×
فإن الله - عز وجل - لما أمر المؤمنين بالدعاء وطلبِ الثبات على الصراط المستقيم حذَّرَهم عن سبيل المشـركين فقال - عز وجل -: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}، فمن أهم مقتضيات الصراط المستقيم: البعد عن سبيل المشـركين.

 مظاهر التشبه بالكفار في العصر الحديث وأثرها على المسلمين

 المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، و نستغفره، ونعوذ بالله، من شرور أنفسـنا، ومن سـيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.

وأشهد أن محمداً عبده ورسـوله .

يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ حَقّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مّسْلِمُونَ

يَآ أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوْا رَبَّكُمُ الَّذِيْ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيْراً وَنِسَآءً وَاتَّقُوْا اللَّهَ الَّذِيْ تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيْباً

يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسـولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً.

أما بعد:  فإن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

وبعد: فإن الله عز وجل لما أمر المؤمنين بالدعاء وطلبِ الثبات على الصراط المستقيم حذرهم عن سبيل المشـركين فقال عز وجل: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ)( )، فمن أهم مقتضيات الصراط المستقيم البعد عن سبيل المشـركين.

          ولقد وقع عدد غير قليل من المسـلمين اليوم في مشابهة أعداء الله من اليهود والنصارى وغيرهم إما في المعتقدات أو في العبادات أو تلقفوا بعض المذاهب الهدامة من الغرب ليستقوا منها مناهج عملية يسـيرون عليها في حياتهم، وقد يجادل بعضهم في تأثير هذه الأفعال وتلك المعتقدات على عقيدة المسـلمين.

          هذا ومن ألقى نظرة فاحصة على تاريخ المسـلمين في العصور السابقة لم يجد تهافتاً على التشـبه بأعداء الله كتهافت بعض أهل هذا العصر، والله المستعان.

          كل ذلك مما كون لدي قناعة حول أهمية هذا الموضوع، والكتابة في صور التشـبه بالكافرين في العصر الحديث وأثرها على عقيدة المسلم، ليكون هذا الموضوع جهداً ضئيلاً من تلك الجهود التي تدفع ذلك المد التقليدي للكفار.

          وعندها شرعت في كتابة الخطة، ومما لاحظته أن التشـبه قد عم في العصر الحديث فدخل كل باب تقريباً، مما جعل الموضوع مترامي الأطراف يحتاج صاحبه إلى مضاعفة الجهد فخصصت جزءاً غير قليل في البحث عن المصادر والمراجع.

وجعلت عنوان الرسالة:-

((مظاهر التشـبه بالكفار في العصر الحديث وأثرها على المسـلمين))( ).

أسباب اختياري لهذا الموضوع:-

1-      شرف هذا الموضوع، حيث ذكره الله عز وجل في أعظم سـورة من سـور القرآن الكريم وحذر الناس عن الوقوع فيه، وذلك في معرض دعاء المؤمنين، حيث قال تعالى: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين).

2-      عدم وجود كتابة علمية مستقلة عن هذا الموضوع – على حد ما توصل إليه علمي –  مع أن جانب التوحيد له الحظ الأوفر من أبواب هذا البحث وفصوله.

3-      ما يتسم به من الجِـدة والابتكار خاصة في لفت أنظار المسلمين حول مظاهر التشـبه بالكافرين عموماً في أبواب متعددة.

4-      عرض هذا الموضوع بهذه الطريقة سـوف يكشف الستار عن تلك المذاهب الفكرية التي كان لها الأثر الأكبر في تشـبه المسـلمين بالكافرين، فكل مسلك عملي وراؤه خلفية فكرية.

5-      أنه موضوع عصري، وأعمال المسـلمين وأفكارهم في هذا العصر شاهدة على فشو هذه الظاهرة، ظاهرة التشـبه بالكافرين.

الأهداف المرجو تحقيقها من هذا البحث:-

-        بيان موقف الإسلام من التشـبه بالكافرين.

-        بيان أثر التشـبه بالكافرين على العقيدة.

-        التنبيه على أن التشـبه بالكافرين لا يكون في العادات والمعاملات فحسب كما يظن بعض المسـلمين، بل يتعدى ذلك إلى العبادات والعقائد.

-        الوصول إلى بيان سبب الضلال في العقائد، وهو التشـبه بالكافرين، حيث لم تدخل العقائد الفاسدة( ) والبدع في كثير من العبادات إلا عن طريق هذا الأصل الخطير من أصول الشر، والذي غفل عنه كثير من المسـلمين.

-        تنبيه المسـلمين عن تدخل هذا الموضوع في أعظم الخصوصيات وفي أدقها وأصغرها.

-        بيان الأمور التي وقع فيها التشـبه بالكافرين بشكل عام مع ذكر بعض التفصيلات التي يتبين بها المقصود، والحكم على هذه الأفعال من ناحية أثرها على العقيدة.

-        بيان أثر المناهج الفاسدة والمعتقدات الباطلة المأخوذة من الكفار على وقوع المسـلمين في التشـبه بالكافرين - فكل منهج من تلك المناهج له الأثر في وقوع المسـلمين في مضاهاة الكافرين، سـواءً أكان ذلك المنهج أو تلك النظرية العلمية متعلقة بالعقائد أو الأعمال – وبيان خطر تلك المناهج، فلا يخفى ما في وصف الفعل أو الاعتقاد المحرم بالتشـبه بالكفار من التنفير منه، كما هو الحال بالنسبة للمناهج المنحرفة المأخوذة من الكفار، فوصف الفعل بكونه في مصاف الأفعال التي فيها تشـبه بالكفار، من أنجع الطرق التي يمكن أن تقنع كل مسلم يجد في نفسه الغيرة على انتمائه الإسلامي _ ولكنه غير مقتنع بضلال هذا المنهج، وربما يجهل انتماء هذه الفكرة إلى الكفار، وصدورها عنهم _ فتكون هذه الطريقة مقنعة له لو كان في قلبه بقية باقية من غيرة على دينه وإيمانه، وهذا واقع في الأمة؛ فكم من أبناء هذه الأمة ممن ينـتهج بعض المناهج المأخوذة في أصلها عن الكفار والتي تكون مضادة للشرع بشكل أو بآخر، وهو لا يعلم انتماء الفكرة التي يعتنقها إلى غير المسـلمين، وأنها صادرة عن أعداء الملة والدين، وربما لو كان يعلم ذلك لاتخذ موقفاً آخر.

الدراسات السابقة:-

    لم تكتب في هذا الموضوع: مظاهر التشـبه بالكفار في العصر الحديث وأثرها على المسـلمين – حسب علمي – دراسة علمية مستوفية لأصول البحث العلمي، ومن خلال بحثي عن الدراسات السابقة التي لها علاقة بالموضوع وقفت على ثلاث رسائل وجدتها تطرقت من نواح بعيدة إلى حد ما عن موضوع هذه الرسالة، مما يتوافق مع الأقسام التي قدمت لها هذه الرسائل .

كما كتب شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني _ رحمه الله _ كتابه العظيم: (اقتضاءُ الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم)، هذا السفر الجليل الذي كتبه إمام من أعظم أئمة أهل السنة والجماعة، فقد جمع فيه الكثير من التأصيل والفوائد والفرائد التي من قرأها ووعاها وعمل بها: فهم معنى التشبه في القرآن والسنة، وكان في خندق حصين من جميع أشكال الموالاة للكفار، فلله در هذا العالم الجليل، والكتاب طبع في مجلدين بتحقيق الشيخ: د. ناصر عبد الكريم العقل.

كما وقفت على دراسة مفيدة في هذا الجانب، بعنوان: (الإيضاح والتبيين لما وقع فيه الأكثرون من مشابهة المشركين)، للشيخ: حمود بن عبد الله بن حمود التويجري، فبدأ في كتابه بتأصيل الموضوع من الناحية الشرعية، ثم بدأ بالأمثلة على التشبه في العصر الحديث، مما يعتبر مقدمة لموسوعة علمية في العصر الحديث في التشبه بالكفار؛ فإنه أتى على أكثر أبواب التشبه العلمية منها والعملية.

          وأما الرسائل العلمية: فالرسالة العلمية الأولى كانت بعنوان: التشـبه المنهي عنه في الفقه الإسلامي، للباحث: جميل حبيب المطيري، وهي رسالة مقدمة لنيل درجة الماجستير في قسم الفقه بجامعة أم القرى، والثانية بعنوان: التدابير الواقية من التشـبه بالكفار، للباحث: عثمان أحمد دوكري، وهي رسالة مقدمة لجامعة الإمام محمد بن سعود، قسم الدعوة.

          ولقد تحدث مؤلف الرسالة الأولى عن القواعد الفقهية المتعلقة بالتشـبه، فأصلها تأصيلاً جيداً، وأما الرسالة الثانية: فتحدث فيها مؤلفها عن جانب العلاج الواقي من التشـبه بالكفار، كما لم يغفل ذكر مظاهر التشبه بالكفار، في العصر الحديث، كتقدمة لما يريد التحدث عنه من التدابير الواقية من التشبه بالكفار.

          وأما الرسالة الثالثة: فهي بعنوان السـنن والآثار في النهي عن التشـبه بالكفار، وهي رسالة علمية مقدمة للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عام:  (1401 هـ) قسم الحديث، للباحث سهيل عبد الغفار، وهي رسالة مقسمة إلى بابـين، قام المؤلف بجمع عدد جيد من الأحاديث التي تبين حكم التشبه، مع بعض التعليقات التي توضح المقصود من الأحاديث وخاصة المشكل منها، هذا في الباب الثاني، وأما الباب الأول من الرسالة فضمنه تعريف التشـبه، وقسم التشـبه إلى تشـبه ممنوع وتشـبه مباح، وهل شرع من قبلنا شرعٌ لنا.

خطة البحث:-

لقد كانت خطة البحث قائمة على تقسـيمه إلى مقدمة وبابين وخاتمة.

المقدمة: وذكرت فيها أهمية الموضوع والأسباب التي دفعتني لاختياره وما سبقه من دراسات.

الباب الأول:-

مفهوم التشـبه بالكفار وأثره على المسـلمين.

الفصل الأول:    تعريف التشـبه بالكفار لغة وشرعاً، وأدرجت فيه بعض المسائل التي توضح معنى التشـبه بالكفار، وتزيده بياناً، مستضيئاً بالكتاب والسـنة وآراء أهل العلم.

الفصل الثاني:     حكم التشـبه بالكفار:-

          المبحث الأول: موقف القرآن من التشـبه بالكفار، وعرضت فيه لذكر الآيات التي حذرت من التشـبه بالكفار، مسـتـنيراً بأقوال أهل العلم في تفسـيرها.

          المبحث الثاني: موقف السـنة من التشـبه بالكفار، قمت في هذا المبحث باستقراء ما ورد في السـنة في هذا الباب مستعيناً بأقوال شراح الأحاديث، ومن له كلام من أهل العلم في هذه الأحاديث، وقد استفدت في هذا المبحث مما كتبه الباحث: سهيل عبد الغفار، في رسالته: (السـنن والآثار في النهي عن التشـبه بالكفار).

          المبحث الثالث: موقف الصحابة من التشـبه بالكفار، وأوردت فيه بعض المواقف التي وقفها الصحابة الكرام _ رضي الله عنهم _ حذروا فيها من التشـبه بالكفار بأقوالهم وأفعالهم.

الفصل الثالث:   أثر التشـبه بالكفار على العقيدة:- خصصت هذا المبحث لآثار التشـبه بالكفار والتي تمس جانب العقيدة _ كالبحث في خروج المتشـبه بهم من الإسلام وعلاقة التشـبه بالكفار بالولاء والبراء وغير ذلك، وتطرقت أيضاً إلى غير ذلك من الآثار؛ من باب ذكر الشيء بالشيء، مما يؤدي بعضه إلى بعض. وقد احتوى هذا الفصل على مبحثين:-

          المبحث الأول: أثر التشـبه بالكفار في عقائدهم.

          المبحث الثاني: أثر التشـبه بالكفار في أعمالهم.

الباب الثاني:-

مظاهر التشـبه بالكفار في العصر الحديث.

وهو صلب البحث ومادته الأساسـية التي تشتمل على جانب الأمثلة والمظاهر بعد أن تحدثت في الباب الأول على ما يتعلق بجانب التنظير والتقعيد ببيان موقف الإسلام من التشـبه.

وهذا الباب يشتمل على تمهيد وثلاثة فصول، تكلمت في التمهيد حول التشبه بعد القرون المفضلة وقبيل العصر الحديث، وحول تحديد بداية العصر الحديث.

وجعلت عنوان الفصل الأول:       مظاهر التشـبه بالكفار في العصر الحديث في الجانب الاعتقادي. وقسمته إلى سبعة مباحث، وبعضها اشتمل على مطالب:-

          المبحث الأول: مظاهر التشـبه بالكفار في توحيد المعرفة، وهو التوحيد العلمي الذي يشتمل على توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، ففي هذا المبحث أبين المذاهب الفاسدة التي أدت إلى خدش جانب هذا النوع من التوحيد، أو الإحاد فيه، وأبين مصادرها وأثر اعتناقها على عقائد المسـلمين. وقد اشتمل هذا المبحث على عدة مطالب:-

المطلب الأول:    الفلسـفة، أصولها وآثارها في العصر الحديث.

المطلب الثاني:    علم الكلام، أصوله وآثاره في العصر الحديث.

المطلب الثالث: الشيوعية، وأثرها على عقيدة وجود الله في العصر الحديث.

المطلب الرابع:    الوجودية، وأثرها على عقيدة وجود الله في العصر الحديث.

          المبحث الثاني: مظاهر التشبه بالكفار في توحيد الطلب والقصد، وهو تعطيل للنوع الثاني من التوحيد (توحيد الطلب والقصد)، وفي هذا المبحث أعمل على حل الإشكال الذي شاع بين الناس فيه وهو الخلط بينه وبين توحيد الربوبية، وأبين أنه هو الذي جاء القرآن والسـنة بنسبته إلى أهل الجاهلية.

          المبحث الثالث: أثر العلمانية في التحاكم إلى غير الله، أبين من خلال هذا المبحث علاقة التحاكم الوطيدة بالعقيدة، وأبين دور هذا المذهب الفكري في إقصاء التحاكم إلى الله في بلاد المسـلمين، وإحلال القوانين الوضعية الكفرية بدلاً منه، ولا أفصل القول في آثار العلمانية الأخرى؛ وأرجئه إلى الفصل الثالث من هذا الباب لأتحدث عنها بشكل عام.

          المبحث الرابع:    مظاهر التشـبه بالكفار في تحريف الكتب المنـزلة، وفي هذا المبحث أذكر بعض النصوص التي تشهد على أن التحريف للكتب المنـزلة من صفات الكفار، ثم أسـوق بعض المظاهر لأولئك المنـتسبين إلى الإسلام والذين حرفوا في النصوص القرآنية، ومن ثم قسمته إلى مطلبين:-

المطلب الأول:    تحريف النص.

المطلب الثاني:    تحريف معاني القرآن (المعنى).

          المبحث الخامس: مظاهر التشـبه بالكفار في جانب النبوات، فالإيمان بالرسـول وغيره من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، يجب أن يكون على ما شرعه الله، لا على أساس ما أخذ من الكفار الذين تمسكوا بأحد الجانبـين من إفراط أو تفريط في حق الأنبياء الذين أرسلوا إليهم، أو النبوة عموماً. ومن ثم قسمته إلى مطلبين:-

المطلب الأول:    الاستغاثة بالرسـول أو (إطراء النبي ).

المطلب الثاني:    إدعاء النبوة.

          المبحث السادس: مظاهر التشـبه بالكفار في العصر الحديث في الإيمان بالقدر، وهو سادس أركان الإيمان ولا يكمل الإيمان إلا به، فلذلك أفردت له مبحثاً في جانب العقيدة، مما يوضح بعض العقائد الكفرية التي أدخلت على هذا الركن الركين من أركان الإيمان.

          المبحث السابع: مظاهر التشـبه بالكفار في الاختلاف في أصول الدين.

وهذا المبحث جعلته ضمن الجانب الاعتقادي لعلاقته الوطيدة بأصول الدين التي من أهمها أركان الإيمان، فأبين فيه أن الاختلاف في أصول الدين من طريقة الكافرين، ولأن القضايا التي يعتبر الاختلاف فيها من التشبه بالكفار غالباً ما تكون في الجانب الاعتقادي. وقد اشتمل على مطلبين:-

المطلب الأول:    تعريف الاختلاف المذموم.

المطلب الثاني:    ضابط الأصول التي لا يسـوغ فيها الخلاف.

الفصل الثاني:     مظاهر التشـبه بالكفار في العصر الحديث في العبادات.

          وأفردت هذا الفصل لمظاهر التشـبه العملية التي يقصد بها التعبد، أو هي في مظان التعبد، وإن لم يقصد بها ذلك.

          المبحث الأول:    الرهبانية والتصوف.

          المبحث الثاني: الأعياد المكانية.

          المبحث الثالث: الأعياد الزمانية.

الفصل الثالث:   المذاهب الفكرية المعاصرة، مصادرها وآثارها في الجانب العملي.

          وهذا الفصل أبين فيه أولاً كيف أن المذاهب الفكرية المعاصرة نشأت في بيئة كافرة، لا علاقة لها بالبيئة الإسلامية، وأبين كيف أنها دخلت إلى بلاد المسـلمين، والأفكار التي تدخل تحت هذه المذاهب الفكرية والتي تعتبر من مظاهر التشـبه بالكفار. وقسمته إلى ستة مباحث، وبعضها اشتمل على مطالب:-

          المبحث الأول: المذاهب الفكرية المعاصرة وعلاقتها بالغرب.

المطلب الأول: الصراع بين الدين والعلم في الغرب.

المطلب الثاني: قاعدة تأثر المغلوب بالغالب.

          المبحث الثاني: مظاهر تأثر المسـلمين بالعلمانية في الجانب العملي.

          المبحث الثالث: مظاهر تأثر المسـلمين بالشيوعية في الجانب العملي.

          المبحث الرابع: مظاهر تأثر المسـلمين بالعقلانية في الجانب العملي.

          المبحث الخامس: مظاهر تأثر المسـلمين بالوجودية في الجانب العملي.

          المبحث السادس: القومية والوطنية وأثرها العملي في حياة المسـلمين.

الخاتمـة: وفيها نـتائج البحث.

منهجي في البحث:-

(راجع النسخة المطبوعة).

