×
رسالةٌ تتضمّن «مباحث في أصول الدّين» حسب المنهج الجديد الّذي قرّر للسّنة الثانية المتوسّطة في المعاهد العلميّة، ودار التّوحيد، والجامعة الإسلاميّة، ويتضمّن الموضوعات التالية: أ- الدّين الإسلاميّ ضرورةٌ اجتماعيٌّة لرقيّ الحياة الإنسانيّة. ب- قصور الأديان والمذاهب الأخرى عن إصلاح البشر، وتحقيق سعادتهم. ج- تكامل الإسلام، ووحدة مبادئه في إصلاح شعب الحياة الإنسانيّة.

 مباحث في أصول الدّين

بقلم  فضيلة الشيخ العلاّمة

محمد بن صالح العثيمين

غفر الله له ولوالديه وللمسلمين

 بسم الله الرحمن الرحيم

 مقدمة

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلّا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسانٍ، وسلّم تسليمًا.

أمّا بعد: فهذه رسالةٌ تتضمّن «مباحث في أصول الدّين» حسب المنهج الجديد الّذي قرّر للسّنة الثانية المتوسّطة في المعاهد العلميّة، ودار التّوحيد، والجامعة الإسلاميّة، وغيرها، أرجو الله سبحانه أن ينفع به، وأن يجعل العمل خالصًا لوجهه، إنّه جوادٌ كريمٌ.

المنهج:

يتضمّن المنهج الجديد الموضوعات التالية:

أ- الدّين الإسلاميّ ضرورةٌ اجتماعيٌّة لرقيّ الحياة الإنسانيّة.

ب- قصور الأديان والمذاهب الأخرى عن إصلاح البشر، وتحقيق سعادتهم.

ج- تكامل الإسلام، ووحدة مبادئه في إصلاح شعب الحياة الإنسانيّة:

1- في العقيدة.              2- في العبادة.

3- في الاقتصاد.            4- في الاجتماع.

5- في سياسة الدّولة.       6- في اعتزاز المسلم بدينه.

محمد بن صالح العثيمين

 الدّين الإسلاميّ ضرورةٌ اجتماعيّةٌ

 لرقيّ الحياة الإنسانيّة

المجتمع الإنسانيّ مختلفٌ في أفكاره ومقاصده، متباينٌ في بيئاته وأعماله، فهو في ضرورةٍ إلى هادٍ يوجّهه، ونظامٍ يجمعه، وحاكمٍ يحميه، وكان الرّسل الكرام -عليهم الصلاة والسلام- يتولّون ذلك بوحي من الله -سبحانه-، يهدون النّاس إلى طريق الخير والرّشاد، ويجمعونهم على شريعة الله، ويحكمون بينهم بالحقّ، فتستقيم أمورهم بحسب استجابتهم لهؤلاء الرّسل، وقرب عصرهم من الرّسالات الإلهيّة.

وكانت الرّسالات قبل رسالة محمّدٍ صلى الله عليه وسلم ذات طابعٍ خاصٍّ ملائمٍ للأمّة التي بعث فيها الرّسول؛ حيث كان النّبيّ يبعث إلى قومه خاصّةً، قال الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ } [نوح: 1]، {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ } [هود: 50]، وهكذا تمضي الآيات في قصص الأنبياء إلى آخر نبيٍّ قبل محمّدٍ صلى الله عليه وسلم: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6]. وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «كان النّبيّ يبعث إلى قومه خاصّةً، وبعثت إلى النّاس عامّةً».

بقي النّاس بعد رسالة عيسى -عليه الصلاة والسلام- ما بين جاهليٍّ منهمكٍ في جاهليّته، وصاحب كتابٍ اعتدى على كتابه بالتحريفات والمخالفات، وليس للنّاس دينٌ يجمعهم، ولا نظامٌ يسير عليه حكّامهم؛ عقائد فاسدةٌ، وأفكارٌ حائرةٌ، وإراداتٌ منحرفةٌ، وأعمالٌ سيّئةٌ، وأحكامٌ جائرةٌ، إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضّعيف أقاموا عليه الحدّ.

