×
الدين المعاملة : في هذه الصفحات نسلط الضوء على جانب من الجوانب المهمة في حياتنا، وهو المعاملة مع الآخرين، ننهل في تصحيح هذا الجانب من معاملة النبي - صلى الله عليه وسلم - للآخرين، فنحن أحوج ما نكون إلى هذا الهدي مع فساد تعاملنا مع بعضنا، فالدين ليس فقط معاملة مع الله، بل هو معاملة مع الخلق أيضاً، ولئن كانت حقوق الله مبنية على المسامحة فإن حقوق العباد مبنية على المشاحة ، لذا وجب علينا معرفة هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في المعاملة مع الخَلق؛ لنتأسى به، فتنصلح علاقاتنا الأسرية والاجتماعية.

 الدين المعاملة [ صفحات من هدي الأسوة الحسنة صلى الله عليه وسلم ]

د. منقذ بن محمود السقار

الباحث في رابطة العالم الإسلامي


 مقدمة

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين، وبعد

ساد المسلمون الدنيا ، وبنوا حضارة فريدة حين كانوا مستمسكين بدين الله عقيدة وشريعة، عبادة وسلوكاً وأخلاقاً.

وبقدر ما بعدوا عن دينهم هانوا على الله وهانوا في أرض الله، ودارت عليهم الدوائر ، فصاروا أثراً بعد عين.

وقام المصلحون والغيورون يرومون استعادة الأمة لسابق مجدها وعظيم سؤددها، وتداولوا الرأي ، فما وجدوا علاجاً أنجع لإصلاح حالها اليوم من العلاج الذي أصلح حالها في صدر الإسلام، وكما يقول وهب بن كيسان: "لن يصلح حال هذه الأمة إلا بما صلح به أولها"([1]).

وقد وصف ﷺ داء هذه الأمة، وأرشدها إلى دوائها : «فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ»([2]).

وإذا كان كذلك فالواجب علينا التعرف على سنته ﷺ ، ثم العض عليها بالنواجذ، وهو أمر كثر حديث الوعاظ عنه، فلا تكاد تجد واعظاً إلا وهو يحث على التمسك بسنته ﷺ، وقل أن نجد منهم من يضع النقاط على الحروف، فيبين لنا سنته ﷺ في مختلف الأمور التي تعرض لنا في حياتنا، كيف كان ﷺ يتعامل مع أزواجه وأهل بيته؟ وكيف عامل خدمه وأصحابه، بل كيف تعامل مع عدوه.

وهكذا سلسلة طويلة من الأسئلة، نستلهم من خلال الإجابة عنها هدي النبي ﷺ، ويدفعنا إلى تلمس هذا الهدي إيمانُنا أنه ﷺ الأنموذج الذي وضعه الله نصب أعيننا ، وطالبنا باتباعه والمشي على نهجه وغرزه ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً ﴾ (الأحزاب : 21).

إننا نود من خلال هذه الصفحات أن ننتقل بإيماننا بالنبي ﷺ من الإطار النظري إلى الاتباع العملي الذي هو برهان الإيمان ودليله وحقيقته، وحينها فقط نكون مؤمنين حقاً بمحمد ﷺ ، وحينها فقط تستقيم حياتنا وفق الإسلام العظيم الذي أنزله الله ليحكم حياتنا ، لا ليكون مجرد شعار نتدثر به، من غير أن يكون واقعاً يرشد سلوكنا ويقيم حياتنا وفق مراضي ربنا تبارك وتعالى.

إن الأمور التي نحتاج فيها إلى الاستمساك بهدي النبي ﷺ كثيرة تشمل كل لحظة في حياتنا، فما من صفحة في حياتنا إلا وللنبي ﷺ فيها توجيه بقوله أوفعله.

وفي هذه الصفحات نسلط الضوء على جانب من  الجوانب المهمة في حياتنا، وهو المعاملة مع الآخرين، ننهل في تصحيح هذا الجانب من معاملة النبي ﷺ للآخرين، فنحن أحوج ما نكون إلى هذا الهدي مع فساد تعاملنا مع بعضنا، فالدين ليس فقط معاملة مع الله، بل هو معاملة مع الخلق أيضاً، ولئن كانت حقوق الله مبنية على المسامحة فإن حقوق العباد مبنية على المشاحة ، لذا وجب علينا معرفة هدي النبي ﷺ في المعاملة مع الخَلق؛ لنتأسى به، فتنصلح علاقاتنا الأسرية والاجتماعية.

كما أن إشاعتنا لهدي النبي ﷺ فيه أبلغ الرد وأقومه على الافتراءات والأباطيل التي يثيرها الأفاكون عن شخصه ﷺ، فلئن تساءل بعضهم عن الخير الذي جاء به محمد ﷺ، فإنا نعتقد أنه ﷺ جاء بكل خير، وما صفحاتنا إلا بعض قطرات من بحر خيره وهديه ﷺ.

ولن أستطيع في هذا المقام استقصاء هدي النبي ﷺ في معاملاته كلها، فهذا دونه خرط القتاد، وهو بحر بعيد غوره، لكني رأيت أن أسلط الضوء على نماذج من هديه ﷺ، وفيها ما يدعونا إلى مزيد من البحث والتنقيب عن سنته وهديه ﷺ، واللهَ أسأل أن يقيم حياتنا على السنة، وأن يجعلنا ممن عرف الحق والتزمه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

***

 الفصل الأول: معاملة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه في بيته

وفيه مباحث:

المبحث الأول  : هدي النبي ﷺ في عشرة النساء

المبحث الثاني   : معاملة النبي ﷺ للأطفال

المبحث الثالث : معاملة النبي ﷺ مع الخدم وصغار الموظفين


 المبحث الأول: هدي النبي صلى الله عليه وسلم في عشرة النساء

الأسرة هي قوام المجتمع، وهي المحضن الطبيعي لتخريج جيل من الأبناء الأسوياء الذين يعمرون الأرض بطاعة الله، وهذه الأسرة قوامها الأساس الوالدان اللذان يبنيان معاً هذه المؤسسة على قاعدة متينة من الحقوق والواجبات المتبادلة بينهما.

وحديثنا في هذا المقام عن زوج لا كالأزواج، عن سيد الأزواج ﷺ، نتسور حائط بيته لنطل على بعض جوانب حياته الخاصة ﷺ ، نرنو منه تعلم أصول العـشرة بين الزوجين، فحديثنا عن معاملة النبي ﷺ مع نسائه وأهل بيته تمس إليه كل منا، وهو هدية نخص بها كل زوج لا يعرف قيمة رباط الزوجية الوثيق، فيسيء إلى شريكة حياته، فيشتمها، أو يرفع صوته عليها، أو يغاضبها؛ لأن طعامها تأخر نضجه بضع دقائق، أو لأنها خالفته الرأي في مسألة ما أو لغيره من الأسباب التافهة التي لأجلها نقيم الدنيا ولا نقعدها.

ومن أعجب ما رأينا من صور سوء المعاملة؛ ما درج عليه بعض الأزواج ، فتراه مع أصحابه طلْقَ المحيا براقَ الثنايا، فإذا ما وصل إلى عتبة بيته أخفى ابتسامته وتصنع تكشيرة وعبوساً ، يدعي أنه يحفظ بهما رجولته ووقاره في بيته، وما درى المسكين أن لا علاقة بين العَبُوس والرجولة إلا في مخيلة أشباه الرجال.

مع النبي صلى الله عليه وسلم في بيته :

ولو تطفلنا على حياة النبي ﷺ الخاصة، وسألنا زوجه الأثيرة عائشة رضي الله عنها: كيف كان رسول الله ﷺ إذا خلا مع نسائه؟! لسمعنا الجواب: (كان كرجلٍ منكم لنسائكم، إلا أنه كان أكرمَ الناس خُلُقاً، وأبينَ الناس، ضاحكاً بساماً  ﷺ)([3]).

ولا عجب أن يكون ﷺ كذلك فهو القائل: «أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم خلقاً»، وفي رواية: «إن من أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وألطفهم بأهله» ([4] وكان يقول: « خيرُكم خيرُكم لأهله، وأنا خيرُكم لأهلي» ([5]).

وهكذا يضع النبي ﷺ ميزاناً فريداً للخيرية، لا يقوم على كثرة الصيام ولا طول القيام، إنما يستمد قيَمَه من الإحسان إلى الزوجةِ خصوصاً، والأبناءِ والأهلِ عموماً.

ولم يكن النبي ﷺ في بيته يأنف من شيء مما يأنف منه بعض الأزواج ، ويرونه قادحاً بالرجولة وغير متناسب مع مَقامِها، فيتركون خدمة أنفسهم في البيت، ويأنفون من مساعدة زوجاتهم في أعباء المنزل، فلا تراه إلا صارخاً يطلب الماء تارة، والطعام تارة، وبقية حاجاته الشخصية في تارات أخرى، وكأنه يقيم في فندق من فنادق النجوم الخمسة، ومن يشاركه البيت هم خدمه الخاص، ولهؤلاء نذكر ما تقوله أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في وصفه ﷺ ، فقد سئلت: ما كان النبي ﷺ يصنع في بيته؟ فقالت: (كان يكون في مهنة أهله - تعني خدمةَ أهله - فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة)، وفي رواية: (كان بشراً من البـشر، يَفْلي ثوبه، ويحلب شاتَه، ويخدم نفسه) ([6]).

قال المناوي: " فيه ندب خدمة الإنسان نفسَه، وأن ذلك لا يخل بمنصبه وإن جل"([7]).

ويضيف ابن بطال: "من أخلاق الأنبياء التواضعُ، والبعدُ عن التنعم، وامتهانُ النفس، ليُستنَّ بهم، ولئلا يَخلُدوا إلى الرفاهية المذمومة، وقد أشير إلى ذمها بقوله تعالى: ﴿ وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً ﴾ (المزمل: 11) ([8]).

ومن عجيب ما نسمع من أخبار بعض الأزواج أنه يكثر السمر والسهر خارج البيت أو مع ضيوفه، ولا تجده كذلك مع زوجه التي لا تسمع منه إلا توجيه الأوامر: اصنعي ولا تصنعي، ولربما تكبر هذا المسكين عن الجلوس إلى زوجته ومباسطَتِها وتبادلِ الحديث معها.

ولهذا وأمثاله نقول: إن النبي ﷺ ورغم كثرة أعبائه ومشاغله جلس مرة يسامر زوجه عائشة، فسمع منها قصة عشر نسوة في الجاهلية، تحكي كل واحدة منهن قصتها مع زوجها، والنبي ﷺ يستمع لذلك كله بإصغاء وسرور، والحديث طويل معروف مشهور بحديث أمِ زَرْع، فلم تمنعه أعباء الأمة وواجبات الرسالة عن الوفاء بحق زوجه في المؤانسة والمباسطة.

قال النووي: "قال العلماء: في حديث أم زرعٍ هذا فوائد، منها استحباب حسن المعاشرة للأهل"([9]).

وبعض الأزواج لربما يؤانس زوجته في الحديث في بعض الأوقات دون بعض، فهو لا يطيق كلامها إذا أتى من عمله متعباً أو كان الوقت في الليل متأخراً، لكن النبي ﷺ لم يكن كذلك، فمؤانسته ﷺ لأزواجه ولطفُه لا يعرف وقتاً دون وقت، تقول عائشة رضي الله عنها : (كان رسول الله ﷺ يصلي [في قيام الليل] جالساً، فيقرأ وهو جالس، فإذا بقي من قراءته نحوٌ من ثلاثين أو أربعين آية قام فقرأها وهو قائم، ثم ركع ثم سجد؛ يفعل في الركعة الثانية مثل ذلك، فإذا قضى صلاته نظر، فإن كنت يقظى تحدث معي، وإن كنت نائمة اضطجع) ([10]).

ولو عرض هذا الأمر على بعض الناس ، فقيل له بأن فلاناً يجالس زوجته ويسامرها في الساعات الأخيرة من الليل، لأجاب بأن هذا وقت السحر، وقت القيام والتهجد والدعوات، وقوله صحيح، لكن السمر مع الزوجة هو أيضاً من عظيم العبادات وفاضِلها.

ومن ملاطفة النبي ﷺ لأزواجه مسابقتُه لعائشة رضي الله عنها، تحكي أم المؤمنين أنها كانت مع النبي ﷺ في سفر: فسابقتُه فسبقْتُه على رجليِّ، فلما حملت اللحم سابقتُه فسبقني. فقال: «هذه بتلك السبقة» ([11]).

ومن عجيب لطف النبي ﷺ ما صنعه مع عائشة حين جاء بعض الأحباش، ليلعبوا في المسجد بحرابهم، تقول عائشة: (فسترني رسول الله ﷺ‬ وأنا أنظر، فما زلت أنظر حتى كنت أنا أنصرف)، وتعقِّب عائشة رضي الله عنها على هذا الهدي الجميل بدعوة المسلمين إلى التأسي به ﷺ: (فاقدُروا قدْر الجارية الحديثةِ السن)([12]).

ولئن كان الكثير من الأزواج يأنف من استشارة أزواجهم في قراراتهم الخاصة أو المتعلقة بشؤون الأسرة، فيرى أن من حقه الانفراد بالقرار دون استشارة زوجته التي تشاركه الحياة وآلامها، وما درى بأن النبي ﷺ - المسدد بالوحي - استشار أزواجه في قضايا تتعلق بالأمة، لا بالأسرة فحسب، كما في استشارته لزوجه أم سلمة يوم الحديبية.

والقصة بتمامها أنه لما وقّع النبي ﷺ اتفاق الحديبية كان من شروطه أن يعود النبي ﷺ وأصحابه إلى المدينة من غير اعتمار، فأمر النبي ﷺ أصحابه فقال: «قوموا فانحروا، ثم احلقوا»، فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات.

فلما لم يقم منهم أحد؛ دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس. فقالت أم سلمة: (يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بُدْنَكَ وتدعو حالِقَك فيحلِقَك، فخرج، فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك، نحر بُدْنَه، ودعا حالِقه فحلَقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلِق بعضاً حتى كاد بعضُهم يقتل بعضاً غماً) ([13]).

وينبه ابن حجر في شرحه الحديث إلى جملة من فوائده: "فيه فضل المشورة، وأن الفعل إذا انضم إلى القول كان أبلغَ من القول المجرد .. وجوازُ مشاورة المرأة الفاضلة، وفضلُ أم سلمة ووفُورُ عقلها"([14]).

وهكذا فالنبي ﷺ يستشير زوجه ويأخذ برأيها، ولا يأنف من ذلك، ولا يراه قدحاً في عقله أو رجولته أو رأيه.

ومازال النبي ﷺ يوصي مرة بعد مرة بحسن عشـرة النساء وحسن التعامل معهن، ومراعاة طبيعة الاختلاف في الطبيعة بين جنس الذكورة والأنوثة، فقد قال ﷺ: «واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن خلقن من ضِلَع، وإن أعوج شيء في الضِلَع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسـرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيراً» ([15]) ، وضلع المرأة هو غلبة العاطفة عليها بما يوقعها في الخلاف مع الرجل الذي تغلب عليه العقلانية في التحليل والتفكير.

وفي هذا الحديث تكررت وصاة النبي ﷺ بالنساء حتى حال الإساءة ، وفيه تنبيه على أمور مهمة، "في الحديث الندبُ إلى المداراة لاستمالة النفوس وتألف القلوب، وفيه سياسة النساء بأخذ العفو منهن، والصبر على عوجهن، وأن من رام تقويمهن فاته الانتفاع بهن، مع أنه لا غنى للإنسان عن امرأة يسكن إليها ويستعين بها على معاشه ، فكأنه قال : الاستمتاع بها لا يتم إلا بالصبر عليها"([16]).

 وفي حجة الوداع وأمام جموع الصحابة وقف النبي ﷺ مذكراً بحقوق النساء على أزواجهن ، فحمد الله وأثنى عليه وقال: «ألا واستوصوا بالنساء خيراً، فإنما هن عوان عندكم [أي مثل الأسيرات عندكم] .. ألا إن لكم على نسائكم حقاً، ولنسائكم عليكم حقاً، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشَكُم من تكرهون، ولا يأذنَّ في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهنَّ عليكم أن تحسنوا إليهن في كِسوتهن وطعامهن» ([17]).

التعامل مع المرأة الغيراء :

ولن يفوتنا هنا التنبيه على حال تضطرب فيها النساء، فيحصل منها ما قد يؤدي إلى نفرة وجفاء، وهو حال الغيرة، والغيرة صفة حميدة يتصف بها المؤمنون والمؤمنات، لكن البعض وخاصة من النساء تستبد بها الغيرة ، فتخرج عن طور الاعتدال إلى الإفراط الذي يسيء إلى الحياة الزوجية ويصبغها بطابع النكد وكثرة الخصام.

وتزداد الغيرة في المرأة إذا كان لزوجها أكثر من زوجة، فتراها ترتاب بظلمه لها وتجافيه عنها بحق وبغير حق، ولعلها تتهمه بالميل إلى ضرتها بمبرر وبغير مبرر.

ومن أراد التعرف على قدر غيرة النساء على أزواجهن؛ فليصغ إلى قصة ترويها عائشة رضي الله عنها تصف غيرتها وغيرة النساء بني جنسها: كان النبي ﷺ إذا خرج أقرع بين نسائه، فطارت القرعة مرة لعائشة وحفصة، وكان النبي ﷺ إذا جاء الليل سار مع عائشة يتحدث.

فقالت حفصة: ألا تركبين الليلة بعيري وأركب بعيرك، تنظرين وأنظر؟ [أي تجرب كل منا جمل الأخرى وترى كيف هو] فقالت عائشة: بلى. فركبتُ.

 فجاء النبي ﷺ إلى جمل عائشة وعليه حفصة، فسلم عليها، ثم سار حتى نزلوا، وافتقدته عائشة فغارت، فلما نزلوا جعلت رجليها بين الإذخر وجعلت تقول: (يا رب سلط علي عقرباً أو حية تلدغني، ولا أستطيع أن أقول له [أي للرسول] شيئاً) ([18])، وهذا الذي فعلته وقالته رضي الله عنها "حملها عليه فرْطُ الغَيرة على رسول الله ﷺ ، وقد سبق أن أمر الغيرة معفو عنه"([19]) لغلبته على المرأة.

فكيف لنا أن نتعامل مع غيرة زوجاتنا، وكيف نتصـرف تجاه ما يصدر منهن من حب صادق دفعهن لتـصرف خاطئ معنا، فالحب ينتج غيرة، والغيرة تحتاج إلى رفق وروية، كما تحتاج إلى عدل وإنصاف.

إن التأمل في حياة النبي ﷺ وكيفية تعامله مع مثل هذه المواقف يكشف عن تقديره ﷺ لما يستتر خلف الغيرة من حب كامن له في قلب زوجه ورغبتها أن تكون الأثيرة عنده ﷺ، وهكذا يقرأ الزوج الوفي المحب الموقف السلبي بعين مفعمة بالحب والرضا.

وها هو النبي ﷺ يجلس عند بعض نسائه، فترسل إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام إلى رسول الله، وهو في بيت ضرتها، فتغار الزوجة صاحبة البيت، فتـضرب يد الخادم، فتسقط الصحفة من يده وتنفلق ويتناثر ما فيها من الطعام.

وقبل أن نسترسل في معرفة ردة فعل النبي ﷺ تجاه هذه الإساءة من زوجه التي غارت من أختها، أود أن أسأل قارئي الكريم عما سيفعله لو حصل هذا الفعل من زوجته.

 وقبل أن يجيبني بما أعرف من المعهود في أخلاقنا وتصرفاتنا أنقل ما صنعه النبي ﷺ، فقد جمع فِلَق الصحفة، ثم جمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، وهو يقول: «غارت أمكم»، لينتهي الموقف بيسر ولطف.

لكن غيرة الزوجة صاحبة البيت لا تبرر الظلم الذي لحق بالثانية، لذا سارع النبي ﷺ إلى رد الحق لصاحبته، فحبس النبي ﷺ الخادم حتى أتي بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كُسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كَسرت([20]) ، وفي رواية أنه قال: «طعام بطعام، وإناء بإناء»([21])، فتغاير النساء لن يمنع العدل بينهن.

ويستخرج ابن حجر من هذه الحادثة جملة من الفوائد، ويهمنا هنا أن "فيه إشارة إلى عدم مؤاخذة الغيراء بما يصدر منها، لأنها في تلك الحالة يكون عقلُها محجوباً بشدة الغضب الذي أثارته الغيرة، وقد أخرج أبو يعلى بسند لا بأس به عن عائشة مرفوعاً: «أن الغيراء لا تبصر أسفل الوادي من أعلاه» ([22]).

وهو ﷺ لن يغتفر إساءة الواحدة منهن إلى الأخرى بسبب غيرتها، لما فيه من ظلم للأخرى وهتك لحرمتها، لذا لما تحدثت عائشة بين يدي النبي ﷺ عن صفية فقالت: يا رسول الله، إن صفية امرأة. وأشارت بيدها هكذا، كأنها تعني قصيرة.

فلم يغفر النبي ﷺ لها قولها، بل قال ناصحاً ومؤدباً ورافضاً الاستماع للغيبة: «لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجتْه» ([23])، وهذا الحديث "من أعظم الزواجر عن الغيبة أو أعظمها، وما أعلم شيئاً من الأحاديث بلغ في ذمها هذا المبلغ"([24]).

وبينما هو ﷺ جالس بين أزواجه أتته عائشة بخزيرة [وهو لحم ينثر عليه الدقيق] ، تقول عائشة: فقلتُ لسودة - والنبي ﷺ بيني وبينها-: كلي، فأبتْ، فقلتُ:  لتأكلِن أو لألطخن وجهكِ ، فأبتْ، فوضعتُ يدي في الخزيرة، فطليتُ وجهها ، فضحك النبي ﷺ ، فوضع بيده لها [أي لسودة]، وقال لها : «الطخي وجهها» ، فضحك النبي ﷺ([25])، فحول النبي ﷺ بحكمته تغاير أزواجه إلى موقف باسم عمّق من خلاله قيم الحب والعدل والوئام.

وهكذا، فإن النبي ﷺ كان يحتمل غيرة زوجاته، ويرشِّد هذه الغيرة فلا يسمح لواحدة منهن أن تظلم أختها، وهو من جهته ﷺ كان يقيم العدل بينهن ويكرمهن جميعاً ، كيف لا وهو القائل: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وُلُّوا» ([26]).

ولنصغ إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي تحدث عن موقف غريب لها في غيرتها على رسول الله ﷺ فتقول: لما كانت ليلتي التي هو عندي ؛ انقلب فوضع نعليه عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه، فلم يلبث إلا ريثما ظن أني قد رقدت، ثم انتعل رويداً ، وأخذ رداءه رويداً، ثم فتح الباب رويداً، وخرج رويداً.

ولم تطق عائشة خروجه في ليلتها ، وغارت على النبي ﷺ، وظنت أنه يذهب في ليلتها إلى بعض أزواجه، وكيف لا تغار على حبيبها ﷺ ، ومثله يُغار عليه، تقول: جعلت درعي في رأسي، واختمرت، وتقنعت إزاري، وانطلقت في إثره، حتى جاء البقيع فرفع يديه ثلاث مرات، فأطال.

ثم تحكي عائشة أن النبي ﷺ رجع إلى بيته، فأسرعت، ودخلت البيت قبله، وتصنعت النوم ، فقال لها النبي ﷺ معاتباً: «أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله .. فإن جبريل أتاني حين رأيتِ، ولم يدخل عليَّ وقد وضعتِ ثيابَكِ، فناداني فأخفى منكِ، فأجبتُه؛ فأخفيته منكِ، فظننتُ أن قد رقدتِ، وكرهتُ أن أوقظكِ، وخشيتُ أن تستوحشي، فأمرني أن آتي البقيع، فأستغفر لهم»([27]).

وفي رواية أنه ﷺ سألها: «أغرتِ يا عائشة»؟ فقالت: ومالي ألا يغار مثلي على مثلِك؟([28]).

وهكذا نرى في معاملة النبي ﷺ مع أزواجه وأهل بيته ما يصلح الكثير من الأوضاع الخاطئة في حياتنا الاجتماعية، ويحاصر التصرفات المشينة التي يصنعها البعض مع أزواجه، وينقلنا للحديث عن مثال أسمى يقدم سيد الأزواج محمد ﷺ.


 المبحث الثاني: معاملة النبي صلى الله عليه وسلم للأطفال

وقفنا على صور الحب وحسن العشرة في علاقة النبي ﷺ مع زوجاته، ورأينا جملة آداب لم يبخل النبي ﷺ بمثلها عن زهرات البيوت وزينة الدنيا وبهجتها، وهم أطفالها شموع الأمل الباسم فيها، فلهؤلاء الحظ الأكبر في الرعاية والعناية، ويستحقون النصيب الأوفى من أوقاتنا وجهدنا.

الطريق الأقصر إلى قلوب الصغار هو حسن رعايتهم وملاطفتهم وممازحتهم ومنحهم المزيد من الحنان والاهتمام، وهو ما صنعه النبي ﷺ مع العديد من الأطفال الذين كانوا يتلألؤون من حوله، ومن هؤلاء ابنه إبراهيم، وحفيداه الحسن والحسين عليهما رضوان الله أجمعين.

يحكي لنا أنس بن مالك عن حنو النبي ﷺ على ابنه إبراهيم وغيره من الأطفال، فيقول: (ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله ﷺ، كان إبراهيم مسترضعاً في عوالي المدينة، وكان ينطلق ونحن معه، فيدخل البيت .. فيأخذه، فيقبِّلُه ثم يرجع) ([29])، هذه العاطفة الدفاقة بالحب والحنان لم تشغل النبي ﷺ عنها زحمة الواجبات وكثرة الأعباء، فلكل وقته، ولكل حقه في وقت النبي ﷺ ومستحقه.

ويواصل أنس حكاية حال النبي ﷺ مع الأطفال، فيقول: (كان رسول الله ﷺ من أفكه الناس مع صبي) ([30])، وهذه المعاني أدركها أنس في طفولته التي قضاها في بيت النبي ﷺ يخدمه عشر سنين، فهو أعرف الناس بها، وهو أحفظ الناس لها.

إن اللغة التي يفهمها الطفل هي لغة الحب، ومفرداتها القبلة الحانية والحضن الدافئ واللعب البريء، وهذه اللغة الرخيصة في تكاليفها عظيمة في قيمتها، والعجب في بخل بعض الناس بها تكبراً وغروراً، بل قسوة وجفاء، من هؤلاء الأقرع بن حابس التميمي، فحين رأى رسول الله ﷺ يقبِّل حفيده الحسن بن علي؛ قال: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً. أي فخر يفتخر به هذا؟ أيفخر المرء بقسوة قلبه وجفاء معاملته؟ هل يخدش مكانته ويحط من منزلته لو كان يحنو على طفله بقبلة أبوية؟

فنظر إليه رسول الله ﷺ ثم قال معقباً بكلمات موجزة مؤثرة: «من لا يَرحم لا يُرحم» ([31]).

وفي مرة أخرى قدم ناس من الأعراب على رسول الله ﷺ فقالوا : أتقبِّلون صبيانكم؟ فقال ﷺ: « نعم». قالوا : لكنا والله ما نقبِّل! فقال رسول الله ﷺ: «أو أملك إن كان الله نزع من قلوبكم الرحمة!» ([32]).

ومما يطرب له الطفل ويستأثر بقلبه أن يحمله ذووه، وأن يضموه إلى صدورهم، وهو أمر متعِب أو مضجِر للآباء، لكنه ضروري، ولا غَناء عنه لمن أراد غرس الحب في الطفولة وجني البر في الشباب والرجولة، يقول أبو هريرة: خرج النبي ﷺ في طائفة النهار حتى أتى سوق بني قينقاع، ثم جاء إلى فِناء بيت فاطمة فقال: «أثمَّ لُكع، أثمَّ لُكع» [أي: أين الصغير، ومقصِدُه الحسن] فحَبَسَته أمه شيئاً، فظننتُ أنها تلبسه سِخاباً أو تغسِّلُه، فجاء الحسن يشتد حتى عانقه وقبَّله وقال: «اللهم أحبِبْه، وأحبَّ من يحبُّه» ([33])، نسأل الله أن يجعلنا ممن أحبه وأحب من يحبه.

وأما أسامة بنُ زيدٍ الذي كان يلقب بالحِبِّ ابنِ الحِبِّ فيذكر أن النبي ﷺ كان يحمله ويحمل الحسن ويقول: «اللهم أحبَّهما فإني أحبُّهُما» ([34]).

ولعل من أهم حقوق الطفل ملاعبته وملاطفته، وقد كان لرسول الله ﷺ من هذا الأدب الكيل الأوفى، لم يكن ﷺ يتحرج من ملاطفة الحسن بإخراج لسانه له، فيراه الصبي ، فيهش له ويفرح([35]).

ودخل جابر يوماً على النبي ﷺ ، فرآه حاملاً الحسن والحسين على ظهره، وهو يمـشي بهما. فقال جابر لهما: نِعم الجملُ جملُكما، يقصد رسول الله ﷺ، فأجابه النبي ﷺ: «ونِعم الراكبان هما» ([36]).

ومن ملاعبته للأطفال ﷺ أنه كان يصفّ عبد الله وعبيد الله وكثيراً بَني العباسِ ثم يقول: «من سبق إليّ فله كذا». فكانوا يستبقون إليه، فيقعون على ظهره وصدره، فيقبِّلُهم ويلتزمهم ﷺ([37]).

ومما يحسن في معاملة الأبناء إهداؤهم، فالهدية سبب في استجلاب محبة الكبار فضلاً عن الصغار، وقد صنع النبي ﷺ ذلك حين أهدى النجاشي إلى رسول الله ﷺ حلَقة، فيها خاتم ذهب، فيه فص حبـشي، فأخذه رسول الله ﷺ بعود وإنه لمعرض عنه، ثم دعا بابنةِ ابنتِه، أمامةَ بنتِ أبي العاص فقال: «تحلَي بهذا يا بنية» ([38]).

ومن ممازحته ﷺ لأنس أنه كان يعدل في ندائه عن اسمه الصريح، فيناديه متحبباً: «يا ذا الأذنين» ([39]).

ومازح ﷺ أيضاً أخاه، وسأله عن عصفوره الذي كان يلعب به، يقول أنس: إنْ كان رسول الله ﷺ ليخالطُنا حتى يقول لأخ لي صغير: «يا أبا عمير ما فعل النغير؟».

وفي رواية لأحمد أن النبي ﷺ كان يدخل على أم سليم [أمِ أنس]، ولها ابن من أبي طلحة يكنى: أبا عمير، وكان يمازحه، فدخل عليه فرآه حزيناً فقال: «مالي أرى أبا عميرٍ حزيناً؟» فقالوا: مات نُغَرُه الذي كان يلعب به، قال: فجعل يقول: «أبا عمير، ما فعل النغير» ([40]).

وفي الحديث فوائد منها: "جواز تكنية من لم يولَد له، وتكنية الطفل، وأنه ليس كذباً، وجواز المزاح فيما ليس إثماً .. وملاطفة الصبيان وتأنيسهم، وبيان ما كان النبي ﷺ عليه من حسن الخلق وكرم الشمائل والتواضع، وزيارة الأهل، لأن أم سليم والدة أبي عمير هي من محارمه ﷺ"([41])، أي بالرضاع.

وأما محمود بن الربيع، وهو من صغار الصحابة، فيقول: (عقَلتُ [أي أتذكر] من النبي ﷺ مجّةً مجّها في وجهي؛ وأنا ابن خمسِ سنينَ من دلو) ([42])، والمج "طرح الماء من الفم بالتزريق، وفي هذا ملاطفةُ الصبيان وتأنيسُهم وإكرام آبائهم بذلك، وجوازُ المِزاح"([43]).


أدب المعاملة مع الأطفال في وقت الجد :

الطفل لا يعرف عادة وقتاً للعب وآخرَ للجد، وهو يفترض أن كل الأوقات مخصصة له، لذا فالواجب على المربي ، أباً كان أو أُماً، أن يراعي مشاعره وطفولته ولو في أوقات الجد، كحضرة الضيوف أو المشاغل المهمة أو حتى وقت العبادات الشرعية، وقد صنع ذلك النبي ﷺ ، قال أبو قتادة : (خرج إلينا رسول الله ﷺ وأمامة بنت أبي العاص بنتُ ابنته على عنقِه، فقام في مصلاه، وقمنا خلفه، وهي في مكانها الذي هي فيه.

قال أبو قتادة: فكبر فكبرنا، حتى إذا أراد رسول الله ﷺ أن يركع أخذها فوضعها، ثم ركع وسجد حتى إذا فرغ من سجوده، ثم قام أخذها ، فردها في مكانها، فما زال رسول الله ﷺ يصنع بها ذلك في كل ركعة حتى فرغ من صلاته ﷺ)([44]).

ولعلي أحاول مع القارئ الكريم تصور الحال لو حدث مثل هذا في بعض مساجدنا اليوم، فحمل الإمام طفله، أو دخل طفل بعض مساجدنا فجال بين الصفوف ؛ فضلاً عن أن يصل إلى المحراب، فيقف بجوار الإمام، كيف يكون الحال؟ وماذا سنقول عن والده؟ وكيف سنتصرف بعد نهاية الصلاة؟

إجابات تتدافع في ذهني، ولا أجرؤ على البوح بها، لكنها على كل حال ليست كالذي صنعه النبي ﷺ مع حفيدته في الصلاة.

ويحكي لنا نحوَه شدادُ t موقفاً مماثلاً: خرج علينا رسول الله ﷺ في إحدى صلاتي العشِي الظهر أو العصر، وهو حاملُ حسنٍ أو حسينٍ، فتقدم فوضعه، ثم كبر للصلاة فصلى، فسجد بين ظهري صلاته سجدة أطالها.

 قال شداد: رفعت رأسي، فإذا الصبي على ظهر رسول الله ﷺ وهو ساجد، فرجعت في سجودي، فلما قضـى رسول الله ﷺ الصلاة؛ قال الناس: يا رسول الله، إنك سجدت بين ظهريِّ الصلاة سجدة أطلتَها؛ حتى ظننا أنه قد حدث أمر أو أنه يوحى إليك؟ فقال ﷺ: «كل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني، فكرهت أن أُعجِّله حتى يقضيَ حاجَته» ([45]).

نعم، لقد انتظره حتي يقضي حاجته من اللعب، فالطفل لا يميز بين وقت الهزل والجد، ولا يتصور أن وقتاً ما ينشغل جده عنه، فهو يريد نصيبه من الحب واللعب والدلال، إني لأجزم أن أحداً من الآباء اليوم لا يصنع ما كان محمد ﷺ يصنعه، لكنه الرحمة المسداة ﷺ.

وذات مرة، بينما النبي ﷺ يخطب على المنبر، وألوف المسلمين تشرئب أعناقهم وهي تستمع إليه؛ إذ جاء الحسن بن علي، فصعد إليه المنبر، فلم يعب النبي ﷺ صنيعه، ولم ينهره، بل ضمه إليه، ومسح على رأسه وقال: «ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح على يديه بين فئتين عظيمتين من المسلمين» ([46]).

ومرة أخرى ماذا نصنع مع مثل هذا الطفل لا يعرف حرمة الصلاة ولا المنبر؟ هل ننهره ونجرح شعوره؟ هل نطرده ونرسله إلى أمه مع رسالة تأنيب لتقصيرها في الإمساك به وحجزه عن مواطن الجد؟ كيف ينبغي أن نتعامل مع مثل هذه الحال؟ أوليس هدي محمد ﷺ خير الهدي وأحسنه؟ إنه ﷺ القائل: «إن من أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وألطفهم بأهله» ([47]).