 الباب الأول مفهوم التشبه بالكفار وأثره على المسلمين

 الفصل الأول تعريف التشـبه لغة وشرعاً

 المبحث الأول: تعريف التشـبه لغة:

مادة: (ش ب هـ)  جاءت في اللغة بمعنيـين، الأول: المشابهة والمماثلة، والثاني: الالتباس والإشكال، قال ابن فارس: "(شبه) الشين والباء والهاء أصل واحد يدل على تشابه الشيء وتشاكله لوناً ووصفاً. يقال  شَبِه وشَبَه وشبيه. والشَّبه من الجواهر: الذي يشبه الذهب، والمشبِّهات من الأمور: المشكلات. واشتبه الأمران إذا أشكلا"( )، وقال ابن منظور: "وتشـبه فلان بكذا. والتشبيه التمثيل"( )،وقال المناوي: "التشبيه إقامة شيء مقام شيء لصفة جامعة بينهما ذاتية أو معنوية فالذاتية نحو هذا الدرهم كهذا الدرهم وهذا السـواد كهذا السـواد، والمعنوية نحو زيد كالأسد أو كالحمار، أي في شدته وبلادته، وزيد كعمرو أي في قوته وكرمه"( )، وقال الزبيدي: "وأمور مشتبهة ومشبهة كمعظمة أي مشكلة ملتبسة يشبه بعضها بعضاً"( ).

   وتشـبه على صيغة (تفعَّل) وهي من صيغ الزوائد( )، وتأتي بعدة معانٍ، أولها: مطاوعة فعّل كقولك كسّرت الأقلام فتكسرت ، وثانيها: الاتخاذ( ) كتوسد ثوبه أي اتخذه وسادة، وثالثها: التكلف ، كقولك: تصبّرت، أي تكلّفت الصبر، ورابعها: التجنب ، مثل: تحرّج، أي تجنب الحرج، وخامسها: التدرج ، كقولك: تجرعت الماء، أي شربت الماء جرعة بعد جرعة , ومثله تحسـيت، وسادسها:الصيرورة ، مثل: تزوج فلان إذا صار زوجاً، وسابعها: الإظهار، قال ابن المبرِّد: "وقوله: (تخلّق) يريد أظهر خلقاً مثل: (تجمَّل) يريد أظهر جمالاً وتصنَّع، وكذلك (تجبّر) إنما تأويله الإظهار" ،  وثامنها: الطلب، قال ابن عقيل: "وجيء بناء تفعَّل للدلالة على الطلب، نحو تعظَّم وتيقَّن، أي: طلب أن يكون عظيماً وذا يقين"   .

والمعاني الصرفية التي تناسب فعل (تشـبّه) هي ما يتعدى منها بالباء، وهي: التكلف والصيرورة والإظهار والطلب، فيقال: تشـبه فلان بفلان، أي: طلب التشـبه به وتكلفه بعد أن لم يكن من عادته، وأظهر ذلك  فصار شبيهاً به.

ففي التشـبه معنى تكلف الفعل، وعلى هذا فإن الذي وقع منه التشـبه بدون تكلف الفعل ذاته لا يكون قد فعل التشـبه، وإنما قد حصل منه مطلق المشابهة، فلا يدخل في التشـبه بمعناه اللغوي. وفيه معنى الصيرورة من حال إلى حال، فلا يكون متشـبهاً من كان يمارس ما هو معتاد بالنسبة له ولجنسه ونوعه. وفي التشـبه معنى الإظهار فمن فعل ما فيه مشابهة لغيره مع إخفائه لا يعد تشـبهاً بالمعنى اللغوي ما دام خفياً. وفي التشـبه بمعناه اللغوي معنى الطلب فلا يكون الفعل الذي وقع من غير طلب تشـبهاً، وإن كانـت كل هذه الأفعال لا تخرج عن مطلق المشابهة.

 المبحث الثاني: تعريف التشـبه بالكفار اصطلاحاً: -

لم أقف فيما قرأت للعلماء المتقدمين على تعريف للتشـبه إلا على تعريف للغزي وآخر للمناوي رحمهما الله، فأما تعريف المناوي( ) فقد قال شارحاً حديث: ((من تشـبه بقوم فهو منهم)): "أي تزيَّا في ظاهره بزيهم وفي تعرفه بفعلهم وفي تخلقه بخلقهم وسار بسـيرتهم وهديهم في ملبسهم وبعض أفعالهم، أي وكأن التشـبه بحق قد طابق فيه الظاهر الباطن"( )، وهنا قصد المناوي تعريف التشـبه الكامل الذي ينطبق على فاعله قوله صلى الله عليه وسلم: ((فهو منهم)) ولم يتعرض إلى تعريف التشـبه الجزئي _ والذي لا يقع عليه وعيد الحديث كاملاً ولكنه لا يخلو من وقوعٍ في التشـبه المحرم والمنهي عنه شرعاً _ فهو كالإمام الغزي عليه رحمة الله لم يدخل جزءاً مهماً من المعرف في التعريف ولعلهما قصدا التشـبه الذي يقع عليه الوعيد الكامل في الحديث الشريف.

وأما تعريف الإمام الغزي( )_ رحمه الله _ فقد قال: "هو عبارة عن محاولة الإنسان أن يكون شبه المتشـبه به، وعلى هيئته وحليته ونعته وصفته، أو هو عبارة عن تكلف ذلك وتقصده وتعلمه"( )، وهنا نجد الإمام الغزي رحمه الله يعرف أيضاً التشـبه الكامل الذي يكون صاحبه به قد شابه به الطرف الآخر من كل وجه، ولذلك قال: وعلى هيئته وحليته ونعته وصفته، أي: في كل أموره، وهذا يقصد به التشـبه الذي ينطبق عليه قوله صلى الله عليه وسلم: ((من تشـبه بقوم فهو منهم))( )، فإن هذا النوع من التشـبه هو الذي عليه الوعيد في قوله صلى الله عليه وسلم: ((فهو منهم))، وأما من كان تشـبهه بهم تشـبهاً جزئياً في شيء مما اختصوا به فإنه لا ينطبق عليه كامل وعيد الحديث ولكنه بلا شك لا يسلم من الإثم، قال شيخ الإسلام: "وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشـبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشـبه بهم"( )، وعلى هذا فإن تعريفه لم يشمل التشـبه الجزئي الذي لا يعدو أن يكون محرماً، كما يلاحظ على هذا التعريف أنه اشترط قصد التشـبه أيضاً، والصحيح أن التشـبه قد يكون بغـير قصد كما سـيأتي.

وأما التعريفات التي وقفت عليها للمعاصرين فقد عرفه الباحث عثمان دوكري في رسالته (التدابير الواقية من التشـبه بالكفار) فقال: "هو تمثل المسلم بالكفار في عقائدهم أو عباداتهم أو أخلاقهم أو فيما يختصون به من عادات، أو خضوعه لهم بشكل من الأشكال"( )، وهذا التعريف أشمل؛ حيث إنه أدخل الرابط: (أو) بين كل من العقائد والعبادات والأخلاق فأفاد أن التشـبه المنهي عنه يقع بفعل أحدها، أو بفعلها كلها من باب أولى، ولكن يؤخذ عليه ذكره لخضوع المسلم للكافر _ والخضوع شكل من أشكال الموالاة _ فهذا الفعل (الخضوع للكفار) وإن اعتبر من موالاة أعداء الله فإنه لا يلزم اندراجه ضمن التشـبه بهم، فموالاة الكفار أعم من مجرد التشـبه بهم، وبينهما عموم وخصوص كلي.

ومن التعاريف النافعة للتشـبه ما أورده الشيخ الدكتور ناصر العقل حيث قال: "هو مماثلة الكافرين بشتى أصنافهم، في عقائدهم، أو عباداتهم، أو عاداتهم، أو في أنماط السلوك التي هي من خصائصهم"( )، وفي الحقيقة فإن هذا التعريف من أشمل التعاريف حيث إنه أدخل التشـبه بنوعيه الكلي والجزئي غير أنه لم يورد الفاعل للتشـبه( ) وهو المسلِم _ ويدخل تحته من يدعي الإسلام بحكم أنه من المسلمين في الظاهر( ) _ وذلك ركن من أركان التشـبه بالكفار، كما يؤخذ على هذا التعريف والتعاريف السابقة أنها لم تخرج التشـبه المباح من التعريف، فاشتراط كونه من خصائص الكفار لا يخرج ما كان من الأمور المفيدة التي تقتضيها الحكمة الثابتة شرعاً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عمل ببعض ما اختص به الكفار في زمنه كما فعل في قصة حفر الخندق  الذي كان من خصائص الفرس، فلا بد من إدخال شرط في التعريف يخرج به التشـبه المباح شرعاً، وعلى هذا فيمكن تعريف التشـبه اصطلاحاً بأنه: مضاهاة المسلم للكفار لغير مصلحة معتبرة شرعاً، فكلمة مضاهاة تعني التشـبه سـواء أكان جزئياً أم كلياً وسـواء أكان بقصد أو بغـير قصد، وتخرج المعاني التي لا تعتبر تشـبهاً _ وإن كانـت من العلاقات المحرمة بالكفار _ كالولاء للكفار، كما ذُكر في التعريف ركنا التشـبه وهما المسلمون والكفار، ثم أخرج التعريفُ التشـبه المباح الذي قد يُتوهم دخوله في النوع المحرم وذلك بعبارة: لغير مصلحة معتبرة شرعاً، فما كان لمصلحة معتبرة شرعاً خرج عن كونه تشـبهاً محرماً، وبهذا يكون التعريف جامعاًَ مانعاً.

وهنا مسألتان:

المسألة الأولى:مراعاة قصد التشـبه:

            إن للقصد في التشـبه معنيان: أما الأول: فهو قصد ذات الفعل، مع علمه بأنه من  خصائصهم، فلو لم يقصد ذات الفعل الذي يعتبر تشبهاً وقصد غيره مما لا علاقة له بالتشـبه: لم يكن من التشـبه المحظور، فإن العذر بعدم قصد ذات الفعل مرعي في الشريعة؛ فإنه من الخطأ الذي يعذر صاحبه، وعلى هذا المعنى ينطبق قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات)) ، وهذا المعنى  مراعىً _ في الحكم على كون الفعل تشـبهاً أم لا _ بلا شك، فلا يمكننا أن نسمي من فعل فعلاً دون إرادته ودون سبق قصد منه _ كالجاهل والمكره والمخطئ والناسـي والنائم والمجنون _ متشـبهاً بحال من الأحوال. 

والمعنى الثاني: قصد ذات الفعل مع علم الفاعل بأن الفعل من خصائصهم وذلك بأن يكون الفاعل فعل الفعل مع قصده إياه _ وهنا خرج عن كونه ناسـياً أو مكرهاً...... إلخ _ بالإضافة إلى علمه بأن هذا الفعل من خصائصهم، فهنا حصل منه قصد ذات الفعل ولكنه لم يحصل منه ذلك التشوف والركون إلى الكفار، ومع ذلك يكون متشـبهاً ؛ وذلك لقصده ذات الفعل الذي يعلم كونه من التشبه المنهي عنه والأمور بمقاصدها، فأما إذا زاد على ذلك إرادة التشـبه وقصده فإنه عندئذ قد جاء بمحظور زائد على مجرد التشـبه فإن فيه عملاً قلبياً يشعر بمحبتهم وإكنان المودة لهم، وهذا أخطر من مجرد التشـبه العملي بهم، فإني لم أجد _ حسب اطلاعي _ عن أحد من السلف أنه لما نُهي عن مظهر من مظاهر التشـبه اعتذر بأنه لم يقصد المشابهة، بل كانـت حالهم – لو افترضنا وقوع أحدهم في ذلك- لا تخرج عن عدم العلم بأن الفعل المعني به من خصائص المشـركين( )، وعلى هذا فإنه يحرم عليه فعل التشـبه سـواء قصد التشـبه أو لم يقصده، ما دام أنه قصد ذات الفعل الذي يعلم أنه من خصائص الكفار.

          وأسـوق هنا مثالاً من السـنة لعله يؤكد ما سبق، عن أبي أمامة رضي الله عنه، في حديث طويل قال: قال عمرو بن عبسة السلمي( ) كنـت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة وأنهم ليسـوا على شيء وهم يعبدون الأوثان فسمعت برجل بمكة يخبر أخباراً فقعدت على راحلتي فقدمت عليه فإذا رسـول الله صلى الله عليه وسلم  مستخفياً...... إلى أن قال: فقلت يا نبي الله أخبرني عما علمك الله وأجهله، أخبرني عن الصلاة قال: ((صل صلاة الصبح، ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع ؛ فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار، ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة، حتى يستقل الظل بالرمح( )، ثم أقصر عن الصلاة فإن حينئذ تسجر جهنم( ) فإذا أقبل الفيء فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس؛ فإنها تغرب بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار))( ) ففي هذا الحديث لم يرِد أن النبي صلى الله عليه وسلم قيّد النهي عن المشابهة فيه بالقصد، قال شيخ الإسلام:  "ومعلوم أن المؤمن لا يقصد السجود إلا لله تعالى، وأكثر الناس قد لا يعلمون أن طلوعها وغروبها بين قرني شيطان، ولا أن الكفار يسجدون لها، ثم إنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في هذا الوقت؛ حسماً لمادة المشابهة بكل طريق"( )

ولذلك يخطئ من يشترط قصد التشبه بالكفار ليكون فاعل التشبه متشبهاً بهم، كما جاء في كتاب: (رد المحتار على الدر المختار) أن التشـبه لا يقع إلا مع قصد التشبه فقال في معرض الحديث عن التشـبه بالكفار: "أي إن قصده، فإن التشـبه بهم لا يكره في كل شيء بل في ما يقصد به التشـبه"( )، وتابعه على ذلك الباحث: جميل بن حبيب اللويحق المطيري في رسالته: التشـبه المنهي عنه في الفقه الإسلامي، واحتج بحديث: ((إنما الأعمال بالنيات))( )، وهذا الحديث إنما يستدل به على اشتراط قصد ذات الفعل كما ذكرت فيما سبق، وظاهر دلالة حديث أبي أمامة  يفهم منها كون التشـبه بهم لا يشترط له قصد التشـبه مع قصد ذات الفعل.

          كما أن القصد قد يكون له تأثير فيما كان من الحكمة الأخذ به من اختراعات الكفار المأخوذة عنهم أصلاً، فالشرع قد أباحها كما تقدم، ولكن إذا اقترن بذلك قصد التشـبه بالكفار والميل لهم ومحبتهم وتفضيل ما عندهم على ما عند المسـلمين فإن هذه النية تعتبر من موالاة الكفار المحرمة( )، وإن كان ظاهر الفعل جائزاً.

وحديث عمرو بن عبسة  _ _ السابق يفهم منه وجوب ترك العمل الذي فيه مشابهة للكفار، ولو كان مع عدم التشوف( ) والميل القلبي إلى ما عند الكفار وبه قال شيخ الإسلام كما سبق عرضه( )، وقد قال ابن تيمية _ رحمه الله _ في موضع آخر:  "ما كان في الأصل مأخوذاً عنهم، إما على الوجه الذي يفعلونه، وإما مع نوع تغيـير في الزمان، أو المكان، أو الفعل، ونحو ذلك، فهو غالب ما يبتلى به العامة، في مثل ما يصنعونه في الخميس الحقير  والميلاد ونحوهما، فإنهم قد نشؤوا على اعتياد ذلك، وتلقاه الأبناء عن الآباء وأكثرهم لا يعلمون مبدأ ذلك، فهذا يعرّف صاحبُه حكمَه فإن لم ينـته وإلا صار من القسم الأول" ، يقصد بالأول ما لا شك في تحريمه من التشـبه بهم، وقد فصله قبل هذا الكلام، ووجه الاستدلال بكلامه _ رحمه الله _ هنا: أن من عمل ما كان مأخوذاً عنهم في الأصل وهو لا يعلم أنه من عوائدهم؛ فهو بلا شك لا يقصد التشـبه بهم، ومع ذلك أمر شيخ الإسلام بأن يعرَّف صاحب الفعل حكمه _ وهو التحريم _ ثم بعد ذلك إذا انـتهى عن الفعل فبها ونعمت وأما إذا لم ينـته فقد صار من القسم الأول المحرم، وفي هذه الحال لا يكون هذا قد قصد التشـبه؛ لأنه كان يفعل الفعل ذاته قبل أن يعلم أنه من خصائصهم، وكذلك لم يقل شيخ الإسلام: يُسأل صاحبُه عن قصده، بل قال يعرَّف صاحبه حكمه، فلم يشترط أن يقصد التشـبه، بل اشترط مجرد المعرفة بأن هذا الفعل من خصائص المشركين.

قال شيخ الإسلام:  "ومن هذا الباب أنه كان إذا صلى إلى عود أو عمود جعله إلى حاجبه الأيمن أو الأيسر ولم يصمد له صمداً ، ولهذا نهى عن الصلاة إلى ما عبد من دون الله في الجملة وإن لم يكن العابد يقصد ذلك، ولهذا ينهى عن السجود لله بين يدي الرجل وإن لم يقصد الساجد ذلك؛ لما فيه من مشابهة السجود لغير الله، فانظر كيف قطعت الشريعة المشابهة في الجهات وفي الأوقات، وكما لا يصلى إلى القبلة التي يصلون إليها كذلك لا يصلى إلى ما يصلون له بل هذا أشد"( ).

ومن تصريحات شيخ الإسلام الجلية في هذا الباب قوله رحمه الله: "وقد تقدم بيان أن ما أمرنا الله ورسـوله به من مخالفتهم مشروع سـواء كان ذلك الفعل مما قصد فاعله التشـبه بهم أو لم يقصد، وكذلك ما نهى عنه من مشابهتهم يعم ما إذا قُصدت مشابهتهم أو لم تقصد فإن عامة هذه الأعمال لم يكن المسلمون يقصدون المشابهة فيها، وفيها مالا يُتصور قصد المشابهة فيه كبياض الشعر وطول الشارب( ) ونحو ذلك"( ).

وعلى هذا فإنه لا عبرة بادعاء عدم القصد؛ فإن من فعل ما هو تشـبه بالمشـركين، وهو يعلم حكمه فإنه قد وقع في التشـبه المنهي عنه، ولو كان لا يقصد  مشابهتهم فيه.

