القواعد الحسان المتعلقة بتفسير القرآن
التصنيفات
الوصف المفصل
- القواعد
الحسان المتعلقة بتفسير القرآن
- مقِّدمة التحقيق
- مقدمة
- القاعدة الأولى: في كيفية تلقي التفسير.
- القاعدة الثانية: العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب.
- القاعدة الثالثة: الألف واللام الداخلة على الأوصاف، وأسماء الأجناس، تفيد الاستغراق بحسب ما دخلت عليه.
- القاعدة الرابعة: إذا وقعت النكرة في سياق النفي، أو النهي، أو الشرط، أو الاستفهام، دلت على العموم.
- القاعدة الخامسة: المفرَد المضاف يفيد العموم، كما يفيد ذلك اسم الجمع.
- القاعدة السادسة: في طريقة القرآن في تقرير التوحيد ونفي ضده.
- القاعدة السابعة: في طريقة القرآن في تقرير نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم.
- القاعدة الثامنة: طريقة القرآن في تقرير المعاد.
- القاعدة التاسعة: في طريقة القرآن في أمر المؤمنين وخطابهم بالأحكام الشرعية.
- القاعدة العاشرة في الطرق التي في القرآن لدعوة الكفار على اختلاف مللهم ونِحلهم.
- القاعدة الثانية عشر[ة]:
- القاعدة الثالثة عشر[ة]: طريقة القرآن في الحِجَاج والمجادلة مع أهل الأديان الباطلة.
- القاعدة الرابعة عشر[ة]: حذف المُتَعَلَّق ـ المعمول فيه ـ يفيد تعميم المعنى المناسب له.
- القاعدة الخامسة عشر[ة] جعل الله الأسباب للمطالب العالية مبشِّرات لتطمين القلوب وزيادة الإيمان.
- القاعدة السادسة عشر[ة] : حذف جواب الشرط يدل على تعظيم الأمر وشدته في مقامات الوعيد.
- القاعدة السابعة عشر[ة]:
- القاعدة الثامنة عشر[ة]:
- القاعدة التاسعة عشر[ة]: خَتْمُ الآيات بأسماء الله الحسنى يدل على أن الحكم المذكور له تعلق بذلك الاسم الكريم.
- القاعدة العشرون: القرآن كله محكم باعتبار، وكله متشابه باعتبار، وبعضه محكم وبعضه متشابه باعتبار ثالث.
- القاعدة الحادية والعشرون:
- القاعدة الثانية والعشرون: في مقاصد أمثلة القرآن.
- القاعدة الثالثة والعشرون:
- القاعدة الرابعة والعشرون: القرآن يرشد إلى التوسط والاعتدال في الأمور، ويذم التقصير والغلو ومجاوزة الحد.
- القاعدة الخامسة والعشرون: حدود الله قد أمر بحفظها، ونهى عن تعدِّيها وقربانها.
- القاعدة السادسة والعشرون: الأصل أن الآيات التي فيها قيود لا تثبت أحكامها
- إلا بوجود تلك القيود إلا في آيات يسيرة.
- القاعدة السابعة والعشرون: المحترزات في القرآن تقع في كل المواضع في أشد الحاجة إليها.
- القاعدة الثامنة والعشرون: في ذكر الأوصاف الجامعة التي وصف الله بها المؤمن.
- القاعدة التاسعة والعشرون: في الفوائد التي يجتنيها العبد في معرفته وفهمه لأجناس علوم القرآن.
- القاعدة الثلاثون: أركان الإيمان بالأسماء الحسنى ثلاثة: إيماننا بالاسم،
- وبما دل عليه من المعنى، وبما تعلق به من الآثار.
- القاعدة الحادية والثلاثون: ربوبية الله في القرآن على نوعين: عامة، وخاصة.
- القاعدة الثانية والثلاثون:
- القاعدة الثالثة والثلاثون:
- القاعدة الرابعة والثلاثون:
- القاعدة الخامسة الثلاثون:
- القاعدة السادسة والثلاثون:
- القاعدة السابعة و[الثلاثون] ([42]):
- القاعدة الثامنة والثلاثون:
- القاعدة التاسعة والثلاثون: في طريقة القرآن في أحوال السياسة الداخلية والخارجية.
- القاعدة الأربعون: في دلالة القرآن على أصول الطب.
- القاعدة الحادية والأربعون:
- القاعدة الثانية والأربعون: في أن الله قد ميَّز في كتابه بين حقه الخاص وحق رسوله الخاص، والحق المشترك.
- القاعدة الثالثة والأربعون:
- القاعدة الرابعة والأربعون:
- القاعة الخامسة والأربعون:
- القاعدة السادسة والأربعون:
- القاعدة السابعة والأربعون:
- القاعدة الثامنة والأربعون:
- القاعدة التاسعة والأربعون:
- القاعدة الخمسون:
- القاعدة الحادية والخمسون:
- القاعدة الثانية والخمسون:
- القاعدة الثالثة والخمسون:
- القاعدة الرابعة والخمسون:
- القاعدة الخامسة والخمسون:
- القاعدة السادسة والخمسون:
- القاعدة السابعة والخمسون:
- القاعدة الثامنة والخمسون:
- القاعدة التاسعة والخمسون:
- القاعدة الستون:
- القاعدة الحادية والستون:
- القاعدة الثانية والستون:
- القاعدة الثالثة والستون:
- القاعدة الرابعة والستون:
- القاعدة الخامسة والستون:
- القاعدة السادسة والستون:
- [القاعدة] ([62]) السابعة والستون:
- القاعدة [الثامنة] والستون ([63]):
- [القاعدة التاسعة] والستون: من ترك شيئاً لله عوَّضه الله خيراً منه.
- القاعدة [السبعون]:
- القاعدة [الحادية و] السبعون: في اشتمال كثير من ألفاظ القرآن على جوامع المعاني.
القواعد الحسان المتعلقة بتفسير القرآن
تأليف
الشيخ العلاّمة
عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي
1307 ـ 1376هـ
اعتنى به
خالد بن عثمان السبت
بسم الله الرحمن الرحيم
مقِّدمة التحقيق
الحمد لله الذي نزَّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، وأصلِّي وأُسلِّم على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنه لا يخفى على أهل العلم وطلابه ما لمعرفة القواعد والضوابط العلمية من المنافع الجمَّة، والثمرات النافعة؛ ذلك أنها تجمع الجزئيات الكثيرة المتناثرة في عبارات موجزة يسهل على الناظر حفظها؛ ومن أجل ذلك تتابع العلماء على الكتابة في القواعد في فنون متعدِّدة تتصل بالعلوم الشرعية.
وهذا الكتاب يُعدُّ واحداً من أسهلها تناولاً، وأوضحها عبارة؛ حيث حوى جملة من قواعد التفسير الكلية المعتبرة، إضافة إلى جملة صالحة من الفوائد والإرشادات القرآنية التي كشف المؤلف النقاب عنها.
وقد هيَّأ الله تعالى للمؤلف ـ رحمه الله ـ إنجازه في فترة وجيزة؛ حيث شرع فيه في غُرَّة شهر رمضان المبارك من سنة خمس وستين وثلاثمائة بعد الألف، وكان الفراغ منه في السادس من شهر شوَّال من السنة نفسها.
كما طُبع الكتاب في حياة المؤلف ـ رحمه الله ـ بعناية الشيخ محمد حامد الفقي ـ رحمه الله ـ ثم تعدَّدت طبعاته المبنية على طبعته الأولى ([1])
وقد وقفت على نسختين خطيَّتين للكتاب ([2]) ـ بخط المؤلف ـ إحداهما كاملة ([3])، والأخرى ناقصة من أولها ([4])، والقدر الموجود منها نصف صفحة من آخر القاعدة رقم (58) إلى آخر الكتاب.
وبعد المقارنة بين النسختين تبيَّنت النتائج الآتية:
1 ـ أن المؤلف ـ رحمه الله ـ يغير بعض العبارات، إلا أن هذا التغيير ليس له أثر معتبر في المعنى إلا في موضعين، وهما الآتي ذكرهما بعده.
2 ـ محتوى القاعدة رقم (66) في النسخة الأولى مغاير تماماً لما كتبه المؤلف ـ رحمه الله ـ في النسخة الأخرى تحت هذا الرقم، حيث كتب قاعدة جديدة.
3 ـ بعد أسطر قليلة من تقرير القاعدة رقم (70) اختلفت الصياغة تماماً، وإن كان المضمون في الجملة واحداً.
هذا إضافة إلى أن القاعدة رقم: (68) أغفل المؤلف ذكرها في النسخة الأخرى (ب).
وبعد مقابلة النسختين الخطيتين بالمطبوعة المشار إليها رأيت تغايراً كثيراً من زيادات كثيرة في المطبوع، وتصرُّف في العبارات!! فصحَّ العزم على تصحيح الكتاب وإخراجه كما وضعه مؤلفه ـ رحمه الله ـ، وكان العمل فيه على النحو الآتي:
1 ـ اعتمدت النسخة الكاملة، ورمزت لها بـ( أ ).
2 ـ لم أُثبت الفروقات ـ من النسخة ب ـ التي ليس لها أثر معتبر في المعنى.
3 ـ أثبتُّ ما كتبه المؤلف تحت القاعدة رقم (66) في النسخة (ب) في الهامش تتميماً للفائدة.
4 ـ نقلت الصياغة المغايرة ضمن شرح القاعدة رقم (70) من النسخة (ب) وجعلت ذلك في الهامش.
5 ـ يوجد على هوامش النسخة التي اعتمدتها بعض التصويبات بخط المؤلف، وأُخرى بخط مغاير، فاعتمدت ما كان بخط المؤلف دون غيره.
6 ـ وقع في الكتاب جملة من الأخطاء، في الآيات القرآنية وغيرها، وقد صوَّبت ما وقع من ذلك في الآيات دون إشارة إلى ذلك، وما سواها من الأخطاء أشرت لها في الهامش دون تصرف في أصل الكتاب، إلا في مواضع يسيرة دعت الحاجة إليها، وقد جعلت ذلك بين معقوفين [ ] ([5]).
7 ـ عزوت الآيات القرآنية إلى مواضعها، وجعلت ذلك في صلب الكتاب تقليلاً للهوامش.
8 ـ خرَّجت الأحاديث النبوية تخريجاً مختصراً، وإذا كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما فإني أكتفي بتخريجه منها.
9 ـ وضعت في آخر الكتاب فهرساً للموضوعات.
10 ـ إنما قصدت بهذا العمل إخراج نص الكتاب محققاً؛ ولذا اقتصرت عند التعليق في الهامش على ما تمس إليه الحاجة محافظة على حجم الكتاب، ولا يخفى ما تميزت به كتب المؤلف ـ رحمه الله ـ من سهولة العبارة ووضوحها الأمر الذي لا يُحتاج معه إلى شرح وكثير تعليق.
هذا وأسأل الله العظيم بمنِّه وإحسانه أن يعلِّمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يلهمنا رشدنا، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
وكتب: خالد بن عثمان السبت
11/4/1420هـ
مقدمة
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً.
أما بعد...
فهذه أصول وقواعد في تفسير القرآن الكريم، جليلة المقدار، عظيمة النفع، تعين قارئها ومتأملها على فهم كلام الله، والاهتداء به، ومَخْبَرُها أجل من وصفها؛ فإنها تفتح للعبد من طرق التفسير ومنهاج الفهم عن الله ما يُعين على كثير من التفاسير الْحَالِيّة في هذه البحوث النافعة.
أرجو الله وأسأله أن يتم ما قصدنا إيراده، ويفتح لنا من خزائن جوده وكرمه ما يكون سبباً للوصول إلى العلم النافع، والهدى الكامل.
واعلم أن علم التفسير أجل العلوم على الإطلاق، وأفضلها، وأوجبها، وأحبها إلى الله؛ لأن الله أمر بتدبُّر كتابه، والتفكُّر في معانيه، والاهتداء بآياته، وأثنى على القائمين بذلك، وجعلهم في أعلى المراتب، ووعدهم أسنى المواهب، فلو أنفق العبد جواهر عمره في هذا الفن لم يكن ذلك كثيراً في جنب ما هو أفضل المطالب، وأعظم المقاصد، وأصل الأصول كلها، وقاعدة أساسات الدين، وصلاح أمور الدين والدنيا والآخرة، وكانت حياة العبد زاهرة بالهدى والخير والرحمة، وطيب الحياة، والباقيات الصالحات.
فلنشرع الآن بذكر القواعد والضوابط على وجه الإيجاز الذي يحصل به المقصود؛ لأنه إذا انفتح للعبد الباب، وتمهَّدت عنده القاعدة، وتدرَّب منها بعدة أمثلة توضحها، وتبين طريقها ومنهجها، لم يحتج إلى زيادة البسط، وكثرة التفاصيل.
ونسأله أن يمدنا بعونه ولطفه وتوفيقه، وأن يجعلنا هادين مهتدين بمنِّه وكرمه.
القاعدة الأولى: في كيفية تلقي التفسير.
كل من سلك طريقاً، وعمل عملاً، وأتاه من أبوابه وطرقه الموصلة إليه، فلا بد أن يفلح وينجح، كما قال تعالى: {{وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}} [البقرة: 189] .
وكلَّما عظم المطلوب تأكد هذا الأمر، وتعيَّن البحث التام عن أمثل وأحسن الطرق الموصلة إليه، ولا ريب أن ما نحن فيه هو أهم الأمور وأجلها وأصلها.
فاعلم أن هذا القرآن العظيم أنزله الله لهداية الخلق وإرشادهم، وأنه في كل وقت وزمان يرشد إلى أهدى الأمور وأقومها {{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}} [الإسراء: 9] . فعلى الناس أن يتلقوا معنى كلام الله كما تلقَّاه الصحابة رضي الله عنهم؛ فإنهم إذا قرؤوا عشر آيات، أو أقل، أو أكثر، لم يتجاوزوها حتى يعرفوا ما دلت عليه من الإيمان والعلم والعمل، فينزلونها على الأحوال الواقعة، فيعتقدون ما احتوت عليه من الأخبار، وينقادون لأوامرها ونواهيها، ويُدخلون فيها جميع ما يشهدون من الحوادث والوقائع الموجودة بهم وبغيرهم، ويحاسبون أنفسهم: هل هم قائمون بها، أو مُخلُّون؟ وكيف الطريق إلى الثبات على الأمور النافعة، وإيجاد ما نقص منها؟ وكيف التخلص من الأمور الضارة؟ فيهتدون بعلومه، ويتخلَّقون بأخلاقه وآدابه، ويعلمون أنه خطاب من عالم الغيب والشهادة، موجَّه إليهم، ومطالبون بمعرفة معانيه، والعمل بما يقتضيه.
فمن سلك هذا الطريق الذي سلكوه، وجدَّ واجتهد في تدبُّر كلام الله،
انفتح له الباب الأعظم في علم التفسير، وقويت معرفته، وازدادت بصيرته، واستغنى بهذه الطريقة عن كثرة التكلُّفات، وعن البحوث الخارجية، وخصوصاً إذا كان قد أخذ من علوم العربية جانباً قوياً، وكان له إلمام واهتمام بسيرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأحواله مع أوليائه وأعدائه؛ فإن ذلك أكبر عون على هذا المطلب.
ومتى علم العبد أن القرآن فيه تبيان كل شيء، وأنه كفيل بجميع المصالح، مبيِّن لها، حاثّ عليها، زاجر عن المضارِّ كلها، وجعل هذه القاعدة نصب عينيه، ونزَّلها على كل واقع وحادث سابق أو لاحق، ظهر له عظم موقعها وكثرة فوائدها وثمراتها.
ويلتحق بهذه القاعدة:
القاعدة الثانية: العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب.
وهذه قاعدة نافعة جداً، بمراعاتها يحصل للعبد خير كثير، وعلم غزير، وبإهمالها وعدم ملاحظتها يفوته علم كثير، ويقع الغلط والارتباك. وهذا الأصل اتفق عليه المحققون من أهل الأصول وغيرهم، فمتى راعيتَ القاعدة السابقة، وعرفت ([6]) أن ما قاله المفسِّرون من أسباب النزول إنما هي أمثلة توضح الألفاظ، ليست الألفاظ مقصورة عليها، فقولهم: «نزلت في كذا، وفي كذا»، معناه: أن هذا مما يدخل فيها، ومن جملة ما يُراد بها؛ فإنه ـ كما تقدم ـ إنما أُنزل القرآن لهداية أول الأمة وآخرها، والله تعالى قد أمرنا بالتفكر والتدبُّر لكتابه، فإذا تدبَّرنا الألفاظ العامة، وفهمنا أن معناها يتناول أشياء كثيرة؛ فلأي شيء نخرج بعض هذه المعاني، مع إدخالنا ما هو مثلها ونظيرها؟
ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: «إذا سمعت الله يقول: يا أيها الذين آمنوا» فأرعها سمعك؛ فإنه إما خير تُؤمر به، وإما شر تُنهى عنه» ([7]).
فمتى مرَّ بك خبر عن الله، وعمَّا يستحقه من الكمال، وما يتنزَّه عنه من النقص، فأَثْبِتْ جميع ذلك المعنى الكامل الذي أثبته لنفسه، ونزِّهه عن كل ما نزَّه نفسه عنه. وكذلك إذا أخبر عن رسله، وكتبه، واليوم الآخر، وعن جميع الأمور السابقة واللاحقة، جزمت جزماً لا شك فيه أنه حق على حقيقته، بل هو أعلى أنواع الحق والصدق {{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً}} [النساء: 122] و{{حَدِيثًا}} [النساء: 87] .
وإذا أمر بشيء نظرت إلى معناه، وما يدخل فيه وما لا يدخل، وأن ذلك موجه إلى جميع الأمة. وكذلك في النهي؛ ولهذا كانت معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله أصل الخير والفلاح، والجهل بذلك أصل الشر والجفاء. فمراعاة هذه القاعدة أكبر عون على معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله، والقرآن قد جمع أجلّ المعاني وأنفعها وأصدقها بأوضح الألفاظ وأحسنها، كما قال تعالى: {{وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا *}} [الفرقان: 33] يوضح ذلك ويبينه وينهج طريقه:
القاعدة الثالثة: الألف واللام الداخلة على الأوصاف، وأسماء الأجناس، تفيد الاستغراق بحسب ما دخلت عليه.
وقد نص على ذلك أهل الأصول، وأهل العربية، واتفق على اعتبار ذلك أهل العلم والإيمان.
فمثل قوله تعالى: {{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}} إلى قوله: {{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}} [الأحزاب: 35] أدخل في هذه الأوصاف كل ما تناوله من معاني الإسلام، والإيمان، والقنوت، والصدق، إلى آخرها. وأن بكمال هذه الأوصاف يكمل لصاحبها ما رُتِّب عليها من المغفرة والأجر العظيم، وبنقصانها ينقص، وبعدمها يُفقد. وهكذا كل وصف رُتِّب عليه خير وأجر وثواب، وكذلك ما يقابل ذلك: كل وصف نهى الله عنه، ورتب عليه وعلى المتَّصِف به عقوبة، وشراً، ونقصاً، يكون له من ذلك بحسب ما قام به من الوصف المذكور.
وكذلك مثل قوله تعالى: {{إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا *إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا *وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا *}}، عام بجنس الإنسان، فكل إنسان هذا وصفه، إلا من استثنى الله بقوله: { إلا المصلين } [المعارج: 19 ـ 22] إلى آخرها.
كما أن قوله: {{وَالْعَصْرِ *إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ *}} [العصر: 1 ـ 2] أي: كل إنسان متصف بالخسار {{إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}} الآية [العصر: 3] وأمثال ذلك كثير.
وأعظم ما تعتبر به هذه القاعدة: في الأسماء الحسنى؛ فإن في القرآن منها شيء ([8]) كثير، وهي أجل علوم القرآن، فمثلاً يخبر الله عن نفسه أنه الله، وأنه الملك، والعليم، والحكيم، والعزيز، والرحيم، والقدوس السلام، والحميد المجيد، فـ«الله» هو الذي له جميع معاني الألوهية التي يستحق أن يؤله لأجلها، وهي صفات الكمال كلها، والمحامد كلها، والفضل كله، والإحسان كله، وأنه لا يشارك الله أحد في معنى من معاني الألوهية، لا بشر، ولا ملك، بل هم جميعاً متألِّهون متعبِّدون لربهم خاضعون لجلاله
وعظمته. و[أنه] ([9]) الملك الذي له جميع معاني الملك، وهو الْمُلْك الكامل، والتصرف النافذ، وأن الخلق كلهم مماليك لله، عبيد تحت أحكام ملكه القدرية، والشرعية، والجزائية. وأنه العليم بكل شيء، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، الذي أحاط علمه بالبواطن، والظواهر، والخفيَّات، والجليَّات، والواجبات، والمستحيلات، والجائزات، والأمور السابقة، واللاحقة، والعالَم العلوي، والسفلي، والكليات، والجزئيات، وما يعلم الخلق، وما لا يعلمون. وأنه الحكيم ، الذي له الحكمة التامة الشاملة لجيمع ما قضاه، وقدَّره، وخلقه، وجميع ما شرعه، لا يخرج عن حكمته مخلوق، ولا مشروع. وأنه العزيز ، الذي له جميع معاني العزة على وجه الكمال التام من كل وجه: عزة القوة، وعزة الامتناع، وعزة القهر والغلبة، وأن جميع الخلق في غاية الذل، ونهاية الفقر، ومنتهى الحاجة والضرورة إلى ربهم. وأنه الرحيم ، الذي له جميع معاني الرحمة، الذي وسعت رحمته كل شيء، ولم يخل مخلوق من إحسانه طرفة عين، ووصلت رحمته حيث وصل علمه {{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا}} [غافر: 7] . وأنه القدوس ، السلام ، المعظَّم، المنزَّه عن كل عيب وآفة ونقص، وعن مماثلة أحد، وعن أن يكون له ند من خلقه.
وهكذا بقية الأسماء الحسنى اعتبرها بهذه القاعدة الجليلة ينفتح لك باب عظيم من أبواب معرفة الله، بل أصل معرفة الله تعالى معرفة ما تحتوي عليه أسماؤه الحسنى من المعاني العظيمة بحسب ما يقدر عليه العبد، وإلا فلا يبلغ علم أحد من الخلق، ولا يحصي أحد ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه عباده.
ومن ذلك قوله تعالى: {{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِّرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}} [المائدة: 2] [فالبر] ([10]) يشمل جميع أنواع البر والخير. وتشمل التقوى: جميع ما يجب اتقاؤه من أنواع المعاصي والمحرَّمات.
والإثم: اسم جامع لكل ما يؤثِم ويوقع في المعصية، كما أن العدوان اسم جامع يدخل فيه التعدي على الناس في الدماء، والأموال، والأعراض.
والمعروف في القرآن: اسم جامع لكل ما عُرف حسنه شرعاً وعقلاً. وعكسه المنكر.
وقد نبَّه النبي صلّى الله عليه وسلّم أمته إلى هذه القاعدة، وأرشدهم إلى اعتبارها في قوله في التشهد في الصلاة في قول المصلِّين: «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين»، فقال: «فإنكم إذا قلتم ذلك سلَّمتم على كل عبد صالح من أهل السماء والأرض» ([11])، وأمثلتها في القرآن كثيرة جداً.
القاعدة الرابعة: إذا وقعت النكرة في سياق النفي، أو النهي، أو الشرط، أو الاستفهام، دلت على العموم.
كقوله تعالى: {{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}} [النساء: 36] فإنه نهى عن الشرك به في النيات، والأقوال، والأفعال، وعن الشرك الأكبر، والأصغر، والخفي، والجلي؛ فلا يجعل العبد لله نداً ومشاركاً في شيء من ذلك.
ونظيرها: {{فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا}} [البقرة: 22] .
وقوله في وصف يوم القيامة: {{يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا}}
[الانفطار: 19] يعم كل نفس، وأنه لا تملك شيئاً من الأشياء، لا إيصال
المنافع، ولا دفع المضار.
وكقوله تعالى: {{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ}} [يونس: 107] فكل ضرٍّ قدَّره الله على العبد ليس في استطاعة أحد من الخلق كشفه بوجه من الوجوه، ونهاية ما يقدر عليه المخلوق من الأسباب والأدوية جزء من أجزاء كثيرة داخلة في قضائه وقدره.
وقوله: {{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ}} [فاطر: 2] {{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}} [النحل: 53] يشمل كل خير في العبد ويصيب العبد، وكل نعمة فيها حصول محبوب أو دفع مكروه، فإن الله هو المتفرد بذلك.
وقوله: {{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}} [فاطر: 3] .
وإذا دخلت (مِنْ) صارت نصاً في العموم، كهذه الآية: {{فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ *}}[الحاقة: 47] {{مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}} [الأعراف: 59، 65، 73، 85؛ وهود:50،61،84؛ والمؤمنون:23،32]ولها أمثلة كثيرة جداً.
القاعدة الخامسة: المفرَد المضاف يفيد العموم، كما يفيد ذلك اسم الجمع.
فكما أن قوله تعالى: {{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَهَاتُكُمْ}} إلى آخرها [النساء: 23] يشمل كل أم انْتَسَبْتَ إليها وإن علت، وكل بنت انْتَسَبَتْ إليك وإن نزلت، إلى آخر المذكورات. فكذلك قوله تعالى: {{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ *}} [الضحى: 11] فإنها تشمل النعم الدينية والدنيوية.
{{قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *}} [الأنعام: 162] فإنها تعم الصلوات كلها، والأنساك كلها، وجميع ما العبد فيه
وعليه في حياته ومماته، الجميع ([12]) قد أوقعتَه وأخلصتَه لله وحده لا شريك له.
وقوله: {{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً}} [البقرة: 125] على أحد القولين: أنه يشمل جميع مقاماته في مشاعر الحج، اتخذوه معبداً.
وأصرح من هذا قوله تعالى: {{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}} [النحل: 123] وهذا شامل لكل ما هو عليه من التوحيد، والإخلاص لله تعالى، والقيام بحق العبودية.
وأعم من ذلك وأشمل قوله تعالى لما ذكر الأنبياء: {{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}} [الأنعام: 90] فأمره الله أن يقتدي بجميع ما عليه المرسلون من الهدى، الذي هو العلوم النافعة، والأخلاق الزاكية، والأعمال الصالحة، والهدى المستقيم. وهذه الآية أحد الأدلة على الأصل المعروف: «أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه». وشرع الأنبياء السابقين هو هداهم في أصول الدين وفروعه.
وكذلك قوله تعالى: {{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ}} [الأنعام: 153] وهذا يعمُّ جميع ما شرعه لعباده فعلاً، وتركاً، اعتقاداً، وانقياداً. وأضافهُ إلى نفسه في هذه الآية لكونه الذي نصبه لعباده، كما أضافه إلى الذين أنعم عليهم في قوله: {{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}} [الفاتحة: 7] لكونهم هم السالكون له. فصراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين: ما اتصفوا به من العلوم، والأخلاق، والأوصاف، والأعمال.
وكذلك قوله: { 4 5 6 7 8 } [الكهف: 110] يدخل في ذلك جميع العبادات، الظاهرة والباطنة، العبادات الاعتقادية والعملية.
كما أن وصف الله لرسوله صلّى الله عليه وسلّم بالعبودية المضافة إلى الله {{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ}} [الإسراء: 1] {{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا}} [البقرة: 23] {{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ}} [الفرقان: 1] يدل على أنه وفَّى جميع مقامات العبودية؛ حيث نال أشرف المقامات بتوفيته لجميع مقامات العبوديات.
وقوله: {{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}} [الزمر: 36] فكلما كان العبد أقوم بحقوق العبودية كانت كفاية الله له أكمل وأتم، وما نقص منها نقص من الكفاية بحسبه.
وقوله: {{وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ *}} [القمر: 50] {{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *}} [النحل: 40] يشمل جميع أوامره القدرية الكونية. وهذا في القرآن شيء كثير.
القاعدة السادسة: في طريقة القرآن في تقرير التوحيد ونفي ضده.
يكاد القرآن أن يكون كله لتقرير التوحيد، ونفي ضده، وأكثر الآيات يقرر الله فيها توحيد الإلهية وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك ([13])، ويخبر أن جميع الرسل تدعو قومها إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً، وأنَّ الله تعالى إنما خلق الجن والإنس ليعبدوه، وأن الكتب والرسل اتفقت على هذا الأصل الذي هو أصل الأصول كلها، وأن من لم يدن بهذا الدين الذي هو إخلاص العمل لله فعمله باطل {{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}} [الزمر: 65] {{وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}} [الأنعام: 88] . ويدعو العباد إلى ما تقرر في فطرهم وعقولهم من أن المتفرِّد بالخلق والتدبير، والمتفرِّد بالنعم الظاهرة والباطنة، هو الذي لا يستحق العبادة إلا هو، وأن سائر الخلق ليس عندهم خلق، ولا نفع، ولا دفع، ولن يغنوا عن أحد من الله شيئاً، ويدعوهم أيضاً إلى هذا الأصل بما يتمدح به ويثني على نفسه الكريمة، من تفرُّده بصفات العظمة، والمجد، والجلال، والكمال، وأن من له هذا الكمال المطلق الذي لا يشاركه فيه مشارك أحق من أخلصت له الأعمال الظاهرة والباطنة، ويقرِّر هذا التوحيد بأنه هو الحاكم وحده، فلا يحكم غيره شرعاً ولا جزاء {{إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}} [يوسف: 40] .
وتارة يقرِّر هذا بذكر محاسن التوحيد، وأنه الدين الوحيد الواجب شرعاً، وعقلاً، وفطرة، على جميع العبيد، ويذكر مساوئ الشرك، وقبحه، واختلال عقول أصحابه بعد اختلال أديانهم، وتقليب أفئدتهم، وكونهم في شك وأمر مريج.
وتارة يدعو إليه بذكر ما رتَّب عليه من الجزاء الحسن في الدنيا والآخرة، والحياة الطيبة في الدور الثلاث، وما رتب على ضده من العقوبات العاجلة والآجلة، وكيف كانت عواقبهم أسوأ العواقب وشرها.
وبالجملة: فكل خير عاجل وآجل فإنه من ثمرات التوحيد، وكل شرٍّ عاجل وآجل، فإنه من ثمرات ضده، والله أعلم.
القاعدة السابعة: في طريقة القرآن في تقرير نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم.
هذا الأصل الكبير قرَّره الله في كتابه بالطرق المتنوعة التي يعرف بها كمال صدقه صلّى الله عليه وسلّم، فأخبر أنه صدَّق المرسلين، ودعا إلى ما دعوا إليه، وأن جميع المحاسن التي في الأنبياء فهي في محمد صلّى الله عليه وسلّم، وما نُزهوا عنه من النواقص والعيوب فمحمد أولاهم وأحقهم بهذا التنزيه، وأن شريعته مهيمنة على جميع الشرائع، وكتابه مهيمن على كل الكتب، فجميع محاسن الأديان والكتب قد جمعها هذا الكتاب وهذا الدين، وفاق عليها بمحاسن وأوصاف لم توجد في غيره، وقرَّر نبوته بأنه أمِّي لا يكتب ولا يقرأ، ولا جالس أحداً من أهل العلم بالكتب السابقة، بل لم يُفَاجَأ الناس حتى جاءهم بهذا الكتاب الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله ما أتوا، ولا قدروا، ولا هو في استطاعتهم، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، وأنه محال مع هذا أن يكون من تلقاء نفسه، أو متقوِّل، أو متوهِّم فيما جاء به. وأعاد في القرآن وأبدى في هذا النوع، وقرَّر ذلك بأنه يخبر بقصص الأنبياء السابقين مطوَّلة على الوجه الواقع الذي لا يستريب فيه أحد، ثم يخبر تعالى أنه ليس له طريق ولا وصول إلى هذا إلا بما آتاه الله من الوحي، كمثل قوله تعالى لما ذكر قصة موسى مطوَّلة: {{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ}} [القصص: 46] {{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ}} [القصص: 44] وكما في قوله: {{وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}} [آل عمران: 44] . ولما ذكر قصة يوسف وإخوته مطولة قال: {{وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ}} [يوسف: 102] .
فهذه الأمور والإخبارات المفصَّلة التي يفصِّلها تفصيلاً لم يتمكن أهل الكتاب الذين في وقته ولا من بعدهم على ([14]) تكذيبه فيها ولا معارضته من أكبر الأدلة على أنه رسول الله حقاً.
وتارة يقرِّر نبوته بكمال حكمة الله وتمام قدرته، وأن تأييده لرسوله، ونصره على أعدائه، وتمكينه في الأرض موافق غاية الموافقة لحكمة الله، وأن من قدح في رسالته فقد قدح في حكمة الله، وفي قدرته.
وكذلك نصره وتأييده الباهر على الأمم الذين هم أقوى أهل الأرض من آيات رسالته، وأدلة توحيده، كما هو ظاهر للمتأمِّلين.
وتارة يقرر نبوته ورسالته بما حازه من أوصاف الكمال، وما هو عليه من الأخلاق الجميلة، وأن كل خُلق عال سام فلرسول الله صلّى الله عليه وسلّم منه أعلاه وأكمله؛ فمن عظمت صفاته وفاقت نعوته جميع الخلق التي أعلاها الصدق ([15])، أليس هذا أكبر الأدلة على أنه رسول رب العالمين، والمصطفى المختار من الخلق أجمعين؟.
وتارة يقرِّرها بما هو موجود في كتب الأولين، وبشارات الأنبياء والمرسلين، إما باسمه العلَم، أو بأوصافه الجليلة، وأوصاف أمته، وأوصاف دينه.
وتارة يقرِّر رسالته بما أخبر به من الغيوب الماضية، والغيوب المستقبلة، التي وقعت في زمانه، والتي لا تزال تقع في كل وقت، فلولا الوحي ما وصل إليه شيء من هذا، ولا له ولا لغيره طريق إلى العلم به.
وتارة يقررها بحفظه إياه، وعصمته له من الخلق، مع تكالب الأعداء وضغطهم، وجدهم التام في الإيقاع به بكل ما في وسعهم، والله يعصمه، ويمنعه، وينصره!! وما ذاك إلا لأنه رسوله حقاً، وأمينه على وحيه.