الكذب على الأطفال :

ويعلمنا الرسول ﷺ أدباً تحتاجه الكثير من الأمهات اليوم، وهو عدم الكذب على الصبي، ولو في باب المُزاح، فكما حرم الله الكذب في المِزاح مع الكبير، فإنه يحرم مع الصغير بلا تفريق، فعن عبد الله بن عامر أنه دعته أمه يوماً ورسول الله ﷺ قاعد في البيت، فقالت: ها، تعال أعطيك، فقال لها رسول الله ﷺ: «وما أردت أن تعطيه ؟» قالت : تمراً، فقال لها رسول الله ﷺ : «أما إنك لو لم تعطه شيئاً كُتبتْ عليكِ كذبة»، وفي رواية أنه ﷺ قال: «من قال لصبي: تعال هاك، ثم لم يعطه فهي كذبة» ([48]).

فالكذب على الصغير في ممازحته كالكذب على الكبير، وقد قال ﷺ: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً ليضحك بها القوم، وإنه ليقع بها أبعد من السماء» أي يقع بها في النار أبعد من وقوعه من السماء إلى الأرض".

وهكذا فإن النبي ﷺ كان يمازح الأطفال ويمازح أهل بيته، ويتقبل مزاحهم عنده، ولا يستنكف من هذا الخلق الجميل الذي نعجب لاستنكاف كثير من الآباء عنه، ونراه نوعاً من الكبر والترفع على أهله، وهو مخالف لهدي النبي ﷺ في المعاملة مع أهل البيت والأطفال.

وما رأينا من لطف النبي ﷺ بأبنائه وأحفاده وأقرانهم يستوقفنا ويدعونا إلى إعادة بناء علاقاتنا الأسرية على أساس متين من الحب الذي نعبر عنه لأبنائنا بتقبيلهم والحنو عليهم وتملك قلوبهم ، وإشباع عواطفهم بضـروب الحنان والود الخالص.


 المبحث الثالث: معاملة النبي صلى الله عليه وسلم مع الخدم وصغار الموظفين

تشكو كثير من مجتمعاتنا اليوم من سوء معاملة الخدم من أصحاب البيت أو العمل، أو خادمة تضـربها صاحبة المنزل، وتحولت هذه المعاملة السيئة إلى ظاهرة مقلقة في الكثير من بلاد العالم، ووصل – وللأسف - بعض شررها إلى المسلمين.

منهج النبي ﷺ في المعاملة مع إساءات الخدم وأضرابهم

و إزاء هذه الظاهرة المقيتة نرصد هدي الرحمة المسداة ﷺ وتعامله مع الخدم وأضرابهم، حال إساءتهم وخطئهم، ولن نتحدث عن حال إحسان العبد أو الخادم؛ إذ المفترض في هذه الحال الشكر ومقابلة الإحسان بالإحسان.

وبداية، فإنه يحسن بنا التأكيد على أن الضرب سوء وجفاء في معاملة هؤلاء وغيرهم، لذا نقلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ أنه (ما ضرب رسول الله ﷺ خادماً ولا امرأة قط) ([49]).

وورد عن رسول الله ﷺ النهي عن ذلك، فقد أتى رجلٌ رسولَ الله ﷺ فقال: يا رسول الله إن لي خادماً يسـيء ويظلم، أفأضربه؟ فقال ﷺ: «تعفو عنه كل يوم سبعين مرة» ([50])، والمراد من السبعين الكثرة لا التحديد، فإن "العفو مندوب إليه مطلقاً دائماً لا حاجة فيه إلى تعيين عدد مخصوص .. والمراد بالسبعين الكثرة دون التحديد"([51]).

فهل نصنع مثل هذا مع خدمنا؟! هل يصبر الواحد منا على سبعين خطأ في كل يوم؟! إن واحداً من خدمنا لا يخطئ في اليوم عُشر هذا، فما بالنا لا نعفو عن هفواتهم، ولم لا نتجاوز عنها، أما لنا قدوةٌ حسنةٌ بالنبي ﷺ وهو يأمر بالعفو عن سبعينَ خطأ في كل يوم.

وأما اللجوء إلى ضرب الخدم([52]) ففعل موجب غضبَ الله تعالى لما فيه من الاضطهاد والتجبر على هؤلاء المستضعفين الذين لا يجدون سوى الله ناصراً لهم، وليصغ الذين يضـربون خدمهم إلى ما يرويه لنا أبو مسعود البدري بقوله: كنت أضرب غلاماً لي بالسوط، فسمعت صوتاً من خلفي: «اعلم أبا مسعود» فلم أفهم الصوت من الغضب، فلما دنا مني؛ إذا هو رسول الله ﷺ، فإذا هو يقول: «اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام» قال: فقلت لا أضرب مملوكاً بعده أبداً.

وفي رواية: فقلتُ: يا رسول الله، هو حر لوجه الله. فقال ﷺ: «أما لو لم تفعل للفحتك النار، أو لمستك النار» ([53]).

وإذا كان هذا الضرب حراماً للملوك المقيد حريته؛ فهو أشد حرمة وإثماً في الخادم والسائق وأمثالهما؛ لكمال الحرية وتمامها.

ويستنبط النووي بعض الفوائد من الحديث فيذكر منها: "الحث على الرفق بالمملوك، والوعظ والتنبيه على استعمالِ العفو وكظمِ الغيظ، والحكمِ [بالرحمة] كما يحكم الله على عباده"([54]).

وللحد من ظلم العبيد والتطاول عليهم بالضـرب جعل النبي ﷺ ضرب المملوك من موجبات عتقه، حتى يخلص ضاربه من إثم الضرب والتطاول عليه، وقد أعتق ابن عمر مملوكاً له، ثم أخذ من الأرض عوداً فقال: ما فيه من الأجر ما يسوى هذا [أي أن عتاقه لغلامه ليس فيه أجر]، إلا أني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه» ([55]) فابن عمر إنما يعتق مملوكه لأنه ضربه، وكل ما يرقبه من عِتاقه أن يتجاوز الله عنه، ولا يرى أنه مستحق من الأجر ما يستحقه المتبرع بذلك ابتداء.

وفي موقف آخر عالج النبي ﷺ بمثل هذا الدواء تطاول البعض على مستخدميهم، فيقول معاوية بن سويد : كنا بني مقرن على عهد رسول الله ﷺ ليس لنا إلا خادم واحدة، فلطمها أحدنا، فبلغ ذلك النبي ﷺ فقال: «أعتقوها» قالوا: ليس لهم خادم غيرُها. فقال: «فليستخدموها، فإذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها»([56]).

 وحتى لا يقع المرء في ضرب خادمه أو الإساءة إليه أمر النبي ﷺ بالتخلص من المملوك الذي لا يلائم مالكه، حتى لا يكون خلاف الطباع بينهما سبباً في ظلمه واضطهاده، فقد قال ﷺ: «من لاءمكم من مملوكيكم فأطعموه مما تأكلون، واكسوه مما تلبسون، ومن لم يلائمكم منهم فبيعوه، ولا تعذبوا خلق الله»([57])، وقياساً عليه يمكن القول بأن الخادم أو السائق أو المستخدم الذي لا يلائم صاحب العمل في طباعه؛ فالأفضل مفارقته؛ والبحث عن غيره، حتى لا يقع رب العمل في ظلمه والإضرار به.

وهذا الأدب في التعامل مع الخدم المسيئين نبه عليه النبي ﷺ رجلاً قعد ذات يوم بين يدي النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، إن لي مملوكين يُكذِّبونَني ويخونونَني ويعصونَني؛ وأشتمُهم وأضربُهم، فكيف أنا منهم؟ فأجابه ﷺ ناصحاً وواعظاً: «يحسب ما خانوك وعصوك وكَذّبوك، وعقابُك إياهم، فإن كان عقابُك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافاً لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلاً لك، وإن كان عقابُك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل».

 فتنحى الرجل، فجعل يبكي ويشهق لما يعلم من حاله مع مملوكيه وما ينتظره بين يدي الله الديان يوم القيامة، فقال رسول الله ﷺ : «أما تقرأ كتاب الله: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ (الأنبياء: 47)» ، فقال الرجل: والله يا رسول الله ما أجد لي ولهؤلاء شيئاً خيراً من مفارقتهم، أشهدكم أنهم أحرار كلهُم([58]).

وقد حذر النبي ﷺ في حديث آخر من سوء المعاملة أبلغ تحذير وأشده حين قال: «لا يدخل الجنة سيئ الملَكة» ([59])، والمراد سيء المعاملة مع العبيد والخدم، ويقاس عليه الخدم وغيرهم.

وفي رواية لابن ماجه زاد فيها: «فأكرموهم ككرامة أولادكم، وأطعموهم مما تأكلون» ([60]).

وهكذا فالله يحسِب لنا وعلينا معاملتنا مع أولئك المساكين الذين يقومون بخدمتنا، والعاقل يضِنُّ بآخرته أن يفسدها معاملتُه لمثل هؤلاء الذين لا تلائمه طباعهُم، فالأفضل مفارقتُهم والسلامة من ظلمهم ومن الوقوف بين يدي الله يوم الحساب للقصاص لهم.

وما فتئ النبي ﷺ يزجر الذين يقسون على خدمهم، ومن ذلك أن عميراً مولى آبي اللحم قال: أمرني مولاي أن أجفف لحماً، فجاءني مسكين، فأطعمته منه، فعلم بذلك مولاي فضربني، فأتيت رسول الله ﷺ فذكرت ذلك له، فدعاه فقال: «لم ضربتَه؟» فقال: يعطي طعامي بغير أن آمرَه. فقال ﷺ: «الأجر بينكما» ([61]) فأرشده النبي ﷺ إلى الخير الذي ساقه إليه غلامُه، فحق هذا الغلام عليه الشكر؛ لا الزجر والضرب.

وحتى اليوم الأخير من حياة النبي ﷺ لم يخل من وصاته ﷺ بالمستضعفين والمساكين؛ رغم ضعف جسده ووهنه وألام النزع، يقول أنس بن مالك: كانت عامة وصية رسول الله ﷺ حين حضره الموت: «الصلاة وما ملكت أيمانكم» حتى جعل رسول الله ﷺ يغرغر بها صدره وما يكاد يفيض بها لسانه([62])، فهل ترانا نقدر على تصور حال النبي ﷺ وهو في النزع الشديد، فلا يمنعه ذلك من الوصاة بكل ضعيف مستضعف، فهل ترانا نعمل بوصية نبينا ﷺ الأخيرة ونتأسى به في الامتناع عن إيذاء من يعملون في خدمتنا؟

والوصاة بهؤلاء لا تتوقف عند منع الإساءة إليهم ، بل ترتفع إلى المطالبة بحسن معاملتهم وعدم إرهاقهم بتكالف العمل، بل وبالاهتمام بهم ومشاركتهم في الملبس والمطعم، فقد قال ﷺ : «إخوانكم خولُكم [أي خدمكم وعطية الله لكم] جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده ؛ فليُطعمه مما يأكل، وليُلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم» ([63]).

وفي حديث آخر قال ﷺ: «للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق» ([64])، وفي هذا الحديث "النهي عن سب الرقيق وتعييرهم بمن ولدهم ، والحث على الإحسان إليهم والرفق بهم، ويلتحق بالرقيق من في معناهم من أجير وغيره ، وفيه عدم الترفع على المسلم والاحتقار له .. وإطلاق الأخ على الرقيق ، فإن أريد القرابة فهو على سبيل المجاز لنسبة الكل إلى آدم"([65]).

من حقوق الخدم والمستخدمين :

ومما يوصي به النبي ﷺ في حق الخادم أن يطعمه صاحب العمل من طعامه، لا بل يوصيه ﷺ أن يأكل معه، لا أن ينفرد عنه في الطعام كبراً وترفعاً، فقد قال رسول الله ﷺ: «إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه، فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين أو أكلة أو أكلتين، فإنه ولي علاجه [أي طبخه]) ([66]).

وقد سبق النبي ﷺ إلى هذه الخلة الجميلة، إطعام الخادم، فقد أهدى الصحابي الجليل أنس بن مالك لرسول الله ﷺ ثلاثة طوائر، فأطعم خادمَه طائراً([67]).

أما حين يقصـر صاحب العمل بمسؤوليته فلا يؤدي حقوق خدمه عليه، فإن شرع الله يجعله محلاً للعقوبة والزجر، فحين أساء حاطب بن أبي بلتعة إلى رقيقه، فقصر في إطعامهم سرقوا، فرفع الأمر إلى عمر، فغرمه بذنبهم، وعفا عنهم.

وتفصيل القصة يحكيه لنا يحيى بنُ عبد الرحمن بن حاطب، فيذكر أن رقيقاً لجده حاطب سرقوا ناقة لرجل من مزينة، فانتحروها، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب، فأمر عمر أن تقطع أيديهم.

ثم استدرك عمر، فقال لحاطب: (أراك تجيعهم، والله لأغرمنّك غُرماً يشق عليك)، فأمره أن يدفع للمزني ضعف ثمن الناقة التي سرقها رقيقه، وعفا عنهم بعد أن رأى في جوعهم شبهة تدرأ الحد.

ومما ينبغي للخادم من الحق زيارته في مرضه وتفقد أحواله؛ ولو كان هذا الخادم غير مسلم، كما صنع النبي ﷺ مع غلام يهودي كان يخدمه، فمرض، فأتاه النبي ﷺ يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له أسلم، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم ﷺ، فأسلم.

فخرج النبي ﷺ وهو يقول: «الحمد لله الذي أنقذه من النار» ([68]).

وهذه العيادة للأجير غير المسلم هي بعض البر الذي أوصى به الله في القرآن بقوله: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ (الممتحنة: 8)، والبر المأمور به شامل لكل أنواع الخير وحسن الخلق.

ومما يوصي به ﷺ من حقوق الخدم المسارعة إلى توفيتهم أجورهم وحقوقهم من غير بخس ولا مطل، فقد قال ﷺ : «أعط الأجير أجره قبل أن يجف عرقه»([69]).

 وأما الذين يأكلون حقوق الأجراء فيحذرهم ﷺ بأنه سيكون خصمهم يوم القيامة، فقال: «ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمتُه يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً، فاستوفى منه ولم يوفه أجره » ([70])، وهو عليه الصلاة والسلام خصم لجميع الظالمين؛ إلا أنه أراد التشديد على هؤلاء بالتصـريح([71] فهم متوعدون بالظلمات يوم القيامة: «اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة» ([72]).

وهكذا، فإن ما سقناه من هدي النبي ﷺ في التعامل مع العبيد والموالي، يحثنا على حسن معاملة خدمنا وسائقينا وغيرهم من أُجرائنا؛ إذ هم مشتركون معهم في الضعف وقلة الحيلة، فهؤلاء ظلمهم من أشد الظلم وأقساه، وهذا هو ميزان محبة النبي ﷺ الذي ندعيه جميعاً.

لو كان حبك صادقاً لأطعته          إن المحـب لمن يحـب مطيـع

***

 الفصل الثاني: معاملة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه في حال الخطأ

وفيه مبحثان:

المبحث الأول : القود من النفس

المبحث الثـاني : التعامل مع المخطئ


 المبحث الأول : القود من النفس

كلٌ منا يخطئ في حق الآخرين، فلربما أخذ شيئاً من أموالهم بغير حق، ولربما استطال عليهم بالضرب أو السخرية أو الهمز واللمز، وكل ذلك مسجل علينا في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ولسوف نوفى قصاصَه يومَ القيامة بين يدي الله الحكمِ العدلِ.

والعاقل الحصيف هو من يتخلص من هذه الذنوب والمظالم في الدنيا باسترضاء أصحابها وطلب صفحهم ومسامحتهم، أو بتمكين المظلومين من القود منه والأخذِ بقدر مظلمتهم، فهذا خير له من أن يأتي يوم القيامة مع المفلسين «المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضـى ما عليه؛ أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار» ([73]) فهذا مصير البطالين الذين ما عرفوا قدر الله ولا خافوا جزاءه.

وأما المؤمن فيَفْرَق من عقاب الله وحسابه ، فيتقيه بخصلة جميلة، وهي العدل والإنصاف من النفس والاعتراف بالحق والتراجع عن الظلم؛ هذه فضائل أمر بها الله في القرآن ﴿ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى ﴾ (النحل: 90)، والتزمها النبي ﷺ ، وهو الذي كان خلقه القرآن.

قال المناوي: "والإنصاف من نفسك أي معاملة غيرك بالعدل والقسط، بحيث تحكم له على نفسك بما يجب له" ([74]).

وقد كان رسول الله ﷺ أخوف الناس لربه وأخشاهم له، وكان أحرصهم على أن يلقى الله وليس لأحد عليه مظلمة، وهذا بيّن وجلي لمن تدبر أحواله ﷺ التي أنصف من نفسه، فلقي الله وليس لأحد في رقبته حق يسأله عنه يوم القيامة.

فقبيل وفاته ﷺ وُعِك ، فعصب رأسه، وأخذ بيدي الفضل، فأقبل حتى جلس على المنبر، ثم خطب فقال: «أما بعد، أيها الناس، فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو، وإنه قد دنا مني خُفُوق من بين أظهركم [أي اقترب موته ﷺ]، فمن كنتُ جلدتُ له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنتُ شتمتُ له عرضاً فهذا عرضي فليستقدْ منه، ومن كنتُ أخذتُ له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه» ([75]).

وحذراً من استحياء الصحابة عن المطالبة بحقوقهم قال لهم ﷺ: «لا يقولن رجل: إني أخشى الشحناء من قِبل رسول الله ﷺ، ألا وإن الشحناء ليست من طبيعتي ولا من شأني، ألا وإن أحبكم إلي من أخذ حقاً إن كان له، أو حللني فلقيتُ الله وأنا طيب النفس» ([76]).

ولما سمع الصحابة تأكيد النبي ﷺ على تذكيره بحقوقهم، وأن ذلك مدعاة لمحبته ﷺ قام رجل فقال: يا رسول الله، إن لي عندك ثلاثة دراهم.

 فقال ﷺ: «أما أنا فلا أكذب قائلاً، ولا أستحلفه على يمين، فيم كانت لك عندي؟» فقال: يا رسول الله أتذكر يوم مر بك المسكين، فأمرتني، فأعطيتُه ثلاثة دراهم، فقال ﷺ مخاطباً ابن عمه الفضل بن العباس: «يا فضل أعطه» ([77]) .

وفي يوم بدر، وبينما النبي ﷺ يعدل صفوف أصحابه بقدح في يده؛ مر بسواد بن غزية وهو خارج من الصف، فطعن في بطنه بالقدح، وقال: «استو يا سواد»، فقال: يا رسول الله! أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل، فأقدني.

وهنا يقف التاريخ على أطراف قدميه ليرى فعل هذا النبي القائد، جنديُه يطالبه القود أمام شعبه ورعيته، الذين تثور في مخيلتهم مآثر النبي ﷺ عليهم، فهو رحمة الله لهم، استنقذهم الله به من النار، فهل يمكن بعد هذا أن يضـرب ﷺ وهو حبيب رب العالمين؟ هل سيسلم أشرف الخلق وخاتم النبيين نفسه لميزان العدل الذي ما زال يدعو إليه منذ أن بعثه الله؟

 نعم، لقد كشف رسول الله ﷺ عن بطنه، وقال: «استقد».

لكن سواداً كان أعرف الناس بحق النبي ﷺ وفضله على الناس، فأقبل على بطن النبي ﷺ يقبِّلها.

 فيتساءل النبي ﷺ: «ما حملك على هذا يا سواد؟» ألا تريد القود والنصف والعدل، فدونك بطني، وخذ حقك قبل الوقوف بين يدي العظيم الذي يحسب عنده الحقير والقطمير، فقال سواد: يا رسول الله، حضر ما ترى من القتال، فأردت أن يكون آخر العهد بك: أن يمس جلدي جلدَك([78])، درس بليغ في الحب والعدل، لا يتسامى إلى عليائه إلا العظماء.

وفي موطن ثالث ، وبينما النبي ﷺ يمازح أسيدَ بن حضير؛ طعنه في خاصرته بعود، فقال أسيد: أصبرني. [أي أقدني من نفسك].

فما تريث النبي ﷺ في الأمر وما تلكأ، بل قال: «اصطبر» [أي استقد].

أما أسيد فقد أغراه ما يعرفه من عدل النبي ﷺ وإنصافه لطلب المزيد من النصفة، فقال: يا رسول الله، إن عليك قميصاً، وليس علي قميص؟!

 فرفع النبي ﷺ عن قميصه إحقاقاً للعدل، فاحتضنه أسيد، وجعل يقبل كشحه، ويقول: إنما أردت هذا يا رسول الله([79]).

وهكذا، فرسول الله ﷺ لا يرى بأساً أن يقيد من نفسه في سبيل طلب الصفح والسلامة في الآخرة، وهو الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فهل ترانا نصنع هذا مع من نخطئ عليهم في حياتنا اليومية؟ أولسنا أحوج إلى هذا من نبينا ﷺ؟

واستدان النبي ﷺ من الحبر اليهودي زيد بن سعنة، وقبل حلول أجل الدين بثلاثة أيام أقبل الحَبر يتقاضاه، فجبذ ثوب النبي ﷺ عن منكبه الأيمن، ثم قال: إنكم يا بني عبد المطلب أصحاب مَطلْ [أي مماطلة وتأخير في رد الدين]، وإني بكم لعارف.

 فانتهره عمر لسوء أدبه وغلظته وفجاجته، وقال: (يا يهودي، أتفعل هذا برسول الله ، فو الذى بعثه بالحق لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي رأسك)، أفهكذا يطلب صاحب الحق حقه ممن لا يجحده ولا يتلكأ في أدائه؟! أنسي حبر اليهود أنه يعيش في المدينة بأمان محمد ﷺ وذِمَّته؟ أهكذا تتحدث السوقة مع الخاصة؟ أما كفاه سلاطة لسانه وقلة أدبه حتى تجرأ بجذب ثوب النبي ﷺ؟

لكنه ﷺ نهر عمر، وقال له بإنصاف المؤمن وحِلمِه والبسمة تملأ وجهه الشريف: «يا عمر، أنا وهو كنا إلى غير هذا منك أحوج: أن تأمرني بحسن القضاء، وتأمره بحسن التقاضي، انطلق يا عمر أوفه حقه».

ولم يقف ﷺ عند مقتضى العدل، بل قال: « أما إنه قد بقي من أجله ثلاث، فزده [يا عمر] ثلاثين صاعاً لتزويرك عليه» ([80]).

ويروي لنا أبو هريرة مشهداً آخر مشابهاً، فيذكر أن النبي ﷺ اقترض من رجل، فجاء صاحب الدين إلى النبي فأغلظ له في القول، فهمَّ به أصحاب النبي ﷺ، فقال النبي ﷺ: «إن لصاحب الحق مقالاً، فقال لهم: اشتروا له سناً فأعطوه إياه».

 فقالوا: إنا لا نجد إلا سناً هو خير من سنه. قال: «فاشتروه، فأعطوه إياه، فإن من خيركم أو خيرَكم أحسنكم قضاء» ([81]).

وإن من أقاد من نفسه وأعطى العدل منها لهو من باب أولى يعطيه من قومه وعشيرته وأصحابه، وهو ما صنعه الأسوة الحسنة ﷺ حين بعث أبا جهم بن حذيفة لأخذ الصدقة من بني ليث، فلاجَّه رجل في صدقته، فضربه أبو جهم فشجه، فأتوا النبي ﷺ فقالوا: القود يا رسول الله؟!

فجعل النبي ﷺ يعرض عليهم الصلح، فيقول: «لكم كذا وكذا»، فلم يرضوا.

فقال: «لكم كذا وكذا»، فلم يرضوا فقال: «لكم كذا وكذا»، فرضوا

ثم صعد النبي ﷺ المنبر ، فأخبر الناس بخبر الليثيين، وأنهم لم يرضوا أول الأمر، فقام المهاجرون وهموا بهم سوءاً لولا أن رسول الله ﷺ كفهم، ثم دعا الليثيين، فقال: «أرضيتم؟»، فقالوا: نعم ([82]).

وقد فقه الصحابة هذا المبدأ العظيم من العدل والإنصاف من النفس، فوقف عمر يخطب الناس زمن خلافته فقال: أيها الناس، إني ما أُرسل إليكم عمالاً ليـضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، وإنما أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنةَ نبيكم، فمن فُعل به شيء سوى ذلك فليرفعه إلي، فوالذي نفس عمر بيده لأقصنَّه منه.

 فوثب عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين، لو أن رجلاً أدب بعض رعيته أتقصه منه؟ قال: إي والذي نفسي بيده أقصه، وكيف لا أقصه وقد رأيت النبي ﷺ يقصُّ من نفسه([83]).

ويؤكد ابن شهاب الزهري على شهرة هذا الخلق الكريم بين الصحابة، فيقول: "إن أبا بكرٍ الصديق وعمرَ بنَ الخطاب وعثمانَ بنَ عفان رضي الله عنهم أعطوا القَوَد من أنفسهم وهم سلاطين، فلم يُستقَد منهم"([84]).

وهكذا، فإن الحصيف من الناس يطلب السلامة في آخرته، فيتحلل من المظالم أو يردها، خشية أن يحاسب عليها يوم القيامة، وأسوته في ذلك محمد ﷺ القائل: «من كان لأخيه عنده مظلمة من مال أو عرض فليتحلله اليوم قبل أن لا يكون دينارٌ ولا درهمٌ إلا الحسناتُ والسيئاتُ» ([85]).


 المبحث الثاني: التعامل مع المخطئ

خلق الله الإنسان وفي جبلته وتكوينه القصور والوقوع في الخطأ، فنحن جميعاً ذوو نسب عريق في الخاطئين والمخطئين.

لكننا مع يقيننا بهذه المسلَّمة لا نكاد نتذكرها إلا حين يخطئ أحدنا، فيستعتب ويعتذر بالاستشهاد بقوله ﷺ: «كل بني آدم خطاء»، ويرى أن من حقه على الآخرين أن يقبلوا عذره ويصفحوا عن زللـه، إذ هو أخوهم غير المعصوم من الخطأ .

لكن الواحد فينا ينسى هذه المسلّمة تماماً حين يخطئ الآخرون في حقه ، فيعصيه ابنه، أو تتلكأ في تنفيذ أمره زوجُه ، التي هي أيضاً تغضب من خادمتها حين احترق الطعام بسبب نسيانها ، وأما ابنهما فقد هجر صاحبه وخله الوفي لأنه أخطأ في التصرف معه ذات مرة، وهكذا ينسى الواحد فينا أنه أحد هؤلاء المخطئين، وتثور ثائرته بسبب، وأحياناً من غير سبب.

وهنا تحين منا اِلتفاتة إلى النبي الأعظم ﷺ ، لنتلمس هديه ﷺ في التعامل مع المخطئين، لنرى كيف قوَّم ﷺ اعوجاجهم؟ هل صرخ في وجوههم؟ هل تناولهم بالضرب والتجريح؟ فإذا عرفنا ذلك؛ فإنا نتعلم منه ﷺ كيف ينبغي أن نتعامل مع المخطئ.


الحلم والعفو والإحسان إلى المسيء :

أول الأخلاق العظيمة  التي يقابل المؤمن فيها جهل الآخرين عليه وإساءتهم إلى شخصه ؛ أن يلقاهم بالعفو والحلم، بدلاً من الغضب والانتقام، فإن الحلم والعفو خلقان يحبهما الله تعالى، ويحبهما رسوله المبعوث ليتمم مكارم الأخلاق.

لقد أصبح من البدهي أن يعفو المرء ويتجاوز في مقابل من يعلوه شرفاً أو مالاً أو منزلة، فيحْلُمَ عن إساءة رئيسه في العمل أو أخيه الأكبر أو غيرِهم ، لكن ذلك ليس من الحِلْم، وإن كان من جميل الصفات، فالحلم أن تتجاوز وتصبر على خطأ الجميع، الصغيرِ منهم والكبير، لذا أكد النبي ﷺ على التحلي بهذه الخصلة الجميلة تجاه أخطاء الضعفاء ، كالخدم، فقد سأل رجل النبي ﷺ: يا رسول الله كم أعفو عن الخادم؟ فصمت رسول الله ﷺ ، فأعاد الرجل السؤال، وقال: يا رسول الله كم أعفو عن الخادم؟ فقال ﷺ: «كل يوم سبعين مرة» ([86]).

وفي معنى قوله: «سبعين مرة » يرى الكلاباذي أن المقصود منه الكثرة لا التحديد، فقد وردت أخبار بذكر السبعين في نصوص قرآنية ونبوية كثيرة ، كلُها تدل على الكثرة، لا على التحديد والغاية، منها قول الله لنبيه عن المنافقين: ﴿ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ﴾ (التوبة: 80)، فليس هذا على التحديد والغاية ؛ لأنه لو استغفر لهم مائة مرة لم يغفر الله لهم، لكونهم كفاراً منافقين([87]).

وأول منازل الحِلم؛ كظمُ الغيظ وتجرعُه واحتمالُ سببه والصبرُ عليه وعدمُ مواجهة أخطاء الآخرين بالسباب والصُراخ وغيرٍه من صور التضجر والتأفف، وقد حثّ على ذلك ﷺ بقوله: «من كظم غيظاً وهو قادر على أن يُنفذه، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور العين شاء» ([88])، وهذا الحمد والجزاء لكظم الغيظ "لأنه قهرٌ للنفس الأمارة بالسوء، ولذلك مدحهم الله تعالى بقوله: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ (آل عمران: 134)، ومن نهى النفس عن هواهُ فإن الجنةَ مأواه، والحورَ العين جزاؤه، وهذا الثناء الجميل والجزاء الجزيل ترتب على مجرد كظم الغيظ، فكيف إذا انضم العفوُ إليه ، أو زاد بالإحسان عليه"([89]).

وهكذا فإن كظم الغيظ عند إساءات الآخرين من أحب الأعمال إلى رسول الله ﷺ، الذي قال: «ألا إن عمل الجنة حزْنٌ بِرَبوة [أي كصعود مرتفع صعب]، ألا إن عمل النار سهل بسهْوة، والسعيد من وقي الفتن، وما من جرعةٍ أحبُّ إلي من جرعة غيظ يكظِمها عبد، ما كظمها عبد للهِ إلا ملأ الله جوفَه إيماناً» ([90]).

قال ابن بطال: "مدح الله تعالى الذين يغفرون عند الغضب، وأثنى عليهم، وأخبر أن ماعنده خير وأبقى لهم من متاع الحياة الدنيا وزينتِها، وأثنى على الكاظمينَ الغيظ والعافينَ عن الناس، وأخبر أنه يحبهم بإحسانهم في ذلك"([91]).

لكن الإسلام وهو يهذب أنفسنا لا يكتفي بتصبيِر المرء نفسَه وهو يطوي الغيظ في قلبه على من أخطأ عليه، بل يطالبه بالانتقال إلى المنزلة الثانية من منازل الحِلم، وهي العفو عن المخطئ ﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ﴾ (آل عمران: 134)، ذلك أن "العفو عن الناس من أجلِّ ضروب فعل الخير؛ حيث يجوز للإنسان أن يعفو حيث يتجه حقُه... وكظم الغيظ والعفو عن الناس من أعظم العبادة وجهاد النفس"([92]).

وقد كان النبي ﷺ يربي أصحابه على التجمل بصفة العفو، يقول أنس بن مالك: (ما رأيت النبي ﷺ رفع إليه شيء فيه قِصاص إلا أمر فيه بالعفو) ([93] فالعفو عن المخطئ ومسامحته خلق جليل أمر الله به نبيه ﷺ: ﴿ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ﴾ (الحجر: 85).

وقد سبق ﷺ إلى خلة العفو؛ فما كان قلبه ينطوي على غيظ على صاحب إساءة، فحين مرّ بمجلس المنافق عبدِ الله بنِ أُبي ابن سلول ، أساء الأدب مع النبي ﷺ، فاستشار النبيُّ ﷺ في أمر إساءته سعدَ بنَ عبادة سيد الخزرج، فقال سعد: يا رسول الله، اعف عنه، واصفح عنه، فوالذي أَنزل عليك الكتاب، لقد جاء الله بالحق الذي أُنزل عليك، وقد اصطلح أهل هذه المدينة على أن يتوجوه، فيُعصِّبوه بالعِصابة، فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شَرَق بذلك، فذلك فعل به ما رأيت، فعفا عنه رسول الله ﷺ([94]).

ولما كتب النبي ﷺ  كتاب صلح الحديبية مع كفار قريش كره بعض سفهائهم الصلح مع المسلمين ، ونزل ثمانون رجلاً منهم من جبل التنعيم متسلحين يريدون غِرَّة النبي ﷺ وأصحابه، لكن الله خذلهم وكشف أمرهم فأُخِذوا، واستحياهم النبي ﷺ أي عفا عنهم، ففي شأن هؤلاء أنزل الله عز وجل: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ﴾ (الفتح: 24).

وحين دخل النبي ﷺ مكة فاتحاً مر بشعابها التي عذب فيها أصحابه وقتلوا في سبيل دينهم، والذكريات المؤلمة تتخايل أمام عينيه، ولو تخايلت أمام ناظري ملك أو سوقة لأشعلت من حب الانتقام ما يحرق بشرره قلوب الطغاة ويشفي صدور المستضعفين.

لكن تلك الذكريات على مرارتها لم تمنع النبي ﷺ من الصفح الجميل فآثره على الانتقام والتشفي، فنادى أهل مكة: «ما تقولون إني فاعل بكم؟».

 فقالوا والخوف المختلط بالرجاء يملأ قلوبهم: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم. فتعالى النبي ﷺ على عمق الجراحات وألم العذابات وقال: «أقول كما قال أخي يوسف: ﴿لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ (يوسف: 64)، اذهبوا فأنتم الطلقاء» ([95]).

وعفو النبي ﷺ وتجاوزه عن مظالم قريش هو امتثال لأمر الله تعالى ، حيث قال آمراً نبيه ﷺ: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ (الأعراف: 199)، فهذه الآية "تضمنت قواعد الشريعة في المأمورات والمنهيات فقوله: ﴿خُذِ الْعَفْوَ ﴾ دخل فيه صلة القاطعين، والعفو عن المذنبين، والرفق بالمؤمنين، وغيرُ ذلك من أخلاق المطيعين.

ودخل في قوله: ﴿ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ﴾ صلة الأرحام، وتقوى الله في الحلال والحرام، وغض الأبصار، والاستعداد لدار القرار.

وفي قوله: ﴿ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ الحضُ على التعلق بالعلم، والإعراض عن أهل الظلم، والتنـزه عن منازعة السفهاء، ومساواة الجهلة الأغبياء، وغيرُ ذلك من الأخلاق الحميدة والأفعال الرشيدة"([96]).

ومن عفوه ﷺ مسامحته لليهودية التي همّت بقتله يوم خيبر، فأتته بشاة مسمومة، فأكل منها، فجيء بها فقيل: ألا نقتلها؟ فقال الرحمة المسداة ﷺ: «لا»([97])، فعفا عنها النبي ﷺ ، فلما مات بشر بن البراء بسبب ذلك السمِّ أمر النبي ﷺ بقتلها قصاصاً له.