وأمر الشريعة بمخالفتهم مطلقاً دليل على عدم مراعاة قصد من وافقهم في فعلهم _ ما دام أنه يعلم بوجوب المخالفة _ قال شيخ الإسلام: "قوله صلى الله عليه وسلم: غيروا الشيب ولا تشـبهوا باليهود( ). دليل على أن التشـبه بهم يحصل بغـير قصد منا، ولا فعل، بل بمجرد ترك تغيـير ما خلق فينا، وهذا أبلغ من الموافقة الفعلية الاتفاقية" .

وهذا الحديث الذي أورده شيخ الإسلام هنا يشبه الصريح من كلامه صلى الله عليه وسلم في تسمية ما هو مأخوذ عنهم: تشـبهاً ولو كان بغـير قصد.

المسألة الثانية: ما كان مأخوذاً عنهم في الأصل ثم صار من عوائد المسـلمين، وما كان غير مأخوذ عنهم:

إن ما كان مأخوذاً عن الكفار في الأصل هو مظهر من مظاهر التشـبه ولو صار بعد ذلك من عوائد المسـلمين، إذا تبين حكمه؛ فإن اعتياد المسـلمين له لا يخرجه عن دائرة مضاهاتهم. قال شيخ الإسلام: "ما كان في الأصل مأخوذاً عنهم إما على الوجه الذي يفعلونه وإما مع نوع تغيـير في الزمان أو المكان أو الفعل ونحو ذلك فهذا غالب ما يبتلى به العامة في مثل ما يصنعونه في الخميس الحقير( ) والميلاد ونحوهما فإنهم قد نشئوا على اعتياد ذلك وتلقاه الأبناء عن الآباء وأكثرهم لا يعلمون مبدأ ذلك فهذا يعرّف صاحبه حكمه فإن لم ينـته وإلا صار من القسم الأول"  يقصد بالقسم الأول: ما لا شك في تحريمه والذي قد يبلغ التحريم في بعضه إلى أن يكون من الكبائر، وقال ابن حجر في الفتح: "وقد كره بعض السلف لبس البُرنُس( ) لأنه كان من لباس الرهبان، وقد سئل مالك عنه فقال: لا بأس به، قيل: فإنه من لبوس النصارى قال كان يلبس ههنا" ، فبـيَّن الإمام مالك _ كما نقل عنه ابن حجر _ أنه لم يبح لبسه إلا لأنه كان يلبس ههنا، _ أي عند المسـلمين  _ ولولا ذاك لحكم عليه بالتحريم ما دام أنه مأخوذ عن النصارى.

وأما ما لم يكن في الأصل مأخوذاً عنهم ولكنهم يفعلونه أيضاً: فلا يكون ذلك من التشـبه المنهي عنه، وكذلك ما فعله المسلمون من الأمور المباحة وفعله الكفار كذلك ولكن أحداً من المسلمين لم يأخذه عن الكفار في فعله إياه، فلا يكون ذلك من التشبه المحرم، ما لم ينص الشرع على كونه من التشـبه بهم، فإن ما نص عليه الشارع له وضعه الخاص، ومما نص عليه الشرع ما يمكن أن يندرج تحت هذا النوع، فمن ذلك نهي رسـول الله صلى الله عليه وسلم الشريد الثقفي( ) عن قعدة المغضوب عليهم وهذا مما قد يكون من أفعال المسـلمين التي لم يأخذوها عن الكفار بل فعلوها من عند أنفسهم، ولكن النص أخرجه فصار من التشـبه المنهي عنه ولولا نهي الرسول لما زاد الحكم على استحباب مخالفتهم في هذا النوع من القعود ؛ لأنه لم يكن في الأصل مأخوذاً عنهم ولكنهم يفعلونه، قال شيخ الإسلام:  "النوع الثـاني( ): ما ليس في الأصل مأخوذاً عنهم لكنهم يفعلونه أيضاً، فهذا ليس فيه محذور المشابهة ولكن قد يفوت فيه منفعة المخالفة، فتتوقف كراهة ذلك وتحريمه على دليل شرعي وراء كونه من مشابهتهم، فأما استحباب تركه لمصلحة المخالفة إذا لم يكن في تركه ضرر؛ فظاهر لما تقدم من المخالفة، وهذا قد توجب الشريعة مخالفتهم فيه"( ).

وقد جمع شيخ الإسلام بين تقرير هذه المسألة ومسألة القصد _ السابقة _، في جملة واحدة فقال رحمه الله: "فمن انعطف على ما تقدم من الدلائل العامة نصاً وإجماعاً وقياساً تبين له الفرق بين ما بقينا فيه على عادتنا لم نحدث شيئاً نكون به موافقين لهم فيه وبين أن نحدث أعمالاً أصلها مأخوذ عنهم، قصدنا موافقتهم أو لم نقصد "( ).

ويستثنى مما سبق: ما استفاض عند المسـلمين حتى صار من شعارهم ولم يعد الكفار يفعلونه _ ما لم يكن في تحريمه نص؛ فإن ما نص عليه الشارع له وضعه الخاص فلا يتبدل ولا يتغير باختلاف الأزمنة والأماكن  _ احتراماً للنص، وإيماناً بأن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان، قال ابن حجر في الفتح _ مبيناً أن ما استفاض عند المسـلمين حتى صار من شعارهم لا يعد تشبهاً بالكفار حتى ولو كان مما يفعله الكفار _، في معرض حديثه عن حكم لبس الطيلسان: "وإنما يصلح الاستدلال بقصة اليهود في الوقت الذي تكون الطيالسة من شعارهم وقد ارتفع ذلك في هذه الأزمنة  فصار داخلاً  في عموم المباح، وقد يصير من شعائر قوم فيصير تركه من الإخلال بالمروءة" ، فهناك فرق بين أن نحدث أعمالاً نشابههم بها، وبين أن يباشر المسلمون ما استفاض عندهم حتى لم يعد يعتبر من شعار الكفار.

وكما أنه قد يصير الفعل من شعار المسـلمين بعد أن كان شعاراً للكفار، فقد يصير الفعل تشـبهاً بعد أن لم يكن كذلك، وذلك بأن يصير الفعل من شعار الكفار، يقول الذهبي عن زمنه: "ألا ترى أن العمامة الزرقاء والصفراء كان لبسهما لنا حلالاً قبل اليوم. وفي عام سبعمائة، فلما ألزمهم السلطان الملك الناصر حرمت علينا" .

وقد يرد سؤال مفاده: هل فيما صح عن الأنبياء السابقين ويدين به اليهود أو النصارى ويفعله المسلمون اليوم ولم يرد في شريعتنا ، هل هذا يدخل ضمن التشـبه المنهي عنه، أم لا ؟

          وللإجابة على هذا السؤال: لا بد لنا من العلم بثبوت ذلك عن الأنبياء السابقين لمحمد عليه الصلاة والسلام قال ابن العربي _ رحمه الله _: "وإنما الخلاف فيما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنه من شرع من قبلنا من معرض المدح والثناء هل يلـزم اتباعه أم لا"( )، وذلك لا يكون إلا عن طريق الكتاب أو السـنة في الغالب( )، فإن ثبت ذلك _ كما في أفعال الأنبياء التي ختمها الله تعالى بقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)  _ فإن هذا ليـس فيه تعارض مع ما سـبق من تحريم التشـبه بالمشـركين، قال الآمـدي( ): "اختلفوا في النبي عليه السلام وأمته بعد البعثة هل هم متعبدون بشرع من تقدم؟ فنقل عن أصحاب أبي حنيفة وعن أحمد في إحدى الراويتين عنه وعن بعض أصحاب الشافعي أن النبي عليه السلام كان متعبداً بما صح من شرائع من قبله بطريق الوحي إليه لا من جهة كتبهم المبدلة ونقْل أربابها" ، فإنه إنما نهينا عن التشـبه بهم في ما لم يرد فيه نص يدل على كونه من هدي النبيـين، بشرط أن لا يكون في شرعنا بيان خاص بالموافقة أو المخالفة فإن وجد ذلك في شرعنا لزم الاستغناء به عن غيره ، وأما إذا لم يثبت أن ذلك من هدي النبيـين فإنه من التشـبه المنهي عنه.

          وأما أنه صلى الله عليه وسلم كان يحب موافقتهم فيما لم يؤمر فيه بشيء: فإن ذلك نسخ  بأحاديث الأمر بالمخالفة، وعلى فرض أن ذلك لم ينسخ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك لمعرفته بالوحي فكان يعرف حقهم من باطلهم عن طريقه .

 الفصل الثاني حكم التشـبه بالكفار.

 المبحث الأول: موقف القرآن من التشـبه بالكفار:-

          إن من دعاء المؤمنين في أول سـورة من القرآن أن يهديهم الله الصراط المستقيم المخالف للكفار من اليهود والنصارى( )، وهو الدعاء الذي يدعو به المسلمون في كل صلاة، والذي تضمنـته أعظم سـورة في القرآن والتي لا تصح الصلاة إلا بها فقد أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسـول الله  صلى الله عليه وسلم: ((من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج( )  يقولها ثلاثا)) ، وهذا الدعاء في قوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) ، قال ابن كثير: "وهما طريقة اليهود والنصارى" ، وقال: "فإن طريقة أهل الإيمان مشتملة على العلم بالحق والعمل به واليهود فقدوا العمل والنصارى فقدوا العلم "وقد ورد في تفسـير هذه الآية حديث عن عدي بن حاتم عن النبي  صلى الله عليه وسلم قال: ((اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضُلاّل))( )، قال ابن كثير: "أخص أوصاف اليهود الغضب كما قال تعالى: (مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ)( )، وأخص أوصاف النصارى الضلال كما قال تعالى عنهم: (قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سـواءِ السَّبِيلِ)( )، وبهذا جاءت الأحاديث والآثار" .

والمتأمل في كتاب الله تعالى يجد موقفه من التشـبه واضحاً جلياً، ألا وهو موقف النهي عن التشـبه بالكفار  بصيغ مختلفة وطرق متعددة، فينهى الله تبارك وتعالى عن التشـبه عموماً في مواضع، وينهى عن اتباع أهواء الكفار في مواضع أخرى، وينهى أحياناً عن التشـبه بهم في الاستمتاع بالشهوات المحرمة، وقد ينهى عن موافقتهم في ما هو جائز أحياناً أخرى سداً لذريعة التشـبه، وينهى عن التشـبه بهم في الحكم بين الناس بالباطل، ويبرئ نبيه صلى الله عليه وسلم منهم تبرئة تامة.

وتفصيل ذلك فيما يلي:-

1- فأما نهيه عن التشـبه عموماً فقد قال تعالى في معرض إجابته لدعاء النبيـين الكريمين موسى وهارون: () فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) ، قال الطبري في تفسـيرها: "ولا تسلكا طريق الذين يجهلون حقيقة وعدي فتستعجلان قضائي فإن وعدي لا خالف له وإن وعيدي نازل بفرعون" ، فأمرهما بالاستقامة ونهاهما عن سلوك طريق الذين لا يؤمنون بوعد الله ووعيده، وجعل الاستقامة تنافي اتباع سبيل الكافرين، ولذلك كانت وصية موسى عليه وعلى نبـينا الصلاة والسلام لأخيه هارون بذلك: (وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) .

          2- وأما نهيه عن اتباع أهوائهم ففي قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ، إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ)( ), قال شيخ الإسلام: "وأهواؤهم هو ما يهوونه وما عليه المشركون من هديهم الظاهر الذي هو من موجبات دينهم الباطل، وتوابع ذلك فهم يهوونه وموافقتهم فيه اتباع لما يهوونه"( )، (الذين لا يعلمون): قال الشوكاني: "وهم كفار قريش ومن وافقهم"( )، وقال القرطبي: "قال ابن عباس: قريظة والنضير نـزلت لما دعته قريش إلى دين آبائه" ، وقال:" قال ابن عباس: يريد أن المنافقين أولياء اليهود والله ولي المتقين" ، وهذا القول يقتضي أن التشـبه بأعداء الله واتباع أهوائهم من صفات المنافقين _ أجارنا الله من حالهم _ وقال تعالى في النهي عن اتباع أهوائهم أيضاً: (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ، وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ) ، قال الطبري رحمه الله في تفسـيرها: "نهاه جل ثناؤه عن ترك ما أنـزل إليه واتباع الأحزاب وتهدده على ذلك إن فعله فقال: ولئن اتبعت يا محمد أهواءهم _ أهواء هؤلاء الأحزاب ورضاهم ومحبتهم _ وانـتقلت من دينك إلى دينهم ما لك من يقيك من عذاب الله إن عذبك على اتباعك أهواءهم" ، فلئن كان اتباع أهواء الكفار موجباً لسخط الله على نبيه، فإن ذلك العقاب يكون لمن اتبع أهواء الكفار من أمته من باب أولى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فالضمير في (أهواءهم) يعود والله أعلم إلى ما تقدم ذكره، وهم الأحزاب الذين ينكرون بعضه فدخل في ذلك كل من أنكر شيئاً من القرآن من يهودي أو نصراني وغيرهما وقد قال: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) ومتابعتُهم فيما يختصون به من دينهم وتوابع دينهم: اتباع لأهوائهم، بل يحصل اتباع أهوائهم بما هو دون ذلك" ، فكل ما باين القرآن من أفعالهم فهو من أهوائهم التي توجب لمن اتبعها سخط الله وعذابه، وليس النهي عن هذا هو المقصود فحسب بل سـيأتي النهي عما كان جائزاً بحكم القرآن من حيث الأصل ولكن نُهي عنه لمجرد سد ذريعة التشـبه.

          3- ومن نهيه عن اتباع أهوائهم قوله تعالى: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ)( )، قال الطبري رحمه الله في تفسـيرها: "(وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ): ولئن التمست يا محمد رضا هؤلاء اليهود والنصارى الذين قالوا لك ولأصحابك (كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا) فاتبعت قبلتهم يعني فرجعت إلى قبلتهم، ويعني بقوله: (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ): من بعد ما وصل إليك من العلم بإعلامي إياك أنهم مقيمون على باطل وعلى عناد منهم للحق (إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) يعني أنك إذا فعلت ذلك من عبادي الظلمة أنفسهم المخالفين أمري والتاركين طاعتي وأحدهم وفي عدادهم"( )، فوصف الظلم ملازم لمن اتبع أهواء الكفار ولو كان فعله ذلك من أجل أن يقرب بينه وبين الكفار _ سـواءً أكان ذلك من أجل دعوتهم أو من أجل مصالح اقتصادية أو سـياسـية أو غير ذلك _ لعموم الآية، فلا يجوز أن يتنازل المسلم عن شيء من أصول دينه مجاراة للكفار ومداهنة لهم.

          4- ومن نهيه تعالى عن التشـبه بهم فيما هو محرم علينا قوله تعالى: (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)( )، وهذه الآية من أقوى الآيات في التخويف من سلوك سبيل الكافرين، والتحذير من التشـبه بهم، فقد جمع الله تبارك وتعالى فيها بين وصف المنافقين بالتشـبه بهم في جانب الاعتقاد الفاسد والأهواء الباطلة وبين وصفهم بالاستمتاع بالنصيب الحرام من الشهوات، كما أن هذه الآية جاءت في سـورة التوبة وهي التي تسمى الفاضحة لأنها فضحت المنافقين وجلّت صفاتهم،فقد روى البخاري أن ابن عباس سُئل عن سـورة التوبة ؟ فقال: "التوبة هي الفاضحة ما زالت تنـزل (ومنهم) حتى ظنوا أنها لن تبقي أحداً منهم إلا ذكر فيها" ، وما ذكره الله في هذه الآية هو بعض صفات المنافقين في هذه السـورة العظيمة التي فضح الله فيها المنافقين بذكر صفاتهم العملية وكان منها صفة التشـبه بالكفار، فيؤخذ منها أن التشـبه بالكفار إنما هو من صفات المنافقين التي حذرت منها هذه السـورة، قال الطبري رحمه الله: "(فاستمتعوا بخلاقهم) يقول فتمتعوا بنصيبهم وحظهم من دنياهم ودينهم ورضوا بذلك من نصيبهم في الدنيا عوضاً من نصيبهم في الآخرة وقد سلكتم أيها المنافقون سبيلهم في الاستمتاع (وخضتم) في الكذب والباطل على الله"( )، فلم يكتف بذكر تحريم هذه الأفعال بل شبه مقارفتهم لها بفعل الذين كفروا من قبل مما زاد في قبحها ونكارتها، وعلى هذا فالفعل المنهي عنه إذا كان في الأصل من خصال الكفار فإنه يكون أعظم جرماً وأشد خطراً من فعل المحرم العادي.

 وجمع الله في هذه الآية ذم التشـبه بالكفار في جانب الشبهات وفي جانب الشهوات المحرمة، قال شيخ الإسلام: "وجمع سبحانه بين الاستمتاع بالخلاق، وبين الخوض؛ لأن فساد الدين: إما أن يقع بالاعتقاد الباطل، والتكلم به، أو يقع في العمل بخلاف الاعتقاد الحق، والأول: هو البدع ونحوها، والثاني: فسق الأعمال ونحوها، والأول: من جهة الشبهات، والثاني: من جهة الشهوات"( ).

          ومما يندرج مع ما سبق قوله تعالى: (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماًً)( ) ، هذه الآية جاءت في وصف عباد الرحمن المتقين، ففسرها غير واحد من السلف بأن الزور  هو أعياد المشـركين، قال ابن كثير عليه رحمة الله: "وهذه أيضا من صفات عباد الرحمن أنهم لا يشهدون الزور، قال غير واحد من السلف: هو أعياد المشـركين" ، وقال القرطبي رحمه الله: "وعن ابن عباس أنه أعياد المشـركين" ، ونقل شيخ الإسلام _ رحمه الله _ عن غير واحد من أهل العلم كذلك قوله: أنه أعياد المشركين ، وهذا يعني أن صفات عباد الرحمن المتقين لا يمكن أن تكمل إلا بأن يكونوا في منأى عن صفات الكفار وشعائرهم الظاهرة، كالأعياد وغيرها.