وتارة يقرِّر رسالته بذكر عظمة ما جاء به، وهو القرآن الذي {{لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ *}} [فصلت: 42] وتحدَّى أعداءه ومن كفر به أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور مثله، أو بسورة واحدة، فعجزوا، ونكصوا، وباؤوا بالخيبة والفشل!! وهذا القرآن أكبر أدلة رسالته، وأجلها، وأعمها.
وتارة يقرر رسالته بما أظهر على يديه من المعجزات، وما أجرى له من الخوارق والكرامات الدالة ـ كل واحد بمفرده منها، فكيف إذا اجتمعت ـ على أنه رسول الله الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى .
وتارة يقرِّرها بعظيم شفقته على الخلق، وحنوِّه الكامل على أمته، وأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم، وأنه لم يوجد، ولن يوجد، أحد من الخلق أعظم شفقة، وبراً، وإحساناً، إلى الخلق منه، وآثار ذلك ظاهرة للناظرين.
فهذه الأمور والطرق قد أكثر الله من ذكرها في كتابه، وقرَّرها بعبارات متنوعة ومعاني مفصَّلة، وأساليب عجيبة، وأمثلتها تفوق العد والإحصاء، والله أعلم.
القاعدة الثامنة: طريقة القرآن في تقرير المعاد.
وهذا الأصل الثالث من الأصول التي اتفقت عليها الرسل والشرائع كلها: التوحيد، والرسالة، وأمر المعاد، وحشر العباد.
وهذا قد أكثر الله من ذكره في كتابه، وقرَّره بطرق متنوعة:
منها: إخباره، وهو أصدق القائلين، ومع إكثار الله من ذكره فقد أقسم عليه في ثلاثة مواضع من كتابه.
ومنها: الإخبار بكمال قدرة الله تعالى، ونفوذ مشيئته وأنه لا يعجزه شيء؛ فإعادة العباد بعد موتهم فرد من أفراد آثار قدرته.
ومنها: تذكيره العباد بالنشأة الأولى، وأن الذي أوجدهم ولم يكونوا شيئاً مذكوراً لا بد أن يعيدهم كما بدأهم. وأعاد هذا المعنى في مواضع كثيرة، بأساليب متنوعة.
ومنها: إحياؤه الأرض الهامدة الميتة بعد موتها، وأن الذي أحياها سيحيي الموتى. وقرر ذلك بقدرته على ما هو أكبر من ذلك وهو خلق السموات والأرض، والمخلوقات العظيمة، فمتى أثبت المنكرون لذلك ـ ولن يقدروا على إنكاره ـ فلأي شيء يستبعدون إحياءه الموتى؟.
وقرر ذلك بسعة علمه، وكمال حكمته، وأنه لا يليق به ولا يحسن أن يترك خلقه سُدى مُهْمَلين، لا يُؤمرون، ولا يُنهون، ولا يُثابون، ولا يعاقبون!! وهذا طريق قرَّر به النبوة وأمر المعاد.
ومما قرَّر به البعث، ومجازاة المحسنين بإحسانهم، والمسيئين بإساءتهم: ما أخبر به من أيامه في الأمم الماضين، والقرون الغابرة، وكيف نجّى الأنبياء وأتباعهم، وأهلك المكذبين لهم، المنكرين للبعث، ونوَّع عليهم العقوبات، وأحل بهم المثُلات، فهذا جزاء معجَّل، ونموذج من جزاء الآخرة أراه الله عباده؛ ليهلك من هلك عن بيِّنة، ويحيا من حيَّ عن بيِّنة.
ومن ذلك ما أرى الله عباده من إحيائه الأموات في الدنيا، كما ذكره الله عن صاحب البقرة، والألوف من بني إسرائيل، والذي مرَّ على قرية وهي خاوية على عروشها، وقصة إبراهيم الخليل والطيور، وإحياء عيسى ابن مريم للأموات، وغيرها مما أراه الله عباده في هذه الدار ليعلموا أنه قوي ذو اقتدار، وأن العباد لا بد أن يَرِدوا دار القرار، إما الجنة أو النار. وهذه المعاني أبداها الله وأعادها في مَحَالّ كثيرة. والله أعلم.
القاعدة التاسعة: في طريقة القرآن في أمر المؤمنين وخطابهم بالأحكام الشرعية.
قد أمر الله تعالى بالدعاء إلى سبيله بالتي هي أحسن، أي: بأقرب طريق موصل للمقصود، محصل للمطلوب. ولا شك أن الطرق التي سلكها الله في خطاب عباده المؤمنين بالأحكام الشرعية هي أحسنها وأقربها فأكثر ما يدعوهم إلى الخير وينهاهم عن الشر بالوصف الذي مَنَّ عليهم به وهو الإيمان، فيقول: يا أيها الذين آمنوا افعلوا كذا، واتركوا كذا؛ لأن في ذلك دعوة لهم من وجهين:
أحدهما: من جهة الحث على القيام بلوازم الإيمان، وشروطه، ومكملاته، فكأنه يقول: يا أيها الذين آمنوا قوموا بما يقتضيه إيمانكم، من امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، والتخلق بكل خُلق حميد، والتجنب لكل خُلق رذيل؛ فإن الإيمان الحقيقي هكذا يقتضي؛ ولهذا أجمع السلف أن الإيمان يزيد وينقص، وأن جميع شرائع الدين الظاهرة والباطنة من الإيمان ولوازمه، كما دلت على هذا الأصل الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة، وهذا أحدها؛ حيث يصدر الله أمر المؤمنين بقوله: «يا أيها الذين آمنوا» ، أو يعلق فعل ذلك على الإيمان، وأنه لا يتم الإيمان إلا بذلك المذكور.
والوجه الثاني: أنه يدعوهم بقوله: «يا أيها الذين آمنوا» «افعلوا كذا، أو اتركوا كذا». أو يعلق ذلك بالإيمان، يدعوهم بمنَّته عليهم بهذه المنَّة التي هي أجل المنن، أي: يا من منَّ الله عليهم بالإيمان قوموا بشكر هذه النعمة بفعل كذا وترك كذا.
فالوجه الأول: دعوة لهم أن يتمِّموا إيمانهم ويكملوه بالشرائع الظاهرة والباطنة.
والوجه الثاني: دعوة لهم إلى شكر نعمة الإيمان ببيان تفصيل هذا الشكر، وهو الانقياد التام لأمره ونهيه.
وتارة يدعو المؤمنين إلى الخير، وينهاهم عن الشر، بذكر آثار الخير، وعواقبه الحميدة، العاجلة والآجلة، وبذكر آثار الشر، وعواقبه الوخيمة، في الدنيا والآخرة.
وتارة يدعوهم إلى ذلك بذكر نعمه المتنوعة، وآلائه الجزيلة، وأن النعم تقتضي منهم القيام بشكرها، وشكرها هو القيام بحقوق الإيمان.
وتارة يدعوهم إلى ذلك بالترغيب والترهيب، وبذكر ما أعدَّ الله للمؤمنين الطائعين من الثواب، وما لغيرهم من العقاب.
وتارة يدعوهم إلى ذلك بذكر ما له من الأسماء الحسنى، وما له من الحق العظيم على عباده، وأن حقه عليهم أن يقوموا بعبوديته ظاهراً وباطناً، ويتعبَّدوا له ويدعوه بأسمائه الحسنى، وصفاته المقدَّسة. فالعبادات كلها تعظيم وتكبير لله، وإجلال وإكرام، وتودُّد إليه، وتقرُّب منه.
وتارة يدعوهم إلى ذلك لأجل أن يتَّخذوه وحده وليّاً، وملجأ، وملاذاً، ومعاذاً، ومفزعاً إليه في الأمور كلها، وإنابة إليه في كل حال، ويخبرهم أن هذا هو أصل سعادة العبد وصلاحه وفلاحه، وأنه إن لم يدخل في ولاية الله وتوليه الخاص تولاه عدوه الذي يريد له الشر والشقاء، ويمنِّيه ويغره حتى يُفَوِّته المنافع والمصالح، ويوقعه في المهالك، وهذا كله مبسوط في القرآن بعبارات متنوعة.
وتارة يحثُّهم على ذلك، ويحذرهم من التشبه بأهل الغفلة، والإعراض، والأديان المبدلة؛ لئلا يلحقهم من اللوم ما لحق أولئك الأقوام، كقوله: {{فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ}} [يونس: 95] {{فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}} [الأنعام: 52]، {{وَلاَ تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ}} [الأعراف: 205] {{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ *}} [الحديد: 16] إلى غير ذلك من الآيات.
القاعدة العاشرة في الطرق التي في القرآن لدعوة الكفار على اختلاف مللهم ونِحلهم.
يدعوهم إلى الدين الإسلامي والإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم بما يصفه من محاسن شرعه ودينه، وما يذكره من براهين رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم؛ ليهتدي من قصده الحق والإنصاف، وتقوم الحجة على المعاند. وهذه أعظم طريق يُدعى بها جميع المخالفين لدين الإسلام؛ فإن محاسن دين الإسلام، ومحاسن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وآياته، وبراهينه، فيها كفاية تامة للدعوة، بقطع النظر عن إبطال شبههم وما يحتجُّون به، فإن الحق إذا اتضح عُلم أن ما خالفه فهو باطل ضلال.
ويدعوهم بما يخوِّفهم من أَخَذَات الأمم، وعقوبات الدنيا، وعقوبات الآخرة، وبما في الأديان الباطلة من أنواع الشرور، والعواقب الخبيثة، ويحذرهم من طاعة رؤساء الشر، ودعاة النار، وأنهم لا بد أن تتقطع نفوسهم على طاعتهم حسرات، وأنهم يتمنون أن لو أطاعوا الرسول ولم يطيعوا السادة والرؤساء، وأن مودتهم وصداقتهم ستتبدَّل بغضاء وعداوة.
ويدعوهم أيضاً بنحو ما يدعو المؤمنين بذكر آلائه ونعمه، وأن المنفرد بالخلق والتدبير والنعم الظاهرة والباطنة هو الذي يجب على العباد طاعته، وامتثال أمره، واجتناب نهيه.
ويدعوهم أيضاً بشرح ما في أديانهم الباطلة، وما احتوت عليه من القبح، والمقارنة بينها وبين دين الإسلام؛ ليتبين ويتضح ما يجب إيثاره، وما يتعيَّن اختياره.
ويدعوهم بالتي هي أحسن، فإذا وصلت بهم الحال إلى العناد والمكابرة الظاهرة توعَّدهم بالعقوبات الصوارم، وبيَّن للناس طريقتهم التي كانوا عليها، وأنهم لم يخالفوا الدين جهلاً وضلالاً، أو لقيام شبهة أوجبت لهم التوقف، وإنما ذلك جحود ومكابرة وعناد، ويبين مع ذلك الأسباب التي منعتهم من متابعة الهدى، وأنها رياسات وأغراض نفسية، وأنهم لما آثروا الباطل على الحق طبع على قلوبهم، وختم عليها، وسد عليهم طرق الهدى عقوبة لهم على إعراضهم، وتوليهم للشيطان، وتخلِّيهم من ولاية الرحمن، وأنه ولاهم ما تولوا لأنفسهم، وهذه المعاني الجزيلة مبسوطة في القرآن في مواضع كثيرة، فتأمَّل وتدبَّر القرآن تجدها واضحة جلية، والله أعلم.
القاعدة الحادية عشر[ة] ([16]):
كما أن المفسر للقرآن يراعي ما دلت عليه ألفاظه مطابقة،
وما دخل في ضمنها، فعليه أن يراعي لوازم تلك المعاني،
وما تستدعيه من المعاني التي لم يصرح اللفظ بذكرها.
وهذه القاعدة من أجلِّ قواعد التفسير وأنفعها، وتستدعي قوة فكر، وحُسن تدبر، وصحة قصد؛ فإن الذي أنزله هو العالم بكل شيء، الذي أحاط علمه بما تحتوي عليه القلوب، وما تَضَمّنه المعاني، وما يتبعها ويتقدمها وتتوقف هي عليه؛ ولهذا أجمع العلماء على الاستدلال باللازم في كلام الله لهذا السبب.
والطريق إلى سلوك هذا الأصل النافع أن تفهم ما دل عليه اللفظ من المعاني، فإذا فهمتها فهماً جيداً ففكِّر في الأمور التي تتوقف عليها، ولا تحصل بدونها، وما يشترط لها، وكذلك فكر فيما يترتب عليها، وما يتفرَّع عنها، وينبني عليها، ولا تزال تفكر في هذه الأمور حتى يصير لك ملَكة جيدة في الغوص على المعاني الدقيقة؛ فإن القرآن حق، ولازم الحق حق، وما يتوقف على الحق حق، وما يتفرَّع على الحق حق. فمن وُفِّق لهذه الطريقة، وأعطاه الله توفيقاً ونوراً، انفتحت له العلوم النافعة، والمعارف الجليلة. ولنمثل لهذا الأصل أمثلة توضحه:
منها: في أسمائه الحسنى «الرحمن الرحيم»، فإنها تدل بلفظها على وصفه بالرحمة، وسعة رحمته، فإذا فهمت أن الرحمة التي لا يشبهها رحمة أحد هي وصفه الثابت، وأنه أوصل رحمته إلى كل مخلوق، ولم يَخْلُ أحد من رحمته طرفة عين، عرفت أن هذا الوصف يدل على كمال حياته، وكمال قدرته، وإحاطة علمه، ونفوذ مشيئته، وكمال حكمته؛ لتوقُّف الرحمة على ذلك كله، ثم استدللت بسعة رحمته على أن شرعه نور ورحمة؛ ولهذا يعلِّل تعالى كثيراً من الأحكام الشرعية برحمته وإحسانه؛ لأنها من مقتضاه وأثره.
ومنها قوله تعالى: {{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}} [النساء: 58] فإذا فهمت أن الله أمر بأداء الأمانات كلها إلى أهلها استدللت بذلك على وجوب حفظ الأمانات، وعدم إضاعتها والتفريط والتعدي فيها، وأنه لا يتم الأداء لأهلها إلا بذلك. وإذا فهمت أن الله أمر بالحكم بين الناس بالعدل استدللت بذلك على أن كل حاكم بين الناس في الأمور الكبار والصغار لا بد أن يكون عالماً بما يحكم به، فإن كان حاكماً عاماً فلا بد أن يحصِّل من العلم ما يؤهله إلى ذلك، وإن كان حاكماً ببعض الأمور الجزئية كالشقاق بين الزوجين حيث أمر الله أن نبعث حكماً من أهله وحكماً من أهلها فلا بد أن يكون عارفاً بهذه الأمور التي يريد أن يحكم بها، ويعرف الطريق التي توصله إليها.
وبهذا بعينه نستدل على وجوب طلب العلم، وأنه فرض عين في كل أمر يحتاجه العبد؛ فإن الله أمرنا بأوامر كثيرة، ونهانا عن أمور كثيرة، ومن المعلوم أن امتثال أمره واجتناب نهيه يتوقف على معرفته وعلمه، فكيف يتصور أن يمتثل الجاهل الأمر الذي لا يعرفه، أو يدع الأمر الذي يعرفه؟ ([17])
وكذلك أمره لعباده أن يأمروا بالمعروف، وينهوا عن المنكر، يتوقف ذلك على العلم بالمعروف والمنكر ليأمر بهذا، وينهى عن هذا، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما لا يحصل ترك المنهي عنه إلا به فهو واجب؛ فالعلم بالإيمان والعمل الصالح متقدِّم على القيام به، والعلم بضد ذلك متقدِّم على تركه لاستحالة ترك ما لا يعرفه العبد قصداً وتقرُّباً وتعبُّداً ([18]).
ومن ذلك: الأمر بالجهاد، والحث عليه، من لازم ذلك: الأمر بكل ما لا يتم الجهاد إلا به، من تعلُّم الرمي، والركوب، وعمل آلاته وصناعاته، مع أن ذلك كله داخل دخول مطابقة في قوله تعالى: {{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}} [الأنفال: 60] فإنها تتناول كل قوة عقلية، وبدنية، وسياسية، ونحوها.
ومن ذلك: أن الله استشهد بأهل العلم على توحيده، وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته، وهذا يدل على عدالتهم، وأنهم حجة من الله تعالى على من كذَّب، بمنزلة آياته وأدلته.
ومن ذلك: سؤال عباد الرحمن ربهم أن يجعلهم للمتقين إماماً يقتضي سؤالهم الله جميع ما تتم الإمامة في الدين به، من علوم، ومعارف جليلة، وأعمال صالحة، وأخلاق فاضلة؛ لأن سؤال العبد لربه شيئاً سؤال له ولما لا يتم إلا به، كما إذا سأل الله الجنة واستعاذ به من النار فإنه يقتضي سؤال كل ما يقرِّب إلى هذه ويبعد من هذه.
ومن ذلك أنه أمر بالصلاح والإصلاح، وأثنى على المصلحين، وأخبر أنه لا يصلح عمل المفسدين، فيستدل بذلك على أن كل أمر فيه صلاح للعباد في أمر دينهم ودنياهم، وكل أمر يعين على ذلك، فإنه داخل في أمر الله وترغيبه، وأن كل فساد وضرر وشر فإنه داخل في نهيه والتحذير عنه، وأنه يجب تحصيل كل ما يعود إلى الصلاح والإصلاح بحسب استطاعة العبد، كما قال شعيب صلّى الله عليه وسلّم: {{إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ}} [هود: 88] .
ومن ذلك قوله تعالى: {{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}} [البقرة: 223] و{{حَرِّضِ
الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ}} [الأنفال: 65] يقتضي الأمر بكل ما لا تتم البشارة إلا به، والأمر بكل ما فيه حث وتحريض، وما يتوقف على ذلك ويتبعه من الاستعداد والتمرُّن على أسباب الشجاعة والسعي في القوة المعنوية، من التآلف، واجتماع الكلمة، ونحو ذلك.
ومن ذلك، الأمر بتبليغ الأحكام الشرعية، والتذكير بها وتعليمها، فإن كل أمر يحصل به التبليغ وإيصال الأحكام إلى المكلَّفين يدخل في ذلك، حتى إنه يدخل فيه إذا ثبتت الأحكام الشرعية، ووُجدت أسبابها، وكانت تخفى عادة على أكثر الناس، كثبوت الأهلَّة ـ بالصيام والفطر والحج وغيره ـ إبلاغها بالأصوات، والرمي، وإبلاغها بما هو أبلغ من ذلك كالبرقيات، ونحوها، وكذلك يدخل فيه كل ما أعان على إيصال الأصوات إلى السامعين من الآلات الحادثة، فحدوثها لا يقتضي منعها، فكل أمر ينفع الناس فإن القرآن لا يمنعه، بل يدل عليه لمن أحسن الاستدلال به، وهذا من آيات القرآن، وأكبر براهينه، أنه لا يمكن أن يحدث علم صحيح ينقض شيئاً منه، فإنه يَرِدُ بما تشهد به العقول جملة أو تفصيلاً، أو يرد بما لا تهتدي إليه العقول، وأما وروده بما تحيله العقول الصحيحة، وتمنعه، فهذا محال، والحس والتجربة شاهدان بذلك؛ فإنه مهما توسَّعت الاختراعات، وعظمت الصناعات، وتوسَّعت المعارف الطبيعية، وظهر للناس في هذه الأوقات ما كانوا يجهلونه قبل ذلك، فإن القرآن ـ وللَّه الحمد ـ لا يخبر بإحالته، بل تجد بعض الآيات فيها إجمال أو إشارة تدل عليه. وقد ذكرنا شيئاً من ذلك في غير هذا الموضع، والله أعلم وأحكم، وبالله التوفيق.
القاعدة الثانية عشر[ة]:
الآيات القرآنية التي ظاهرها التضاد يجب حمل كل نوع منها على حال بحسب ما يليق ويناسب المقام.
وهذا في مواضع متعددة من القرآن:
منها: الإخبار في بعض الآيات أن الكفار لا ينطقون ولا يتكلمون يوم
القيامة، وفي بعضها: أنهم ينطقون، ويحاجون، ويتعذرون، ويعترفون. فحَمْل كلامهم ونطقهم: أنهم في أول الأمر يتكلَّمون ويعتذرون، وقد ينكرون ما هم عليه من الكفر، ويُقسمون على ذلك، ثم إذا خُتم على ألسنتهم، وشهدت عليهم جوارحهم بما كانوا يكسبون، ورأوا أن الكذب غير مفيد لهم، أُخرسوا فلم ينطقوا.
وكذلك الإخبار بأن الله تعالى لا يكلمهم ولا ينظر إليهم يوم القيامة، مع أنه أثبت الكلام لهم معه، فالنفي واقع على الكلام الذي يسرهم ويجعل لهم نوع اعتبار، وكذلك النظر، والإثبات واقع على الكلام الواقع بين الله وبينهم على وجه التوبيخ لهم والتقريع؛ فالنفي يدل على أن الله ساخط عليهم، غير راض عنهم، والإثبات يوضح أحوالهم، ويبين للعباد كمال عدل الله بهم إذ وضع العقوبة موضعها.
ونظير ذلك أن في بعض الآيات أخبر أنه: {{لاَ يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلاَ جَآنٌّ}} [الرحمن: 39] وفي بعضها أنه يسألهم: {{أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ}} [الشعراء: 92] و{{مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ}} [القصص: 65] ويسألهم عن أعمالهم كلها، فالسؤال المنفي: هو سؤال الاستعلام والاستفهام عن الأمور المجهولة؛ فإنه لا حاجة إلى سؤالهم مع كمال علم الله، واطلاعه على ظاهرهم وباطنهم، وجليل أمورهم ودقيقها. والسؤال المثبت واقع على تقريرهم بأعمالهم، وتوبيخهم، وإظهار أن الله حكم فيهم بعدله وحكمته.
ومن ذلك الإخبار في بعض الآيات أنه لا أنساب بين الناس يوم القيامة، وفي بعضها أثبت لهم ذلك؛ فالمثبت: هو الأمر الواقع والنسب الحاصل بين الناس، كقوله: {{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ *وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ *}} [عبس: 34، 35] إلى آخرها. والمنفي: هو الانتفاع بها؛ فإن كثيراً من الكفار يدَّعون أن أنسابهم تنفعهم يوم القيامة، فأخبر تعالى أنه {{يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ
مَالٌ وَلاَ بَنُونَ *إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ *}} [الشعراء: 88، 89] . ونظير ذلك: الإخبار في بعض الآيات أن النسب نافع يوم القيامة، كما في إلحاق ذرية المؤمنين لآبائهم في الدرجات، وإن لم يبلغوا منزلتهم، وأن الله يجمع لأهل الجنَّات والدرجات العالية من صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم؛ فهذا لما اشتركوا في الإيمان وأصل الصلاح زادهم من فضله وكرمه من غير أن ينقص من أجور السابقين لهم شيئاً.
ومن ذلك الشفاعة؛ فإنه أثبتها في مواضع، ونفاها في مواضع من القرآن، وقيَّدها في بعض المواضع بإذنه، ولمن ارتضى من خلقه، فتعيَّن حمل المطلق على المقيد، وأنه حيث نُفيت فهي الشفاعة التي بغير إذنه، ولغير من رضي الله قوله وعمله، وحيث أُثبتت فهي الشفاعة التي بإذنه، لمن رضيه وأذن فيه.
ومن ذلك: أن الله أخبر في آيات كثيرة أنه لا يهدي القوم الكافرين، والفاسقين، والظالمين، ونحوها، وفي بعضها: أنه يهديهم ويوفقهم، فيتعيَّن حمل المنفيَّات على من حقَّت عليه كلمة الله، لقوله تعالى: {{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ *}}{{وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ}} [يونس: 96، 97] وحمل المثبتات على من لم تحق عليهم الكلمة، وهذا هو الحق الذي لا ريب فيه.
ومن ذلك: الإخبار في بعض الآيات أنه العلي الأعلى، وأنه فوق عباده، وعلى عرشه، وفي بعضها: أنه مع العباد أينما كانوا، وأنه مع الصابرين، والصادقين، والمحسنين، ونحوهم؛ فَعُلُوُّه تعالى أمر ثابت له، وهو من لوازم ذاته، ودُنُوُّه ومعيَّته لعباده لأنه أقرب إلى كل أحد من حبل الوريد، فهو على عرشه عَلِيٌّ على خلقه، ومع ذلك فهو معهم في كل أحوالهم، ولا منافاة بين الأمرين؛ لأن الله تعالى ليس كمثله شيء في جميع نعوته، وما يُتوهم بخلاف ذلك فإنه في حق المخلوقين. وأما تخصيص
المعية بالمحسنين ونحوهم فهي معية أخص من المعية العامة؛ فإنها تتضمن محبتهم، وتوفيقهم، وكلاءتهم، وإعانتهم في كل أحوالهم، فحيث وقعت في سياق المدح والثناء فهي من هذا النوع، وحيث وقعت في سياق التحذير والترغيب والترهيب فهي من النوع الأول.
ومن ذلك: النهي في كثير من الآيات عن موالاة الكافرين، وعن مودَّتهم والاتصال بهم، وفي بعضها: الأمر بالإحسان إلى من له حق على الإنسان منهم، ومصاحبته بالمعروف، كالوالدين ونحوهم، فهذه الآيات العامَّات من الطرفين قد وضَّحها الله غاية التوضيح في قوله: {{لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ *}}{{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ}} الآية [الممتحنة: 8، 9] ، فالنهي واقع على التولي والمحبة لأجل الدين، والأمر بالإحسان والبر واقع على الإحسان، لأجل القرابة، أو لأجل الإنسانية على وجه لا يخل بدين الإنسان.
ومن ذلك: أنه أخبر في بعض الآيات أن الله خلق الأرض ثم استوى إلى السماء فسوَّاهن سبع سموات، وفي بعضها: أنه لما أخبر عن خلق السموات أخبر أن الأرض بعد ذلك دحاها، فهذه الآية تفسر المراد، وأن خلق الأرض متقدِّم على خلق السموات، ثم لما خلق الله السموات بعد ذلك دحى الأرض، فأودع فيها جميع مصالحها المحتاج إليها.
ومن ذلك: تارة يخبر أنه بكل شيء عليم، وتارة يخبر بتعلق علمه ببعض أعمال العباد ببعض أحوالهم، وهذا الأخير فيه زيادة معنى، وهو أنه يدل على المجازاة على ذلك العمل، سواء كان خيراً أو شراً، فيتضمن مع إحاطة علمه: الترغيب والترهيب.
ومن ذلك: الأمر بالجهاد في آيات كثيرة، وفي بعض الآيات الأمر
بكف الأيدي والإخلاد إلى السكون، فهذه حين كان المسلمون ليس لهم قوة ولا قدرة على الجهاد باليد، والآيات الأُخر حين قووا وصار ذلك عين المصلحة، وهو الطريق إلى قمع الأعداء.
ومن ذلك: أنه تارة يضيف الأشياء إلى أسبابها التي وقعت وتقع بها، وتارة يضيفها إلى عموم قدره، وأن جميع الأشياء واقعة بإرادته ومشيئته، فيفيد مجموع الأمرين: إثبات التوحيد، وتفرد الباري بوقوع الأشياء بقدرته ومشيئته، وإثبات الأسباب والمسببات، والأمر بالمحبوب منها، والنهي عن المكروه، وإباحة مستوي الطرفين، فيستفيد المؤمن الجد والاجتهاد في عمل الأسباب النافعة، والنظر وملاحظة فضل الله في كل أحواله، وأن لا يتكل على نفسه في أمر من الأمور، بل يتكل ويستعين بربه.
وقد يخبر أن ما أصاب العبد من حسنة فمن الله، وما أصابه من سيئة فمن نفسه؛ ليُعَرِّف عباده أن الخير والحسنات والمَحَابّ تقع بمحض فضله وجوده، وإن جرت ببعض الأسباب الواقعة من العباد؛ فإن الأسباب هو الذي أنعم بها، وهو الذي يسَّرها، وأن السيئات ـ وهي المصائب التي تصيب العبد ـ أسبابها من نفس العبد وبتقصيره في حقوق ربه، وتعدِّيه لحدوده، فاللَّه وإن كان هو المقدِّر لها فإنه أجراها على العبد بما كسبت يداه، ولهذا أمثلة يطول عدُّها.
القاعدة الثالثة عشر[ة]: طريقة القرآن في الحِجَاج والمجادلة مع أهل الأديان الباطلة.
قد أمر الله بالمجادلة بالتي هي أحسن، ومن تأمل الطرق التي نصب الله المحاجَّة بها مع المبطلين على أيدي رسله رآها من أوضح الحجج، وأقواها، وأقومها، وأدلها على إحقاق الحق، وإزهاق الباطل، على وجه لا تشويش فيه، ولا إزعاج، فتأمل محاجة الرسل مع أممهم، وكيف دعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، من جهة أنه المتفرد بالربوبية، والمتوحِّد بالنعم، وهو الذي أعطاهم العافية، والأسماع، والأبصار، والعقول، والأرزاق، وسائر أصناف النعم، كما أنه المنفرد بدفع النقم، وإن أحداً من الخلق ليس عنده نفع ولا دفع، ولا ضر ولا نفع؛ فإنه بمجرد معرفة العبد بذلك، واعترافه به، لا بد أن ينقاد للدين الحق الذي به تتم النعمة، وهو الطريق الوحيد لشكرها، وكثيراً ما يحتج على المشركين به في عبادته بإلزامهم باعترافهم بربوبيته، وأنه الخالق لكل شيء، والرازق لكل شيء، فيتعين أنه المعبود وحده؛ فانظر إلى هذا البرهان كيف ينتقل الذهن منه بأول وهلة إلى وجوب عبادة من هذا شأنه، ووجوب الإخلاص له. ويجادل المبطلين أيضاً بذكر عَيْب آلهتهم، وأنها ناقصة من كل وجه، لا تغني عن أهلها شيئاً. ويقيم الأدلة على أهل الكتاب بأنهم لهم من سوابق المخالفات لرسلهم ما لا يُستغرب معه مخالفتهم لمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وينقض عليهم دعاويهم الباطلة، وتزكيتهم لأنفسهم، ببيان ما يضاد ذلك من أحوالهم، وأوصافهم، ويجادلهم بتوضيح الحق وبيان براهينه، وأن صدقه وحقِّيته تدفع بمجردها جميع الشبه المعارضة له {{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ}} [يونس: 32] .
وهذا الأصل في القرآن كثير؛ فإنه يفيد الدعوة للحق، ورد كل ما ينافيه. ويجادلهم بوجوب تنزيل الأمور منازلها، وأنه لا يليق أن يجعل للمخلوق العبد الفقير العاجز من كل وجه بعض حقوق الرب الخالق الغني الكامل من جميع الوجوه. ويتحدَّاهم أن يأتوا بكتاب أو شريعة أهدى وأحسن من هذه الشريعة، وأن يعارضوا القرآن فيأتوا بمثله إن كانوا صادقين، ويأمر نبيه بمباهلة من ظهرت مكابرته وعناده، فينكصون عنها؛ لعلمهم أنه رسول الله الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، وأنهم لو باهَلوه لهلكوا.
وفي الجملة لا تجد طريقاً نافعاً فيه إحقاق الحق، وإبطال الباطل، وإلا وقد احتوى عليه القرآن على أكمل الوجوه.
القاعدة الرابعة عشر[ة]: حذف المُتَعَلَّق ـ المعمول فيه ـ يفيد تعميم المعنى المناسب له.
وهذه قاعدة مفيدة جداً، متى اعتبرها الإنسان في الآيات القرآنية أكسبته فوائد جليلة، وذلك أن الفعل، أو ما هو في معناه، متى قُيِّدَ بشيء تقيَّد به، فإذا أطلقه الله تعالى، وحذف المُتَعَلَّق فعمم ذلك المعنى، ويكون الحذف هنا أحسن وأفيد كثيراً من التصريح بالمُتَعَلَّقَات، وأجمع للمعاني النافعة؛ ولذلك أمثلة كثيرة جداً:
منها: أنه قال في عدة آيات { لَعَلَّكُمْ تعقلون } [النور: 61] {{لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}} [الأنعام: 152] {{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}} [البقرة: 21] فيدل ذلك على أن المراد: لعلكم تعقلون عن الله كل ما أرشدكم إليه، وكل ما علَّمكموه، وكل ما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة، لعلكم تذكرون جميع مصالحكم الدينية والدنيوية، لعلكم تتقون جميع ما يجب اتقاؤه من جميع الذنوب والمعاصي.
ويدخل في ذلك ما كان السياق فيه وهو فرد من أفراد هذا المعنى العام؛ ولهذا كان قوله تعالى: {{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * }} [البقرة: 183] يفيد كل ما قيل في حكمة الصيام، أي: لعلكم تتقون المحارم عموماً، ولعلكم تتقون ما حرم على الصائمين من المفطرات والممنوعات، ولعلكم تتصفون بصفة التقوى وتتخلَّقون بأخلاقها، وهكذا سائر ما ذكر فيه هذا اللفظ، مثل قوله: {{هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ}} [البقرة: 1] أي المتقين لكل ما يُتَّقى من الكفر والفسوق والعصيان، أي: المؤدِّين للفرائض والنوافل التي هي خصال التقوى، وكذلك قوله: {{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ *}} [الأعراف: 201] أي: إن الذين كانت التقوى وصفهم، وترك المحارم شعارهم، متى زين لهم الشيطان بعض الذنوب تذكروا كل أمر يوجب لهم المبادرة إلى المتاب، كعظمة الله، وما يقتضيه الإيمان، وما توجبه التقوى، وتذكروا عقابه ونكاله، وتذكروا ما تحدثه الذنوب من العيوب والنقائص، وما تسلبه من الكمالات {{فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}} من أين أُتوا، ومبصرون الوجه الذي فيه التخلص من هذا الذنب الذي وقعوا فيه، فبادروا في التوبة النصوح، فعادوا إلى مرتبتهم، وعاد الشيطان خاسئاً مدحوراً.
وكذلك ما ذكره على وجه الإطلاق عن المؤمنين، بلفظ «المؤمنين»، أو بلفظ: «إن الذين آمنوا» ونحوها، فإنه يدخل فيه جميع ما يجب الإيمان به من الأصول والعقائد، مع أنه قيد ذلك في بعض الآيات، مثل قوله: {{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ}} الآية [البقرة: 136] ، ونحوها.