وفي مرة أخرى نام النبي ﷺ تحت شجرةٍ، علق بها سيفه، فجاء أعرابي فاخترط سيفه، فاستيقظ النبي ﷺ والسيف في يده صَلتاً، وهو يقول: من يمنعُك مني؟ فقال النبي ﷺ بلسان المؤمن المستعين بربه: «اللهُ عز وجل».

فسقط السيف من يده، فأخذه رسول الله ﷺ فقال: من يمنعك مني؟ فما وجد الأعرابي إلا أن يقول مسترحماً: كن كخير آخذ.

 فقال ﷺ: «أتشهد أن لا إله إلا الله؟» قال: لا، ولكني أعاهدُك أن لا أقاتِلَكَ، ولا أكونَ مع قوم يقاتلونك، فخلى النبي ﷺ سبيله، فذهب إلى أصحابه، فقال: قد جئتُكم من عندِ خير الناس([98]).

قال ابن حجر: "كان بعد أن أخبر الصحابة بقصته ، فمنَّ عليه لشدة رغبة النبي ﷺ في استئلاف الكفار ليدخلوا في الإسلام ، ولم يؤخذ بما صنع ، بل عفا عنه"([99]).

وتخلق النــبي ﷺ بصفـة العفــو مذكور في الكتب التي تنبـأت عنه ﷺ قبل الإسـلام، فقد روى البخـاري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: (والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن .. ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله. ويفتح بها أعيُناً عُمياً، وآذاناً صُماً، وقُلوباً غُلفاً) ([100]).

وقوله: (ولا يدفع بالسيئة السيئة) معناه: "لا يسيء إلى من أساء إليه على سبيل المجازاة المباحة ما لم تنتهك لله حرمة، لكن يأخذ بالفضل كما قال تعالى: ﴿ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ (الشورى: 43)" ([101] فصدق فيه ﷺ ما قاله الله في وصف المؤمنين: ﴿ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ﴾ (الشورى: 37)، أي "يتجاوزون ويحلمون هم عمن ظلمهم .. وهذه من محاسن الأخلاق، يشفقون على ظالمهم، ويصفحون عمن جهل عليهم، يطلبون بذلك ثواب الله تعالى وعفوه"([102]).

‏‏‏‏وكما امتثل النبي ﷺ صفة العفو فإنه رغب أمته بهذا الخلق النبيل: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله» ([103]).

وقد امتثل هذا الخلق المؤمنون تأسياً به ﷺ ، ومنهم الخليفة عمر بن الخطاب t حين قدم عليه عيينة بن حصن فقال مخاطباً الخليفة الذي دانت له الروم والفرس: هي يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل. فغضب عمر حتى همَّ به.

فقال له الحُرُّ بنُ قيس: يا أمير المؤمنين ، إن الله تعالى قال لنبيه ﷺ: ﴿خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بالْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ ٱلْجَاهِلِينَ﴾ (الأعراف: 199)، وهذا من الجاهلين.

 يقول ابن عباس: والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافاً عند كتاب الله([104]).

لكن المثال الأعلى في التعامل مع المخطئين ليس الوقوف على حال كظم الغيظ والعفو فحسب، بل الانتقال إلى منزلة ثالثة أعظم، وهي الإحسان إلى المخطئ، فكظم المرء غيظه فعل حسن، وأحسنُ منه العفو عن المسيء، وأعظم من هذا وذاك أن نحسـن إلى من أســاء إلينــا، فنقابـل الإســاءة بالإحسـان ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ` الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ (آل عمران: 133-134).

وحين أخبر الله تعالى نبيه عن بعض مكر المشـركين من أهل الكتاب وخيانتهم له؛ أمره بالعفو عنهم والصفح، لا بل حثه على الإحسان إليهم: ﴿ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيـلاً مِّنْهُـمُ فَـاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ (آل عمران: 13).

وعلم النبي ﷺ أصحابه خلة الإحسان إلى المسـيء بفعله الجميل حين جاءه رجل يشكو قرابته الذين يقابلون إحسانه بالإساءة، فقال: يا رسول الله، إن لي قرابة أصِلُهم ويقطعون، وأحسنُ إليهم ويسيئون إلي، وأحلُم عنهم ويجهلون علي؟! فقال ﷺ مشجعاً له على الاستمرار في الإحسان إلى المسيئين: «لئن كنتَ كما تقول فكأنما تُسِفُّهم الملَّ، ولا يزال معك من الله ظهيرٌ عليهم ما دُمت على ذلك»([105]).

لقد أمر الله تعالى نبيه وأتباعه من المؤمنين بمقابلة الإساءة بالحسنة : ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (المؤمنون: 96)، وقد قال ترجمان القرآن ابن عباس في تفسيرها: (الصبر عند الغضب، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوه عصمهم الله وخضع لهم عدوهم) ([106]).

ولن يفوتنا تأمل الهدي النبوي في التعامل مع إساءة كبرى تتعلق بالعِرض، وهو من أعظم ما يُغضَب له وينتقم، وذلك في قصة أبي بكر الصديق مع ابن خالته مِسطح بنِ أثاثة، فقد كان الصديق يتعهده بالنفقة والإحسان والرعاية، فلما تحدث أصحاب الإفك في ابنته عائشة كان مسطح فيمن تحدث فيها، فقال أبو بكر: والله لا أنفق على مِسطح شيئاً أبداً.

ولو قدر لأحدنا أن يمثُل في مثل هذا الموقف لأرعد وأزبد، ولسب وجدّع، ولربما قتل أو ارتكب جناية ، إذ قد يعفو المرء عن كل جناية إلا فيما يخص الأعراض، فكيف يكون الحال والأمر متعلق بالطاهرة أم المؤمنين وحبيبة رسول رب العالمين.

وإذا كان الظلم من الغريب مفهوماً ؛ فإنه مستنكر وقبيح من القريب ، ويزيد قبحه إذا كان بحق محسن وصاحب حق، لذا فلا أرى الصديق جانب العدل حين قرر: (والله لا أنفق على مِسطح شيئاً أبداً).

لكن الله يرتفع بالمؤمن عن مرتبة العدل إلى منزلة الفضل، فأنزل: ﴿ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم﴾ (النور: 22)، فقال أبو بكر: (بلى، والله إني أحب أن يغفر الله لي). فأعاد النفقة عليه، وقال: (والله لا أنزعها منه أبداً) ([107]).

ولو همست في أذن الكثيرين منا اليوم: أين موقعنا من هذه الأخلاق في التعامل مع المسيئين فإن الإجابة ستكشف بُعدَنا الكبير عن منهج النبي ﷺ.

ولو سألنا واحداً من هؤلاء المتنكبين هدي النبي ﷺ في العفو والصفح والإحسان إلى المسيء؛ لاعتذر بأن المعاملة الحسنة مع المخطئين تغريهم بالمزيد من الإساءة، وأنه بتجربته الواسعة اكتشف أن العنف والضرب أقدر على إصلاح العوج وتقويمه من أي وسيلة أخرى، فالضرب هو الطريق الأقرب في تقويم الاعوجاج عند الكثيرين منا، فهو ميسور يقدر عليه كل واحد منا؛ وبخاصة إذا كان المخطئ أو المقصـر بحقنا أضعف منا، كالابن أو الخادم ، وأحياناً يمارسه بعض السفهاء - ممن لم يفهم شراكة الزوجة وحقوقها - مع زوجته، فيستقوي على أنوثة لطيفة بذكورة جافية لم تبلغ به قدر الرجال.

ونقول لهؤلاء وأولئك: إن الذين تتحدثون عن تقويمهم بالضرب من جنس أولئك الذين احتمل النبي ﷺ أخطاءهم، فرباهم بغير الضرب والعنف، رغم أن جرم بعض أولئك أكبر بكثير من أخطاء أبنائنا أو خدمنا أو زوجاتنا، ومع ذلك فإن سيد الرجال محمد ﷺ ما كان يستخدم الضـرب وسيلة في تقويم اعوجاج معوج ، فلم يضرب ﷺ قط أحداً تأديباً ، وما كان الضـرب والعنف مسلكاً له ﷺ إلا في ميادين الجهاد والتضحية في سبيل الله، حدَّثت بذلك زوجه الصديقة عائشة رضي الله عنها فقالت: «ما ضرب رسول الله ﷺ شيئاً قط بيده، ولا امرأة ولا خادماً إلا أن يجاهد في سبيل الله»([108]).

نعم، الضرب وسيلة مباحة شرعاً ومقبولة في دروب التربية وتصحيح الخطأ إذا انضبطت بضوابطها الشرعية وآدابها، لكن تركه أفضل وأولى ([109])، تأسياً بالنبي ﷺ ، واستعاضة عنه بوسائله ﷺ في التربية، تلك الوسائل التي لا يكاد يطرقها الكثير من الآباء مع أبنائهم، ولا المعلمون مع طلابهم، لكنه محمد ﷺ معلم الأمة، وقدوة المربين إلى يوم الدين.

منهج النبي ﷺ في تربية المخطئين :

المخطئ له حق على مجتمعه، يتمثل في نصحه وتقويم اعوجاجه بأفضل الطرق وأقومها، وهو ما لم يفرط به ﷺ ، بل كان سيد الناصحين، وأستاذ الموجهين، وأول وسائله ﷺ في التربية ومعالجة الخطأ؛ التربية بالابتسامة، الابتسامة الحانية يعاتب فيها ﷺ المخطئ ويوجهه ويقوِّم سلوكه، فحين تخلف كعب بن مالك الأنصاري عن النبي ﷺ يوم تبوك من غير عذر دخل عليه ، وقد فاته الخير العظيم، بل رتع في الإثم الكبير الذي يوجب تأنيبه وتهذيبه، فالتخلف عن تلك الغزوة بلا سبب من كبائر الذنوب والآثام.

ولنصغ إلى كعب وهو يصف لنا لقاءه بالنبي ﷺ حين رجوعه من تبوك: "فجئته فلما سلمت عليه؛ تبسَّم تبسُّم المغضب"([110]).

عقاب فريد لا يكاد يتذكره عباقرة التربية، عاقبه بابتسامة قرأ كعب من خلالها الحب الممزوج بالعتاب والتهذيب؟! من غير سباب ولا صراخ، لم لا نحاول اليوم تعلم هذا الفن من فنون التربية؟

إن ابتسامة المغضب تتناسب مع عظم الجرم، لكنها ليست النوع الوحيد من ضروب التربية بالابتسام، ففي أحيان أخرى كان رسول الله ﷺ يقابل الخطأ بابتسامة من نوع آخر، ابتسامة الحنان والحب الدافق، كما صنع مع خادمه أنس بنِ مالك t لما أمره  النبي ﷺ أن يذهب في بعض حوائجه، فانشغل عنها بلعب الصبيان كعادة أطفالنا اليوم وغداً وفي كل حين.

فقد خرج أنس t لحاجة النبي ﷺ ، فرأى الصبيان يلعبون في السوق، فانشغل عن حاجة النبي ﷺ باللعب معهم، كما ينشغل كثير من غلماننا اليوم، فاستبطأه النبي ﷺ وخرج يبحث عنه، فوجده يلعب مع الصبيان، فلله دره ما أحلمه ﷺ ، مَن من الآباء أو المربين يطيق صبره على مثل هذا الغلام؟ ما صرخ ﷺ ولا ضرب ولا سب؟ حاشاه فهو أسوة المسلمين الذي رباه رب العالمين.

 لنصغ إلى أنس وهو يقص علينا خبره مع النبي ﷺ ، فيقول: كان رسول الله ﷺ من أحسن الناس خُلقاً، فأرسلني يوماً لحاجة، فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسـي أن أذهب لما أمرني به نبي الله ﷺ.

فخرجت حتى أمرّ على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله قد قبض بقفاي من ورائي، فنظرت إليه وهو يضحك، فقال: «يا أُنيس، أذهبتَ حيث أمرتك؟» فقلت: نعم، أنا أذهب يا رسول الله ([111]).

لقد ضحك ﷺ، وأدرك أن خادمه طفل يعرض له ما يعرض لأمثاله من حب اللعب والتشاغل به ، فنبهه على تقصيره بيد حانية أمسكتْ بقفاه، وشفعها بابتسامة حانية، تجدد الحب وتلتمس المعاذير.

وأما صيغة النداء مع هذا الصبي المتشاغل باللعب، المتلكئ عن المبادرة  والمسارعة لتنفيذ أمر النبي ﷺ، فهي درس آخر من دروس التربية والتوجيه، فقد قال له ﷺ متحبباً: « يا أُنيس»، وتصغير الاسم ضرب من ضروب التحبب والتألف والتودد، وهو خير من قواميس الكلمات النابية التي ننشرها في وجوه أبنائنا وخدمنا وغيرهم ممن يخطئون علينا أو يتلكؤون في تنفيذ أوامرنا التي نظن أنها لا تقبل التلكؤ والتأخير.

وذات يوم دخل شاب على نبي الطهر والفضيلة ﷺ يستأذنه في أمر جلل فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا!

أمر عجب، يستأذن أطهر البشر في صنع أرذل الخطايا، أما يستحي! أما يرعوي! لقد ناله من الصحابة رضوان الله عليهم ما يتوقع لمثله من التقريع والتأنيب، يقول أبو أمامة: فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه.

وأما النبي ﷺ ، فقد أدرك أن مشكلة الشاب وانحرافه لن يقوَّم بالزجر والوعيد والتقريع، فقال ﷺ له: «ادنه» فدنا منه الشاب قريباً فقال له ﷺ: «أتحبه لأمك؟» فانتفض الشاب غَيرة على أمه وقال: لا، والله جعلني الله فداءك. فقال له ﷺ: «ولا الناس يحبونه لأمهاتهم».

ومضى النبي ﷺ يستثير كوامن الغيرة الممدوحة في صدر الشاب: «أفتحبه لابنتك؟» فأجاب الشاب: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك. فأجابه النبي ﷺ بمنطقية المربي: «ولا الناس يحبونه لبناتهم».

ثم جعل رسول الله يستل بحكمته ومنطقه دخن قلبه، ويطفئ نار شهوته بتعداد محارمه، «أتحبه لأختك؟ .. أتحبه لعمتك؟ .. أتحبه لخالتك؟» هل تحب أن تراهُنَّ وقد تعرضن لمثل ما تريده من محارم الآخرين؟! فالناس يكرهون هذه الفعلة في محارمهم، كما كرهها هو في أهله .

فلما استبشع الشاب فِعلة الزنا؛ طلب ﷺ له سبباً آخر من أسباب الهداية يغفل عنه الآباء والمربون، ألا وهو دعاء الله الذي يملك أزِمّة القلوب ومفاتيحها، فقال: «اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه».

واستجاب الله له، يقول أبو أمامة t: فلم يكن الفتى بعد ذلك يلتفت إلى شيء([112]).

قصة بليغة تضمنت دروساً متعددة في التعامل مع المخطئ، ليس أولها الدعاء له والحنو عليه، والسماح له بالتعبير عن كوامنه، واستجاشة الخير الذي لا يخلو منه قلب خاطئ أبداً، وفيها دعوة لنا لنراجع أنفسنا، ونغير من طريقتنا في التعبير عن ضجرنا من أخطاء أبنائنا وأصدقائنا، فالسب والشتم الذي نكيله للمخطئين لن يكون سبباً في إصلاحهم وتهذيب سلوكهم وتعريفهم بأخطائهم.

ويضيف النبي ﷺ في موقف آخر مأثرة أخرى يدعى إلى مثلها المربون ، وهي ترك العتاب والتدقيق والتحقيق الذي يستجر المخطئ إلى الكذب، لينضاف إلى أخطائه خطأ آخر ، يقول أنس بن مالك خادم النبي ﷺ: «والله لقد خدمت النبي ﷺ تسع سنين، ما علمته قال لشـيء صنعتُه: لم فعلتَ كذا وكذا، أو لشيء تركتُه: هلا فعلتَ كذا وكذا».

وفي رواية عند الإمام أحمد: «ما قال لي فيها أف».

وفي رواية له أيضاً: «والله ما سبني سبة قط، ولا قال لي أف» ([113]).

وهنا نتساءل: ألم يخطئ أنس مع النبي ﷺ قط؟ ألم يصنع ذلك الغلام ما يصنعه أي غلام في سنه من لهو وتشاغل وعبث، ألم يقع منه خلال عشر سنين ما يقع فيه أبناؤنا وخدمنا كل يوم من زلل وخطأ؟ أوليس هو من جنسنا؟ أم كان هذا الغلام غلاماً فوق العادة؟

لا لم يكن أنس كذلك، ولكنه ﷺ يستعيض  في توجيهه عن السب والتعنيف والتأفف بالرفق والتماس الأعذار.

وبينما النبي ﷺ جالس ذات يوم بين أصحابه في مسجده، إذ دخل أعرابي، فصلى ركعتين ثم قال: اللهم ارحمني ومحمداً ، ولا ترحم معنا أحداً. فقال رسول الله ﷺ:« لقد تحجرت واسعاً ».

ثم مالبث أن عرضت له حاجته، فتنحي وتبول في ناحية من المسجد، فثار إليه الصحابة ليقعوا به بسبب هذه الفعلة الشنيعة وهو الذي دعا عليهم قبل قليل بالحرمان من رحمة الله، ثم هو لا يدرك حرمة المساجد؟! أما يدري أن طهارة المكان شرط من شروط صحة الصلاة؟ كيف يجعل من ميدان الطهر محلاً لقضاء حاجته.

 رأى النبي ﷺ هبَّة الصحابة في وجه الأعرابي، وأدرك أن مثل هذا الأعرابي جاهل بأحكام المساجد، غير قاصد هتك حرمتها، فقال: «لا تزرموه، دعوه» وذلك حتى لا يتأذى بحبس بوله وانقطاعه، وأرشدهم إلى حل بسيط تصغر بمثله كل مشكلة؛ مهما كبرت في عيون أصحابها، فقال: «هريقوا على بوله سِجلاً من ماء أو ذَنوباً من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين»  ([114]).

ثم لما أتم الرجل حاجته دعاه رسول الله ﷺ فقال له موجهاً وناصحاً: «إن هذه المساجد لا تصلح لشـيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن..» ([115]).

وفي هذا الحديث: "الرفق بالجاهل وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف ولا إيذاء؛ إذا لم يأت بالمخالفة استخفافا أو عناداً، وفيه دفع أعظم الضررين باحتمال أخفهما لقوله ﷺ: «دعوه».

قال العلماء: كان لمصلحتين: إحداهما: أنه لو قطع عليه بوله تضرر، وأصل التنجيس قد حصل، فكان احتمال زيادته أولى من إيقاع الضرر به، والثانية: أن التنجيس قد حصل في جزء يسير من المسجد، فلو أقاموه في أثناء بوله لتنجست ثيابه وبدنه ومواضع كثيرة من المسجد"([116]).

إن واحداً منا لا يصنع مثل هذا مع ابن صغير من أبنائنا يصنع أقل من هذا الصنيع الشنيع الذي وقع فيه رجل وافر العقل والفهم، فما أحرانا أن نفعل كما فعل ﷺ إمام الرفق واللين ، أدبه ربه بأدب نحن أحوج إليه ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ﴾ (آل عمران: 159)، فلئن قيل هذا للنبي ﷺ وهو أعظم خلق الله فإنه من باب أولى يصلح شعاراً ينصبه كل واحد منا تلقاء وجهه وهو يثور لأتفه الأسباب وأهونها.

ولنتدبر موقفاً آخر يقصه علينا معاوية بن الحكم t، فقد دخل المسجد يوماً يصلي مع الصحابة خلف النبي ﷺ ، فعطس رجل أمامه ، فشمَّته معاوية وهو يصلي ([117]).

ولما كانت الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس استنكر الصحابة فعله، وهم في صلاتهم، يقول معاوية: (فحدقني القوم بأبصارهم) لاستغرابهم من رجل يتحدث وهو في الصلاة. لكن الموقف ازداد تعقيداً حين استنكر معاوية أنظارهم، وجعل يقول لهم وهو في صلاته: (واثكل أمياه، مالكم تنظرون إليّ؟).

فزاد استنكار الصحابة لكلامه في الصلاة (فضرب القوم بأيديهم على أفخاذهم) ، وأخيراً فهم معاوية مرادهم: (فلما رأيتهم يسكتونني لكني سكت).

وحين انتهت الصلاة لنا أن نتخيل الأنظار وهي تتوجه إلى معاوية تلومه، ومثل هذا يتمنى – كما يقولون – لو تنشق الأرض وتبتلعه قبل أن تلتهمه العيون بنظراتها العاتبة القاسية!.

الجميع يرقب فعل النبي ﷺ مع هذا الرجل الذي جهل ما يعرفه أطفال المسلمين عن حرمة الصلاة وبطلانها بكلام الناس فيها.

يقول معاوية: فلما انصرف رسول الله ﷺ دعاني، بأبي هو وأمي، ما ضربني ولا كهرني ولا سبني، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، قال: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن»([118]) .

إن كل ماذكرناه عن العفو والصفح وحسن المعاملة مع المخطئ لن ينسينا حقه في التأديب والإرشاد إلى الحق من غير إحراجه ولا فضحه أمام الآخرين، لذا كان من أساليبه ﷺ في تنبيه المخطئ، التعريض بالمخطئ وإرشاده على الملأ من غير تصريح باسمه، فهو يوصل إلى المخطئ المعنى المرادَ، من غير أن يجرح شعوره أو يفضحه بين إخوانه.

تقول عائشة رضي الله عنها: كان النبي ﷺ إذا بلغه عن الرجل الشيءَ لم يقل: ما بال فلان يقول، ولكن يقول: «ما بال أقوام يقولون كذا وكذا» ([119])، وفي حديث أنس وفي إسناده ضعف أنه ﷺ كان لا يكاد يواجه أحداً في وجهه بشيء يكرهه، فجاءه رجل يوماً وعليه صفرة ، فقال: «لو أمرتم هذا أن يغسل عنه هذه الصفرة»([120]).

وأمثلة ذلك في سيرة النبي ﷺ كثيرة، منها أن ثلاثة نفر من الصحابة ألزموا أنفسهم بالسهر والرهبنة والصوم، فلما بلغ النبي ﷺ أمرُهم حمِد الله وأثنى عليه، وقال: «ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي وأنام، وأصوم وأُفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»([121]) .

ولما بلغه عن أناسٍ أنهم يواصلون الصيام قال معرضاً بهم: «ما بال رجال يواصلون؟ إنكم لستم مثلي»([122]) .

ولما بلغه أن بعضاً من أصحابه يرفعون أبصارهم إلى السماء قال النبي ﷺ: «ما بال أقوامٍ يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم»([123]) .

ولما أرادت عائشة رضي الله عنها شراء جارية اسمها بَرِيْرة رفض أهلُها بيعَها إلا بشرط أن يكون ولاؤها بعد العتق لهم، فصعد رسول الله ﷺ على المنبر فقال: «ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فليس له، وإن اشترط مائة مرة»([124]) ، وفي كل ذلك ما يحفظ للمخطئ كرامته ؛ مع الحفاظ على حقه الآخر بالتوجيه والإرشاد.

وأحياناً كان ﷺ يخاطب بنصيحته غير المخطئ، وهو يقصد أن يُسمِعه النصيحة والتوجيه، فعن سليمانِ بنِ صُرَد قال: استب رجلان عند النبي ﷺ، ونحن عنده جلوس، وأحدهما يسب صاحبه مُغضباً قد احمر وجهه، فقال النبي ﷺ للصحابة: «إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم».

ولما كان الغضبُ مستبداً بالرجل كان خطابُه بهذه الطريقة أولى من خطابه بالنصيحة مباشرة، لذا لما واجهه الصحابة بقول النبي فقالوا: ألا تسمعُ ما يقول النبيُ ﷺ؟ أعماه الغضب فقال: إني لست بمجنون ([125])، فمثل هذه الحالة لا يفيد فيها النصح المباشر.

وأحياناً كان ﷺ يوجه المخطئ عن طريق الإشارة، أو بتوجيه النصيحة إلى غيره ليسمعها المخطئ فيتنبه لخطئه، ومن أمثلته أن النبي ﷺ رأى رجلاً جالساً وسط المسجد مشبكاً بين أصابعه يحدث نفسه، فأومأ إليه النبي ﷺ ، فلم يفطن الرجل، ولم ينتبه لإشارة النبي ﷺ.

فالتفت عليه الصلاة والسلام إلى أبي سعيد فقال: «إذا صلى أحدكم فلا يشبكن بين أصابعه، فإن التشبيك من الشيطان، فإن أحدكم لا يزال في صلاةٍ ما دام في المسجد حتى يخرج منه» ([126])، يعلمنا ﷺ طريقين من طرائق تنبيه المخطئ من غير أن نسيء إليه أو نحرجه أمام الآخرين، أولهما: تنبيهه بالإشارة. والثاني: توجيه الكلام والنصح إلى غيره، وفي كل ذلك ما يحفظ للمخطئ منزلته، ويراعي حاله، ويؤدي في نفس الوقت إلى نصحه وتقويمه، و إرشاد غيره.

وفي بعض الأحيان يلزمُ المربيَ أو الأبَ أن يعاقب المخطئ على خطئه، لكن ذلك لا يعني سباباً وخصاماً وصياحاً كما يصنع الكثيرون، فما هكذا يقوَّمُ المخطئ، وما هكذا كان يصنع القدوة ﷺ، يقول أنس t: لم يكن رسول الله ﷺ فاحشاً ولا لعاناً ولا سباباً، كان يقول عند المعتبة (أي العتاب): «ما له ترب جبينه»([127]).

و قوله:«ترب جبينه» هي "كلمة تقولها العرب جرت على ألسنتهم، وهي من التراب، أي سقط جبينه للأرض، وهو كقولهم: رغم أنفه، ولكن لا يراد معنى قوله ترب جبينه ..  أي أنها كلمة تجري على اللسان، ولا يراد حقيقتها"([128]) .

وهي كمثل قول النبي ﷺ: « تَربت يداك »، ومراده منها كما قال الأصمعي: " الاستحثاث، كما تقول للرجل : "انْجُ ثُكلتك أمك"، وأنت لا تريد أن تثكل" ([129]).

 وأحياناً يستلزم الموقفُ من المربي العقوبةَ، ولكنها عقوبة المحب المشفق، لا المنتقم المتشفي، والنبي ﷺ إذا أراد عقوبة واحد من المخطئين فإنما يسلك أخصرَ الطرق وأقومَها وأليقها، ومن ذلك هجره للمخطئ تربية له وردعاً، فقد هجر ﷺ كعبَ بنَ مالكٍ وصاحبيه حين تخلفوا عن غزوة تبوك.

ولندع كعبَ بنَ مالكٍ يـشرح لنا بعضاً من معالم هذا الدرس النبوي البليغ.

يقول كعب: نهى رسول الله ﷺ المسلمين عن كلامنا، فاجتنبنا الناسُ، وتغيروا لنا، حتى تنكرت الأرضُ في نفـسي، فما هي التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، وكنت آتي رسولَ الله ﷺ فأسلمُ عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام عليّ أم لا، ثم أصلي قريباً منه، فأسارقه النظر، فإذا أقبلتُ على صلاتي أقبل إلي، وإذا التفتُ نحوَه أعرض عني ([130]).

وحين استكمل الدرسُ التربوي دورَه البالغ؛ أنزل الله توبة كعب وصاحبيه ﴿ وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ (التوبة: 118).

وهكذا فالهجرَ عقوبةٌ تربويةٌ ناجعة، لكن ينبغي أن نتذكر أنها تنجح في إصلاح البعض دون الآخرين، فهي وسيلة تعتمد على كمال الحب بين المعاقَب والمربي، كما هو الحال بين النبي ﷺ وصاحبه كعب بن مالك t.

 وأما حين نفقِد محبة الآخرين فإنهم لن يبالوا بهجرنا لهم ، بل لربما رحبوا به، ووجدوه فرصة للتخلص من التزاماتهم الأدبية ، وحينها يصبح وسيلة خاطئة يفضَل اجتنابُها ويحسُنُ تركُها.

ولرب قائل بأن الرفق صعب وبعيد المنال عندما يسـيء البعض إلى أشخاصنا، فيتطاولون علينا بالسب أو الشتم ، فماذا عسانا نصنع معهم؟ ألا نقابل سبابهم بسباب وتطاولهم بمثله؟

ولهؤلاء نقول: دعونا ننظر كيف صنع نبينا ﷺ حين سبه الناس وشتموه؟

دخل عليه ذات يوم نفر من أهل الكتاب، فبدلاً من أن يلقوا عليه تحية السلام؛ قالوا له بصفاقة ووقاحة: السام عليك، والسام تعني الموت.

فلم يزد ﷺ‬ على أن قال: «وعليكم».

ظنت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ لم يدرك حقيقة قولهم، وأنهم استبدلوا (السلام) بـ (السام)، فقالت وهي تدافع عن زوجها وتنتصف له من قلة أدب هؤلاء الزوار وإساءتهم إلى مزورهم في بيته: (السام عليكم، ولعنكم الله، وغضب عليكم).

لكن رسول الله ﷺ قاطعها قائلاً: «مهلاً يا عائشة، عليك بالرفق، وإياك والعنف أو الفحش»، وفي رواية النسائي: «يا عائشة، عليك بالرفق، فإن الله يحب الرفق في الأمر».

فقالت رضي الله عنها: أولم تسمع ما قالوا؟ فأجابها ﷺ بلسان المستعلي على إساءات الآخرين: «أولم تسمعي ما قلتُ؟ رددتُ عليهم ، فيستجابُ لي فيهم، ولا يستجاب لهم فيّ» ([131]).

فهل نستطيع أن نصنع مثل هذا الصنيع، فنقابل السباب بالإعراض، وهل يقدر الواحد منا أن يدافع عن غريمه وسابه؛ كما صنع النبي ﷺ حين منع عائشة رضي الله عنها من مقابلة خطئهم بمثله، إنا نستطيع ذلك بقدر ما نحب نبينا وحبيبنا ﷺ، فالتأسي هو علامة المحبة وبرهانها.

بعد غزوة حنين قسم النبي ﷺ الغنائم بين فقراء المهاجرين ومسلمة الفتح، فأعطى ضعاف الإيمان أكثر مما أعطى غيرهم من الأنصار الراسخين في الإسلام، فقال رجل قليل الأدب ضعيف النظر: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله.

فأتى ابن مسعود النبي ﷺ فأخبره بمقالته، فغضب حتى رأى ابن مسعود الغضب في وجهه، لكنه ﷺ لم يجاوز أن قال: «يرحم الله موسى، قد أوذي بأكثر من هذا، فصبر» ([132]).

وأما الأنصار رضوان الله عليهم، فوجدوا في أنفسهم من غير أن يتهموا النبي ﷺ، ودخل عليه سيدهم سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله إن هذا الحي [أي الأنصار] قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار شيء؟

فأراد ﷺ أن يعرف إن كانت حكمة فعله معلومة عند سيد الأنصار أم لا ، فسأله: «فأين أنت من ذلك يا سعد؟» فقال: يا رسول الله، ما أنا إلا امرؤ من قومي، وما أنا [إلا واحد من قومي].

فقال ﷺ: «فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة»، فخرج سعد، فجمع الأنصار فأتاهم رسول الله ﷺ متذكراً فضلهم وسابقتهم في الإسلام، فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو له أهل ثم قال: «يا معـشر الأنصار، ما قالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها في أنفسكم! ألم آتكم ضُلالاً فهداكم الله؟ وعالة فأغناكم الله؟ وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟».

 فتذكروا مِنة الله ورسوله عليهم وقالوا: بل الله ورسوله أمن وأفضل .. ولله ولرسوله المن والفضل.

فقال ﷺ: «أما والله لو شئتم لقلتم، فلصدقتم وصدقتم ، أتيتنا مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنـصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فأغنيناك، أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟ أفلا ترضون يا معـشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله ﷺ في رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شِعباً وسلكتِ الأنصار شِعباً لسلكتُ شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار».

 فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسماً وحظاً ([133]).

وهكذا كان ﷺ يقابل الإساءة والجهل، وهكذا ينبغي أن يصنع كل مسلم، فهل ترانا  نتأسى به ﷺ ونقتدي حين يـسيء إلينا الآخرون من أبنائنا أو جيراننا.

***

 الفصل الثالث: من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صناعة الشخصية المسلمة

وفيه مباحث:

المبحث الأول  : آداب الممادحة

المبحث الثاني   : هدي النبي ﷺ في المزاح

المبحث الثالث: الوفاء  للزوجة وأهل العشرة والمعروف


 المبحث الأول: آداب الممادحة

مما شاع بين الناس اليوم تمادحهم في المجالس وعلى صفحات الجرائد وفي شاشات الفضائيات، وهذا التمادح بعضه بحق، وكثير منه جاوز الحق وجافاه.

وبداية نقول بأن النبي ﷺ مُدح في وجهه، ومدَح هو بعضَ أصحابه في وجوههم، مما يدل على جواز المدح، إذا أُمنت الفتنة منه على الممدوح.

ومن صور ذلك أن النبي ﷺ وقف يوماً بين أصحابه، فقال: «من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير. فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة».

 قال أبو بكر ﷺ: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما على من دعي من هذه الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحدٌ من تلك الأبواب كلها؟ فقال ﷺ: «نعم وأرجو أن تكون منهم» ([134])، فهذا مدح من النبي ﷺ لأبي بكر في حضوره، و"فيه من الفقه: أنه يجوز الثناء على الناس بما فيهم على وجه الإعلام بصفاتهم، لتُعرف لهم سابقتُهم وتقدمُهم في الفضل، فينزلوا منازلهم، ويُقدَّموا على من لايساويهم، ويُقتدى بهم في الخير، ولو لم يجز وصفُهم بالخير والثناءُ عليهم بأحوالهم لم يُعلم أهل الفضل من غيرهم، ألا ترى أن النبي عليه السلام خص أصحابه بخواص من الفضائل بانُوا بها عن سائر الناس وعُرفوا بها إلى يوم القيامة " ([135]).

ومدح النبي ﷺ عمر بن الخطاب في حضوره فقال: «ما رآك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك» ([136])، "وهذا من جملة المدح، لكنه لما كان صدقاً محضاً وكان الممدوح يؤمن معه الإعجاب والكبر مدح به، ولا يدخل ذلك في المنع، ومن جملة ذلك الأحاديثُ المتقدمة في مناقب الصحابة ووصف كل واحد منهم بما وصِف به من الأوصاف الجميلة" ([137]).

 ولا يخلو التمادح والثناء على الناس من فوائد، ففيه استنهاض للهمم وتذكير بحق الله بالحمد والشكر على نعمة الذكر الحسن والشهادة الصادقة من المؤمنين، فعن أبي ذر t أن رجلاً قال لرسول الله ﷺ : أريت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه؟ فقال ﷺ: «تلك عاجل بشـرى المؤمن»([138]).

قال النووي: "قال العلماء: معناه هذه البشرى المعجلة له بالخير، وهي دليل على رضاء الله تعالى عنه، ومحبته له ، فيحببه إلى الخلق ... هذا كله إذا حمده الناس من غير تعرض منه لحمدهم، وإلا فالتعرض مذموم"([139]).

وهكذا فإن مدح الإنسان في وجهه جائز، إذا أُمنت غائلة هذا المدح، وانضبطت بالضوابط التي وضعها النبي ﷺ، والتي تجنب هذه الظاهرة ما تستخره من الفتنة والغرور وفساد قلبه.

