لا يكفي مجرد الإيمان دون العمل الصالح، لقوله: {إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، فالإيمان قول وعمل واعتقاد وفي هذا رد على المرجئة الذين يقولون يكفي مجرد الإيمان.

8- أن من شرك قبول العمل أن يكون صالحًا أي: يتوفر فيه الشرطان: الإخلاص لله تعالى، ومتابعة الرسول ﷺ‬.

9- وجوب التواصي بلزوم الحق والأخذ به، والتعاون والتناصح في ذلك، لقوله {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ}.

10- أنه لا يكفي مجرد الإيمان والعمل الصالح بالنفس فقط دون وصية الآخرين به وحثهم عليه، والتناصح في ذلك والدعوة إلى الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون في ذلك.

11- وجوب الصبر، والتواصي به؛ وصبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة، لقوله: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.

12- أن من لازم الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق: التواصي بالصبر. فلا يتم الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق إلا بالتواصي بالصبر بأنواعه الثلاثة، فلا يستقيم دين الإنسان إلا بالصبر([58])، وهو نصف الإيمان([59]).

قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ}([60]).

وقال ﷺ‬: «ما أعطي أحد عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر»([61]).

قال ابن القيم في كلامه عن هذه السورة([62]): «أقسم سبحانه أن كل أحد خاسر إلا من كمل قوته العلمية بالإيمان، وقوته العملية بالعمل الصالح، وكمل غيره بالتوصية بالحق والصبر عليه. فالحق هو الإيمان والعمل، ولا يتمان إلا بالصبر عليهما والتواصي بهما. كان حقيقًا بالإنسان أن ينفق ساعات عمره، بل أنفاسه فيما ينال به المطالب العالية ويخلص به من الخسران المبين، وليس ذلك إلا بالإقبال على القرآن وتفهمه وتدبره واستخراج كنوزه وآثاره ودفائنه، وصرف العناية إليه، والعكوف بالهمة عليه، فإنه الكفيل بمصالح العباد في المعاش والمعاد، والموصل إلى سبيل الرشاد».

13- أن الرابحين حقًا من جمعوا بين الصفات الأربع المذكورة، وهي الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، لقوله {إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} فكل إنسان خاسر إلا من اتصف بهذه الصفات.

قال ابن القيم ([63]): «وأن حكمته التي اقتضت خلق الزمان وخلق الفاعلين وأفعالهم، وجعلها قسمين خيرًا وشرًا تأبى أن يسوى بينهم، وأن لا يجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته وأن يجعل النوعين رابحين أو خاسرين، بل الإنسان من حيث هو إنسان خاسر، إلا من رحمه الله فهداه ووفقه للإيمان والعمل الصالح في نفسه، وأمره غيره به، وهذا نظير رده الإنسان إلى أسفل سافلين واستثناء الذين آمنوا وعملوا الصالحات من هؤلاء المردودين».

وقال أيضًا ([64]): «لو أن الناس أخذوا بهذه السورة لوسعتهم أو كفتهم، كما قال الشافعي t: لو فكر الناس في سورة العصر لكفتهم. فإنه سبحانه قسم نوع الإنسان فيها قسمين: خاسرًا، ورابحًا، فالرابح من نصح نفسه بالإيمان والعمل الصالح، ونصح الخلق بالوصية بالحق المتضمنة لتعليمه وإرشاده، والوصية بالصبر المتضمنة لصبره هو أيضًا. فتضمنت السورة النصيحتين والتكميلتين وغاية كمال القوتين بأخصر لفظ وأوجزه وأهذبه وأحسنه ديباجة وألطفه موقعًا».

وقال السعدي([65]): «والخسار مراتب متعددة متفاوتة: قد يكون خاسرًا مطلقًا، كحال من خسر الدنيا والآخرة، وفاته النعيم، واستحق الجحيم، وقد يكون خاسرًا من بعض الوجوه دون بعض، ولهذا عمم الله الخسار لكل إنسان، إلا من اتصف بأربع صفات: الإيمان بما أمر الله بالإيمان به، ولا يكون الإيمان بدون العلم، فهو فرع عنه لا يتم إلا به، والعمل الصالح، وهذا شامل لأفعال الخير كلها، الظاهرة والباطنة، المتعلقة بحقوق الله، وحقوق عباده، الواجبة والمستحبة. والتواصي بالحق، الذي هو الإيمان والعمل الصالح، أي: يوصي بعضهم بعضًا بذلك، ويحثه عليه، ويرغبه فيه، والتواصي بالصبر على طاعة الله، وعن معصية الله، وعلى أقدار الله المؤلمة، فبالأمرين الأولين، يكمل العبد نفسه. وبالأمرين الأخيرين يكمل غيره، وبتكميل الأمور الأربعة، يكون العبد قد سلم من الخسار، وفاز بالربح العظيم».