وكذلك ما أمر به من الصلاح والإصلاح، وما نهى عنه من الفساد والإفساد مطلقاً، يدخل فيه كل صلاح، كما يدخل في النهي كل فساد.
وكذلك قوله: {{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}} [البقرة: 195] {{وَأَحْسِنُوا}} [البقرة: 195] {{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى}} [يونس: 26] {{هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ *}} [الرحمن: 60] يدخل في ذلك كله: الإحسان في عبادة الخالق بأن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، والإحسان إلى المخلوقين بجميع وجوه الإحسان، من قول، وفعل، وجاه، وعلم، ومال، وغيرها.
وكذلك قوله تعالى: {{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ *}} [التكاثر: 1] فحذف المُتَكَاثَر به ليعمَّ جميع ما يقصد الناس فيه المكاثرة من الرياسات، والأموال، والجاه، والضيعات، والأولاد، وغيرها مما تتعلق به أغراض النفوس، ويلهيها عن طاعة الله.
وكذلك قوله {{وَالْعَصْرِ *إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ *}} [العصر: 1، 2] أي في خسارة من جميع الوجوه، إلا من اتصف بالإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق والصبر.
وقوله: {{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}} [النحل: 43] فذكر المسؤولين، وأطلق المسؤل عنه؛ ليعم كل ما يحتاجه العبد ولا يعلمه.
وكذلك أمره تعالى بالصبر، ومحبة الصابرين، وثناؤه عليهم، وبيان كثرة أجرهم، من غير أن يقيد ذلك بنوع؛ ليشمل أنواع الصبر الثلاثة: وهي الصبر على طاعة الله، وعن معصيته، وعلى أقداره المؤلمة. ومقابل ذلك: ذمه للكافرين، والظالمين، والفاسقين، والمشركين، والمنافقين، والمعتدين، ونحوهم، من غير أن يقيده بشيء؛ ليشمل جميع ذلك المعنى.
ومن هذا قوله: {{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ}} [البقرة: 196] ليشمل كل حصر.
{{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً}} [البقرة: 239] ليعم كل خوف.
وقد يقيد ذلك ببعض الأمور فيتقيد به ما سبق الكلام لأجله، وهذا شيء كثير لو ذهبنا نذكر الأمثلة لطالت، ولكن قد فتح لك الباب فامشِ على هذا السبيل المفضي إلى رياض بهيجة من أصناف العلوم.
القاعدة الخامسة عشر[ة] جعل الله الأسباب للمطالب العالية مبشِّرات لتطمين القلوب وزيادة الإيمان.
وهذا في عدة مواضع من كتابه، فمن ذلك:
النصر، قال في إنزاله الملائكة: {{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ}} [الأنفال: 10] .
وقال في أسباب الرزق ونزول المطر: {{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ}} [الروم: 46] .
وأعمُّ من ذلك كله قوله: {{أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ *الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ *}{لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ}} [يونس: 62 ـ 64] وهي كل دليل وعلامة تدلهم على أن الله قد أراد بهم الخير، وأنهم من أوليائه وصفوته، فيدخل فيه الثناء الحسن، والرؤيا الصالحة، ويدخل فيه ما يشاهدونه من اللطف، والتوفيق، والتيسير لليسرى، وتجنيبهم العُسرى.
ومن ذلك، بل من ألطف ذلك: أنه يجعل الشِّدَّات مبشِّرة بالفرج، والعُسر مؤذناً باليُسر، وإذا تأملت ما قصَّه عن أنبيائه وأصفيائه، وكيف لما اشتدت بهم الحال، وضاقت بهم الأرض بما رحبت {{وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}} [البقرة: 214] رأيت من ذلك العجب العُجاب. وقال تعالى: {{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا *}{إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا *}} [الشرح: 5، 6] {{سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}} [الطلاق: 7] . وقال صلّى الله عليه وسلّم: «واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً» ([19])، وأمثلة ذلك كثيرة، والله أعلم.
القاعدة السادسة عشر[ة] : حذف جواب الشرط يدل على تعظيم الأمر وشدته في مقامات الوعيد.
وذلك كقوله: {{وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ}} [السجدة: 12] {{وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}} [البقرة: 165] {{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ}} [الأنعام: 30] {{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ}} [الأنعام: 27] فَحَذْف الجواب في هذه الآيات وشبهها أولى من ذكره؛ ليدل على عظمة ذلك المقام، وأنه لهوله، وشدته، وفظاعته، لا يعبر عنه، ولا يدرك بالوصف. ومثل قوله تعالى: {{كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ *}} [التكاثر: 5] أي: لَمَا أقمتم على ما أنتم عليه من التفريط، والغفلة، واللهو.
القاعدة السابعة عشر[ة]:
بعض الأسماء الواردة في القرآن الكريم إذا أُفرد
دلَّ على المعنى العام المناسب له، وإذا قُرن مع غيره
دلَّ على بعض المعنى، ودلَّ ما قُرن معه على باقيه.
ولهذه القاعدة أمثلة كثيرة:
منها: «الإيمان» أُفرد وحده في آيات كثيرة، وقُرن مع العمل الصالح في آيات كثيرة، فالآيات التي أُفرد فيها يدخل فيه جميع عقائد الدين، وشرائعه الظاهرة والباطنة؛ ولهذا يرتب الله عليه حصول الثواب، والنجاة من العقاب، ولولا دخول المذكورات ما حصلت آثاره، وهو عند السلف: قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح. والآيات التي قُرن الإيمان فيها للعمل ([20]) الصالح كقوله: {{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}} [البقرة: 277] يُفَسَّر الإيمان فيها: بما في القلوب من المعارف، والتصديق، والاعتقاد، والإنابة. والعمل الصالح: بجميع الشرائع القولية والفعلية.
وكذلك لفظ «البر» و«التقوى»، فحيث أُفرد البر دخل فيه امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وكذلك إذا أُفردت التقوى؛ ولهذا يرتب الله على البر وعلى التقوى عند الإطلاق الثواب المطلق، والنجاة المطلقة، كما يرتبه على الإيمان. وتارة يفسر أعمال البر بما يتناول أفعال الخير، وترك المعاصي. وكذلك في بعض الآيات تفسير خصال التقوى، كما في قوله: {{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ *}{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ}} [آل عمران: 133، 134] إلى آخر ما ذكره من الأوصاف التي تتم بها التقوى. وإذا جمع بين البر والتقوى مثل قوله تعالى: {{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِّرِّ وَالتَّقْوَى}} [المائدة: 2] كان البر اسماً جامعاً لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال، والأفعال، الظاهرة والباطنة. وكانت التقوى اسماً جامعاً يتناول ترك جميع المحرمات.
وكذلك لفظ «الإثم» و«العدوان»، إذا قُرنت فُسر الإثم: بالمعاصي التي بين العبد وبين ربه. والعدوان: بالتجري على الناس في دمائهم، وأموالهم، وأعراضهم. وإذا أُفرد الإثم دخل فيه كل المعاصي التي تُؤثِّم صاحبها، سواء كانت بينه وبين ربه، أو بينه وبين الخلق. وكذلك إذا أُفرد العدوان.
وكذلك لفظ «العبادة» و«التوكل» ولفظ «العبادة» و«الاستعانة» إذا أُفردت العبادة في القرآن تناولت جميع ما يحبه الله ويرضاه ظاهراً وباطناً، ومن أول ما يدخل فيها: التوكل، والاستعانة، وإذا جُمع بينها وبين التوكل والاستعانة نحو: {{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ *}} [الفاتحة: 5] {{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}} [هود: 123] فُسرت العبادة بجميع المأمورات الباطنة والظاهرة، وفُسر التوكل باعتماد القلب على الله في حصولها، وحصول جميع المنافع، ودفع المضار، مع الثقة التامة بالله في حصولها.
وكذلك «الفقير» و«المسكين» إذا أُفرد أحدهما دخل فيه الآخر كما في أكثر الآيات، وإذا جُمع بينهما كما في آية الصدقات: {{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ}} [التوبة: 60] فُسر الفقير بمن اشتدت حاجته، وكان لا يجد شيئاً، أو يجد شيئاً لا يقع منه موقعاً. وفُسر المسكين بمن حاجته دون ذلك.
ومثل ذلك الألفاظ الدالة على تلاوة الكتاب، والتمسُّك به، وهو: اتباعه، يشمل ذلك: القيام بالدين كله، فإذا قُرنت معه الصلاة كما في
قوله تعالى: {{اتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ}} [العنكبوت: 45] وقوله: {{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ}} [الأعراف: 170] كان ذكر الصلاة تعظيماً لها، وتأكيداً لشأنها، وحثاً عليها، وإلا فهي داخلة بالاسم العام، وهو التلاوة، والتمسك به، وما أشبه ذلك من الأسماء.
القاعدة الثامنة عشر[ة]:
في كثير من الآيات يخبر بأنه يهدي من يشاء، ويضل من يشاء.
وفي بعضها يذكر مع ذلك الأسباب المتعلقة بالعبد، الموجبة للهداية،
أو الموجبة للإضلال، وكذلك حصول المغفرة وضدها،
وبسط الرزق وتقديره.
وذلك في آيات كثيرة، فحيث أخبر أنه ([21]) يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء، ويرحم من يشاء، ويبسط الرزق لمن يشاء، ويقتره على من يشاء، دل ذلك على كمال توحيده، وانفراده بخلق الأشياء، وتدبير جميع الأمور، وأن خزائن الأشياء بيده، يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، فيقتضي مع ذلك من العباد أن يعترفوا بذلك، وأن يعلِّقوا أملهم ورجاءهم به في حصول ما يحبون منها، وفي دفع ما يكرهون، وأن لا يسألوا أحداً غيره، كما في الحديث القدسي: (يا عبادي: كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم) ([22]) ، إلى آخره.
وفي بعض الآيات يذكر فيها أسباب ذلك؛ ليعرف العباد الأسباب والطرق المفضية إليها، فيسلكوا النافع، ويدعوا الضار، كقوله تعالى: {{فَأَمَّا
مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى *وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى *فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى *وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى *وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى *فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى *}} [الليل: 5 ـ 10] فبيَّن أن أسباب الهداية والتيسير: تصديق العبد لربه، وانقياده لأمره، وأن أسباب الضلال والتعسير ضد ذلك. وكذلك قوله تعالى: {{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ}} [المائدة: 16] وقوله: {{يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ}} [البقرة: 26] {{فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}} [الأعراف: 30] فأخبر أن الله يهدي من كان قصده حسناً، ومن رغب في الخير واتبع رضوان الله، وأنه يضل من فسق عن طاعة الله تعالى وتولى أعداءه الشياطين، ورضي بولايتهم عن ولاية رب العالمين. وكذلك قوله {{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}} [الصف: 5] وقوله: {{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}} [الأنعام: 110] .
وكذلك يذكر في بعض الآيات الأسباب التي تُنال بها المغفرة والرحمة ويُستحق بها العذاب، كقوله: {{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى *}} [طه: 82] {{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ}} [الأعراف: 156، 157] {{إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}} [الأعراف: 56] {{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ *}} [آل عمران: 133] . ثم ذكر الأسباب التي تنال بها المغفرة والرحمة، وهي خصال التقوى المذكورة في هذه الآية وغيرها: {{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ}} [البقرة: 218] {{وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ *}} [الأعراف: 204] وأعمُّ من ذلك كله قوله تعالى: {{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ *}} [آل عمران: 132] فطريق الرحمة والمغفرة سلوك طاعة الله ورسوله عموماً، وهذه الأسباب المذكورة خصوصاً.
وأخبر أن العذاب له أسباب متعددة، وكلها راجعة إلى شيئين: التكذيب لله ورسوله، والتولي عن طاعة الله ورسوله، كقوله تعالى: {{لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأَشْقَى *الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى *وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى *الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى *}} [الليل: 15 ـ 18] {{إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى *}} [طه: 48] .
وكذلك يذكر أسباب الرزق، وأنه لزوم طاعة الله ورسوله، والسعي الجميل مع لزوم التقوى، كقوله تعالى: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } [الطلاق: 2، 3] وانتظار الفرج والرزق، كقوله: {{سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}} [الطلاق: 7] وكثرة الذكر والاستغفار: {{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ}} [هود: 3] {{اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا}{يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا *}} الآية [نوح: 10 ـ 11] . فأخبر أن الاستغفار سبب يُستَجلَبُ به مغفرة الله، ورزقه، وخيره، وضد ذلك سبب للفقر والتيسير للعسرى. وأمثلة هذه القاعدة كثيرة قد عرفت طريقها فالزمه.
القاعدة التاسعة عشر[ة]: خَتْمُ الآيات بأسماء الله الحسنى يدل على أن الحكم المذكور له تعلق بذلك الاسم الكريم.
وهذه قاعدة لطيفة نافعة، عليك بتتبعها في جميع الآيات المختومة بها تجدها في غاية المناسبة، وتدلك على أن الشرع والأمر والخلق كله صادر عن أسمائه وصفاته، ومرتبط بها.
وهذا باب عظيم من معرفة الله، ومعرفة أحكامه، من أَجَلّ المعارف
وأشرف العلوم، تجد آية الرحمة مختومة بأسماء الرحمة، وآيات العقوبة والعذاب مختومة بأسماء العزة، والقدرة، والحكمة، والعلم، والقهر. ولا بأس هنا أن نتتبع الآيات الكريمة في هذا، ونشير إلى مناسبتها بحسب ما وصل إليه علمنا القاصر، وعبارتنا الضعيفة، ولو طالت الأمثلة هنا؛ لأنها من أهم المهمات، ولا تكاد تجدها في كتب التفسير إلا يسيراً منها، فقوله تعالى في قوله: {{فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ}} [البقرة: 29] ذِكْرُ إحاطة علمه بعد ذِكْر خلقه للأرض والسموات يدل على إحاطة علمه بما فيها من العوالم العظيمة، وأنه حكيم حيث وضعها لعباده، وأحكم صنعها في أحسن خلق وأكمل نظام، وأن خلقه لها من أدلة علمه، كما قال في الآية الأخرى: {{أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ *}} [الملك: 14] فخلقه للمخلوقات من أكبر الأدلة العقلية على علمه، فكيف يخلقها وهو لا يعلمها؟
ولما ذكر كلام الملائكة حين أخبرهم أنه جاعل في الأرض خليفة، ومراجعتهم لربهم في ذلك، فلما خلق آدم، وعلَّمه أسماء كل شيء، وعجزت الملائكة عنها، وأنبأهم آدم بها {{قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ *}} [البقرة: 32] فاعترفوا لله تعالى بسعة العلم، وكمال الحكمة، وأنهم مخطئون في مراجعتهم في استخلافه في الأرض. وفي هذا أن الملائكة على عظمتهم، وسعة معارفهم بربهم، اعترفوا بأن علومهم تضمحل عند علم ربهم، وأنه لا علم لهم إلا منه، فخَتْم هذه الآيات بهذين الاسمين الكريمين ـ الدالين على علم الله بآدم، وتمام حكمته في خلقه، وما يترتب على ذلك من المصالح المتنوعة ـ من أحسن المناسبات.
وأما قوله عن آدم: {{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ*}}[البقرة:37] وخَتْمُه كثيراً من الآيات بهذين الاسمين بعد ذكر
رحمته، ومغفرته، وتوفيقه، وحلمه، فمناسبته جلية لكل أحد، وأنه لما كان هو التواب الرحيم أقبل بقلوب التائبين إليه، ووفَّقهم لفعل الأسباب التي يتوب عليهم ويرحمهم بها، ثم غفر لهم ورحمهم فتاب عليهم أولاً بتوفيقهم للتوبة والأسباب، وتاب عليهم ثانياً حين قبل مَتَابَهُم، وأجاب سؤالهم؛ ولهذا قال في الآية الأخرى: {{ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا}} [التوبة: 118] أي: أقبل بقلوبهم؛ فإنه لولا توفيقه وصَرْف قلوبهم إلى ذلك لم يكن لهم سبيل إلى ذلك حين استولت عليهم النفس الأمارة؛ فإنها لا تأمر إلا بالسوء إلا من رحم الله فأعاذه منها ومن نزغات الشيطان.
ولما ذكر الله النسخ أخبر عن كمال قدرته وتفرده بالملك فقال: {{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}} [البقرة: 106، 107] وفي هذا رد على من أنكر النسخ كاليهود، وأن نسخه لما ينسخه من آثار قدرته وتمام ملكه؛ فإنه تعالى يتصرَّف في عباده، ويحكم بينهم في أحكامه القدرية وأحكامه الشرعية، فلا حَجْر عليه في شيء من ذلك.
ولما قال: {{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ *}} [البقرة: 115] أي: واسع الفضل، واسع الملك، جميع العالم العلوي والسفلي داخل في ملكه، ومع سعته في ملكه وفضله فهو محيط علمه بذلك كله، ومحيط علمه في الأمور الماضية والمستقبلة، ومحيط علمه بما في التوجه إلى القِبل المتنوعة من الحكمة، ومحيط علمه بنيَّات المستقبلين لجهة من الجهات إذا أخطؤوا القبلة المعنية، فحيث تيمَّم المصلي تيمَّم إلى وجه ربه.
وأما قول الخليل وإسماعيل عليهما السلام وهما يرفعان القواعد من البيت: {{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}} [البقرة: 127] فإنه توسل إلى الله بهذين الاسمين إلى قبول هذا العمل الجليل؛ حيث كان الله يعلم
نياتهما ومقاصدهما، ويسمع كلامهما، ويجيب دعاءهما؛ فإنه يُراد بالسميع في مقام الدعاء ـ دعاء العبادة، ودعاء المسألة ـ معنى المستجيب، كما قال الخليل في الآية الأخرى: {{إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ}} [إبراهيم: 39] .
وأما خَتْم قوله: {{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ}} [البقرة: 129] بقوله: {{إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}} [البقرة: 129] أي: فكما أن بعثتك لهذا الرسول فيه الرحمة السابغة، ففيه تمام عزة الله، وكمال حكمته، فإنه ليس من حكمته أن يترك الخلق سُداً ـ عبثاً ـ لا يرسل إليهم رسولاً، فحقق الله حكمته ببعثته لئلا يكون للناس على الله حجة. والأمور كلها ـ قدرِيُّها وشرعيُّها ـ لا تقوم إلا بعزة الله ونفوذ حكمه.
وقد يكتفي الله بذكر أسمائه الحسنى عن التصريح بذكر أحكامها، وجزائها؛ لينبه عباده أنهم إذا عرفوا الله بذلك الاسم العظيم عرفوا ما يترتب عليه من الأحكام، مثل قوله تعالى: {{فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ}} [البقرة: 209] لم يقل: فلكم من العقوبة كذا، بل قال: {{فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}} [البقرة: 209] أي: فإذا عرفتم عزته (وهو قهره، وغلبته، وقوته، وامتناعه)، وعرفتم حكمته (وهو وضعه الأشياء مواضعها، وتنزيلها مَحَالّها)، أوجب لكم الخوف من البقاء على ذنوبكم وزللكم؛ لأن من حكمته معاقبة من يستحق العقوبة ـ وهو المصرُّ على الذنب مع علمه ـ وأنه ليس لكم امتناع عليه، ولا خروج عن حكمه وجزائه؛ لكمال قهره وعزته.
وكذلك لما قال: {{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ}} [المائدة: 34] لم يقل: فاعفوا عنهم. أو: اتركوهم، ونحوها. بل قال: {{فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}} [المائدة: 34] يعني: فإذا عرفتم ذلك وعلمتموه عرفتم أن من تاب وأناب فإن الله يغفر له ويرحمه فيدفع عنه العقوبة.
ولما ذكر عقوبة السارق قال في آخرها: {{نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}} [المائدة: 38] أي: عَزَّ وحكم فقطع يد السارق، وعَزَّ وحكم فعاقب المعتدين شرعاً، وقدراً، وجزاء.
ولما ذكر الله مواريث الورثة وقَدَّرها قال: {{فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}} [النساء: 11] فكونه عليماً حكيماً يعلم ما لا يعلم العباد، ويضع الأشياء مواضعها، فاخضعوا لما قاله وفَصَّله في توزيع الأموال على مستحقيها، الذين يستحقونها بحسب علم الله وحكمته، فلو وُكِل العباد إلى أنفسهم، وقيل لهم: وزِّعوه أنتم بحسب اجتهادكم؛ لدخلها الجهل والهوى، وعدم الحكمة، وصارت المواريث فوضى، وحصل في ذلك من الضرر ما الله به عليم، ولكن تولاها وقسمها بأحكم قسمة وأوفقها للأحوال، وأقربها للنفع؛ ولهذا من قدح في شيء من أحكامه، أو قال: لو كان كذا، أو كذا، فهو قادح في علم الله، وفي حكمته؛ ولهذا يذكر الله العلم والحكمة بعد ذكر الأحكام، كما يذكرها في آيات الوعيد؛ ليبيِّن للعباد أن الشرع والجزاء مربوط بحكمته، غير خارج عن علمه، ويختم الأدعية بأسماء تناسب المطلوب، وهذا من الدعاء بالأسماء الحسنى: {{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}} [الأعراف: 180] أي: تعبدوا لله بها، واطلبوه بكل اسم مناسب لمطلوبكم.
وقوله تعالى: {{لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ *}} [الحج: 59]، والآيات المتتابعة التي بعدها، كل واحدة خُتمت باسمين كريمين، فالأولى منها هذه، خَتْمُها بالعلم والحلم يقتضي علمه بنيَّاتهم الجميلة، وأعمالهم الجليلة، ومقاماتهم الشامخة، فيجازيهم على ذلك بالفضل العظيم، ويعفو ويحلم عن سيئاتهم، فكأنهم ما فعلوها.
وخَتَم الثانية بالعفوِّ الغفور؛ فإنه أباح المعاقبة بالمثل، وندب إلى مقام الفضل ـ وهو العفو وعدم معاقبة المسيء ـ وأنه ينبغي لكم أن تَعَبَّدُوا لله بالاتصاف بهذين الوصفين الجليلين؛ لتنالوا عفوه ومغفرته.
وخَتْمُ الآية الثالثة بالسميع البصير، يقتضي سمعه لجميع أصوات ما سكن في الليل والنهار، وبصره بحركاتهم على اختلاف الأوقات، وتباين الحالات.
وخَتْمُ الآية الرابعة بالعلي الكبير؛ لأن علوَّه المطلق، وكبرياءه، وعظمته، ومجده، تضمحل معها المخلوقات، ويبطل معها كل ما عُبد من دونه، وبإثبات كمال علوه، وكبريائه، يتعين أنه هو الحق، وما سواه باطل.
وخَتَمَ الآية الخامسة باللطيف الخبير، الدالين على سعة علمه وخبرته بالبواطن كالظواهر، وبما تحتوي عليه الأرض من أصناف البذور، وألوان النباتات، وأنه لطف بعباده حيث أخرج لهم أصناف الأرزاق بما أنزله من الماء النمير والخير الغزير.
وخَتَمَ الآية السادسة بالغني الحميد بعد ما ذَكَر مُلكه للسموات والأرض، وما فيهما من المخلوقات، وأنه لم يخلقها حاجة منه لها؛ فإنه الغني المطلق، ولا ليتكمَّل بها؛ فإنه الحميد الكامل؛ وليدلهم على أنهم كلهم فقراء إليه من جميع الوجوه، وأنه حميد في أقداره، حميد في شرعه، حميد في جزائه، فله الحمد المطلق ذاتاً، وصفاتاً ([23])، وأفعالاً.
وخَتْمُ الآية السابعة بالرؤوف الرحيم، أي: من رأفته، ورحمته، تسخيره المخلوقات لبني آدم، وحفظ السماوات والأرض، وإبقاؤها لئلا تزول فتختل مصالحهم، ومن رحمته سخر لهم البحار؛ لتجري في منافعهم، ومصالحهم، فرحمهم حيث خلق لهم المسكن، وأودع فيه كل ما يحتاجونه، وحفظه عليهم، وأبقاه.
ولما ذكر في سورة الشعراء قصص الأنبياء مع أممهم ختم كل قصة
بقوله: {{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ *}} [الشعراء: 9، 68، 104، 122، 140، 159، 175، 191] فإن كل قصة تضمَّنت نجاة النبي وأتباعه، وذلك برحمة الله ولطفه، وإهلاك المكذبين له، وذلك من آثار عزته، وقد يتعلق مقتضى الاسمين بكل من الحالتين؛ فإنه نجَّى الرسول وأتباعه بكمال قوته، وعزته، ورحمته، وأهلك المكذبين بعزته، وحكمته. ويكون ذكر الرحمة يقتضي عظم جرمهم، وأنه لولا أن جرمهم تعاظم، وسدوا على أنفسهم أبواب الرحمة، ولم يكن لهم طريق إليها، لما أحل بهم العقاب.
وأما قول عيسى عليه السلام: {{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *}} [المائدة: 118] ولم يقل: أنت الغفور الرحيم. فإن المقام ليس مقام استعطاف واسترحام، وإنما هو مقام غضب وانتقام ممن اتخذه إلهاً مع الله، فناسب ذكر العزة والحكمة، وصار أولى من ذكر الرحمة.
ومن ألطف مقامات الرجاء: أنه يذكر أسباب الرحمة، وأسباب العقوبة، ثم يختمها بما يدل على الرحمة، مثل قوله: {{يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}} [آل عمران: 129] وقوله: {{لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا *}} [الأحزاب: 73] وذلك يدل على أن رحمته سبقت غضبه وغلبته، وصار لها الظهور، وإليها ينتهي كل من وُجد فيه أدنى سبب من أسباب الرحمة؛ ولهذا يخرج من النار من كان في قلبه أدنى حبة خردل من الإيمان، ولنقتصر على هذه الأمثلة فإنه يعرف بها صفة الاستدلال بذلك.
القاعدة العشرون: القرآن كله محكم باعتبار، وكله متشابه باعتبار، وبعضه محكم وبعضه متشابه باعتبار ثالث.
وقد وصفه الله تعالى بكل واحدة من هذه الأوصاف الثلاث، فوصفه بأنه محكم في عدة آيات، وأنه: {{أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}} [هود: 1] . ومعنى ذلك: أنه في غاية الإحكام، ونهاية الانتظام، فأخباره كلها حق وصدق لا تناقض فيها ولا اختلاف، وأوامره كلها خير وبركة وصلاح، ونواهيه متعلِّقة بالشرور، والأضرار، والأخلاق الرذيلة، والأعمال السيئة، فهذا إحكامه.
ووصفه بأنه متشابه في قوله: {{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا}} [الزمر: 23] أي: متشابهاً في الحسن، والصدق، والحق، ووروده بالمعاني النافعة المزكية للعقول، المطهِّرة للقلوب، المصلِحة للأحوال. فألفاظه أحسن الألفاظ، ومعانيه أحسن المعاني.
ووصفه بأن: {{مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}} [آل عمران: 7] فهنا وصفه بأن بعضه هكذا، وبعضه هكذا، وأن أهل العلم بالكتاب يردون المتشابه منه إلى المحكم فيصير كله محكماً، ويقولون: {{كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}} [آل عمران: 7] أي: وما كان من عنده فلا تناقض فيه، فما اشتبه منه في موضع فسَّره الموضع الآخر المحكم، فحصل العلم، وزال الإشكال. ولهذا النوع أمثلة:
منها: ما تقدم من الإخبار بأنه على كل شيء قدير، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، فإذا اشتبهت على من ظن به خلاف الحكمة، وأن هدايته وإضلاله يكون جزافاً لغير سبب، وضَّحت هذا الإطلاق الآيات الأخر، الدالة على أن هدايته لها أسباب يفعلها العبد ويتصف بها، مثل قوله: {{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ}} [المائدة: 16] وأن إضلاله لعبده لها أسباب من العبد، وهو توليه للشيطان {{فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}} [الأعراف: 30] {{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}} [الصف: 5] . وإذا اشتبهت على الجبري، الذي يرى أن أفعال العباد مجبورون عليها، بيَّنتها الآيات الأخر الكثيرة، الدالة على أن الله لم يجبر
العباد، وأن أعمالهم واقعة باختيارهم وقدرتهم، وأضافها إليهم في آيات غير منحصرة. كما أن هذه الآيات التي أضاف الله فيها الأعمال إلى العباد، حسنها وسيئها، إذا اشتبهت على القدرية النفاة، وظنوا أنها منقطعة عن قضاء الله وقدره، وأن الله ما شاءها منهم، ولا قدّرها، تُليت عليه الآيات الكثيرة الصريحة بتناول قدرة الله لكل شيء من الأعيان، والأعمال، والأوصاف، وأن الله خالق كل شيء، ومن ذلك أعمال العباد، وأن العباد لا يشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين. وقيل للطائفتين: إن الآيات والنصوص كلها حق، ويجب على كل مسلم تصديقها، والإيمان بها كلها، وأنها لا تتنافى، فهي واقعة منهم، وبقدرتهم وإرادتهم، والله تعالى خالقهم، وخَلَق قدرتهم وإرادتهم، وما أُجمل في بعض الآيات فسَّرته آيات أخر، وما لم يتوضح في موضع توضح في موضع آخر، وما كان معروفاً بين الناس، وورد فيه القرآن، أمراً، أو نهياً، كالصلاة، والزكاة، والزنى، والظلم، ولم يفصله، فليس مجملاً؛ لأنه أرشدهم إلى ما كانوا يعرفون، وأحالهم على ما كانوا به متلبسين، فليس فيه إشكال بوجه، والله أعلم.
القاعدة الحادية والعشرون:
القرآن يجري في إرشاداته مع الزمان، والأحوال،
في أحكامه الراجعة للعرف، والعوائد.
وهذه قاعدة جليلة المقدار، عظيمة النفع؛ فإن الله أمر عباده بالمعروف (وهو: ما عُرف حُسنه شرعاً، وعقلاً، وعُرفاً)، ونهاهم عن المنكر (وهو: ما ظهر قبحه شرعاً، وعقلاً، وعُرفاً)، وأمر المؤمنين بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ووصفهم بذلك، فما كان من المعروف لا يتغير في الأحوال، والأوقات، كالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وغيرها من الشرائع الراتبة، فإنه أمر به في كل وقت، والواجب على الآخِرين نظير الواجب على الأولين من هذه الأمة، وما كان من المنكر لا يتغير كذلك بتغير الأوقات كالشرك، والقتل بغير حق، والزنى، وشرب الخمر، ونحوها، ثبتت ([24]) في كل زمان ومكان، لا تتغير، ولا يختلف حكمها، وما كان يختلف باختلاف الأمكنة، والأزمنة، والأحوال، هو المراد هنا؛ فإن الله تعالى يردهم فيه إلى العرف، والعادة، والمصلحة المتعينة في ذلك الوقت؛ وذلك أنه أمر بالإحسان إلى الوالدين بالأقوال والأفعال، ولم يعيِّن لعباده شيئاً مخصوصاً من الإحسان والبر؛ ليعم كل ما تجدَّد من الأوصاف، والأحوال، فقد يكون الإحسان إليهم في وقت غير الإحسان في الوقت الآخر، وفي حق شخص دون حق الشخص الآخر، فالواجب الذي أوجبه الله: النظر في الإحسان المعروف في وقتك، ومكانك، في حق والديك.
ومثل ذلك ما أمر به من الإحسان إلى الأقارب، والجيران، والأصحاب، ونحوهم؛ فإن ذلك راجع في نوعه وجنسه وأفراده إلى ما يتعارفه الناس إحساناً، وكذلك ضده من العقوق، والإساءة، ينظر فيه إلى العرف.
وكذلك قال تعالى: {{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}} [النساء: 19] {{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}} [البقرة: 228] . فردَّ الله الزوجين في عشرتهما وأداء حق كل منهما على الآخر على المعروف المعتاد عند الناس في قطرك، وبلدك، وحالك، وذلك يختلف اختلافاً عظيماً لا يمكن إحصاؤه عدًّا، فدخل ذلك كله في هذه النصوص المختصرة، وهذا من آيات القرآن، وبراهين صدقه.
وقال تعالى: {{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا}} [الأعراف:31] {{يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا}} [الأعراف: 26] فأمر عباده بالأكل، والشرب، واللباس، ولم يعيِّن شيئاً من الطعام، والشراب، واللباس، وهو يعلم أن هذه الأمور تختلف باختلاف الأحوال، فيتعلَّق بها أمره حيث كانت، لا ينظر إلى ما كان موجوداً منها وقت نزول القرآن فقط.
وكذلك قوله: {{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}} [الأنفال: 60] ومن المعلوم أن السلاح والقوة الموجودة وقت نزول القرآن غير نوع القوة الموجودة بعد ذلك، فهذا النص يتناول كل ما يُستطاع من القوة في كل وقت بما يناسبه ويليق به.
وكذلك لما قال تعالى: {{إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}} [النساء: 29] لم يعين لنا نوعاً من التجارة، ولا جنساً، ولم يحدِّد لنا ألفاظاً يحصل بها الرضى، وهذا يدل على أن الله أباح كل ما عُدَّ تجارة ما لم ينه عنه الشارع، وأن كل ما حصل به الرضى من الأقوال والأفعال انعقدت به التجارة، فما حقق الرضى من قول أو فعل انعقدت به المعاوضات، والتبرعات. وكم في القرآن من هذا النوع شيء كثير.
القاعدة الثانية والعشرون: في مقاصد أمثلة القرآن.