فكانوا في ضرورةٍ ماسّةٍ إلى دين يسمون به إلى درجات الكمال في عقائدهم وأفكارهم وإراداتهم وأعمالهم وأحكامهم، وكانوا يترقّبون –ولا سيّما أهل الكتاب الّذين بشرت أنبياؤهم بمحمّدٍ صلى الله عليه وسلم- هذا الدّين الّذي ينير لهم الطريق، ويبيّن لهم الحقّ في أوضح منهاجٍ.

فكانت رسالة محمّدٍ صلى الله عليه وسلم تحمل هذا الدّين المرتقب، دين الإسلام الّذي رضيه الله لكافّة البشريّة، وبه أتم عليهم النّعمة، وفتح لهم باب العلم والمعرفة والصّلاح والإصلاح؛ فدين الإسلام إذًا ضرورةٌ اجتماعيّةٌ لرقيّ الحياة الإنسانيّة للأدلّة الآتية:

أ- قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِين } [آل عمران: 164]، فالتّزكية والعلم والحكمة أساسٌ للرّقيّ والنّهوض بالأمم، فلا رقيّ بدون علمٍ، ولا أخلاق بدون تزكيةٍ، ولا نظام بدون حكمةٍ.

ب- واقع الدّين الإسلاميّ ونظامه؛ حيث جاء بحماية الدّين والعقل والنّفس والمال والعرض، ثمّ بتهذيب هذه الأمور وتقويمها بما يكفل سعادة الدّنيا والآخرة.

ج- الآثار العظيمة لهذا الدّين الّتي لم يشهد التّاريخ لها مثيلًا؛ حيث كانت الإنسانيّة قبل الإسلام أبعد ما يكون عن التّقدّم والسّموّ في دينها وخلقها وسلوكها وحكمها وسياستها، وحين تمسّكت بالإسلام؛ عاد هذا التخلّف تقدّمًا، وهذا الانحطاط رقيًّا، كما شهد بذلك تاريخ صدر الإسلام.

 قصور الأديان والمذاهب الأخرى عن إصلاح البشر

 وتحقيق سعادتهم

الأديان السّماويّة الّتي كتب لها البقاء إلى الآن ثلاثةٌ: اليهوديّة، والمسيحيّة، والإسلام.

وكلٌّ من الدّيانتين -اليّهوديّة والمسيحيّة- قاصرةٌ عن إصلاح البشر، وتحقيق سعادتهم؛ للأسباب الآتية:

أ- أنّهما ديانتان خاصّتان بقوم موسى وعيسى؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «كان النّبيّ يبعث إلى قومه خاصّةً، وبعثت إلى النّاس عامّةً»، متّفقٌ عليه.

ب- أنّ فيهما تضييقًا وشدةً؛ ومن حكمة الله أنّ الشرائع الخاصّة تكون ملائمةً لأصحابها، بحيث لا تصلح شريعةً لغيرهم؛ لأنّ الحكمة ألّا يشرع لأمةٍ إلّا ما يناسبها؛ حيث وضع الله على بني إسرائيل من الآصار والأغلال ما يناسب طبيعتهم وحالهم، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157].

فمن ذلك:

1-        أنّ الصّلاة لا تقام إلّا في الأماكن المعدّة لها خاصّةً؛ كالبيع والكنائس.

2-        أنّ من عدم الماء لا يتطهّر بالتّراب (بالتّيمّم)، بل تبقى الصلاة في ذمّته حتّى يجد الماء فيقضيها.

3-        أنّ المغانم الّتي ظفر بها المجاهدون لا تحل لهم.

4-        قال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: «أعطيت خمسًا لم يعطهنّ أحدٌ قبلي: نصرت بالرّعب مسيرة شهرٍ، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيّمـا رجلٍ من أمّتي أدركته الصّلاة فليصلّ، وأحلّت لي المغانم ولم تحلّ لأحدٍ قبلـي...» الحديث. متّفقٌ عليه.

5-        وفي دين اليهود حرّم عليهم بعض الطيّبات بسبب ظلمهم وعدوانهم؛ قال الله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } [النساء: 160].

ج- أنّه حصل في هاتين الشّريعتين: اليهوديّة والمسيحيّة من التحريف والتّبديل ولبس الحقّ بالباطل ما يمنع إصلاح البشر بهما لو قدّر بقاؤهما دينًا، فكيف وقد نسخ التديّن بهما بشريعة الإسلام.