وقفة تأمل:

أخي المسلم: قف عند كل آية من آيات هذه السورة العظيمة بل عند كل كلمة منها، بل عند كل حرف وتأمل فيها.

تأمل وتفكر، لماذا أقسم المولى عز وجل بالعصر؟ وما هو العصر؟ وما حقيقة الخسارة؟ وما حقيقة الربح؟

واعلم أن الله عز وجل أقسم بالعصر تنبيها وتذكيرًا وإشارة ودلالة على أهمية العصر وعظيم قيمته ووجوب حفظه، والعصر هو الزمن، وهو عمر الإنسان، الذي لا يقدر بثمن عند من عرف أن الأمر جد، ليس بالهزل كما قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى}([66]).

وكما قيل:

قد رشحوك لأمر لو فطنت له

فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل

وقال الآخر:

الأمر جد وهو غير مزاح

فاعمل لنفسك صالحًا يا صاح

وعند من عرف قدر الحياة وأنها ميدان التنافس والتسابق والمسارعة للأعمال الصالحة التي فيها السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة، كما قال عز وجل: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}([67]).

وقال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ}([68]).

وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ}([69]).

وقال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}([70]).

ونعمت المسابقة والمسارعة والمنافسة – والله المستعان -.

ولم أجد الإنسان إلا ابن سعيه

فمن كان أسعى كان بالمجد أجدرا

فلم يتأخر من أراد تقدمًا

ولم يتقدم من أراد تأخرا([71])

أخي في الله لا يغرك ما عليه كثير من الناس من المنافسة على أمور الدنيا الفانية، والزهد فيما دعاهم الله إليه من المنافسة والمسارعة والمسابقة فيما فيه سعادة الدارين من الأعمال الصالحة، وتأمل قول الله عز وجل: {إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ}([72]).

وقوله عز وجل: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}([73]).

وقوله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}([74]).

وقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}([75]).

وقد روي عن ابن مسعود t أنه قال «لا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين ولا تستوحش من الحق لقلة السالكين».

فخذ أخي في الله نفسك بالجد والمنافسة والمسابقة والمسارعة في الخير، ولا تنس نصيبك من الدنيا، واعلم أن الغبطة حقًا في العمل الصالح، الذي هو صمام الأمان وسر السعادة في الدنيا والآخرة، فاجعل منافستك في ذلك، كن سباقًا إلى المساجد وإلى أداء الواجبات من حقوق الله وحقوق الخلق، كن ورعًا مبتعدًا عن محارم الله. وإذا رأيت من ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة، كما قال عمر بن الخطاب t: «إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة».

واعلم وفقك الله أن الغبن في هذا ليس باليسير، بل لا يكاد يوصف، وفرق ما بين الثرى والثريا. وكما قيل:

سوف ترى إذا انجلى الغبار

أفرس تحتك أم حمار

واعلم أن الخسارة في هذا لا تشبهها خسارة، فالخسارة الكبرى والمصيبة العظمى، والكسر الذي لا يمكن جبره أن يصاب الإنسان في دينه فيخسر دنياه وآخرته ونفسه وأهله وولده وماله وكل شيء، كما قال عز وجل: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}([76]).

واعلم أن الربح في هذا لا يقدر ولا يحد، بل هو سعادة الدنيا والآخرة، نسأل الله تعالى من فضله التوفيق للإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، فهذا غاية الربح، وهذا تمام النعمة الذي عناه الله عز وجل بقوله: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ}([77] وبقوله: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}([78]).

وهو طريق الذين أنعم الله عليهم النعمة الحقيقية كما قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا}([79]).

وهو الهداية المنشودة لعباد الله بقولهم {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}([80]).

فقف أخي – بارك الله فيك – على مفترق هذين الطريقين وتأمل ببصيرة وحضور قلب، وقارن وقلِّب الفكر والنظر عسى أن يظهر لك ويتبين البون الشاسع والفرق الواسع ، فتجتنب طريق أهل الخسران، وتلزم طريق أهل الربح والسعادة والإنعام ، وما أراك تعدل به طريقًا ، وفقك الله.