اعلم أن القرآن الكريم احتوى على أعلى، وأكمل، وأنفع، المواضيع التي يحتاج الخلق إليها في جميع الأنواع؛ فقد احتوى على أحسن طرق التعليم، وإيصال المعاني إلى القلوب بأيسر شيء وأوضحه، فمن أنواع تعاليمه العالية: ضرب الأمثال، وهذا النوع يذكره الباري في الأمور المهمَّة، كالتوحيد، وحال الموحِّد، والشرك، وحالة أهله، والأعمال العامة الجليلة، ويقصد بذلك كله توضيح المعاني النافعة، وتمثيلها بالأمور المحسوسة؛ ليصير القلب كأنه يشاهد معانيها رأي عين. وهذا من عناية الباري بعباده، ولطفه؛ فقد مثَّل الله الوحي والعلم الذي أنزله على رسوله في عدة آيات بالغيث والمطر النازل من السماء، وقلوب الناس بالأراضي والأودية، وأن عمل الوحي والعلم في القلوب كعمل الغيث والمطر في الأراضي، فمنها أراض طيبة تقبل الماء، وتنبت الكلأ والعشب الكثير، كمثل القلوب الفاهمة، التي تفهم عن الله ورسوله وحيه، وكلامه، وتعقله، وتعمل به: علماً، وتعليماً، بحسب حالها، كالأراضي بحسب حالها. ومنها أراض تمسك الماء ولا تنبت الكلأ، فينتفع الناس بالماء الذي تمسكه، فيشربون، ويسقون مواشيهم وأراضيهم، كالقلوب التي تحفظ الوحي من القرآن والسنة، وتلقيه إلى الأمة، ولكن ليس عندها من الدراية والمعرفة بمعانيه ما عند الأولين، وهؤلاء على خير، ولكنهم دون أولئك. ومنها أراض لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ، كمثل القلوب التي لا تنتفع بالوحي، لا علماً، ولا حفظاً، ولا عملاً.
ومناسبة الأراضي للقلوب كما ترى في غاية الظهور. وأما مناسبة تشبيه الوحي بالغيث فكذلك؛ لأن الغيث فيه حياة الأرض، والعباد، وأرزاقهم الحسية. والوحي فيه حياة القلوب، والأرواح، ومادة أرزاقهم المعنوية.
وكذلك مثَّل الله كلمة التوحيد بالشجرة الطيبة التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، فكذلك شجرة التوحيد ثابتة بقلب صاحبها، معرفة، وتصديقاً، وإيماناً، وإرادة لموجبها، وتؤتي أكلها وهو منافعها كل وقت، من النيَّات الطيبة، والأخلاق الزكية، والأعمال الصالحة، والهدي المستقيم، ونفع صاحبها، وانتفاع الناس به، وهي صاعدة إلى السماء؛ لإخلاص صاحبها، وعلمه، ويقينه.
ومثَّل الله الشرك والمشرك بأن من اتخذ مع الله إلهاً يتعزَّز به، ويزعم منه النفع، ودفع الضرر، في ضعفه ووهنه كالعنكبوت اتخذت بيتاً، وهو أوهن البيوت، وأوهاها، فما ازدادت باتخاذه إلا ضعفاً إلى ضعفها!! كذلك
المشرك ما ازداد باتخاذه ولياً ونصيراً من دون الله إلاَّ ضعفاً؛ لأن قلبه انقطع عن الله، ومن انقطع قلبه عن الله حله الضعف من كل وجه، وتعلقه بالمخلوق زاده وهناً إلى وهنه؛ فإنه اتكل عليه، وظن منه حصول المنافع، فخاب ظنه، وانقطع أمله!!
وأما المؤمن فإنه قوي بالله بقوة إيمانه، وتوحيده، وتعلقه بالله وحده الذي بيده الأمر، والنفع، ودفع الضرر، وهو متصرِّف في أحواله كلها، كالعبد الذي على صراط مستقيم، في أقواله، وأفعاله، منطلق الإرادة، حراً عن رق المخلوقين، غير مقيد لهم بوجه من الوجوه؛ بخلاف المشرك؛ فإنه كالعبد الأصم الأبكم، الذي هو كَلٌّ على مولاه، أينما يوجهه لا يأت بخير؛ لأن قلبه متقيد للمخلوقين، مُسْتَرقٌ لهم، ليس له انطلاق وتصرف في الخير، فمثله أيضاً كالذي خرَّ من السماء فَتَخَطَّفَتْه الطيور، ومزَّقته كل ممزَّق.
وهؤلاء الذين زعموا أنهم آلهة ينفعون ويدعون، لو اجتمعوا كلهم على خلق أضعف المخلوقات ـ وهو الذباب ـ لم يقدروا باجتماعهم على خلقه، فكيف ببعضهم؟ فكيف بفرد من مليات ([25]) الألوف منهم؟ وأبلغ من ذلك أن الذباب لو يسلبهم شيئاً لم يقدروا على استخلاصه منه ورده، فهل فوق هذا الضعف ضعف؟ وهل أعظم من هذا الغرور الذي وقع فيه المشرك شيء؟ وهو مع هذا الغرور، وهذا الوهن والضعف منقسم قلبه بين عدَّة آلهة، كالعبد الذي بين الشركاء المتشاكسين، لا يتمكن من إرضاء أحدهم دون الآخر، فهو معهم في شرٍّ دائم، وشقاء متراكم، فلو استحضر المشرك بعض هذه الأحوال الوخيمة لربأ بنفسه عما هو عليه، ولعلم أنه قد أضاع عقله ورأيه بعدما أضاع دينه. وأما الموحِّد فإنه خالص لربه، لا يعبد إلا
هو، ولا يرجو ويخشى إلا هو، وقد اطمأنَّ قلبه واستراح، وعلم أنه على الدين الحق، وأن عاقبته أحمد العواقب، ومآله الخير، والفلاح، والسعادة الأبدية، فهو في حياة طيبة، ويطمع في حياة أطيب منها.
ومثَّل الله الأعمال بالبساتين، فذكر العمل الكامل الخالص له، الذي لم يعرض له ما يفسده كبستان في أحسن المواضع وأعلاها، تنتابه الرياح النافعة، وقد ضَحَى وبرز للمشمس ([26])، وفي خلاله الأنهار الجارية المتدفقة، فإن لم تكن غزيرة فإنها كافية له، كالطَّلِّ الذي ينزل من السماء، ومع ذلك فأرضه أطيب الأراضي وأزكاها، فمع توفر هذه الشروط لا تسأل عما هو عليه من زهاء الأشجار، وطيب الظلال، ووفور الثمار، فصاحبه في نعيم ورغد متواصل، وهو آمن عن انقطاعه وتلفه، فإن كان هذا البستان لإنسان قد كبر وضعف عن العمل، وعنده عائلة ضعاف، لا مساعدة منهم ولا كفاءة، وقد اغتبط به حيث كان مادته، ومادة عائلته، ثم إنه جاءته آفة وإعصار أحرقه، وأتلفه عن آخره، فكيف تكون حسرة هذا المغرور؟ وكيف تكون مصيبته؟ وهذا هو الذي جاء بعد العمل بما يبطل عمله الصالح من الشرك، أو النفاق، أو المعاصي المحرقة، فيا ويحه بعد ما كان بستانه زاكياً زاهياً أصبح تالفاً، قد أيس من عوده، وبقي بحسرته مع عائلته!! فهذا من أحسن الأمثال وأنسبها، فقد ذكر الله صفة بستان من ثبته الله على الإيمان والعمل، وبستان من أبطل عمله بما ينافيه ويضاده. ويؤخذ من ذلك: أن الذي لم يوفق للإيمان ولا للعمل أصلاً، أنه ليس له بستان أصلاً.
ووجه تشبيه الأعمال بالبساتين: أن البساتين تمدها المياه، وطيب المحل، وحسن الموقع، فكذلك الأعمال، يمدها الوحي النازل لحياة القلوب الطيبة، وقد جمع العامل جميع شروط قبول العمل، من الاجتهاد، والإخلاص، والمتابعة، فأثمر عمله كل زوج بهيج.
وقد مثَّل الله عمل الكافر بالسراب الذي يحسبه الظمآن ماءً، فيأتيه وقد اشتد به الظمأ، وأنهكه الإعياء، فيجده سراباً!! ومثَّله بالرماد الذي أُحرق، فجاءته الرياح فذرته فلم تُبق منه باقية، وهذا مناسب لحاله، وبطلان عمله، فإن كفره ومعاصيه بمنزلة النار المحرقة، وعمله بمنزلة الرماد والسراب الذي لا حقيقة له، وهو كان يعتقده نافعاً له، فإذا وصله ولم يجده شيئاً تقطعت نفسه حسرات، ووجد الله عنده فوفَّاه حسابه.
كما مثَّل نفقات المخلصين بذلك البستان الزكي الزاهي، ومثَّل نفقات المرائين بحجر أملس عليه شيء من تراب، فأصابه مطر شديد تركه صلداً لا شيء فيه؛ لأن قلب المرائي لا إيمان فيه، ولا إخلاص، بل هو قاس كالحجر، فنفقته حيث لم تصدر عن إيمان، بل رياء وسمعة، لم تؤثر في قلبه حياة، ولا زكاة، كهذا المطر الذي لم يؤثر في هذا الحجر الأملس شيئاً.
وهذه الأمثال إذا طُبقت على ممثَّلاتها وضَّحتها، وبيَّنتها، وبيَّنت مراتبها من الخير، والشر، والكمال، والنقصان.
ومثَّل الله حال المنافقين بحال من هو في ظلمة فاستوقد ناراً من غيره، ثم لما أضاءت ما حوله وتبيَّن له الطريق ذهب نورهم، وانطفأ ضوؤهم، فبقوا في ظلمة عظيمة أعظم من الظلمة التي كانوا عليها أولاً!! وهكذا المنافق، استنار بنور الإيمان، فلما تبين له الهدى غلبت عليه الشقوة، واستولت عليه الحيرة، فذهب عنه نوره أحوج ما هو إليه، وبقي في ظلمة متحيِّراً، فهم لا يرجعون؛ لأن سنة الله في عباده أن من بان له الهدى، واتضح له الحق، ثم رجع عنه أنه لا يوفقه بعد ذلك للهداية؛ لأنه رأى الحق فتركه، وعرف الضلال فاتبعه، وهذا المثل ينطبق على المنافقين، الذين تبصَّروا وعرفوا، ثم غلبت عليهم الأغراض الضارة، فتركوا الإيمان.
والمثال الثاني هو قوله: {{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ *}} [البقرة: 19] ينطبق على المنافقين، الضالين، المتحيِّرين، الذين يسمعون القرآن ولم يعرفوا المراد منه، وأعرضوا عنه، وكرهوا سماعه اتباعاً لرؤسائهم وسادتهم.
ومثَّل الله الحياة الدنيا، وزهرتها، والاغترار بها، بحالة زهرة الربيع، تعجب الناظرين، وتغر الجاهلين، ويظنون بقاءها، ولا يؤملون زوالها، فَلَهَوا بها عما خُلقوا له، فأصبحت عنهم زائلة، وأضحوا لنعيمها مفارقين في أسرع وقت، كهذا الربيع إذا أصبح بعد الاخضرار هشيماً، وبعد الحياة يبساً رميماً، وهذا الوصف قد شاهده الخلق، واعترف به البر والفاجر، ولكن سُكر الشهوات، وضعف داعي الإيمان اقتضى إيثار العاجل على الآجل.
القاعدة الثالثة والعشرون:
إرشادات القرآن على نوعين:
أحدهما: أن يرشد أمراً، ونهياً، وخبراً، إلى أمر معروف
شرعاً، أو معروفٍ عُرفاً كما تقدم.
والنوع الثاني: أن يرشد إلى استخراج الأشياء النافعة من أصول معروفة، ويُعمل الفكر في استفادة المنافع منها.
وهذه القاعدة شريفة جليلة القدر؛ أما النوع الأول فأكثر إرشادات القرآن في الأمور الخبرية والأمور الحكمية داخلة فيها.
وأما النوع الثاني ـ وهو المقصود هنا ـ فإنه دعا عباده في آيات كثيرة إلى التفكر في خلق السموات والأرض، وما خلق الله فيها من العوالم، وإلى النظر فيها، وأخبر أنه سخَّرها لمصالحنا ومنافعنا، وأنه أنزل الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس {{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ}} [الجاثية: 13] ونبه العقول على التفكر فيها واستخراج أنواع العلوم والفوائد منها؛ وذلك أننا إذا فكرنا فيها، ونظرنا حالها، وأوصافها، وانتظامها، ولأي شيء خُلقت؟ ولأي فائدة أُبقيت؟ وماذا فيها من الآيات؟ وما احتوت عليه من المنافع؟ أفادنا هذا الفكر فيها علمين جليلين:
أحدهما: أننا نستدل بها على ما لله من صفات الكمال والعظمة، وما له من النعم الواسعة، والأيادي المتكاثرة، وعلى صدق ما أخبر به من المعاد، والجنة والنار، وعلى صدق رسله، وحقيَّة ما جاؤا به. وهذا النوع قد أكثر منه أهل العلم، وكلٌ ذَكَرَ ما وصل إليه علمه؛ فإن الله أخبر أن الآيات إنما ينتفع بها أولو الألباب. وهذا أَجَلُّ العلمين، وأعلاهما، وأكملهما.
والعلم الثاني: أننا نتفكر فيها، ونستخرج منها المنافع المتنوعة، فإن الله سخَّرها لنا، وسلَّطَنا على استخراج جميع ما لنا فيها من المنافع والخيرات الدينية والدنيوية، فسخَّر لنا أرضها لنحرثها، ونزرعها، ونغرسها، ونستخرج معادنها وبركتها، وجعلها طوع علومنا وأعمالنا؛ لنستخرج منها الصناعات النافعة، فجميع فنون الصناعات ـ على كثرتها، وتنوعها، وتفوقها، لا سيما في هذه الأوقات ـ كل ذلك داخل في تسخيرها لنا. وقد عرفت الحاجة، بل الضرورة في هذه الأوقات إلى استنباط المنافع منها، وترقية الصنائع إلى ما لا حد له، وقد ظهر في هذه الأوقات من موادها وعناصرها أمور فيها فوائد عظيمة للخلق، وقد تقدم لنا في قاعدة اللازم: أن ما لا تتم به الأمور المطلوبة فهو مطلوب ([27]). وهذا يدل على
أن تعلُّم الصناعات والمخترعات الحادثة من الأمور المطلوبة شرعاً، كما هي مطلوبة لازمة عقلاً، وأنها من الجهاد في سبيل الله، ومن علوم القرآن؛ فإن القرآن نبَّه العباد على أنه جعل الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، وأنه سخر لهم ما في الأرض، فعليهم أن يسعوا لتحصيل هذه المنافع من أقرب الطرق إلى تحصيلها، وهي معروفة بالتجارب، وهذا من آيات القرآن، وهو أكبر دليل على سعة علم الله، وحكمته، ورحمته بعباده؛ بأن أباح لهم جميع النعم، ويسَّر لهم الوصول إليها بطرق لا تزال تحدث وقتاً بعد وقت، وقد أخبر في عدة آيات أنه تذكرة يتذكر به العباد كل ما ينفعهم فيسلكونه، وما يضرهم فيتركونه، وأنه هداية لجميع المصالح.
القاعدة الرابعة والعشرون: القرآن يرشد إلى التوسط والاعتدال في الأمور، ويذم التقصير والغلو ومجاوزة الحد.
قال تعالى: {{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ}} [النحل: 90] {{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ}} [الأعراف: 29] والآيات الآمرة بالعدل والناهية عن ضده كثيرة، والعدل في كل الأمور: لزوم الحد فيها، وأن لا يغلو ويتجاوز الحد، كما لا يقصر ويدع بعض الحق؛ ففي عبادة الله: أمَرَ بالتمسك بما عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم في آيات كثيرة، ونهى عن مجاوزة ذلك وتعدِّي الحدود في آيات كثيرة، وذَمَّ المقصرين عنه في آيات كثيرة.
فالعبادة التي أمر الله بها: ما جمعت الإخلاص للمعبود، والمتابعة للرسول. وما فُقد فيه الأمران، أو أحدهما، فهي من الأعمال اللاغية.
وفي حق الأنبياء والرسل صلى الله عليهم وسلم: أمر بالاعتدال، وهو: الإيمان بهم، ومحبتهم المقدَّمة على محبة الخلق، وتوقيرهم، واتباعهم، ومعرفة أقدارهم. ومراتبهم التي أكرمهم الله بها. ونهى عن الغلو فيهم في آيات كثيرة، وهو: أن يُرفعوا فوق منزلتهم التي أنزلهم الله، ويُجعل لهم من حقوق الله التي لا يشاركه فيها مشارك شيءٌ، كما نهى عن التقصير في حقهم في الإيمان بهم، ومحبتهم، وترك توقيرهم، وعدم اتباعهم، وذمَّ الغالين فيهم ـ كالنصارى ونحوهم في عيسى ـ في آيات كثيرة، كما ذمَّ الجافين لهم ـ كاليهود حيث قالوا في عيسى ما قالوا ـ وذمَّ من فرَّق بينهم فآمن ببعض دون بعض، وأخبر أن هذا كفر بجميعهم.
وكذلك يتعلق هذا الأمر في حق العلماء، والأولياء، يجب محبتهم، ومعرفة أقدارهم، ولا يحل الغلو فيهم وإعطاؤهم شيئاً من حق الله وحق رسوله الخاص، ولا يحل جفاؤهم وعداوتهم، فمن عادى لله ولياً فقد بارزه بالحرب.
وأمر بالتوسط بالنفقات، والصدقات، ونهى عن الإمساك، والبخل، والتقتير، كما نهى عن الإسراف، والتبذير.
وأمر بالقوة والشجاعة بالأقوال، والأفعال، ونهى عن الجبن، وذم الجبناء وأهل الخَوَر وضَعْفِ النفوس، كما ذم المتهورين الذين يُلقون بأنفسهم وأيديهم إلى التهلكة.
وأمر وحثَّ على الصبر في آيات كثيرة، ونهى عن الجزع، والهلع، والسخط.
كما نهى عن التجبُّر، وعدم الرحمة، والقساوة، في آيات كثيرة.
وأمر بأداء حقوق من له حق عليك، من الوالدين، والأقارب، والأصحاب، ونحوهم، والإحسان إليهم قولاً وفعلاً، وذم من قصَّر في حقهم، أو أساء إليهم قولاً وفعلاً، كما ذم من غلا فيهم وفي غيرهم حتى قدَّم رضاهم على رضا الله، وطاعتهم على طاعة الله.
وأمر بالاقتصاد بالأكل، والشرب، واللباس، ونهى عن السرف، والترف، كما نهى عن التقصير الضار للقلب والبدن.
وبالجملة فما أمر الله بشيء إلا كان وسطاً بين خُلقين ذميمين: تفريط أو إفراط.
القاعدة الخامسة والعشرون: حدود الله قد أمر بحفظها، ونهى عن تعدِّيها وقربانها.
قال تعالى: {{وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ}} [التوبة: 112] {{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا}} [البقرة: 229] {{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا}} [البقرة: 187] .
أما حدود الله: فهي ما حدَّه لعباده من الشرائع الظاهرة والباطنة التي أمرهم بفعلها، والمحرَّمات التي أمرهم بتركها؛ فالحفظ لها: أداء الحقوق اللازمة، وترك المحرَّمات الظاهرة والباطنة. ويتوقف هذا الفعل، وهذا الترك، على معرفة الحدود على وجهها؛ ليعرف ما يدخل في الواجبات والحقوق فيؤديها على ذلك الوجه كاملة غير ناقصة، وما يدخل في المحرَّمات ليتمكن من تركها؛ ولهذا ذمَّ الله من لم يعرف حدود ما أنزل على رسوله، وأثنى على من عرف ذلك.
وحيث قال تعالى: {{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا}} [البقرة: 229] كان المراد بها ما أحلَّه لعباده، وما فصَّله من الشرائع؛ فإنه نهى عن مجاوزتها، وأمر بملازمتها، كما أمر بملازمة ما أحله من الطعام، والشراب، واللباس، والنكاح، ونهى من تعدِّي ذلك إلى ما حرَّم منها من الخبائث، وكما أمر بملازمة ما شرعه من الأحكام في النكاح، والطلاق، والعِدَدِ وتوابع ذلك، ونهى عن تعدي ذلك إلى فعل ما لا يجوز شرعاً، وكما أمر بالمحافظة على ما فصَّله من أحكام المواريث، ولزوم حده، ونهى عن تعدِّي ذلك وتوريث من لا يرث، وحرمان من يرث، وتبديل ما فرضه وفصَّله بغيره.
وحيث قال: {{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا}} [البقرة: 187] كان المراد بذلك المحرمات؛ فإن قوله: {{فَلاَ تَقْرَبُوهَا}} نهيٌ عن فعلها، ونهيٌ عن مقدِّماتها وأسبابها الموصلة إليها والموقعة بها، كما نهاهم عن المحرمات على الصائم، وبيَّن لهم وقت الصيام فقال: {{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا}} [البقرة: 187] وكما حرَّم على الأزواج أن يأخذوا مما آتوا أزواجهم شيئاً إلا أن يأتين بفاحشة مبيِّنة قال: {{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا}} [البقرة: 187] ، وكما صرَّح بالمحرَّمات في قوله: {{وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى}} [الإسراء: 32] وقال: {{وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أْحْسَنُ}} [الأنعام: 152] فالخير والسعادة والفلاح في معرفة حدود الله، والمحافظة عليها، كما أن أصل الشر وأسباب العقوبات الجهل بحدود الله، أو ترك المحافظة عليها، أو الجمع بين الشرَّين. والله أعلم.
القاعدة السادسة والعشرون: الأصل أن الآيات التي فيها قيود لا تثبت أحكامها
إلا بوجود تلك القيود إلا في آيات يسيرة.
وهذه قاعدة لطيفة؛ فإنه متى رتَّب الله في كتابه حكماً على شيء، وقيَّده بقيد، أو شَرَطَ لذلك شرطاً، تعلق الحكم به على ذلك الوصف الذي وصفه الله تعالى. وهذا في القرآن لا حصر له، وإنما المقصود ذكر المستثنى من هذا الأصل الذي يقول كثير من المفسرين إذا تكلَّموا عليها: «هذا قيد غير مراد» وفي هذه العبارة نظر؛ فإن كل لفظة في كتاب الله فإن الله أرادها وفيها فائدة قد تظهر للمتكلم ([28])، وقد تخفى. وإنما مرادهم بقولهم: «غير مراد»: ثبوت الحكم بها. فاعلم أن الله تعالى يذكر الأحكام الشرعية من
أصول وفروع، ويذكر أعلى حالة يبرزها فيها لعباده؛ ليظهر لهم حسنها إن كانت مأموراً بها، أو قبحها إن كانت منهياً عنها، وعند تأمل هذه الآيات ـ التي بهذا الصدد ـ يظهر لك منها عياناً ([29]).
فمنها قوله تعالى: {{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ}} [المؤمنون: 117] . ومن المعلوم أن من دعا مع الله إلها آخر فإنه كافر، وأنه ليس له برهان، وإنما قيدها الله بهذا القيد بيان ([30]) لشناعة الشرك والمشرك، وأن الشرك قطعاً ليس له دليل شرعي ولا عقلي، والمشرك ليس بيده ما يسوغ له شيئاً من ذلك، ففائدة هذا القيد: التشنيع البليغ على المشركين بالمعاندة، ومخالفة البراهين الشرعية والعقلية، وأنه ليس بأيديهم إلا أغراض نفسية، ومقاصد سيئة، وأنهم لو التفتوا أدنى التفات لعرفوا أن ما هم عليه لا يستجيزه من له أدنى إيمان ولا معقول.
ومنها قوله تعالى: {{وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاََّّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ}} [النساء: 23] مع أن كونها في حِجْره أو غَيْرِ حِجْره ليس شرطاً لتحريمها؛ فإنها تحرم مطلقاً، ولكن ذكر الله هذا القيد تشنيعاً لهذه الحالة، وأنه من القبيح إباحة الربيبة التي هي في حجر الإنسان بمنزلة بنته، فذكر الله المسألة متجلية بثياب قبحها لينفِّر عنها ذوي الألباب، مع أن التحريم لم يعلَّق بمثل هذه الحالة، فالأنثى إما أن تكون مباحة مطلقاً، أو محرمة مطلقاً، سواء كانت عند الإنسان أم لا، كحالة بقية النساء المحلَّلات والمحرَّمات.
ومنها قوله تعالى: {{وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ}} [الأنعام: 151] و{{خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ}} [الإسراء: 31] مع أنه من المعلوم النهي عن قتل الأولاد في هذه الحالة وغيرها، فالفائدة في ذكر هذه الحالة: أنها حالة جامعة للشر كله: كونه قتلاً بغير حق، وقتل من جبلت النفوس على شدة الشفقة التي لا نظير لها عليه، وكون ذلك صادراً عن التسخط لقدر الله، وإساءة الظن بالله؛ فهم تبرَّموا بالفقر هذا التبرُّم، وأساؤوا ظنونهم بربهم حيث ظنوا أنهم إن أبقوهم زاد فقرهم، واشتدت ضرورتهم، فصار الأمر بالعكس. وأيضاً: فإنه إذا كان منهياً عن قتلهم في هذه الحال التي دفعهم إليها خشية الافتقار، أو حدوثه، ففي غير هذه الحالة من باب أولى وأحرى. وأيضاً: ففي هذا بيان للحالة الموجودة غالباً عندهم، فالتعرض لذكر الأسباب الموجودة الحادثة يكون أجلى وأوضح للمسائل.
وأما قوله تعالى في الرجعة: {{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاَحًا}} [البقرة: 228] فمن العلماء من قال: إنه من هذا النوع، وأنه يستحق ردها، سواء أراد الإصلاح أو لم يرده؛ فيكون ذكر هذا القيد حثّاً على لزوم ما أمر الله به من قصد الإصلاح، وتحريماً لردِّها على وجه المضارة، وإن كان يملك ردها، كقوله تعالى: {{فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}} [البقرة: 231] ومن العلماء من جعل هذا القيد على الأصل العام، وأن الزوج لا يستحق رجعة زوجته في عدتها إلا إذا قصد الإِصلاح، فأما إذا قصد ضد ذلك فلا حق له في رجعتها. وهذا هو الصواب.
ومنها قوله تعالى: {{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}} [البقرة: 283] مع أن الرهن يصح حضراً وسفراً، ففائدة هذا القيد أن الله ذكر أعلى الحالات، وأشد الحاجات للرهن، وهي هذه الحالة في السفر، والكاتب مفقود، والرهن مقبوض، فأحوج ما يحتاج الإنسان للرهن في هذه الحالة التي تعذرت فيها التوثقات إلا بالرهن المقبوض. وكما قاله الناس في قيد السفر، فكذلك على الصحيح في قيده بالقبض، وأن قبضه ليس شرطاً لصحته، وإنما ذلك للاحتياط، وزيادة الاستيثاق، وكذلك فَقْد الكاتب.
ومنها قوله تعالى: {{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}} [البقرة:282] مع أن الحق يثبت بالرجل والمرأتين، ولو مع وجود الرجلين، لكن ذكر الله أكمل حالة يحصل بها الحفظ للحقوق، بدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قضى بالشاهد الواحد مع اليمين، والآية ليس فيها ذلك لهذه الحكمة، وهو أن الآية أرشد الله فيها عباده إلى أعلى حالة يحفظون بها حقوقهم لتمام راحتهم، وحسم اختلافهم ونزاعهم.
وأما قوله تعالى: {{فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى *}} [الأعلى: 9] فإنها من أصل القاعدة، ويظن بعض الناس أنها من هذا النوع، وأنه يجب التذكير نفعت أو لم تنفع، لكن هذا غلط، فَنَفْعُ الذكرى: إذا كان يحصل بها الخير أو بعضه، أو يزول بها الشر كله أو بعضه، فأما إذا كان ضرر التذكير أعظم من نفعه فإنه منهي عنه في هذه الحال، كما نهى الله عن سبِّ آلهة المشركين إذا كان وسيلة لسبِّ الله، وكما ينهى عن الأمر بالمعروف إذا كان يترتب على ذلك شر أكبر، أو فوات خير أكثر من الخير الذي يُؤمر به، وكذلك النهي عن المنكر إذا ترتب عليه ما هو أعظم منه شراً وضرراً، فالتذكير في هذه الحال غير مأمور به، بل منهي عنه، وكل هذا من تفصيل قوله تعالى: {{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ}} [النحل: 125] فعُلم أن هذا قيد مُراد ثبوت الحكم بثبوته، وانتفاء الحكم لانتفائه، والله أعلم.
ومنها قوله تعالى: {{وَيَقْتُلُونَ الْنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ}} [البقرة: 61] مع أنه لا يقع قتلهم إلا بغير حق، فهذا نظير ما ذكره في الشرك، وأن هذا تشنيع لهذه الحالة التي لا شبهة لصاحبها، بل صاحبها أعظم الناس جرماً، وأشدهم لإساءة([31]).
وأمـا قولـه تـعالى: {{وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ}}
[الأنعام: 151] فليست من هذا النوع، وإنما هي من النوع الأول الذي هو الأصل، والحق الذي قيدها الله به جاء مفسراً في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «النفس بالنفس، والزاني المحصَن، والتارك لدينه المفارق للجماعة» ([32]).
ومنها قوله تعالى: {{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}} [المائدة: 6] مع أن فَقْد الماء ليس من شرطه وجود السفر؛ فإنه إذا فُقد جاز التيمم حضراً وسفراً، لكن ذِكْرَ السفر بيانٌ للحالة الغالبة الموجودة التي يُفقد فيها الماء، أما الحضر فإنه يندر فيه عدم الماء جداً، ومن هذا السبب ظن بعض العلماء أن السفر وحده مبيح للتيمم، وإن كان الماء موجوداً!! وهذا في غاية الضعف. وهدي الرسول وأصحابه والمسلمين مخالف لهذا القول.
ومن ذلك قوله تعالى: {{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}} [النساء: 101] مع أن الخوف ليس بشرط لصحة القصر ومشروعيته بالاتفاق. ولما أُورد هذا على النبي صلّى الله عليه وسلّم قال في جوابه: «صدقة تصدَّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» ([33])، يعني: وصدقة الله وإحسانه في كل زمان ومكان، لا تقيد بخوف ولا غيره. ومن العلماء من قال: إن هذا القيد من القسم الأول، وأن القصر التام ـ وهو قصر العدد، وقصر الأركان والهيئات ـ شرطه اجتماع السفر والخوف كما في الآية، فإن وُجد الخوف وحده لم يُقصر عدد الصلاة، وإنما تُقصر هيئاتها وصفاتها، وإن وُجد السفر وحده لم تُقصر هيئاتها وشروطها وإنما يُقصر عددها، ولا ينافي هذا كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ فإنهم إنما سألوه عن قصر العدد فقط فأجابهم بأن الرخصة فيه عامة في كل الأحوال. وهذا تقرير مليح موافق للآية، غير مخالف لحديث الرسول، فيتعيَّن الأخذ به.
القاعدة السابعة والعشرون: المحترزات في القرآن تقع في كل المواضع في أشد الحاجة إليها.
وهذه القاعدة جليلة النفع، عظيمة الوقع؛ وذلك أن كل موضع يسوق الله فيه حكماً من الأحكام، أو خبراً من الأخبار، فيتشوَّف الذهن فيه إلى شيء آخر إلا وجدت الله قد قرن به ذلك الأمر الذي يعلق في الأذهان، فيبيِّنه أحسن بيان، وهذا أعلى أنواع التعليم الذي لا يُبقي إشكالاً إلا أزاله، ولا احتمالاً إلا وضَّحه، وهذا يدل على سعة علم الله وحكمته، وذلك في القرآن كثير جداً، ولنذكر بعض أمثلة توضح هذه القاعدة، وتُحسِّن للداخل الدخول إليها:
فمن ذلك قوله تعالى: {{إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا}} [النمل: 91] لما خصَّها بالذكر ربما وقع في بعض الأذهان تخصيص ربوبيته بها، أزال هذا الوهم بقوله: {{وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ}} [النمل: 91] .
ومنها قوله تعالى: {{فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاَءِ}} [هود: 109] لما كان قد يقع في الذهن أنهم على حجة وبرهان، فأبان بقوله: {{مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ}} [هود: 109] أنهم ضُلاَّل اقتدوا بمثلهم، ثم لما كان قد يتوهم المتوهِّم أنهم في طمأنينة من قولهم، وعلى يقين من مذهبهم، ولربما توهم أيضاً أن الأليق أن لا تبسط لهم الدنيا، احترز من ذلك بقوله: {{وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ}} إلى قوله: {{وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ}} [هود: 109، 110] .
ولما قال تعالى: {{لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}} [النساء: 95] ربما يظن الظان أنهم لا يستوون مع المجاهدين ولو كانوا معذورين، أزال هذا الوهم بقوله: {{غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ}} [النساء: 95] .
وكذلك لما قال تعالى: {{لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا}} [الحديد: 10] ربما توهم أحد أن المفضولين ليس لهم عند الله مقام ولا مرتبة، فأزال هذا الوهم بقوله: {{وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}} [الحديد: 10] ثم لما كان ربما يتوهم أن هذا الأجر يُستحق بمجرد العمل المذكور ولو خلا من الإخلاص، أزال هذا الوهم بقوله: {{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}} [الحديد: 10] .
ومنها قوله تعالى: {{وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ}} [النمل: 48] ربما وقع في الذهن أنهم يفسدون وقد يصلحون، أزال هذا بقوله: {{وَلاَ يُصْلِحُونَ}} [النمل: 48] أي: لا خير فيهم أصلاً، مع شرهم العظيم.
ومنها: أنه قال في عدة مواضع: {{وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ}} [النمل: 80] و[الروم: 52] ربما يتوهم أحدٌ أنهم وإن لم يسمعوا فإنهم يفهمون الإشارة، أزال هذا الاحتمال بقوله: {{إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ}} [النمل: 80] فهذه حالة لا تقبل سماعاً ولا رؤية لتحصل الإشارة، وهذا نهاية الإِعراض.
ومنها قوله تعالى: {{وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}} [القصص: 56] ربما توهم أحد أن هدايته تقع جزافاً من غير سبب، أزال هذا بقوله: {{وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}} [القصص: 56] أي: بمن يصلح للهداية لزكائه وخيره، ممن ليس كذلك، فأبان أن هدايته تابعة لحكمته التي هي وضع الأشياء مواضعها، ومن كان حَسَن الفهم رأى من هذا النوع شيئاً كثيراً.
القاعدة الثامنة والعشرون: في ذكر الأوصاف الجامعة التي وصف الله بها المؤمن.