وإذا لم يمكن إسعاد البشر بالدّيانتين: اليهوديّة والمسيحيّة مع أنّهما شريعتان سماويّتان؛ فما عداهما من التّشريعات البعيدة عن التشريع السّماويّ من باب أولى.

 تكامل الإسلام ووحدة مبادئه

 في إصلاح شعب الحياة الإنسانيّة

الإسلام دينٌ كاملٌ شاملٌ لإصلاح جميع شعب الحياة الإنسانيّة:

‌أ-              لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } [المائدة: 3].

‌ب-         ولأنّه شرع الله العليم بما يصلح خلقه، الحكيم بما يشرعه لهم.

‌ج-          ولأنّ تعاليمه شاهدةٌ بذلك؛ فالقرآن وهو دستور الإسلام لم يغفل شيئًا ممّا ينفع الناس، حتّى آداب جلوسهم، ودخول البيت، ونحوها. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا } [المجادلة: 11]، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور: 27].

والسّنّة النّبويّة -وهي المصدر الثّاني للتشريع الإسلاميّ- لم تغفل مثل هذه الأمور الدقيقة؛ فقد علّم النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمته كيف يأكلون ويشربون وينامون ويبولون ويتغوّطون، مع أنّ هذه الأمور بسيطةٌ بالنّسبة للصّلاة والصّيام والزّكاة والحجّ، وغير ذلك.

فالإسلام كاملٌ في العقيدة والعبادة والاقتصاد والاجتماع وسياسة الدّولة واعتزاز المسلم بدينه.

فهو كاملٌ في العقيدة؛ لأنّها عقيدةٌ راسخةٌ مبنيّةٌ على ما تقتضيه الفطرة والعقل السّليم.

فهي الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشرّه.

قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير} [البقرة: 285].

الإيمان بالله ربًّا عظيمًا، وإلهًا حقًّا، لا شريك له في ذلك، ولا في خصائص أسمائه وصفاته.

الإيمان بالله حاكمًا مشرّعًا، فالحكم من العليّ الكبير، فلا حبرٌ ولا راهبٌ ولا أميرٌ ولا سلطانٌ يستطيع تغيير حكمٍ من أحكام الله. الحلال ما أحلّه الله، والحرام ما حرّمه، والواجب ما أوجبه، لا معقب لحكمه، ولا تبديل لكلماته.

الإيمان بالمبدأ والمعاد، فالخلق من الله وإليه، ولن يكون مبدؤهم ولا مصيرهم سدًى، لا غاية له ولا مقصود من ورائه؛ بل لا بدّ من مصيرٍ ومرجعٍ، ولا بدّ من عملٍ لذلك المصير والمرجع، {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير } [البقرة: 285]، {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه  وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه } [الزلزلة: 7- 8].

وإنّ عقيدةً كهذه تصحب الإنسان قائمًا وقاعدًا وعلى جنبه لا بدّ أن توجّهه التوجيه السّليم في جميع شؤون الحياة، فيكون مستقيمًا على أمر الله -تعالى-.

والإسلام كاملٌ في العبادة؛ حيث شرّع للمسلمين ما به كمال التذلّل والتّعبّد، شرائع متنوعةٌ في كيفيّاتها وأوقاتها؛ ليتحقّق بذلك ما خلقوا له، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون } [الذاريات: 56].

فالصّلاة: عبادةٌ بدنيّةٌ محضةٌ إمّا مؤقّتةٌ؛ كالصّلوات الخمس والوتر، وإمّا غير مؤقّتةٍ؛ كالنّوافل المطلقة يتّصل الإنسان فيها بربّه على أكمل وجهٍ متطهّرًا مستترًا، مستقبل القبلة خاشعًا يتقرّب إليه بالقيام والرّكوع والسّجود والقعود، وما يقوله من قرآنٍ وذكر ودعاءٍ في هذه الأركان، فيخرج من الصلاة وقد امتلأ قلبه نورًا وإيمانًا.

والزّكاة: عبادةٌ ماليّة يبذل المسلم فيها قسطًا من ماله؛ تقرّبًا إلى ربّه، وتطهيرًا لنفسه من الذّنوب والبخل، وتزكيةً لماله، ونفعًا للإسلام والمسلمين.