واعلم – أخي الكريم – أن الربح والسعادة مطلب لكل أحد، فكل يسعى بحثًا عن ذلك، لكن المؤسف حقًا – كم هم الذين عرفوا طريق السعادة حقًا – سؤال يطرح نفسه؟ وجوابه باختصار:

أن السواد الأعظم من الناس جهلوا طريق السعادة، بل طلبوها في غير مظانها فصدق فيهم قول الشاعر:

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها

إن السفينة لا تجري على اليبس([81])

ففئام من الناس حسبوا الربح والسعادة بالسعي لتحقيق شهوات النفس، وإرخاء العنان لها في ذلك، ولو كان مما حرم الله، كالفجور وشرب الخمور والغناء والمجون ونحو ذلك، وأين لهؤلاء الربح والسعادة، وقد طلبوهما بما يحقق الخسران والشقاوة؟

وفئام من الناس حسبوا الربح والسعادة في الانهماك بالمباحات ، فهم يلهثون وراء جمع المال، وتنويع المآكل والمشارب، واختيار الملابس الأنيقة، والفرش الوثيرة، والمساكن المزخرفة، والمراكب الفاخرة والموضات والموديلات والمخترعات والأسفار والتنقلات بين الدول والبلدان بحثًا عن الأجواء اللطيفة المعتدلة، والحدائق الغناء والمناظر الجميلة والآثار القديمة والملاعب والملاهي – وهؤلاء أيضًا أخطؤوا طريق السعادة وحرموا منها، فلم يذوقوا لها طعما.

وأقول لأولئك وهؤلاء ولنفسي ولكل من يطلب الربح والسعادة حقًا: أبى الله أن يكون الربح والسعادة إلا بالإيمان والعمل الصالح تحت مظلة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}([82]).

ولله در الحسن البصري رحمه الله حيث قال: «مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا ألذ ما فيها» نعم والله إننا مساكين، فما أكثر الذين خرجوا ويخرجون من الدنيا وما ذاقوا ألذ ما فيها. وقال رحمه الله: «التمسوا حلاوة الإيمان في ثلاثة: في الصلاة، وذكر الله، وقراءة القرآن. فإن لم تجدوها فاعلموا أن الباب مغلق».

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ([83]): «إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة».

فليث شعري من ذاق منا تلك اللذة، لذة الإيمان، ومن دخل منا تلك الجنة جنة التنعم بتلقي أوامر الديان، وخدمته، والتلذذ بمناجاته وعبادته، والتوكل عليه، فهذا غاية الربح ومنتهى السعادة، نسأل الله الكريم من فضله.

فتذوق أخي لذة الإيمان، وتنعم بجنة الدنيا بالانقياد للملك الديان وأسلم وجهك له، وسلم أمرك إليه كما قال عز وجل {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}([84])، فإن أخذت بهذا فأبشر فأنت ولدت الآن.

هنا تجد في نفسك محبة الله ومحبة رسوله ﷺ‬ ومحبة الخير وأهله، هنا تجد محبة المسارعة لأداء الواجبات من حقوق الله وحقوق الخلق، وأعمال البر كلها، هنا تجد الورع عن المحرمات، تجد في الله عوضًا عن كل ما فاتك من الدنيا ولا تأس على شيء منها، وإنما تحزن على ما فاتك من نصيبك من ربك، تجد قلبك معلقًا بالمساجد، تجد أحلى صوت تسمعه: الله أكبر، تجد أسعد اللحظات في عمرك وقوفك مصليًا تناجي ملك الملوك، أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، المولى العزيز الرحيم، تجد القناعة في نفسك، تجدك لا تحس بالفراغ النفسي لامتلاء قلبك بحب الله وما يقربك إليه. إن طلب الناس السعادة في المساكن والمراكب والمنتزهات وأنواع الشهوات والملذات طلبتها في مناجاة الله، وتدبر كلامه والقيام بطاعته وأمره، وهذا قمة السعادة.

هنا تجد الأمن، تجد الطمأنينة، تجد الرضا بما قسم الله لك، تجد البركة في العمر ولو كان قصيرًا، تجد البركة في الرزق وإن كان مضيقًا، تجد تيسير الله لأمورك، وتسخيره الخلق لك بلا درهم منك لهم ولا دينار، وصدق الله العظيم حيث قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}([85]).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «من أراد السعادة الأبدية فليزم عتبة العبودية».

وختامًا: فإن من لم يجد السعادة بتلقي أوامر الله وتنفيذها، والحذر من نواهيه والبعد عنها وإسلام الوجه لله، وتسليم الأمر له والتوكل عليه فلن يجد للسعادة طعمًا ولو حيزت له الدنيا بحذافيرها.