          ومما نهينا عن التشـبه بهم فيما هو محرم علينا أصلاً: قسـوة القلب بعد طول الأمد، قال تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) ، قال الطبري عليه رحمة الله: "ويعني بقوله: (فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ): ما بينهم وبين موسى صلى الله عليه وسلم وذلك الأمد: الزمان"( )، وقال: "(وَلاَ يَكُونُواْ): يعني الذين آمنوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم (كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ) يعني: من بني إسرائيل ويعني بالكتاب الذي أوتوه من قبلهم: التوراة والإنجيل"( )، وقد قال تعالى لبني إسرائيل: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ)( )، وقال: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) ، ولما كانت من صفات بني إسرائيل قسـوة القلب صار يعد ذلك من التشـبه المحرم، وقسـوة القلب جاء تحريمها في قوله تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) ، ولكن زاد في تحريمها ما فيها من مضاهاة للكفار من أهل الكتاب، فكل من كان في قلبه شيء من القسـوة بعد طول الأمد ففيه من مشابهة الكفار حسب تلك القسـوة.

ومن ذلك قوله تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) ، قال الطبري رحمه الله: "هم أهل الكتاب نهى الله أهل الإسلام أن يتفرقوا ويختلفوا كما تفرق واختلف أهل الكتاب" ، وقد نهانا الله عز وجل عن الافتراق لأنه شر، وأخبرنا في كتابه أن النهي عن الافتراق يعتبر من أصول شرائع الأنبياء من أولي العزم من الرسل فقال: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) ، ونهانا عن مشابهة الذين خالفوا شرائع الأنبياء بالتفرق كما في آية آل عمران السابقة وكما في قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ)( ).

6-      ومن موقف القرآن من التشـبه: نهيه تعالى عن موافقة الكفار حتى فيما هو جائز بالنسبة للمسـلمين من ناحية الأصل؛ سداً للذريعة وحسماً لمادة التشـبه ...

(لتكملة المبحث: راجع النسخة المطبوعة).

 المبحث الثاني:  موقف السـنة من التشـبه بالكفار:

لقد جاء موقف السـنة، موافقاً للقرآن تماماً، وكما هي طريقة السـنة مع القرآن أنها تبين عن خاصه وعامه وتفسر مبهمه( ) وتفصل مجمله، وتقيد مطلقه، وتشرح أحكامـه( )، ولقد جاء موقف السـنة من التشـبه ملفتاً لنظر الباحث إلى خطورة التشبه بالكافرين؛ فإنك تجد النبي صلى الله عليه وسلم قد سلك كل طريق ممكنة لبيان أهمية المفاصلة الكاملة بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وعمل بكل ما يقطع المشابهة بين من رضي بالله معبوداً وإلهاً، وبين من عبد الطاغوت( ) وكفر بمن حق له أن يكون معبوداً وإلهاً، فلم يترك أمراً يزيد المباينة بينهما إلا أمر به ورغب فيه، ولم ير شيئاً يقيم الصلة بينهما إلا نهى عنه وحذر منه. فمن الأحاديث ما جاء النهي فيها عن التشـبه بالكفار نهياً صريحاً، دون ذكر سبب النهي، ومن الأحاديث ما جاء النهي فيه عن التشـبه بهم مع التعليل بالمخالفة لهم، ومنها ما جاء فيه نسبة المتشـبه بهم إلى الجاهلية، ومنها ما جاء فيه التحذير من التشـبه بهم لأن ذلك ملحق بهم وحكم المتشـبه بهم كحكمهم، ومن الأحاديث في السـنة النبوية ما جاء فيه الترهيب من التشـبه بهم لما حصل لهم من عقوبة الله، ومن الأحاديث ما ورد فيه النهي عن التشـبه بهم على صيغة  الإخبار عن حال المسـلمين في المستقبل وانجرافهم وراء التشـبه الأعمى بالكفار، هذا من ناحية الإجمال، وتفصيل ذلك فيما يلي:-

          1- فمن الأحاديث التي جاء فيها النهي عن التشـبه بالكفار نهياً صريحاً مجرداً عن ذكر سبب من الأسباب: ما جاء عن أنس رضي الله عنه قال: قدم رسـول الله _ صلى الله عليه وسلم _ المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ((ما هذان اليومان) قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية فقال رسـول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما يوم الأضحى ويوم الفطر)) ( )، قال شيخ الإسلام رحمه الله: "فوجه الدلالة: أن اليومين الجاهليـين لم يقرهما رسـول الله صلى الله عليه وسلم ولا تركهم يلعبون فيهما على العادة، بل قال: ((إن الله قد أبدلكم بهما يومين آخرين)) والإبدال من الشيء يقتضي ترك المبدل منه....وأيضا فقوله لهم ((إن الله قد أبدلكم)) لما سألهم عن اليومين فأجابوه ((إنهما يومان كانوا يلعبون فيهما في الجاهلية))، دليل على أنه نهاهم عنهما اعتياضاً بيومي الإسلام؛ إذ لو لم يقصد النهي لم يكن ذِكْر هذا الإبدال مناسباً؛ إذ أصل شرع اليومين الإسلاميـين كانوا يعلمونه، ولم يكونوا ليتركوه لأجل يومي الجاهلية"( )، وهنا وضع رسـول الله صلى الله عليه وسلم قاعدة جليلة من خلال هذا الحديث حيث استبدل ذانك اليومين بيومين آخرين، دون ذكر سبب ظاهر وهذا يدل على أن مخالفة الكفار من مقصود الشارع أصلاً، فسكوته عن ذكر سبب الاستبدال يشعر بكون المخالفة لهم مما لا نقاش فيه، وأنه مما عرف من طريقة الشارع.

ومن النهي الصريح عن موافقة الكفار ما ورد أيضاً عن ابن عباس أنه سمع عمر رضي الله عنه يقول على المنبر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده فقولوا عبد الله ورسـوله))( )، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الإطراء، ورفعه صلى الله عليه وسلم إلى منـزلة فوق منـزلته وهذا تحريمه معلوم من دين الإسلام، وبه جاء محمد صلى الله عليه وسلم وعنه دافع وصال وجال، ولكنه مع ذلك ذكر النصارى الذين وقعوا في الضلال، ففيه ترسـيخ معنى أنهم ضُلاَّل وأنهم أمعنوا في الضلال، مما يرسخ بدوره وجوب مخالفتهم، وعندها ينقدح في الذهن أن الأصل في هؤلاء القوم: الضلال والانحراف عن الصراط المستقيم، والواجب مخالفتهم في جميع شؤونهم، إلا في عمل دل الدليل أو القياس الصحيح على جواز موافقتهم فيه.

2- وقد جاءت بعض الأحاديث بالأمر ببعض الأفعال أو النهي عن بعضها مع التعليل _ لذلك الأمر أو النهي _ بمخالفة أهل الكتاب منها:

ما رواه أبو عمير بن أنس( ) عن عمومة له من الأنصار قال: "اهتم النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة كيف يجمع الناس لها فقيل له: انصب راية عند حضور الصلاة فإذا رأوها آذن بعضهم بعضاً فلم يعجبه ذلك، قال فذكر له القنع _ يعني الشبور( ) _ فلم يعجبه ذلك وقال: ((هو من أمر اليهود) قال: فذكر له الناقوس( ) فقال: ((هو من أمر النصارى))( )، قال شيخ الإسلام: "وهذا يقتضي نهيه عن كل ما هو من أمر اليهود والنصارى"( )، فهنا رفض النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعمل شيئاً من الأدوات التي يستخدمها أهل الكتاب مع أنها لم تعرض عليه إلا من أجل الدعوة إلى الصلاة التي هي عمود الدين، وقد اشتملت على أعظم ما يميز المسـلمين عن غيرهم من أهل الملـل كالشهادتين، وغيرهما، ومع ذلك رفض النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وجعل علة تركه له أنه من فعل اليهود والنصارى.

ومنها ما رواه جابر رضي الله عنه قال: اشتكى رسـول الله _ صلى الله عليه وسلم _ فصلينا وراءه وهو قاعد وأبو بكر يسمع الناس تكبيره، فالتفت إلينا فرآنا قياماً فأشار إلينا، فقعدنا فصلينا بصلاته قعوداً فلما سلم قال: ((إن كدتم آنفاً لتفعلون فعل فارس  والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا ائتموا بأئمتكم إن صلى قائماً فصلوا قياماً وإن صلى قاعداً فصلوا قعوداً)) ( )، قال شيخ الإسلام: "وهذا تشديد عظيم في النهي عن القيام للرجل القاعد ونهى أيضاً عما يشبه ذلك وإن لم يقصد به ذلك، فهل بعد هذا في النهي عن مشابهتهم في مجرد الصورة غاية"( )، فنهاهم رسـول الله صلى الله عليه وسلم عن القيام عليه وهو قاعد، وعلل النهي بأن هذه الصورة تشـبه صورة قيام فارس والروم على ملوكهم وهم قعود، مع أنهم لم يكونوا في صلاة حال قيامهم على ملوكهم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أصحابه عن ذلك إمعاناً في البعد عن مشابهة الكفار.

ومن الأحاديث التي جاء فيها الأمر بفعل من الأفعال معللاً بمخالفة الكفار أيضاً: قوله صلى الله عليه وسلم: ((خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم))( )، وهذا تصريح منه صلى الله عليه وسلم بالأمر بالمخالفة( )، ثم أعقب ذلك بالأمر بلبس النعال أو الخفاف في حال الصلاة وكأن هذا الأمر لم يشرع إلا بعد معرفة حال اليهود في صلاتهم فكان من شأن الحنفاء المسلمين أن يخالفوهم، وهذا يشعر بأن مخالفة الكفار مشروعة لهم في شأنهم كله، وليس في هذا الشأن فحسب، فجاءت السـنة بأحكام تكليفية مبناها الأساسـي على مخالفة الكفار، وهكذا صارت مخالفة الكفار من مقاصد الشارع التي تبنى عليها بعض الأحكام الشرعية.

ومن الأحاديث التي جاء فيها التصريح بالنهي عن فعل من الأفعال معللاً بمخالفة الكفار كذلك: ما جاء عن عمرو بن عبسة السلمي( )_ في حديث طويل _: كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة وأنهم ليسـوا على شيء وهم يعبدون الأوثان فسمعت برجل بمكة يخبر أخباراً فقعدت على راحلتي فقدمت عليه فإذا رسـول الله  صلى الله عليه وسلم  مستخفياً...... إلى أن قال: فقلت يا نبي الله أخبرني عما علمك الله وأجهله، أخبرني عن الصلاة قال: ((صل صلاة الصبح، ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع؛ فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار، ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة، حتى يستقل الظل بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة فإن حينئذ تسجر جهنم  فإذا أقبل الفيء فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس؛ فإنها تغرب بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار))( )، وهنا جاء النهي لعلة المشابهة( )، مع كون الفعل عبادة لله، فكيف بما كان لا علاقة له بطاعة الله، وإنما هو من العادات التي أخذت عن الكفار، وقد تقدم بيان أن دلالة الحديث على تحريم المشابهة ولو كانت غير مقصودة إذا عرف المتشـبه أنها من التشـبه المحرم.

          ومن نهيه صلى الله عليه وسلم المعلل بمخالفة الكفار ما جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسـول الله  صلى الله عليه وسلم  يقول: ((إذا لم يكن لأحدكم إلا ثوب واحد فليشد به حقوه( ) ولا يشتمل به اشتمال اليهود)) ( )، قال شيخ الإسلام _ رحمه الله _ بعد إيراده الحديث: "وإنما الغرض أنه قال: ((ولا يشتمل اشتمال اليهود))، فإن إضافة المنهي عنه إلى اليهود دليل على أن لهذه الإضافة تأثيراً في النهي"( )، وهذا يدل على وجوب مفارقة الكفار في الشكل الظاهر، حتى ولو كان المسلم متلبساً بالصلاة التي هي عمود الدين، والتي تشتمل على أعظم وجوه المخالفة للكفار من الشهادتين والإخلاص لله، وتجريد المتابعة للرسـول صلى الله عليه وسلم( ).

          هذا وإن من طريقة السـنة فيما كان مشروعاً في الإسلام وفي شرائع من كان قبلنا من يهود أو نصارى في جانب العبادات: الأمر به مع مخالفتهم في صفته وهيئته( )

ومن الأوامر التي جاءت في السـنة معللة بمخالفة أهل الكتاب _ في هيئة عباداتهم مع أن أصل العبادة مشروع عند المسـلمين _ قوله صلى الله عليه وسلم: ((فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر))( )، فهنا أمر منه صلى الله عليه وسلم بأن يكون صيامنا متميزاً عن صيام أهل الكتاب بأكلة السحر( )، قال شيخ الإسلام ابن تيمية _ رحمه الله _: "وهذا يدل على أن الفصل بين العبادتين أمر مقصود للشارع"( )، فيستحب لنا السحور لإيقاع هذا التميز والمخالفة كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث( )، "والمعنى أن السحور هو الفارق بين صيامنا وصيام أهل الكتاب لأن الله تعالى أباحه لنا إلى الصبح بعد ما كان حراماً علينا أيضاً في بدء الإسلام وحرمه عليهم بعد أن يناموا أو مطلقاً، ومخالفتنا إياهم تقع موقع الشكر لتلك النعمة"( )، فهذا يدل على أن أكلة السحر لم يفعلها أهل الكتاب لأن عدم فعلها من شرائعهم الصحيحة التي لم تحرف ( )، فيؤخذ منه تحريم التشـبه باليهود والنصارى حتى في شرائعهم التي ثبت أنه لم يدخلها التحريف _ وعلمنا عدم تحريفها بنص شرعي صحيح _؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يكون قد نهانا في هذا الحديث عن التشـبه بهم فيما هو من شرائعهم الصحيحة الثابتة، وذلك إنما يكون مقيداً بما إذا جاءت الشريعة الإسلامية مخالفة لهم. كل هذا فيما كان من شرائعهم الصحيحة الثابتة _ فقد أُمرنا بمخالفتهم _، فكيف إذا كان التشـبه بهم فيما لم يثبت أنه من شرائعهم بل ثبت قبحه بالشرع والعقل، كما يفعله بعض المسـلمين اليوم، والله المستعان.

          ومن الأحاديث التي جاء النهي فيه معللاً بالمخالفة ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال: "لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر لأن اليهود والنصارى يؤخرون"( )، والمقصود من الحديث: تحريم قصد التعبد بتأخير الإفطار مع ظنه بأن في ذلك أفضلية على التعجيل( )، فهو تشـبه بالمشـركين وبدعة في الدين، ولئن كان ظهور البدع مؤذن بانطفاء جذوة السـنن، فإن ظهور البدع التي يقصد بها التشـبه بالكفار قد يشعر باندراس الدين كاملاً، هذا هو مفهوم الحديث، قال شيخ الإسلام _ رحمه الله _: "وهذا نص في أن ظهور الدين حاصل بتعجيل الفطر هو لأجل مخالفة اليهود والنصارى وإذا كانت مخالفتهم سبباً لظهور الدين فإنما المقصود بإرسال الرسل أن يظهر دين الله على الدين كله فتكون نفس مخالفتهم من أكبر مقاصد البعثة"( )، فجعل مخالفتهم من أسباب ظهور الدين وعلاماته، فتكون موافقتهم من أسباب ضعف الدين في قلوب الناس، ومظهراً من مظاهر ضياعه ونسـيانه.

          ومن ذلك ما جاء عن ليلى امرأة بشير بن الخصاصية( ) قالت: أردت أن أصوم يومين مواصلة فمنعني بشير وقال: إن رسـول الله _ صلى الله عليه وسلم _  نهى عنه وقال: ((يفعل ذلك النصارى))( )، فعلل النهي عن الوصال بأن ذلك من فعل النصارى، وهنا يحتمل أن يكون المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم: ((يفعل ذلك النصارى)) أنه من شرائع النصارى الصحيحة، وشريعتنا جاءت بخلافه فوجب الاكتفاء بما أمرنا به دون زيادة أو نقص، ويحتمل أن يكون المقصود: أن ذلك من محدثات النصارى ورهبانيتهم التي ابتدعوها، وهو الأقرب؛ لأن أفعال النصارى جاءت في السـنة غالباً على صفة الذم؛ فإنهم أهل بدع وضلال، كقوله : ((والنصارى ضلاَّل)) ؛ ولذلك _ والله أعلم _ لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: إن ذلك من شرع عيسى، ولم ينسبه إلى شيء من كتبهم، فلم يقل: إنه مما جاء في التوراة أو الإنجيل، بل نسبه إلى النصارى الذين وصفهم في أحاديث أخرى بالضلال، وهنا رجح شيخ الإسلام ابن تيمية _ رحمه الله _ أن يكون المقصود من الحديث: أن ذلك من محدثات النصارى فقال: "فعلل النهي عن الوصال بأنه صوم  النصارى وهو كما قال رسـول الله صلى الله عليه وسلم ويشبه أن يكون من رهبانيتهم التي ابتدعوها" ، ومعلوم أنه لو كان مقصود الحديث: أن الوصال من شرائع النصارى، فإنه لا يخرج عن الأمر بمخالفتهم كما سبق بيانه قريباً.

          كما ورد أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصوم عاشوراء، فلما أخبر بأن اليهود يصومونه: عزم على صيام تاسـوعاء مع صيام عاشوراء فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: حين صام رسـول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه، قالوا: يا رسـول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال رسـول الله  صلى الله عليه وسلم: ((فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع))( ) قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسـول الله صلى الله عليه وسلم، قال شيخ الإسلام: "فتدبر، هذا يوم عاشوراء يوم فاضل يكفر صيامه سـنة ماضية صامه رسـول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه ورغب فيه ثم لما قيل له قبيل وفاته إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى أمر بمخالفتهم بضم يوم آخر إليه وعزم على ذلك"( )، وهذا يعني أن السـنة لم تكتفِ بالأمر بالمخالفة والنهي عن التشـبه المطلق بالكفار، بل جاءت بمخالفتهم حتى فيما هو من الشرع الحنيف الثابت أنه مما يحبه الله ويرضاه، كما هو شأن يوم عاشوراء فإنه قد ورد في فضل صيامه: أنه يكفر السـنة الماضية( )، ولكن مع ذلك لم يشفع هذا الفضل لصيامه مفرداً، لأن أهل الكتاب كانوا يصومونه على هذه الهيئة، فأمرنا بمخالفتهم بصيام يوم قبله حتى نخرج عن مشابهتهم، فلم نؤمر بصيامه مفرداً كما يفعل أهل الكتاب _ مع أن الفضل الوارد في صيامه لا في غيره _ منعاً من المشابهة لهم، ولم ينهنا رسـول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامه؛ حتى لا يفوتنا الأجر العظيم المترتب على صيامه، فكان من شأن الأمة الوسط أن تؤمر بصيامه مع صيام يوم قبله؛ لتتحقق المخالفة ويثبت الأجر.