لما كان الإيمان أصل الخير كله والفلاح، وبفقده يفقد كل خير ديني ودنيوي وأخروي، أكثر الله من ذكره في القرآن جداً: أمراً به، ونهياً عن
ضده، وترغيباً فيه، وبيانَ أوصافِ أهله، وما لهم من الجزاء الدنيوي والأخروي؛ فأما إذا كان المقام مقام خطاب للمؤمنين بالأمر والنهي، أو مقام إثبات الأحكام الدنيوية بوصف الإيمان، فإنها تتناول كل مؤمن، سواء كان متمِّماً لواجبات الإيمان وأحكامه، أو ناقصاً في شيء منها، وأما إن كان المقام مقام مدح وثناء، وبيان الجزاء الكامل للمؤمن، فإنما المراد بذلك المؤمن حقاً، الجامع لمعاني الإيمان، وهذا هو المراد بيانه هنا، فنقول: وصف الله المؤمن في كتابه باعترافه وتصديقه بجميع عقائد الدين، وبإرادة ما يحبه الله ويرضاه، وبالعمل بما يحبه الله ويرضاه، وبترك جميع المعاصي، وبالمبادرة بالتوبة مما صدر منه منها، وبأن إيمانهم أثَّر في أخلاقهم، وأقوالهم، وأفعالهم الآثار الطيبة، فوصف المؤمنين بالإيمان بالأصول الجامعة، وهو الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيرِه، شرهِ ([34])، وأنهم يؤمنون بكل ما أوتيه الرسل كلهم، ويؤمنون بالغيب، ووصفهم بالسمع والطاعة، والانقياد ظاهراً وباطناً، ووصفهم بأنهم {{إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ *}{أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}} [الأنفال: 2 ـ 4] . ووصفهم بأن جلودهم تقشعر، وعيونهم تفيض من الدمع، وقلوبهم تلين وتطمئن لآيات الله وذكره، وبأنهم يخشون ربهم في الغيب والشهادة، وأنهم يؤتُون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون، ووصفهم بالخشوع في أحوالهم عموماً، وفي الصلاة خصوصاً، وأنهم عن اللغو معرضون، وللزكاة فاعلون، ولفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم، وأنهم بشهاداتهم قائمون، ولأماناتهم وعهدهم مراعون، ووصفهم باليقين الكامل الذي لا ريب فيه، وبالجهاد بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، ووصفهم بالإخلاص لربهم في كل ما يأتون ويذرون، ووصفهم بمحبة المؤمنين، والدعاء لإخوانهم من المؤمنين السابقين واللاحقين، وأنهم مجتهدون في إزالة الغلِّ من قلوبهم على المؤمنين، وبأنهم يتولّون الله ورسوله وعباده المؤمنين، ويتبرؤون من موالاة جميع أعداء الدين، وبأنهم يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويطيعون الله ورسوله في كل أحوالهم، فجمع الله لهم بين العقائد الحقَّة، واليقين الكامل، والإِنابة التامة التي آثارها الانقياد لفعل المأمورات، وترك المنهيات، والوقوف على الحدود الشرعيات.
فهذه الأوصاف الجليلة وهي وصف المؤمن المطلق الذي سلم من العقاب، واستحق الثواب، ونال كل خير رُتِّب على الإِيمان، فإن الله رتب على الإِيمان في كتابه من الفوائد والثمرات ما لا يقل عن مائة فائدة، كل واحدة منها خير من الدنيا وما فيها، رتب على الإيمان نيل رضاه، الذي هو أكبر من كل شيء، ورتب عليه دخول الجنة، والنجاة من النار، والسلامة من عذاب القبر، ومن صعوبات القيامة وتعسُّر أحوالها، والبشرى الكاملة في الحياة الدنيا، وفي الآخرة، والثبات في الدنيا على الإِيمان، والطاعات، وعند الموت وفي القبر على الإِيمان، والتوحيد، والجواب النافع السديد، ورتَّب عليه الحياة الطيبة في الدنيا، والرزق، والحسنة، وتيسير العبد لليسرى، وتجنيبه للعسرى، وطمأنينة القلوب، وراحة النفوس، والقناعة التامة، وصلاح الأحوال، وصلاح الذرية، وجَعْلهم قرة عين للمؤمن، والصبر عند المحن والمصائب، وحَمْل الله عنهم الأثقال، ومدافعة الله عنهم جميع الشرور، والنصر على الأعداء، ورَفْع المؤاخذة عن الناسي، والجاهل، والمخطئ منهم، وأن الله لم يضع عليهم الآصار، بل أزالها ولم يحملهم ما لا طاقة لهم فيه، ومغفرة الذنوب بإيمانهم، والتوفيق للتوبة، فالإِيمان أكبر وسيلة للقرب من الله، والقرب من رحمته، ونيل ثوابه، وأكبر وسيلة لمغفرة الذنوب، وإزالة الشدائد أو تخفيفها، وثمرات الإيمان على وجه التفصيل كثيرة، وبالجملة خيرات الدنيا والآخرة مرتبة على الإيمان، كما أن الشرور مرتبة على فقده، والله أعلم.
القاعدة التاسعة والعشرون: في الفوائد التي يجتنيها العبد في معرفته وفهمه لأجناس علوم القرآن.
وهذه القاعدة تكاد أن تكون هي المقصود الأعظم في علم التفسير؛ وذلك أن القرآن مشتمل على علوم متنوعة، وأصناف جليلة من العلوم، فعلى العبد أن يعرف المقصود من كل نوع منها، ويعمل على هذا، ويتبع الآيات الواردة فيه، فيحصل المراد منها علماً، وتصديقاً، وحالاً، وعملاً.
فأجلُّ علوم القرآن على الإطلاق: علم التوحيد، وما لله من صفات الكمال، فإذا مرَّت عليه الآيات في توحيد الله وأسمائه وصفاته أقبل عليها، فإذا فهمها وفهم المراد بها أثبتها لله على وجه لا يماثله فيه أحد، وعرف أنه كما ليس لله مثيل في ذاته فليس له مثيل في صفاته، وامتلأ قلبه من معرفة ربه وحبه بحسب علمه بكمال الله وعظمته؛ فإن القلوب مجبولة على محبة الكمال، فكيف بمن له كل الكمال، ومنه جميع النعم الجزال، ويعرف أن أصل الأصول هو الإيمان بالله، وأن هذا الأصل يقوى ويكمل بحسب معرفة العبد بربه، وفهمه لمعاني صفاته ونعوته، وامتلاء القلب من معرفتها ومحبتها، وأيضاً يعرف أنه بتكميله هذا العلم تكمل علومه وأعماله؛ فإن هذا هو أصل العلم، وأصل التعبد.
ومن علوم القرآن: صفات الرسل، وأحوالهم، وما جرى لهم وعليهم مع من وافقهم وخالفهم، وما هم عليه من الأوصاف الراقية، فإذا مرَّت عليه هذه الآيات عرف بها أوصافهم، وازدادت معرفته بهم ومحبتهم، وعرف ما هم عليه من الأخلاق والأعمال، خصوصاً إمامهم وسيدهم محمد صلّى الله عليه وسلّم، فيقتدي بأخلاقهم وأعمالهم بحسب ما يقدر عليه، ويفهم أن الإيمان بهم تمامه وكماله معرفته التامة بأحوالهم، ومحبتهم، واتباعهم، وفي القرآن من نعوتهم الشيء الكثير الذي يحصل به تمام الكفاية، ويستفيد أيضاً الاقتداء بتعليماتهم العالية، وإرشاداتهم للخلق، وحسن خطابهم، ولطف جوابهم، وتمام صبرهم، فليس القصد من قصصهم أن تكون سَمَراً، وإنما القصد أن تكون عِبَراً.
ومن علوم القرآن: علم أهل السعادة والخير، وأهل الشقاوة والشر، وفي معرفته لهم ولأوصافهم ونعوتهم فوائد: الترغيب في الاقتداء بالأخيار، والترهيب من أحوال الأشرار، والفرقان بين هؤلاء وهؤلاء، وبيان الصفات والطرق التي وصل بها هؤلاء إلى دار النعيم، وأولئك إلى دار الجحيم، ومحبة هؤلاء الأتقياء من الإيمان، كما أن بغض أولئك من الإيمان، وكلَّما كان العبد أعرف لأحوالهم تمكن من هذه المقاصد.
ومن علوم القرآن: علم الجزاء في الدنيا، والبرزخ، والآخرة، على أعمال الخير، وأعمال الشر، وفي ذلك مقاصد جليلة: الإيمان بكمال عدل الله، وسعة فضله، والإيمان باليوم الآخر، فإن تمام الإِيمان بذلك يتوقف على معرفة ما يكون فيه، والترغيب والترهيب بالرغبة في الأعمال التي رتب الله عليها الجزاء الجزيل، والرهبة من ضدها.
ومن علوم القرآن: الأمر والنهي، وفي ذلك مقاصد جليلة: معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله، فإن المكلفين مكلَّفون بمعرفة ما أمروا به، وما نُهوا عنه، وبالعمل بذلك، والعلم سابق للعمل، وطريق ذلك: إذا مرَّ عليه نص فيه أمر بشيء عرفه، وفهم ما يدخل فيه، وما لا يدخل، وحاسب نفسه: هل هو قائم بذلك كله، أو بعضه، أو تاركه؟ فإن كان قائماً به فليحمد الله، ويسأله الثبات والزيادة من الخير، وإن كان مقصراً فيه فليعلم أنه مطالب به، وملزوم به، فليستعن الله على فعله، وليجاهد نفسه على ذلك، وكذلك في النهي؛ ليعرف ما يُراد منه، وما يدخل في ذلك الذي نهى الله عنه، ثم لينظر إلى نفسه: فإن كان قد ترك ذلك، فليحمد الله على ذلك، ويسأله أن يثبته على ترك المناهي، كما يسأله الثبات على فعل الطاعات، وليجعل الداعي له على الترك امتثال طاعة الله؛ ليكن ([35]) تركه عبادة، كما كان فعله عبادة، وإن كان غير تارك له فليتب إلى الله منه توبة جازمة، وليبادر، ولا تمنعه الشهوات الدنية عن مجانبة ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء، فمن كان عند هذه المطالب وغيرها، عاملاً على هذه الطريقة، فإنه ماش على الصراط المستقيم، والطريقة المثلى فيما عليه من الاسترشاد بكتاب الله، وحصل له بذلك علم غزير، وخير كثير.
القاعدة الثلاثون: أركان الإيمان بالأسماء الحسنى ثلاثة: إيماننا بالاسم،
وبما دل عليه من المعنى، وبما تعلق به من الآثار.
وهذه القاعدة العظيمة خاصة بأسماء الرب، وفي القرآن من الأسماء الحسنى ما ينيف عن ثمانين اسماً كُرِّرت في آيات متعددة بحسب ما يناسب المقام، كما تقدم بعض الإشارة إلى المناسبة بها ([36]).
وهذه القاعدة تنفعك في كل اسم من أسمائه الحسنى المتعلِّقة بالخلق. والأمر، والثواب. والعقاب؛ فعليك أن تؤمن بأنه عليم وذو علم. عظيم محيط بكل شيء، قدير ذو قدرة وقوة عظيمة، ويقدر على كل شيء، و رحيم وذو رحمة عظيمة، ورحمته وسعت كل شيء، والثلاثة متلازمة، فالاسم دل على الوصف، وذلك دل على المُتَعَلَّق، فمن نفى واحداً من هذه الأمور الثلاثة فإنه لم يتم إيمانه بأسماء الرب وصفاته الذي هو أصل التوحيد، ولنكتف بهذا الأنموذج ليعرف أن الأسماء كلها على هذا النمط.
القاعدة الحادية والثلاثون: ربوبية الله في القرآن على نوعين: عامة، وخاصة.
كثر في القرآن ذكر ربوبية الرب لعباده، ومتعلقاتها، ولوازمها، وهي على نوعين:
ربوبية عامة تدخل فيه ([37]) المخلوقات كلها، برها وفاجرها، بل مكلَّفوها وغير المكلَّفين، حتى الجمادات، وهي: أنه تعالى المنفرد بخلقها، ورزقها، وتدبيرها، وإعطائها ما تحتاجه، أو تضطر إليه في بقائها، وحصول منافعها، ومقاصدها، فهذه التربية لا يخرج عنها أحد.
والنوع الثاني: في تربيته لأصفيائه وأوليائه، فيربيهم بالإيمان الكامل، ويوفقهم لتكميله، ويكملهم بالأخلاق الجميلة، ويدفع عنهم الأخلاق الرذيلة، وييسِّرهم لليسرى، ويجنِّبهم العسرى، وحقيقتها: التوفيق لكل خير، والحفظ من كل شر، وإنالة المحبوبات العاجلة والآجلة، وصرف المكروهات العاجلة والآجلة؛ فحيث أُطلقت ربوبيته تعالى فإن المراد بها المعنى الأول، مثل قوله: {{وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ}} [الأنعام: 164] ونحو ذلك. وحيث قُيدت بما يحبه ويرضاه، أو وقع السؤال بها من الأنبياء وأتباعهم، فإنما المراد بها النوع الثاني، وهو متضمن للنوع الأول؛ ولهذا تجد أسئلة الأنبياء وأتباعهم في القرآن بلفظ الربوبية غالباً، فإن مطالبهم كلها داخلة تحت ربوبيته الخاصة؛ ليلحظ العبد هذا المعنى النافع.
ونظير هذا المعنى الجليل: أن الله أخبر في عدة آيات أن الخلق كلهم عباده وعبيده، {{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَانِ عَبْدًا *}} [مريم: 93] فكلهم مماليكه، وليس لهم من الملك والأمر شيء. ويخبر في بعض الآيات أن عباده بعض خلقه، كقوله: {{وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ
عَلَى الأَرْضِ هَوْناً}} [الفرقان: 63] ثم ذكر صفاتهم الجليلة: {{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ} عبادَه} [الزمر: 36] وفي قراءة {{عَبْدَهُ}}، {{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ}} [الإسراء: 1] {{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا}} [البقرة: 23] فالمراد بها بهذا النوع من قاموا بعبودية الله، وأخلصوا له الدين على اختلاف طبقاتهم، فالعبودية الأولى: يدخل فيها البر والفاجر، والعبودية الثانية: صفة الأبرار، ولكن الفرق بين الربوبية والعبودية: أن الربوبية وصف الرب وفعله، والعبودية وصف العبيد وفعلهم.
القاعدة الثانية والثلاثون:
إذا أمر الله بشيء كان ناهياً عن ضده، وإذا نهى عن شيء كان آمراً بضده، وإذا أثنى على نفسه أو على أوليائه وأصفيائه بنفي شيء
من النقائص كان ذلك إثباتاً للكمال.
وذلك لأنه لا يمكن امتثال الأمر على وجه الكمال إلا بترك ضده، فحيث أمر بالتوحيد، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والعدل، كان نهياً عن الشرك، وعن ترك الصلاة، وترك الزكاة، وترك الصوم، وترك الحج، وعن العقوق، والقطيعة.
وحيث نهى عن الشرك، والصلاة ([38])، إلى آخر المذكورات، كان آمراً بالتوحيد، وفعل الصلاة، إلى آخرها.
وحيث أمر بالصبر، والشكر، وإقبال القلب على الله: إنابة، ومحبة، وخوفاً، ورجاء، كان نهياً عن الجزع، والسخط، وكفران النعم وإعراض القلب عن الله في تعلق هذه الأمور بغيره.
وحيث نهى عن الجزع، وكفران النعم، وغفلة القلب، كان آمراً بالصبر، إلى آخر المذكورات. وهذا ضرب مثل، وإلا فكل الأوامر والنواهي على هذا النمط.
وكذلك المدح لا يكون إلا بإثبات الكمالات؛ فحيث أثنى على نفسه، وذكر تنزهه عن النقائص والعيوب، كالنوم، والسِّنة، واللغوب، والموت، وخفاء شيء في العالم من الأعيان، والصفات، والأعمال، وغيرها، والظلم، فَلِتَضمُّن ذلك الثناء عليه بكمال حياته، وكمال قيُّوميته، وقدرته، وسعة علمه، وكمال عدله؛ لأن العدم المحض لا كمال فيه حتى يُنفى تكميلاً للكمال.
وكذلك إذا نفى الله عن كتابه الريب، والاختلاف، والشك، والإِخبار بخلاف الواقع، كان ذلك لكمال دلالته على اليقين في جميع المطالب، واشتماله على الإحكام، والانتظام التام، والصدق الكامل، إلى غير ذلك من صفات كتابه.
وكذلك إذا نفى عن رسوله الكذب، والتقوُّل، والجنون، والسحر، والشعر، والغلط، ونحوها، كان ذلك لأجل إثبات كمال صدقه، وأنه لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، ولكمال عقله، ولزوال كل ما يقدح في كمال نبوته ورسالته، فتفطَّن لهذه القاعدة في كل ما يمرُّ عليك من الآيات القرآنية في هذه الأمور وغيرها تنل خيراً كثيراً، والله أعلم.
القاعدة الثالثة والثلاثون:
المرض في القرآن ـ مرض القلوب ـ نوعان:
مرض شبهات وشكوك، ومرض شهوات المحرمات ([39]) .
والطريق إلى تمييز هذا من هذا ـ مع كثرة ورودهما في القرآن ـ يُدرك من السياق، فإن كان السياق في ذم المنافقين والمخالفين في شيء من أمور الدين كان هذا مرض الشكوك والشبهات، وإن كان السياق في ذكر المعاصي والميل إليها كان مرض شهوة.
ووجه انحصار المرض في هذين النوعين: أن مرض القلب خلاف
صحته؛ وصحة القلب الكاملة بشيئين: كمال علمه، ومعرفته، ويقينه، وكمال إرادته ما يحبه الله ويرضاه، فالقلب الصحيح هو الذي عرف الحق واتبعه، وعرف الباطل وتركه، فإن كان عِلْمُه شكّاً، وعنده شبهات تُعارض ما أخبر الله به من أصول الدين وفروعه كان علمه منحرفاً، وكان مرض قلبه قوة وضعفاً بحسب هذه الشكوك والشبهات، وإن كانت إرادته ومحبته مائلة لشيء من معاصي الله كان ذلك انحرافاً في إرادته ومرضاً. وقد يجتمع الأمران، فيكون القلب منحرفاً في علمه، وفي إرادته، فمن النوع الأول : قوله تعالى عن المنافقين: {{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}} [البقرة: 10] وهي ([40]) الشكوك والشبهات المعارضة لرسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم {{فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا}} [البقرة: 10] عقوبة على ذلك المرض الناتج عن أسباب متعددة كلها منهم، وهم فيها غير معذورين. ونظير هذا قوله: {{وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ}} [التوبة: 125] وكذلك قوله تعالى: {{لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ}} [الحج: 53] فإن مريض القلب بالشكوك، وضعف العلم، أقل شيء يريبه، ويؤثر فيه، ويفتتن به. ومن الثاني قوله تعالى: {{فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}} [الأحزاب:32] أي: مرض شهوة وإرادة للفجور، أقل شيء من أسباب الافتتان يوقعه في الفتنة طمعاً أو فعلاً، فكل من أراد شيئاً من معاصي الله فقلبه مريض مرض شهوة، ولو كان صحيحاً لاتصف بصفات الأزكياء، الأبرياء، الأتقياء، الموصوفين بقوله: {{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ}{فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً}} [الحجرات: 7، 8] فمن كان قلبه على هذا الوصف الذي ذكره الله فليحمده على هذه النعمة التي لا يقاومها شيء من النعم، وليسأل الله الثبات على ذلك والزيادة من فضل الله ورحمته.
القاعدة الرابعة والثلاثون:
دلَّ القرآن في عدة آيات أن من ترك ما ينفعه مع الإمكان
ابتُلي بالاشتغال بما يضره، وحُرم الأمر الأول.
وذلك أنه ورد في عدة آيات أن المشركين لما زهدوا في عبادة الرحمن ابتُلوا بعبادة الأوثان، ولما استكبروا عن الانقياد للرسل بزعمهم أنهم بشر ابتُلوا بالانقياد لكل مارج العقل والدين، ولما عرض عليهم الإيمان أول مرة فعرفوه ثم تركوه قلب الله قلوبهم، وطبع عليها وختم، فلا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم، ولما بين لهم الصراط المستقيم، وزاغوا عنه اختياراً ورضًا بطريق الغي على طريق الهدى عُوقبوا بأن أزاغ الله قلوبهم، وجعلهم حائرين في طريقهم، ولما أهانوا آيات الله ورسله أهانهم الله بالعذاب المهين، ولما استكبروا عن الانقياد للحق أذلهم في الدنيا والآخرة، ولما منعوا مساجد الله أن يُذكر فيها اسمه وأخربوها ما كان لهم بعد ذلك أن يدخلوها إلا خائفين {ومِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ *فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ *فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ *}} [التوبة: 75 ـ 77] .
والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً، يخبر فيها أن العبد كان قبل ذلك بصدد أن يهتدي، وأن يسلك الطريق المستقيمة، ثم إذا تركها بعد أن عرفها، وزهد فيها بعد أن سلكها، أنه يُعاقب، ويصير الاهتداء غير ممكن في حقه، جزاء على فعله، كقوله عن اليهود: {{نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ}} [البقرة: 101، 102] فإنهم تركوا أجَلَّ الكتب، وأنفعها، وأصدقها، فابتُلوا باتباع أرذلها، وأكذبها، وأضرها، والمحاربون لله ورسوله تركوا إنفاق أموالهم في طاعة الرحمن، وأنفقوها في طاعة الشيطان!!
القاعدة الخامسة الثلاثون:
في القرآن عدة آيات فيها الحث على أعلى المصلحتين،
وتقديم أهون المفسدتين، ومنع ما كانت مفسدته أرجح من مصلحته.
وهذه قاعدة جليلة نبَّه الله عليها في آيات كثيرة، فمن الأول : المفاضلة بين الأعمال، وتقديم الأعلى منها، كقوله: {{لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ}...} الآية [الحديد: 10] وكقوله: {{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَآجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}...} الآية [التوبة: 19] وكقوله: {{لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}} الآية [النساء: 95] . ومن الثاني قوله تعالى: {{وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}} [البقرة: 217] . بيَّن تعالى أن ما نقمه الكفار على المسلمين من قتال في الشهر الحرام أنه وإن كان مفسدة فما أنتم عليه من الصد عن سبيل الله، والكفر بالله، وبالمسجد الحرام، وإخراج أهله منه أكبر عند الله من القتل. وقوله: {{وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُوهُمْ}} الآيات [الفتح: 25] فكفَّهم الله عن القتال في المسجد الحرام، مع وجود المقتضي من الكفار، خوف المفسدة المترتبة على ذلك من إصابة المؤمنين والمؤمنات من معرَّة الجيش ومضرته. وكذلك جميع ما جرى في الحديبية من هذا الباب، من التزام تلك الشروط التي ظاهرها ضرر على المسلمين، ولكن صارت هي عين المصلحة لهم. ومن هذا: أمره بكف الأيدي قبل أن يهاجر الرسول إلى المدينة؛ لأن الأمر بالقتال في ذلك الوقت أعظم ضرراً من الصبر والإِخلاد إلى السكينة. ولعل من هذا مفهوم قوله: {{فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى *}} [الأعلى: 9] يعني: فإن ضرَّت فترك التذكير الموجب للضرر الكثير هو المتعين. والآيات في هذا النوع كثيرة جداً. ومن الثالث قوله تعالى: {{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}} [البقرة: 219] هذا كالتعليل العام: أن كل ما كانت مضرته وإثمه أكبر من نفعه فإن الله من حكمته لا بد أن يمنع منه عباده ويحرمه عليهم، وهذا الأصل العظيم كما أنه ثابت شرعاً فإنه هو المعقول بين الناس المفطورين على استحسانه والعمل به في الأمور الدينية والدنيوية، والله أعلم.
القاعدة السادسة والثلاثون:
طريقة القرآن إباحة الاقتصاص من المعتدي، ومقابلته بمثل عدوانه، والنهي عن ظلمه، والندب إلى العفو والإحسان.
وهذا في آيات كثيرة، كقوله: {{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ *}} [النحل: 126] {{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ *}} [الشورى: 40] فذكر المراتب الثلاث، ولما كان القتال في المسجد الحرام محرماً قال تعالى: {{فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}} [إلى قوله] ([41]) {{فَإِنِ انْتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ}} [البقرة: 191 ـ 194] وهو كل ما حرَّمه الله، وأمر باحترامه، فمن انتهكه فقد أباح الله الاقتصاص منه بقدر ما اعتدى به لا أكثر. وقوله: {{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ}} [البقرة: 194] {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى}} الآية [البقرة: 178] {{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}} الآية [المائدة: 45] {{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا}} [الإسراء: 33] {{لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ}} [النساء: 148] والآيات في هذا المعنى كثيرة، والله أعلم.
القاعدة السابعة و[الثلاثون] ([42]):
اعتبر الله القصد والإرادة
في ترتب الأحكام على أعمال العباد.
وهذا الأصل العظيم صرَّح به النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله: «إنما الأعمال بالنيات» ([43])، والمقصود هنا أنه ورد آيات كثيرة جداً في هذا الأصل.
فمنها: وهو أعظمها أنه رتب حصول الأجر العظيم على الأعمال بإرادة وجهه، لما ذكر الصدقة والمعروف والإِصلاح بين الناس قال: {{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}} [النساء: 114] وقال {{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ}} [البقرة: 265] وفي مقابله قال: {{رِئَاءَ النَّاسِ}} [النساء: 38] . ووصف الله نبيه وخيار خلقه من الصحابة رضي الله عنهم بأنهم {{يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً}} [الفتح: 29] وقال تعالى في الرجعة: {{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاَحًا}} [البقرة: 228] {{لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}} [البقرة: 225] وقال تعالى: { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ } [النساء: 12] {{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا}} [النساء: 4] {{لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}} [النساء: 29] وقال تعالى: {{وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ}} [البقرة: 220] . وفي دعاء المؤمنين: {{رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا}} [البقرة:286] قال الله: قد فعلت. {{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}} [الأحزاب: 5] وذكر الله قتل الخطأ، ورتب عليه الدية والكفارة، ثم قال: {{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا *}} [النساء: 93] . وقال في الصيد: {{وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}} الآية [المائدة: 95] وقال: {{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ}} [البقرة: 235] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن أعمال الأبدان، وأقوال اللسان، صحتها وفسادها، وترتب أجرها، أو وزرها، بحسب ما قام بالقلب.
القاعدة الثامنة والثلاثون:
قد دلت آيات كثيرة على جبر خاطر المنكسر قلبه،
ومن تشوَّفت نفسه لأمر من الأمور، إيجاباً أو استحباباً.
وهذه قاعدة لطيفة، اعتبرها الباري، وأرشد عباده إليها في عدة آيات:
منها: المطلقة؛ فإنه لما كانت في الغالب منكسرة القلب، حزينة على فراق بعلها، أمر الله بمتعتها على الموسع قدره، وعلى المقتر قدره، متاعاً بالمعروف.
وكذلك من مات زوجها عنها، فإن من تمام جبر خاطرها أن تمكث عند أهله سنة كاملة وصية ومتعة. مرغب ([44]) فيها. وكذلك أوجب الله للزوجة على الزوج النفقة، والكسوة في مدة العدة إذا كانت رجعية، أو كانت حاملاً مطلقاً.
وقال تعالى: {{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا *}} [النساء: 8] .
ويدخل الواجب والمستحب في مثل قوله: {{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}} [الأنعام: 141] .
وكذلك إخباره عن عقوبة أصحاب الجنة الذين أقسموا ليصرمنَّها مصبحين ، وتواصوا أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين.
وقال تعالى: {{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا}{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}} [إلى قوله] ([45]): {{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ}} [الإسراء: 23 ـ 26] .
وقد ذكر الله جبره لقلوب أنبيائه وأصفيائه أوقات الشدَّات، وإجابته لأدعيتهم أوقات الحاجات والضرورات، وأمر عباده بانتظار الفرج عند الأزمات، فهذا أصل قد اعتبره الله وأرشد إليه، فينبغي للعبد أن يكون على باله في وقت المناسبات، ويعتبره عند وجود سببه.
القاعدة التاسعة والثلاثون: في طريقة القرآن في أحوال السياسة الداخلية والخارجية.
طريقة القرآن في هذا أعلى طريقة، وأقرب إلى حصول جميع المصالح الكلية، وإلى دفع المفاسد، ولو لم يكن في القرآن من هذا النوع إلا قوله تعالى: {{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}} [آل عمران: 159] وإخباره عن المؤمنين أن (أمرهم شورى بينهم) فالأمر مفرد مضاف إلى المؤمنين، وفي الآية الأولى قد دخلت عليه «أل» المفيدة للعموم والاستغراق، يعني: أن جميع أمور المؤمنين، وشؤونهم، واستجلاب مصالحهم، واستدفاع مضارهم، معلق بالشورى، والتراود على تعيين الأمر الذي يجرون عليه، وقد اتفق العقلاء أن الطريق الوحيد للصلاح الديني والدنيوي هو طريق الشورى، فالمسلمون قد أرشدهم الله إلى أن يهتدوا إلى مصالحهم وكيفية الوصول إليها بإعمال أفكارهم مجتمعة، فإذا تعيَّنت المصلحة في طريق سلكوه، وإذا تعيَّنت المضرَّة في طريق تركوه، وإذا كان في ذلك مصلحة ومضرَّة نظروا أيها أقوى، وأولى، وأحسن عاقبة، وإذا رأوا أمراً من الأمور هو المصلحة ولكن ليست أسبابه عتيدة عندهم ولا لهم قدرة عليها نظروا بأي شيء تُدرك تلك الأسباب، وبأي حالة تُنال على وجه لا يضر، وإذا رأوا مصالحهم تتوقف على الاستعداد بالفنون الحديثة، والاختراعات الباهرة، سعوا لذلك بحسب اقتدارهم، ولم يملكهم اليأس والاتكال على غيرهم الملقي إلى التهلكة، وإذا عرفوا ـ وقد عرفوا ـ أن السعي لاتفاق الكلمة، وتوحيد الأمة، هو الطريق الأقوم للقوة المعنوية، جدُّوا في هذا واجتهدوا، وإذا رأوا المصلحة في المقاومة والمهاجمة، أو في المسالمة والمدافعة بحسب الإمكان، سلكوا ما تعيَّنت مصلحته، فَيُقْدمون في موضع الإقدام، ويُحْجِمون في موضع الإحجام، وبالجملة لا يدعون مصلحة داخلية ولا خارجية، دقيقة ولا جليلة، إلا تشاوروا فيها، وفي طريق تحصيلها وتنميتها، ودفع ما يضادها وينقصها، فهذا النظام العجيب الذي أرشد إليه القرآن هو النظام الذي يصلح في كل زمان ومكان، وفي كل أمة ضعيفة أو قوية.
ومن ذلك قوله تعالى: {{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}} [الأنفال: 60] فهذه الآية نص صريح بوجوب الاستعداد للأعداء بما استطاعه المسلمون من قوة عقلية، ومعنوية، ومادية، مما لا يمكن حصر أفراده، وفي كل وقت يتعين سلوك ما يلائم ذلك الوقت ويناسبه، ومن ذلك قوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ}} [النساء: 71] ونحوها من الآيات التي أرشد الله فيها إلى التحرز من الأعداء، فكل طريق وسبب يُتحرَّز به من الأعداء فإنه داخل في هذا، ولكل وقت لَبُوسُه.
ومن عجيب ما نبَّه عليه القرآن من النظام الوحيد: أن الله عاتب المؤمنين بقوله: {{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}} [آل عمران: 144] فأرشد عباده إلى أنه ينبغي أن يكونوا بحالة من جريان الأمور على طرقها، لا يزعزعهم عنها فقد رئيس وإن عظم، وما ذاك إلا بأن يستعدوا لكل أمر من أمورهم الدينية والدنيوية بعدة أُناس إذا فُقد أحدهم قام به غيره، وأن تكون الأمة متوحِّدة في إرادتها، وعزمها، ومقاصدها، وجميع شؤونها، قصدهم جميعاً أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن تقوم جميع الأمور بحسب قدرتهم.
وقال تعالى: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] أي: اتقوا غضبه وعقابه بالقيام بما أمر به من كل ما فيه الخير والصلاح لكم جماعة ومنفردين، فكل مصلحة أمر الله بها وهي متوقفة في حصولها أو في كمالها على أمر من الأمور السابقة أو اللاحقة فإنه يجب تحصيلها بحسب الاستطاعة، فلا يكلفهم الله ما لا يطيقون، وكذلك كل مفسدة ومضرَّة لا يمكن اجتنابها إلا بسلوك بعض الطرق السابقة أو اللاحقة فإنها داخلة في تقوى الله تعالى؛ وذلك أن لازم الحق حق، والوسائل لها أحكام المقاصد.
ومن الآيات الجامعة في السياسة قوله تعالى: {{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ}} الآية [النساء: 58] والآية التي بعدها. فالأمانات يدخل فيها أشياء كثيرة، من أَجَلِّها الولايات الكبيرة، والصغيرة، والمتوسطة، الدينية، والدنيوية، فقد أمر الله أن تُؤدى إلى أهلها بأن يُجعل فيها الأكفاء لها، وكل ولاية لها أكْفاء مخصوصون، فهذا الطريق الذي أمر الله به في الولايات من أصلح الطرق لصلاح جميع الأحوال، فإن صلاح الأمور بصلاح المتولين والرؤساء فيها، والمدبِّرين لها، والعاملين لها، ويجب تولية الأمثل فالأمثل {{إِنَّ خَيْرَ مَنِ
اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ}} [القصص: 26] فصلاح المتولين للولايات الكبرى والصغرى عنوان صلاح الأمة، وضده بضده، ثم أرشدهم إلى الحكم بين الناس بالعدل، الذي ما قامت السموات والأرض إلا به، فالعدل قوام الأمور وروحها، وبفقده تفسد الأمور، والحكم بالعدل من لازمه معرفة العدل في كل أمر من الأمور، فإذا كان المتولون للولايات هم الكُمَّل من الرجال، والأكفاء للأعمال، وجرت تدابيرهم وأفعالهم على العدل والسداد، متجنِّبين للظلم والفساد، ترقَّت الأمة وصلحت أحوالها، وتمام ذلك في الآية الأخرى التي أمر الله فيها بطاعة ولاة الأمور، فهل يوجد أكمل وأعلى من هذه السياسة الحكيمة التي عواقبها أحمد العواقب؟
ومن الآيات المتعلقة بالسياسة الشرعية: جميع ما شرعه الله من الحدود على الجرائم، والعقوبات على المتجرئين على حقوقه وحقوق عباده، وهي في غاية العدالة والحُسن، وردع المجرمين، والنكال والتخويف لأهل الشر والفساد، وفيها صيانة لدماء الخلق، وأموالهم، وأعراضهم، والآيات التي فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتكلم بالحق مع من كان، وفي أي حال من الأحوال، وكذلك ما فيه من النهي عن الظلم فيه إرشاد للحرية النافعة، التي معناها التكلم بالحق، وفي الأمور التي لا محذور فيها، كما أن الحدود والعقوبات، والنهي عن الكلام القبيح، والفعل القبيح، فيها رد الحرية الباطلة؛ فإن ميزان الحرية الصحيحة النافعة: هو ما أرشد إليه القرآن، وأما إطلاق عنان الجهل والظلم، والأقوال الضارة للمجتمع، المحلِّلة للأخلاق؛ فإنها من أكبر أسباب الشر والفساد، وانحلال الأمور، والفوضوية المحضة، فنتائج الحرية الصحيحة أحسن النتائج، ونتائج الحرية الفاسدة أقبح النتائج، فالشارع فتح الباب للأولى، وأغلقه عن الثانية، تحصيلاً للمصالح، ودفعاً للمضار والمفاسد، والله أعلم.