* * *


 الخــاتمة

الحمد لله ذي الجلال والإنعام، والصلاة والسلام على سيد الخلق، وخير الأنام، نبينا محمد وعلى آله وصحبه بدور الدجى، ومصابيح الظلام.. أما بعد:

فمن خلال البحث والتأمل في آيات هذه السورة العظيمة «سورة العصر» تتجلى نتائج عدة من أهمها:

* تحقيق معنى تلك العبارة التي أطلقها الإمام الشافعي رحمه الله حينما قال: «لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم»([86]).

* أهمية الوقت، ووجوب اغتنامه، بما يسعد الإنسان في دنياه وأخراه.

* أن الربح والسعادة الحقيقية بالإيمان والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، وأن أي إنسان خاسر إلا من أخذ بهذا المنهج.

* أن الخسارة العظمى هي الخسارة في الدين، وهي المصيبة الكبرى.

* عدم الاغترار بما عليه كثير من الناس من الإقبال على الدنيا والزهد في الآخرة.

* أن العاقل اللبيب من أخذ نفسه بالجد والمنافسة في الخير، ولم ينس نصيبه من الدنيا.

* أن الغبطة حقًا في العمل الصالح الذي هو صمام الأمام وسر السعادة في الدنيا والآخرة.

* أن الغبن في ذلك ليس بالشيء اليسير، فالخسارة في الدين لا تشبهها خسارة، والربح في الدين لا يقدر قدره؛ فهو سعادة الدارين.

* أن السواد الأعظم من الناس جهلوا طريق السعادة، بل طلبوها في غير موضعها.

* أبي الله أن يكون الربح والسعادة إلا بالإيمان والعمل الصالح تحت مظلة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}([87]).

* إلى غير ذلك من النتائج والفوائد التي اشتمل عليها هذا البحث. أسأل الله العلي القدير أن ينفع به، وأن يرزقني الإخلاص في القول والعمل. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



([1]) سورة الفرقان، آية 62.

([2]) سورة الإسراء، آية 9.

([3]) سورة الأنعام، آية 153.

([4]) البيت لأبي العلاء المعري، وهو في ديوانه المسمى بسقط الزند، ص142.

([5]) انظر: سير أعلام النبلاء 5/363، ترجمة مالك بن دينار.

([6]) البيت لأبي العتاهية وهو في «ديوانه» ص194.

([7]) قال ابن كثير بعد ذكر هذا الخبر: «والوبر: دويبة تشبه الهر، أعظم شيء فيه أذناه وصدره وباقيه دميم. فأراد مسيلمة أن يركب من هذا الهذيان ما يعارض به القرآن، فلم يرج ذلك على عابد الأوثان في ذلك الزمان.

([8]) انظر «مفتاح دار السعادة» ص61، «بدائع التفسير» 5/325، «تفسير ابن كثير» 8/499.

([9]) في «تفسيره» 8/500، وانظر «الكشاف» 4/232.

([10]) البيت لحميد بن ثور الهلالي وهو في ديوانه ص8. وانظر «الجامع لأحكام القرآن» 20/179، «بدائع التفسير» 5/328. وقيل المراد بالعصر: صلاة العصر، وقيل: عصر النبوة.

انظر «الكشاف» 4/232، «الجامع لأحكام القرآن» 20/179.

([11]) انظر «تفسير ابن كثير» 8/500.

([12]) في «الكشاف» 4/232.

([13]) انظر «التبيان في أقسام القرآن» ص83-88، وانظر «بدائع التفسير» 5/329.

([14]) المرجع نفسه .

([15]) سورة الشمس، الآيات: 1-4.

([16]) سورة الليل، الآيتان: 1، 2.

([17]) سورة الضحى، الآيتان: 1، 2.

([18]) سورة الفرقان، آية: 62.

([19]) أخرجه الترمذي في صفة القيامة 2417 – من حديث أبي برزة الأسلمي t وقال: «حديث حسن صحيح» وأخرجه من حديث أبي هريرة t 2416.

([20]) سورة فاطر، آية: 37.

([21]) أخرجه البخاري في الرقاق 6419 من حديث أبي هريرة t.

([22]) البيت للشاعر أحمد شوقي، وهو ضمن قصيدته في رثاء مصطفى كامل باشا، وهو في ديوانه «الشوقيات» 3/158.

([23]) سورة الزمر، آية: 15.

([24]) سورة الحج، آية: 11.

([25]) سورة المسد، آية: 1.

([26]) سورة البقرة، آية 195.

وهذا الأثر أخرجه عن أبي أيوب الأنصاري أبو داود في الجهاد 2512، والترمذي في تفسير سورة البقرة 2976، وقال «حديث حسن صحيح غريب»، وصححه الألباني. وانظر «تفسير ابن كثير» 1/331.

([27]) أخرجه البخاري في الصوم، باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفر 1936، ومسلم في الصيام، باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم 1111، وأبو داود في الصوم 2390، من حديث أبي هريرة t.