          ومن ذلك أيضاً ما ورد عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "إن المشـركين كانوا لا يفيضون( ) حتى تطلع الشمس ويقولون: أَشرِقْ ثبير( ) كيما نغير( ) وأن النبي صلى الله عليه وسلم خالفهم ثم أفاض قبل أن تطلع الشمس"( )، وهنا خالفهم النبي صلى الله عليه وسلم مع أن في موافقتهم زيادة عبادة، فآثر عليه الصلاة والسلام مخالفتهم بالتبكير في الإفاضة من مزدلفة مع أن في مكثه بجمع زيادة في زمن العبادة، فعلم أن مخالفتهم أفضل ولو كان في موافقتهم زيادة طاعة لله عز وجل، ففضيلة المخالفة تقدم على فضيلة الطاعة في حالة تعارضهما( )

          ولم يقتصر نهيه صلى الله عليه وسلم عن التشـبه بالكفار في جانب العبادات فحسب، بل جاء الأمر بالمخالفة حتى في جانب العادات( )؛ لتكون المفارقة للكفار من سمات دينه صلى الله عليه وسلم، من ذلك على سبيل المثال ما يتعلق بحل الطعام أو حرمته، فعن قبيصة بن هلب( ) عن أبيه قال: سألت رسـول الله  صلى الله عليه وسلم عن طعام النصارى فقال: ((لا يتخلجن( ) في صدرك طعام ضارعت( ) فيه النصرانية))( )،  وفي رواية: ((شيء ضارعت فيه النصرانية))( ) فإن من بدع النصارى: أنهم لا يأكلون طعاماً وقع في قلوبهم شك في حله ترهباً منهم وابتداعاً، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن مشابهتهم في ذلك.

          ومن ذلك أيضاً ما ورد _ في وسـيلة الذبح _ عن رافع بن خديج( ) قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة فأصاب الناسَ جوعٌ... _ إلى أن قال: قال رسـول صلى الله عليه وسلم _: ((ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه ليس السـن والظفر وسأحدثكم عن ذلك أما السـن فعظم وأما الظفر( ) فمدى الحبشة))( )، فنهى عن الظفر لأنه من مدي الحبشة _ وكانوا كفاراً( ) _ مع أن هذه الأشياء تنهر الدم وتقوم بالمقصود من الذبح الذي هو التخلص من الدم الفاسد، ولكن لما كان في استعمال هذه الآلة من التشـبه بالكفار( ) _ مع عدم ضررها _ نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن استعمالها في الذبح.

ومما جاء فيه النهي عن التشـبه بهم في جانب العادات كذلك: ما ورد عن ابن عمر عن النبي  صلى الله عليه وسلم قال: ((خالفوا المشـركين وفروا اللحى وأحفوا الشوارب))( )، وفي رواية مسلم: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسـول الله  صلى الله عليه وسلم: ((جزوا الشوارب وأرخوا اللحى( ) خالفوا المجوس))( )، قال شيخ الإسلام: "فأمر بمخالفة المشـركين مطلقاً ثم قال: احفوا الشوارب واعفوا اللحى وهذه الجملة الثانية بدل من الأولى"( )، فإذا كانت مخالفة المشـركين واجبة على المسـلمين، وهي كما سبق من أسباب بقاء الدين ظاهراً، فإن كل فرد من أفراد النهي يأخذ حكم جنس التشـبه في التحريم _ والله أعلم _ فمن أراد أن يسلك الصراط المستقيم الذي لا عوج فيه فعليه أن يجانب هدي المشـركين في شأنه كله، بل في أدق شؤونه وأقربها إلى جانب العادات، وهذا معنى أمرِه صلى الله عليه وسلم لأمته بالمخالفة للكفار في هذا الحديث( )، ومما يؤخذ من الحديث: أن مخالفة الكفار علة قد تقاس عليها بعض الأفعال الحادثة، قال شيخ الإسلام _ في معرض شرحه للحديث _: "فعقَّب الأمر بالوصف المشتق المناسب وذلك دليل على أن مخالفة المجوس أمر مقصود للشارع، وهو العلة في هذا الحكم أو علة أخرى أو بعض علة، وإن كان الأظهر عند الإطلاق أنه علة تامة، ولهذا لما فهم السلف كراهة التشـبه بالمجوس في هذا وغيره كرهوا أشياء غير منصوصة بعينها عن النبي صلى الله عليه وسلم من هدى المجوس وقال المروذي( ) سألت أبا عبد الله _ يعني أحمد بن حنبل رحمه الله _   عن حلق القفا( ) فقال: هو من فعل المجوس ومن تشـبه بقوم فهو منهم"( )، فقد فهم السلف من هذه النصوص: تحريم التشـبه بالكفار بأي حال ولو لم يرد في تعيـين حكم التشـبه بهم في ذلك الفعل المعين نص خاص؛ لأنه قد ثبت النهي عن مشابهتهم _ عموماًَ _ بأدلة شرعية مستفيضة.

          ومن ذلك أيضاً ما جاء عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: إن رسـول الله  صلى الله عليه وسلم قال: ((إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم))( )، قال صاحب كتاب عون المعبود( ): " والحديث يدل على أن العلة في شرعية الخضاب هي مخالفة أهل الكتاب وبهذا يتأكد استحباب الخضاب"( )، وكأني بشيخ الإسلام يفصل القول في كلام جميل له فيقول: "في هذا الحديث رتب الحكم على الوصف بحرف الفاء فيدل هذا الترتيب على أنه علة له من غير وجه حيث قال: ((إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم)) فإنه يقتضي أن علة الأمر بهذه المخالفة: كونهم لا  يصبغون فالتقدير: اصبغوا لأنهم لا يصبغون، وإذا كان علة الأمر بالفعل عدم فعلهم له دل على أن قصد المخالفة لهم ثابت بالشرع"( ). ولو تأملنا هذا الحديث لوجدنا أن الرسـول صلى الله عليه وسلم أمرنا بمخالفتهم فيما يعتبر تركه مشابهة لهم، قال المناوي: "وإذا نهى عن التشـبه بهم في بقاء بياض الشيب الذي ليس من فعلنا فلأن ينهى عن إحداث التشـبه بهم أولى"( )، أي أن النهي عن ما يكون تكلُّف فِعْلِه: تشـبهاً، أولى من النهي عن ما يكون تركه على ما هو عليه تشـبهاً بهم، وقد نهى عن الفعل الأخير، فيكون قد نهى عن المرجوح فالنهي عن الراجح _ وهو تكلف التشـبه بهم _ أولى، وهو المطلوب في الشريعة الإسلامية.

والأمر بالصبغ في الحديث إنما هو فرد من أفراد جنس المخالفة وليس خاصاً بالصبغ فحسب، بل هو أمر بالمخالفة في هذا الفعل؛ لأن طريقة الشريعة هي مخالفة المشـركين بكل طريق، وهنا يسـوق شيخ الإسلام مثالاً فيقول: "فإذا رؤي رجل هم بزنا فقيل له: اتق الله كان أمراً له بعموم التقوى داخلاً فيه الأمر بخصوص ترك ذلك الزنا؛ لأن سبب اللفظ العام لا بد أن يدخل فيه كذلك إذا قيل: إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم، كان أمراً بعموم المخالفة داخلاً فيه المخالفة بصبغ اللحية لأنه سبب اللفظ العام"( )، ولذا يقرر الأصوليون أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب( )، فقد يكون الحكم مسـوقاً في قصة حديث من الأحاديث النبوية، فيكون _ الحكم _ شاملاً لتلك الحادثة، ولمثيلاتها إذا كانت تدخل في صورة تلك الحادثة وتندرج في عمومها. 

ومن ذلك أيضاً ما جاء عن الشريد بن سـويد( ) قال: مر بي رسـول الله  صلى الله عليه وسلم وأنا جالس هكذا _ وقد وضعت يدي اليسرى خلف ظهري واتكأت على ألية( ) يدي _ فقال: ((أتقعد قعدة المغضوب عليهم))( )، والمراد بالمغضوب عليهم: اليهود( ) كما تقدم، قال شيخ الإسلام: "وهذه مبالغة في مجانبة هديهم"( )، وفي هذا الحديث نجد النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن مجرد جلسة تشـبه طريقة جلوسهم، هذا مع أنه يحتمل أن الصحابي لم يكن يعلم أن هذه طريقتهم في الجلوس، كما أنه لم يكن يقصد التشـبه بهم بلا شك، فهذا موقفه صلى الله عليه وسلم ممن هذا حاله، فما هو عسى أن يكون موقفه إذا رأى من يتشـبه بهم وهو يقصد ذلك ويتكلفه( ).

ومن ذلك أيضاًً ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن رسـول الله  صلى الله عليه وسلم كان يسدل( ) شعره وكان المشركون يفرقون( ) رؤوسهم وكان أهل الكتاب يسدلون رؤوسهم، وكان رسـول الله صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء ثم فرق رسـول الله صلى الله عليه وسلم  رأسه"( )، وهذا يدل على أن النبي  صلى الله عليه وسلم كان يقدم مخالفة المشـركين على مخالفة أهل الكتاب فيما لا يمكن العمل فيه إلا بأحد أمرين: إما موافقة المشـركين فيكون بذلك مخالفاً لأهل الكتاب، وإما موافقة أهل الكتاب فيكون بذلك قد خالف المشـركين، فكان يختار في ذلك مخالفة المشـركين ولو كان في ذلك موافقة لأهل الكتاب؛ لأنه وإن كان أهل الكتاب على ضلال، فإن المشـركين أبعد عن الحق وأضل، قال ابن حجر _ رحمه الله _: "والأقرب إلى الصواب: أن الحالة التي تدور بين الأمرين لا ثالث لهما إذا لم ينـزل على النبي صلى الله عليه وسلم شيء كان يعمل فيه بموافقة أهل الكتاب؛ لأنهم أصحاب شرع بخلاف عبدة الأوثان فإنهم ليسـوا على شريعة فلما أسلم المشركون انحصرت المخالفة في أهل الكتاب فأمر بمخالفتهم"( )، فكان يعمل _ عليه الصلاة والسلام _ بمخالفة من هو أبعد الكفار عن الحق لأنه بين أمرين لا ثالث لهما: إما أن يوافق أهل الكتاب أو أهل الأوثان فاختار موافقة أهل الكتاب لأنهم أقرب إلى الحق من عبدة الأوثان، وهنا نجد النبي صلى الله عليه وسلم مع هيبته وجلالته وقدره يهتم بأمر قد لا يرعيه كثير من الناس انـتباهاً، ألا وهو مخالفة الكفار في سدل شعره أو فرقه، ثم يحرص على أن يخالف أكثر الكفار بعداً عن الحق،  فيسدل تارة عندما يكون الفرق شعار المشـركين الذين هم أبعد عن الحق بلا شك من أهل الكتاب، ثم يفرق تارة أخرى عندما ينقاد المشركون إلى الإسلام مذعنين، وعندما لا يتبقى سـوى مخالفة أهل الكتاب الذين قد وافقهم من قبل وهذا يدل على مدى حرصه الشديد صلى الله عليه وسلم على مخالفة الكفار.

ومما جاء من نهيه صلى الله عليه وسلم عن التشـبه بهم في جانب التعامل مع الآخرين معللاً بالمخالفة: ما ورد عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسـول الله صلى الله عليه وسلم: ((تسليم  الرجل بأصبع واحدة يشير بـها فعل اليهود)) ( )، قال البيهقي( ) _ رحمه الله _: "ويحتمل والله أعلم أن يكون المراد به كراهية الاقتصار على الإشارة في التسليم دون التلفظ بكلمة التسليم"( )، فهنا لم يرد النهي الصريح في الحديث، ولكن قد تكون الطريقة الواردة أبلغ من النهي الصريح، حيث إنه بين في الحديث أن التسليم بالأصبع الواحدة يشير بها من فعل اليهود، واكتفى بذلك، والمراد من الحديث بلا شك هو: النهي عن الفعل المذكور( ) لعلة كونه من فعل اليهود، وكأنه يقول: مادام أنه من فعل اليهود فيجب عليكم ترك هذه الطريقة في التسليم ؛ لوجوب مخالفتهم في شأنهم كله.

          كما نهى رسـول الله صلى الله عليه وسلم عن التشـبه بهم في جانب العادات الشخصية معلِلاً ذلك بالمخالفة: فقد ورد عن حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت النبي  صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تلبسـوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها؛ فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة))( )، وهذا تعليل صريح من النبي صلى الله عليه وسلم بأن سبب النهي هو أن هذه الأشياء إنما يستخدمها الكفار في الدنيا. ومن كمال هذا الدين أن جعل للمسلم: البديل الأخروي، فله أن يستمتع بهذه الأشياء في الآخرة( )، واستمتاعه بها هنالك إنما هو نتيجة اجتنابه لها في الدنيا، والعلة الأساسـية المنصوص عليها في الحديث: أنها من خصائص الكفار في الدنيـا، فمن ترك التشـبه بهم في الدنيا عوضه الله عن ذلك بالمتعة الحقيقية في الآخرة.

          3- وأما الأحاديث التي جاء فيها نسبة المتشـبه بالكفار إلى الجاهلية _ وفي ذلك وصف للمتشـبه بهم بالجهل المستلزم لعدم العلم ونقص الإيمان وغير ذلك من الأمور التي كان عليها أهل الجاهلية( ) _:-

فمن ذلك ما ورد عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: ((أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سـنة الجاهلية( )، ومطَّلِبٌ دم امرئ بغـير حق ليهريق دمه))( )، قال شيخ الإسلام _ رحمه الله _: "الابتغاء هو الطلب والإرادة، فكل من أراد في الإسلام أن يعمل بشيء من سـنن الجاهلية: دخل في هذا الحديث، والسـنة الجاهلية: كل عادة كانوا عليها فإن السـنة هي العادة"( )، فمن أبغض الناس إلى الله: المتشـبه بالكفار، لأنه طلبَ العودةَ إلى الجهل والظلم الذي كان عليه أهل الجاهلية، فاتصف بالجهل الذي كانوا عليه، فاستحق أن يكون من أبغض الناس إلى الله، فتأمل كيف وصف _ رسـول الله صلى الله عليه وسلم _ المتشـبه بالكفار بالجهل الذي هو ضد العلم، ثم ترتب على ذلك بغض الله له، فصار من أبغض الناس له.

          ومن ذلك أيضاً ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه ولا تكنوا))( )، قال المناوي _ رحمه الله _: "إذا رأيتم الرجل يتعزى أي: ينـتسب بعزاء الجاهلية، أي: بنسبها والانتماء إليها، يقال: اعتزى إليه أي انتسب وانتمى، وتعزى كذلك، فأعضوه، أي: اشتموه بهن أبيه، أي: قولوا له: اعضض بهن أبيك، أو بذكره، وصرحوا بلفظ الذكر ولا تكنوا عنه بالهن تنكيراً وزجراً"( )، وهذه الطريقة من الشتم _ في مقابل الإساءة _ لم نعهدها من الشارع صلى الله عليه وسلم في كثير من المواضع وإنما جاءت هنا بهذا الأسلوب؛ لأن المسـيء في هذه الحالة يجمع بين أمور، منها: أنه تبجح بذكر مآثر الجاهلية، وأنه استعلى على غيره من المسـلمين، والأمر الأعظم: أنه تشـبه بأهل الجاهلية وذلك بافتخاره بهم أمام المسـلمين، فهو لم يتشـبه بهم فحسب، بل استعلى بهم، وفي ذلك محبة للكفار وتفضيل لهم على إخوانه المسـلمين.

          ومن ذلك ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسـول الله  صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل قد أذهب عنكم عُِـبِّيـَّة( )  الجاهلية، وفخرها بالآباء مؤمن تقي، وفاجر شقي، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب، ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونُنَّ أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النـتن))( )، فهنا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشـبه بالكفار الذين في زمن الجاهلية، حيث كانوا يتفاخرون بالآباء والأجداد، ووصف هذه الصفة الذميمة بأنها من صفات أهل الجاهلية، ونسبها إلى الجهل، فمن تشـبه بهم في هذه الصفة أو في غيرها من صفات أهل الجاهلية فقد وقع في المحظور الذي هو التشـبه بالكفار، مع اتصافه بصفتهم التي هي الجهل. ثم بيَّن رسـول الله صلى الله عليه وسلم المقياس الصحيح للتفاضل بين الناس، ألا وهو التقوى.

          من ذلك ما ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية))( )، وهذا الحديث فيه براءة ممن فعل شيئاً من هذه الأفعال، قال ابن حجر _ رحمه الله _: "كأنه توعده بأن لا يدخله في شفاعته أصلاً"( )، وهذا وإن كان ليس إخراجاً من الدين بالكلية ولكنه خطير، وقيل المقصود: ليس على ديننا الكامل( )، ففي هذا الحديث وصَـف التشـبه بالكفار _ في النياحة على الميت _: بأنه من أفعال الجاهلية، وتبرأ من فاعله، فجمع بين البراءة من الفاعل وذمِّ الفعل بأنه من أفعال الجاهلية.

          ومن ذلك ما جاء عن أبي مالك الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: ((أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن؛ الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة))( )، فهذه الصفات لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: إنها من صفات الكفر، وكان يكفي ذلك لبيان أنها من التشـبه بالكفار، المحرم في الشريعة الإسلامية، ولكنه نسبها إلى الجاهلية التي عند الكفار قبل الإسلام، ولم ينسب هذه الأفعال إلى أوصاف محرمة كالكفر أو الفسق بل إلى أشخاص لهم صفة الكفر والجهل، وفي ذلك إضافة وصف المتلبس بها( )  بالجهل الذي هو ضد العلم وهذا الوصف مما يزجر عن التشـبه بالكفار فكل من اتصف بشيء من صفات أهل الجاهلية فله نصيـبه من ذلك الجهل الذي اتصفوا به، بقدر الصفات التي شاركهم فيها.