وقد استحب العلماء لمن مُدح أن يتواضع لله، وأن يستشعر ضعفه وتقصيره، حتى لا يغلب عليه الكبر والعجب، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم إذا أُثني عليهم يقولون: (اللهم اغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني خيراً مما يظنون) ([140] وقال بعض السلف: (اللهم إنَّ هؤلاء لا يعرفوني، وأنت تعرفني) ([141]) .

التمادح المذموم :

ولترشيد ظاهرة التمادح نتأمل هدي النبي ﷺ لنقف على المواطن التي يذم فيها مدح الآخرين والثناء عليهم.

 وأولها: عدم المدح في حضور الممدوح إذا ظُن أن يؤدي إلى مفاسد تَضر به، كأن تصيبه بالإعجاب أو الغرور، أو غيره من الآفات القلبية، فإن ذلك من الفتنة والإهلاك، لذا لما سمع ﷺ رجلاً يثني على رجلٍ ويطريه في المدح في حضوره، فقال: «أهلكتم أو قطعتم ظهر الرجل» ([142]).

قال ابن بطال: "حاصل النهي هنا أنه إذا أفرط في مدح آخر بما ليس فيه، لم يأمن على الممدوح العجب لظنه أنه بتلك المنزلة، فربما ضيع العمل والازدياد من الخير اتكالاً على ما وصف به"([143]).

وفي مثل هذه الحالة أمر النبي ﷺ بحثي التراب في وجه المادح، ففي حديث المقداد t أن رجلاً جعل يمدح عثمان t، فعمد المقداد، فجثا على ركبتيه، فجعل يحثو في وجهه الحصباء، فقال له عثمان: ما شأنك؟ فقال إن رسول الله ﷺ قال: «إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب» ([144]).

وهذه الأخبار التي تمنع المدح وتذمه لا تتعارض مع ما ذكرناه من أخبار تقتضي الإباحة، فقد جُمع بينهما "أنه إن كان عند الممدوح كمال إيمان وحسن يقين ورياضة، بحيث لا يفتن ولا يغتر ولا تلعب به نفسه، فلا يحرم ولا يكره، وإن خيف عليه شيء من ذلك كره مدحه"([145]).

وأخرج الإمام أحمد أن معاوية كان لا يدع يوم الجمعة هؤلاء الكلمات اللاتي يحدث بهن عن النبي ﷺ: «ومن يرد الله به خيراً يفقه في الدين، وإن هذا المال حلو خضر، فمن يأخذه بحقه يبارك له فيه، وإياكم والتمادح؛ فإنه الذبح» ([146])، وذلك "لما فيه من الآفة في دين المادح والممدوح، وسماه ذبحاً لأنه يميت القلب، فيخرج من دينه، وفيه ذبح للممدوح، فإنه يغره بأحواله، ويغريه بالعجب والكبر، ويرى نفسه أهلاً للمِدْحة، سيما إذا كان من أبناء الدنيا أصحاب النفوس وعبيد الهوى"([147]).

وثانيها: أن يؤدي المدح إلى المبالغة، فيحمل من الإطراء ما جاوز الحقيقة أو خرج عن حده إلى التكلف، وقد كرهه النبي ﷺ حين سمع من بعض المسلمين ثناء عليه متكلفاً، فقد قيل له: يا سيدَنا وابنَ سيدِنا، ويا خيرَنا وابنَ خيرِنا. فقال رسول الله ﷺ : «يا أيها الناس عليكم بتقواكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بنُ عبدِ الله، عبدُ الله ورسولُه، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل» ([148]).

وفي موقف آخر جاءه رجل فقال: أنت سيد قريش. فقال ﷺ: «السيد الله» فقال الرجل: أنت أفضلُها فيها قولاً ، وأعظمُها فيها طولاً، فقال رسول الله ﷺ: «ليقل أحدكم بقوله، ولا يستجرُه الشيطان» ([149]).

وفي موقف ثالث سمع النبي ﷺ جارية تغني بشعر في ندب من مات في بدر، فلما قالت: وفينا نبي يعلم ما في غد؛ قال ﷺ: «لا تقولي هكذا، وقولي ما كنت تقولين» ([150]) أي من الشعر الذي لا إطراء فيه، وفي هذا الحديث "جواز مدح الرجل في وجهه ما لم يخرج إلى ما ليس فيه .. وإنما أنكر عليها ما ذكر من الإطراء حين أطلق علم الغيب له، وهو صفة تختص بالله تعالى"([151]).

لقد رفض ﷺ كل صور الثناء والمبالغة في المدح، الذي يجاوز الحقيقة فقال محذراً وناهياً: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابنَ مريم، فإنما أنا عبدٌ، فقولوا عبد الله ورسوله» ([152] أي: "لاتصفوني بما ليس لي من الصفات تلتمسون بذلك مدحي، كما وصفت النصارى عيسى بما لم يكن فيه، فنسبوه إلى أنه ابن الله، فكفروا بذلك وضلوا"([153]).

وفي هذا براءة نبوية من كثير مما يصنعه ويقوله عنه بعض المسلمين، كادعاء بعضهم أنه ﷺ يعرف الغيب، أو أنه يحضـر بعض مجالسهم ومحافلهم، أو أنه يقدر على دفع الضر أو جلب النفع لهم وهو ميت في قبره، وغيرها مما لم يثبت له ولا عنه ﷺ.

وقد اتفق أن خسفت الشمس يوم مات إبراهيم ابنُ النبي ﷺ، فقال بعض الصحابة: إنها خسفت لموت إبراهيم، وهو ربط غير صحيح ينطوي على الإطراء والمبالغة، فقام النبي ﷺ فخطب الناس ونبههم على خطأِ ربطهم، فقال: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة» ([154]).

وأما ثالث المواضع التي يذم فيها المدح؛ فهو مدح الظالمين، كرئيسِ شركة يظلم عماله أو مديرِ مصنع يأكل حقوق مستخدميه، أو حاكم يظلم شعبه، فالثناء على أمثال هؤلاء يغُرهم ويغريهم بالمزيد من الظلم، وهذا ما يجعل المادح شريكاً في الظلم ومعيناً عليه، وقد قال تعالى: ﴿وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ﴾ (هود: 113).

ويزداد الأمر سوءاً إذا كان المدح بالباطل وطمعاً فيما عند الممدوح من متاع الدنيا، وهذا من الكذب الذي حرمه الله، وقد كتب معاوية إلى أمِ المؤمنين عائشةَ رضي الله عنها: أن اكتبي إلي كتاباً توصيني فيه، ولا تكثري علي، فكتبت له رضي الله عنها: سلام عليك، أما بعد، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس» ([155]).

وفي رواية موقوفة على عائشة أنها قالت: (من أرضى الله بسخط الناس رضي عنه الله وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس ذاّمّاً) ([156]).

قال الغزالي: "آفة المدح في المادح أنه قد يكذب، وقد يرائي الممدوحَ بمدحه، ولا سيما إن كان فاسقاً أو ظالماً"([157]).

وأما رابع صور المدح المذموم فهو مدح الرجل بما لا يدري حقيقته على وجه الجزم، كالحكم على معَيَّن أنه من الصالحين أو الأتقياء، وهذا مما لا يمكن لأحد القطع فيه، فهو غيب لا يعرفه إلا الله، لذلك ينبغي أن يضيف المادح ما يعلق مدحه بالظن، كقوله: أحسبه تقياً، أو أظنه من الصالحين.

وهذا الأدب سبق إليه النبي ﷺ فقال لمادح عنده: «إن كان أحدكم مادحاً لا محالة فليقل: أحسب كذا وكذا، إن كان يرى أنه كذلك، وحسيبه الله، ولا يُزكي على الله أحداً» ([158])، أي "لا أقطع على عاقبة أحد ولا على ما في ضميره لكون ذلك مُغيباً عنه ، وجيء بذلك بلفظ الخبر «ولا يزكي على الله أحداً» ومعناه النهي، أي لا تزكوا أحداً على الله، لأنه أعلم بكم منكم"([159]).

ولو أصخنا السمع إلى خبرة رجل جرب الحياة وخبَرها، لرأينا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب t يسدي النصح لأولئك المسارعين بالمدح والثناء على الآخرين بحق وبغير حق، فقد سمع t رجلاً يثني على آخر، فقال له عمر: (أسافرت معه؟) قال: لا، قال: (أخالطته في المبايعة؟) قال: لا، قال: (فأنت جاره صباحُه ومساؤه؟) قال: لا، فقال عمر: (والله الذي لا إله إلا هو ما أراك تعرفه)([160]).

وإذا كان المدح للناس شهادة نشهدها لهم بين يدي الله علام الغيوب، وشهادة لهم عند الناس، تُبنى عليها بيوت أو تجارات أو غيرُها من المصالح، فحري بالمسلم أن لا يشهد إلا عن علم، وأن لا يشهد إلا بحق، وأن ينأى عن الإطراء والمبالغة، والقطع بما لا يعلم، فهذه من آفات المدح التي تجعله مذموماً.


 المبحث الثاني: هدي النبي صلى الله عليه وسلم في المزاح

الأصل في المسلم أن يكون جاداً، إذ لم يخلقنا في هذه الدنيا للعبث واللعب، لكن الجد لا يدوم إلا إذا خالطه شيء من المزاح، الذي هو بمثابة الملح من الطعام، فبالمزاح والدعابة تزهو علاقات الناس وتزدان مجالسهم، إذا لم يجاوز قدره، فكما يقولون : الشيء إذا جاوز حده انقلب إلى ضده.

وكما نهى ﷺ عن الإفراط في كل أمر ولو كان حسناً؛ فإنه قد نهى عن الإفراط في المزاح، لما يجر إليه من غفلة القلب وقسوته، وشغله عما خلق له من عظائم الأمور «ولا تكثر الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب» ([161])، والمزاح سبب رئيس من أسباب الضحك.

وإذا كان الإكثار من الضحك مذموماً، فإن أصلَه غيرُ ممنوع، فقد كان النبي ﷺ يستمع إلى ضحك أصحابه، ويشاركهم بالتبسم يقول جابر بن سمرة: (كان لا يقوم من مصلاه الذي صلى فيه الصبح حتى تطلع الشمس، وكانوا يتحدثون، فيأخذون في أمر الجاهلية، فيضحكون، ويتبسم ﷺ)([162]).

وحتى يتمكن الصحابة الكرام من التمازح؛ فإن النبي ﷺ كان لا يلتفت إذا مشى، وكان ربما تعلق رداؤه بالشجرة أو الشـيء، فلا يلتفت حتى يرفعوه، لأنهم كانوا يمزحون ويضحكون، وكانوا قد أمنوا التفاته ﷺ ([163]) فالصحابة يعرفون قدر النبي ﷺ فيهابون المزاح أمامه، وهو لا يريد أن يضيق عليهم فيما أحله الله لهم.

المزاح المذموم :

والمزاح يصبح حراماً إذا صاحبه مخالفة شرعية، كالكذب والترويع وغيرها مما بينه رسول الله ﷺ، فقد يخرج صاحبه عن الغاية التي شرع لأجلها.

فالبعض يمزح، ويكذب في مزاحه، و يعلله بأنه كذب أبيض، يقصد أن إضحاك الحضور وبعث السرور في نفوسهم، ولم يدر المسكين أن الكذب لون واحد محرم، سواء أكان هذا الكذب لإضحاك الناس أم لغيره، فقد قال ﷺ: «ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب، ويل له، ويل له»([164])، وفي رواية لأحمد «إن الرجل ليتكلم الكلمة لا يريد بها بأساً إلا ليضحك بها القوم؛ فإنه يقع فيها أبعد ما بين السماء والأرض» ([165]).

ويضمن النبي ﷺ‬ الجنة لمن فعل ثلاث خصال، ومنها ترك الكذب في المزاح، يقول ﷺ‬: «أنا زعيم ببيت في رَبَض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه» ([166]).

وهكذا فالمزاح مباح ما لم يتلبس بالكذب، وقد كان نبينا ﷺ يمزح ولا يكذب، قال له أصحابه: يا رسول الله إنك تداعبنا! فقال: «إني لا أقول إلا حقاً»([167]).

ومما يجعل المزاح حراماً أن يتلبس بترويع الآمنين وتخويفهم، كالاختباء للشخص؛ ثم مفاجأته بقصد تخويفه للضحك من ذلك، ومثله ترويعه بإخفاء جواله أو مفاتيح سيارته أو غيرها، بقصد الضحك والممازحة.

ولمن أراد أن ينظر هدي محمد ﷺ نذكر أن بعض أصحاب رسول الله ﷺ كانوا يسيرون مع رسول الله في مسير، فنام رجل منهم، فانطلق بعضهم إلى نبل معه فأخذها، فلما استيقظ الرجل فزع، فضحك القوم، فقال ﷺ: «ما يضحككم؟» فقالوا: لا، إلا أنا أخذنا نُبُل هذا ففزع. فقال رسول الله ﷺ: «لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً» ([168])أي "لا يحل لمسلم أي يفزع مسلماً ؛ وإن كان هازلاً كإشارته بسيف أو حديدة أو أفعى أو أخذ متاعه؛ فيفزع لفقده، لما فيه من إدخال الأذى والضرر عليه، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"([169]).

وقال ﷺ: «لا يأخذنَّ أحدُكم متاعَ صاحبه جاداً ولا لاعباً، وإذا وجد أحدكم عصا صاحبه؛ فليردها عليه» ([170]).

ومن أعظم الترويع وأمقته إلى الله رفعُ السلاح في وجه المؤمن ولو بالمزاح، فكم من مزاح انقلب إلى مأساة، لعدم الوقوف عند حدود الهدي النبوي: «لا يشير أحدُكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده، فيقع في حفرة من النار» ([171]).

 وفي حديث آخر من الوعيد ما فيه مزدجر لكل من ألقى السمع وهو شهيد: «من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى يدعه، وإن كان أخاه لأبيه وأمه» ([172]).

كما يذم المزاح إذا اقترن بمنكرات يفعلها البعض، فتهدم الأسر أحياناً وتهدم الدين في أحيانَ أخرى.

وأما ما يهدم الأسر فهو ما دأب عليه بعض الأزواج من جعل الحلف بالطلاق فاكهة لمجالسهم، فإذا أراد من زميله أن يكمل عشاءه حلف عليه بالطلاق؛ فلربما أكل الزميل فسعدت الأسرة، ولربما امتنع فوقعت المصيبة وتشتت الأبناء، وكذلك إذا أراد هذا العابث التأكيد على حضوره لموعد ما أقسم بالطلاق، ولربما أراد ممازحة زميل له، فطلق زوجته هازلاً في ذلك، أو لربما زوج بعضهم ابنته لصديقه وهو يمزح في ذلك كله ولا يقصده، وقد قال النبي ﷺ: «ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة» ([173]).

وأما ما يهدم الدين من المزاح، فهو ما خرج عن دائرة الشرع وضوابطه، وأوقع صاحبه في أبواب الكبائر، ونراه عند كثيرين اليوم، ممن لا يجدون مادة لطرفتهم وظُرْفهم إلا الدين وما يتعلق به من مقدسات، فالبعض يطلق نكاتاً وطُرفاً يتلبسها الاستهزاء ببعض القرآن أو الأنبياء أو الأحكام الفقهية أو العلماء حملة الدين، وهذا باب خطير حذر منه القرآن، واعتبره نوعاً من النفاق.

وقد وقع هذا النوع من المزاح من بعض المنافقين يوم تبوك حين استهزؤوا برسول الله ﷺ وأصحابه حين قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسنة، ولا أجبن عند اللقاء.

فبلغ ذلك النبي ﷺ، فسألهم، فأقروا واعتذروا إليه بأنهم كانوا يمزحون ويهزلون، وأنهم لم يقولوا هذا جادين، فأنزل الله: ﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ` لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾ (التوبة:64-65) ([174]).

قال القاضي ابن العربي: "لا يخلو أن يكون ما قالوه من ذلك جداً أو هزلاً، وهو - كيفما كان - كفر، فإن الهزْل بالكفر كفر لا خلاف فيه بين الأمة، فإن التحقيق أخو العلم والحق، والهزل أخو الباطل والجهل"([175]).

والإمام ابن تيمية ينقل اتفاق المسلمين على أن كفر مرتكب الإساءة إلى النبي ﷺ ولو بالهزل: " قد اتفقت نصوص العلماء من جميع الطوائف على أن التنقص له [ﷺ] كفر مبيح للدم .. ولا فرق في ذلك بين أن يقصد عيبه .. أو لا يقصد شيئاً من ذلك، بل يهزل و يمزح أو يفعل غير ذلك، فهذا كله يشترك في هذا الحكم إذا كان القول نفسه سباً ، فإن الرجل يتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت؛ يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب"([176]).

وأما ما نراه من بعض الناس من استخدام آيات القرآن في غير ما نزلت له من المزاح واللغو من غير الوقوع في الاستهزاء، فإن أقل ما يقال في فعل هؤلاء أنه مكروه، قال النووي: "يكره من ذلك ضرب الأمثال في المحاورات والمزح ولغو الحديث، فيكره في كل ذلك تعظيماً لكتاب الله تعالى"([177]).

وقد استقبح القرآن الكريم اتهام اليهود لموسى عليه السلام بالهزل والمزاح حين أمرهم بذبح البقرة فقالوا: ﴿أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً﴾، أي أتمازحنا وتهزل معنا؟ وما درى هؤلاء أن الهزل لا يكون في مثل هذا، فالدين والوحي والبلاغ عن الله هو أبعد ما يكون عن هذا الباب، لذا أجابهم موسى عليه السلام بقوله: ﴿ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ (البقرة: 67).

والبعض يتجنب المزاح الحرام، لكنه لا يمتنع عن مجالسة أهله، ولربما شاركهم بالتبسم والاستماع، وهذا باب من الحرام والمشاركة في الإثم، وقد حذر الله منه في القرآن فقال لنبيه ﷺ وللمؤمنين من بعده: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ (الأنعام: 86)، فالخوض مع هؤلاء يعرضهم لسخط الله ﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ` قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ` وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ` وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ﴾ (المدثر: 42-45)، فالجلوس مع هؤلاء الهازلين ومشاركتهم الضحكَ على طرفهم التي جعلت من الدين مادة للسخرية سبب في استجلاب مقت الله، وهو نوع من المشاركة والرضا بما يصدر منهم ﴿ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً ﴾ (النساء:140).

 قال الطبري في تفسيره: "وقد نزل عليكم أنكم إن جالستم من يكفر بآيات الله ويستهزئ بها وأنتم تسمعون، فأنتم مثله، يعني: فأنتم إن لم تقوموا عنهم في تلك الحال، مثلُهم في فعلهم، لأنكم قد عصيتم الله بجلوسكم معهم، وأنتم تسمعون آياتِ الله يكفر بها ويستهزأ بها، كما عصوه باستهزائهم بآيات الله، فقد أتيتم من معصية الله نحو الذي أتَوْه منها، فأنتم إذاً مثلهم في ركوبكم معصية الله، وإتيانكم ما نهاكم الله عنه"([178]).

ولما كان الاستماع إلى المزاح الحرام يشرك السامع في المعصية، فإن النبي ﷺ لم يرض به في مجلسه، بل استنكره، فقد صعد ابن مسعود t على شجرة، فنظر أصحابه إلى ساقه وكانت نحيلة جداً،  فضحكوا من ذلك، فقال رسول الله ﷺ : «ما تضحكون! لرِجلُ عبد الله أثقل في الميزان يوم القيامة من أحد» ([179]).

وهكذا فالمزاح يحرم ويكره حين تتلبسه المحرمات والمكروهات، ولكنه مباح حين يبرأ من هذه الرزايا وأمثالها ، بشرط أن لا يجاوز قدره.

صور من مزاح النبي ﷺ :

وقد أجاز العلماء المزاح، ونقل المناوي أنه "قيل لابن عيينة: المزاح سبة؟ فقال: بل سُنَّة، ولكن من يحسنه، وإنما كان [ﷺ] يمزح، لأن الناس مأمورون بالتأسي به والاقتداء بهديه، فلو ترك اللطافة والبشاشة، ولزِم العبوس والقطوب لأخذ الناس من أنفسهم بذلك على ما في مخالفة الغريزة من الشفقة والعناء، فمزح ليمزحوا، ولا يناقض ذلك خبر «ما أنا من دد، ولا الدد مني» فإن الدد اللهو والباطل، وهو كان إذا مزح لا يقول إلا حقاً"([180]).

وقد مزح النبي ﷺ مع أصحابه، فكيف كان ﷺ يمزح، ولم كان يمزح، هل لمجرد الضحك والتسلي، أم كان له ﷺ في مزاحه مقاصد سامية؟

لا ريب أن مزاح النبي ﷺ مبرء عن العبث؛ مشتمل على مقاصد عظيمة ودروس تربوية بليغة، ما أحرانا أن نعمل على تلمسها من خلال تتبع بعض صور مزاحه ﷺ.

وأول ما يلوح لنا من هذه المقاصد في تحببه ﷺ لأصحابه ومؤانسته لهم، وقد نبه عليه النووي بقوله: "المزاح المنهي عنه ما فيه إفراط ومداومة، فإنه يورث الضحك والقسوة، ويشغل عن الذكر والفكر في مهمات الدين، فيورث الحقد، ويسقط المهابة والوقار.

 وما سلم من ذلك هو المباح الذي كان المصطفى صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم يفعله، فإنه إنما كان يفعله نادراً لمصلحة، كمؤانسة وتطييب نفس المخاطب، وهذا لا منع منه قطعاً، بل هو مستحب"([181]).

ومن مزاحه ﷺ الذي يتحبب به إلى أصحابه أنه قدم إليه صهيب الرومي وهو رمد العين، وبين يدي النبي ﷺ تمر وخبز، فقال لصهيب: «أدن فكُل»، فأخذ صهيب يأكل من التمر دون الخبز، فقال له النبي ﷺ مازحاً: « تأكل تمراً وبك رمد؟!» قال: إني أمضغ من ناحية أخرى. فتبسم رسول الله ﷺ ([182]).

وفي مرة أخرى دخل رجل على النبي ﷺ فقال: يا رسول الله احملني، قال النبي ﷺ مازحاً: «إنا حاملوك على ولد ناقة»، فظن الرجل أن النبي ﷺ‬ يحمله على ابن صغير للناقة فقال: وما أصنع بولد الناقة، فقال ﷺ: «وهل تلد الإبل إلا النوق» ([183]).

وفي رجوع النبي ﷺ من غزوة تبوك جلس في قبة صغيرة، فأتاه عوف بن مالك الأشجعي يستأذن في الدخول عليه، يقول عوف: فسلمتُ، فردَّ وقال: «ادخل».

فلما رأى عوف صغر القبة قال للنبي ﷺ ممازحاً: أكلي يا رسول الله؟ قال: «كلُّك»، فدخل t([184]).

وجاءت امرأة إلى النبي ﷺ تقول له: يا رسول الله، ادع الله لي أن يدخلني الجنة. فقال لها: «يا أم فلان، إن الجنة لا يدخلها عجوز».

ولم تفطن المرأة لمزاح النبي ﷺ معها، فانزعجت، وبكت ظناً منها أن العجائز من أمثالها لا يدخلون الجنة، فلما رأى ذلك ﷺ منها بيَّن أن العجوز لن تدخل الجنة عجوزاً، بل ينشئها الله خلقاً آخر، فتدخلها شابة بكراً، وتلا عليها قول الله تعالى : ﴿إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً ` فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا ` عُرُبًا أَتْرَابًا ﴾ (الواقعة: 35-37) ([185]).

ومن مزاح النبي ﷺ بقصد التحبب وتطييب النفس مزاحُه مع أعرابي ذميم الخِلقة، يستنكف الكثيرون عن المزاح مع مثله، أما النبي ﷺ الذي يزن الرجال بميزان الله ؛ الإيمان والتقوى، فلا يستنكف عن ممازحة هؤلاء، بل لعلهم أحق به لضعفهم وإعراض الناس عنهم.

والقصة يحكيها أنس بن مالك ، فيذكر أن زاهراً من أهل البادية ، كان النبي ﷺ يحبه، وكان رجلاً دميماً، فأتاه النبي ﷺ يوماً وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفه، وزاهر لا يبـصره، فقال الرجل: أرسلني. من هذا؟

فالتفت، فعرف النبي ﷺ، فجعل لا يألوا ما ألصق ظهره بصدر النبي ﷺ حين عرفه، وجعل النبي ﷺ يقول ممازحاً: «من يشتري العبد؟» فقال: يا رسول الله: إذاً والله تجدني كاسداً. فقال ﷺ: «لكن عند الله لست بكاسد» أو قال: «لكن عند الله أنت غالٍ» ([186]).

ومن مزاحه ﷺ مع أصحابه أنه كان يقول لهم: «ارموا، من بلغ العدو بسهم رفعه الله به درجة» [أي في الجنة] فسأله أحد أصحابه: يا رسول الله وما الدرجة؟ فقال ﷺ له مداعباً: «أما إنها ليست بعتَبة أمك، ولكن ما بين الدرجتين مائة عام»([187]).

ولكن أهم ما يمزح لأجله العقلاء؛ التربية والتنبيه على الخطأ بعيداً عن أساليب الجفاء والغلظة والمواجهة بالخطأ ، وهذا ما صنعه النبي ﷺ مع خوات بن جبير الأنصاري حين رآه جالساً إلى نسوة بطريق مكة فقال له: «يا أبا عبد الله مالك مع النسوة؟»، فتلعثم خوات، وبدلاً من أن يقر بخطئه ويستغفر قال: يفتلن ضفيراً لجمل لي شرود.

فمضى رسول الله لحاجته ، ثم عاد فلقي خوات فقال له: «يا أبا عبد الله، أما ترك ذلك الجمل الشِّراد بعد؟».

 قال خوات: فاستحيت وسكت، فكنت بعد ذلك أتفرر منه؛ حتى قدمت المدينة، فرآني في المسجد يوماً أصلي، فجلس إلي، فطوَّلتُ في صلاتي فقال: «لا تطوِّل، فإني أنتظرُك»، فلما سلمت، قال: «يا أبا عبد الله، أما ترك ذلك الجمل الشِّرادَ بعد؟».

 فسكتُّ واستحيت فقام، وكنت بعد ذلك أتفرر منه، حتى لحقني يوماً، فقال: «يا أبا عبد الله، أما ترك ذلك الجمل الشِّرادَ بعد؟».

وهنا آتى المزاح ثماره في التنبيه على الخطأ والإرشاد؛ فقال خوات معترفاً بالحقيقة: والذي بعثك بالحق ما شرد منذ أسلمت. فقال ﷺ وهو مسرور بإنابة خوات: «الله أكبر، الله أكبر، اللهم اهد أبا عبد الله». فحسن إسلامه وهداه الله([188]).

وهكذا فإنه ﷺ كان يمزح مع أصحابه من غير أن يكون هذا ديدنه، وكان مزاحه ﷺ بقصد الإيناس والتحبب، لا مجرد الهزل واللعب، وكان في مزاحه لا يقول إلا حقاً، وصدق ابن قتيبة بقوله: "وقد درج الصالحون والخيار على أخلاق رسول الله ﷺ في التبسم والطلاقة والمزاح بالكلام المجانب للقدح والشتم والكذب "([189])، فهذا أدب النبي ﷺ في المزاح وأدب أصحابه من بعده، فقد وصفهم بكر بن عبد الله فقال: "كان أصحاب النبي ﷺ يتبادحون بالبطيخ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال"([190])، فمزاحهم لا يشغلهم عن الحق، ولا يغيِّب علامات الجد والرجولة.

 المبحث الثالث:الوفاء للزوجة وأهل العشرة والمعروف

كلنا يلقى الخير من والديه وزوجه وأساتذته وبعض جيرانه وأحبابه، ثم تدور الأيام، فينسى المرء حق هؤلاء أو بعضهم عليه، ولربما لقي في الشارع أستاذه فأعرض عن السلام عليه، ولربما نسي الواحد فضل زوجه عليه وتعبها في تربية أبنائه ورعاية بيته، فطلقها بعد طول خدمتها له ولأولاده لسبب تافه أو لغير سبب، وأعظم منه جرماً أن ينسى بعضنا حق والديه عليه وما قدماه له حال صغره، فيعرض عنهما في كبرهما، ولربما أهمل رعايتهما ، وأسلمهما إلى دور الرعاية لتقوم بالواجب نيابة عنه.

لذا فنحن أحوج ما نكون للتأمل في خُلة جميلة تزين بها المصطفى ﷺ، وهي الوفاء الذي هو حسن العهد، وهو الذي عده النبي ﷺ من خصال الإيمان: «وإن حسن العهد من الإيمان» ([191]).

وقد شرح الشوكاني الحديث بقوله: " «إن حسن العهد» أي الوفاء والخِفارة ورعاية الحرمة «من الإيمان» أي من أخلاق أهل الإيمان ومن خصائلهم أو من شعب الإيمان "([192]).

صور من وفاء النبي ﷺ لزوجه خديجة :

ولمزيد من التأكيد والغرس لهذا الخلق الفاضل نتذاكر بعض مواقف الأسوة الحسنة لمحمد ﷺ في وفائه وحسن عهده لزوجه خديجة رضي الله عنها، فقد تزوجها النبي ﷺ وهو في الخامسة والعشرين من العمر، بينما بلغت الأربعين حينذاك، وكان زواجه منها ميموناً ، فكانت نِعمَ الأمِّ لأبنائه، كما واسته بمالها، وآزرته برجاحة عقلها وحسن تبعلها، فكانت سيدة الزوجات وقدوتهن إلى يوم الدين.

ولما أكرم الله نبيه ﷺ بالنبوة والرسالة كانت أم المؤمنين خديجة أول من صدَّق النبي ﷺ وآمن به، ووقفت معه بمالها ومشاعرها وكلِّها إلى أن ماتت رضي الله عنها في العام العاشر للبعثة النبوية، فسمي ﷺ عام فراقها بعام الحزن، لبالغ حزنه على موت خديجة رضي الله عنها.

وطوال حياته ﷺ بقي وفياً لخديجة لا يفتر لسانه عن ذكرها بالخير والدعاء لها وتذكر جميلها وحقوقها عليه ﷺ ، فصدق فيه قول الإمام الشافعي: "الحر يحفظ وداد لحظة"، وفي هذا الفصل البديع من فصول سيرة النبي ﷺ درس لكل زوج وخاصة ذاك الذي ينسى سراعاً عـشرة زوجته، فيسارع إلى طلاقها أو إيذائها ناسياً سابق جميلها والأيام الجميلة التي قضاها معها.

لكن الجديد الذي أعيى الباحثين في سير الرجال وتراجم العظماء أن يجدوا مثيلاً له؛ الوفاء بعد الوفاة، حيث لا يشعر الميت بمشاعر الحي ولا يدركها، فسرعان ما تذبل هذه المشاعر وتذوي وتطويها ذاكرة النسيان.

وخصلة الوفاء للميت بعد وفاته مأثرة من مآثر النبي ﷺ، وخصلة بديعة من خصاله القرآنية، فقد وصفت عائشة رضي الله عنها وفاءه لخديجة وقد ماتت قبل زواجه من عائشة بسنوات ، فتقول: (ما غرت على امرأة للنبي ﷺ ما غرت على خديجة، لما كنت أسمعه يذكرها .. وإن كان ليذبح الشاة فيهدي في خلائلها [أي صديقاتها] منها ما يسعهن) ([193]).

مظهران من مظاهر الوفاء لخديجة الحبيبة الراحلة: ذكرُها بلسان محب لا يمل من ذكر الحبيب ومآثره، وإكرامُ أهلها وذويها وصديقاتها؛ بِرَّاً بها.

وفي رواية أن عائشة رضي الله عنها لما رأت النبي ﷺ يكثر من ذكر خديجة رضي الله عنها، ويهدي إلى صديقاتها قالت: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة. فكان الزوج الوفي يرد بالقول: «إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد» ([194]).

قال النووي : "في هذه الأحاديث دلالة لحسن العهد، وحفظ الود، ورعاية حرمة الصاحب والمعاشر حياً وميتاً، وإكرام معارف ذلك الصاحب"([195]).

وقال ابن بطال : "حسن العهد في هذا الحديث هو إهداء النبي عليه السلام اللحم لأجوار [أي جيران] خديجة ومعارفها؛ رعياً منه لذمامها، وحفظاً لعهدها"([196]).

وتنقل أم المؤمنين عائشة صورة أخرى عجيبة من صور الوفاء للزوجة بعد وفاتها، لا يقف عند ذكر الزوجة بالخير ، بل يتضمن الدفاع عنها والذب عن حرمتها ولو كان القبر قد غيبها، لكنه لم يغيب حقها وذكراها، وقد صنعه ﷺ حين استأذنت عليه هالة بنت خويلد أخت خديجة ، فعرف ﷺ استئذان خديجة [أي لشبه صوتهما]، فارتاح لذلك، فقال: «اللهم هالة».

 تقول أم المؤمنين عائشة: فغِرت. فقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين، هلكت في الدهر، قد أبدلك الله خيراً منها([197]).

فرد عليها النبي ﷺ وهو الزوج الوفي الذي لا ينسى محاسن خديجة وسابق فضلها: «ما أبدلني الله عز وجل خيراً منها، قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرمني أولاد النساء».

وفي رواية أن عائشة أدركت وفاء النبي ﷺ ومحبته لزوجه الراحلة فقالت: (والذي بعثك بالحق لا أذكرها بعد هذا إلا بخير)([198]) ، فأعظم صور الوفاء ديمومة الحب بعد الوفاة، فقد قال رسول الله ﷺ عنها بعد وفاتها: «إني قد رزقت حبها»([199]).

وفي مرة أخرى دخلت على رسول الله ﷺ - وهو عند عائشة - عجوزٌ تدعى أم زفر كانت ماشطة لخديجة، فقال لها رسول الله ﷺ: «من أنت ؟» قالت: أنا جَثامة المُزنية، فقال: «بل أنت حَسانة المزنية، كيف أنتم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟» قالت : بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله.

 فلما خرجت قالت عائشة: يا رسول الله ، تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟ فقال : «إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان» ([200]).

ومن صور الوفاء للزوجة ولغيرها من أصحاب الحقوق الدعاء لهم بعد وفاتهم، فقد كان رسول الله ﷺ إذا ذكر خديجة لم يكن يسأم من ثناء عليها والاستغفار لها([201])، فالاستغفار للميت من خير ما يهدى إليه، وهو دليل وفاء،  وحجة صدق في العهد، لا يفرط في فعله كل من يحب النبي ﷺ ويتأسى به.

الوفاء للأصحاب وغيرهم حال الخطأ والزلل :

والوفاء ليس خاصاً بالزوجة، بل هو خلق كريم يرعاه المرء مع جاره وصاحبه ومع كل ذي مودة وفضل وسابق عشرة.

 وعشرة هؤلاء وأمثالهم من أهل الفضل والود لا تسلم من منغصات واختلاف، فلا تحلو الصحبة أو الجيرة دوماً، بل لابد – بسبب طبيعتنا البشرية -أن يثلمها بعض ما يكدرها، فكيف نصنع إذا وقع شيء من تلك المكدرات؟ هل ننسى ما فات من طويل صحبة لهفوة ساعة؟ ما هو منهج النبي ﷺ في التعامل مع أهل عشرته إذا عثروا؟

لقد حذر النبي ﷺ أولئك الذين ينسون الود ولا يحفظونه وتهددهم بالنار، فقد وقف يوماً بين أصحابه يحدثهم عن رؤيته للجنة والنار، فقال : «وأُريت النار، فلم أر منظراً كاليوم قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء»، قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: «بكفرهن؟» قيل: يكفرن بالله؟ فقال ﷺ: «يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله، ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط» ([202])، وفي هذا الحديث "وعظ وزجر عن كفر الإحسان وجحدِه عند بعض التغيير ومواقعةِ شيء من الإساءة؛ فإنه لا يسلم أحد مع طول المؤالفة من إساءة أو مخالفة في قول أو فعل، فلا يُجحد لذلك كثيرُ إحسانه ومتقدمُ أفضاله"([203]).