([28]) انظر «تفسير ابن كثير» 8/500.

([29]) سورة يوسف، آية 17.

([30]) انظر: «مجموع الفتاوى» 7/638.

([31]) سورة البينة، الآية: 5.

([32]) أخرجه مسلم في الزهد والرقائق 2985، وابن ماجة في الزهد 4202 – من حديث أبي هريرة t.

([33]) سورة الحشر، آية: 7.

([34]) أخرجه البخاري في الصلح 2697، ومسلم في الأقضية 1718، وأبو داود في السنة 4606، وابن ماجة في المقدمة 14 – من حديث عائشة رضي الله عنها.

([35]) سورة النساء، لآية: 125.

([36]) انظر «تفسير ابن كثير» 2/374.

([37]) سورة البقرة، آية: 112.

([38]) سورة الكهف، آية: 110.

([39]) انظر «بدائع التفسير» 5/330.

([40]) سورة السجدة، آية: 24.

([41]) في «الكشاف» 4/232.

([42]) في «تفسيره» 8/500.

([43]) انظر «تيسير العزيز الحميد» ص512.

([44]) انظر «بدائع التفسير» 5/330-331، «الكشاف» 4/232.

([45]) أخرجه البخاري في الجنائز 1284، ومسلم في الجنائز 923 من حديث أسامة ابن زيد t.

([46]) سورة هود، آية: 11.

([47]) سورة آل عمران، آية: 125.

([48]) سورة آل عمران، آية: 120.

([49]) سورة الروم، آية: 60.

([50]) في «تفسيره» 8/500.

([51]) انظر «مفتاح دار السعادة» ص61. وانظر «عدة الصابرين» ص75، «إغاثة اللهفان» 1/25، «بدائع التفسير» 5/325.

([52]) انظر «بدائع التفسير» 5/330.

([53]) أخرجه أبو داود في الأيمان والنذور 3251، والترمذي في النذور والأيمان 1535 – من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان 6/278، والحاكم 1/18، 4/297 ووافقه الذهبي، وصححه الألباني. وانظر «تيسير العزيز الحميد» ص589.

([54]) أخرجه البخاري في الشهادات 2679، ومسلم في الإيمان 1646 من حديث ابن عمر t، وأخرجه مسلم 1648 من حديث عبد الرحمن بن سمرة t.

([55]) سورة الفرقان، آية: 62.

([56]) انظر «بدائع التفسير» 5/328.

([57]) سورة الزمر، آية: 15.

([58]) قال علي بن أبي طالب t: «ألا إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس بان الجسد، ثم رفع صوته فقال: ألا لا إيمان لمن لا صبر له» انظر «تيسير العزيز الحميد» ص512.

([59]) أخرج أبو نعيم في «الحلية» والبيهقي في «شعب الإيمان» أن الصبر نصف الإيمان انظر «تيسير العزيز الحميد» ص512.

([60]) سورة السجدة، الآية: 24.

([61]) أخرجه البخاري في الرقاق 6470، ومسلم في الزكاة 1053.

([62]) انظر «مدارج السالكين» 1/6-7، «بدائع التفسير» 5/327، وانظر «تيسير الكريم الرحمن» 7/669.

([63]) انظر «بدائع الفوائد» 5/329.

([64]) انظر «الكلام على مسألة السماع» ص404، «بدائع التفسير» 5/327-328.

([65]) في «تيسير الكريم الرحمن» 7/670.

([66]) سورة القيامة، آية: 36.

([67]) سورة آل عمران، آية: 133.

([68]) سورة الحديد، آية: 21.

([69]) سورة الواقعة، آية: 10.

([70]) سورة المطففين، آية: 26.

([71]) هذان البيتان لابن هانئ، انظر «ديوانه» ص140.

([72]) سورة ص، آية: 24.

([73]) سورة يوسف، آية: 103.

([74]) سورة الأنعام، آية: 116.

([75]) سورة سبأ، آية: 13.

([76]) سورة الزمر، آية: 15.

([77]) سورة البقرة، آية: 150.

([78]) سورة المائدة، آية: 3.

([79]) سورة النساء، الآيتان: 69، 70.

([80]) سورة الفاتحة، الآيتان: 6، 7.

([81]) البيت لأبي العتاهية وهو في ديوانه ص194.

([82]) سورة الفاتحة، آية: 4.

([83]) انظر «الوابل الصيب» 1/69.

([84]) سورة هود، آية: 123.

([85]) سورة الطلاق، الآيتان: 2، 3.

([86]) راجع ص8.

([87]) سورة الفاتحة، آية: 5.