والصّيام: عبادةٌ بدنيّةٌ، لكنّها من جنسٍ آخر، فيه كفٌّ للنّفس عن شهوات الأكل والشّرب والنّكاح؛ تقرّبًا إلى الله بترك ما يشتهيه، وتذكيرًا بنعمة الله بتيسير ماله وقت الفطر، وتذكّرًا لحال الفقراء المعدمين.

والحجّ: عبادةٌ بدنيّةٌ ماليةٌ، يفارق المسلم فيها وطنه وأهله إلى بيت الله تقرّبًا لربّه، وتعظيمًا لحرماته، واجتماعًا مع إخوانه المسلمين من جميع أقطار الأرض؛ {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: ٢٨].

والجهاد: عبادةٌ بدنيّةٌ ماليّةٌ يبذل المسلم فيها نفسه وماله تقرّبًا إلى الله تعالى دفاعًا عن دينه، وإعلاءً لكلمة الله، ورحمةً لعباد الله؛ علّهم يدخلون في دين الله، أو يبذلون الجزية ليكونوا في حمى الإسلام.

فهذه العبادات المنوّعة جمعت للعابدين أسمى أنواع العبوديّة مع ما فيها من تقوية الإيمان، وترسيخ العقيدة، وتهذيب النّفوس، وإصلاح المجتمع، ورفعة الدرجات في الدّنيا والآخرة.

والإسلام كاملٌ في الاقتصاد؛ حيث نظّم أحسن نظام في تحصيل المال وحفظه وتصريفه. فأباح تحصيل المال بطريق العقود، وبطريق العمل.

فمن أمثلة تحصيل المال بطريق العقود:

1- البيع؛ أحلّه الإسلام على وجهٍ لا ظلم فيه ولا ربا، قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } [البقرة: 275]؛ لأنّ النّاس محتاجون إلى تبادل الأموال بينهم.

2- المشاركات؛ أحلّها الإسلام إذا كانت مبنيّةً على العدل والمساواة بين الشّركاء في المغنم والمغرم، لما فيها من التّعاون والتساعد، وفي الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: «أنا ثالث الشّريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه» رواه أبو داود.

3- التبرّعات؛ أحلّها الإسلام لما فيها من جلب المودّة، ونفع الآخذ. قال الله تعالى: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا } [النساء: 4].

ومن أمثلة تحصيل المال بطريق العمل:

1- الحراثة؛ أباحها الإسلام لما فيها من تعمير الأرض، وتنمية القوت، ونفع العمّال. قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُور } [الملك: 15]، وقال صلى الله عليه وسلم: «ما أكل أحدٌ طعامًا قطّ خيرًا من أن يأكل من عمل يده وإنّ نبيّ الله داود عليه السّلام كان يأكل من عمل يده» رواه البخاريّ، وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلمٍ يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه طيرٌ أو إنسانٌ أو بهيمةٌ إلّا كان له به صدقةٌ» رواه البخاريّ ومسلمٌ.

2- الصيد والحشيش واستخراج الجواهر ونحوها من البحر؛ قال الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96]، وقال: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } [النحل: 14].

ونظّم الإسلام حفظ المال وصيانته بطرقٍ عديدةٍ؛ لأنّ المال قيامٌ للناس، تقوم به مصالح دينهم ودنياهم.

فمن أمثلة ذلك:

1- منع دفع الأموال للسّفهاء الّذين لا يحسنون التّصرّف في المال؛ قال الله تعالى: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً } [النساء: 5]؛ لأنّ دفعها لهم سببٌ لضياعها واللّعب فيها.

2- الأمر بالإشهاد على البيع؛ قال تعالى: {وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } [البقرة: 282]؛ لأنّ ترك الإشهاد يؤدّي إلى ضياع مال أحد المتبايعين عند إنكار صاحبه.

ونظّم الإسلام تصريف المال واعتنى به اعتناءً بالغًا. فنهى عن إضاعة المال، وهو صرفه في غير فائدةٍ، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله كره لكم ثلاثًا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السّؤال». رواه البخاريّ.

ونهى عن الإسراف في صرفه أو التّقتير، فقال تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا } [الإسراء: 29].

وجعل إنفاق المال على نوعين: واجب ومستحبٍّ.