          4- وأما ما ورد من الأحاديث وفيه الترهيب من التشـبه بهم؛ لأن ذلك موجب لكون حكم المتشـبه بهم كحكمهم، مما يقتضي خروجه عن دائرة المسـلمين: فمن ذلك ما ورد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: ((بعثت بين يدي الساعة بالسـيف حتى يعبد الله وحده ولا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي( ) وجعل الذلة والصغار( ) على من خالف أمري، ومن تشـبه( ) بقوم فهو منهم( )))( )، وهذا أشهر حديث في باب التشـبه بالكفار، قال شيخ الإسلام _ رحمه الله _: "وهذا الحديث أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشـبه بهم وإن كان ظاهره يقتضي: كفر المتشـبه بهم، كما في قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)( )، فقد يحمل هذا على التشـبه المطلق( ) فإنه يوجب الكفر ويقتضي تحريم أبعاض ذلك وقد يحمل على أنه صار منهم في القدر المشترك الذي شابههم فيه فإن كان كفراً أو معصيةً أو شعاراً للكفر أو للمعصية كان حكمه كذلك"( )، وعلى كلا الاحتمالين فإن التشـبه بهم _ تشـبهاً  كاملاً أو تشـبهاً في بعض أفعالهم _ منهي عنه بنص الحديث، فهو إما معصية أو شعاراً للكفر أو يؤدي إلى معصية أو كفر. ولو تأملنا الحديث لوجدناه قد سـيق في معرض ذكر من خالف أمره صلى الله عليه وسلم، ووصْفِه له بالذلة والصغار، فجعل أمره صلى الله عليه وسلم في مقابل التشـبه بغيره _ وهُم جميع أصناف الكفار _ وفي هذا يبين لنا رسـول الله صلى الله عليه وسلم: أن شأنه مباين لشأن الكفار كل المباينة، فمن خالف أمره صلى الله عليه وسلم فهو متشـبه بغيره _ وهم الكفار _ ومن تشـبه بهم فهو منهم، وليس منه صلى الله عليه وسلم، وليس فعل التشـبه من دينه صلى الله عليه وسلم، فإذا كان التشـبه بالكفار مخالفة له صلى الله عليه وسلم، فإن الاستقامة على دينه صلى الله عليه وسلم لا تكون إلا بمخالفة الكفار، وبهذا تكون مخالفتهم من مقاصد دينه عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام.

5- وأما ما ورد من الأحاديث مما فيه الترهيب من التشـبه بهم حتى لا نشاركهم في العقوبات التي حلت بهم، فمن تلك العقوبات .......................................

 (لتكملة المبحث: راجع النسخة المطبوعة).

 المبحث الثالث: موقف الصحابة من التشـبه بالكفار:-

لقد جاء موقف الصحابة من التشـبه مشابهاً لموقف السنة، فإن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا ليخالفوا القرآن والسنة، وإنما نورد موقف الصحابة هنا لكونه إنما يجسد موقف القرآن والسنة، فالصحابة هم أقرب الناس إلى مقام الوحي وأعظم الناس تمسكاً بالكتاب وتطبيقاً للسنة، ولذلك فإننا نجد موقفهم لا يختلف عن موقف القرآن والسنة، وإنما هو تطبيق عملي لما جاء فيهما من أحكام بهذا الشأن، فالاستدلال بموقف الصحابة هنا يكون بطريقتين، كما قال شيخ الإسلام _ رحمه الله _: "وهذا الباب فيه كثرة عن الصحابة، وهذه القضايا التي ذكرناها بعضها في مظنة الاشتهار وما علمنا أحداً خالف ما ذكرناه عن  الصحابة رضي الله عنهم، من كراهة التشـبه بالكفار والأعاجم في الجملة، كما أنهم مجمعون على اتباع الكتاب والسنة فعلم اتفاقـهم على كراهة  التشـبه"( )، فالاستدلال بموقف الصحابة يكون بالمسائل التي تكلموا فيها بأعيانها، وأنكروا فيها على من تشـبه بالكفار، كما يكون بمعرفة أنهم أعظم الناس تمسكاً بالكتاب وتطبيقاً للسنة فهم مجمعون على ذلك، فلا يعقل أن يكون للسنة موقفاً معيناً من شيء معين، ويكون للصحابة موقفاً مغايراً ومبايناً لها، لأنهم أحرص الناس على تطبيق ما أمروا به في القرآن والسنة.

فأذكر هنا بعض المواقف للصحابة الأجلاء من أجل أن يتبين موقفهم الموافق للسنة، ومن أجل أن نعرف كيف فهم الصحابة ما جاء في القرآن والسنة في مسألة التشـبه وكيف قاموا بتطبيق مافهموه:-

فعن قيس بن أبي حازم( ) قال: دخل أبو بكر على امرأة من أحمس( )، يقال لها زينب، فرآهـا لا تـكلم فقـال: ((ما لها لا تكلم؟)) قالوا: حـجت مصمتة ، قال لها: ((تكلمي؛ فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية)) ، قال شيخ الإسلام: "فأخبر أبو بكر أن الصمت المطلق لا يحل، وعقب ذلك بقوله: هذا من عمل الجاهلية، قاصداً بذلك عيب هذا العمل وذمه، وتعقيبُ الحكم بالوصف دليل على أن الوصف علة، فدل على أن كونه من عمل الجاهلية وصف يوجب النهي عنه والمنع منه" ، ففي هذا الموقف للصديق رضي الله عنه: أنكر على هذه المرأة هذا الفعل؛ لمجرد معرفته أنه من عمل أهل الجاهلية، ولم يستدل على حرمة هذا الفعل بنص عن رسـول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يُرو عن المرأة أنها سألته عن الدليل على تحريمه لذلك، مما يشعر بأن الفعل لو كان من خصائص أهل الجاهلية: فهو مما يُنهى عنه؛ لوجوب مفارقة أعمال أهل الجاهلية.

ومن ذلك ما جاء في سـنن البيهقي: عن عبد الرحمن بن غَـنْم( ) قال: كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح أهل الشام: "بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين، من نصارى مدينة كذا وكذا:.... _ إلى أن قال _: ولا نتشـبه بهم في شيء من لباسهم من قلنسـوة( ) ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا نتكلم بكلامهم ولا نتكنى بكناهم..."، إلى آخر ما ورد في العهد ، ففي هذا الأثر نجد أن عمر _ رضي الله عنه _ قد أمر كاتبه أن يشرط عليهم بلسانهم أن يتركوا زي المسـلمين وأن يلزموا زيّ الصغار والمهانة، الذي لا يرتضيه الصحابة _ بلا شك _ لأحد من المسـلمين، فأمره إياهم بأن لا يتشـبهوا بأحد من المسـلمين في لباسهم وهيئتهم يدل على أن التشـبه بالمشـركين إذا وقع من المسـلمين فهو مذموم عندهم، وإلا فكيف يجوز أن يُنهى المشركون عن ذلك ثم يفعله المسلمون, سـيكون ذلك من العبث المحض، وكما هو معلوم أن قصد عمر بذلك هو: المفارقة بينهم وبين المسـلمين، فكيف يتشـبه بهم أهل الإسلام، قال شيخ الإسلام: "فاتفق عمر والمسلمون معه، ومن وفقه الله تعالى من ولاة الأمور على منعهم من أن يظهروا في دار الإسلام شيئاً مما يختصون به، مبالغة في أن لا يظهروا في دار الإسلام خصائص المشـركين، فكيف إذا عملها المسلمون وأظهروها" .

          ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي عثمان النهدي( ) قال: كتب إلينا عمر ونحن بأذربيجان: ((يا عتبة بن فرقد( ) إنه ليس من كدك ولا من كد  أبيك ولا من كد أمك، فأشبع المسـلمين في رحالهم مما تشبع منه في رحلك، وإياكم والتنعم وزي  أهل الشـرك ولبوس الحرير...)) ، وهذا الأمر من عمر رضي الله عنه ينص فيه على وجوب ترك زي أهل الشـرك، وهو بذلك يقف الموقف الذي يوافق به السـنة بالنهي عن التشـبه بالمشـركين ليُعلم أن التحذير من التشـبه كما هو موقف السـنة فهو كذلك موقف الصحابة رضي الله عنهم.

          ومن ذلك ما ورد في مسـند أحمد: أن عمر بن الخطاب _ رضي الله عنه _ قال لكعب أين ترى أن أصلي؟ فقال: إن أخذت عني صليت خلف الصخرة؛ فكانت القدس كلها بين يديك، فقال عمر _ رضي الله عنه _: ضاهيت  اليهودية، لا ولكن أصلي حيث صلى رسـول الله _ صلى الله عليه وسلم _ فتقدم إلى القبلة فصلى. قال شيخ الإسلام رحمه الله: "فعمر رضي الله عنه عاب على كعب الأحبار مضاهاة اليهودية _ أي مشابهتها في مجرد استقبال الصخرة _؛ لما فيه من مشابهة من يعتقدها قبلة باقية، وإن كان المسلم لا يقصد أن يصلي إليها" ، فهنا جعل الفاروق رضي الله عنه مشابهة اليهودية من الأمور التي يجب أن تجتنب ويحتاط لها، ومع أن عادته رضي الله عنه: اتباع مشورة الصحابة والتابعين، ولكنه ترك المشورة هنا، بسبب أن في ذلك اتباعاً لما كان يفعله اليهود.

          ومن ذلك ما ورد عن علي رضي الله عنه أنه خرج فرأى قوماً يصلون قد سدلوا( ) ثيابهم فقال: ((كأنهم اليهود خرجوا من فُهُرِهم( ))) ، وهذا إنكار منه رضي الله عن لهذه الهيئة من اللباس في الصلاة، وإن كانت الصلاة هي نفسها قد اشتملت على ما يباين بين المسـلمين واليهود ، بل لا بد من مخالفتهم من كل وجه ظاهراً وباطناً.

          ومن ذلك ما ورد عن عبد الله بن مسعود _ رضي الله عنه _ أنه قال: ((إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد فقست قلوبهم، اخترعوا كتاباً من عند أنفسهم، استهوته قلوبهم واستحلته ألسـنـتهم وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم، حتى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون فقال : اعرضوا هذا الكتاب على بني إسرائيل، فإن تابعوكم عليه فاتركوهم وإن خالفوكم فاقتلوهم، قال: لا بل ابعثوا إلى فلان رجل من علمائهم فإن تابعكم لم يختلف عليكم أحد وإن خالفكم فاقتلوه، فلن يختلف عليكم أحد بعده فأرسَلوا إليه، فأخذ ورقة فكتب فيها كتاب الله، ثم أدخلها في قرن، ثم علقها في عنقه، ثم لبس عليها الثياب، ثم أتاهم فعرضوا عليه الكتاب، فقالوا: أتؤمن بهذا ؟ فأشار إلى صدره يعني الكتاب الذي في القرن، فقال: آمنت بهذا وما لي لا أومن بهذا، فخلوا سبيله، قال: وكان له أصحاب يغشَوْنه، فلما حضرته الوفاة أتوه فلما نزعوا ثيابه: وجدوا القرن في جوفه الكتاب فقالوا: ألا ترون إلى قوله: آمنت بهذا وما لي لا أومن بهذا فإنما عنى بهذا هذا الكتاب الذي في القرن، قال: فاختلفت بنو إسرائيل على بضع وسبعين فرقة خير مِللهم أصحاب ذي القرن)) ، وإن كان هذا الموقف مما قد يكون من الإسرائيليات، ولكن الذي يهمنا أن الصحابي أورده مورد الذم للتشـبه بهم والوقوع فيما وقعوا فيه، فقد ساقه من باب التحذير، فنعلم أن موقفه هو وجوب المخالفة للكفار، فهذا تحذير منه _ رضي الله عنه _ من أن نسلك ما سلكه كفار بني إسرائيل من اتباع الشهوات وقسـوة القلب بعد طول الأمد.

          ومن  ذلك ما ورد في صحيح مسلم أن أبا موسى الأشعري _ رضي الله عنه _ بعث إلى قراء أهل البصرة، فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرؤوا القرآن، فقال: ((أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم، فاتلوه ولا يطولن عليكم الأمد فتقسـو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم...)) إلى نهاية الأثر( )، فهنا نجد الصحابي _ رضي الله عنه _ أراد أن يعظ هؤلاء القراء، فخوفهم من قسـوة القلوب التي وقع فيها الذين من قبلنا من الأمم، وهذا يدل على أن ترك ما كان عليه الكفار: من المسلَّمات عند أبي موسى _ رضي الله عنه _ وعند من سمعه من هؤلاء الفقهاء، فكان بإمكانه _ رضي الله عنه _ أن يكتفي بالتحذير من قسـوة القلب، ولكنه حذر من شيء آخر في هذه المعصية، ألا وهو التشـبه بالكفار، فإن من قسى قلبه تشـبه بأهل الكتاب الذين قست قلوبهم.

          ومن ذلك ما ورد عن معاوية _ رضي الله عنه _ قال: ((إن تسـوية القبور من السـنة( ) وقد رفعت اليهود والنصارى فلا تشـبهوا بهما)) ، فحذر _ رضي الله عنه _ من مخالفة السـنة، ومع ذلك فقد زاد في التنفير من رفع القبور بذكر محذور آخر يعتبر _ كذلك _ منفراً من رفع القبور عن الأرض، ألا وهو التشـبه باليهود والنصارى. وقد حذر من التشـبه بهم قبل أن يقع من المسـلمين، مما يُظهر خوف الصحابة _ رضي الله عنهم _ على الأمة من الوقوع في التشـبه؛ فإنهم لم يكتفوا بالنهي عنه حال وقوعه، بل حذروا منه قبل أن يقع.

          ومن ذلك ما ورد عن عبد الله بن عمرو بن العاص _ رضي الله عنه _ قال: ((من بنى ببلاد الأعاجم وصنع نيروزهم ومهرجانهم  وتشـبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة))( )، وقد أورد شيخ الإسلام هذا الأثر في شرح حديث من تشـبه بقوم فهو منهم، قال في شرح الحديث والأثر: "وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشـبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشـبه بهم كما في قوله: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)( )، وهو نظير ما سـنذكره عن عبد الله بن عمرو أنه قال: ((من بنى بأرض المشـركين وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشـبه بهم حتى يموت حشر معهم يوم القيامة))، فقد يحمل هذا على التشـبه المطلق؛ فإنه يوجب الكفر ويقتضي تحريم أبعاض ذلك وقد يحمل على أنه منهم في القدر المشترك الذي شابههم فيه، فإن كان كفراً أو معصية أو شعاراً للكفر أو للمعصية: كان حكمه كذلك، وبكل حال فهو يقتضي تحريم التشـبه بهم بعلة كونه تشـبهاً" ، وعليه فإن من تشـبه بقوم تشـبهاً تاماً بحيث بنى ببلادهم وساكنهم وصنع ما يصنعونه في أعيادهم  فإنه هو المقصود الأكبر بهذا الحديث، وهو الذي عناه عبد الله بن عمرو _ رضي الله عنه _، وعلى هذا فيكون التشـبه بهم لا يخرج عن كونه معصية على أقل الأحوال، وقد يصل إلى درجة الكفر، ولعل المعنى الأخير هو الذي عناه عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.

ومن ذلك أيضاً .................................................................

(لتكملة المبحث: راجع النسخة المطبوعة).

 الفصل الثالث أثر التشـبه بالكفار على العقيدة 

تمهيد:-

إن نصوص الشرع جاءت بالأوامر لحكمة بالغة، ولم ينهانا الله جل جلاله ولا رسـوله صلى الله عليه وسلم عن فعل إلا لما يترتب عليه  من الآثار الضارة في عاجل الأمر أو آجله، وهكذا جاء النهي عن التشـبه بالكفار في الكتاب والسـنة، وعلمنا موقف الصحابة من التشـبه فقد كانوا ينهون عنه وينأون عنه كما سبق بيانه، فما هي الآثار المترتبة على التشـبه بالكفار، والتي استطعنا أن نقف عليها لنفهم مقصود الشارع( ).

فمن تلك الآثار ما نص عليه الشرع من نتائج أفعال المتشـبهين على أنفسهم، وذلك له علاقة بالآثار النفسـية أو الاجتماعية أو السـياسـية مما له شواهده في العصر الحديث، الذي ظهرت فيه من آثار التشـبه ما لم يظهر من قبل؛ وما ذلك إلا لكثرة وقوع التشـبه في هذا العصر.

          إن سـياق هذه الآثار وبيانها وتفصيلها إنما هو لبيان حكمة الباري جل وعلا في نهيه عن التشـبه بالكفار، مما له أكبر الأثر على نفس المتشـبِّه بهم، فيكون منفراً له عن ذلك رادعاً له عن الوقوع في هذا المحظور فإن المتشـبه بهم قد يتهاون بالمحذور الذي يرتكبه؛ بسبب قلة الوازع الديني أو ضعف قاعدة التسليم للنص عنده، ولكن ذكر الأثر السـيء المترتب على الفعل قد يزيد أو ينشىء النفور من ذلك الفعل كما أن بيان آثار هذه المخالفة على العقيدة وعلى الدين عموماً سـيربط بين هذه المخالفة ومخالفات اعتقادية جليلة أو مخالفات عملية خطيرة قد تقدح في مسلمات دينية _ كالولاء والبراء _ لا سبيل للجدل حولها، مما يضطر المسلم للتسليم بخطورة هذا الفعل ومن ثم الحذر منه، مع الأخذ في الاعتبار أنه كما أن للتشـبه بالكفار أثره الدنيوي المحسـوس فإن له من الآثار على تدين المسلم بالإسلام الشيء الذي لا يستهان به، بل كل فعل للتشـبه له أثره على الدين قبل أن يكون له أثر على المسـلمين في دنياهم،  وسأعرض فيما يلي لبعض الأمثلة للآثار المترتبة على التشـبه على هذا الأساس، وبالله التوفيق.