والنبي ﷺ أكمل الناس خلقاً، كان يأمر أصحابه بالتماس المعاذير لأهل الخطأ، وكان يصفح عما يقع فيه بعض أهل عشرته، ممن أحسن وأجاد فيما سبق، فلا ينسى سابقته لخطأ أخطأه أو لهفوة فعلها، فهذا هو حسن العهد الذي نسميه الوفاء.

وقد صنع ذلك النبي ﷺ مع من أخطأ من أصحابه، صنعه مع حاطب بن أبي بلتعة حين أرسل إلى قريش يفشي لهم أسرار جيش النبي ﷺ القادم إلى مكة، فأطلع الله نبيه على صنيع حاطب، فدعاه، وقال : «ما حملك على ما صنعت؟» فقال حاطب: والله ما بي أن لا أكون مؤمناً بالله ورسوله ﷺ ، أردت أن يكون لي عند القوم يد يَدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله.

 فقال النبي ﷺ: «صدق، ولا تقولوا له إلا خيراً .. أليس من أهل بدر .. لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة، أو فقد غفرت» ([204]).

قال الطبري: "في حديث حاطب بن أبي بلتعة من الفقه أن الإمام إذا ظهر من رجل من أهل السِتر؛ على أنه قد كاتب عدوًا من المشركين ينذرهم ببعض ما أسره المسلمون فيهم من عزم، ولم يكن الكاتب معروفًا بالسفه والغش للإسلام وأهله، وكان ذلك من فِعله هفوةً وزلة من غير أن يكون لها أخوات؛ فجائز العفو عنه كما فعله الرسول بحاطب من عفوه عن جرمه بعدما أُطلع عليه من فعله"([205]).

ومثل هذا الخلق الرفيع والسلوك الجميل صنعه الصديق وابنته الصديقة عائشة مع مِسطحٍ وحسان، وكانا قد تكلما فيمن تكلم في الإفك، فغفرا لهما لسابقتهما في الإسلام.

فأما مِسطح فكان قريباً للصديق ، وكان الصديق ينفق عليه، فلما أخطأ مِسطح في خوضه في الإفك توعده الصديق بترك النفقة ، فلما ذكَّر الله المؤمنين بسابقته في الإسلام، وأنه t من     ﴿ الْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ (النور: 22) قال الصديق: (بلى، والله إني لأحب أن يغفر الله لي)، فرجع إلى مِسطحٍ بالنفقة التي كان ينفق عليه ([206]). 

وبمثل هذا الأدب النبوي صنعت ابنته الصديقة عائشة رضي الله عنها مع حسان بن ثابت t، فرغم خوضه في الإفك؛ لم تنس الصديقة له سابقته ولا تناست حسن صحبته للنبي ﷺ وبلائه في الذبِّ عن الإسلام، فقد سمعت عروة ابن أختها ينال من حسان، فقالت: (يا ابن أختي دعه، فإنه كان ينافح عن رسول الله ﷺ) ([207]).

وفي رواية أن عروة قال: (كانت عائشة تكره أن يُسب عندها حسان، وتقول: إنه الذي قال:  

فإن أبي ووالدَه وعِرضي           لعِرض محمدٍ منكم وِفاء) ([208]).

وهذا الأدب في الغض عن إساءات المحسنين تعلمه الصديق وابنته من النبي الأسوة ﷺ، فقد سمعته عائشة رضي الله عنها يقول: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتِهم؛ إلا الحدود» ([209]).

بل إن النبي ﷺ عرَف للمطعم بن عدي – وهو مشـرك أجار النبي ﷺ في مكة – إحسانه وسابقة فضله، فحين وقع في يده أُسارى المشركين في بدر قال: «لو كان المطعِم بنُ عَدي حياً، ثم كلمني في هؤلاء النتنى؛ لتركتهم له» ([210]).

وهكذا يترجم النبي ﷺ معنى الحب الصادق الذي لا يتوقف عند حدود الزمان ، ولا يأبه لتصـرم السنين والأيام، وفيه أسوة حسنة لكل من ألقى السمع وهو شهيد.

***


 الفصل الرابع:من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صناعة المجتمع المسلم

وفيه مباحث:

المبحث الأول : الميزان في وزن الرجال .

 المبحث الثـاني: صناعة المعروف .

 المبحث الثالث: الهدية .

المبحث الرابـع : آداب المداينة .

المبحث الخامس : سلامة المجتمع من الشقاق .


 المبحث الأول: الميزان في وزن الرجال

الفخر بالنسب والتباهي به من أوائل المعاصي التي عصـي بها الرب تبارك وتعالى، فحين أمر الله إبليس بالسجود لآدم؛ تكبر وتعالى بأصله الشريف ﴿أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ﴾ (البقرة : 12).

وإلى يومنا هذا ما زال من عادة الناس التفاخر بالحسب والزهو بالنسب ، فهذا لا يخطِّب ابنته إلا ابن قبيلته، إذ لا يساميه في الشـرف أحد، فهو سليل الأماجد، والناس جميعاً دونه سوقة ورعاع.

والفخر على الناس بالحسب والنسب غريب عن مقومات المجتمع المسلم، وهو سمة من سمات الجاهلية التي تنبأ النبي ﷺ بديمومة بعض المسلمين على فعلها تأثراً بالجاهلية وأدرانها «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونَهن: الفخرُ في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنِّيَاحة» ([211]).

وهكذا فإن ميزان الجاهلية في تقويم الناس واحترامهم يعتمد على الحسب والنسب والمال وأمثال ذلك، وهي أمور لا تعدو - لو كانت مَزِيَّة - أن تكون بعضَ فضلِ الله على عباده، وهذا مدعاة التواضع والشكر له تبارك وتعالى ، لا الفخرَ على عباده والتكبر عليهم.

وحين بعث النبي ﷺ ؛ شرع في تصحيح أخطاء الجاهلية وتغيير قيمها الخاطئة، فعالج الأسوةُ الحسنة ﷺ هذه الخَصْلة الذميمة التي كانت سائدة في المجتمع الجاهلي وأرسى الموقف الإسلامي الصحيح في  مسألة التفاخر بالنسب.

وبداية نقول: إن النبي ﷺ أخبر أن الناس جميعاً متساوون في الآدمية، فكلهم أبناء آدم، وهم جميعاً على اختلاف ألوانهم وأجناسهم مكرَّمون بما خصه الله من خصائص الإنسانية ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ (الإسراء: 70).

وإذا كان جميع البشر متساوين في الإنسانية، فإنما تتفاوت أقدارهم بأمر زائد على إنسانيتهم، وهو ما يقدمونه بين يدي الله من أعمال صالحة ترفع منزلتهم عنده وعند عباده ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ (الحجرات: 13).

ميزان الجاهلية في تقديم أهل الحسب والنسب والجاه :

ولقد شنع النبي ﷺ على فعل أولئك الذين يتفاخرون على عباد الله بأحسابهم وأنسابهم، واعتبر صنيعهم من بقية أدران الجاهلية، والمفروض بالمسلم أن يتسامى عليها ويترفع عنها:  «إن الله عز وجل قد أذهب عنكم عُبِيَّة الجاهلية وفخرَها بالآباء، [الناس] مؤمن تقي، وفاجر شقي، والناس بنو آدم، وآدم من تراب، ليدَعنَّّ أقوام فخرَهم برجال أو ليكونُنَّ أهون على الله من الجِعلان التي تدفع بأنفها النتن» ([212]).والجِعلان هي الحشرات التي تلامس القاذورات.

وفي رواية أنه قال: «لا تفتخروا بآبائكم الذين ماتوا في الجاهلية، فوالذي نفسي بيده لما يدهده الجُعل بمنخريه خير من آبائكم الذين ماتوا في الجاهلية» ([213])، فشبه ﷺ "المفتخرين بآبائهم الذين ماتوا في الجاهلية بالجعلان، وآباءَهم المفتخرَ بهم بالعذْرة، ونفسَ افتخارِهم بهم بالدفعِ والدهدهةِ بالأنف، والمعنى أن أحد الأمرين واقعٌ ألبتة: إما الانتهاءُ عن الافتخار، أو كونُهم أذلَّ عند الله تعالى من الجعلان الموصوفة"([214]).

ولما كان الفخر بالأنساب عملاً من أعمال الجاهلية؛ فإن النبي ﷺ ما فتئ يحذر منه، ويربي أصحابه: «إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا؛ حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخرْ أحد على أحد» ([215]).

ولما رأى النبي ﷺ بعضَ التفاخرِ بالنسب بين أصحابه؛ سارع إلى تقويمهم، ومن ذلك خبرُ سعدِ بنِ أبي وقاص الزهري، الذي كان النبي ﷺ‬ يخصه بمزيد محبة، لأنه من بني زهرة أهل أمِِ النبي ﷺ ، فكان ﷺ يقول لأصحابه عن سعد متحبباً: «هذا خالي، فليُرِني امرؤ خالَه» ([216]).

لكن سعداً حين سمع t النبي يقول فيه ذلك؛ ظن أن له فضلاً على غيره، فنبهه ﷺ على خطئه، وبين له فضل الضعفاء ومنزلَتهم عند الله بقوله الذي يرويه  لنا مصعبُ بنُ سعد بنِ أبي وقاص بقوله: رأى سعد t أن له فضلاً على من دونه فقال ﷺ : «هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم» ([217]).

وفي موقف آخر بلغ صفيةَ بنتَ حيي أن حفصةَ بنتَ عمر قالت عنها أنها ابنة يهودي، فبكت صفية لذلك، فدخل عليها النبي ﷺ وهي تبكي، فقال: «ما شأنُك؟»، فأخبرته بما قالته حفصة عنها، فقال ﷺ مواسياً: «إنك ابنة نبي [أي هارون لأنها من نسله]، وإن عمك لنبي [أي موسى عليه السلام]، وإنك لتحت نبي [أي هي زوجة نبي]، ففيم تفخر عليك؟»

ولم يفُتْه ﷺ النصح لزوجه المخطئة فقال لها: «اتق الله يا حفصة» ([218]).

قال المباركفوري : " قال «اتقي الله» أي مخالفته أو عقابه؛ بترك مثل هذا الكلام الذي هو من عادات الجاهلية"([219]).

ونلحظ هنا أن النبي ﷺ أرشد إلى طريقة ينجبر بها كل نسب يظنه البعض سُبة، وهي الانتساب إلى الأب الشـريف ولو كان بعيداً، كما هو الحال في صفية، فهي من نسل هارون عليه السلام الذي مضى قبل الإسلام بألفي سنة، ومثل هذا الأب البعيد لا يعدمه أحد في دنيا الناس اليوم.

وذات مرة انتسب رجلان على عهد رسول الله ﷺ ، فقال أحدُهما للآخر: أنا فلان بنُ فلان، فمن أنت لا أم لك؟ فما كان من رسول الله ﷺ إلا المسارعة إلى علاج هذا الخلل بذكر قصة مشابهة حصلت زمن موسى عليه السلام، فقال ﷺ: «انتسب رجلان على عهد موسى عليه السلام، فقال أحدهما: أنا فلانُ بنُ فلان - حتى عد تسعة - فمن أنت لا أم لك؟ فقال الآخر: أنا فلانُ بنُ فلان ابنُ الإسلام.

قال ﷺ: فأوحى الله إلى موسى عليه السلام أنَّ هذين المنتسبين، أما أنت أيها المنتسب إلى تسعة في النار، فأنت عاشرُهم، وأما أنت يا هذا المنتسبُ إلى اثنين في الجنة، فأنت ثالثُهما في الجنة» ([220]).

وهكذا ينبغي أن يدع المتأسون بالنبي ﷺ فعلَ الجاهلية وضلالَها بالافتخار بالأحساب والأنساب والأجناس والأعراق والألوان والبلدان، فكلنا بنو آدم، وإنما تتفاوت أقدارنا عند الله بعبادتنا له وتكريمه تبارك وتعالى لنا.

إن أكرمكم عند الله أتقاكم :

ولابد لنا هنا من الحديث عما أرساه ﷺ بدلاً عن الحسب والنسب من قيم إسلامية، يتفاضل الناس على أساسها فيما بينهم؛ إنه قربهم من الله تعالى وعبادتهم له ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ (الحجرات: 13).

هذا المبدأ الإسلامي العظيم رسخه النبي ﷺ في أقوال كثيرة ربط فيها الخيرية بالعمل الصالح، ومنها قولُه ﷺ: «خيرُكم من تعلم القرآن وعلمه» ([221] وقولُه: «خيرُكم من يرجى خيره ويؤمن شره» ([222] وقولُه: «خيرُكم خيرُكم لأهله، وأنا خيرُكم لأهلي» ([223] وقولُه: «خيرُكم إسلاماً أحاسنُكم أخلاقاً إذا فقِهوا» ([224] وقولُه: «خيرُكم من أطعم الطعام أو الذين يطعمون الطعام» ([225])، ففي هذه الأحاديث ربطٌ للخيرية بأعمال صالحة يتعدى نفعُها إلى الآخرين، هي تعلُمُ القرآن وتعليمُه، وحسنُ المعاملة مع الأهل وغيرِهم، وكفُ الـشر والأذى، وإطعامُ الطعام.

وذات يوم جلس أصحاب النبي ﷺ يتحادثون في أكرم العرب نسباً، فهذا الموضوع له عمق وأهمية في مخيلة العربي الذي نشأ في البيئة العربية التي ما فتئ الناس فيها يتفاخرون بالأحساب والأنساب، ثم رأوا أن يحسموا أمرهم بسؤال النبي المعصوم الذي يوحى إليه، فقالوا: يا رسول الله ، من أكرم الناس؟ فأجاب النبي ﷺ بأخـصر جواب وأدقه وأعمقه: «أتقاهم».

لكن الصحابة كانوا يبحثون عن إجابة سؤال آخر، إنهم يريدون معرفة أكرمِ الناس نسباً وأعلاهُم مقاماً، فقالوا: ليس عن هذا نسألك. فأجابهم ﷺ وهو يغرس ميزان الإسلام في صدورهم: «فيوسف، نبيُّ الله ابنُ نبي الله ابنِ نبيِّ الله ابنِ خليل الله».

لقد عاد النبي ﷺ للتأكيد على ميزان الخيرية الإسلامي الذي يقدم المرء حسب الإيمان ونسب العقيدة، وهو بالطبع ليس جواب السؤال الذي يسأله الصحابة، لذلك قالوا ثانية: ليس عن هذا نسألك! فقال ﷺ: «فعن معادن العرب تسألون، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقُهوا» ([226]).

قال القاضي عياض: "وقد تضمن الحديث في الأجوبة الثلاثة أن الكرم كلَّه عمومَه وخصوصَه ومجملَه ومبانيه؛ إنما هو الدين، من التقوى والنبوة والإسلامِ مع الفقه"([227]).

ولقد تكرر سؤال الصحابة للنبي ﷺ عن خير الناس وأفضلِهم في مواطن كثيرة، فما فتئ ﷺ في جوابه يؤكد على خيرية العبادة والعمل، فحين  جاءه أعرابي فقال: أي الناس خير؟ فأجابه ﷺ: «رجل جاهد بنفسه وماله، ورجل في شِعب من الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شره» ([228]).

وفي مرة أخرى سأله الصحابة: أي الناس خير؟ فقال وهو يؤكد على أن الخيرية خيرية القيم والعمل: «من طال عمره وحسُن عمله» ([229]).

وذات مرة قام إليه رجل وهو على المنبر، فقال: يا رسول الله، أي الناس خير؟

فلم يجبه النبي ﷺ بأن خير الناس أكثرُهم مالاً وولداً، ولا أحسنُهم جاهاً أو أكرمُهم نسباً، بل قال: «خير الناس أقرؤهم، وأتقاهم، وآمرهم بالمعروف، وأنهاهُم عن المنكر، وأوصلُهم للرحم» ([230])،  فالتكريم عند الله والتفاضل والخيرية إنما هو بالتقوى والعمل الصالح، الذي يرفع مقام العبد عند الله، والكريم عند الله ينبغي أن يكون كريماً عند المؤمنين، والعكس بالعكس.

لقد أراد النبي ﷺ وهو يبعث في مجتمع جاهلي القيم، يقدم أهل الدنيا ويؤثِرهم على غيرهم، أراد أن يصحح القيم بروية الحكيم وتأني المشفق الناصح؛ فما زال كذلك حتى خلص المجتمع من أدرانها.

ومن هذه  القيم الإسلامية الجديدة قوله ﷺ لمن أراد الزواج مخلصاً إياه من قيم الجاهلية: «تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك» ([231] والمعنى: "أن اللائق بذي الدين والمروءة، أن يكون الدين مطمحَ نظره في كل شيء، لا سيما فيما تطول صحبته، فأَمره النبي ﷺ بتحصيل صاحبة الدين، الذي هو غاية البُغية، وقد وقع في حديث عبد الله بنِ عمرو «لا تزوجوا النساء لحسنهن، فعسى حسنهن أن يرديهُن - أي يهلكهُن - ، ولا تزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهُن ، ولكن تزوجوهن على الدين، ولأمةٌ سوداءُ ذاتُ دين أفضل»" ([232]).

وفي درس عملي آخر ربى النبي ﷺ أصحابه على تفضيل الناس بحسب ميزان الله الذي يتساوى عنده الشـريف والوضيع، فلا يتفاضلون عنده وعند عباده إلا بالتقوى، فقد جلس ﷺ بين أصحابه، فمر عليه رجل ([233] فقال لرجل عنده جالس: «ما رأيك في هذا؟» فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع. قال: فسكت رسول الله ﷺ.

ثم مر رجل آخر، فقال له رسول الله ﷺ: «ما رأيك في هذا؟» فقال: يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب ألا يُنكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يُسمع لقوله.

 فقال ﷺ: «هذا خير من ملئ الأرض مثل هذا» ، وفي رواية للحديث عند الروياني في مسنده أن اسم هذا الفقير جُعيل، وأن النبي ﷺ قال: «فجُعيل خير من ملئ الأرض مثل هذا»([234]).

وجعيل بن سراقة الضمري من فقراء المسلمين، وكان رجلاً صالحاً دميماً قبيحاً، أسلم قديماً، وشهد مع رسول الله أُحداً([235]).

يقول ابن حجر : "وفي الحديث بيان فضل جُعيلٍ المذكور، وأن السيادة بمجرد الدنيا لا أثر لها، وإنما الاعتبار في ذلك بالآخرة كما تقدم ، أن العيشَ عيشُ الآخرة ، وأن الذي يفوته الحظ من الدنيا؛ يعاض عنه بحسنة الآخرة .. تبين من سياق طرق القصة أن جهة تفضيله إنما هي لفضله بالتقوى"([236]).

وكما حرص النبي ﷺ على إرساء قيم الإسلام العظيمة في المجتمع المسلم، وفق مبدأ التفاضل بالتقوى فإنه حرص على تخليصه من قيمة جاهلية، وهي التفاخر والتشريف بالحسب أو النسب أو المال أو اللون، فالناس عند الله سواء، لا فرق بين أبيضهم وأسودِهم، ولا بين غنيهم وفقيرِهم «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» ([237]).

وخلال سني دعوته ﷺ أرى الصحابة نماذج عملية في تفضيل بعض فقراء المسلمين وضعفائهم على غيرهم من أهل الجاه والمنزلة؛ لسابقتهم في الإسلام والعمل الصالح، ومن ذلك أنه ﷺ دفن شهداء أُحد أزواجاً، فكان إذا أوتي باثنين منهم سأل، ولعله يعلم جواب سؤاله: «أيهم أكثر أخذاً للقرآن؟»، فإن أشير إلى أحدهما، قدمه في اللحد([238]). تقديماً لمن قدمه الله تعالى.

والتفضيلُ لأهل القرآن ليس خاصاً بالأموات في قبورهم، بل هو تفضيل يرفعهم في الدنيا قبل الآخرة، فقد كان النبي ﷺ يقدم أهل القرآن في الإمارة على غيرهم، كما أمَّر قارئ القرآن ابن أم مكتوم الضرير على المدينة في بعض أسفاره ، كيف لا وهو ﷺ القائل : «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» ([239]).

ولو أصخنا السمع إلى أبي هريرة t لسمعناه يقص علينا نموذجاً آخر من تربية النبي ﷺ لأصحابه على التحاكم إلى ميزان الخيرية والتقوى، فقد بعث سرية من السـرايا، فاستقرأ كل رجل منهم ما معه من القرآن، فأتى على شاب من أحدثهم سناً فسأله: « ما معك يا فلان؟» فأجاب الشاب: معي كذا وكذا وسورةُ البقرة. فقال ﷺ: «أمعك سورة البقرة؟» قال: نعم ، قال: «فاذهب فأنت أميرهم»([240])، فلم يتأخر به سنه، كيف وقد قدمه الله بما آتاه من قرآنه.

والقارئ في سيرة النبي ﷺ تستوقفه قصة عجيبة، فقد مر أبو سفيان سيد قريش قبيل إسلامه على سلمانَ وصهيبٍ وبلالٍ في نفر، فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها.

فسمع أبو بكر الصديق مقالتهم، فرفق بسيد العرب وكبير قريش، فقال معاتباً: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدِهم؟

ثم أتى النبي ﷺ يشكوهم عنده، ويخبره بما قاله سلمان وبلال لأبي سفيان، فقال له ﷺ مستفهماً: «يا أبا بكر، لعلك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم؛ لقد أغضبت ربك».

ذعر الصديق لما سمع، فانطلق يسارع في خطاه إلى هؤلاء الضعفة الذين يغضب الله لغضبهم،  فأتاهم ، فقال: يا إخوتاه أغضبتكم؟ قالوا: لا. ويغفر الله لك يا أُخي ([241]).

قال النووي: "وهذا الإتيان لأبي سفيان كان وهو كافر في الهدنة بعد صلح الحديبية، وفي هذا فضيلة ظاهرة لسلمان ورفقتِه هؤلاء، وفيه مراعاة قلوبِ الضعفاء وأهلِ الدين وإكرامُهم وملاطفتُهم"([242]).

ولئن كان الناس يعيرون بالفقر والمسكنة؛ فإن النبي ﷺ نبه أصحابه إلى أنهما ليسا منقصة لأحد، لا بل قد يكونان سبباً في النجاة ورفعة الدرجات، كيف لا والفقراء أسبق من غيرهم إلى الجنة: «إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفاً» ([243]) ، لذلك كان ﷺ كثيراً ما يدعو الله بقوله: «اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشـرني في زمرة المساكين يوم القيامة» ([244]) لقد أراد ﷺ "إظهارَ تواضعه، وافتقارَه إلى ربه، إرشاداً لأمته إلى استشعار التواضع، والاحترازِ عن الكبر والنخوة، وأراد بذلك التنبيه على علو درجات المساكين وقربِهم من الله تعالى"([245]).

إن بعض هؤلاء الذين نزدريهم لفقرهم ومسكنتهم أفضلُ من كثيرين ممن نحتفي بهم ونصدِّرهم في المجالس ونسارع إلى تزويج بناتنا لهم: «رُبّ أشعثَ مدفوعٍ بالأبواب لو أقسم على الله لأبره» ([246] وفي رواية: «ألا أخبركم بشـر عباد الله؟ الفظُّ المستكبر، ألا أخبركم بخير عباد الله؟ الضعيفُ المستضعَف ذو الطمرين، لو أقسم على الله لأبر الله قسمه» ([247]).

قال النووي: "قوله: «الأشعث» الملبدُ الشعر، المغبرُ غير مدهونٍ ولا مرَجَّل، وقوله: «مدفوعٍ بالأبواب» أي لا قدْر له عند الناس، فهم يدفعونه عن أبوابهم ، ويطردونه عنهم احتقاراً له، و[لكن هذا العبد المحتقر من الناس] لو حلف على وقوع شيء؛ أوقعه الله إكراماً له بإجابة سؤاله ، وصيانتِه من الحنث في يمينه، وهذا لعِظَم منزلته عند الله تعالى، وإن كان حقيراً عند الناس"([248]).

وقد فقه أصحاب النبي ﷺ هذا الهدي النبوي، وأقاموه منهجاً في حياتهم، فقدموا في سائر أمورهم من تقدمهم بالعمل الصالح، ولو كان فقيراً أو عبداً أو مولى، ومن ذلك أنه: (لما قدم المهاجرون الأولون العُصبَة [موضعٌ بقباء] قبل مقدم رسول الله ﷺ ؛ كان يؤمهم سالمُ مولى أبي حذيفة، وكان أكثرهم قرآناً) ([249])، فلم يمنعه تأخر نسبه عن تقدم أشراف العرب وإمامتهم في أعظم فرائض الإسلام.

وبعد هجرة الرسول ﷺ قدّم النبيُّ سالماً على سائر الصحابة بما معه من القرآن، فكان يؤم المهاجرين الأولين في مسجد قباء، وفيهم أبو بكر وعمر وأبو سلمة وزيد وعامر بن ربيعة([250]).

وكذلك عرف عمر بن الخطاب t لبلالٍ الحبشي الأسود منزلتـه وسبْقه إلى الإسـلام وعذابه في سبيـله، فكان يقول: (أبو بكر سيدُنا، وأعتق سيدَنا) يعني بلالاً([251]).

وحين دوّن عمر t الدواوين، وكتب للناس رواتبهم، لم يلتفت إلى أحسابهم وأنسابهم، بل قدَّمهم بحسب سبقهم في الإسلام وقربِهم من رسول الله ﷺ ، ففرض للمهاجرين الأولين السابقين إلى الإسلام خمسةَ آلاف، وللأنصار الذين آمنوا بعدهم أربعةَ آلاف ، ولأزواج النبي عليه السلام اثني عشر ألفاً، ثم فرض للناس على قدر منازلهم وقراءتِهم للقرآن وجهادِهم([252]).

وأما صغار الصحابة كعبدِ الله بنِ عمر، فأعطاهم ثلاثة آلاف، فدخل ابن عمر على أبيه مستعتباً فقال: يا أبتِ فرضت لي ثلاثةَ آلاف، وفرضتَ لأسامةَ بنِ زيد أربعة آلاف ، وقد شهدتُ مع رسول الله ما لم يشهد أسامة، فبيَّن عمر لابنه سبب زيادة عطاء أسامةَ ابنِ المولى على ابنِ الخليفة، وقال: (لأن زيداً [والدَ أسامة] كان أحبَّ إلى رسول الله ﷺ من أبيك، وكان أسامة أحبَّ إلى رسول الله ﷺ منك، فآثرت حبَّ رسول الله ﷺ على حبي)([253]).

وإذا تبين لنا هذا الهدي النبوي فإن الواجب علينا أن نجري مراجعات صادقة في مفاهيمنا وموازيننا، ونستهدي بها بدلاً من موازين الجاهلية التي تجعلنا نفاضل بين الناس وفق القيم الدنيوية الرخيصة من جنس وجنسية ولون وقوم.


 المبحث الثاني: صناعة المعروف

صناعة المعروف خَصلة جليلة وخَلَّة كريمة، وهي خدمة الآخرين وقضاء حوائجهم المختلفة ونفعُهم بصور النفع المختلفة، كالإطعامِ وسقاية الماء وسدادِ الديون، أو الإصلاحِ بين المتهاجرين منهم، أو بذلِ الشفاعةِ والجاه، أو سائرِ المصالح التي يحتاجها الناس، وهو ما نسميه صناعة المعروف للآخرين.

وقضاء حوائج الناس خَلّة كريمة صنعها الأنبياء من قبل، وقد دعا الله عز وجل حبيبه ﷺ والمؤمنين من بعده إلى الاقتداء بهم ﴿ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ (الأنعام: 90).

وهم صلوات الله وسلامه عليهم كانوا أكثر الناس نفعاً للخلق ، فهذا موسى عليه السلام يسقي للمرأتين المديانيتين ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ` فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ (القصص: 23-24).

وأما عيسى عليه السلام فيقول عن نفسه: ﴿ وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ ﴾ (مريم: 31) أي جعلني نفاعاً للناس أينما اتجهت وحللت.

ونبينا ﷺ كان أكثرَ الناس نفعاً للآخرين وأشدَهم حرصاً على قضاء الحوائج، فقد قيل لعائشة رضي الله عنها: هل كان النبي ﷺ يصلي وهو قاعد؟ قالت: (نعم، بعد ما حطمه الناس) أي أتعبوه بكثرة حوائجهم التي يقضيها لهم ﷺ([254]).

وتصفه أم المؤمنين خديجة في أول بعثته، فتقول: «والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتُكسِب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق»([255]).

وهكذا كان ﷺ نفاعاً للناس حتى حطمه الناس بقضاء حوائجهم، وكيف لا يكون كذلك، وهو ﷺ القائل: «أحب الناس إلى الله عز وجل أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضـي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخ لي في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد شهراً (في مسجده بالمدينة المنورة) .. ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له ثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام» ([256]).

ومن قضائه لحوائج الناس ما رواه مسلم من قصة امرأة أتت النبي ﷺ وفي عقلها شيء فقالت: يا رسول الله إن لي إليك حاجة، فلم يضجر النبي ﷺ منها لخفة عقلها، بل قال: «يا أم فلان، انظري أي السكك شئت حتى أقضي لك حاجتك»، فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها([257]).

ويصفه عبد الله بن أبي أوفى بقوله: (كان رسول الله ﷺ يكثِر الذكر، ويُقِل اللغو، ويطيل الصلاة، ويقصِّر الخطبة، ولا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين، فيقضيَ له الحاجة)([258]).

فضل صناعة المعروف :

وقد رغب النبي ﷺ في صناعة المعروف، لأنها عبادة لا غناء لنا عنها، نحتاجها في منافع الدنيا قبل الآخرة، إذ هي سبب في قضاء حاجاتنا وتفريج كروبنا ، قال ﷺ: «من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربة فرَّج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة» ([259]).

ويخبر الأسوة الحسنة ﷺ أن الله يدفع بصناعة المعروف ميتة السوء التي كثرت في هذا الزمان بين موت فجأة وحادث طريق، وغير هذا وذاك: «صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب»([260]).

ويعتبر النبي ﷺ صُنَّاع المعروف مفاتيحَ للخير، ويرغب أمته أن تكون على هذا الوصف الجليل بقوله: «إن من الناس مفاتيحَ للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيحَ للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل اللهُ مفاتيحَ الخير على يديه، وويل لمن جعل اللهُ مفاتيح الشر على يديه» ([261]).

ويحكي النبي ﷺ لأصحابه قصة أقوام عملوا القليل من صناعة المعروف، فكان جزاؤهم كبيراً عند الله ، من هؤلاء رجل أزال الأذى من الطريق «بينما رجل يمشـي بطريق وجد غصن شوك على الطريق، فأخذه، فشكر الله له فغفر له» ([262] وفي رواية: «لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس» ([263]).

كما يحكي ﷺ قصة رجل آخر صنع معروفاً لحيوان فدخل الجنة: «بينا رجل بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئراً ، فنزل فيها فشرب، ثم خرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلبَ من العطش مثلُ الذي كان بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ماء، فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له»، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم لأجراً؟ فأجابهم ﷺ: «في كل ذات كبد رطبة أجر» ([264]).

وأما ثالث الناجين بصناعة المعروف فرجل سمح يداين الناس ويصبر عليهم في السداد، ويحكي النبي ﷺ قصته فيقول: «تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم، فقالوا: أعملت من الخير شيئاً؟ قال: لا. قالوا: تذكر. قال: كنت أداين الناس، فآمر فتياني أن ينظروا المعـسر ويتجوزوا عن الموسر، فقال الله عز وجل: «تجوزوا عنه»، وفي رواية: «فقال الله: أنا أحق بذا منك، تجاوزوا عن عبدي» ([265]).

قال النووي: "وفي هذه الأحاديث فضل إنظار المعسـر، والوضع عنه إما كل الدين ، وإما بعضه من كثير أو قليل، وفيه فضل المسامحة في الاقتضاء وفي الاستيفاء ؛ سواء استوفي من موسر أو معسر، وفضل الوضع من الدين، وأنه لا يُحتقر شيء من أفعال الخير؛ فلعله سبب السعادة والرحمة"([266]).

ويؤكد ﷺ على أهمية وفضل صناعة المعروف، فكل عَظْم من عِظام الإنسانِ ينبغي أن يُتصدق عنه، وصناعة المعروف هي صدقة من الإنسان على الآخرين، وفيها أيضاً بعض أداء حق الله المنعِم، قال ﷺ: «كلُ سُلامى عليه صدقة، كل يوم يعين الرجل في دابته يُحامله عليها أو يرفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة وكل خطوة يمشيها إلى الصلاة صدقة، ودل الطريق صدقة» ([267]).

وهكذا فصناعة المعروف للآخرين نوع من الصدقة عليهم وعلى النفس، وهي أيضاً شكر للنعمة التي أسداها الله لصانع المعروف، فعن أبي موسى الأشعري أن النبي ﷺ قال: «على كل مسلم صدقة» فقالوا: يا نبي الله، فمن لم يجد؟ قال: «يعمل بيده، فينفع نفسه ويتصدق».

 قالوا: فإن لم يجد؟ قال: «يعين ذا الحاجة الملهوف» قالوا: فإن لم يجد؟ قال: «فليعمل بالمعروف، وليمسك عن الشر، فإنها له صدقة» ([268]).

وفي حديث آخر يقول ﷺ: «كل معروف صدقة، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق، وأن تُفرغ من دلوك في إناء أخيك» ([269]).

وصناعة المعروف معاملة مع الله قبل أن تكون معاملةً مع الخلق، لذا يبذل المعروف للإنسان ولو كان كافراً، وقد وصف الله المؤمنين بقوله: ﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ` وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ` إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً ` إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً ﴾ (الإنسان: 7-10).

 فقوله: ﴿ وَأَسِيراً ﴾ يقصد به الأسير الكافر ولاريب، فالآية توصي بإطعامه الطعام على حبه، قال ابن عباس: "كان أُسراؤهم يومئذ مشركين".

وعقَّب ابن كثير بالقول: "يشهد لهذا أن رسول الله ﷺ أمر أصحابه يوم بدر أن يكرموا الأُسارى، فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند الغداء"([270]).

بل ويبذل المعروف للحيوان أيضاً، فكل ذلك صدقة، يقول ﷺ: «ما من مسلم يغرِس غرساً إلا كان ما أُكِل منه له صدقة، وما سُرق منه له صدقة، وما أَكل السبُع منه فهو له صدقة، وما أكلت الطيرُ فهو له صدقة، ولا يرزؤه أحدٌ [أي يسأله] إلا كان له صدقة» ([271]).

وقد صنع النبي ﷺ المعروف للحيوان، ولم يمنعه عن ذلك كثرة أعبائه ومشاغله، فقد دخل حائطاً لرجل من الأنصار فإذا جمل، فلما رأى النبيَ ﷺ حنّ وذرفت عيناه، فأتاه النبي ﷺ فمسح ذِفراه فسكت فقال: «من ربُ هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟» فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله فقال: «أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؟ فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئِبُه» ([272]).