فمن أمثلة الإنفاق الواجب:

1- الزّكاة؛ وهي جزءٌ معلومٌ من المال الزّكويّ، يدفع إلى مستحقّي الزّكاة، قال تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ } [البقرة: 43]، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمسٍ: شهادة أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّدًا رسول الله، وإقام الصّلاة، وإيتاء الزّكاة، والحجّ، وصوم رمضان» متّفق عليه. وسبقت الإشارة إلى حكمة الزّكاة.

2- الإنفاق على النّفس والزوجة والأقارب. قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ لنفسك عليك حقًّا»، وقال الله تعالى في نفقة الزوجة: {وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [البقرة: 233]، وقال في نفقات الأقارب: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا  إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا } [الإسراء: 26- 27].

والحكمـة في إيـجاب الإنفـاق: حفـظ النّفس، ومواسـاة هؤلاء المحتاجين.

3- الإنفاق الواجب لعارض، لدفع الضّرورة، كإطعام الجائع، وكسوة العاري، قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكّوا العاني». رواه البخاريّ.

والحكمة في وجوب الإنفاق هنا: إنقاذ المعصوم، ودفع ضرورته، والشّعور بالمسؤوليّة نحو إخوانه المضطرّين.

ومن أمثلة الإنفاق المستحبّ:

1- الصدقات غير الزّكاة على الفقراء؛ قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيم } [الحديد: 18]، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «من تصدّق بعدل تمرةٍ -أي: ما يعادلها- من كسبٍ طيّبٍ، ولا يقبل الله إلّا الطّيّب، وإنّ الله يتقبّلها بيمينه، ثمّ يربّيها لصاحبها، كما يربّي أحدكم فلوّه، حتّى تكون مثل الجبل» متّفقٌ عليه.

2- الإنفاق في المصالح العامّة؛ كبناء المساجد والمدارس وإصلاح الطّرق وغيرها، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقّاص -رضي الله عنه-: «إنّك لن تنفق نفقةً تبتغي بها وجه الله إلّا أجرت عليها، حتّى ما تجعل في فم امرأتك» متّفقٌ عليه.

والحكمة في هذا الإنفاق المستحبّ: التقرّب إلى الله، وتزكية النّفس والمال، وسدّ حاجات المسلمين.

والإسلام كاملٌ في الاجتماع؛ حيث نظّم المجتمع تنظيمًا كفيلًا بصلاح الأمّة؛ فنظم العلاقات الأسرية، والعلاقات العامّة.

فمن أمثلة تنظيم العلاقات الأسرية:

1- وجوب برّ الوالدين؛ بالإحسان إليهما بالقول والفعل والصّبر على مشقّة العناية بهما، قال الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا  وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا } [الإسراء: 23- 24].

وإلى جانب هذا تحريم عقوقهما؛ بمنع واجب برهما، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبّئكم بأكبر الكبائر» ثلاثًا، قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «الإشراك بالله، وعقوق الوالدين» وكان متّكئًا فجلس فقال: «ألا وقول الزّور، وشهادة الزّور» فما زال يكرّرها حتّى قالوا: ليته سكت. متّفقٌ عليه.

2- وجوب صلة الأرحام؛ وهم القرابة، قال الله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ } [الإسراء: 26]، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فليصل رحمه». متّفقٌ عليه.

وإلى جانب هذا تحريم قطيعة الرحم، قال الله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُم  أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُم } [محمد: 22- 23]، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «من قطعها -أي: الرحم- حرّم الله عليه الجنّة». رواه أحمد.

3- تنظيم العلاقات الزوجية؛ حيث رتّب الإسلام للنّكاح حدودًا في عقده، وفي حلّه، وفي حقوقٍ مبنية على الحكمة والإتقان وعدم الفوضى، وأوجب على كلٍّ من الزوجين من العشرة بالمعروف ما تستقيم به الحياة الزوجية السّعيدة، وبيّن كيف تحلّ المشكلات بينهما بالإصلاح تارةً، وبالفداء تارةً، وبالتّحكيم تارةً.