 المبحث الأول: أثر التشـبه بالكافرين في عقائدهم:

لقد جاءت السـنة بإلحاق من تشـبه بقوم بأولئك القوم وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: ((ومن تشـبه بقوم فهو منهم))( ) قال شيخ الإسلام _ رحمه الله _: "فقد يحمل هذا على التشـبه المطلق فإنه يوجب الكفر ويقتضي تحريم أبعاض ذلك وقد يحمل على أنه صار منهم في القدر المشترك الذي شابههم فيه فإن كان كفراً أو معصية أو شعاراً للكفر أو للمعصية كان حكمه كذلك"( )، وهنا لا نجد شيخ الإسلام يفرق بين ما هو تشـبه اعتقادي أو تشـبه عملي، وعلى هذا فإن ما كان من اعتقادات الكفار كفراً في ذاته كان التشـبه بهم فيه كفر كمن تشـبه بهم في معتقد فيه تكذيب للوحي مثلاً، كمن يرى رأيهم في أن الوحي ظاهرة تخيلية. وأما ما كان من اعتقاداتهم ولم يكن كفراً في ذاته كمن تشـبه بهم في اعتقاده بأن لمولد النبي صلى الله عليه وسلم فضلاً خاصاً _ فإن ذلك مأخوذ من عقيدة النصارى بأن لمولد عيسى عليه الصلاة والسلام فضلاً خاصاً  _ فإن هذا النوع من الاعتقاد لا يعد كفراً مخرجاً من الملة، فلا يكون من تشـبه بالكفار في عقائدهم كافراً على الإطلاق، فيحتاج هذا إلى ضابط، ولم أجد في نصوص الشرع ضابط التشـبه المكفر لمجرد التشـبه؛ فلزم أن نرد هذا النص  إلى النصوص الأخرى التي نعلم بها كفْر من كفَر، وعلى هذا فلا يكون كافراً حتى يتشـبه بهم في ناقض من نواقض الإسلام ، أو تشبه بهم تشبهاً كلياً، في جميع شؤونهم.

ومن التشـبه بهم في عقائدهم مما هو كفر:-

 كمن اعتقد أن النبوة لم تنقطع بعد كما تعتقده بعض الفرق كالقاديانية  وغيرها، وهو نفس اعتقاد اليهود بأن المسـيح لم يرسل بعد، أو اعتقد أن الله عز وجل لا داخل الكون ولا خارجه، وهو اعتقاد أهل وحدة الوجود( ) تشـبهاً منهم بمتصوفة الهند، أو اعتقد أن أحداً يمكنه التصرف مع الله في خلقه ولو بشيء يسـير، كما يعتقده القبوريون في أوليائهم وهو اعتقاد مشركي العرب حيث كانوا يرون أن لآلهـتهم تصرفاً مع الله فهي _ في اعتقادهم _ تمرض أو تشفي أو تحمي أو تضر أو تنفع، أو اعتقد أن هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه كالذين يفضلون الأحكام الوضعية على حكم الإسلام، ويعتقدون صحة الحكم بالقوانين المستوردة من عندهم ويستحلون الحكم بها، فهذا يكفر ولو لم يحكم بها( )، كمن يعتقد ما يعتقده الكفار: أن إنفاذ حكم الله بقطع يد السارق، أو رجم الزاني  المحصن لا يناسب العصر الحاضر: فإنه يكفر.

ولا نقول إنه كفر لأنه تشـبه بهم في جانب العقيدة، بل لأمر آخر وهو أن فعله اشتمل على جحود ما أثبته الله تعالى؛ فإن من التشـبه بالكافرين في عقائدهم ما لا يصل إلى درجة الكفر.

ومن التشـبه بهم في عقائدهم مما لا يصل إلى درجة الكفر:-

كمن اعتقد جواز الاحتفال بمولد النبي ، فيكون من تشـبه بهم فيما هو من عقائدهم التي ليست كفراً في ذاتها: ينطبق عليه كلام شيخ الإسلام _ رحمه الله _: "وقد يحمل على أنه صار منهم في القدر المشترك الذي شابههم فيه فإن كان كفراً أو معصية أو شعاراً للكفر أو للمعصية كان حكمه كذلك"( )، والله أعلم.

وأما خروج المسلم عن الدين بسبب التشبه بالكافرين فهو أجل آثار التشبه على الإطلاق؛ فليس بعد الكفر والخروج من الملة ذنب، ولكنه وإن كان جلياً في حال التشـبه بهم في ما هو كفر من عقائدهم أو عباداتهم، فإنه قد يحصل في التشـبه بهم فيما هو دون ذلك من خصائص الكفار على سبيل المآل؛ فإن التشبه قد يؤول إلى الكفر، وذلك إذا لم يتم التوقف فيه عند حد معين؛ فإن كل أمر يتشـبه المسلم بهم فيه يترك مكانه سـنة متبعة من سـنن الإسلام، وفي النهاية قد يؤول الأمر إلى استبدال الكفر بالإيمان.

ولذلك لما دَأَبَ بعض المنتسبين إلى الإسلام على التشـبه بالكفار من اليهود والنصارى، ومن ورائهم الغوغاء من الناس أتباع كل ناعق: انسلوا من دين الله (الحنيفية السمحة) شيئاً فشيئاً، فإنه لما قام هؤلاء بمداهنة الكفار، وتركوا ما أوجب الله عليهم من البراءة من أعداء الله، وكراهيتهم، فتخلوا عن هذه الشعيرة المهمة من شعائر الإيمان، وتشـبهوا بالكفار في كل صغيرة وكبيرة: آل بهم الأمر إلى تصحيح أديان هؤلاء الكفار، حيث نبتت نابتة في عصرنا الحديث تدعو إلى تصحيح أديان اليهود والنصارى، وتدعو إلى بناء مسجد إسلامي وكنيسة نصرانية ودير يهودي في حائط واحد، وطباعة القرآن الكريم المحفوظ بحفظ الله، مع التوراة والإنجيل _ اللذين مستهما أيدي التحريف الآثمة _ في غلاف واحد( ).

وقد كانت رائحة هذه الدعوى (دعوى التقارب بين الأديان) تفوح من بعض المسـلمين، والعجيب أنها صدرت ممن يُـظن بهم الخير والصلاح، يقول الشيخ حسـن البنا _ رحمه الله _ حيث ألقى في: (5/3/1946م) كلمة أمام اللجنة الأمريكية البريطانية التي كانت تجول حول العالم العربي بخصوص  تميـيع قضية فلسطين، والعمل على تهجير اليهود إليها، ألقى الشيخ البنا كلمته أمام هذه اللجنة باعتباره ممثلاً للحركة الإسلامية، جاء فيها: "الناحية التي سأتحدث عنها نقطة بسـيطة من الوجهة الدينية، إلا أن هذه النقطة قد لا  تكون مفهومة في العالم الغربي، فأريد أن أوضحها باختصار فأقرر أن خصومتنا لليهود ليست دينية؛ لأن القرآن الكريم حض على مصافاتهم ومصادقتهم، والإسلام شريعة إنسانية قبل أن تكون قومية، وقد أثنى عليهم وجعل بيننا وبينهم اتفاقاً"( )، ويقول في مؤتمر صحفي عقد في: (5/9/1948م) للاحتفال بمرور عشرين عاماً على إنشاء الجماعة: "وليست حركة الإخوان المسلمون موجهة ضد عقيدة من العقائد، أو دين من الأديان أو طائفة من الطوائف، إذ أن الشعور الذي يهيمن على نفوس القائمين بها أن القواعد الأساسـية للرسالات جميعاً قد أصبحت مهددة الآن بالإلحادية، والإباحية وعلى الرجال المؤمنين بهذه الأديان أن يتكاتفوا ويوجهوا جهودهم إلى إنقاذ الإنسانية من هذين الخطرين الزاحفَين"( ).

"وقد تجددت الدعوة إلى وحدة الأديان( ) _ أو التقارب بين الأديان _ في السـنوات الأخيرة، واتخذت أشكالاً مختلفة وتحت مسميات متعددة، منها:-

1.      الدعوة إلى إقامة (صلاة روح القدس): وهي الصلاة المشتركة التي دعا إلى إقامتها البابا بولس في قرية (أسـيس) بإيطاليا في يوم 27/10/1986م، واشترك فيها عدد من المسـلمين إلى جانب اليهود والنصارى.

2.      الدعوة إلى عقد حوار (الوحدة الإبراهيمية)، وهو المؤتمر الذي دعا إلى عقده بمدينة قرطبة بإسبانيا (روجيه جارودي)، الفيلسـوف الفرنسـي المسلم( )، وذلك بمناسبة افتتاح المعهد الذي أسسه (جارودي) لهذا الغرض، وسماه: (معهد قرطبة لوحدة الأديان)، ويهدف المعهد _ كما يقول مؤسسه _ إلى نشر تعاليم ونتائج الثقافات للأديان الثلاثة: اليهودية والنصرانية والإسلام. وقد حضر هذا اللقاء عدد من المسـلمين، وهم: روجيه جارودي، وعبد الهادي بو طالب، المدير العالم لمنظمة الإيسـيسكو، ومختار أمبو، الأمين العالم لليونسكو، والبروفسـور عبد السلام، وهو قادياني يحمل جائزة نوبل للفيزياء، وبدر الدين أغاخان، وهو إسماعيلي.

3.      تأسـيس جماعة: (مؤمنون متحدون)، وهي جماعة تسعى لإذابة الفوارق الدينية ومسخ الشخصيات، وتدعو إلى صلاة مشتركة تسمى: (صلاة روح القدس)، يمارسها كل المؤمنين بالله مهما كانت ديانـتهم، كما يضعون نشيداً واحداً يردده الجميع يسمى: (نشيد الإله الواحد: رب وابن)"( ).

4.      كما ظهر من يقول بأن الجنة ليست حكرا على المسـلمين الموحدين وأن الدين المنجي عند الله ليس الإسلام وحده ! فيتساءل لِـمَ يعتقد أتباع كل دين أن الله يختصهم بالجنة ويذر غيرهم وأكثر الناس في النار؟  ثم يؤكد أن حقيقة الشـرك هي العداء بين الأديان( ).

ويلاحظ على هذه الدعوى في صياغاتها وشعاراتها المتنوعة أنها تميل إلى جانب الديانة النصرانية أكثر من غيرها، مما يدل على أن التوجه إليها على ما فيه من إخلال بالعقيدة الإسلامية، فهو جَـرْيٌ وراء التشـبه بالكفار، وعند تطبيقه سـيكون أكبر مثال لأثر التدرج في التشـبه بالكفار، وأن التشـبه بهم سـيوصل إلى تصحيح أديانهم يوماً ما، وذلك كفر بالإسلام؛ فإن الله عز وجل ذكر في كتابه تكفير النصارى الذين ادعوا له البنوة أو التعدد، فقال: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسـيحُ ابْنُ مَرْيَمَ)( )، وقال: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسـيحُ ابْنُ مَرْيَمَ)( )، وقال: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنـتهوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسـن الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)( ). كما ذكر كفر اليهود وأنهم ملعونين فقال: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ)( )، كما أخبر عنهم أنهم ادعوا لله الابن، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، قال تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسـيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)( )، وأخبر عنهم أنهم افتروا على الله الكذب ووصفوه بالنقائص تجرأً عليه، نسأل الله السلامة والعافية، كما وصفهم في نفس الآية بأنهم يؤججون الحروب والفتن في الأرض فقال: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسـوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)( )، وبيَّـن أن من طبيعتهم قتل الأنبياء، وتكذيبهم، فقال: (لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسـولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ)( )، وقـال: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسـولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسـولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ)( )، وحذرنا من مكرهم فقال: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا)( ).

فبحجة التقريب بين الأديان رأوا إزالة الفوارق بين الأديان والله تعالى يقرر ويدعونا أن نقول لهم إن أرادوا ذلك: تعالوا جميعاً لنوحد الله التوحيد الصحيح( )، قال تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) ( )، فإن تولوا وظلوا على كفرهم، فقولوا لهم: نحن مسلمون، ومفهوم ذلك أنكم يا من تركتم التوحيد الخالص إلى الشرك: كافرون بعيدون كل البعد عن الله، كما قال تعالى: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)( )، وقال: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ)( ).    فأنَّـى لمؤمن يؤمن بالقرآن أن يتساهل معهم بتصحيح هذه العقائد الفاسدة، بعد هذا البيان التفصيلي عن عقائد أهل الكتاب وضلالهم، فضلاً عن أن يداهنهم في التخلي عن مسلمات دينية هي من أصول دين الإسلام، الإسلام يقول: اليهود والنصارى على ضلال مبين، وهذا يقول: هم على حق والواجب أن نعترف بأنهم على ملة إبراهيمية صحيحة!! لا يقول ذلك إلا من انخرط في سلكهم فصار منهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)( )، وقال تعالى: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)( )

وماذا يريد أعداء الله من المسـلمين أكثر من الدخول في مللهم المنحرفة، قال تعالى: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءاً)( )، وقال: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)( )، نعم إن هدى الله هو الهدى وهو الإسلام لا غير، ومن قال غير ذلك ومن اتبع أهواءهم بعد ما جاءته البينات، فهو بعيد عن ولاية الله ونصرته، ولن تنفعه موالاته للكفار.

كل ذلك أثر من آثار التشـبه بالكفار والتدرجِ في مضاهاتهم في كل صغيرة وكبيرة، أوصل أصحابه إلى الانخراط في أديان الكفار والحكم بصحتها؛ فإن الزاوية الضيقة قد لا يكون لها ذكر في أول الأمر، ولكنها إذا سارت وامتدت إلى أميال: اتسعت حتى يصعب تداركها، والله المستعان.

 المبحث الثاني: أثر التشـبه بالكفار في أعمالهم: 

التشـبه بالكفار تدرج لاندراس الدين وذوبانه في أديان الكفار الأخرى( )، وقد يوصل في النهاية إلى الانسلاخ من الدين بالكلية( ).

إذا تأملنا كلام العلماء في أثر التشـبه بالكافرين، من جهة الحكم على من عمل ما يتشـبه به بالكفار نجدهم يعلقون الحكم على ما قام بقلب هذا المتشـبه من عقيدة  أو استحسان دينهم الباطل  أو المحبة  فإن محبة غير الله كمحبة الله تجعله نداً لله كما قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) ، فالقاعدة: أن الفعل إذا دل على انخرام هذا الأصل فهو كفر .

كما أن التشـبه الكلي بالمشـركين يصل إلى درجة الكفر لأنه بلا شك ملابس لما هو شرك من أعمالهم، وقد يكفر بعمل واحد من أعمال المشـركين إذا كان متشـبهاً بهم ومنحازاً إليهم وقلبه متشوف لهم ولما عندهم ويظن بأن ما عندهم خير من شرع الله فهو بهذا الاعتقاد يكفر لأنه لم يكتف بمجرد التشـبه بل اعتقد ما يوجب كفره ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية _ رحمه الله _: "فقد يحمل هذا  على التشـبه المطلق فإنه يوجب الكفر ويقتضي تحريم أبعاض ذلك وقد يحمل على أنه صار منهم في القدر المشترك الذي شابههم فيه فإن كان كفراً أو معصية أو شعاراً للكفر أو للمعصية كان حكمه كذلك"( )، فإذا كان الاعتقاد الذي صاحب فعل التشـبه بهم كفراً فيكون ذلك الفعل كفراً كذلك، ولو لم يكن كفراً في ذاته؛ لمصاحبته لما هو كفرٌ.

فلم يحمله شيخ الإسلام على التشـبه بهم في شيء من خصائصهم التي ليست بكفر في حد ذاتها؛ فإنه لم يكفر من فعله، بل حمله إما على التشـبه المطلق، فيكون كافراً مثلهم لأنه صار نظيراً لهم، أو _ حمله _ على أنه يصير منهم في الفعل الذي تشـبه بهم فيه، فإن كان كفراً فقد شاركهم في الكفر وإن كان معصية فإنه قد باء بإثم التشـبه والمعصية، وإن لم يكن في حد ذاته منهياً عنه فإنه قد تحمل إثم التشـبه؛ لأن التشـبه بهم محرم ولو لم يكن معصية لو تفرد عن كونه تشـبهاً.

ويؤيد هذا ما قاله شيخ الإسلام: "وهذا الحديث( ) أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشـبه بهم وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشـبه بهم كما في قوله: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)" ، فبين أن الحديث حكمه مشابه للحكم في الآية، فليس كل من تولى الكفار كان كافراً عند العلماء لمجرد أن الله جعل التولي لهم من دواعي كونه منهم ، ولكنه لا يسلم من الوقوع في المحرم؛ فإن أقل أحوال الآية أن تقتضي تحريم مطلق التولي للكفار( )، كما أن أقل أحوال الحديث أن يقتضي تحريم التشـبه بهم.

ومن آثار التشـبه بالكافرين في أعمالهم:

-        أن ذلك يقود إلى المودة لهم، قال شيخ الإسلام رحمه الله: "والموالاة والموادة وإن كانت متعلقة بالقلب، لكن المخالفة في الظاهر أهون على المؤمن من مقاطعة الكافرين ومباينـتهم ومشاركتهم في الظاهر إن لم تكن ذريعة أو سبباً قريباً أو بعيداً إلى نوع ما" ، فمشاركتهم في فعلهم الظاهر إما أن تكون سبباً موصلاً إلى المودة لهم وذريعة لذلك، وإما أن تكون عائقاً _ ولو خفيفاً _ لترك موالاتهم وموادتهم بالقلب، "ذلك أن التقليد بمختلف صوره يقود إلى محبة المقلَّـد _ شاء المقلِّـد أم أبى _ ولعل ذلك ما يفسر لنا حرص الإسلام الشديد على منع تشـبه المسـلمين بأعدائهم، أو تقليدهم لهم؛ فإن السبب الرئيسـي في ذلك أن يبقى الجدار العدائي الفاصل بين المعسكرين قائماً صلباً فلا يتأثر موقف المسلم المتصل باعتزازه بما عنده ورفضه لما عند أعدائه أبداً ولم يضعف ولا يلين"( ).

-        ومودة الكفار سبب قادح في الإيمان بالله واليوم الآخر، كما أن مجانبتهم وعدم مودتهم من دلائل الإيمان ومن أسباب التأيـيد من الله، قال تعالى: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسـولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)( ).

وكما أن التشـبه بالكفار يدل على المودة الظاهرة لهم فإن المودة من أشكال الموالاة لهم( )، وقد حذرنا الله تبارك وتعالى من مولاة الكفار، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)( )، ولقد سخط الله على بني إسرائيل لما تولوا الكفار: (تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ)( )، فيعلم من ذلك أن  التشبه بالكفار قد يؤدي في النهاية إلى سخط الله .

كما أن الركون إلى الكافرين ومحبتهم بالتشـبه بهم في أفعالهم سبب لفوات اتصاف المؤمنين بمحبة الله لهم؛ فقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسـوفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)( ).