التقصير في صناعة المعروف :

وصناعة المعروف تتراوح في حكمها بين المندوب والواجب، بحسب المعروف والحاجة إليه، لذا فالبخل بصناعة المعروف أحياناً والامتناع عن بذله من مهلكات الأمور ، لذا ما فتئت آيات القرآن الكريم تحذر منه ، فياللعجب كيف يقصر بعض المسلمين في خدمة الآخرين وهو يسمع آيات القرآن تحكي الوعيد لمن صنع ذلك: ﴿ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ ` الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ` الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ ` وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾ (الماعون: 4-7).

قال الشوكاني: " قال أكثر المفسرين: ﴿ الْمَاعُونَ ﴾ : اسم لما يتعاوزه الناس بينهم : من الدلو والفأس والقِدر، وما لا يمنع كالماء والملح"([273]).

 وفي دركات النار وأَتونها يُسأل أصحابها عن سبب دخولهم النار، فيقال لهم: ﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ﴾ فيجيبون بأن سبب ذلك أمور، من بينها أنهم بخلوا بمعروفهم عن المساكين: ﴿ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ` وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ﴾ (المدثر: 41-44).

 وفي آية أخرى يعدد الله سواءت أهل النار؛ فإذا من بينها ترك صناعة المعروف: ﴿ إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ ` وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ` فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ ` وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ﴾ (الحاقة: 34-35).

والذين يقصرون في صناعة المعروف يعاتبهم الله يوم القيامة، ففي الحديث القدسي أن: «الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده.

يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي.

يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي» ([274]).

قال النووي: "قال العلماء: إنما أضاف المرض إليه سبحانه وتعالى ، والمراد العبد تشريفاً للعبد وتقريباً له. قالوا: ومعنى «وجدتني عنده» أي: وجدت ثوابي وكرامتي، ويدل عليه قوله تعالى في تمام الحديث: «لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، لو أسقيته لوجدت ذلك عندي» أي ثوابه"([275]).

وأكد ﷺ على خسران وبوار المقصرين في صناعة المعروف في خبر يرويه الصحابي الجليل أنس بنُ مالك t فيقول: استشهد رجل منا يوم أُحد، فوجِد على بطنه صخرةٌ مربوطة من الجوع، فمسحت أمه التراب عن وجهه وقالت : هنيئاً لك يا بنيَّ الجنة. فقال رسول الله ﷺ : «وما يدريكِ، فلعله كان يتكلم فيما لا يعنيه، ويمنع ما لا يضره»([276] وكأني به ﷺ يقول: إن مما يمنع المرء عن دخول الجنة منع المعروف الذي لا يضـره بذله، ولم يقصد النبي ﷺ في هذا الحديث الشهادة بعدم دخول الجنة لهذا الصحابي الذي استشهد وهو رابطٌ حجراً على بطنه من شدة الجوع.

لكنه ﷺ أراد أن يعلمنا أن مما يحجب المرء عن الجنة خصلتان يقع فيهما كثير من الناس، وهما: الثرثرة والكلام فيما لا فائدة منه، ومنع المعروف عن الآخرين والتقصير في بذله.

ومن الوعيد الذي يتوعد الله به أولئك المقصـرين في صناعة المعروف - فيما زاد عن حاجتهم ولا يضرهم نقصه - ما يرويه أبو هريرة t من قول النبي ﷺ: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم » فذكر منهم «ورجل منع فضل ماء، فيقول الله: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك» ([277]).

قال ابن بطال: "وفيه عقوبة من منع ابن السبيل فضل ماء عنده، ويدخل في معنى الحديث منع غير الماء وكل ما بالناس الحاجة إليه"([278]).

ومن الفضل والمعروف ما يكون بين الجيران، كأن يحتاج الجار إلى بعض منافع دار الجار التي لا يضره بذلها، يقول ﷺ: «لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره» ([279]).

 لكن أبا هريرة رأى من بعض التابعين استثقالاً وإعراضاً عن هذا الأمر من صناعة المعروف، فقال: (ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم).

قال العلماء: "وكل ما طلبه جاره من فتح باب وإرفاق بماء أو مختلف في طريق ، أو فتح طريق في غير موضعه وشبهِ ذلك؛ فلا ينبغي في الترغيب أن يمنعه مما لا يضره ولا ينفعه ولا يحكم به عليه"([280]).

وهكذا فالتقصير في صناعة المعروف سبب للملامة في الدنيا والعقوبة في الآخرة، وبخاصة إذا كان بخلاً بما لا يحتاجه، أو بما تشتد إليه حاجة الآخرين.

آداب صناعة المعروف :

وصناعة المعروف عبادة أحاطها النبي ﷺ بآداب تضبطها وتحافظ عليها، وأولها أن يعي المسلمون أن بذل المعروف معاملة مع الله، لا توزن بالقلة والكثرة، بل تحمد عند الله على كل حال، فقليلها عنده كثير، وهين العمل عند الرب الكريم كبير «فاتقوا النار ولو بشق تمرة» ([281]).

يقول جابر بن سليم الهُجيميّ: أتيت رسول اللّه ﷺ فقلت: يا رسول اللّه، إنّا قوم من أهل البادية، فعلّمنا شيئًا ينفعنا اللّه تبارك وتعالى به؟ فقال ﷺ: «لا تحقرنّ من المعروف شيئًا؛ ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تكلّم أخاك ووجهك إليه منبسط» ([282]).

وبمثل هذا التعليم لأهل البادية علم ﷺ أهل الحضر، فقال: «يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة» ([283]).

ويعلمنا النبي ﷺ قبول هذا القليل وعدم انتقاصه في حديث آخر، فيقول: «لو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع أو كراع لقبلت» ([284]).

قال ابن حجر: "وفي الحديث دليل على حسن خلقه ﷺ وتواضعه وجبره لقلوب الناس، وعلى قبول الهدية وإجابة من يدعو الرجل إلى منزله، ولو علم أن الذي يدعوه إليه شيء قليل"([285]).

وأحياناً يُخذِّل الشيطان الواحد منا عن صنع المعروف، بحجة أن من نصنع له المعروف قد لا يكون محتاجاً، فقد يكون مدعياً كذاباً اعتاد التسول واحترفه، لكن ينبغي أن لا ننسى أنه قد يكون صادقاً محتاجاً، فلا يصح أن نمتنع عن بذل المعروف، فنعاقب المحتاج بجريرة الكذاب.

وحتى يتجاوز المسلم هذا التخذيل الشيطاني ويستمر في بذل المعروف ؛ يسوق ﷺ قصة رجل تصدق على غير مستحق للصدقة، وقبِل الله صدقته التي وقعت مرة في يد غني، وأخرى في يد تستحق القطع (سارق)، وثالثة في يد آثمة لامرأة زانية، يقول ﷺ: «قال رجل: لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته، فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون: تُصدِّق على سارق، فقال: اللهم لك الحمد، لأتصدقن بصدقة.

فخرج بصدقته فوضعها في يدي زانية، فأصبحوا يتحدثون: تُصدِّق الليلة على زانية، فقال: اللهم لك الحمد، على زانية، لأتصدقن بصدقة.

فخرج بصدقته فوضعها في يدي غني فأصبحوا يتحدثون: تُصدِّق على غني، فقال: اللهم لك الحمد، على سارق، وعلى زانية، وعلى غني.

فأُتي فقيل له: أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله يعتبر فينفق مما أعطاه الله»([286]).

قال ابن بطال: "إن الصدقة إذا خرجت من مال المتصدق على نية الصدقة، أنها جازية عنه حيث وقعت ممن بسط إليها إذا كان مسلماً بدليل هذا الحديث"([287]).

وكما حث النبي على صناعة المعروف، فإنه حذر مما يحبطه ويبطل ثوابه كتلبسه المنَّ والأذى، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ﴾ (البقرة: 264).

 ولأجل ذلك يحب الله من عباده إخفاء صدقاتهم ومعروفهم قال تعالى: ﴿ إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ ﴾ (البقرة: 271)، فالعبد الذي يُسِر بعمله يحبه الله تعالى، قال ﷺ : «إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء» ([288])، ويوم القيامة يحشـرهم في ظلال عرشه ، في يوم لا ظل فيه إلا ظله ، فقد ورد في حديث السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه «ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» ([289]).

بذل الشفاعة باب من صناعة المعروف :

ومن صور صناعة المعروف ما لا يكلف مالاً، ومقصودي بذلُ الشفاعة والجاه بغية كشف كرُبات الناس وحلِّ مشكلاتهم، وقد صنعه ﷺ سعياً في تفريج هموم الناس والتخفيف من معاناتهم، من ذلك شفاعته لعبد يدعى مُغيث عند زوجته السابقة بَريرة، والقصة يرويها البخاري، وفيها أن زوجَ بريرة كان عبداً يقال له مغيث، وكان يحبها، ففارقته.

يقول ابن عباس وهو يصور حال هذا الزوج المحب لزوجته السابقة: كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي، ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبي ﷺ للعباس: «يا عباسُ ألا تعجب من حب مغيثٍ بريرةَ، ومن بغضِ بريرةَ مغيثاً؟!».

ثم إن النبي ﷺ رفِق بهذا المحب؛ فذهب إلى بريرة يشفع لزوجها عندها، لعلها ترجعُ إليه، فقال لها: «لو راجعتِه» فقالت بريرة: يا رسول الله تأمرني؟ فأجابها ﷺ: «إنما أنا أشفع». فقالت: لا حاجة لي فيه([290]).

ويعلم النبي ﷺ أصحابه ممارسة الشفاعة والتوسط للناس في قضاء الحوائج بطريقة عملية، كان إذا جاءه السائل أو طُلبت إليه حاجة يقول: «اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ﷺ ما شاء»([291] وفي رواية: «إنَّ الرجل ليسألني الشيء، فأمنعُه حتى تشفعوا فيه؛ فتُؤجروا» ([292]).

قال ابن بطال: "الشفاعة في الصدقة وسائر أفعال البر، مرغَّب فيها، مندوب إليها، ألا ترى قوله ﷺ:  «اشفعوا تؤجروا» ، فندب أمته إلى السعي في حوائج الناس، وشرط الأجر على ذلك، ودَلَّ قوله ﷺ: «ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء» أن الساعي مأجور على كل حال، وإن خاب سعيه ولم تنجح طُلبتُه، وقد قال ﷺ : «الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه»" ([293]).

لكن الشفاعة لا تمدح مطلقاً، فإن منها ما هو حسن يحبه الله ويثيب عليه ويجعلُ صاحبه شريكاً في الأجر، وإن منها ما يَمقُته الله ويجعل صاحبها شريكاً في الوزر، وهي الشفاعة السيئة، قال الله تعالى: ﴿ مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا﴾ (النساء: 85).

ويشرح الإمام الشوكاني الفرق بين الشفاعتين بقوله: "والشفاعة الحسنة هي : في البرّ والطاعة. والشفاعة السيئة في المعاصي، فمن شفع في الخير لينفع؛ فله نصيب منها، أي : من أجرها، ومن شَفَع في الشر، كمن يسعى بالنميمة والغيبة كان له كفل منها، أي: نصيب من وزرها"([294]).

فالشفاعة الحسنة هي التوسط والسعي في قضاء حوائج الناس من غير الإضرار بمصالح الآخرين وحاجاتهم، وأما الشفاعة السيئة فهي السعي بتحقيق مصالح البعض على حساب الآخرين، كما لو تقدم بعضهم لوظيفة يتنافسون عليها، فشفَع لأحدهم ليقدم على الآخرين بغير موجب إلا معرفته لوجيه شفع له، فهذه من الشفاعة السيئة، لأنها أضرت بالآخرين.

ومن الشفاعة السيئة ما أدى إلى ضياع حقوق الناس وأكلها،  كالتوسط والشفاعة في دفع حدود الله عند الحاكم والقاضي، وقد نبه عليه النبي ﷺ حين رفض شفاعة أسامةَ بنِ زيد في المرأة المخزومية التي سرقت، وقال لأسامة: «أتشفع في حد من حدود الله؟!».

 ثم قام فخطب الناس وقال: «إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشـريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيْمُ الله لو أن فاطمةَ بنتَ محمدٍ سرقت؛ لقطعتُ يدها» ([295]).

وحين يعلمنا النبي ﷺ الشفاعة ، فإنه يوصينا بأمر آخر لا غناء لنا عنه، وهو الإخلاص فيها لله عز وجل، فحين نشفع لأحدهم ونتوسط له؛ فإنا لا نصنع ذلك ترقباً لنفع دنيوي، كأن يهدي لنا أو أن يتوسطَ لنا في قابل الأيام، أو أن يذكرَنا الناس بالذكر الحسن، فيصفوننا بالشهامة وكثرة الخير، فطلبُ هذه الأمور مما يحبط العمل ويبطل ثوابه، فالله يريد منا الإخلاص في العمل له تبارك وتعالى: ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً ` إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً ` فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً ` وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً ﴾ (الإنسان: 9-12).

وحتى يبقى هذا العمل خالصاً لوجه الله مجرداً من طمع الدنيا؛ فإن النبي ﷺ يحذر الشافع من أخذ شيء من الأجرة عليه في الدنيا، فقد قال ﷺ: «من شفع لأخيه بشفاعة فأهدى له هدية عليها؛ فقبلها، فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا»([296]).

ومن أراد أن يستوضح منزلة الإخلاص ، فليسمع إلى الحوار الذي جرى بين الرسول ﷺ وعدي بن حاتمٍ الطائي الذي كان يضرب به المثل في الكرم، فقد جاء عدي بن حاتم إلى النبي ﷺ فسأله عن المعروف والخير الذي كان يصنعه أبوه في الجاهلية ابتغاء المدح والذكر الحسن، فقال ﷺ: «إن أباك أراد شيئاً فأدركه » ([297]) أي طلب الأجر من الناس بالثناء، فنال أجره، فليس له عند الله شيء.

وهكذا فإن صناعة المعروف خصلة فاضلة نقدم فيها النفع والخير للناس ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ (الحج: 77)، وهي خَلة شريفة إيجابية يتصدق بها المرء على نفسه أولاً ثم على أصحاب الحاجات ثانياً؛ إنها بعض عطاء الإسلام للحضارة الإنسانية، وبعض تنميته للإنسان، فما أحوجنا إلى هدي الإسلام في زمن طغت فيه الأثرة والأنانية وحب الذات.

 المبحث الثالث : الهدية

حرص النبي ﷺ وهو المبعوث رحمة للعالمين على تشـريع كل ما من شأنه أن يؤلف قلوب المسلمين ، فقد أرسله الله بكل بر وخير، وامتن على عباده بما قذفه في قلوبهم من ألفة ومحبة ﴿هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ` وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾.

ومن هذه الشـرائع التي تفتح مغاليق القلوب، وتبذر المحبة، وتفرش الورود والندى بين الناس؛ الهدية، وقد حثَّ عليها النبي ﷺ بقوله: « تهادوا، فإن الهدية تذهب وغَر الصدر»، وفي حديث آخر يقول ﷺ: «تهادوا تحابُّوا» ([298]).

هدايـا النـاس بعضهُم لبعض         تولِّد فـي قلوبهم الوصـال

وتزرع في الضمير هوى ووُداً          وتُلبسهم إذا حضروا جمالاً

وقد كان النبي ﷺ يهدي ويقبل هدية الآخرين ، يقول أبو هريرة : (كان رسول الله ﷺ يقبل الهدية، ولا يأكل الصدقة) ([299]) ، وتفسيره كما يقول ابن عبد البر: "رسول الله ﷺ كان لا يأكل الصدقة وكان يأكل الهدية، لما في الهدية من تآلف القلوب والدعاء إلى المحبة والألفة، وجائز عليها الثواب، فترتفع المِنَّة، ولا يجوز ذلك في الصدقة ، وكان رسول الله ﷺ يقبل الهدية ويثيب عليها خيراً منها، فترتفع المنة "([300]).

وقد ندب النبي ﷺ إلى التهادي في القليل والكثير، وكان هو ﷺ يقبل الهدية ولو كانت زهيدة، وكان يقول: «لو دعيت إلى ذراع أو كُراع لأجبت؛ ولو أهدي إلي ذراع أو كُراع لقبلت» ([301])، وفي هذا "حض منه لأمته على المهاداة، والصلةِ، والتأليفِ، والتَحابِ، وإنما أخبر أنه لا يحقِّر شيئاً مما يُهدى إليه أو يدعى إليه؛ لئلا يمتنع الباعث من المهاداة لاحتقار المُهدى، وإنما أشار بالكُراع وفِرسِن الشاة إلى المبالغة في قبول القليل من الهدية، لا إلى إعطاء الكراع والفِرسِن ومهاداته؛ لأن أحدًا لا يفعل ذلك" ([302]).

إن التهادي بالقليل الذي ليس فيه كلفة يدل على تمام المحبة وكمالِها، فقال: «يا نساء المسلمات لا تحقرنَّ جارة لجارتها؛ ولو فِرسِنَ شاة»([303]) ، وفي رواية: «تهادوا، فإن الهدية تذهب وحَر الصدر، ولا تحقرن جارة لجارتها ولو شق فِرسِن شاة»([304]) ، والفرسن هو الحافر، وفي هذا الحديث "الحض على التهادي والمتاحفة؛ ولو باليسير؛ لما فيه من استجلاب المودة، وإذهابِ الشحناء، واصطفاءِ الجيرة، ولما فيه من التعاونِ على أمر العيشة المقيمة للإرماق، وأيضًا فإن الهدية إذا كانت يسيرة فهي أدل على المودة، وأسقط للمئونة، وأسهلُ على المُهدي لاطراح التكليف" ([305]).

وأخبر النبي ﷺ أن الهدية من خير العمل عند الله، وأنها تعدل في أجرها عِتق الرقبة، على عظم منزلة العتاق عند الله، فقد قال ﷺ: «من منح مَنيحة ورِق [أي فضة] أو منيحة لبن أو هدى زُقاقاً [يعني الدلالة على الطريق]؛ كان له كعدل رقبة - وقال مرة: - كعِتق رقبة»([306]).

وحين أعتقت ميمونة بنت الحارث جارية عندها ؛ أخبرها النبي ﷺ أن إهداءها الجارية إلى بعض أقاربها خير لها من عتاقها ، وهو من فاضل العمل عند الله، تقول أم المؤمنين : أشعرتَ يا رسول الله أني أعتقت وليدتي؟ قال: «أوفعلتِ؟ .. أما إنك لو أعطيتِها أخوالَك كان أعظمَ لأجرِك» ([307]) .

قال ابن بطال: "وفي حديث ميمونة أن صلة الأقارب أفضلُ من العِتق، على أن العِتق قد جاء فيه أن الله يعتِق بكل عضو منه عضوًا منها من النار، وأن بالعتق تُجاز العقبةُ يوم القيامة".([308])

ولما أخبر النبي ﷺ عن أربعين خصلة تُدخل صاحبَها الجنة، جعل أُولاها إهداء عنز إلى من يستفيد من لبنها ثم يردها إلى صاحبها، فقال ﷺ: «أربعون خصلة؛ أعلاهن مَنيحة العنز، ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابِها وتصديقَ موعودها؛ إلا أدخله الله بها الجنة» ([309]).

وقال ﷺ: «نِعم المنيحةُ اللِّقْحةُ، الصَفِي منحة [أي الكريمة الغزيرة اللبن]، والشاة الصفيُّ تغدو بإناء، وتروح بإناء»، وفي رواية: «من منح مَنيحة غدت بصدقة، وراحت بصدقة، صَبوحِها وغَبوقِها» ([310])، والمنيحة تدور حول معنيين"أحدهما أن يعطي الرجل صاحبَه صلة فتكونَ له ، والآخر أن يعطيه ناقة أو شاة ينتفعُ بحلْبها ووَبرِها زمناً ثم يردُها" ([311]).

كما حث النبي ﷺ على إهداء منفعة الفضول التي تزيد عن حاجة صاحبها، ولو كانت أرضاً، يقول جابر t: كانت لرجال منا فضول أرضين فقالوا: نؤاجرها بالثلث والربع والنصف، فقال النبي ﷺ: «من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحْها أخاه؛ فإن أبى فليمسك أرضه» ([312]).

قال الملا علي القاري في شرحه: "ينبغي أن يحصُل للإنسان نفعٌ من ماله، فمن كانت له أرض فليزرعها حتى يحصُل له نفع منها، أو ليعطها أخاه ليحصُل له ثواب، فإن لم يفعل هذين الشيئين فليمسك أرضه، فهذا توبيخ لمن له مال ولم يحصُل له منه نفع" ([313]).

ولما خرج ﷺ إلى أرض تهتز زرعاً فقال: «لمن هذه؟» فقالوا: اكتراها فلان. فقال: «أما إنه لو منحها إياه كان خيراً له من أن يأخذ عليها أجراً معلوماً» ([314]).

إهداء الطعام

ومما شرع النبي ﷺ إهداءه ؛ الطعام ، وهذا يشمل الغني والفقير، والإطعام أوسع من الصدقة التي هي مخصوصة بالفقير وذي الحاجة، بينما الإطعام يكون للغني والفقير، أي هو نوع عام من الصلة والبر، وهو من أفضل القربات التي يتقرب بها المسلم إلى ربه، فهو باب من أبواب الجنة: «أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، واضربوا الهام؛ تورثوا الجنان»، وفي حديث آخر يقول ﷺ :«إن في الجنة غرفاً، ترى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها»، فقام أعرابي فقال: لمن هي يا رسول الله؟ فقال ﷺ: «لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى لله بالليل والناس نيام»([315]).

ولما أتى النبي ﷺ‬ المدينةَ المنورة أتاه حَبْرُ اليهود عبدُ الله بن سلام يقول: فجئت في الناس لأنظر إليه، فلما استثبتُ وجه رسول الله ﷺ عرفت أن وجهَه ليس بوجه كذاب، وكان أول شيء تكلم به ﷺ أن قال: «أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلّوا والناس نيام؛ تدخلوا الجنة بسلام» ([316]).

بل إن النبي ﷺ لما سأله عمرو بن عبسة: ما الإسلام ؟ أجابه النبي ﷺ بذكر خصلتين عظيمتين، إحداهما إطعام الطعام، فقد قال ﷺ : «لين الكلام وإطعام الطعام» ([317]).

وأتاه ﷺ رجل فقال: يا رسول الله أي العمل أفضل؟ فقال: «إيمان بالله وتصديق وجهاد في سبيل الله وحج مبرور»، فقال الرجل: أكثرتَ يا رسول الله؟ فقال ﷺ: «فلين الكلام وبذل الطعام وسَماح وحُسن خلق»([318]).

ولما جاء أعرابي إلى النبي ﷺ قال : علمني عملاً يدخلني الجنة؟ فقال ﷺ: «لئن كنت أقصـرتَ الخطبة لقد أعرضتَ المسألة، أعتق النسمة، وفك الرقبة .. والمنحة : الوكوف، والفيء على ذي الرحم الظالم، فإن لم تطق ذلك فأطعم الجائع، واسق الظمآن، وأْمُر بالمعروف، وانهَ عن المنكر، فإن لم تطق فكف لسانك إلا من خير»([319]).

وفي مرة أخرى سأل رجل النبيَّ ﷺ: أي الإسلام خير؟ فذكر النبي ﷺ له هذه الخصلة الفاضلة من خصال الخير وقال: «تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» ([320])، وفي هذا "الحض على المواساة، واستجلاب قلوب الناس بإطعام الطعام وبذل السلام، لأنه ليس شىء أجلب للمحبة وأثبت للمودة منهما، وقد مدح الله المطعم للطعام، فقال: ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ﴾ (الإنسان: 8) ، ثم ذكر الله جزيل ما أثابهم عليه، فقال: ﴿فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا﴾ (الإنسان: 11- 12)" ([321]).

لقد تـشرب الصحابة رضي الله عنهم معنى الإطعام الجميل، فسبقوا إليه وأكثروا منه حتى لام بعضهم بعضاً من الإكثار منه، فذات يوم لقي عمر بن الخطاب صهيباً الرومي، فقال له : أي رجل أنت ؛ لولا خصال ثلاث فيك! فقال صهيب: وما هن؟

فقال: اكتنيت وليس لك ولد، وانتميت إلى العرب وأنت من الروم، وفيك سرف في الطعام .

فقال صهيب : أما قولك : اكتنيت ولم يولد لك ؛ فإن رسول الله ﷺ كناني أبا يحيى.

وأما قولك : انتميتَ إلى العرب ولست منهم، وأنت رجل من الروم ؛ فإني رجل من النمر بن قاسط، فسبَتني الروم من الموصل بعد إذ أنا غلام عرفتُ نسبي.

وأما قولك : فيكَ سرف في الطعام ؛ فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول : «خياركم من أطعم الطعام»، فذلك الذي يحملني على أن أطعم الطعام ([322]).

ويزداد فضل هذه العبادة حين يكون الإطعام للفقراء والمساكين، فهم أحوج إلى الطعمة من غيرهم، ومن أول ذلك إطعام السائقين والخدم في البيوت ، فقد قال ﷺ عن هؤلاء: «إن إخوانَكم خَولُكم [أي خدمُكم]، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم» ([323]).

وجاء رجل إلى النبي ﷺ يشكو قسوة قلبه فقال: «امسح رأس اليتيم، وأطعم المسكين» ([324]).

هدي النبي ﷺ في إهداء الكافر :

وإذا كانت الهدية مفتاحاً من مفاتيح القلوب، فإن لها كبير أثر في استلال الشحناء والعداوة، فقد قال ﷺ: «تصافحوا يَذهبُ الغِل، وتهادوا تحابوا، وتَذهبُ الشحناء» ([325])، وقد "ثبت أن النبي ﷺ كان يقبل الهدية، وفيه الأسوة الحسنة، ومن فضل الهدية - مع اتباع السنة - أنها تزيل حزازاتِ النفوس، وتُكسب المهدي والمهدى إليه رنَّة في اللقاء والجلوس" ([326]).

 ولأجل ذلك فإن الهدية تسن للبر والفاجر، بل والكافر، سواء أكان محارباً أم مسالماً، فقد أهدى النبي ﷺ وقبل هدايا المشركين، ومن ذلك قول علي t أن كسـرى أهدى له ﷺ فقبِل، وأن الملوك أهدوا إليه فقبل منهم ([327]).

كما قبِل ﷺ هديةَ أُكيدر ملكِ أيْلة ، فقد أهداه بغلة بيضاء وكساه برداً ([328]).

 وأهدى إليه المقوقس بغلة، وقيل قدحاً من زجاج، فقِبل ﷺ هديته ([329]).

قال ابن قدامة: "ويجوز قبول هدية الكفار من أهل الحرب، لأن النبي ﷺ قبِل هدية المقوقس صاحب مصر" ([330]).

وكذلك أهدى ذي يزن ملك حِميَر في اليمن إلى رسول الله ﷺ حُلة أخذها بثلاثة وثلاثين بعيراً ، فقبلها ﷺ ([331]) وفي مقابلها كافأه النبي ﷺ على هديته، فاشترى حُلة ببضعةٍ وعشـرين قَلوصاً، فأهداها إلى ذي يزن في اليمن ([332]).

كما أهدى النبي ﷺ تمر عجوة إلى أبي سفيان ، وهو بمكة قبل أن يسلم، وكتب إليه يستهديه أُدماً، فأهدى إليه أبو سفيان ([333]).

وأهدى النبيُّ ﷺ عمر بن الخطاب t حُلّةً ثمينة، فأهداها عمر t إلى أخيه بمكة كان يومئذ مشركاً ([334])، وفي هذا "دليل لجواز صلة الأقارب الكفار, والإحسان إليهم, وجواز الهدية إلى الكفار" ([335]).

ولما قدمت قتيلةُ ابنةُ عبد العزى، وهي مشركة على ابنتها أسماءَ ابنةِ أبي بكر بهدايا ضِبابٍ وأقطٍ وسمن، أبت أسماء أن تقبل هدية أمها وأن تدخلها بيتها، فسألت عائشةُ النبي ﷺ ، فأنزل الله عز وجل: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ (الممتحنة: 8)، فأمرها أن تقبل هديتها، وأن تدخلها بيتها ([336]).

ولأجل هذا المعنى قال عبد الله بن عمرو لأهله لما ذبحوا له شاة: أهديتم لجارنا اليهودي؟ أهديتم لجارنا اليهودي؟ فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» ([337]).

وكما قبِل النبيُّ ﷺ هدايا بعض المـشركين من أهل الكتاب؛ فإنه رد هدايا غيرهم؛ حين رأى ما يستوجب ردها، يقول: عِياض بنُ حمار: أهديت للنبي ﷺ ناقة فقال: «أسلمتَ» فقلتُ: لا. فقال النبي ﷺ: «إني نُهيت عن زبْد المشـركين»([338]) أي هداياهم وعطاياهم.

قال النووي: "قبِل النبيُّ ﷺ ممن طمع في إسلامه وتأليفه لمصلحةٍ يرجوها للمسلمين، وكافأ بعضهم، وردَّ هديةَ من لم يطمعْ في إسلامه ولم يكن في قَبولها مصلحة، لأن الهدية توجب المحبة والمودة ..

قال الطبري: إنما رد النبي ﷺ مِن هدايا المشركين ما علم أنه أُهدي له في خاصة نفسه ..

قال القاضي: .. إنما قبل النبي ﷺ هدايا كفار أهل الكتاب ممن كان على النصرانية ، كالمقوقس وملوك الشام، فلا معارضة بينه وبين قوله ﷺ : «لا يقبلُ زبْد المشـركين»، وقد أبيح لنا ذبائح أهل الكتاب ومناكحتهم بخلاف المشـركين عبدة الأوثان» ([339]).

الهدايا المنهي عنها :

بقي أن ننبه على نوع آخر من الهدايا، وهي الهدايا التي حرمها الأسوة الحسنة ﷺ أو نهى عنها لما فيها من التعدي على حقوق الآخرين أو الإضرار بهم.

 وأول أنواع الهدايا المنهي عنها هديةُ بعض الأبناء دون بعض، وإيثارُهم بشـيء من المال دون إخوانهم، فهذا وإن كان نوعاً من التحبب للابن المهدى إليه؛ إلا أن فيه تجافياً عن إخوانه وإضراراً بهم، لذا فمثل هذه الهدية نهى عنها ﷺ في قصة النعمان بن بشير رضي الله عنهما ، وفيها أن أباه أعطاه عَطية، فقالت أمه عَمرة بنتُ رواحة: لا أرضى حتى تُشهد رسول الله ﷺ، فأتى بشير رسولَ الله ﷺ فقال: إني أعطيت ابني من عمرةَ بنتِ رواحة عطية، فأمرَتني أن أُشهدك يا رسول الله. فقال ﷺ: «أعطيتَ سائر ولدِك مثلَ هذا؟» قال: لا. قال: «فاتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم»، قال النعمان: فرجع فردَّ عطيته.

وفي رواية أنه ﷺ قال: «فلا تشهدني إذاً؛ فإني لا أشهد على جَور».

وفي رواية قال: «أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء؟» قال: بلى. فقال ﷺ: «فلا إذاً»([340])  أي لا تفعل.

وقد حفظ النعمان بن بشير هذا الدرس النبوي الجميل في العدل بين الأبناء في الهدايا، فكان يخطب بعد وفاة النبي ﷺ فيقول: قال رسول الله ﷺ: «اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم» ([341])، وفي الحديث من الفوائد "الندب إلى التأليفِ بين الإخوة وتركِ ما يوقع بينهم الشحناء، ويورثُ العقوق للآباء ... وفيه جواز الميل إلى بعض الأولاد والزوجات دون بعض، لأن هذا أمر قلبي، وليس باختياري" ([342]).

وعلى هذا الهدي النبوي في التسوية بين الأبناء في العطية سار الصديق t ، فقد أهدى ابنتَه عائشةَ زوجَ النبي ﷺ بستاناً له، فلما حضرته الوفاة قال: والله يا بنية، ما من الناس أحد أحب إلي غنىً بعدي منكِ، ولا أعز علي فقراً بعدي منك، وإني كنت نحَلْتُك جادَ عِشرين وسْقاً، فلو كنت جَددْتيه واحتزتيه كان لك، وإنما هو اليومَ مالُ وارث، وإنما هما أخواك وأختاك، فاقتسموه على كتاب الله.

 قالت عائشة الصديقة الزاهدة مطيبة لخاطر أبيها: يا أبت، والله لو كان كذا وكذا لتركته ([343]).

  ومن الهدايا المحرمة أيضاً ما يناله الموظفون من هدايا بعضِ المتعاملين معهم أو المراجعين لهم، فهذه الهدايا ليست أجراً على عملهم، وإنما هي في حقهم بمثابة الرشوة التي  يأكلها صاحبها سُحتاً، وقد قال النبي ﷺ : «هدايا العمال غلول» ([344]).

ونقل الطبراني عن ابن عباس أن رجلاً أهدى إلى عمر t فخذَ جَزور، ثم أتاه بعد مدة ومعه خصم له، فقال الرجل وهو يريد تذكير الخليفة بهديته: يا أمير المؤمنين، اقض لي قضاء فصلاً؛ كما يُفصل الفخِذ من الجَزور.

 فضرب عمر t بيده على فخذه، وقال: (الله أكبر، اكتبوا إلى الآفاق: هدايا العمال غلول) ([345]).

وحين استعمل النبي ﷺ ابن الأُتَبيَّة الأزدي على الصدقة قدم على النبي ﷺ فقال: هذا لكم، وهذا أهدي لي.

فكره النبي ﷺ مقالته، وقال: «فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه، فينظر يُهدى له أم لا. والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منه شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيراً له رُغاءٌ، أو بقرةً لها خُوار، أو شاةَ تيعَر»، ثم رفع ﷺ بيده حتى رأينا عُفرة إبطيه: «اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟» ([346]).

قال ابن بطال : "يلحق بهدية العامل الهدية لمن له دين ممن عليه الدين ، ولكن له أن يحاسب بذلك من دينه، وفيه إبطال كل طريق يتوصل بها من يأخذ المال إلى محاباة المأخوذ منه والانفراد بالمأخوذ ".

وأما ابن المنير فنبه على أنه "يؤخذ من قوله «هلا جلس في بيت أبيه وأمه» جواز قبول الهدية ممن كان يهاديه قبل ذلك، كذا قال ، ولا يخفى أن محل ذلك - إذا لم يزد - على العادة" ([347]).

ولما بعثَ رسول الله ﷺ معاذَ بنَ جبل أرسل إليه بعد خروجه، فرجع إليه، فقال: «أتدري لم بعثتُ إليك؟ لا تصيبن شيئاً بغير إذني؛ فإنه غلول، ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة، لهذا دعوتك، فامض لعملك» ([348]).

وكان إمام العدل عمر بن عبد العزيز يرفض هدايا العمال ويقول: "كانت الهدية في زمن رسول الله ﷺ هدية، وهي اليوم رشوة".

ومن الهدايا المحرمة أيضاً أن يأخذ المرء هدية ممن قضى له بعض أموره وحوائجه، كمن شفع بشفاعة أو توسط بأمر من الخير، فمثل هذا من المعروف، وينبغي أن يكون قربة وعملاً خالصاً لوجه الله مجرداً من طمع الدنيا؛ لذلك فإن النبي ﷺ يحذر الشافع وصاحب المعروف من أخذ شيء من الأجرة عليه في الدنيا، فيقول: «من شفع لأخيه بشفاعة فأهدى له هدية عليها؛ فقبلها، فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا» ([349]) ، وذلك "لأن الشفاعة الحسنة مندوب إليها، وقد تكون واجبة ، فأخذ الهدية عليها يضيع أجرها، كما أن الربا يضيع الحلال " ([350]).