ومن أمثلة تنظيم العلاقات العامّة:

1- الاجتماع على العبادات يوميًّا وأسبوعيًّا وسنويًّا؛ لتتأكّد الروابط بين المجتمع بالألفة والمحبّة والتعاون، فالصلوات الخمس يجتمع عليها المسلمون يوميًّا، وصلاة الجمعة يجتمعون عليها أسبوعيًّا، وصلاة العيد يجتمعون عليها سنويًّا، والحجّ اجتماعٌ سنويٌّ عامٌّ لجميع المسلمين.

2- وجوب العدل؛ وهو إيصال الحقّ إلى مستحقّه بدون ميلٍ أو انحرافٍ، قال الله تعالى: {اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [المائدة: 8]، ومن العدل أن تعامل الناس بما تحبّ أن يعاملوك به، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه».

3- وجوب الصّدق والوفاء بالعهد؛ قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِين } [التوبة: 119]، وقال: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولا } [الإسراء: 34].

4- وجوب الوفاء بالعقود؛ قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «البيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما». متّفقٌ عليه.

5- الحثّ على كلّ ما يحصل به المودّة والألفة بين المسلمين؛ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا تدخلون الجنّة حتّى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتّى تحابّوا. أولا أدلّكم على شىءٍ إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السّلام بينكم». رواه مسلمٌ.

وإلى جانب ذلك حذّر من كلّ ما يضادّ هذه المطالب العالية والأخلاق الفاضلة.

فحذّر من الظّلم؛ قال الله تعالى: {وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِين } [آل عمران:57]، وقال في الحديث القدسيّ: «يا عبادي! إنّي حرّمت الظّلم على نفسي، وجعلته بينكم محرّمًا؛ فلا تظّالموا». رواه مسلمٌ.

ونهى عن الغدر؛ فقال تعالى: {وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً } [النحل: 91]، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إذا جمع الله الأوّلين والآخرين يوم القيامة يرفع لكلّ غادرٍ لواءٌ، فقيل: هذه غدرة فلان بن فلانٍ». رواه البخاريّ.

وحذّر من الكذب؛ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إيّاكم والكذب، فإنّ الكذب يهدى إلى الفجور، وإنّ الفجور يهدى إلى النّار، وما يزال الرّجل يكذب ويتحرّى الكذب حتّى يكتب عند الله كذّابًا». متّفقٌ عليه.

ونهى عن كلّ ما يوجب العداوة والتّفرّق؛ فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 11- 12]، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره. التقوى ها هنا -ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه». رواه مسلم.

وهذا التوجيه الاجتماعي النبيل كما يحصل به صلاح المجتمع في الدنيا؛ يحصل به كذلك صلاح الدين، وكثرة الثواب في الآخرة.

والإسلام كامل في السياسة؛ حيث نظم السياسة الداخلية والخارجية أكمل نظام، وأتمه بمصالح الخلق، قال ابن القيم رحمه الله: «ومن له ذوق في الشريعة واطلاع على كمالها وتضمنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد ومجيئها بغاية العدل الذي يسع الخلائق، وأنه لا عدل فوق عدلها، ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح؛ تبين له أن السياسة العادلة جزء من أجزائها، وفرع من فروعها، وأن من أحاط علما بمقاصدها ووضعها موضعها وحسن فهمه فيها لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتة» ا.ه.

فالسياسة الداخلية تقوم على أسس أربعة:

أ- العلاقة بين الحاكم والمحكوم.

ب- حفظ القيم الأخلاقية.

ج- حفظ الأمن.

د- الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

أ-فالعلاقة بين الحاكم والمحكوم لكل منهما فيها وظيفة:

فوظيفة الحاكم:

1- النصح في الحكم بحيث يختار أكمل الطرق وأقربها لحصول مصالح المحكومين في الدنيا والآخرة فلا ينفذ أمرا والمصلحة في منعه، ولا يمنع أمرا والمصلحة في تنفيذه، ولا يولي الأعمال إلا الأكفاء، ولا يولي شخصا على عمل وغيره أصلح له منه، قال الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } [النساء: 58]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من أمير يلى أمر المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة» رواه مسلم، وقال: «من استعمل رجلا من عصابة وفي تلك العصابة من هو أرضى لله منه فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين». رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد.

2- العدل بين الرعية في تنفيذ أحكام الله، بحيث لا يحابي أحدا في إقامة الحق والعدل، قال الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } [النساء: 58]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها». متفق عليه.