القاعدة الأربعون: في دلالة القرآن على أصول الطب.
أصول الطب ثلاثة: حفظ الصحة باستعمال الأمور النافعة، والحِمْيَة عن الأمور الضارة، ودفع ما عرض للبدن من المؤذيات. ومسائل الطب كلها تدور على هذه القواعد، وقد نبه القرآن عليها في قوله تعالى في حفظ الصحة ودفع المؤذي: {{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا}} [الأعراف: 31] فأمر بالأكل والشرب الذين لا تستقيم الأبدان إلا بهما، وأطلق ذلك ليدل على أن المأكول والمشروب بحسب ما يلائم الإنسان وينفعه في كل وقت وحال، ونهى عن الإسراف في ذلك: إما زيادة في كثرة المأكولات والمشروبات، وإما بالتخليط. وهذا حمية عن كل ما يؤذي الإنسان، فإذا كان القوت الضروري من الطعام والشراب إذا صار بحالة يتأذَّى منه البدن ويتضرَّر مُنع منه فكيف بغيره؟! وكذلك أباح الله للمريض التيمم إذا كان استعمال الماء يضرُّه، حمية له عن المضرَّات كلها، وأباح للمحرم الذي به أذى من رأسه أن يحلقه ويفدي، وهذا من باب الاستفراغ، وإزالة ما يؤذي البدن، فكيف بما ضرره أكثر من هذا، ونهى عن الإِلقاء باليد إلى التهلكة، فيدخل في ذلك استعمال كل ما يتضرر به الإنسان من الأغذية والأدوية، ودفع ما يضر بمدافعة الذي لم يقع والتحرُّز عنه، وبمعالجة الحادث بالطريقة الطبية النافعة، وكذلك ما ذكره الله في كتابه من الأعمال كلها، كالجهاد، والصلاة، والصوم، والحج، وبقية الأعمال، والإحسان إلى الخلق، فإنها وإن كان المقصود الأعظم منها نيل رضى الله، وقربه، وثوابه، والإحسان إلى عبيده، فإن فيها صحة للأبدان، وتمريناً لها، ورياضة، وراحة للنفس، وفرحاً للقلب، وأسراراً خاصة تحفظ الصحة، وتنميها، وتزيل عنها المؤذيات، وبالجملة فإن جميع الشرائع ترجع إلى صلاح القلوب، والأرواح، والأخلاق، والأبدان، والأموال، والدنيا والآخرة، والله أعلم.
القاعدة الحادية والأربعون:
يرشد الله عباده في كتابه من جهة العمل: إلى قَصْرِ نظرهم إلى الحالة الحاضرة التي هم فيها، ومن جهة الترغيب فيه والترهيب من ضده:
إلى ما يترتب عليها من المصالح، ومن جهة النعم: إلى النظر إلى ضدها.
وهذه القاعدة الجليلة دلَّ عليها القرآن في آيات عديدة، وهي من أعظم ما يدل على حكمة الله، ومن أعظم ما يرقي العاملين إلى خير ديني ودنيوي، فإن العامل إذا كان مشتغلاً بعمله الذي هو وظيفة وقته فإنْ قصر فكره وظاهره وباطنه عليه نجح وتمَّ بحسب حاله، وإنْ نظر وتشوقت نفسه إلى أعمال أخرى لم يحن وقتها بعد فترت عزيمته، وانحلَّت همَّته، وصار نظره إلى الأعمال الأخرى ينقص من إتقان عمله الحاضر وجمع الهمَّة عليه، ثم إذا جاءت وظيفة العمل الآخر جاءه وقد ضعفت همَّته، وقلَّ نشاطه، وربما كان الثاني متوقفاً على الأول في حصوله أو تكميله، فيفوت الأول والثاني، بخلاف من جمع قلبه وقالبه، وصار أكبر همه القيام بعمله الذي هو وظيفة وقته، فإنه إذا جاء العمل الثاني فإذا هو قد استعدَّ له بقوة ونشاط، وتلقاه بشوق، وصار قيامه بالأول معونة على قيامه بالثاني، ومن هذا قوله تعالى مصرِّحاً بهذا المعنى: {{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً }} [النساء: 77] . فانظر كيف حالهم الأولى وأمنيتهم وهم مأمورون بكف الأيدي، فلما جاء العمل الثاني ضعفوا كل الضعف عنه، ونظير هذا ما عاتب الله به أهل أُحد في قوله: {{وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ *}} [آل عمران: 143] وقد كشف هذا المعنى كل الكشف قوله تعالى: {{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا *}} [النساء: 66] لأن فيه تكميلاً للعمل الأول، وتثبياً من الله، وتمرُّناً على العمل الثاني، ونظيره قوله تعالى: {{ومِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ *فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ *}{فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ}} الآية [التوبة: 75 ـ 77] . فالله أرشد العباد أن يكونوا أبناء وقتهم، وأن يقوموا بالعمل الحاضر، ووظيفته، ثم إذا جاء العمل الآخر صار وظيفة ذلك الوقت، واجتمعت تلك الهمَّة والعزيمة عليه، وصار القيام بالعمل الأول مُعيناً على الثاني، وهذا المعنى في القرآن كثير.
وأما الأمور المتأخرة فإن الله يرشد العاملين إلى ملاحظتها لتقوى هممهم على العمل المثمر للمصالح والخيرات، وهذا كالترغيب المتنوع من الله على أعمال الخير، والترهيب من أفعال الشر بذكر عقوباتها وثمراتها الذميمة، فاعرف الفرق بين النظر إلى العمل الآخر الذي لم يجئ وقته، وبين النظر إلى ثواب العمل الحاضر الذي كلما فترت همَّة صاحبه وتأمل ما يترتب عليه من الخيرات استجد نشاطه، وقوي عليه، وهانت عليه مشقته، كما قال تعالى: {{إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ}} [النساء: 104] .
وأما إرشاده من جهة النعم التي على العبد من الله بالنظر إلى ضدها ليعرف قدرها، ويزداد شكره لله، ففي القرآن منه كثير، يذكِّر عباده نعمته عليهم بالدين والإسلام، وما ترتب على ذلك من النعم، كقوله: {{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً}} [آل عمران: 164] إلى قوله: {{وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ}} [آل عمران: 164] {{وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}} [آل عمران: 103] أي: إلى الزيادة لشكر نعم الله، وقوله: {{وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ *}} [الأنفال: 26] وقوله: {{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}} إلى آخر الآيات، [القصص: 71] حيث يذكرهم أن ينظروا إلى ضد ما هم فيه من النعم والخير ليعرفوا قدر ما هم فيه، وهذا الذي أرشد إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث قال: «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم» ([46])، وقوله تعالى: {{آلاَءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}} [الأعراف: 69] وقوله: {{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى *وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَى *وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى *}} إلى آخرها [الضحى: 6 ـ 8] .
القاعدة الثانية والأربعون: في أن الله قد ميَّز في كتابه بين حقه الخاص وحق رسوله الخاص، والحق المشترك.
الحقوق ثلاثة: حق لله وحده لا يكون لغيره، وهو عبادته وحده لا شريك له بجميع أنواع العبادات. وحق لرسوله صلّى الله عليه وسلّم خاص، وهو التعزير، والتوقير، والقيام بحقه اللائق، والاقتداء به. وحق مشترك، وهو الإيمان بالله ورسوله، وطاعة الله ورسوله، ومحبة الله ورسوله، وقد ذكر الله الحقوق الثلاثة في آيات كثيرة من القرآن؛ فأما حقه : فكل آية فيها الأمر بعبادته، وإخلاص العمل له، والترغيب في ذلك، وهذا شيء لا يحصى، وقد جمع الله ذلك في قوله: {{لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}} [الفتح: 9] فهذا مشترك {{وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ}} [الفتح: 9] فهذا خاص بالرسول {{وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}} [الفتح: 9] فهذا حق لله وحده. وقوله: {{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}} في آيات كثيرة. [النساء: 59، المائدة: 92، النور: 54، محمد: 33، التغابن: 12] وكذلك: {{آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}} [النساء: 136] وكذلك قوله: {{وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ}} [التوبة: 62] وقال تعالى: {{سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ}} [التوبة: 59] فهذا مشترك {} [التوبة: 59] هذا مختص بالله تعالى.
ولكن ينبغي أن يعرف العبد أن الحق المشترك ليس معناه أن ما لله منه يثبت نظيره من كل وجه لرسوله، بل المحبة والإيمان بالله، والطاعة لله، لا بد أن يصحبها التعبد، والتعظيم لله، والخضوع، وأما المتعلِّق بالرسول من ذلك فإنه حب في الله، وطاعة لأجل أن من أطاع الرسول فقد أطاع الله، بل حق الرسول على أمته من حق الله تعالى، فيقوم المؤمن به امتثالاً لأمر الله، وعبودية له، وقياماً بحق رسوله، وطاعة له، وإنما قيل له: «حق الرسول» لتعلُّقه بالرسول، وإلا فجميع ما أمر الله به وحثَّ عليه من القيام بحقوق رسوله، وحقوق الوالدين، والأقارب، وغيرهم، كله حق لله تعالى، فيقوم به العبد امتثالاً لأمر الله، وتعبداً له، وقياماً بحق ذي الحق، وإحساناً إليه، إلا الرسول، فإن الإِحسان منه كله إلى أمته، فما وصل إليهم خير إلا على يديه صلّى الله عليه وسلّم تسليماً.
القاعدة الثالثة والأربعون:
يأمر الله بالتثبت وعدم العجلة في الأمور التي يُخشى من عواقبها،
ويأمر ويحث على المبادرة على أمور الخير التي يُخشى فواتها.
وهذه القاعدة في القرآن كثير، قال تعالى في القسم الأول: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا}} [النساء: 94] وفي قراءة: {فتثبتوا}. وقال تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ}} [الحجرات: 6] وقد عاتب الله المتسرِّعين إلى إذاعة الأخبار التي يُخشى من إذاعتها فقال تعالى: {{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ
الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}} الآية [النساء: 83] . وقال تعالى: {{بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ}} [يونس: 39] .
ومن هذا الباب: الأمر بالمشاورة في الأمور، وأخذ الحذر، وألا يقول الإنسان ما لا يعلم، وفي هذا آيات كثيرة.
وأما القسم الثاني: فقوله: {{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ}} الآيات [آل عمران: 133] ، {{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}} [البقرة: 148] {{أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ *}} [المؤمنون: 61] {{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ *}} [الواقعة: 10] أي: السابقون في الدنيا إلى الخيرات هم السابقون في الآخرة إلى الجنات والكرامات، والآيات كثيرة في هذا المعنى.
وهذا الذي أرشد الله عباده إليه هو الكمال، أن يكونوا حازمين، لا يفوتون فرص الخيرات، وأن يكونوا متثبِّتين خشية وقوع المكروهات والمضرَّات {{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}} [المائدة: 50].
القاعدة الرابعة والأربعون:
عند ميلان النفس أو خوف ميلانها إلى ما لا ينبغي
يُذكِّرها الله ما يفوتها من الخير وما يحصل لها من الضرر.
وهذا في القرآن كثير، وهو من أنفع الأشياء في حصول الاستقامة؛ لأن الأمر والنهي المجرد لا يكفي أكثر الخلق في كفهم عما لا ينبغي حتى يُقرن بذلك ما يفوت من المحبوبات التي تزيد أضعافاً مضاعفة على المحبوب الذي يكرهه الله، وتميل إليه النفس، وما يحصل من المكروه المرتب عليه، كذلك قال تعالى: {{ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ }} [ الأنفال: 28] فهنا لما ذكر فتنة الأموال والأولاد التي مالت بأكثر الخلق عن الاستقامة قال مذكِّراً لهم ما يفوتهم إن افتتنوا، وما يحصل لهم إن سلموا من الفتنة: {{وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}} [الأنفال: 28] . وقال تعالى: {{هَاأَنْتُمْ هَؤُلاَءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً *}} [النساء: 109] وقال تعالى: {{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ *}} [الشورى: 20] وقال تعالى: {{أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ *ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ *مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ *}} [الشعراء: 205 ـ 207] والآيات في هذا المعنى الجليل كثيرة جداً، فإذا بان للناظر أصلها وقاعدتها سهل عليه تنزيل كل ما يرد منها على الأصل المتقرر، والله أعلم.
القاعة الخامسة والأربعون:
حث الباري في كتابه على الصلاح والإصلاح.
هذه القاعدة من أعمِّ القواعد، فإن القرآن يكاد أن يكون كله داخلاً تحتها، فإن الله أمر بالصلاح في آيات متعددة والإصلاح، وأثنى على الصالحين والمصلحين في آيات أُخر.
والصلاح: أن تكون الأمور كلها مستقيمة معتدلة، مقصوداً بها غاياتها الحميدة، فأمر الله بالأعمال الصالحة، وأثنى على الصالحين؛ لأن أعمال الخير تُصلح القلوب والإيمان، وتصلح الدين والدنيا والآخرة، وضدها فساد هذه الأشياء. وكذلك في آيات متعددة فيها الثناء على المصلحينَ ما أفسد الناس، والمصلحين بين الناس، والتصالح فيما بين المتنازعين، وأخبر على وجه العموم أن الصلح خير، فإصلاح الأمور الفاسدة: السعي في إزالة ما تحتوي عليه من الشرور والضرر العام والخاص.
ومن أهم أنواع الإصلاح: السعي في إصلاح أحوال المسلمين، في إصلاح دينهم ودنياهم، كما قال شعيب: {{إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ}} [هود: 88] فكل ساع في مصلحة دينية أو دنيوية للمسلمين فإنه مصلح، والله يهديه، ويرشده، ويسدِّده، وكل ساع بضد ذلك فهو مفسد، والله لا يصلح عمل المفسدين.
ومن أهم ما يكون أيضاً: السعي في الصلح بين المتنازعين، كما أمر الله بذلك في الدماء، والأموال، والحقوق بين الزوجين، والواجب أن يصلح بالعدل، ويسلك كل طريق توصل إلى الملاءمة بين المتنازعين، فإن آثار الصلح بركة وخير وصلاح، حتى إن الله تعالى أمر المسلمين إذا جنح الكفار الحربيون إلى المسالمة والمصالحة أن يوافقوهم على ذلك متوكِّلين على الله.
وأمثلة هذه القاعدة لا تنحصر، وحقيقتها: السعي في الكمال الممكن حسب القدرة بتحصيل المصالح أو تكميلها، أو إزالة المفاسد والمضار أو تقليلها، الكلية والجزئية، المتعدية والقاصرة، والله أعلم.
القاعدة السادسة والأربعون:
ما أمر الله به في كتابه: إما أن يوجَّه إلى من لم يدخل فيه،
فهذا أمر له بالدخول فيه، وإما أن يوجَّه لمن دخل فيه،
فهذا أمره به ليصحح ما وُجد منه، ويسعى في تكميل ما لم يوجد منه.
وهذه القاعدة مطردة في جميع الأوامر القرآنية، أصولها وفروعها، فقوله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أوتوا الكتاب آمِنُوا بما نزلنا } [النساء: 47] من القسم الأول، وقوله تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا}} [النساء: 136] من الثاني والثالث، فإنه أمرهم بما يصحِّح ويكمل إيمانهم من الأعمال الظاهرة، والباطنة، وكمال الإخلاص فيها، والنهي عما يفسدها وينقصها، وكذلك أمره للمؤمنين أن يقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويصوموا رمضان، أمر بتكميل ذلك، والقيام بكل شرط ومكمل لذلك العمل، والنهي عن ([47]) كل مفسد ومنقص لذلك العمل، وكذلك أمره لهم بالتوكل والإنابة ونحوها من أعمال القلوب هو أمر بتحقيق ذلك، وإيجاد ما لم يوجد منه.
وبهذه القاعدة نفهم جواب الإيراد الذي يورد على طلب المؤمنين من ربهم الهداية إلى الصراط المستقيم، والله قد هداهم للإسلام، جوابه ما تضمَّنته هذه القاعدة، ولا يقال: هذا تحصيل للحاصل!! فافهم هذا الأصل الجليل النافع الذي يفتح لك من أبواب العلم كنوزاً، وهو في غاية اليسر والوضوح.
القاعدة السابعة والأربعون:
إذا كان سياق الآيات في أمور خاصة وأراد الله أن يحكم عليها،
وذلك الحكم لا يختص بها بل يشملها ويشمل غيرها، جاء الله
بالحكم العام
وهذه القاعدة من أسرار القرآن وبدائعه، وأكبر دليل على إحكامه وانتظامه العجيب، وأمثلة هذه القاعدة كثيرة منها: لما ذكر الله المنافقين وذمهم واستثنى منهم التائبين فقال: {{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ}} [النساء:146] فلما أراد الله أن يحكم لهم بالأجر لم يقل: وسوف يؤتيهم أجراً عظيماً، بل قال: {{وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}} [النساء: 146] ليشملهم وغيرهم من كل مؤمن؛ ولئلا يُظن اختصاص الحكم بهم.
ولما قال: {{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ
وَرُسُلِهِ}} [النساء: 150] إلى قوله: {{أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِيناً *}} [النساء: 151] لم يقل: «وأعتدنا لهم» للحكمة التي ذكرناها. ومثله: {{قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا}} [الأنعام: 64] أي: هذه الحالة التي وقع السياق لأجلها {{وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ}} [الأنعام: 64] .
القاعدة الثامنة والأربعون:
متى علَّق الله علمه بالأمور بعد وجودها
كان المراد بذلك العلم الذي يترتب عليه الجزاء.
وذلك أنه تقرَّر في الكتاب والسنة والإجماع أن الله بكل شيء عليم، وأن علمه محيط بالعالم العلوي والسفلي، والظواهر والبواطن، والجليَّات والخفيَّات، والماضي والمستقبل، وقد علم ما العباد عاملون قبل أن يعملوا الأعمال، وقد ورد عدة آيات يخبر بها أنه شرع كذا، أو قدَّر كذا؛ ليعلم كذا. فوجه هذا: أن هذا العلم الذي يترتب عليه الجزاء، وأما علمه بأعمال العباد، وما هم عاملون قبل أن يعملوا، فذلك علم لا يترتب عليه الجزاء؛ لأنه إنما يُجازى على ما وُجد من الأعمال. وعلى هذا الأصل نَزِّل ما يَرِدُ عليك من الآيات، كقوله: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ}} [المائدة: 94] وقوله: {{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ}} [البقرة: 143] وقوله تعالى: {{وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ}} [الحديد: 25] {{وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ *}} [العنكبوت: 11] وقوله: {{لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا}} [الكهف: 12] وما أشبه هذه الآيات كلها على هذا الأصل.
القاعدة التاسعة والأربعون:
إذا منع الله عباده المؤمنين شيئاً تتعلق به إرادتهم
فتح لهم باباً أنفع لهم منه وأسهل وأولى.
وهذا من لطفه، قال تعالى: {{وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ}} [النساء: 32] فنهاهم عن التمني الذي ليس بنافع، وفتح لهم أبواب الفضل والإحسان، وأمرهم أن يسألوه بلسان المقال وبلسان الحال، ولما سأل موسى عليه السلام رؤية ربِّه حين سمع كلامه ومنعه الله منها سلاَّه بما أعطاه من الخير العظيم، قال: {{يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}} [الأعراف: 144] وقوله تعالى: {{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}} [البقرة: 106] وقوله: {{وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ}} [النساء: 130] وفي هذا المعنى آيات كثيرة.
القاعدة الخمسون:
آيات الرسول هي التي يبديها الباري ويبتديها، وأما ما أبداه المكذبون له واقترحوه فليست آيات، وإنما هي تعنُّتات وتعجيزات.
وبهذا يُعرف الفرق بينها وبين الآيات، وهي البراهين والأدلة على صدق الرسول وغيره من الرسل، وعلى صدق كل خبر أخبر الله به، وأنها الأدلة والبراهين التي يلزم من فهمها على وجهها صدق ما دلت عليه ويقينه.
وبهذا المعنى ما أرسل الله من رسول إلا أعطاه من الآيات ما على مثله آمن البشر، وأما ما آتى الله محمداً صلّى الله عليه وسلّم من الآيات فهي لا تُحد ولا تُعد من كثرتها، وقوتها، ووضوحها، ولله الحمد، فلم يبق لأحد من الناس بعدها عذر، فعلم بذلك أن اقتراح المكذبين لآيات يعيِّنونها ليست من هذا القبيل، وإنما مقصودهم بهذا أنهم وطَّنوا أنفسهم على دينهم الباطل، وعدم اتباع النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلما دعاهم إلى الإيمان، وأراهم شواهد الآيات، أرادوا أن يبرِّروا ما هم عليه عند الأغمار والسفهاء بقولهم: ائتنا بالآية الفلانية، والآية الفلانية، إن كنت ([48]) صادقاً، وإن لم تأت بذلك فلا نصدقك!! فهذه طريقة لا يرتضيها أدنى منصف؛ ولهذا يخبر تعالى أنه لو أجابهم إلى ما طلبوا لم يؤمنوا؛ لأنهم وطنوا أنفسهم على الرضى بدينهم، وعرفوا الحق ورفضوه، وأيضاً فهذا من جهلهم في الحال والمآل، أما الحال: فإن هذه الآيات التي تُقترح وتُعيَّن جرت العادة أن المقترحين لها لم يكن قصدهم الحق، فإذا جاءت ولم يؤمنوا عُوجلوا بالعقوبة الحاضرة.
وأما المآل: فإنهم جزموا جزماً لا تردد فيه أنها إذا جاءت آمنوا وصدقوا، وهذا قلب للحقائق، وإخبار بغير الذي في قلوبهم، فلو جاءتهم لم يؤمنوا إلا أن يشاء الله تعالى.
وهذا النوع ذكره الله في كتابه عن المكذبين في آيات كثيرة جداً، كقولهم: {{لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا}} الآيات [الإسراء: 90] وقوله: {{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً}} [الأنعام: 111] إلى آخرها.
وأيضاً إذا تدبَّرت الاقتراحات التي عيَّنوها لم تجدها في الحقيقة من جنس البراهين، وإنما هي لو فُرض الإتيان تكون شبيهة بآيات الاضطرار التي لا ينفع الإيمان معها، ويصير شهادة، وإنما الإيمان النافع هو الإيمان بالغيب، فكما أنه المنفرد بالحكم بين العباد في أديانهم وحقوقهم، وأنه لا حكم إلا حكمه، وأن من قال: «ينبغي أو يجب أن يكون الحكم كذا وكذا» فهو متجرئ على الله، متوثب على حرمات الله وأحكامه، فكذلك براهين
أحكامه لا يتولاَّها إلا هو، فمن اقترح شيئاً من عنده فقد ادّعى مشاركة الله في حكمه ومنازعته في الطرق التي يهدي ويرشد بها عباده: {{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ}} [الأنعام: 93] .
القاعدة الحادية والخمسون:
كل ما ورد في القرآن الأمر بالدعاء، والنهي عن دعاء غير الله،
والثناء على الداعين، تناول دعاء المسألة ودعاء العبادة.
وهذه قاعدة نافعة، فإن أكثر الناس إنما يتبادر لهم من لفظ الدعاء والدعوة دعاء المسألة فقط، ولا يظنون دخول جميع العبادات في الدعاء، ويدل على عموم ذلك قوله تعالى: {{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}} [غافر: 60] أي: أستجب طلبكم، وأتقبَّل عملكم، ثم قال تعالى: {{إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}} [غافر: 60] فسمَّى ذلك عبادة؛ وذلك لأن الداعي دعاء المسألة يطلب مسؤوله بلسان المقال، والعابد يطلب من ربه القَبول، والثواب، ومغفرة ذنوبه، بلسان الحال، فلو سألته ما قَصْدك بصلاتك، وصيامك، وحجك، وقيامك بحق الله، وحق الخلق؟ لكان قلب المؤمن ناطقاً: بأن قصدي من ذلك رضى ربي، ونيل ثوابه، والسلامة من عقابه؛ ولهذا كانت هذه النية شرطاً لصحة الأعمال وكمالها. وقال تعالى: {{فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}} [غافر: 14] أي: أخلصوا له إذا طلبتم حوائجكم، وأخلصوا له أعمال البر والطاعة.
وقد يُقيد أحياناً بدعاء الطلب، كقوله: {{فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ *}} [القمر: 10] وأما قوله: {{وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا}} [يونس: 12] فيدخل فيه دعاء الطلب؛ فإنه لا يزال ملحاً بلسانه، سائلاً دفع ضرورته، ويدخل فيه دعاء العبادة؛ فإن قلبه في هذه الحال راجياً ([49]) طامعاً ([50])، منقطعاً ([51]) عن غير الله، عالماً ([52]) أنه لا يكشف السوء إلا الله، وهذا دعاء عبادة.
وقال تعالى: {{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}} [الأعراف: 55] يدخل فيه الأمران؛ فكما أن من كمال دعاء الطلب كثرة التضرع، والإلحاح، وإظهار الفقر، والمسكنة، وإخفاؤه ذلك، وإخلاصه، فكذلك دعاء العبادة، لا تتم العبادة وتكمل إلا بالمداومة عليها، ومقارنته الخشوع والخضوع، وإخفائها، وإخلاصها لله تعالى.
وكذلك قوله عن خلاصة الرسل: {{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا}} [الأنبياء: 90] فإن الرغبة والرهبة وصْفٌ لهم إذا طلبوا وسألوا، وَوَصْفٌ لهم إذا تعبَّدوا وتقرَّبوا بأعمال الخير والقُرَب.
وقوله: {{وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ}} [القصص: 88] {{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ}} [المؤمنون: 117] وقوله: {{فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}} [الجن: 18] يشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة، فكما أن من طلب من غير الله حاجة لا يقدر عليها إلا الله فهو مشرك كافر، فكذلك من عبد مع الله غيره فهو مشرك كافر. ومثله: {{وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ *}} [يونس: 106] كل هذا يدخل فيه الأمران.
وقوله تعالى: {{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}} [الأعراف: 180] يشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة، أما دعاء المسألة: فإنه يسأل الله تعالى في كل مطلوب باسم يناسب ذلك المطلوب ويقتضيه، فمن سأل رحمة الله ومغفرته دعاه باسم الرحيم الغفور، وحصول الرزق باسم الرزاق، وهكذا.
وأما دعاء العبادة: فهو التعبد لله تعالى بأسمائه الحسنى، فَيَفْهم أولاً معنى ذلك الاسم الكريم، ثم يديم استحضاره بقلبه، ويمتلئ قلبه منه، فالأسماء الدالة على العظمة، والجلال، والكبرياء، تملأ القلب تعظيماً وإجلالاً لله تعالى، والأسماء الدالة على الرحمة، والفضل، والإحسان، تملأ القلب طمعاً في فضل الله، ورجاءً لرَوْحِهِ ورحمته، والأسماء الدالة على الوِدَادَ، والحب، والكمال، تملأ القلب محبة، ووِدَاداً، وتألهاً، وإنابة لله تعالى، والأسماء الدالة على سعة علمه، ولطيف خبره، توجب للعبد مراقبة الله تعالى والحياء منه.
وهذه الأحوال التي تتصف بها القلوب هي أكمل الأحوال، وأجل وصف يتصف به القلب وينصبغ به، ولا يزال العبد يمرِّن نفسه عليها حتى تنجذب دواعيه منقادة راغبة، وبهذه الأعمال القلبية تكمل الأعمال البدنية، فنسأل الله تعالى أن يملأ قلوبنا من معرفته، ومحبته، والإِنابة إليه، فإنه أكرم الأكرمين، وأجود الأجودين.
القاعدة الثانية والخمسون:
إذا وضح الحق وبان، لم يبق للمعارضة العلمية والعملية محل.
وهذه قاعدة شرعية عقلية فطرية، قد وردت في القرآن، وأرشد إليها في مواضع كثيرة؛ وذلك أنه من المعلوم أن محل المعارضات، وموضع الاستشكالات، وموضع التوقفات، ووقت المشاورات، إذا كان الشيء فيه اشتباه أو احتمالات فترد عليه هذه الأمور؛ لأنها الطريق إلى البيان والتوضيح، فأما إذا كان الشيء لا يحتمل إلا معنى واضحاً، وقد تعيَّنت المصلحة، فالمجادلة والمعارضة من باب العبث، والمعارِض هنا لا يُلتفت لاعتراضاته؛ لأنه يشبه المكابر المنكر للمحسوسات، قال تعالى: {{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}} [البقرة: 256] يعني: وإذا تبين هذا من هذا لم يبق للإكراه محل؛ لأن الإكراه إنما يكون على أمر فيه مصلحة خفية، فأما أمر قد اتضح أن مصالح الدارين مربوطة به، ومتعلِّقة به، فأي داع للإكراه، وأي موجب له؟
ونظير هذا قوله تعالى: {{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}} [الكهف: 29] أي: هذا الحق الذي قامت البراهين الواضحة على حقيَّته، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، كقوله: {{لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ}} [الأنفال: 42] وقال تعالى: {{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}} [آل عمران: 159] أي: في الأمور التي تحتاج إلى مشاورة ويُطلب فيها وجه المصلحة، فأما أمر قد تعينت مصلحته، وظهر وجوبه، فقال فيه: {{فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}} [آل عمران: 159] .
وقد كشف الله هذا المعنى غاية الكشف في قوله: {{يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ}} [الأنفال: 6] أي: فكل من جادل في الحق بعدما تبين علمه أو طريق عمله فإنه غالط شرعاً وعقلاً. وقال تعالى: {{وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ}} [الأنعام: 119] فلامهم على عدم التزام الأكل مما ذُكر اسم الله عليه، وذكر السبب لهذا اللوم، وهو أنه تعالى فَصَّل لعباده كل ما حرم عليهم، فما لم يذكر تحريمه فإنه حلال واضح ليس للتوقف عنه محل.
ولما ذكر تعالى الآيات الدالة على وجوب الإيمان وبَّخ ولام المتوقفين عنه بعد البيان فقال: {{فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ *وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ *}} [الانشقاق: 20 ـ 22] ولما بين جلالة القرآن، وأنه أعلى الكلام وأصدقه وأنفعه قال تعالى: {{فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ}} [الجاثية: 6] ولما ذكر عظيم نعمه الظاهرة والباطنة قال تعالى: {{فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى *}} [النجم: 55] {{فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *}} [الرحمن: 13] وقال تعالى: {{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ}} [يونس: 32] وكذلك في آيات كثيرة يأمر بمجادلة المكذبين، ويجادلهم بالتي هي أحسن، حتى إذا وصل معهم إلى حالة وضوح الحق التام، وإزالة الشبه كلها، انتقل من مجادلتهم إلى الوعيد لهم بعقوبات الدنيا والآخرة، والآيات في هذا المعنى الجليل كثيرة جداً.
القاعدة الثالثة والخمسون:
من قواعد القرآن: أنه يبيِّن أن الأجر والثواب على قدر المشقة
في طريق العبادة، ويبيِّن مع ذلك أن تسهيله لطريق العبادة من مننه وإحسانه، وأنها لا تنقص الأجر شيئاً.
وهذه القاعدة تبيِّن من لطف الله، وإحسانه بالعباد، وحكمته الواسعة، ما هو أثرٌ عظيم من آثار تعريفاته، ونفحة عظيمة من نفحاته، وأنه أرحم الراحمين، قال تعالى: {{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ *}} [البقرة: 216] فبين تعالى أن هذه العبادة العظيمة لعظم مصلحتها، وكثرة فوائدها العامة والخاصة، أنه فرضها على العباد وإنْ شقَّت عليهم، وكرهتها نفوسهم، لما فيها من التعرض للأخطار، وتلف النفوس والأموال، ولكن هذه المشقات بالنسبة إلى ما تفضي إليه من الكرامات ليست بشيء، بل هي خير محض، وإحسان صِرف من الله على عباده حيث قيَّض لهم هذه العبادات التي توصلهم إلى منازل لولاها لم يكونوا واصليها. وقال تعالى: {{إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ}} [النساء: 104] وقال تعالى: {{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ}} إلى قوله ([53]): {{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}{الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ *}} الآية [البقرة: 155، 156] وقال تعالى: {{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}} [الزمر: 10] فكلَّما عظمت مشقة الصبر في فعل الطاعات، وفي ترك المحرمات ـ لقوة الداعي إليها ـ وفي الصبر على المصيبات، كان الأجر أعظم، والثواب أكثر.
وقال تعالى في بيان لطفه في تسهيل العبادة الشاقة: {{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ *}{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ}} [الأنفال: 11، 12] فذكر منَّته على المؤمنين بتيسيره وتقديره لهذه الأمور التي جعلها الله تعالى مسهِّلة للعبادة، مزيلة لمشقتها، محصِّلة لثمراتها. وقال تعالى: {{أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ *الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ *}{لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ}} [يونس: 62 ـ 64] فالبشرى التي وعد الله بها أولياءه في الحياة الدنيا من أشرفها وأجلِّها أنه ييسر لهم العبادات، ويهوِّن عليهم مشقة القُرُبات، وأنه ييسرهم للخير، ويعصمهم من الشر بأيسر عمل. وقال تعالى: {{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى *وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى *فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى *}} [الليل: 5 ـ 7] أي: لكل حالة فيها تيسير أموره وتسهيلها. وقال تعالى: {{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}} [النحل: 97] ومن الحياة الطيبة التي يرزقونها: ذوق حلاوة الطاعات، واستحلاء المشقات في رضى الله تعالى، فهذه الأحوال كلها خير للمؤمن، إن سهل الله له طريق العبادة وهوَّنها حمد الله وشكره، وإن شقت على النفوس صبر واحتسب الخير في عنائه ومشقته، ورجا عظيم الثواب، وهذا المعنى في القرآن في آيات متعددة، والله أعلم.