وأيضاً فإن من الهدايا التي ترد ولا تقبل ، الهدايا التي يحرم الانتفاع بها، كأن تهدى لرجل ساعةً ذهبية أو ثوبَ حرير أو كأسَ خمر وأمثال ذلك، وقد صنعه النبي ﷺ حين كان محرماً ، فصاد له الصعب بن جَثامة t حماراً وحشياً، وأهداه إليه، فرده عليه ﷺ ، فلما رأى ما في وجهه [أي من الحزن لرد هديته] قال ﷺ: «أما إنا لم نرده عليك، إلا أنا حُرُم».

قال ابن حجر: "وأما حديث الصعب فإن النبي ﷺ بيَّن العلة في عدم قبوله هديته لكونه كان محرِماً، والمحرم لا يأكل ما صِيد لأجله؛ واستنبط منه المهلَب ردَّ هدية من كان ماله حراماً أو عُرف بالظلم" ([351]).

مكافأة المُهدي على هديته :

وكما يعلمنا النبي ﷺ قبول الهدية ؛ فإنه يرشدنا إلى مكافأة مُسديها بهدية مثلِها، وخاصة في الهدايا التي جرى العرف بين الناس على مكافأتها وتبادلها في المناسبات الاجتماعية، كهدايا التهنئة بالزواج والولادة وأمثالِهما ، فقد تعارف الناس على أن مثل هذه الهدايا تُكافئ في مناسباتٍ مشابِهة، تقول عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله ﷺ يقبل الهدية، ويثيب عليها) ([352]).

قال المهلَب: "الهدية على ضربين: فهدية للمكافأة، وهدية للصلة والجِوار، فما كان للمكافأة؛ كان على سبيلِ البيعِ وطريقِه، ففيه العِوَض، ويجبر المُهدى إليه على سبيل العوض، وما كان لله أو للصلة؛ فلا يلزم عليه مكافأة، وإن فعل فقد أحسن" ([353]).

ومن هذا النوع من الهدايا ما جاء في قصة أعرابي وهب للنبي ﷺ هدية رجاء المكآفأة، فأثابه عليها ﷺ، ثم سأله: «رضيتَ؟» قال: لا. فما زال ﷺ يزيده في مكافأة هديته حتى رضي، فقال ﷺ وقد استثقل هديته: «لقد هممتُ أن لا أتَّهِب هِبة إلا من قُرشي أو أنصاري أو ثقفي» ([354])، وقد استدل بعض المالكية بهذا الحديث على "وجوب الثواب على الهدية إذا أَطلق الواهب، وكان ممن يطلُب مثلُه الثواب، كالفقير للغني، بخلاف ما يهبه الأعلى للأدنى، ووجه الدلالة منه مواظبته ﷺ، ومن حيث المعنى أن الذي أهدى قصد أن يُعطى أكثرَ مما أهدى، فلا أقلَ أن يعوض بنظير هديته" ([355]).

وقد أكد ﷺ على مبدأ مكافأة الهدية بقوله: «من سألكم بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن أهدى لكم فكافئوه؛ فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له» ([356]).  

ولا ريب أن الهدية المبرورة هي الهدية التي يدفعها المهدي، لا ليقابَل من الناس بمثلِها، بل الهدية التي يرجو ثوابها من الله فحسب، أي مِن مثل ما كان يهديه ﷺ ، يقول جابر: كنا مع رسول الله ﷺ في سفر، فاشترى مني بعيراً، فجعل لي ظهره حتى أقدُم المدينة، فلما قدمت أتيته بالبعير، فدفعته إليه، وأمر لي بالثمن.

 ثم انصرفت؛ فإذا رسول الله ﷺ قد لحقني فقلت: قد بدا له [أي غير رأيه في مسألة شراء البعير]،قال فلما أتيته دفع إلي البعير وقال: «هو لك».

قال جابر: فمررت برجل من اليهود فأخبرتُه، فجعل يعجب ، ويقول: اشترى منك البعير ودفع إليك الثمن ووهبه لك؟! فقلت: نعم ([357]).

لكن أي عجب، إنها أخلاق نبي أدبه ربه فأحسن تأديبه.

***


 المبحث الرابع : آداب المداينة

ما زال الناس يحتاج بعضهم إلى بعض، فيستدين المحتاج من أخيه ما يقضـي حاجته، ويرده إليه بعد حين ، فتُفرج كربته، ويشاركُه أخوه الذي أدانه فرحته وينال الأجر من ربه.

وقد جعل الله عز وجل هذه الدنيا داراً للابتلاء، فكلٌ فيها مبتلى، فالبعض يبتليه الله بالعوز والحاجة والضنْك، وآخرون يبتليهم الله بالرخاء والسعة ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ (الأنبياء: 35).

 فأما أولئك الذين ابتلاهم الله بالخير، فوسع عليهم أرزاقهم، وجعل حاجاتِ الناس إليهم، فيلزمهم شكر المنعمِ تبارك وتعالى بالإحسان إلى عبيده، وبذلِ الفضلِ لهم، ومنه إقراض المحتاجين منهمُ القرضَ الحسن، ففي الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه، ومن كان في حاجة أخيه؛ كان الله في حاجته، ومن سعى في قضاء حاجة أخيه؛ قضى الله حاجاته، ومن فرج عن أخيه كُربة؛ فرج الله عنه بها كُربة من كرَب يوم القيامة» ([358]).

ورغَّب النبي ﷺ أمتَّه في إقراض المعسر وعونه في قضاء حاجته، فأخبرهم أن الله جعل تكرر الإقراض معادلاً أجر الصدقة، مع أن المال المقرض مسترد؛ يعود إلى صاحبه، يقول ﷺ: «ما من مسلم يقرض مسلماً قرضاً مرتين إلا كان كصدقةٍ مرة » ([359]) .

والممتنع عن إقراض الناس بغير سبب متوعد من الله لمنعه الفضلَ عمن يحتاجُه ، ففي الحديث: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم »، فذكر منهم «ورجل منع فضل ماء، فيقول الله: اليوم أمنعك فضلي كما منعتَ فضلَ ما لم تعمل يداك» ([360] وهذا مصداق قول الله تعالى: ﴿ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ ` الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ` الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ ` وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ﴾ (الماعون: 4-6).

والأصل في الإنسان أن لا يستدين إلا لحاجة، لأن الدَّين أمانة ثقيلة ومسئولية كبيرة، فعن أبي موسى الأشعري أن النبي ﷺ قال: «إن أعظم الذنوب عند الله أن يلقاه بها عبد بعد الكبائر التي نهى عنها: أن يموت رجلٌ وعليه دين لا يدع له قضاء» ([361])، فسمى النبي ﷺ الإقراض ذنباً ؛ لتعلقه بحقوق الآدميين التي مبناها على المشاحة والمطالبة؛ بينما حقوق الله مبناها على المساهلة والمسامحة.

وتبدأ مسؤولية الإنسان عن الدَّيْن عندما يهُم باستدانة أموال الناس، فإن كان عازماً على أدائها أعانه الله على ذلك، قال ﷺ: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله» ([362] وفي رواية: «ما من عبد كانت له نية في أداء دينه إلا كان له من الله عون» ([363]).

وعنون البخاري هذا الحديث بقوله: "لا صدقة إلا عن ظهر غنى ومن تصدق وهو محتاج أو أهله محتاج أو عليه دين فالدين أحق أن يقضى من الصدقة والعتق والهبة، وهو رد عليه ليس له أن يتلف أموال "، ومعناه: "الحض على ترك استئكال أموال الناس والتنزهُ عنها، وحسن التأدية إليهم عند المداينة... [و] الثواب قد يكون من جنس الحسنة، وأن العقوبة قد تكون من جنس الذنوب، لأنه جعل مكانَ أداء الإنسان أداءَ الله عنه، ومكان إتلافِه إتلافَ الله له"([364]).

ولثِقَل أمر الدين وخطورة شأنه كان النبي ﷺ يستعين بالله عليه، عن عبد الله بنِ عمرو أن رسول الله ﷺ كان يدعو بهؤلاء الكلمات: «اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدين وغلبة العدو وشماتة الأعداء» ([365]).

وذات يوم دخل النبي ﷺ المسجد فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة فقال: «يا أبا أمامة، ما لي أراك جالساً في المسجد في غير وقت الصلاة؟» فقال أبو أمامة: هموم لزمتني، وديون يا رسول الله. قال: «أفلا أعلمك كلاماً إذا أنت قلتَه أذهبَ الله عز وجل همك وقضى عنك دينك». فقال: بلى يا رسول الله.

فقال ﷺ: «قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزَن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال».

قال أبو أمامة: ففعلتُ ذلك، فأذهب الله عز وجل همي، وقضى عني ديني([366]).

وحتى يستشعر الصحابة عِظم شأن الدين فإن النبي ﷺ صنع أمامهم أمراً يثير عجبهم واهتمامهم، لقد امتنع ﷺ عن الصلاة على بعض أصحابه حين مات وعليه دَين، بل كان إذا قُدِّم إليه ميت لم يصل عليه حتى يسألَ إن كان مَديناً أم لا ، يقول سلمة بن الأكوع t : كنا جلوساً عند النبي ﷺ فأتي بجنازة، فقالوا: يا رسول الله صلِ عليها، قال: «هل ترك شيئاً؟» قالوا: لا، قال: «فهل عليه دين؟» قالوا: ثلاثة دنانير. فقال ﷺ: «صلوا على صاحبكم».

فقال أبو قتادة: صل عليه يا رسول الله وعليَّ دينُه، فصلى عليه([367]).

وفي رواية للحديث من طريق جابر أن رسولَ الله كان إذا لقي أبا قتادة يقول: «ما صنعتِ الدنانير؟ حتى كان آخر ذلك أن قال: قد قضيتُها يا رسول الله، قال: الآن بردت عليه جلدُه» ([368]).

والشهيد رغم عِظم قدره وبلائه ومنزلتِه عند الله؛ فإنه لا يَغفِر له دينَه، فقد سأل رجل النبي ﷺ فقال:يا رسول الله! أرأيت إن قتلتُ في سبيل الله أتكفَّر عني خطاياي؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «نعم، وأنت صابرٌ محتسب، مقبلٌ غيرُ مدبر؛ إلا الدَّين» ([369]).

وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام: «يغفر الله للشهيد كل ذنب إلا الدَين» ([370]).

وذات يوم وضع النبي ﷺ راحته على جبهته، وقال: «سبحان الله! ماذا نزل من التشديد؟» فسكت الصحابة وفزعوا.

ثم في الغد قالوا: يا رسول الله! ما هذا التشديد الذي نزل؟ فقال: «والذي نفسـي بيده، لو أن رجلاً قُتل في سبيل الله، ثم أُحيى، ثم قُتل، ثم أحيى، ثم قُتل وعليه دين ما دخل الجنة حتى يُقضى عنه دينُه» ([371])، فالدين يحجب الشهيد على باب الجنة حتى يُقضى عنه دينه.

وحين وجد النبي ﷺ سعة من المال؛ تولى سداد ديون المتوفين من الصحابة؛ حرصاً منه ﷺ على براءة ذمتهم وسلامة عاقبتهم ، فكان يقول: «من حمل من أمتي ديناً ثم جهد في قضائه ثم مات قبل أن يقضيه؛ فأنا وليه»([372]) ويقول: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي من المؤمنين فترك دَيناً فعلي قضاؤه، ومن ترك مالاً فلورثته» ([373]).

قال النووي: " قيل: إنه ﷺ كان يقضيه من مال مصالح المسلمين ، وقيل : من خالص مال نفسه .. ومعنى هذا الحديث: أن النبي ﷺ قال : أنا قائم بمصالحكم في حياة أحدكم وموته، وأنا وليه في الحالين، فإن كان عليه دين قضيته من عندي إن لم يخلف وفاء، وإن كان له مال فهو لورثته لا آخذ منه شيئاً، وإن خلف عيالاً محتاجين ضائعين فليأتوا إلي، فعلي نفقتهم ومؤنتهم" ([374]).

ويرشد النبي ﷺ أصحابه وأمته من بعده إلى طريقة تحفظ حقوق الناس عن الضياع وتعين المَدين على سداد دينه، ألا وهي كتابة الوصية التي يبين فيها المدين الحقوق المتعلقة برقبته، لتؤدى عنه لو مات قبل سدادها، فقد قال ﷺ: «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيتُه مكتوبة عنده» ([375]).

ولهذا الحديث نقل ابن المنذر عن أبي ثور أن الوصية واجبة على من عليه حق شرعي، يُخشى أن يضيع على صاحبه إن لم يوص به، كوديعةٍ ودَينٍ لله أو لآدمي([376]).

وأما التنكر للدَين وجحده فذلك من أقبح الإثم وأرذله، فهو مقابلة للحسنة بضدها، وآكل حقوق الناس متوعد بالنار، على الصغير منها والكبير، فحين مات مولى لرسول الله ﷺ يدعى كركرة، قال ﷺ: «هو في النار»، فذهبوا ينظرون إليه، فوجدوا عباءة قد غلها([377]).

وفي يوم خيبر أقبل نفر من أصحاب النبي ﷺ فقالوا: فلان شهيد، وفلان شهيد، حتى مروا على رجل فقالوا: فلان شهيد. فقال رسول الله ﷺ: «كلا إني رأيته في النار في بُردة غلَّها، أو في عباءة غلَّها» ([378]).

ويحوط النبي ﷺ مسألة الإقراض بآداب منها ما يتعلق بالمقرِض ، وفي أولها: أن يستشعر المقرض فضل الله عليه وتوسيعه عليه في رزقه؛ بما يعينه على عون إخوانه ، فيقلبل النعمة بشكر الله والإخلاص له في هذا العمل ، وتخليص النية مما يشينها من مراءاة الناس وانتظار تبجيلهم والتطلع إلى قولهم أو المِنَّة على المقترض، فهذا كله لا يصنعه من أراد بقرضه وجه الله تعالى وأجره في الدار الآخرة.

وأعظم ما ينبغي أن يتنزه عنه أكل الربا ؛ باشتراط زيادة في المال عند السداد، فهذا من اكبر الكبائر، وصاحبه متوعد بالحرب من الله عز وجل ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ` فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ﴾ (البقرة: 278-279)، كما لا يجوز للمقرِض أن يستفيد من مدينه بمنافع أخرى سوى المال؛ كالهدايا وطلب الشفاعات، وقد روي عن عدد من أصحاب النبي ﷺ قولهم: «كل قرض جر نفعاً فهو رباً» ([379]).

وقد استنكر عبد الله بن سلام على بعض أهل المدينة النبوية قبولَهم الهدية من المقترِض، وعدَّه من الربا، فقال لأبي موسى الأشعري: إنك بأرض فيها الربا فاشٍ، فإذا كان لك على رجل حقٌ، فأهدى إليك حِمل تِبنٍ أو حِمل شعير أو حِمل قَتٍ؛ فلا تأخذْه. فإنه رباً» ([380]).

قال ابن القيم: "المنفعة التي تجر إلى الربا في القرض ، هي التي تخص المقرِض، كسكنى دار المقترِض وركوبِ دوابه ، واستعمالِه ، وقَبولِ هديته ، فإنه لا مصلحة للمقترض في ذلك، بخلاف المسائل ذات المنفعة المشتركة بينهما، وهما متعاونان عليها، فهي من جنس التعاون والمشاركة"([381]).

ومن آداب المقرِض أن يكون حسن الاستقضاء إذا حل وقت السداد، فيطلب ماله بأحسن طريقة وأجمل سبيل، لا أن يفعل ما فعله الحبر اليهودي زيد بن سعنة مع النبي ﷺ حين جاء يطلب ماله، فأغلظ في مطالبته وأساء ؛ حتى قام إليه عمر ﷺ يريد أن ينال منه وأن يعلمه أدب الخطاب مع الأنبياء.

لكن النبي ﷺ بحلمه قال لعمر: «يا عمر، أنا وهو كنا إلى غير هذا منك أحوج: أن تأمرني بحسن القضاء، وتأمرَه بحسن التقاضي، انطلق يا عمر أوفه حقه، أما إنه قد بقي من أجله ثلاث، فزده [يا عمر] ثلاثين صاعاً لتزويرك عليه»([382]).

وهنيئاً لمن رزقه الله حسن التقاضي، فقد دعا النبي ﷺ لصاحب هذا الفعل بالرحمة، فقال: «رحم الله عبداً سمْحاً إذا باع، سمْحاً إذا اشترى، سمْحاً إذا قضـى، سمحاً إذا اقتضـى» ([383]).

وأسمح صور التقاضي وأحسنها؛ التجاوزُ عن المعـسر وإنظارُه في الدَّين الذي حلَّ سدادُه، كما قال تعالى: ﴿ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسـَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ (البقرة:280).

فإنظار المعسر من أفضل ما يتقرب به المسلم إلى ربه، وهو سبب في مغفرة الرب للعبد، يقول ﷺ: «تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم، فقالوا: أعملت من الخير شيئاً؟ قال: لا. قالوا: تذكر. قال: كنت أداين الناس، فآمر فتياني أن يُنظِروا المعسر ويتجوزوا عن الموسر، فقال الله عز وجل: «تجوزوا عنه»، وفي رواية: «فقال الله: أنا أحق بذا منك، تجاوزوا عن عبدي» ([384]).

وفي تأكيد هذا المعنى أخرج مسلم عن أبي قتادة t أنه طلب غريماً له فتوارى عنه، ثم وجده، فقال الغريم: إني معسر. فقال أبو قتادة: آللهُ؟ قال الرجل: آلله. فقال أبو قتادة: فإني سمعت رسول الله يقول: «من سره أن ينجيه الله من كُرَب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضعْ عنه» ([385]).

ومن الكُرب التي يرفعها الله يوم القيامة المكث في حرِّه المديد الشديد ، يقول : «من أنظر معسراً أو وضع له؛ أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه يومَ لا ظلَ إلا ظِلُه» ([386]).

وفي إنظار المعسر أجرُ الصدقة بل ضعفُ أجرها، فقد سمع بريدة النبي ﷺ يقول: «من أنظر معـسراً فله بكل يومٍ مثلِه صدقةٌ». ثم سمعه يقول: «من أنظر معسـراً فله بكل يوم مِثليْه صدقة».

فقال بريدة: يا رسول الله! إني سمعتك تقول: «فله بكل يومٍ مثلِه صدقة»، ثم سمعتك تقول: «من أنظر معسراً فله بكل يوم مثليه صدقة»، فقال : «له بكل يوم صدقة قبل أن يحِلَّ الدين، فإذا حلَّ الدين فأنظره، فله بكل يوم مِثليه صدقة»([387]).

كما يعلم النبي المقترضَ جملةً من الآداب، أولُها: العجلةُ بتسديد الدَين وعدم تأخير السداد عند القدرة على القضاء، فهذا أقل ما نقابلُ فيه معروفَ الدائن ﴿ هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ﴾ (الرحمن:60). وكيف تسمح للإنسان نفسُه أن يماطل في رد الحق إلى من أحسن إليه وفرج بماله كربَه، إنه بذلك يضع نفسه موضع التهمة والإثم، قال : «ليُّ الواجدِ يُحِلُّ عِرضَه وعقوبتَه» ([388] أي "يحِل عِرضه بأن يقول: ظلمني ومطلني، ويحل عقوبتَه أي الحبسُ والتعزير"([389]).

وفي حديث آخر يعتبر التأخر في السداد مع القدرة عليه من الظلم المحرم، فيقول : «مطل الغني ظلم» ([390])، وأما غير الواجد فليس بمأزور.

وإذا حان وقت السداد، ولم يجد المـَدينُ ما يرد به دينه، فينبغي عليه أن يجتهدَ في الوفاء بالأجل الذي حدده للسداد، ولو أن يستدين من آخر ليرد للأول، وقد فعل ذلك النبي حين جاءه أعرابي يتقاضاه دَيناً كان عليه، فأرسل إلى خولة بنت قيس، فقال لها: «إن كان عندَك تمر فأقرضيْنا حتى يأتيَنا تمرُنا؛ فنقضيكِ»، فقالت: نعم بأبي أنت يا رسول الله. فأقرضَتْهُ، فقضى الأعرابيَ([391]).

ويحكي النبي قصة عجيبة في الحرص على قضاء الدين في أجله، يحكيها ليعلم أمته الحرص على سداد الدين والاجتهاد فيه، إنها قصة رجل من بني إسرائيل سأل بعضَ بني إسرائيل أن يُسلِفَه ألف دينار فقال: «ائتني بالشهداء أُشهِدُهم. فقال: كفى بالله شهيداً.

 قال: فأتني بالكفيل. فقال: كفى بالله كفيلاً قال: صدقت.

فدفعها إليه إلى أجل مسمى، فخرج في البحر، فقضـى حاجته، ثم التمس مركِباً يركبها يَقدَم عليه للأجل الذي أجَّله، فلم يجد مركباً، فأخذ خشَبة فنقرها، فأدخل فيها ألف دينار وصحيفةً منه إلى صاحبه، ثم زجَّج موضِعَها، ثم أتى بها إلى البحر فقال: اللهم إنك تعلم أني كنت تسلفت فلاناً ألف دينار فسألني كفيلاً فقلت: كفى بالله كفيلاً، فرضي بك، وسألني شهيداً فقلت: كفى بالله شهيداً، فرضي بك، وإني جهَدت أن أجد مركباً أبعث إليه الذي له، فلم أقدر، وإني أستودعُكَها. فرمى بها في البحر، وانصرف وهو في ذلك يلتمس مركباً يخرج إلى بلده.

 فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركباً قد جاء بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال فأخذها لأهله حطباً، فلما نشرها وجد المال والصحيفة.

 ثم قدِم الذي كان أسلفه (أي المدين)، فأتى بالألف دينار [وهو لا يظن أن ماله وصل] فقال: «والله ما زلت جاهداً في طلب مركبٍ لآتيك بمالك، فما وجدتُ مركباً قبل الذي أتيتُ فيه.

فقال: هل كنت بعثت إليَّ بشـيء؟ فإن الله قد أدى عنك الذي بعثتَ في الخشبة، فانصرِفْ بالألف الدينار راشداً» ([392]).

ومن الآداب التي ينبه المقترض عليها؛ أن يرُد الـمَدينُ الدين بأفضل منه، من غير أن يكون هذا شرطاً عليه حين استدان، ولا عُرفاً لازماً تعارف الناس عليه، حتى لا يكون ذلك من الربا.

يقول جابر بنُ عبد الله t: كان لي على النبي ﷺ دين، فقضاني وزادني([393]).

واستدان النبي من أعرابي، فجاء الرجل إلى النبي يطلب دينه بجفاء، فزجره الصحابة ورفَق به النبي ، وقال لأصحابه: «اشتروا له سِناً»، فأعطوه إياه. فقالوا: إنا لا نجد إلا سِنَّاً هو خيرٌ من سِنِّه. قال: «فاشتروه، فأعطوه إياه، فإن من خيركم أحسنَكم قضاءً».

وفي رواية أن الرجل قال: "أوفيتني أوفاك الله"([394]).

قال ابن حجر: "وفي الحديث جوازُ المطالبة بالدين إذا حلَّ أجلُه، وفيه حسنُ خلقِ النبي وعِظَم حِلمه، وتواضعُه وإنصافُه، وأن من عليه دين لا ينبغي له مجافاةُ صاحبِ الحق ... وفيه جوازُ وفاء ما هو أفضل من المِثل المقترَض؛ إذا لم تقع شرطيةُ ذلك في العقد، فيحرم حينئذ اتفاقاً"([395]).

ومما ينبغي للمَدين أن يشكر الدائنَ على إحسانه، ولو بكلمة طيبة؛ يشكر له فيــها معروفه، وقـد صنعه النــبي كما ينقل لنــا عبدالله بن أبي ربيعة بقوله: استقرض مني النبي أربعين ألفاً، فجاءه مال، فدفعه إلي، وقال: «بارك الله تعالى في أهلك ومالك» ([396]).

وفي حديث آخر قال : «إنما جزاءُ السلَف الحمدُ والأداءُ» ([397]).

وشرحه المناوي فرأى أنه ينبغي "حمدُ المقترِض للمقرِض والثناءُ عليه وأداءُ حقِه له، قال الغزالي: فيستحب للمَدين عند قضاء الدين أن يحمَد المقضيَّ له، بأن يقول: بارك الله لك في أهلك ومالك"([398])، فالدعاء للمحسن من أحسن صور مقابلة الإحسان، فقد قال : «من صُنِعَ إليه معروف، فقال لفاعله: جزاك الله خيراً؛ فقد أبلغ في الثناء» ([399]).

وهكذا ففي تلمس هدي النبي ﷺ وامتثاله ما يحوط المجتمع من كثير من أسباب الشقاق، ويقارب بين المسلمين، فيحفظ إلفتهم ويزيد محبتهم، ويحقق أخوتهم ، فهم كالجسد الواحد ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (الأنفال: 63).

***


 المبحث الخامس : سلامة المجتمع من الشقاق

الاختلاف بين الناس أمر طبعي جِبلِّي، فمازال الناس يختلفون بسبب اختلاف طبائعهم وتصوراتهم للأمور، لكن هذا الاختلاف لا يصح أن يؤدي بالإخوة إلى التشاحن وفساد ذات البين، فالشقاق والتشاحن الذي يقع بين الناس إنما هو في حقيقته بعضُ كيد إبليس الذي يجعل الخلاف الصغير كبيراً، وما يزال ينفخ في أوداج الواحد فينا حتى يوغرَ صدره ويوقعَه في إخوانه، وقد نبه إلى ذلك النبي ﷺ بقوله: «إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمُهم فتنة، يجيء أحدُهم فيقول: فعلتُ كذا وكذا. فيقول: ما صنعتَ شيئاً حتى يجيء أحدُهم فيقول: ما تركته حتى فرقتُ بينه وبين امرأته. فيدنيه منه: ويقول: نِعمَ أنت»([400]).

ولبيان مدى حرص الشيطان على الإفساد بين المسلمين نستمع إلى النبي ﷺ وهو يقول: «إن الشيطان قد أيِس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم»([401])، فهذا الحديث من المعجزات النبوية لما فيه من إخبار بالغيب ، ومعناه: أن الشيطان " آيس [أي أصابه اليأس] أن يعبده أهل جزيرة العرب، ولكنه يسعى في التحريش بينهم بالخصومات والشحناء والحروب والفتن ونحوِها"([402])، فالخصام بين المسلمين بعض كيد الشيطان ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ﴾ (المائدة: 91).

والتفرق والشحناء بين المسلمين يفسد على المرء دينه، ويكفي أنه مانعٌ مغفرةَ الله لذنوب العباد، قال ﷺ: «تفتَح أبواب الجنة يومَ الاثنين ويوم الخميس، فيُغفر لكل عبد مسلم لا يشـرك بالله شيئاً؛ إلا رجلاً كانت بينَه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظِروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا»([403]).

قال الباجي: " يعني - والله أعلم - أخروا الغفران لهما حتى يصطلحا"([404]).

وفي حديث آخر - وفي إسناده ضعف - أن النبي ﷺ قال: «ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبراً: رجل أمَّ قوماً وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجُها عليها ساخط، وأخَوانِ متصارمان»([405]) أي متشاحنان.

وفي مواجهة هذا الخطب الجلل؛ أمر الله بأمرين مهمين أولهما يقطع دابر الخصومة ويسد بابها، وهو حسن الظن بالعباد، والثاني هو الإصلاح بين المتخاصمين.

أولاً : حسن الظن بالآخرين

إن كثيراً من المشكلات التي تقع بيننا ليس مردها إلى أسباب حقيقية، بل ترجع إلى ظنون يقذفها الشيطان في صدورنا، ننساق إليها، فتكون سبباً في وقوع العداوة وزيادة الشقاق.

والأصل في المسلم السلامة من السوء، والبراءة من التهمة، فقد قال ابن عمر:‏ رأيت النبي ﷺ يطوف بالكعبة ويقول‏:‏ «ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك، ماله ودمه، وأن يظن به إلا خيراً‏ًً» ([406])‏‏.

وقد ذم الله تعالى التعرض للمسلم بما يقدح في سلامته، ولو بالظن ، إذا لم يكن لهذا الظن ما يبرره، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾ (الحجرات: 12).

ورأى العلماء في الآية ما يشير إلى وجود ظن يأثم فيه المرء، وآخر لا يأثـم فيه، فاجتهـدوا في بيــان الفرق بينـهما، فقال عيسى بن دينار في الظن المذموم: "يريد ظن السوء ومعناه أن تعادي أهلك وصديقك على ظن تظنه به دون تحقيق ، أو تحدث بأمر على ما تظنه فتنقله على أنك قد علمته" ([407]).

 وهكذا فإن الحكم على الناس بمجرد الظن دون استدلال بدليل هو الظن الآثم، وقد قال عز وجل: ﴿ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ﴾ (الإسراء: 36).

ومن الظن المحرم ما يؤدي بصاحبه إلى التجسس والتوثق للظنون، وقد قال رسول الله ﷺ‏:‏ ‏«‏إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخواناً‏»‏ ([408])، فالمراد "ترك تحقيق الظن الذي يضر بالمظنون به ، وكذا ما يقع في القلب بغير دليل ، وذلك أن أوائل الظنون إنما هي خواطر لا يمكن دفعها ، وما لا يُقدر عليه لا يُكلف به ، ويؤيده حديث: « تجاوز الله للأمة عما حدثت به أنفسها»"([409]).

قال البيهقي: "أراد أن ظن القبيح بالمسلم كهمزه ، ولمزه والسخريةِ والهزء به نُهي عنه ، وأخبر أنه إثم، ونهى عنه وعن التجسس ، وهو تتبع أحواله في خلواته وجوف داره والتعرف لها، فإن ذلك إذا بلغه ساءه وشق عليه، فكان التعرض له من باب الأذى الذي لا موجب له ، ولا مرخص فيه ... قال سهل بن عبد الله : (من أراد أن يسلم من الغيبة ، فليسد على نفسه باب الظنون ، فمن سلم من الظن سلم من التجسس ، ومن سلم من التجسس سلم من الغيبة، ومن سلم من الغيبة سلم من الزور ، ومن سلم من الزور سلم من البهتان) ([410]).

ومثل هذا المعنى ورد في حديث مرفوع إلى النبي ﷺ بإسناد فيه ضعف؛ لكن معناه صحيح، وفيه أن رسول الله ﷺ قال: « في الإنسان ثلاثة : الطيرة ، والظن ، والحسد ، فمخرجه من الطيرة أن لا يرجع ، ومخرجه من الظن ألا يحقق ، ومخرجه من الحسد أن لا يبغي» ([411]).

ومما ينبغي أيضاً الابتعاد عما يجلب سوء الظن ويؤدي إليه، فليس من الحكمة أن يضع المرء نفسه في مواطن الشبهة ثم ينتظر من الناس أن يتلمسوا له المعاذير، ونبينا ﷺ كان أبعد الناس عن مواطن الشبهة وسوء الظن، فهو النبي الذي يؤمن الناس بعصمته وتزكيته من قبل ربه، لكنه ورغم ذلك سعى في إظهار براءة حاله وسلامته، لما أتته زوجته صفية تزوره في معتكفه في المسجد في اعتكافه في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت معه ساعة، ثم قامت تريد بيتها، فقام النبي ﷺ معها يرافقها ، حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة مر رجلان من الأنصار، فسلما على رسول الله ﷺ، فقال لهما النبي ﷺ: «على رسلكما إنما هي صفية بنت حيي».

فقالا: سبحان الله يا رسول الله وكبر عليهما، فقال النبي ﷺ: «إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً» ([412])، وفيه "بيان شفقته ﷺ على أمته وإرشادهم إلى ما يدفع عنهم الإثم . وفيه التحرز من التعرض لسوء الظن والاحتفاظ من كيد الشيطان والاعتذار ، قال ابن دقيق العيد : وهذا متأكد في حق العلماء ومن يُقتدى به، فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلاً يوجب سوء الظن بهم وإن كان لهم فيه مَخلص، لأن ذلك سبب إلى إبطال الانتفاع بعلمهم" ([413]).

أما من قصد مواضع الشبهات فقد أحل عرضه واستحق سوء الظن فيه ، كمن دخل إلى مكان يظن بداخله السوء أو صاحَبَ الفساق والفجار أو غاب عن الجمع والجماعات، قال ابن بطال: "سوء الظن جائز عن أهل العلم لمن كان مظهراً للقبيح ومجانباً لأهل الصلاح وغير مشاهد في الصلوات في الجماعة، وقد قال ابن عمر: (كنا إذا فقدنا الرجل فى صلاة العشاء والصبح أسأنا الظن به)" ([414]).

قال عمر بن الخطاب‏ t:‏ (من تعرض للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن، ومن كتم سره كان الخيار إليه، ومن أفشاه كان الخيار عليه، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك، ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً، وأنت تجد لها في الخير محملاً، وكن في اكتساب الإخوان فإنهم جنة عند الرخاء وعدة عند البلاء، وآخ الإخوان على قدر التقوى، وشاور في أمرك الذين يخافون الله‏) ([415]).

ومما يحسن التنبيه عليه أنه شاع على ألسنة بعض العوام أحاديث منسوبة إلى النبي ﷺ وإلى بعض أصحابه تدعو إلى إساءة الظن بالناس طلباً للسلامة منهم، فهذه الآثار لا تصح، وإن وجهها بعض العلماء وحملها على معاني جميلة.

ومن ذلك ما نسب إليه ﷺ : «الحزم سوء الظن»، ومثله: «احترسوا من الناس بسوء الظن»، وهذان الحديثان حكم عليهما العلماء بالضعف الشديد. قال الألباني عن كليهما: "ضعيف جداً"، ثم قال عن الثاني منهما: "ثم إن الحديث منكر عندي ؛ لمخالفته للأحاديث الكثيرة التي يأمر النبي ﷺ فيها المسلمين بأن لا يسيئوا الظن بإخوانهم" ([416]).

ثانياً : الإصلاح بين المتخاصمين

وأما إذا وقعت الخصومة وأوقع الشيطان الإخوة في شباكه فإن الله يأمر المجتمع المسلم إلى المسارعة في الإصلاح بين المتخاصمين: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ (الحجرات: 10)، وقد اعتبره من خير القرب والأفعال: ﴿ لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ﴾ (النساء: 114)، وكذا قال رسوله ﷺ: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة». قالوا: بلى. قال: «صلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، وفي رواية: «لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين»([417]).

قال الطِّيبي: "في الحديث حث وترغيب في إصلاح ذات البين واجتناب الإفساد فيها، لأن الإصلاح سببٌ للاعتصام بحبل الله وعدمِ التفرق بين المسلمين، وفسادُ ذات البين ثُلمة في الدين، فمن تعاطى إصلاحها ورفع فسادها؛ نال درجةً فوق ما يناله الصائمُ القائم المشتغل بخاصة نفسه"([418]).

قال الأوزاعي: "ما خطوةٌ أحبُ إلى الله عز وجل من خطوة في إصلاح ذات البين، ومن أصلح بين اثنين كتب الله له براءةً من النار".