ووظيفة المحكوم:

1- النصح للحاكم وإرشاده بأقرب وسيلة يحصل بها المقصود، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم». رواه مسلم.

2- طاعته في غير معصية الله؛ لقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء: 59]، فإن أمر بمعصية الله فلا سمع ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة». متفق عليه.

3- الصبر على ظلمه وجوره؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر؛ فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتة جاهلية». متفق عليه.

وبهذه العلاقة بين الحاكم والمحكوم يسود النظام وتتوطد أركان الدولة ويتحقق قول النبي صلى الله عليه وسلم: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم». رواه مسلم.

ب- والقيم الأخلاقية:

والقيم الأخلاقية هي الدعامة القوية لبقاء الأمة وسموها ومجدها، ولن تقوم أمة بدون أخلاق، ولذلك حافظ الإسلام على هذه القيم محافظة بالغة ونماها بجميع وسائل التنمية فحث عليها النبي صلى الله عليه وسلم ورغب فيها وأخبر بأنه إنما بعث ليتمم مكارم الأخلاق.

وإلى جانب ذلك وضع الحواجز التي تردع الناس عن تحطيم الأخلاق أو تدميرها كما يظهر في الأمثلة الآتية:

1- عقوبة الزنا: فالزنا هدم للأخلاق، وهتك للأعراض، وضياع للأنساب، ومن ثم أوجب الإسلام عقوبة الزنا بالرجم بالحجارة حتى الموت إذا كان الزاني محصنا، وبالجلد مئة جلدة مع تغريبه عن البلد سنة إذا كان الزاني غير محصن، قال الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النور: 2]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «البكر بالبكر جلد مئة ونفى سنة» رواه مسلم، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «إن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف». متفق عليه.

2- عقوبة اللواط: فاللواط هو الفاحشة النكراء، والمصيبة الكبرى، وهو محق للرجولة، وفساد للمجتمع، وكسر للمعنويات، وإفساد للدين والدنيا؛ ولذلك كانت عقوبته الإعدام بكل حال يقتل الفاعل والمفعول به، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» رواه أهل السنن وصححه ابن حبان وغيره وهو على شرط البخاري، ونقل ابن القيم القول بإعدامهما عن جمهور الأمة، ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب «السياسة الشرعية» اتفاق الصحابة على قتل الاثنين، وأنهم لم يختلفوا فيهما، وإنما خلافهم في نوع قتلهما.

3- عقوبة الخمر: والخمر كل مسكر، ومن أجل ضرره في العقل والبدن والدين والمجتمع وكونه سببا للجرائم الفظيعة، رتب الإسلام عليه عقوبة رادعة ثابتة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين، فعن أنس ابن مالك -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى برجل شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين. قال: وفعله أبو بكر، فلما كان عمر استشار الناس فقال عبدالرحمن بن عوف: أخف الحدود ثمانين، فأمر به عمر. رواه مسلم.

وهذه العقوبات لها شروط لتنفيذها بحيث لا تنفذ إلا على من كان أهلا للعقوبة وهو البالغ العاقل، أما الصغير والمجنون فيستعمل في حقهما ما يكون به منع هذه الجرائم حسبما يليق.

ج- وحفظ الأمن:

وحفظ الأمن لما كان أساس الاستقرار الذي به يتفرغ الإنسان لأداء مهماته الدينية والدنيوية اعتنى الإسلام به في النفس والمال والعرض، ووضع لذلك الأسس الكفيلة به:

1- ففي النفس أثبت الإسلام القصاص في القتل فما دونه، فقال تعالى في القتل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [سورة البقرة:20] الآية [البقرة: 178]، وقال تعالى فيما دون القتل: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } [المائدة: 45].

وفي إثبات القصاص أكبر رادع عن الجناية قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون } [البقرة: 179]، وذلك أن الجاني إذا علم أنه سيقتص منه فإنه لن يقدم على الجناية؛ ولذا كثرت الجنايات في البلاد التي لا ينفذ فيها القصاص.

2- وفي المال أوجب الإسلام قطع يد السارق نكالا. قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيم } [المائدة: 38]، وهذه العقوبة رادع قوي عن ارتكاب السرقة.