القاعدة الرابعة والخمسون:
كثيراً ما ينفي الله الشيء لانتفاء فائدته وثمرته المقصودة منه،
وإن كانت صورته موجودة.
وذلك أن الله خلق الإنسان وركَّب فيه القوى من السمع، والبصر، والفؤاد، وغيرها؛ ليعرف ربه، ويقوم بحقه، فهذا المقصود منها، وبوجود ما خُلقت له تكمل، ويكمل صاحبها، وبفقد ذلك يكون وجودها أضر على الإنسان من فقدها، فإنها حجة الله على عباده، ونعمته التي توجَد بها مصالح الدين والدنيا، فإما أن تكون نعمة تامة إذا اقترن بها مقصودها، أو تكون محنة وحجة على صاحبها إذا استعملها في غير ما خُلقت له؛ ولهذا كثيراً ما ينفي الله تعالى هذه الأمور الثلاثة من أصناف الكفار والمنافقين، كقوله: {{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}} [البقرة: 171] {{وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}} [المائدة: 103] {{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}} [الأنعام: 37] وقال تعالى: {{لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا}} [الأعراف: 179] فأخبر أن صورها موجودة، ولكن فوائدها مفقودة، وقال تعالى: {{فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}} [الحج: 46] وقال تعالى: {{إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ *}} [النمل] والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً، وقال تعالى: {{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً *}{أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا}} [النساء: 150، 151] فأثبت لهم الكفر من كل وجه، فلم يكن دعواهم الإيمان ببعض من يقولون آمنا به من الكتب والرسل بموجب لهم الدخول بالإيمان؛ لأن إيمانهم بهم مفقودة فائدته حيث كذبوهم في رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم وغيره من الرسل الذين لم يؤمنوا بهم، وحيث [إنهم] ([54]) أنكروا من براهين الإيمان [ما هو] ([55]) أعظم من الطريق الذي أثبتوا به رسالة من ادعوا الإيمان به، وكذلك قوله تعالى: {{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ *}} [البقرة: 8] لمّا كان الإيمان النافع هو الذي يتفق عليه القلب واللسان، وهو المثمر لكل خير، وكان المنافقون يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، نفى عنهم الإيمان لانتفاء فائدته وثمرته، ويشبه هذا ترتيب الباري كثيراً من الواجبات والفروض على الإيمان، كقوله: {{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}} [آل عمران: 122] {{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}} [المائدة: 23] وقال تعالى: {{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}} [الأنفال: 41] إلى قوله: {{إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ}} [الأنفال: 41] وقوله: {{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ *الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ *} {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}} [الأنفال: 2 ـ 4] وذلك أن الإيمان الواجب يقتضي أداء الفرائض والواجبات، ويقتضي اجتناب المحرمات، فما لم يحصل ذلك فهو إلى الآن لم يتم ولم يتحقق، فإذا وُجدت هذه الأمور تحقق؛ ولهذا قال: {{أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}}.
وكذلك لما كان العلم الشرعي يقتضي العمل به، والانقياد لكتب الله ورسله، قال تعالى عن أهل الكتاب المنحرفين: {{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ *}} [البقرة: 101] ونظير ذلك قول موسى عليه السلام لما قال له بنو إسرائيل: {{أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}} [البقرة: 67] فكما أن فقد العلم جهل، ففقد العمل به جهل قبيح.
القاعدة الخامسة والخمسون:
يُكتب للعبد عمله الذي باشره، ويُكمل له ما شرع فيه
وعجز عن تكميله، ويُكتب له ما نشأ عن عمله.
فهذه الأمور الثلاثة وردت في القرآن:
أما الأعمال التي باشرها العبد فأكثر من أن تحصى النصوص الدالة
عليها، كقوله: {{بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}} [المائدة: 105] {{لَهَا مَا كَسَبَتْ}} [البقرة: 286] {{لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ}} [يونس: 41] ونحو ذلك.
وأما الأعمال التي شرع العبد فيها ولمَّا يكملها فقد دلَّ عليها قوله تعالى: {{وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}} [النساء: 100] فهذا خرج للهجرة وأدركه الأجل قبل تكميل عمله، فأخبر تعالى أنه وقع أجره على الله، فكل من شرع في عمل من أعمال الخير ثم عجز عن إتمامه بموت، أو عجز بدني، أو عجز مالي، أو مانع داخلي، أو خارجي، وكان من نيته لولا المانع لأتمَّه فقد وقع أجره على الله، فإنما الأعمال بالنيات، وقال تعالى: {{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}} [العنكبوت: 69] فكل من اجتهد في الخير هداه الله الطريق الموصلة إليه، سواء أكمل ذلك العمل أو حصل له عائق عنه.
وأما آثار أعمال العبد فقد قال تعالى: {{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا}} أي: باشروا عمله {{وَآثَارَهُمْ}} [يس: 12] التي ترتبت على أعمالهم من خير وشر. وقال في المجاهدين: {{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}} [التوبة: 120] فكل هذه الأمور من آثار عملهم، ثم ذكر أعمالهم التي باشروها بقوله: {{وَلاَ يُنْفِقُونَ نَفَقَةً}} إلى آخر الآية [التوبة: 121] .
والأعمال التي هي من آثار عمله نوعان:
أحدهما: أن تقع بغير قصد من الإنسان، كأن يعمل أعمالاً صالحة خيرية فيقتدي به غيره في هذا الخير، فإن ذلك من آثار عمله، وكمن يتزوج بغير نية حصول الأولاد الصالحين، فيعطيه الله أولاداً صالحين، فإنه ينتفع بهم وبدعائهم.
والثاني: ـ وهو أشرف النوعين ـ أن يقع ذلك بقصده، كمن علَّم علماً نافعاً، فنفس تعليمه ومباشرته له من أجلِّ الأعمال، ثم ما حصل من العلم والخير المترتب على ذلك فإنه من آثار عمله، وكمن يفعل الخير ليقتدي به الناس، أو يتزوج لأجل حصول الذرية الصالحين فيحصل مراده، فإن هذا من آثار عمله، وكذلك من يزرع زرعاً، أو يغرس غرساً، أو يباشر صناعة مما ينتفع بها الناس في أمور دينهم ودنياهم، وقد قصد بذلك حصول النفع، فما ترتب من نفع ديني أو دنيوي على هذا العمل فإنه من آثار عمله، وإن كان يأخذ على عمله الأخير أجراً وعوضاً؛ فإن الله يُدخل بالسهم الواحد الجنة ثلاثة: صانعه، وراميه، والمُمِدّ له.
القاعدة السادسة والخمسون:
يرشد القرآن المسلمين إلى قيام جميع مصالحهم، وأنه إذا لم يمكن
حصولها من الجميع فليشتغل بكل مصلحة من مصالحهم من يقوم بها، ويوفر وقته عليها، لتقوم مصالحهم، وتكون وجهتهم جميعاً واحدة
وهذه من القواعد الجليلة، ومن السياسة الشرعية، فإن كثيراً من المصالح العامة الكلية لا يمكن اشتغال الناس كلهم بها، ولا يمكن تفويتها، فالطريق إلى حصولها: ما أرشد الله عباده إليه، قال تعالى في الجهاد ـ الذي هو من أعظم مصالح الدين ـ والعلم: {{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ}} [التوبة: 122] فأمر أن يقوم بالجهاد طائفة كافية، وبالعلم طائفة أخرى، وأن القائمة بالجهاد تستدرك ما فاتها من العلم إذا رجعت، وقال تعالى: {{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}} [آل عمران: 104] وقال تعالى: {{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِّرِّ وَالتَّقْوَى}} [المائدة: 2] وقال تعالى: {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] وقال تعالى: {{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}} [الشورى: 38] إلى غير ذلك من الآيات الدالات على هذا الأصل الجليل، والقاعدة النافعة، وبقيام كل طائفة منهم بمصلحة من المصالح تقوم المصالح كلها؛ لأن كل فرد مأمور أن يراعي المصالح الكلية، ويكون سائراً في جميع أعماله إليها، فلو وفق المسلمون لسلوك هذه الطريق لاستقامت أحوالهم، وصلحت أمورهم، وانجابت عنهم شرور كثيرة، فالله المستعان.
القاعدة السابعة والخمسون:
في كيفية الاستدلال بخلق السموات والأرض
وما فيها على التوحيد والمطالب العالية.
قد دعا الله عباده إلى التفكر في هذه المخلوقات في آيات كثيرة، وأثنى على المتفكرين فيها، وأخبر أن فيها آيات وعبراً، فينبغي لنا أن نسلك الطريق المنتج للمطلوب بأيسر ما يكون، وأوضح ما يكون، وحاصل ذلك على وجه الإجمال أننا إذا تفكرنا في هذا الكون العظيم عرفنا أنه لم يوجد بغير موجد، ولا أوجد نفسه، هذا أمر بديهي، فتيقنَّا أن الذي أوجده الأول الذي ليس قبله شيء، كامل القدرة، عظيم السلطان، واسع العلم، وأن إيجاد الآدميين في النشأة الثانية للجزاء أسهل من هذا بكثير: {{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ}} [غافر: 57] وعرفنا بذلك أنه الحي القيوم، وإذا نظرنا ما فيها من الإحكام، والإتقان، والحسن، والإبداع، عرفنا بذلك كمال حكمة الله، وحسن خلقه، وسعة علمه، وإذا رأينا ما فيها من المنافع والمصالح الضرورية والكمالية التي لا تُعد ولا تُحصى عرفنا بذلك أن الله واسع الرحمة، عظيم الفضل، والبر، والإحسان، والجود، والامتنان، وإذا رأينا ما فيها من التخصيصات فإن ذلك دال على إرادة الله، ونفوذ مشيئته، ونعرف من ذلك كله أن من هذه أوصافه، وهذا شأنه، هو الذي لا يستحق العبادة إلا هو، وأنه المحبوب المحمود، ذو الجلال والإكرام، والأوصاف العظام، الذي لا تنبغي الرغبة والرهبة إلا إليه، ولا يُصرف خالص الدعاء إلا له، لا لغيره من المخلوقات المربوبات المفتقرات إلى الله في جميع شؤونها، ثم إذا نظرنا إليها من جهة أنها كلها خُلقت لمصالحنا، وأنها مسخرة لنا، وأن عناصرها، وموادها، وأرواحها، قد مكَّن الله الآدمي من استخراج أصناف المنافع منها، عرفنا أن هذه الاختراعات الجديدة في الأوقات الأخيرة من جملة المنافع التي خلقها الله لبني آدم فيها، فسلكنا بذلك كل طريق نقدر عليه في استخراج ما يُصلح أحوالنا منها بحسب القدرة، ولم نخلد إلى الكسل والبطالة، أو نضيف علم هذه الأمور واستخراجها إلى علوم باطلة بحجة أن الكفار سبقوا إليها وفاقوا فيها؛ فإنها كلها ـ كما نبَّه الله عليه ـ داخلة في تسخير الله الكون لنا، وأنه يعلِّم الإنسان ما لم يعلم.
القاعدة الثامنة والخمسون:
إذا أراد الله إظهار شرف أنبيائه وأصفيائه بالصفات الكاملة
أراهم نقصها في غيرهم من المستعدين للكمال.
وذلك في أمور كثيرة وردت في القرآن، منها: لما أراد إظهار شرف آدم على الملائكة بالعلم، وعلَّمه أسماء كل شيء، ثم امتحن الملائكة فعجزوا عن معرفتها، فحينئذ نبأهم آدم عنها فخضعوا لعلمه، وعرفوا فضله وشرفه.
ولما أراد الله تعالى إظهار شرف يوسف في سعة العلم والتعبير رأى الملك تلك الرؤيا، وعرضها على كل من لديه علم ومعرفة، فعجزوا عن معرفتها، ثم بعد ذلك عبَّرها يوسف ذلك التعبير العجيب، الذي ظهر به من فضله وشرفه وتعظيم الخلق له شيء لا يمكن التعبير عنه.
ولما عارض فرعون الآيات التي أُرسل بها موسى، وزعم أنه سيأتي
بسحر يغلبه، فجمع كل سحَّار عليم من جميع أنحاء المملكة، واجتمع الناس في يوم عيدهم، وألقى السحرة عصيَّهم وحبالهم، في ذلك المجمع العظيم، وأظهروا للناس من عجائب السحر فـ{{سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}} [الأعراف: 116] فحينئذ ألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف وتبتلع بمرأى الناس جميع حبالهم وعصيهم، فظهرت هذه الآية الكبرى، وصار أهل الصنعة أول من خضع لها ظاهراً وباطناً.
ولما نكص أهل الأرض عن نصرة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وتمالأ عليه جميع أعدائه، ومكروا مكرتهم الكبرى للإيقاع به، نصره الله ذلك النصر العجيب؛ فإن نصر المنفرد الذي أحاط به عدوُّه الشديدُ حَرَدُه، القوي مكره، الذي جمع كل كيده ليوقع به أشد الأخذات، وأعظم النكايات، وتخلصه وانفراج الأمر له من أعظم أنواع النصر، كما ذكر الله هذه الحال التي عاتب بها أهل الأرض فقال: {{إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا}} الآية [التوبة: 40] وقريب من هذا نصره إياه يوم حنين، حيث أعجبت الناس كثرتهم، فلم تغن عنهم شيئاً، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، ثم ولَّوا مدبرين، وثبت صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله عليه سكينته ونصره في هذه الحالة الحرجة، فكان لهذا النصر من الموقع الكبير ما لا يعبَّر عنه.
وكذلك ما ذكره الله من الشدائد التي جرت على أنبيائه وأصفيائه، وأنه إذا اشتد البأس، وكاد أن يستولي على النفوس اليأس، أنزل الله فرجه ونصره ليصير لذلك موقع في القلوب، وليعرف العباد ألطاف علام الغيوب.
ويقارب هذا المعنى: إنزاله الغيث على العباد بعد أن كانوا من قبل أن
ينزل عليهم من قبله مبلسين، فيحصل من آثار رحمة الله، والاستبشار بفضله ما يملأ القلوب حمداً، وشكراً، وثناء على الباري تعالى.
وكذلك يذكرهم نعمه بلفت أنظارهم إلى تأمل ضدها، كقوله: {{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ}} [الأنعام: 46] {{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}} الآيات [القصص: 71] . وتَلْمَح على هذا المعنى قصة يعقوب وبنيه حين اشتدت بهم الأزمة، ودخلوا على يوسف وقالوا: قد {{مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ}} الآية [يوسف: 88] ثم بعد قليل قال: {{ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}} [يوسف: 99] في تلك النعمة الواسعة، والعيش الرغيد، والعز المكين، والجاه العريض، فتبارك من لا يدرك العباد من ألطافه ودقيق بره أقل القليل ([56]).
ويناسب هذا من ألطاف الباري: أن الله يُذكِّر عباده في أثناء المصائب ما يقابلها من النعم لئلا تسترسل النفوس للجزع؛ فإنها إذا قابلت بين المصائب والنعم خفَّت عليها المصائب، وهان عليها حملها، كما ذكَّر الله المؤمنين حين أُصيبوا بأُحد ما أصابوا من المشركين ببدر، فقال: {{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ}} [آل عمران: 165] وأدخل هذه الآية في أثناء قصة أُحد {{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ *}} [آل عمران: 123] ويبشر عبده بالمخرج منها حين تباشره المصائب؛ ليكون هذا الرجاء مُخَفِّفاً لما نزل من البلاء، قال تعالى: {{وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}} [يوسف: 15] وكذلك رؤيا يوسف إذا ذكرها يعقوب رجا الفرج، وهبَّ على قلبه نسيم الرجاء؛ ولهذا قال: {{يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ}}[يوسف:87] وكذلك
قوله تعالى لأم موسى: {{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ *}} [القصص: 7] .
وأعظم من ذلك كله أنَّ وَعْدَ الله لرسله بالنصر، وتمام الأمر، هوَّن عليهم المشقات، وسهَّل عليهم الكريهات، فتلقوها بقلوب مطمئنة، وصدور منشرحة، وألطاف الباري فوق ما يخطر بالبال، أو يدور في الخيال.
القاعدة التاسعة والخمسون:
{إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} [الإسراء: 9] .
ما أعظم هذه القاعدة والأصل العظيم الذي نصَّ الله عليه نصاً صريحاً، وعمَّم ذلك ولم يقيده بحالة من الأحوال، فكل حال هي أقوم في العقائد، والأخلاق، والأعمال، والسياسات الكبار، والصغار، والصناعات، والأعمال الدينية والدنيوية، فإن القرآن يهدي إليها، ويرشد إليها، ويأمر بها، ويحث عليها. ومعنى «أقوم» أي: أكمل، وأصلح، وأعظم قياماً وصلاحاً.
فأما العقائد: فإن عقائد القرآن هي العقائد النافعة التي فيها صلاح القلوب وغذاؤها وكمالها؛ فإنها تملأ القلوب محبة لله، وتعظيماً له، وألوهية، وإنابة. وهذا المعنى هو الذي أوجد الله الخلق لأجله.
وأما أخلاقه التي يدعو إليها: فإنه يدعو إلى التحلِّي بكل خلق جميل من الصبر، والحلم، والعفو، وحسن الخلق، والأدب وجميع مكارم الأخلاق، ويحث عليها بكل طريق، ويرشد إليها بكل وسيلة.
وأما الأعمال الدينية التي يهدي إليها: فهي أحسن الأعمال التي فيها القيام بحقوق الله، وحقوق العباد على أكمل الحالات، وأجلها، وأسهلها، وأوصلها إلى المقاصد.
وأما السياسات الدينية والدنيوية: فهو يرشد إلى سلوك الطرق النافعة في تحصيل المصالح الكلية، وفي دفع المفاسد، ويأمر بالتشاور على ما لم تتضح مصلحته، والعمل بما تقتضيه المصلحة في كل وقت بما يناسب ذلك الوقت والحال، حتى في سياسة العبد مع أولاده، وأهله، وخادمه، وأصحابه، ومعامليه، فلا يمكن أنه وُجد ويُوجد حالة يتفق العقلاء أنها أقوم من غيرها وأصلح إلا والقرآن يرشد إليها نصاً، أو ظاهراً، أو دخولاً تحت قاعدة من قواعده الكلية، وتفصيل هذه القاعدة لا يمكن استيفاؤه.
وبالجملة فالتفاصيل الواردة في القرآن وفي السنة من الأوامر والنواهي والإخبارات كلها تفصيل لهذا الأصل المحيط، وبهذا وغيره يتبين لك أنه لا يمكن أن يرد علم صحيح، أو معنى نافع، أو طريق صلاح ينافي القرآن، والله تعالى ولي الإحسان.
القاعدة الستون:
من قواعد التعليم الذي أرشد الله إليه في كتابه: أن القصص المبسوطة يُجملها في كلمات يسيرة ثم يبسطها، والأمور المهمة يتنقل في تقريرها
نفياً وإثباتاً من درجة إلى أعلى أو أنزل منها.
وهذه قاعدة نافعة؛ فإن هذا الأسلوب العجيب يصير له موقع كبير، وتقرر فيه المطالب المهمة؛ وذلك أنه إذا أُجملت القصة بكلام كالأصل والقاعدة لها، ثم وقع التفصيل بعد ذلك الإجمال، وقع إيضاح وبيان تام كامل لا يقع ما يقاربه لو فصِّلت القصة الطويلة من دون تقدم إجمال، وقد وقع هذا النوع في القرآن في مواضع:
منها: في قصة يوسف في قوله: {{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ}} [يوسف: 3] ثم قال: {{لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ *}} [يوسف: 7] ثم ساق القصة بعدها.
وكذلك في قصة أهل الكهف لما قال: {{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا *إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا *فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا *ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا *}} [الكهف: 9 ـ 12] فهذا إجمالها قد حوى مقصودها وزُبدتها، ثم وقع بعده التفصيل بقوله: {{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ}} [الكهف: 13] إلى آخر القصة.
وكذلك في قصة موسى لما قال تعالى: {{نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ *}} إلى قوله: {{يَحْذَرُونَ}} [القصص: 3 ـ 6] هذا مجملها، ثم وقع التفصيل.
وقال تعالى: {{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا *}} [طه: 115] فأجملها، ثم وقع بعده التفصيل.
وأما التنقل في تقرير الأشياء من أمر إلى ما هو أولى منه فكثير:
منها: لما أنكر على من اتخذ مع الله إلهاً آخر وزعم أن الله تعالى اتخذ ولداً، قال في إبطال هذا: {{مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآِبَائِهِمْ}} [الكهف: 5] فأبان أن قولهم هذا قول بلا علم، ومن المعلوم أن القول بلا علم من الطرق الباطلة، ثم ذكر قبحه فقال: {{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ}} [الكهف 5] ثم ذكر مرتبة هذا القول من البطلان فقال: {{إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا}} [الكهف: 5] .
وقال في حق المنكرين للبعث: {{بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ}} [النمل: 66] أي: علمهم فيها علم ضعيف لا يُعتمد عليه، ثم ذكر ما هو أبلغ منه فقال: {{بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ}}، ومن المعلوم أن الشك ليس معه من العلم شيء، ثم انتقل منه إلى قوله: {{بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ}} [النمل: 66] والعمى آخر مراتب الحيرة والضلال.
وقال نوح عليه السلام في تقرير رسالته عند من كذبه وزعم أنه في ضلال مبين: {{قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ}} [الأعراف: 61] فلما نفى الضلالة من كل وجه أثبت بعده الهدى الكامل من كل وجه، فقال: {{وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}} [الأعراف: 61] ثم انتقل إلى ما هو أعلى من ذلك، وأن مادة هذا الهدى الذي جئتُ به من الوحي الذي هو أصل الهدى، ومنبعه، ومادته، فقال: {{أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ *}} [الأعراف: 62] وكذلك هود عليه السلام.
وقال في تقرير رسالة أكمل الرسل: {{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى *مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى *}} [النجم: 1 ـ 2] فنفى عنه ما ينافي الهدى من كل وجه، ثم قال: {{إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى *}} إلى آخر الآيات [النجم: 4] وهو في القرآن كثير جداً، كانتقاله من ذكر هبته الولد لزكريا إلى مريم، وأمر القبلة بعد تعظميه للبيت، وغيرها.
القاعدة الحادية والستون:
معرفة الأوقات وضبطها حث الله عليه حيث يترتب عليه
حكم عام أو حكم خاص.
وذلك أن الله رتب كثيراً من الأحكام العامة والخاصة على مُدد وأزمنة تتوقف الأحكام عملاً وتنفيذاً على ضبط تلك المدة وإحصائها، قال تعالى: {{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}} [البقرة: 189] وقوله: {{مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ}} يدخل فيه مواقيت الصلوات، والصيام، والزكاة، وخصَّ الحج بالذكر لكثرة ما يترتب عليه من الأوقات الخاصة والعامة، وكذلك مواقيت للعِدَدِ، والديون، والإجارات، وغيرها. وقال تعالى لما ذكر العدة: {{وَأَحْصَوا الْعِدَّةَ}} [الطلاق: 1] وقوله في الصيام: {{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}} [البقرة: 185] وقال تعالى: {{إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}} [النساء: 103] وقال تعالى: {{ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا *}} [الكهف: 12] وذلك لمعرفة قدرة الله في إفاقتهم فلو استمروا على نومهم لم يحصل الاطلاع على شيء من ذلك من قصتهم. فمتى ترتب على ضبط الحساب، وإحصاء المدة، مصلحة في الدين، أو في الدنيا، كان مما حث وأرشد إليه القرآن. ويقارب هذا قوله تعالى: {{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا}} إلى آخر الآيات [البقرة:259] وقوله: {{وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ}} [يونس: 5] ونحوها من الآيات.
القاعدة الثانية والستون:
الصبر أكبر عون على كل الأمور، والإحاطة بالشيء علماً وخبراً
هو الذي يعين على الصبر.
وهذه القاعدة عظيمة النفع، قد دل القرآن عليها صريحاً وظاهراً في أماكن كثيرة، قال تعالى: {{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ}} [البقرة: 45] أي: استعينوا على جميع المطالب، وفي جميع شؤونكم، بالصبر؛ فإن الصبر يسهل على العبد القيام بوظيفة الطاعات، وأداء حقوق الله، وحقوق عباده، وبالصبر يسهل عليه ترك ما تهواه نفسه من المحرمات، فينهاها عن هواها حذر شقاها، وطلبا لرضى مولاها، وبالصبر تخف عليه الكريهات، ولكن هذا الصبر وسيلته وآلته التي ينبني عليها ولا يمكن وجوده بدونها هو معرفة الشيء المصبور عليه، وما فيه من الفضائل، وما يترتب عليه من الثمرات، فمتى عرف العبد ما في الطاعات من صلاح القلوب، وزيادة الإيمان، واستكمال الفضائل، وما تثمره من الخيرات والكرامات، وما في المحرمات من الضرر والرذائل، وما توجبه من العقوبات المتنوعة، وعلم ما في أقدار الله من البركة، وما لمن قام بوظيفته فيها من الأجور، هان عليه الصبر على جميع ذلك.
وبهذا يعلم فضل العلم، وأنه أصل العمل والفضائل كلها؛ ولهذا كثيراً يذكر في كتابه أن المنحرفين في الأبواب الثلاثة إنما ذلك لقصور علمهم وعدم إحاطتهم التامة بها، وقال: {{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}} [فاطر: 28] وقال: {{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ}} [النساء: 17] ليس معناه أنهم لا يعترفون أنها ذنوب وسوء، إنما قصر علمهم وخبرتهم بما توجبه الذنوب من العقوبات، وأنواع المضرَّات، وزوال المنافع.
وقال تعالى مبيناً أنه متقرر أن الذي لا يعرف ما يحتوي عليه الشيء يتعذر عليه الصبر، فقال عن الخضر لما قال له موسى، وطلب منه أن يتبعه ليتعلم مما علمه الله: {{قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا *وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا *}} [الكهف: 67 ـ 68] فعدم إحاطته به خبراً يمتنع معه الصبر، ولو تجلد ما تجلد فلا بد أن يعال ([57]) صبره.
وقال تعالى مبيناً عظمة القرآن، وما هو عليه من الجلالة والصدق الكامل: {{بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ}} [يونس: 39] فأبان أن الأعداء المكذبين به إنما تكذيبهم به لعدم إحاطتهم بما هو عليه، وأنهم لو أدركوه كما هو لألجأهم واضطرهم إلى التصديق والإذعان، فهم وإن كانت الحجة قد قامت عليهم ولكنهم لم يفقهوه الفقه الذي يطابق معناه، ولم يعرفوه حق معرفته. وقال في حق المعاندين الذين بان لهم علمه، وخبروا صدقه: {{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}} [النمل: 14] وقال تعالى: {{فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}} [الأنعام: 33] والمقصود أن الله أرشد العباد إلى الاستعانة على أمورهم بملازمة الصبر، وأرشدهم إلى تحصيل الصبر بالنظر إلى الأمور، ومعرفة حقائقها، وما فيها من الفضائل أو الرذائل. والله أعلم.
القاعدة الثالثة والستون:
يرشد القرآن إلى أن العبرة بحسن حال الإنسان: إيمانه وعمله الصالح،
وأن الاستدلال على ذلك بالدعاوى المجردة، أو بإعطاء الله للعبد من الدنيا، أو بالرياسات، كل ذلك من طرق المنحرفين.
والقرآن يكاد أن يكون أكثره تفصيلاً لهذه القاعدة، وقد قال تعالى: {{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا}} [سبأ: 37] وقال تعالى: {{يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ *إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ *}} [الشعراء: 88 ـ 89] وقد أكثر الله من هذا المعنى في عدة آيات.
وأما حكاية المعنى الآخر عن المنحرفين: فقال عن اليهود والنصارى: {{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *}} [البقرة: 111] ثم ذكر البرهان الذي من أتى به فهو المستحق للجنة فقال: {{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ *}} [البقرة: 112] وقال تعالى: {{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}} الآيات [النساء: 123] . وقال تعالى: {{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا *}} [مريم: 73] {{وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ *}} [الزخرف: 31] .
ونحوها من الآيات التي يستدل بها الكفار على حسن حالهم بتفوقهم في الأمور الدنيوية والرياسات، ويذمون المؤمنين، ويستدلون على بطلان دينهم بنقصهم في هذه الأمور!! وهذا من أكبر مواضع الفتن.
القاعدة الرابعة والستون:
الأمور العارضة التي لا قرار لها بسبب المزعجات أو الشبهات قد تَرِدُ على الحق والأمور اليقينية ولكن سرعان ما تضمحل وتزول.
وهذه قاعدة شريفة جليلة، قد وردت في عدة مواضع من القرآن، فمن لم يُحكمها حصل له من الغلط في فهم بعض الآيات ما أوجب الخروج عن ظاهر النص، ومن عرف حكمة الله تعالى في ورودها على الحق الصريح لأسباب مزعجة تدفعها، أو لشُبه قوية تُحدثها، ثم بعد هذا إذا رجع إلى اليقين، والحق الصريح، وتقابل الحق والباطل، فزهق الباطل، وثبت الحق، حصلت العاقبة الحسنة، وزيادة الإيمان واليقين، فكان في ذلك التقدير حِكَماً بالغة، وأيادي سابغة، ولنمثّل لهذا أمثلة:
فمنها أن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أكمل الخلق إيماناً، ويقيناً، وتصديقاً بوعد الله ووعيده، وهذا أمر يجب على الأمم أن يعتقدوا في الرسل أنهم قد بلغوا ذروته العليا، وأنهم معصومون من ضده، ولكن ذكر الله في بعض الآيات أنه قد يعرض من الأمور المزعجة المنافية حساً لما عُلم يقيناً ما يوجب لهؤلاء الكُمَّل أن يستبطئوا معه النصر ويقولون: {{مَتَى نَصْرُ اللَّهِ}} [البقرة: 214] وقد يقع في هذه الحالة على القلوب شيء من عوارض اليأس بحسب قوة الواردات، وتأثيرها في القلوب، ثم في أسرع وقت تنجلي هذه الحال، ويصير لنصر الله وصدق موعوده من الوقع والبشارة والآثار العجيبة أمر كبير لا يحصل بدون هذه الحالة؛ ولهذا قال: {{حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا}} [يوسف: 110] فهذا الوارد الذي لا قرار له ـ ولما حقت الحقائق اضمحل وتلاشى ـ لا ينكر ويُطلب للآيات تأويلات مخالفة لظاهرها.
ومن هذا الباب، بل من صريحه قوله تعالى: {{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِّيٍ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ}} [الحج: 52] أي: يلقى من الشبه ما يعارض اليقين، ثم ذكر الحِكَم العظيمة المترتبة على هذا الإلقاء، وأن نهاية الأمر وعاقبته أن الله يُبطل ما يُلقي الشيطان، ويُحكم آياته، والله عليم حكيم، فقد أخبر بوقوع هذا الأمر لجميع الرسل والأنبياء لهذه الحِكَم التي ذكرها، فمن أنكر وقوع ذلك بناء على أن الرسل لا ريب ولا شك معصومون، وظن أن هذا ينافي العصمة فقد غلط أكبر غلط، ولو فهم أن الأمور العارضة لا تؤثر في الأمور الثابتة لم يقل قولاً خالف فيه الواقع، وخالف نص الآيات الكريمات.
ومن هذا ـ على أحد قولي المفسرين ـ قوله تعالى: {{فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ}} [الأنبياء: 87] وأنه ظنٌ عرض في الحال ثم زال، نظير الوساوس العارضة في أصل الإيمان التي يكرهها العبد حين تَرِدُ قلبه، ولكن إيمانه ويقينه يزيلها ويذهبها؛ ولهذا قال صلّى الله عليه وسلّم عندما شكى إليه أصحابه هذه الحال التي أقلقتهم مبشراً لهم: «الحمد لله الذي ردَّ كيده إلى الوسوسة» ([58])، ويشبه هذا: العوارض التي تعرض في إرادات الإيمان لقوة وارد من شهوة، أو غضب، وأن المؤمن كاملَ الإيمان قد يَرِدُ في قلبه هَمٌ وإرادة لفعل بعض المعاصي التي تنافي الإيمان الواجب، ثم يأتي برهان الإيمان، وقوة ما مع العبد من الإنابة التامة، فيدفع هذا العارض. ومن هذا قوله تعالى عن يوسف: {{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}} [يوسف: 24] وهو أنه لما رجع إلى ما معه من الإيمان، ومراقبة الله، وخوفه، ورجائه، دفع عنه هذا الهم، واضمحل، وصارت إرادته التامة فيما يرضي ربه؛ ولهذا بعد المعالجة الشديدة التي لا يصبر عليها إلا الخواص من الخلق قال صلّى الله عليه وسلّم: {{رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}} الآية [يوسف:33] . وكان أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله ([59]). وقال تعالى: {{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ *}} [الأعراف: 201] يشمل الطائف الذي يعرض في أصل الإيمان، والذي يعرض في إرادته، فإذا مسَّهم تذكروا ما يجب من يقين الإيمان، ومن واجباته، فأبصروا، فرجع الشيطان خاسئاً وهو حسير. ولعل من هذا قول لوط عليه السلام: {{أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}} [هود: 80] وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «رحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد» ([60]). يعني: وهو الله القوي العزيز، لكن غلب على لوط صلّى الله عليه وسلّم تلك الحال الحرجة، والنظر للأسباب العادية، فقال ما قال، مع علمه التام بقوة ذي العظمة والجلال.
القاعدة الخامسة والستون:
قد أرشد القرآن إلى منع الأمر المباح
إذا كان يفضي إلى محرَّم أو ترك واجب.
وهذه القاعدة وردت في القرآن في مواضع متعددة، وهي من قاعدة: «الوسائل لهاأحكام المقاصد».