وقد سارع النبي ﷺ إلى هذه الخصلة الجليلة، لما سمع  أن بعض أصحابه من أهل قُباء اقتتلوا حتى ترامَوا بالحجارة فقال ﷺ: «اذهبوا بنا نصلحُ بينهم»([419]) ، فذهب النبي ﷺ  للإصلاح بينهم مما أخره عن صلاة الجماعة التي ليست بأعظمَ من الإصلاح بين المسلمين.

قال ابن حجر: " في هذا الحديث فضل الإصلاح بين الناس وجمعِ كلمة القبيلة وحسمِ مادة القطيعة وتوجهِ الإمام بنفسه إلى بعض رعيته لذلك ، وفيه تقديمُ مثلِ ذلك على مصلحة الإمامة بنفسه"([420]).

قال ابن بطال: "فيه: ما كان عليه النبي ﷺ من التواضع والخضوع والحرص على قطع الخلاف وحسم دواعِي الفُرقة عن أمته كما وصفه الله تعالى"([421]).

كما صنعه النبي ﷺ مرة أخرى حين حاول الإصلاح بين مغيث وزوجته السابقة بَريرة، فقد فارقته، وكان يحبها.

يقول ابن عباس: كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي، ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبي ﷺ للعباس: « يا عباسُ، ألا تعجب من حب مُغيثٍ بريرةَ، ومن بغضِ بريرةَ مُغيثاً؟!».

وقد رفِق النبي ﷺ‬ بمغيثٍ، فذهب إلى بريرة يشفع لزوجها عندها، لعلها ترجعُ إليه، فذهب إليها وقال لها: «لو راجعتِه» فقالت بريرة: يا رسول الله تأمرني؟ فأجابها ﷺ: «إنما أنا أشفع». فقالت: لا حاجة لي فيه([422]).

 ولأهمية الإصلاح بين الناس، أجاز النبي ﷺ الكذب بين المتخاصمين بقصد الإصلاح، كأن يذكر على لسان أحد المتخاصمَين مدحاً لخصمه وثناء عليه، من غير أن يكون هذا قوله حقيقة، قال ﷺ: «ليس بالكاذب من أصلح بين الناس، فقال خيراً، أو نَمَى خيراً»([423]).

تقول أم كلثوم بنت عقبة: (ما سمعت رسول الله ﷺ رخص في شيء من الكذب إلا في ثلاث: الرجل يقول القول يريد به الإصلاح، والرجل يقول القول في الحرب، والرجل يحدث امرأته، والمرأة تحدث زوجها) ([424]).

قال ابن العربي : الكذب في هذا وأمثاله جائز بالنص رفقاً بالمسلمين لحاجتهم إليه"([425]).

وهكذا يتبين حرص النبي ﷺ على سلامة المجتمع المسلم من منغصات الأخوة ومبطلات الاعمال الصالحات، وفي الإذعان لهديه سعادة المسلم في دنياه وأخراه.

***


 خاتمة

إن نظرة متأملة إلى حياة النبي ﷺ ، ثم أخرى إلى حياتنا تكشف للبليد قبل الحصيف البون الشاسع الذي يفصلنا عن نبينا ﷺ، ولست أبالغ إذا قلت: إنه يصدق فينا ما قاله أبو الدرداء عن زمن التابعين - وهو فينا أبين وأصدق -: (لو خرج رسول الله ﷺ اليوم إليكم ما عرف شيئاً مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة ).

لقد اصطفى الله من قبل بني إسرائيل وآتاهم الكتاب والملك والسؤدد ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ﴾ (الجاثية:16)، ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ﴾ (الأعراف:173)، فلما خالفوا منهج الله وتنكبوا هدي رسله نزع الله منهم الاصطفاء، وغيَّر حالهم إلى أبأس حال ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ﴾ (البقرة: 61)، وهكذا فسنن الله لا تتخلف، ولن تحابينا إذا تنكبنا شرع الله وأعرضنا عن هدي رسوله ﷺ ﴿ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً ﴾ (فاطر: 43).

إذا تبين هذا عرفنا سبب تغيير الله حالنا ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ (الأنفال: 53)، فهذا الحال جزاء حيدتنا عن دين الله، وعقوبة الله إنما ترفع بالتوبة «إذا تبايعتم بالعِينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم»، وفي رواية أحمد: «ليلزمنكم الله مذلة فى أعناقكم، ثم لا تنزع منكم حتى ترجعون إلى ما كنتم عليه وتتوبون إلى الله» ([426]).

واللهَ أسأل أن يرجعنا إلى ديننا، وأن يغفر الذنب الذي لأجله سلط علينا أعداءنا، كما أسأله تبارك وتعالى أن يقيمنا على سنته ﷺ ، وأن يحشرنا تحت لوائه ، في جنات ونهر ، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.



([1]) التمهيد، ابن عبد البر (23 /10) .

 ([2])أخرجه أبو داود ح (4607)، وابن ماجه ح (42)، وأحمد ح (16694).

([3])  أخرجه ابن سعد في الطبقات، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع ح (4386)، ولكن معناه صحيح فقد شهد له وصف أم معبد له بأنه حسن الخلق بسام. انظر الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم (6/252).

([4]) أخرجه الترمذي ح (1162)، وأبو داود ح (4682)، وأحمد ح (23648).

([5])  أخرجه الترمذي ح (3895)، وابن ماجه ح (1977).

 ([6])أخرجه البخاري ح (676)، والرواية الثانية رواها الترمذي في الشمائل المحمدية ح (337).

([7])  فيض القدير (5/300).

([8])  فتح الباري (10/461).

([9])  شرح النووي على صحيح مسلم (15/221).

([10])  أخرجه البخاري ح (1119).

([11])  أخرجه أبو داود ح (2578).

([12])  أخرجه البخاري ح (5190)، ومسلم ح (892).

([13])  أخرجه البخاري ح (2734).

([14])  فتح الباري (5/347).

([15]) أخرجه البخاري ح (3331)، ومسلم ح (1468).

 ([16])فتح الباري (9/254) وفي المطبوع : " وأن من رام تقويمهن فإنه الانتفاع بهن". ولعله تصحيف.

([17])  أخرجه الترمذي ح (1163)، وابن ماجه ح (1851).

([18])  أخرجه البخاري ح (5211)، ومسلم ح (2445)، واللفظ له.

([19])  شرح النووي على صحيح مسلم (15/210).

([20])  أخرجه البخاري  ح ( 5225).

([21])  أخرجه الترمذي ح (1359).

 ([22])فتح الباري (9/325)، والحديث أخرجه أبو يعلى في مسنده ح (4670).

([23])  أخرجه الترمذي ح (2502)، وأبو داود ح (4875)، واللفظ له.

([24])  نقله عنه المناوي في فيض القدير (5/525).

([25])  أخرجه أبو يعلى ح (4476).

([26])  أخرجه مسلم ح (1827).

([27])  أخرجه النسائي ح (2037)، و أحمد ح (25327).

([28])  أخرجه مسلم ح (2425).

([29])  أخرجه مسلم ح (2316).

([30])  أخرجه الطبراني في معجمه الأوسط ح (6361)، والبيهقي في دلائل النبوة ح (283).

([31])  أخرجه البخاري ح (5997)، ومسلم ح (2318).

([32])  أخرجه البخاري ح (5998)، ومسلم ح (2317).

([33])  أخرجه البخاري ح (2122)، ومسلم ح (2421).

 ([34])أخرجه البخاري ح (3736).

 ([35])أخرجه ابن حبان في صحيحه ح (5596).

 ([36])أخرجه الطبراني في معجمه الكبير ح (2595)، قال الهيثمي: "رواه الطبراني، وفيه مسروح أبو شهاب وهو ضعيف". مجمع الزوائد (9/182).

([37]) أخرجه أحمد ح (1739).

 ([38])أخرجه أبو داود ح (4235)، وابن ماجه ح (3644)، وأحمد ح (24359) .

([39])  أخرجه الترمذي ح (3828)، وأبو داود ح (5002).

([40]) أخرجه البخاري ح (6129)، وأحمد ح (12545).

([41]) شرح النووي على صحيح مسلم (14/129)، وانظر الآداب الشرعية (2/223).

([42])  أخرجه البخاري ح (77)، ومسلم ح (33).

([43])  شرح النووي على صحيح مسلم (5/162).

 ([44])أخرجه أبو داود ح (920)، وأصله في البخاري ح (516)، ومسلم ح (543).

([45])  أخرجه النسائي ح (1141)، وأحمد ح (15603).

([46])  أخرجه أبو داود ح (4663)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح ح (6233).

([47])  أخرجه الترمذي ح (2612)، وأحمد ح (23684).

([48])  أخرجه أبو داود ح (4992)، وأحمد ح (9526).

([49])  أخرجه أبو داود ح (4786).

([50]) أخرجه أحمد ح (5603)، والترمذي ح (1949)، وأبو داود ح (5164).

([51])  تحفة الأحوذي (5/180).

([52])  بعض النصوص التي نذكرها في مسألة الخدم إنما تتعلق بالحقيقة بحق العبيد والإماء ومعاملتهم، ولكن ورودها في هؤلاء يجعلها تنطبق على الخدم من باب أولى، فهم أحرار كاملو الحرية في حين أن النصوص تتحدث عن الرقيق.

([53])  أخرجه مسلم ح (1659).

([54])  شرح النووي على صحيح مسلم (6/59).

([55])  أخرجه مسلم ح (1657).

([56])  أخرجه مسلم ح (1658).

([57])  أخرجه أبو داود ح (5161)، وأحمد ح (20972).

([58])  أخرجه أحمد ح (25865)، والترمذي ح (3165).

([59])  أخرجه أحمد ح (32).

([60])  أخرجه ابن ماجه ح (3691)، وفيه ضعف.

([61])  أخرجه مسلم ح (1025).

([62])  أخرجه ابن ماجه ح (2697)، وأحمد ح (11759)، واللفظ له.

([63])  أخرجه البخاري ح (30)، ومسلم ح (1661).

([64])  أخرجه مسلم ح (1662).

 ([65])فتح الباري ح (5/175).

 ([66])أخرجه البخاري ح (2557)، ومسلم ح (1663).

 ([67])أخرجه أحمد في المسند ح (12631)، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب ح (545).

([68])  أخرجه البخاري ح (1356).

([69])  أخرجه البخاري ح (2227).

([70])  أخرجه ابن ماجه ح (2442)، وأحمد ح (8477)،

([71])  انظر: فتح الباري (4/418).

([72])  أخرجه البخاري ح (2447)، ومسلم ح (2578)، واللفظ له.

([73])  أخرجه مسلم ح (2581).

([74])  فيض القدير ، المناوي (1/644).

 ([75])أخرجه البزار في مسنده . انظر البحر الزخار  ح (2154).

 ([76])أخرجه الطبراني في معجمه الكبير ح (15119)، وعبد الرزاق في مصنفه ح (18043).

 ([77])أخرجه أبو يعلى في مسنده ح (6675).

 ([78])أخرجه ابن إسحاق في السيرة. سيرة ابن هشام (2/266)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة ح (2835).

([79]) أخرجه البيهقي في السنن (7/102).

([80]) أخرجــــــه الحاكم في مستــدركه (2/37)، والبيهقي في السنن (6/52).

([81]) أخرجه البخاري ح (2306)، ومسلم ح (1601)، واللفظ له.

 ([82])أخــرجــــه أبــــو داود ح (4534)، وابــن مــاجــــه ح (2638)، وصححـــه الألباني في صحيح أبي داود ح (3801).

 ([83])أخرجـــه أبــو داود ح (4537)، وأحمـــد ح (288)، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود ح (980).

([84])  ذكره البيهقي في السنن الكبرى (8/50).

([85])  أخرجه البخاري ح (2429).

([86])  أخرجه أبو داود ح (1949).

 ([87])انظر: بحر الفوائد (معاني الأخيار) للكلاباذي ، ص (372).

([88]) أخرجه أبو داود ح (4777)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود ح (3997).

([89])  تحفة الأحوذي (6/140).

([90])  أخرجه أحمد ح (3008).

([91])  شرح ابن بطال (9/296).

([92])  الجامع لأحكام القرآن (4/207-208).

([93])  أخرجه النسائي ح (4784)، و أحمد في مسنده ح (13232).

([94])  أخرجه البخاري ح (4566)، ومسلم  ح (1798).

([95])  أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (9/118).

([96])  الجامع لأحكام القرآن (7/344).

([97])  أخرجه البخاري ح (2617)، ومسلم ح (2190).

 ([98])أخرجه أحمد في المسند ح (14512)، وأصل القصة في الصحيحين رواها البخاري ح (4137)، ومسلم ح (843).

 ([99])فتح الباري (7/427).

([100])  أخرجه البخاري ح (2125).

([101])  شرح ابن بطال (6/254).

([102])  الجامع لأحكام القرآن (16/ 35 ـــ 36).

([103])  أخرجه مسلم ح (2588).

([104])  أخرجه البخاري ح (4642).

([105])  أخرجه مسلم ح (2558).

([106])  ذكره البخاري معلقاً في صدر كتاب تفسير القرآن.

([107])  أخرجه البخاري ح (2661)، ومسلم ح (2770).

([108])  أخرجه مسلم ح (2328).

([109])  شرح النووي على صحيح مسلم (15/84).

([110])  أخرجه البخاري ح (4156) من حديث كعب بن مالك.

 ([111])  أخرجه مسلم ح (2310).

([112])  أخرجه أحمد ح (21708).

([113])  أخرجه مسلم ح (2310 )، وأحمد ح (1609، 12622) .

([114])  أخرجه البخاري ح (6128) ونحوه في مسلم ح (284)، ودعاؤه بالرحمة مروي في السنن، أخرجه الترمذي ح (147)، وأبو داود ح (380)، وأحمد ح (7214).

([115]) أخرجه مسلم ح (285).

 ([116])شرح النووي على صحيح مسلم (3/191).

([117])  التشميت هو قول القائل لمن عطس: (يرحمك لله)، وهو أدب نبوي رقيق، لكن محله ليس الصلاة .

 ([118]) أخرجه مسلم ح (537)، والنسائي ح ( 1218) ، وأبو داود ح (930).

 ([119])أخرجه أبو داود ح (4788).

 ([120])أخرجه أبو داود ح (4789)، وأحمد ح (12217)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع ح (4512).

([121])أخرجه مسلم ح (1401).

([122])أخرجه مسلم ح (1104).

([123])أخرجه البخاري ح (750).

([124])  أخرجه البخاري ح (456)، ومسلم ح (1504).

([125])  أخرجه البخاري ح (6115) ومسلم ح (2610).

([126]) أخرجه أحمد في مسنده ح (11120) وحسن الهيثمي إسناده في مجمع الزوائد  (2/25)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة ح (2628).

([127]) أخرجه البخاري ح (6115) ومسلم ح (2610).

([128])  فتح الباري (10/453)، ومثله قول أبي عبيد : "وهذه كلمة جارية على ألسنة العرب يقولونها ولا يريدون وقوع الأمر، ألا تراهم يقولون : لا أَرْضَ لك ولا أُمَّ لك ، ويعلمون أن له أرضاً وأماً". مجمع الأمثال، أبو الفضل النيسابوري (1/133).

([129])  المزهر في علوم اللغة وأنواعها ، السيوطي (2/233).

([130])  أخرجه البخاري ح (4418)، ومسلم ح (2769).

 ([131])أخرجه البخاري ح (6401)، ومسلم ح (2165)، ورده ﷺ عليهم هو قوله: «وعليكم».

([132])  أخرجه البخاري ح (3405)، ومسلم ح (1062).

([133])  أخرجه البخاري ح (3778)، ومسلم ح (1059)، وأحمد في المسند ح (11322)، واللفظ له.

([134])  أخرجه البخاري ح (1897)، ومسلم ح (1027).

([135])  شرح ابن بطال (9/255).

([136])  أخرجه البخاري  ح (3683)، ومسلم ح (2397).

([137])  فتح الباري، ابن حجر (10/479).

([138])  أخرجه مسلم ح (2642).

([139])  شرح النووي على صحيح مسلم (16/189).

([140]) أخرجه البخاري في الأدب المفرد ح (761)، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد ح (589).

([141])  أخرجه أبو نعيم في الحلية عن واحد من السلف لم يسمه (6/224).

([142]) أخرجه البخاري  ح (2663)، ومسلم ح (3001).

([143])  فتح الباري (10/477).

([144])  أخرجه مسلم ح (3002).

([145])  المجموع، النووي (4/651).

 ([146])أخرجه أحمد ح (16395)، و ابن ماجه ح (3733)، وحسن الألباني إسناده في صحيح ابن ماجه ح (3017).

 ([147])فيض القدير، المناوي (3/167).

 ([148])أخرجه أحمد ح (12141).

([149])  أخرجه أحمد ح (15872).

([150])  أخرجه البخاري ح (4001).

([151])  فتح الباري، ابن حجر  (9/203).

([152])  أخرجه البخاري ح (3445).

([153])  شرح ابن بطال (9/254).

([154])  أخرجه البخاري ح (1046)، ومسلم ح (901).

([155])  أخرجه الترمذي ح (2414).

([156])  أخرجه ابن ابي شيبة ح (7/267).

([157])  نقله عنه ابن حجر في فتح الباري (10/478).

([158])  أخرجه البخاري  ح (6061)، ومسلم ح (3000).

([159])  فتح الباري، ابن حجر (10/477).

([160])  إحياء علوم الدين (3/160).

 ([161])أخرجه الترمذي ح (2305)، وابن ماجه ح (4193)، وأحمد ح (7748).

 ([162])أخرجه مسلم ح (670).

([163]) أخرجه الطبراني في الأوسط ح (3216)، قال الهيثمي: إسناده حسن، مجمع الزوائد (8/303).

 ([164])أخرجه الترمذي ح (2315)، وأبو داود ح (4990)، الدارمي ح (2702)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي ح (2315).

 ([165])أخرجه أحمد ح (10903).

 ([166])أخرجه أبو داود ح (4800).

 ([167])أخرجه الترمذي ح (1990)، وأحمد ح (8366).

([168])  أخرجه أحمد في مسنده ح (21986)، ونحوه أبو داود ح (5004).

([169])  فيض القدير، المناوي (6/579).

([170])  أخرجه أحمد في مسنده ح (17261) و أبو داود ح (2194).

([171]) أخرجه مسلم ح (2616).

 ([172])أخرجه البخاري ح (7072)، ومسلم ح (2617).

 ([173])أخرجه الترمذي ح (1184)، وأبو داود ح (2194)، وابن ماجه ح (2039).

([174])  أخرجه الطبري في تفسيره (14/333).

([175])  نقلاً عن الجامع لحكام القرآن (8/197).

([176])  الصارم المسلول (1/526).

([177])  شرح النووي على صحيح مسلم (12/164).

([178])  جامع البيان (9/320).

 ([179])أخرجه أحمد ح (922)، والبخاري في الأدب المفرد ح (237)، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد ح (105).

 ([180])فيض القدير (3/18)، والحديث أخرجه البخاري في الأدب المفرد ح (785)، والطبراني في الأوسط ح (413)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع  ح (4673).

([181])  الأذكار ، ص (327).

([182])  أخرجه أحمد ح (16155)، وابن ماجه ح (3443).

([183])  أخرجه أبو داود ح (4998)، والترمذي ح (1991).

 ([184])أخرجه أبو داود ح (5000) وأحمد ح (22846)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه ح (4042).

([185]) أخرجه الطبراني في الأوسط ح (5545)، وهناد بن السري في الزهد ح (24)، والترمذي في الشمائل ح (238)، وحسنه الألباني في تحقيقه لشمائل الترمذي ح (205).

([186])  أخرجه أحمد ح (12187).

([187])  أخرجه النسائي ح (3144)، وأحمد ح (17369)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ح (1287).

 ([188])أخرجه الطبراني في معجمه الكبير ح (4083)، قال الهيثمي: أخرجه الطبراني من طريقين، ورجال أحدهما رجال الصحيح غير الجراح بن مخلد، وهو ثقة. مجمع الزوائد (9/401).

 ([189])تأويل مختلف الحديث، ص (294).

 ([190])أخرجه البخاري في الأدب المفرد ح (266)، وصححه الألباني في صحيح الأدب ح (41)، المقصود بالبطيخ ذو القشرة الصفراء اللينة، فالبدح رميك بكل شيء فيه رخاوة . انظر فضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد للجيلاني (1/366).

([191]) أخرجه الحاكم في مستدركه (1/62)، والبيهقي في الشُعب (6/517)، وقال البخاري في صحيحه: "باب: حسن العهد من الإيمان".

([192]) فيض القدير (2/446).

([193]) أخرجه البخاري ح (3816)، ومسلم ح (2435).

([194]) أخرجه البخاري ح (3816) و (3818)، ومسلم ح (2435).

([195]) شرح النووي على صحيح مسلم (15/202).

([196]) شرح ابن بطال (9/216).

([197]) أخرجه البخاري ح (3821)، ومسلم ح (2437).

([198]) أخرجه أحمد ح (24343)، والطبراني في معجمه الكبير ح (17557).

([199]) أخرجه مسلم ح (2435).

([200]) أخرجه الحاكم في مستدركه (1/62)، والبيهقي في الشُعب (6/517).

([201]) أخرجه الطبراني في معجمه الكبير ح (18555).

([202]) أخرجه البخاري ح (1052)، ومسلم ح (80)، واللفظ للبخاري.

([203]) المنتقى شرح الموطأ، الباجي (1/454).

([204]) أخرجه البخاري ح (3983)، ومسلم ح (2494)

([205]) شرح ابن بطال (5/162).

([206]) أخرجه البخاري ح (4141)، ومسلم ح (2770).

([207]) أخرجه مسلم ح (2487)، ونحوه في البخاري ح (4146).

([208]) أخرجه البخاري ح (4141).

([209]) أخرجه أبو داود ح (4375)، وأحمد ح (24946).

([210]) أخرجه البخاري ح (4024).

([211]) أخرجه مسلم ح (934).

([212]) أخرجه أبو داود ح (5116)، و أحمد في مسنده (8519).

([213]) أخرجه أحمد في مسنده ح (2734).

([214]) عون المعبود (14/17).

([215]) أخرجه مسلم ح (2865).

([216]) أخرجه الترمذي ح (2752).

([217]) أخرجه البخاري ح (2896).

([218]) أخرجه أحمد في مسنده ح (11984).

([219]) تحفة الأحوذي (10/269).

([220]) أخرجه أحمد في مسنده ح (20674).

([221]) أخرجه البخاري ح (5027).

([222]) أخرجه الترمذي ح (2263).

([223]) أخرجه الترمذي ح (3795).

([224]) أخرجه أحمد ح (9720).

([225]) أخرجه أحمد ح (23411).

([226]) أخرجه البخاري ح (3353).

([227]) شرح النووي على صحيح مسلم (15/135).

([228]) أخرجه البخاري ح (6494).

([229]) أخرجه الترمذي ح (2330).

([230]) أخرجه أحمد ح (26888).

([231]) أخرجه البخاري ح (5090)، ومسلم ح (1466).

([232]) فتح الباري (9/135)، الحديث رواه ابن ماجه ح (1859).

 ([233])لم يرد في هذه الرواية اسم الرجل، لكن جاء رواية أخرى أنه عيينة بن حصن أو الأقرع بن حابس.

([234]) أخرجه البخاري ح (5091).

([235]) انظر: عمدة القاري (29/225).

([236]) فتح الباري (11/278).

([237]) أخرجه مسلم ح (2564).

([238]) أخرجه البخاري ح (1343).

([239]) أخرجه البخاري ح (5027).

([240]) أخرجه الترمذي ح (2876).

([241]) أخرجه مسلم ح (2504).

([242]) شرح النووي على صحيح مسلم (16/66).

([243]) أخرجه مسلم ح (2979).

([244]) أخرجه الترمذي ح (2352).

([245]) تحفة الأحوذي (7/16).

([246]) أخرجه مسلم ح (2622).

([247]) أخرجه أحمد ح (22947).

([248]) شرح النووي على صحيح مسلم (16/175).

([249]) أخرجه البخاري ح (7563).

([250]) انظره في صحيح البخاري ح (7175).

([251]) أخرجه البخاري ح (3754).

([252]) أخرجه ابن سعد في الطبقات (3/226).

([253]) أخرجه الترمذي ح (3813).

 ([254])أخرجه مسلم ح (732).

([255]) أخرجه البخاري ح (4)، ومسلم ح (160).

([256]) أخرجه ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج، وحسّن الألباني إسناده في السلسلة الصحيحة ح (906).

 ([257])أخرجه مسلم ح (2326).

 ([258])أخرجه النسائي ح (1414)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح ح (5833).

 ([259])أخرجه البخاري ح (2442)، ومسلم ح (2580).

 ([260])أخرجه الطبراني في معجمه الكبير ح (8014)، وحسّن الهيثمي إسناده في مجمع الزوائد (3/115).

 ([261])أخرجه ابن ماجه ح (237)، وحسنه الألباني بطرقه في السلسلة الصحيحة ح (1322).

([262]) أخرجه البخاري ح (2471)، ومسلم ح (1914).

([263])  أخرجه مسلم ح (1914).

([264])  أخرجه البخاري ح (2466)، ومسلم ح (2244).

([265])  أخرجه البخاري ح (2077)، ومسلم ح (1560).

([266])  شرح النووي على صحيح مسلم (10/224).

([267])  أخرجه البخاري ح (2891)، ومسلم ح (1009).

([268])  أخرجه البخاري ح (1445)، ومسلم ح (1008).

([269])  أخرجه الترمذي ح (1970).

([270])  تفسير القرآن العظيم (4/584).

([271])  أخرجه مسلم ح (1552).

([272])  أخرجه أبو داود ح (2549).

([273])  فتح القدير (5/712).

  ([274])أخرجه مسلم ح (2569).

 ([275])شرح النووي على صحيح مسلم (16/126).

 ([276])أخرجه الترمذي ح (2316)، وأبو يعلى ح (3908)، واللفظ له.

([277])  أخرجه البخاري ح (2369).

([278])  شرح ابن بطال (8/279).

([279])  أخرجه البخاري ح (2463)، ومسلم ح (1609).

([280])  المنتقى شرح الموطأ (4/42).

([281])  أخرجه البخاري ح (1417)، و مسلم ح (1016).

([282])  أخرجه أحمد ح (20110).

([283])  أخرجه البخاري ح (2566)، ومسلم ح (1030).

([284])  أخرجه البخاري ح (2568).

([285])  فتح الباري (9/246).

([286])  أخرجه البخاري ح (1421)، ومسلم ح (1022).

([287])  شرح ابن بطال (3/423).

([288])  أخرجه الحاكم (1/44)، وابن ماجه ح (3989) .

([289])  أخرجه البخاري ح (660)، ومسلم ح (1031).

([290])  أخرجه البخاري ح (5283).

([291])  أخرجه البخاري ح (1432)، ومسلم ح (2627).

([292])  أخرجه النسائي ح (2557)، وأبو داود ح (5132).

([293])  شرح ابن بطال (3/434)، والحديث أخرجه مسلم ح (2669).

([294])  فتح القدير (1/743).

([295])  أخرجه البخاري ح (3475)، ومسلم ح (1688).

([296])  أخرجه أبو داود ح (3541).

([297])  أخرجه أحمد ح (1888).

([298])  أخرجه أحمد ح (7997).

 ([299])أخرجه أبو داود ح (4512).

 ([300])الاستذكار لابن عبد البر (6/70).

([301]) أخرجه البخاري ح (2568).

([302]) شرح ابن بطال (7/88).

([303]) أخرجه البخاري ح (2566)، ومسلم ح (1030).

([304]) أخرجه الترمذي  ح (2130).

([305]) شرح ابن بطال (7/85).

([306]) أخرجه أحمد ح (18190).

([307]) أخرجه البخاري ح (2592)، ومسلم ح (999).

([308]) شرح ابن بطال (7/111).

([309]) أخرجه البخاري ح (2631).

([310]) أخرجه البخاري ح (2629)، ومسلم ح (1020).

([311])  فتح الباري، ابن حجر (5/243).

([312]) أخرجه البخاري ح (2341)، ومسلم ح (1536).

([313]) مرقاة المفاتيح (9/433).

([314]) أخرجه البخاري ح (2634).

([315]) أخرجه الترمذي ح (1984)، وأحمد ح (1340).

([316]) أخرجه الترمذي ح (2485)، ابن ماجه ح (1234)، وأحمد في المسند ح (23272)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه ح (1097).

([317]) أخرجه أحمد ح (18942)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ح (551).

([318]) أخرجه أحمد ح (17385)، قال الهيثمي: "أخرجه أحمد، وفي إسناده رشدين وهو ضعيف ". مجمع الزوائد (1/68).

([319]) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح ح (3384).

([320]) أخرجه البخاري ح (12)، ومسلم ح (39).

([321]) شرح ابن بطال (1/63).

([322]) أخرجه أحمد ح (23411)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ح (44).

([323]) أخرجه البخاري ح (2545).

([324]) أخرجه أحمد ح (7891).

([325]) أخرجه مالك في الموطأ ح (1685).

([326]) الجامع لأحكام القرآن (13/199).

([327]) أخرجه الترمذي ح (1576)، وأحمد ح (749).

([328]) أخرجه البخاري ح (1482).

([329]) انظر البخاري ح (1482)، وأحمد ح (749).

([330]) المغني (9/262) وانظر: كتاب الأموال، ابن زنجويه (2/590).

([331]) أخرجه أبو داود ح (4034).

([332]) أخرجه أبو داود ح (4035).

([333]) أخرجه ابن زنجويه في  كتاب الأموال (2/589)

([334]) أخرجه البخاري ح (886)، ومسلم ح (2086).

([335]) شرح النووي على صحيح مسلم  (14/39).  

([336]) أخرجه أحمد ح (15679).

([337]) أخرجه البخاري ح (6015)، ومسلم ح (2624).

([338]) أخرجه أبو داود ح (3057).

([339]) شرح النووي على صحيح مسلم (12/114).

([340]) أخرجه البخاري ح (2578، 2650)، ومسلم ح (1623).

([341]) أخرجه النسائي ح (2687)، وأبو داود ح (3544)، وأحمد ح (17954).

([342]) أخرجه مالك في الموطأ (1438)، والبيهقي في السنن الكبرى (6/170).

([343]) أخرجه مالك في الموطأ ح (1474).

([344]) أخرجه أحمد ح (23090)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير ح (12977).

([345]) أخرجه الطبراني ، وضعفه الحافظ العراقي . فيض القدير (6/462).

([346]) أخرجه البخاري ح (2597)، ومسلم ح (1832).

([347])  فتح الباري (13/167).

([348]) أخرجه الترمذي ح (1335).

([349]) أخرجه أبو داود ح (3541).

([350]) عون المعبود (9/331).

([351]) فتح الباري (5/221).

([352]) أخرجه البخاري ح (2585).

([353]) شرح ابن بطال (7/95).

([354]) أخرجه أحمد ح (2682).

([355]) تحفة الأحوذي (6/73).

([356]) أخرجه أحمد ح (5342).

([357]) أخرجه أحمد ح (13839).

([358])  أخرجه البخاري ح (2442)، ومسلم ح (2580).

([359])  أخرجه ابن ماجه ح (2430).

([360])  أخرجه البخاري ح (2369).

([361])  أخرجه أبو داود ح (2901).

([362])  أخرجه البخاري ح (2387).

([363])  أخرجه أحمد ح (24158).

([364]) شرح ابن بطال (6/513).

 ([365])أخرجه النسائي ح (5487)، وأحمد ح (6581)، ونحوه عند أبي داود ح (1555) .

([366])  أخرجه أبو داود ح (1330).

([367])  أخرجه البخاري ح (2291).

([368])  أخرجه أحمد ح (14127)، والبيهقي في السنن  (6/75).

([369])  أخرجه مسلم ح (1885).

([370])  أخرجه مسلم ح (1886).

([371])  أخرجه النسائي ح (4684)، وأحمد ح (21987).

([372])  أخرجه أحمد ح (25211).

([373])  أخرجه البخاري ح (2297)، ومسلم ح (1619).

([374])  شرح النووي على صحيح مسلم (11/61).

([375])  أخرجه البخاري ح (2738)، ومسلم ح (1627).

([376])  انظر فتح الباري  (5/359).

([377])  أخرجه البخاري ح (3074).

([378])  أخرجه مسلم ح (114).

([379]) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى عن ابن مسعود وأبي بن كعب وعبدالله بن سلام وابن عباس موقوفاً (5/350)، والمرفوع إلى النبي  ﷺ لا يصح. انظر صحيح وضعيف الجامع الصغير ح (9728).

([380])  أخرجه البخاري ح (3814).

([381])  حاشية ابن القيم على سنن أبي داود (9/297).

([382])  أخرجه الحاكم في مستدركه (2/37) والبيهقي في السنن (6/52).

([383])  أخرجه البخاري ح (2079).

([384])  أخرجه البخاري ح (2077)، ومسلم ح (1560).

([385])  أخرجه مسلم ح (1563).

([386])  أخرجه الترمذي  ح (136)، وأحمد ح (8494).

([387])  أخرجه أحمد ح (22537).

([388])  أخرجه النسائي ح (4689)، وأبو داود ح (3628)، وابن ماجه ح (2427)، وأحمد ح (18962).

([389])  شرح النووي على صحيح مسلم (10/227).

([390])  أخرجه البخاري ح (2400)، ومسلم ح (1564).

([391])  أخرجه ابن ماجه ح (2426).

([392])  أخرجه البخاري في باب الكفالة في القروض.

([393])  أخرجه البخاري ح (2394)، ومسلم ح (715).

([394])  أخرجه البخاري ح (2390)، ومسلم ح (1601).

([395])  فتح الباري (5/57).

([396])  أخرجه النسائي ح (4683).

([397])  أخرجه النسائي ح (4683)، وابن ماجه ح (2424).

([398])  فيض القدير (2/573).

([399])  أخرجه الترمذي ح (2035).

([400])   أخرجه مسلم ح (2813).

([401])   أخرجه مسلم ح (2812).

([402])   نقله عنه المباركفوري في تحفة الأحوذي (6/57).

([403])   أخرجه مسلم ح (2565).

([404])   المنتقى شرح الموطأ (4/301).

([405])   أخرجه ابن ماجه ح (971).

([406]) أخرجه ابن ماجه ح (2932).

([407]) المنتقى شرح الموطأ (4/299).

([408]) أخرجه مسلم ح (2563).

([409]) فتح الباري (10/481).

([410]) انظر البيهقي في شعب الإيمان (5/294، 316).

([411]) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (2/63)، وضعفه الألباني في صحيح وضعيف الجامع الصغير ح (8437).

([412]) أخرجه البخاري (2035).

([413]) فتح الباري (4/280).

([414]) شرح ابن بطال (9/226)، والأثر أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه ح (3353)، والبيهقي في سننه (3/59).

([415]) أخرجه أبو داود في كتابه "الزهد" ح (83).

([416]) السلسلة الضعيفة (1/288).

([417])   أخرجه الترمذي ح (2509).

([418])   عون المعبود (13/178).

([419])   أخرجه البخاري ح (2639).

([420])   فتح الباري (2/169).

([421])   شرح ابن بطال (8/84).

([422])   أخرجه البخاري ح (5283).

([423])   أخرجه الترمذي ح (1938).

([424])   أخرجه أحمد ح (26731).

([425])   فيض القدير (5/377).

 ([426])  أخرجه أبو داود ح (3462)، وأحمد ح (27573).