3- وفي العرض أوجب الإسلام جلد من قذف محصنا أو محصنة ثمانين جلدة، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4].

وفي تنفيذ القصاص والحدود سبب قوي لأمن الناس على نفوسهم وأموالهم وأعراضهم.

د- والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

وهو أساس قوي، تقوم عليه السياسة الداخلية، والمعروف ما عرفه الشرع وأقره، والمنكر ما أنكره الشرع ونهى عنه، وهذا الأساس أعظم دعامة تقوم عليها تلك السياسة، وهو شامل للأسس السابقة وغيرها، وبه فضلت هذه الأمة على الناس، قال الله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} [آل عمران: 110]، وبه تتحد الأمة وتستقيم أمورها الدينية والدنيوية، وبفقده تحل الفوضى الفكرية والعقدية والعملية، ويفترق الناس في دينهم شيعا، كل حزب بما لديهم فرحون، قال الله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون  وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم } [آل عمران: 104- 105].

وأما السياسة الخارجية وهي العلاقة بين المسلمين والكفار فقد قسم الإسلام ذلك ثلاثة أقسام:

 القسم الأول: كفار محاربون:

فالواجب قتالهم حتى تكون الغلبة للإسلام فلا يمنع دعوته أحد أو يقوم ضدها. قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه} [الأنفال: 39]، وفي حال القتال نعاملهم بما قال الله تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4].

ولنا أن نقتلهم بعد الأسر إن كان في ذلك مصلحة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط بعد بدر صبرا.

والحكمة في قتالهم: إعلاء كلمة الله في أرضه، ورحمة هؤلاء الكفار بخضوعهم لدين الإسلام أو دخولهم فيه.

 القسم الثاني: كفار معاهدون:

فيجب الوفاء لهم بعهدهم ما داموا مستقيمين عليه، ولم ينقصونا شيئا، ولم يظاهروا علينا أحدا، قال الله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِين } [التوبة: 4].

فإن خيف من نقضهم العهد؛ وجب إعلامهم بإلغاء العهد، ولا يجوز إلغاؤه قبل إعلامهم؛ لأن ذلك خيانة قال الله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِين } [الأنفال:58].

وإن نقضوا العهد؛ وجب قتالهم، قال الله تعالى: {وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُون } [التوبة: 12].

والحكمة في المعاهدة أن الحاجة قد تدعو إليها لقلة المسلمين أو ضعفهم أو انتظار عدد أو مدد.

 القسم الثالث: أهل الذمة:

الذين بذلوا الجزية عن إقامتهم بدار الإسلام وحمايتهم فيجب الوفاء لهم بما شرطنا لهم ما لم ينقضوا العقد، قال الله تعالى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون } [التوبة: 29]، وفي حديث بريدة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: إذا بعث أميرا على سرية أو جيش: «إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال فأيتها أجابوك إليها فاقبل منهم، وكف عنهم: ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم». مختصر من مسلم وأبي داود.

ولعقد الذمة شروط وأحكام تكلم عليها أهل الفقه فلا نطيل بذكرها هنا.

 و- اعتزاز المسلم بدينه:

من خلال ما سبق في مزايا الإسلام العظيمة يتبين أنه يجب على المسلم أن يكون معتزا بدينه مفتخرا به محافظا عليه ومدافعا عنه:

1- لأن الله أخبر أن العزة للمؤمنين، ونهاهم أن يهنوا أو يذلوا وهم الأعلون، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [المنافقون: 8]، وقال: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين } [آل عمران: 139].

2- أن النبي صلى الله عليه وسلم حذر من التشبه بغير المسلمين فقال صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم».

ومعنى هذا أنه يجب على المسلم أن يكون له كيان خاص قائم بنفسه، يتميز به عن الكافرين الظالمين، وأن لا يكون متخلفا بالتبع لغيره، بل يكون متبوعا لا تابعا.

3- أن الدين الإسلامي هو الذي أكمله الله ورضيه دينا لعباده إلى يوم القيامة، قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3].

4- أنه مهيمن على جميع الأديان، وحاكم عليها، ومشتمل على جميع الكمالات الموجودة فيها، قال الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48].

5- أن التمسك به سبب لسعادة الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون } [النحل: 97].

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

محمد الصالح العثيمين