فمنها قوله تعالى: {{وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}} [الأنعام: 108] وقوله تعالى: {{وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ}} [النور: 31] {{فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}} [الأحزاب: 32] وقوله: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ}} [الجمعة: 9] . وقد ورد بعض آيات تدل على هذا الأصل الكبير، فالأمور المباحة هي بحسب ما يتوسل بها إليه، إن توسَّل بها إلى فعل واجب أو مسنون كانت مأموراً بها، وإن توسل بها إلى فعل محرم أو ترك واجب كانت محرمة منهياً عنها، وإنما الأعمال بالنيات الابتدائية والغائية، والله الموفق.
القاعدة السادسة والستون:
من قواعد القرآن أنه يستدل بالأقوال والأفعال
على ما صدرت عنه من الأخلاق والصفات.
وهذه قاعدة جليلة، فإن أكثر الناس يقصر نظره على نفس اللفظ الدال على ذلك القول أو الفعل من دون أن يفكر في أصله وقاعدته التي أوجبت صدور ذلك الفعل والقول، والفطن اللبيب ينظر إلى الأمرين، ويعرف أن هذا لهذا، وهذا ملازم لهذا، وقد تقدم ما يقارب هذا المعنى الجليل، ولكن لشدة الحاجة إليه أوردناه على أسلوب آخر، فمن ذلك أن قوله عن عباد الرحمن إنهم {{يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا}} [الفرقان: 63] وذلك صادر عن وقارهم، وسكينتهم، وخشوعهم، وعن حلمهم الواسع، وخُلقهم الكامل، وتنزيههم لأنفسهم عن مقابلة الجاهلين.
ومثل قوله: {{وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ *}} [النمل: 17] يدل مع ذلك على حسن إدارة المُلك، وكمال السياسة، وحسن النظام. وقوله تعالى: {{وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ *}} [القصص: 55] يدل على حُسن الخُلق، ونزاهة النفس عن الأخلاق الرذيلة، وعلى سعة عقولهم، وقوة حلمهم واحتمالهم. ومثل الإخبار عن أهل الجاهلية بتقتيل أولادهم خشية الفقر، أو من الإملاق، يدل على شدة هلعهم، وسوء ظنهم بربهم، وعدم ثقتهم بكفايته. وكذلك قوله عن أعداء رسوله: {{وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا}} [القصص: 57] يدل على سوء ظنهم بالله، وأن الله لا ينصر دينه، ولا يتم كلمته. وأمثلة هذا الأصل كثيرة واضحة لكل صاحب فكرة حسنة ([61]).
[القاعدة] ([62]) السابعة والستون:
يرشد القرآن إلى الرجوع إلى الأمر المعلوم المحقق
عند ورود الشبهات والتوهمات.
وهذه قاعدة جليلة يعبر عنها: «أن الموهوم لا يدفع المعلوم، وأن المجهول لا يعارض المتيقن» ونحوها من العبارات. وقد أرشد الله إليها في مواضع كثيرة لما أخبر تعالى عن الراسخين في العلم وأن طريقتهم في المشتبهات أنهم يقولون: {{آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}} [آل عمران: 7] فالأمور المحكمة المعلومة يتعين أن يرجع إليها الأمور المشتبهة المظنونة. وقال تعالى في زجر المؤمنين عن القدح في إخوانهم المؤمنين:{{لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ*}}[النور:12] فأمرهم بالرجوع إلى ما عُلم من إيمان المؤمنين الذي يدفع السيئات، وأن يعتبروا هذا الأصل المعلوم، ولا يعتبروا كلام من تكلم مما يناقضه ويقدح فيه. وقال تعالى: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا *}} [الأحزاب: 69] فوجاهته عند الله تدفع عنه وتبرئه من كل عيب ونقص قاله فيه من آذاه؛ لأنه لا يكون وجيهاً عند ربه حتى يسلم من جميع المنقصات، ويتحلَّى بجميع الكمالات اللائقة بأمثاله من أولي العزم، فيحذر الله هذه الأمة أن يسلكوا مسلك من آذى موسى مع وجاهته فيؤذوا أعظم الرسل جاهاً عند الله، وأرفعهم مقاماً ودرجة. وقال تعالى: {{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ}} [يونس: 32] {{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ}} [سبأ: 6] .
القاعدة [الثامنة] والستون ([63]):
ذِكْر الأوصاف المتقابلات يغني عن التصريح بالمفاضلة
إذا كان الفرق معلوماً ([64]) .
وهذه القاعدة في القرآن كثير، يذكرها في المقامات المهمة، كالمقابلة بين الإيمان والكفر، والتوحيد والشرك، وبين إلهيته الحق وإلهية ما سواه، فيذكر تباين الأوصاف التي يعرف العقلاء بالبداهة التفاوت بينها، ويدع التصريح بالمفاضلة إلى العقلاء، قال تعالى: {{أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}} [يوسف: 39] {{آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ}{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}} والآيات التي بعدها [النمل: 59، 60] . {{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً}} [الزمر:29] {{مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ *}} [هود: 24] . وقال تعالى: {{أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ}} [البقرة: 140] {{قُلْ أآلله أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ}} [يونس: 59] {{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}} [الزمر: 9] . وقال مثلها: {{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ}} [الزمر: 9] فهذا الموضع ترك القسم الآخر كما ترك التصريح بالمفاضلة لعلمه من المقام، فقوله: {{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ}} [الزمر: 9] إلى آخرها. يعني: كمن ليس كذلك. والآيات في هذا المعنى كثيرة، وهو من بلاغة القرآن وأسلوبه العجيب، كقوله: {{أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ *}} [الملك: 22] . ولما ذكر أوصاف الرسول الداعي، وما يدعو إليه، وأعظم الناس معارضة له قال: {{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ}} [سبأ: 24] {{فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ *بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ *}} [القلم: 5 ـ 6] {{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}} [البقرة: 256] {{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}} [الكهف: 29] وذلك أنه إذا مُيِّزَت الأشياء تمييزاً تاماً، وعُرفت مراتبها في الخير والشر، والكمال والنقص، صار التصريح بعد ذلك بالتفضيل لا معنى له، والله أعلم.
[القاعدة التاسعة] والستون: من ترك شيئاً لله عوَّضه الله خيراً منه.
وهذه القاعدة وردت في القرآن في مواضع كثيرة:
فمنها ما ذكره الله عن المهاجرين الأولين الذين هجروا أوطانهم وأموالهم وأحبابهم لله فعوَّضهم الله الرزق الواسع في الدنيا، والعز والتمكين. وإبراهيم صلّى الله عليه وسلّم لما اعتزل قومه وأباه، وما يدعون من دون الله، وهب له إسحاق ويعقوب، والذريَّة الصالحين. وسليمان صلّى الله عليه وسلّم لما ألهته الخيل عن ذكر ربه فأتلفها عوَّضه الله: {{الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ}} [ص: 36] {{وَالشَّيْاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ *}} [ص: 37] .
وأهل الكهف لما اعتزلوا قومهم وما يعبدون من دون الله وهب لهم من رحمته، وهيأ لهم أسباب التوفيق والراحة، وجعهلم هداية للضالين. {{وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ *}} [الأنبياء: 91] ومن ترك ما تهواه نفسه من الشهوات لله تعالى عوَّضه من محبته وعبادته والإنابة إليه ما يفوق جميع لذات الدنيا.
القاعدة [السبعون]:
القرآن كفيل بمقاومة جميع المفسدين،
ولا يعصم من جميع الشرور إلا التمسك بأصوله وفروعه.
قد تقدم من الأدلة على هذا الأصل الكبير في دعوة القرآن إلى الإصلاح والصلاح، وفي طريقته في محاجَّة أهل الباطل، وفي سياسته الداخلية والخارجية، ما يدل على هذا الأصل، ويُعَرِّف الخلق أن العصمة من الشرور كلها التمسك بهذا القرآن، وأصوله، وعقائده، وأخلاقه، وآدابه، وأعماله ([65])،
ولكن نزيد هنا بعض التفصيلات فنقول: أهل الشر والفساد نوعان:
أحدهما: المبطلون في عقائدهم، وأديانهم، ومذاهبهم، الذين يدعون إليها، ففي القرآن من الاحتجاج على هؤلاء، وإقامة الحجج والبراهين على فساد أقوالهم شيء كثير، لا يأتي مبطل بقول إلا وفي القرآن بيانه بالحق الواضح، والبرهان الجلي، ففيه الرد على جميع المبطلين من الدهريين، والماديين، والمعطِّلين، والمشركين، والمتمسِّكين بالأديان المبدلة والمنسوخة من اليهود، والنصارى، والأميين، {{وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا *}} [الفرقان: 33] يذكر الله حجج هؤلاء وينقضها، ويبدي من الأساليب المتنوعة في إفسادها ما هو معروف، وتفصيل هذه الجملة لا يحتمله هذا الموضع.
النوع الثاني من المقاومين للأديان، والدنيا، والسياسات، والحقوق: الشيوعيون الذين انتشر شرهم، وتفاقم أمرهم، وسرت دعايتهم في طبقات الخلق سريان النار في العشب الهشيم، ولم يكن عند الأكثرين ما يرد صولتهم، ويقمع شرهم، وإنما عندهم من الأصول والعقائد والأخلاق والسياسات ما يمكِّن أمثال هؤلاء الذين هم فساد العباد والبلاد، ولكن ـ ولله الحمد ـ القرآن العظيم، والدين القويم، قد تكفَّل بمقاومة هؤلاء كما تكفل بمقاومة غيرهم، وفيه من الأصول، والأخلاق، والآداب الراقية ما يردهم على أعقابهم منهزمين، فما فيه من العدل، ووجوب الحقوق العادلة بين طبقات الناس بحسب أحوالهم، وما فيه من إيجاب الزكاة، والإلزام بها، ودفع حاجات الفقراء والمضطرين، ووجوب القيام بالمصالح الكلية والجزئية، ووجوب حفظ الأملاك، والحقوق، كل هذا أعظم سد، وأحكم حصن، للوقاية من شرور هؤلاء المفسدين، وكذلك ما حض عليه القرآن من لزوم الآداب العالية، والأخلاق السامية، والأخوة الدينية، والرابطة الإسلامية يمنع من تغلغل شرورهم التي طريقها الأقوم تحليل الأخلاق، وانحلال الآداب، وتحلل الروابط النافعة، والثورة العامة على الرأسماليين الذين يجمعون ويمنعون، فهؤلاء وإن أبدوا من القوة المادية، والتسلط على العباد بالقهر، والاستعباد، والطمع، والجشع، فإنهم لا ثبوت لهم على مقاومة هذا التيار المزعج، المخرب، المدمِّرِ ما مرَّ عليه، فما معهم سلاح يقاوم سلاحهم، ولا قوة تجابه قوتهم؛ لكونهم لم يتمسَّكوا بالقرآن الذي فيه العصمة والقوة المعنوية، والصلاح والإصلاح، والعدل، ودفع الظلم، والآداب والأخلاق العالية التي لا تزعزعها عواصف الخراب، بل تقذف بالحق على الباطل فتدمغه فإذا هو زاهق، فإذا جاء هؤلاء المفسدون بالتعطيل المحض، والإنكار الصِّرف أبدى القرآن من الحجج والبراهين على وجود الله، وعظمته، وتوحيده، وصدقه، وصدق من جاء به ما تصدَّع له الجبال، وتخضع له فحول الرجال، وإذا تسرَّب هؤلاء الأشرار بتوسط الأخلاق الرذيلة، وانحلال الآداب الجميلة، ووجدوا مسلكاً في هذا الطريق يعينهم على تنفيذ باطلهم جاءهم هذا القرآن بالحث على الأخلاق العالية، والأعمال الصالحة، والآداب الجميلة، التي لا تدع للشر على صاحبها سبيلا. وإذا صالوا بالفقر والفقراء ووجوب المساواة، واحتجوا على أرباب الأموال بالاحتكار والسيطرة، واستعبادهم للعباد، واستبدادهم بالأملاك والأموال، ولم يجد هؤلاء قوة عليهم، وليس بهم طاقة بوجه من الوجوه، تصدَّى هذا القرآن العظيم بعدله وقسطه، وإيجابه الحقوق المتنوعة ـ الدافعة للحاجات كلها بعد قيامها بالضرورات ـ لصدهم، ومقاومتهم، وإبطال كل ما به يصولون ويجولون. ثم إذا برز بصلاحه وإصلاحه العظيم، ونظامه الحكيم، وهديه القويم، وحثه على سلوك الصراط المستقيم، ونوره الساطع، وحججه القواطع، لم يبق في وجهه باطل إلا محقه، ولا شر إلا سحقه، ولا بقي مَن قَصْدُه الحق والصواب إلا اختاره واعتنقه، ولا تأمله صاحب عقل ورأي إلا خضع له، فهو الحصن الحصين من جميع الشرور، وهو القاهر لكل من قاومه في كل الأمور.
القاعدة [الحادية و] السبعون: في اشتمال كثير من ألفاظ القرآن على جوامع المعاني.
اعلم أن ما مضى من القواعد السابقة هي المقصود في وضع هذا الكتاب، وهو بيان الطرق والمسالك التي ترجع إليها كثير من الآيات، وأنها وإن تنوعت ألفاظها، واختلفت أساليبها، فإنها ترجع إلى أصل واحد، وقاعدة كلية.
وأما نفس ألفاظ القرآن الكريم، فإن كثيراً منها من الألفاظ الجوامع، وهي من أعظم الأدلة على أنها تنزيل من حكيم حميد، وعلى صدق من أُعطي جوامع الكلم، واختُصر له الكلام اختصاراً، ولنمثل لهذا النوع أمثلة، ونذكر أنموذجاً منه: فمنها قوله تعالى: {{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا}} [فصلت: 46] {{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}} [يونس: 26] {{هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ *}} [الرحمن: 60] {{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ *}} [الواقعة: 10] {{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}} الآية [النحل: 90] {{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِّرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}} [المائدة: 2] {{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *}} [النحل: 97] {{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ *}} [الزلزلة: 7 ـ 8] {{وَمَا تُقَدِّمُوا لأَِنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا}} [المزمل: 20] {{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}} [الزمر: 10] . {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}} [الحجرات: 6] {{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}} [الشورى: 38] {{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}} [آل عمران: 159] {{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا}} [يونس: 44] {{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ}} الآية [آل عمران: 30] {{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}} [النساء: 128] {{إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ}} [يونس: 81] {{وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ}} [البقرة: 205] {{يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا}} [الانفطار: 19] {{فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا}} [الجن: 18] {{فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا}} [البقرة: 22] {{أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}} [الزمر: 3] {{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}} [التغابن: 16] {{إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ}} [هود: 88] {{وَلاَ تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}} [البقرة: 237] {{وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}} [الأعراف: 85] . {{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}} [هود: 112] {{وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ *}} [هود: 115] {{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}} [هود: 114] {{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}} [يوسف: 24] {{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ *}} [الصافات: 80] {{وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ}} الآيات [الرعد: 21] {{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}} [الشورى: 40] {{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}} [النحل: 126] {{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}} [البقرة: 194] . {{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}} [الإسراء: 9] {{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}} [الإسراء: 15] {{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}} [التوبة: 91] {{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطِّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}} [الأعراف: 157] {{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}} [الشورى: 40] {{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً}} [الكهف: 46] {{وَخَيْرٌ مَرَدًّا}} [مريم: 76] {{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}} [البقرة: 185] {{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}} [الحج: 78] . {{وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}} [الأحزاب: 4] {{وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا *}} [الفرقان: 33] {{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}} [الأحزاب: 21] {{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}} [الحشر: 7] {{وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ}} [الأحزاب: 53] {{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْمًا مُبِيناً *}} [الأحزاب: 58] {{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}} [الأنفال: 60] .
فهذه الآيات الكريمة وما أشبهها، كل كلمة منها قاعدة، وأصل كبير، تحتوي على معان كثيرة، وقد تقدم في أثناء القواعد منها شيء كثير، وهي متيسرة على حافظ القرآن، المعتني بمعرفة معانيه، ولله الحمد.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. وقد يسَّر الله ما مَنَّ علينا بجمعه، فجاء ولله الحمد على اختصاره ووجازته ووضوحه كتاباً يسُر الناظرين، ويعين على فهم كلام رب العالمين، ويبدي لأهل البصائر والعلم من المآخذ، والمسالك، والطرق، والأصول النافعة، ما لا يجده مجموعاً في محل واحد، ومَخْبَرُ الكتاب يغني عن وصفه، وأسأله تعالى أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، مقرِّباً لديه في جنات النعيم، وأن ينفع به مؤلفه، وقارئه، والناظر فيه، وجميع المسلمين بمنِّه وكرمه، وجوده وإحسانه، وهو خير الراحمين، وصلَّى الله على محمد، وعلى آله وأصحابه الطيِّبين الطاهرين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
قال ذلك وكتبه جامعه العبد الفقير إلى الله في كل أحواله: عبد الرحمن بن ناصر العبد الله السعدي، وقد تم ذلك في 6 شوال سنة 1365، والحمد لله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً.
[1]- وقد وقفت على طبعة أُخرى اعتُمد في إخراجها على إحدى النسختين الخطيتين اللتين اعتمدنا عليهما في إخراج الكتاب، وقد وقع في هذه المطبوعة المشار إليها عشرات الأخطاء والتحريفات نتيجة للغلط في قراءة بعض الكلمات، هذا بالإضافة إلى وقوع سقط =في عدة مواضع يزيد في بعضها على سطر!! ثم وقفت ـ أثناء تصحيح الكتاب ـ على بعض الطبعات التي صدرت حديثاً وقد اعتُمد في إخراجها على المطبوعة آنفة الذكر!!
[2]- وهما محفوظتان بحوزة أبناء المؤلف رحمه الله.
[3]- وقد رمزت لها بـ( أ ).
[4]- وقد رمزت لها بـ(ب).
[5]- تنبيه: قد يقف القارئ على بعض التراكيب أو الألفاظ التي قد يستشكلها ـ ولم يجر عليها تصويب أو تعديل ـ وهي في الواقع صحيحة، وعليه فلا ينبغي التعجل في الحكم عليها بالغلط أو القصور.
[6]- هكذا في الأصل، وصوابه: (عرفت) من غير واو العطف.
[7]- أخرجه ابن المبارك في الزهد (36)، وسعيد بن منصور (50)، وابن أبي حاتم كما نقله عنه ابن كثير في التفسير 2/2، والبيهقي في الشعب (1886)، وأبو نعيم في الحلية 1/130، وفي سنده انقطاع.
[8]- هكذا في الأصل، وصوابه: شيئاً كثيراً.
[9]- في الأصل: وأن.
[10]- ما بين المعقوفين [ ] زيادة يقتضيها السياق.
[11]- البخاري في الأذان، باب التشهد في الآخرة. حديث رقم: (831) 2/311، ومسلم في الصلاة، باب التشهد في الصلاة، حديث رقم: (402) 1/301 من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[12]- هذه اللفظة مكرَّرة في النسخة الخطية.
[13]- هكذا في الأصل. والتقدير: له.
[14]- هكذا في الأصل. ويمكن حمله على وجه يصح، وقد جرى عليه تعديل ـ بغير خط المؤلف ـ مع إضافة تُقدر بخمسة أسطر.
[15]- مكررة في الأصل، وقد جرى عليها تعديل بغير خط المؤلف، وكُتب بدلاً منها: والأمانة.
[16]- هكذا في الأصل ـ من غير تاء ـ إلى القاعدة التاسعة عشرة. والصواب: «عشرة». وقد كتبتها على الوجه الصحيح مع وضع التاء بين معقوفين [ ] في المواضع التي ستأتي.
[17]- كمن نشأ على بدعة يظنها من الدين، أو تعاطى أمراً محرماً يعتقد إباحته!!
[18]- أي أنه لا يمكن أن يتحقق الكف عن المنكر والشر تقرباً إلى الله وتعبداً بتركه إلا بعد العلم بكونه منكراً.
[19]- أخرجه أحمد 1/307، وعبد بن حميد (المنتخب 1/546 ـ 547)، وابن أبي عاصم في السنة (1/137 ـ 139) وصححه الألباني، والبيهقي في الشعب (1043)، وفي الأسماء والصفات ص97، وفي الاعتقاد ص58 ـ 59، والطبراني في الكبير (11243)، والحاكم 3/541 ـ 542، وابن عدي في الكامل 7/2524 ـ 2525، والعقيلي في الضعفاء 3/397 ـ 398، وأبو نعيم في الحلية 1/314، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة 2/614، وذكره الهيثمي في المجمع 7/189 ـ 190. وهو قطعة من الحديث المشهور في وصية النبي صلّى الله عليه وسلّم لابن عباس رضي الله عنهما (كما في بعض روايات الحديث).
[20]- هكذا في الأصل. والصواب: بالعمل.
[21]- قوله: «أنه» مكرر في الأصل.
[22]- رواه مسلم في البر والصلة، باب تحريم الظلم. حديث رقم: (2577) 4/1994 من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
[23]- هكذا في الأصل، وصوابه: صفاتٍ.
[24]- أي: أحكامه.
[25]- هكذا في الأصل. وفي المطبوعة: مئات.
[26]- هكذا في الأصل. وفي المطبوعة: للشمس.
[27]- هكذا في الأصل. وقد جرى عليه تعديل ـ بغير خط المؤلف ـ وبه يستقيم المعنى، ونص العبارة بعد التعديل المشار إليه: «أن ما لا تتم الأمور المطلوبة إلا به فهو مطلوب».
[28]- لعله سبق قلم، والمراد: «السامع». ويمكن تصحيح عبارة المؤلف ـ رحمه الله ـ إذا حملنا قوله: «للمتكلم» على قائل العبارة المشار إليها.
[29]- أي: «يظهر لك ذلك منها عياناً». فحذف اسم الإشارة للعلم به.
[30]- هكذا في الأصل، وصوابه: بياناً.
[31]- هكذا في الأصل، وصوابه: إساءة.
[32]- البخاري في الديات، باب قول الله تعالى: {{أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}}. حديث رقم: (6878) 12/201، ومسلم في القسامة، باب ما يباح به دم المسلم. حديث رقم: (1676) 3/1302 من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[33]- أخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها. باب صلاة المسافرين وقصرها. حديث رقم: (686) 1/478 من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
[34]- - قوله: «خيره، شره» على إسقاط حرف العطف وهو أسلوب عربي معروف، وإثبات حرف العطف أفصح.
[35]- قوله: «ليكن» إنما يصح على اعتبار أن اللام للأمر، وفيه بُعد ولا يُساعد عليه السياق. أما إذا كانت اللام للتعليل ـ وهو الظاهر هنا ـ فالصواب أن يُقال: «ليكون».
[36]- أي: المناسبة بين الحكم الذي قررته الآية وبين ما خُتمت به من الأسماء الحُسنى.
وقد بيّن المؤلف ذلك في القاعدة التاسعة عشرة.
[37]- أي: في حكمها.
[38]- هكذا في الأصل. وفي هامشه ـ بخط مغاير ـ زيادة كلمة «إضاعة» فيكون الكلام هكذا: «وإضاعة الصلاة».
[39]- أي: شهوات الأعمال المحرمات.
[40]- أي: الأمراض والأدواء التي في قلوبهم.
[41]- ما بين المعقوفين زيادة يقتضيها النص.
[42]- في الأصل: والثلاثة. وهو سبق قلم.
[43]- أخرجه البخاري في بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. حديث رقم: (1) 1/9، ومسلم في الإمارة، باب قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنية...». حديث رقم: (1907) 3/1515.
[44]- هكذا في الأصل. وإنما يصح على أنه خبر مبتدأ محذوف (وهي وصية ومتعة مرغب فيها)، ولا يخلو من تكلف. والمتجه هنا: النصب «مرغباً».
[45]- ما بين المعقوفين [ ] زيادة يقتضيها السياق.
[46]- أخرجه البخاري في الرقاق، باب لينظر إلى من هو أسفل منه...، حديث رقم: (6490) 11/322، ومسلم في الزهد والرقاق. حديث رقم: (2963) 4/2275.
[47]- قوله: «عن» مكرَّر في الأصل.
[48]- في الأصل: إن كما كنت.
[49]- [1] ـ[2] ـ[3] ـ[3] هكذا في الأصل. والصواب: «راجٍ، طامع، منقطع عن غير الله، عالم أنه...».
[53]- هكذا في الأصل، ولا يخفى أن هذا الجزء متصل بما قبله من الآية.
[54][1] [2]- ما بين المعقوفين زيادة يقتضيها السياق.
-
[56]- من هذا الموضع بداية القطعة الموجودة من النسخة (ب).
[57]- أي: ينقطع. انظر: القاموس (مادة: عال) 1340.
[58]- أخرجه أحمد (1/235) وأبو داود في الأدب، باب في رد الوسوسة، حديث رقم: (5090) 14/15 من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[59]- كما في حديث أبي هريرة عند البخاري في الأذان، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة. حديث رقم: (660) 2/143. ومسلم في الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة. حديث رقم (1031) 2/185.
[60]- البخاري في أحاديث الأنبياء، باب قول الله عز وجل: (ونبئهم عن ضيف إبراهيم...) حديث رقم: (3372) 6/410 ـ 411. ومسلم في الإيمان، باب زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة. حديث رقم: (151) 1/133 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[61]- تنبيه: في هذا الموضع من النسخة الأخرى كتب الشيخ رحمه الله قاعدة أخرى مغايرة لما أثبته هنا، ولتمام الفائدة نقلتها هنا فهو يقول: «القاعدة السادسة والستون:
أعظم الأصول التي يقررها القرآن ويبرهن عليها: توحيد الألوهية والعبادة.
وهذا الأصل العظيم أعظم الأصول على الإطلاق، وأكملها وأفضلها، وأوجبها؛ وهو الذي خلق الله الجن والإنس لأجله، وخلق المخلوقات، وشرع الشرائع لقيامه، وبوجوده الصلاح، وبفقده الشر والفساد.
وجميع الآيات القرآنية إما أمر به، أو بحق من حقوقه، أو نهي عن ضدّه، أو إقامة حجة عليه، أو بيان جزاء أهله في الدنيا والآخرة، أو بيان الفرق بينهم وبين من لم يتصف به، ويُقال له: «توحيد الإلهية» باعتبار أن الله ذو الألوهية، وأن الألوهية وصفه الدالّ عليها الاسم العظيم وهو الله. وهي جميع صفات الكمال. ويُقال له: «توحيد العبادة» باعتبار وصف العبد بإخلاص العبادة لله تعالى. وتحقيقها في العبد: أن يكون عارفاً بربه، مخلصاً له جميع عباداته، محققاً ذلك بترك الشرك، صغيره وكبيره، وباتباع النبي صلّى الله عليه وسلّم ظاهراً وباطناً، والسلامة من كل بدعة وضلالة، وبموالاة أهله، ومعاداة ضدهم.
وهذا الأصل، الذي هو أكبر الأصول وأعظمها، قد قرَّره شيخ الإسلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد، وذكر من تقريره وتفاصيله وتحقيقه، ونفي كل ما يضاده ما لا يوجد في كتاب غيره، بل كتابه المذكور لا يخرج عنه.
والقرآن يقرِّره بطرق متنوعة، وقد تقدم في أول هذه القواعد شيء من ذلك، وقد ذكرنا في التفسير ثمانية طرق كلية في تقرير هذا الأصل، وصورة ما ذكرناه على قوله تعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا الله} الآية [محمد: 19] بعد ما ذكرنا تفسيرها:
«والطريق إلى العلم بأنه لا إله إلا الله، أمور:
أحدها: بل أعظمها: تدبُّر أسماء الرب، وصفاته، وأفعاله الدالة على كماله، وعظمته، وجلاله، فإنها توجب بذل الجهد في التألُّه له، والتعبد للرب الكامل، الذي له كل حمد، ومجد، وجلال، وجمال.
الثاني: العلم بأنه تعالى المنفرد بالخلق والتدبير، فيُعلم بذلك أنه المنفرد بالألوهية. =
=الثالث: العلم بأنه المنفرد بالنعم الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية والأخروية، فإن ذلك يوجب تعلق القلب به ومحبته، والتألُّه له وحده لا شريك له.
الرابع: ما نراه ونسمعه من الثواب لأوليائه، القائمين بتوحيده، من النصر، والنعم العاجلة، ومن عقوبته لأعدائه المشركين به، فإن هذا داعٍ إلى العلم بأنه تعالى وحده المستحق للعبادة كلها.
الخامس: معرفة أوصاف الأوثان والأنداد التي عُبدت مع الله، واتُّخذت آلهة، وأنها ناقصة من جميع الوجوه، فقيرة بالذات، لا تملك لنفسها ولا لعابديها نفعاً ولا ضراً، ولا حياة ولا نشوراً، ولا تنصر من عبدها، ولا تنفعه بمثقال ذرة: من جلب خير، أو دفع شر؛ فإن العلم بذلك يوجب العلم بأنه لا إله إلا الله، وبطلان إلهية ما سواه.
السادس: اتفاق كتب الله على ذلك، وتواطؤها عليه، وهو أعظم ما فيها.
السابع: أن خواص الخلق، الذين هم أكمل الخليقة أخلاقاً، وعقولاً، وعلماً، ورأياً، وإصابة، وهم الرسل والأنبياء والعلماء الربانيون، قد شهدوا لله بذلك.
الثامن: ما أقامه من الأدلة الأفقية والنفسية التي تدل على التوحيد أعظم دلالة، وتنادي عليه بلسان حالها بما أودعها من لطائف صنعته، وبديع حكمته، وغرائب خلقته.
فهذه الطرق التي أكثر الله من دعوة الخلق بها إلى أنه لا إله إلا هو قد أبداها في كتابه وأعادها بطرق وأساليب متنوعة» إلى آخر ما ذكرنا هناك. وكل رسول أول ما يدعو قومه إلى هذا التوحيد ويقرره لهم بنحو مما ذكرنا من هذه الأدلة».
[62]- ما بين المعقوفين غير موجود في الأصل.
[63]- في الأصل: «السابعة والستون». وهو سهو أدى إلى اختلال الترقيم إلى آخر الكتاب وقد جرى عليه تعديل بخط مغاير لخط المؤلف رحمه الله.
[64]- تنبيه: هذه القاعدة غير موجودة في نسخة ب.
[65]- من هذا الموضع إلى آخر القاعدة من النسخة (ب) تغيَّرت الصياغة، وإن كان المضمون واحداً، ولتمام الفائدة نقلت كلام المؤلف في النسخة الأخرى، حيث قال:
«فأعظم أهل الشر: أهل التعطيل: المنكرون ما سوى المحسوسات، المنكرون للخالق وأديان الرسل، وما أخبر الله به وأخبرت رسله، وفي القرآن من البراهين والحجج المتنوعة ما يبطل قولهم، ويضمحل معه مذهبهم، ويتبيَّن للعقلاء أنهم مكابرون في إنكار أظهر الأشياء وأجلاها.
ومنهم أهل الشرك بالمخلوقات وتسويتها بالرب في شيء من الصفات والنعوت، أو الحقوق الخاصة لله.
وفي القرآن من إبطال الشرك ووجوب التوحيد، وإقامة البراهين على تفرُّد الله تعالى بالوحدانية وصفات الكمال، وأنه لا يستحق العبادة سواه، ولا أحد يساويه في وصف ولا حق من الحقوق ما يكفي بعضه لإزهاق قولهم.
ومنهم المنكرون للأنبياء من الأميين والملحدين وغيرهم. وفيه من الحجج والبراهين على إثبات رسالتهم، والآيات والخوارق الدالة على صدقهم، والأوصاف والنعوت التي = =اتصفوا بها ما يدل أكبر دلالة على أنهم رسل الله حقاً، وأنهم أصدق الخلق وأكملهم في كل صفة كمال، وأفضلهم في كل فضيلة.
ومنهم المفرِّقون بين الأنبياء والكتب، الذين يزعمون أنهم يؤمنون ببعضهم ويكفرون بغيره، وفي القرآن حجج وبراهين كثيرة تدل على إبطال قولهم، وأنهم متناقضون متهافتون في إثباتهم ونفيهم، وأن الإيمان الحق، والحق الصريح: الإيمان بكل كتاب أنزله الله، وبكل رسول أرسله الله، وأن الحق والصدق، والعلم واليقين، يجب الإيمان به، والاعتراف به، حيثما كان، ومع من كان، وليس ذلك بالدعاوى والأماني.
ومنهم الإباحية والشيوعية، الذين هم فساد الأديان، والملك، والدنيا والآخرة. والقرآن كفيل بإبطال قولهم بما فيه من العقائد، والبراهين، ووجوب التحلي بالأخلاق الجميلة، والتخلي من الأخلاق الرذيلة، وإيجاب الحقوق المتنوعة بين طبقات الناس، ووجوب الزكوات، وإنقاذ المضطرين، وغيرها من الأحكام. فكل هذا سدٌ محكم يمنع نفوذ هؤلاء المفسدين، ويُبطل شرهم، ويُزهق حجتهم.
ومنهم أهل البدع، على اختلاف مذاهبهم وتنوع أقوالهم. وفي القرآن من البراهين ووجوب التمسك بما عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم من أصول الدين وفروعه، ووجوب رد المتشابه إلى المحكم والاعتصام بحبل الله ودينه ما يبطل قولهم ويكسر شوكتهم.
ومنهم أهل التحزب والتشيع، وتفريق المسلمين، وتمزيق وحدتهم. وفي القرآن من الحث على الاعتصام بحبل الله، والحث على الألفة، والنهي عن التفرق، والإخبار بأنه طريق أهل الضلال والغضب، والتحذير من أحوال هؤلاء، ووجوب لزوم الأصول العامة الكلية ما يقمع شرهم، ويبيِّن شناعة طريقتهم.
ومنهم أهل الفساد، المنتهكين للدماء والأموال والأعراض. وفي الآيات القرآنية من قمعهم وإقامة الحدود عليهم، والزجر عن طريقتهم، والمواعظ والزواجر ما يقمعهم ويردعهم ويخفف شرهم، فكل صاحب شر وفساد إنما سلطته ووصول شره على من لم يعتصم بالقرآن وخرج من هذا الحصن الحصين الذي من دخله كان من الآمنين من كل شر وضرر، وهو القاهر لكل باطل قاومه في كل الأمور».