-        كما أن ذلك يقود إلى موافقة ما في الأخلاق والهدي الباطن، قال شيخ الإسلام _ رحمه الله _: "المشاركة في الهدى الظاهر تورث تناسباً وتشاكلاً بين المتشابهين يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال وهذا أمر محسـوس؛ فإن اللابس لثياب أهل العلم مثلاً  يجد من نفسه نوع انضمام إليهم، واللابس لثياب الجند المقاتلة مثلاً يجد في نفسه نوع تخلق بأخلاقهم ويصير طبعه مقتضياً لذلك، إلا أن يمنعه من ذلك مانع، وكلما كان القلب أتم حياة وأعرف بالإسلام كان إحساسه بمفارقة اليهود والنصارى باطنا أو ظاهراً أتم وبعده عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسـلمين أشد ومنها أن مشاركتهم في الهدى الظاهر توجب الاختلاط الظاهر حتى يرتفع التميـيز ظاهراً بين المهديـين المرضيـين وبين المغضوب عليهم والضالين"( )، "ذلك أن المحاكاة في الظاهر تؤدي إلى المحاكاة في الباطن ولو بعد حين، فالتقليد صلة روحية بين المقلِّـد والمقلَّـد، ووساطة انتقال لمعتقداته وأفكاره و(أيديولوجياته) إليه، إما بشكل مباشر وعنيف ودفعة واحدة كما حدث في تركيا على يد مصطفى كمال أتاتورك( )، وإما بشكل تدريجي سريع أو بطيء كما يحدث في كل زمان ومكان بين كل مقلِّـد ومقلَّـد"( ).

- كما أن ذلك يوجب الدخول في ما دخل فيه الهالكون من أهل الغضب والضلال من صفات؛ توجب في النهاية مشاركتهم في الهلاك الغضب والضلال مما يكون من نتائج أفعالهم فعن عروة عن عائشة رضي الله عنها: أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا ومن يكلم فيها رسـول الله  صلى الله عليه وسلم  فقالوا ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسـول الله  صلى الله عليه وسلم فكلمه أسامة  فقال رسـول الله  صلى الله عليه وسلم: ((أتشفع في حد من حدود الله)) ثم قام فاختطب  ثم قال: ((إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد  سرقت لقطعت يدها)) ، فمن شاركهم في هذه الصفة _ وهي التفريق في الحدود بين الشريف والضعيف _ فقد شاركهم في الهلاك الذي وقعوا فيه.  كما أنهم لما شددوا على أنفسهم كان ذلك سبباً لتشديد الله عليهم إما قدراً أو شرعاً، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال إن رسـول الله  صلى الله عليه وسلم كان يقول لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديار (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ)( ))) ، فمن تشـبه بهم في هذا الفعل _ وهو التشديد على النفس _ فهو جدير بمشاركتهم في عقابه وهو تشديد الله عليه، قال شيخ الإسلام _ رحمه الله _: "وفيه أيضاً تنبيه على أن التشديد على النفس ابتداءً يكون سبباً لتشديد آخر يفعله الله إما بالشرع وإما بالقدر فأما بالشرع فمثل ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخافه في زمانه من زيادة إيجاب أو تحريم كنحو ما خافه لما اجتمعوا لصلاة التراويح معه ولما كانوا يسألون عن أشياء لم تحرم، ومثل أن من نذر شيئاً من الطاعات وجب عليه فعله وهو منهيٌ عن نفس عقد النذر وكذلك الكفارات الواجبة بأسباب، وأما القدر فكثيراً ما قد رأينا وسمعنا من كان يتنطع في أشياء فيبتلى أيضاً بأسباب تشدد الأمور عليه في الإيجاب والتحريم مثل كثير من الموسـوسـين في الطهارات إذا زادوا على المشروع ابتلوا بأسباب توجب حقيقة عليهم أشياء فيها عظيم مشقة ومضرة، وهذا المعنى الذي دل عليه الحديث موافق لما قدمناه في قوله تعالى: ( وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)  من أن ذلك يقتضي كراهة موافقتهم في الآصار والأغلال" ، فمن تشـبه بهم في واحد من أفعالهم _ كالتشدد في الدين _ لحقته كل تلك الآصار والأغلال التي لحقتهم، وهذا إنما هو مثال، وكذلك سائر أفعالهم التي هي من خصائصهم لا يأمن المسلم على نفسه من عقاب الله الذي وقع عليهم أن يقع عليه.

 - والتشـبه بأعمال الكفار الظاهرة من علامات اندراس دين الله، والعكس صحيح: فإن مخالفتهم من عوامل ظهور دين الإسلام وتميزه عن الأديان الباطلة، فعن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر لأن اليهود والنصارى يؤخرون)) ، فربط النبي صلى الله عليه وسلم بين ظهور الدين ومخالفة اليهود والنصارى، وجعل ظهور الدين معلقاً بمخالفتهم ومباينـتهم، ومفهومه أن خفاء الدين واندراسه متعلق بإظهار مشابهتهم، فإذا كان التشـبه بهم يساهم في فقدان الدين وعدم ظهوره( ) وجبت مخالفتهم بكل حال.

ومن التشبه بالكافرين في أعمالهم: مشابهتهم في زيهم وطريقة معيشتهم، مما لا يُعد ذا مصلحة معتبرة شرعاً، كالتشبه بهم في قصات الشعر التي ابتلي بعض شباب المسلمين اليوم، بل وصل بهم الذل والتبعية إلى التشبه بقصات حيوانات الكفار( ).

وكالتشبه بهم في عادة التدخين الدخيلة على بلاد المسلمين، وقد ذكر الباحثون أن أول من اكتشفها: الهولنديون وجاؤوا بها إلى أراضي الدولة العثمانية ضمن تجاراتهم، وهي عادة دخيلة وهي من أظهر أمثلة التشبه بالكافرين، فهي عادة كافرة لم يفعلها المسلمون من قبل.

ومن أمثلة التشبه بهم في ما يختصون به في الجانب العملي: اعتماد التاريخ الميلادي بدل التاريخ الهجري _ كما هو حال معظم الدول في العالم الإسلامي اليوم _ مما أدى إلى ضياع الصبغة الإسلامية عن التاريخ، ومما أدى _ في أحيان كثيرة _ إلى رؤية الوقائع التاريخية بمنظار غير إسلامي، لا سيما وأن التاريخ الميلادي تنصب فكرته على ميلاد المسيح عيسى بن مريم ، وليس لذلك أي علاقة بالدين، فأي فائدة يرجوها الناس من معرفة ميلاد النبي إذا لم يكونوا على بصيرة مما جاء به، هذا إذا ثبت أن ميلاده كان في التأريخ الذي حدده النصارى، بخلاف التأريخ الهجري الذي أرخ به عمر بن الخطاب ، فإنه يحمل في طياته تأريخ ملحمة النصر ودولة الفتح والبناء، إنه تاريخ بداية الدولة الإسلامية، إضافة إلى كون هذا التاريخ هو من سنة هذا الخليفة الراشد وأرضاه.

 الباب الثاني مظاهر التشبه بالكفار في العصر الحديث

تمـهيـــد

لم يتخذ التشـبه بالكفار بعد القرون المفضلة وقبيل العصر الحديث مظهراً عاماً لدى المسـلمين؛ وذلك لقرب عهد السلف الصالح _ رحمهم الله _ ولظهور الدول الإسلامية بشكل عام على دول الكفر، مما يشكل أنفة من التشـبه بالكفار لدى عامة المسـلمين، وما كان في تلك العصور من مظاهر التشـبه بالكفار بشكل عام كان مسبوكاً في قالب إسلامي، وإن كان لا يزال مظهراً من مظاهر التشـبه بالكفار، كانتشار علم الكلام الذي اعتمد على الفلسـفة الإغريقية ثم صبغ بالصبغة الإسلامية وإن كان لم يزل معلماً من معالم التشـبه بالكافرين.

          بدأ دخول الفلسـفة إلى بلاد المسـلمين إبان الحكم العباسـي حين ترجمت الكتب الإغريقية في عهد المأمون وكان لها أكبر الأثر في صياغة قواعد للوصول إلى العقائد تختلف عن الطرق الإسلامية الأصيلة مما أدخل إلى تصور العقيدة الإسلامية كثيراً من الغبش وعدم الوضوح، فباتت عقائد الناس في اضطراب واختلاف، وكثرت الفرق الكلامية وانتشرت في بلاد المسـلمين، ولكن الله عز وجل قيض لها من يكشف زيفها، من علماء المسلمين من السلف الصالح في القرون الأولى، ثم كان لمدرسة شيخ الإسلام _ رحمه الله _ في القرن الثامن أثرٌ واضحٌ في التصدي لتلك العقائد المبتدعة.

          وأما في نظام الحكم فقد  كانت الشريعة الإسلامية مطبقة في تلك الآونة بشكل عام، وما كان من مخالفة لها لا يعدو أن يكون تبعاً لأهواء شخصية تزول بزوالها أو زوال أصحابها، إلا ما كان من تحكيم للياسق، وكانت فيه أحكام تخالف الشريعة الإسلامية، ولكن تطبيق ذلك القانون لم يتعد تلك المرحلة من التاريخ، كما لم يتعد البقعة التي تأثرت بحكم المغول.

          وكان للشيعة والصوفية في نهاية القرون المفضلة وما بعدها أثر كبير في إدخال عقائد الأمم الكافرة.

هذا وإن الناظر في البدع عموماً يجد أن سببها الأساسـي هو الاستمداد من مناهج كفرية, لا صلة لها بالكتاب والسـنة, فمعظم البدع ضاربة أطنابها في جذور عقائد الأمم الغابرة ومناهجهم وأعمالهم، قال شيخ الإسلام بعد سـياق قصة عمرو بن لحي الخزاعي: "فقد تبين لك أن من أصل دروس دين الله وشرائعه وظهور الكفر والمعاصي: التشـبه بالكافرين"( ).

بل كل فرقة من الفرق الإسلامية الضالة, وجودها في حد ذاته هو شكل من أشكال التشـبه باليهود والنصارى, يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على اثنتين وسبعين ملة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة _ يعني الأهواء _ كلهم في النار إلا واحدة وهي الجماعة))( ), فافتراق أهل الأهواء من أمة الإسلام فيه مشابهة لافتراق أهل الكتابين.

كل ذلك يدل دلالة واضحة على خطورة البدع وأنها سبب لافتراق الأمة ومشابهة الأمم الكافرة.

يؤيد ذلك قوله تعالى: (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)( ) فالخوض في الشريعة بلا علم من مضاهاة الأمم السابقة التي نهينا عن التشـبه بها, وبهذا تكون كل تلك البدع سـواءً كانت مأخوذة من الكفار أم لا, هي نوع من أنواع التشـبه بالمشـركين, والدخول في ذلك دخولاً كاملاً يوجب حبوط الأعمال في الدنيا والآخرة, والعياذ بالله.

قال ابن كثير في تفسـير قوله : (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)( ): (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا) أي في الكذب والباطل (أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) أي بطلت مساعيهم فلا ثواب لهم عليها لأنها فاسدة (فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) لأنهم لم يحصل لهم عليها ثواب, قال ابن جرير عن عمرو بن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) الآية, قال ابن عباس: ما أشبه الليلة بالبارحة (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم لا أعلم إلا أنه قال: ((والذي نفسـي بيده لتتبعنهم حتى لو دخل الرجل منهم حجر ضب لدخلتموه)) قال رسـول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسـي بيده لتتبعن سـنن الذين من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع وباعاً بباع حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه)). قالوا ومن هم يا رسـول الله؟ أهل الكتاب, قال: ((فمن))( )، قال أبو هريرة: الخلاق: الدين (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا) قالوا يا رسـول الله كما صنعت فارس والروم؟ قال فهل الناس إلا هم؟ وهذا الحديث له شاهد في الصحيح"( ).

يقول الشيخ عبد الرؤوف المناوي( ) _ متحدثاً عن الفترة التي عاشها وما قبلها _ يقول عن أوضاع بعض المسـلمين: "فقد اتبع كثير من أمته سـنن فارس في شيمهم ومراكبهم وملابسهم وإقامة شعارهم في الحروب وغيرها وأهل الكتابين في زخرفة المساجد( ) وتعظيم القبور  حتى كاد أن يعبدها العوام وقبول الرشا وإقامة الحدود على الضعفاء دون الأقوياء وترك العمل يوم الجمعة والتسليم بالأصابع وعدم عيادة المريض يوم السبت والسرور بخميس البيض  وأن الحائض لا تمس عجيناً ذلك مما هو أشنع وأبشع حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتم مبالغة في الاتباع فإذا اقتصروا في الذي ابتدعوه فستقتصرون وإن بسطوا فستبسطوا حتى لو بلغوا إلى غاية لبلغتموها حتى كانت تقتل أنبياءها فلما عصم الله رسـوله قتلوا خلفاءه تحقيقاً لصدق الرسـول"( ).

بداية العصر الحديث:

وأما بالنسبة لتحديد بداية العصر الحديث فيرى عدد كبير من الباحثين أنه يـبدأ بانتهاء العصور الوسطى( ) وبدايةِ عصر النهضة الحديثة( ) بالنسبة لأوربا، ويؤرخون لبداية العصر الحديث تحديداً بفتح القسطنطينية، على يد محمد الفاتح، فقد كان لفتح القسطنطينية أثرٌ كبيرٌ في تغيير مجرى التاريخ، يقول أحد الباحثين في هذا المجال: "منذ انتهى العصر الوسيط بدأ العصر الحديث مع فترة انتقالية بينهما تضاف لرصيد التاريخ الحديث هي ما يطلق عليها: (عصر النهضة)، وما زلنا نعيش جميعاً هذا العصر. ويـبدأ العصر الحديث بإجماع عدد كبير من المؤرخين منذ سقوط القسطنطينية على يد محمد الفاتح سنة: (1453م)، ذلك الحدث الرهيب الذي قَرَعَت من أجله الكنائسُ أجراسَها، ولقد كان لطبيعة فتح القسطنطينية ما يؤكد ذلك. وأحداث التاريخ، كما نؤكد دائماً، لا تموت وإنما هي في الضمائر والقلوب والشعور واللاشعور، تؤثر في الإنسان والحضارة، وتحرك المشاعر واعية وغير واعية. لقد ظهر الجيش العثماني أمام أسوار القسطنطينية تحوطه دعوات العلماء وابتهالاتهم، وكانت الروح الدينية غالبة على الجند الذين كانوا يعتقدون أنهم يؤدون واجباً مقدساً، ولقد كانت المعارك تبدأ بصلاة السلطان، وكان الجيش كله يصلي، ورفض الإمبراطور البيزنطي التسليم أكثر من مرة مما دعا محمد الفاتح السلطان الشاب (22 سنة) إلى التوجه بجيشه قائلاً: لقد وقفت هذه المدينة أعواماً طوالاً في وجه الإسلام وتحالفت مع  أعدائه لذلك فهي مباحة لكم، وبعد يوم واحد كانت المدينة في أيدي المسلمين، وعندما انتصف النهار دخل محمد الفاتح المدينة يمتطي صهوة جواده واتجه إلى الكنيسة الكبيرة (أيا صوفيا) ونزل عن جواده أمام بابها وعفر رأسه بالتراب تواضعاً وشكراً لله وقابله رجال الكنيسة فأمَّـنَهُم، ثم أشار إلى من أذن للصلاة فأُذن لأول مرة في هذه الكنيسة الضخمة، ومن يومها أصبحَت مسجداً من أكبر مساجد الإسلام. لقد كان مطلع العصر الحديث (الله أكبر) تدوي في إحدى الكنائس"( )، ومثل هذا الحدث يستحق فعلاً أن يكون بداية لتاريخ جديد، كما تشعر هذه البدايةُ العظيمةُ بأن هذا العصر الذي بدأ بالنصر والعزة والتمكين لدين الله _ تشعر _ بأنه ينبغي للمسلم أن يعيش فيه عزيزاً شامخاً بدينه، غير متأثر بأي نوع من أنواع الولاء لأعدء الله، متميزاً عنهم في كل شؤونه، قائلاً بلسان حاله لأعدائه: إن المجد الذي بناه أسلافنا في مطلع هذا العصر ما هو إلا لبنة من لبنات بناء العزة الإسلامية الشامخ، والذي سأعمل على إرسائه وإعلائه.

 الفصل الأول مظاهر التشـبه بالكفار في العصر الحديث في الجانب الاعتقادي

لقد خلق الله الخلق موحدين، فإن آدم كان موحداً، ولم يطرأ الشـرك إلا بعد ذلك بقرون، وما ذلك إلا لكون الاعتقاد الصحيح إنما يؤخذ من الله؛ فإن الله أعرف بنفسه وما يجب له من خلقه، وما ضلت البشرية بعد ذلك إلا من مجافاتها لطريق الوحي _ وهو الطريق الوحيد الذي يجب أن تؤخذ منه العقيدة _، وهذه قصة نسـيان التوحيد، يقول ابن عباس : "كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيـين مبشرين ومنذرين"( )، فمنهم من أخذ معتقده عن طريق الابتداع ومنهم من أخذ معتقده عن طريق التشـبه بغيره من المبتدعة، ففي تفسـير أول شرك حصل في البشرية وهو عبادة قوم نوح لود وسـواع ويغوث ويعوق ونسراً، يقول الطبري _ رحمه الله _: "كانوا قوماً صالحين من بني آدم وكان لهم أتباع يقتدون بهم فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يُسقَـوْن المطر فعبدوهم"( )، فكان هؤلاء الذين ابتدعوا وتشـبه خَلَـفُهم بهم، وانتشر الشـرك، فما من انحراف في تاريخ البشر من لدن آدم عليه السلام إلا بسبب آفة أخْـذِ العقيدة عن غير مصدرها الصحيح النقي وهو مصدر الوحي، بالابتداع أو التشـبه بمن ابتدع في دينه.

وفي هذا الفصل أحاول أن أكشف الستار عن بعض المظاهر التي سببت الانحراف لدى المسـلمين في الجانب الاعتقادي في العصر الحديث، وأخص منها المظاهر التي تقوم على التشـبه بالكفار دون المظاهر التي تقوم على جانب الابتداع المحض، وإن كان هذا قليل جداً بالنسبة لسابقه؛ وذلك لكثرة تأثر مبتدعة هذه الأمة بغيرهم من الأمم؛ بسبب الداخلين في الإسلام من أهل الملل الأخرى، ممن علق لديهم بعض بقايا اعتقاداتهم السابقة، بخلاف الأمم السابقة وخاصة التي مثلنا بها من القرون التي كانت بين آدم ونوح؛ فإن مصدر الانحراف في تلك الأمم كان يغلب عليه جانب الابتداع أكثر من جانب التشـبه بالكفار، وإن كان الابتداع يعقبه تشـبه بالمبتدع.

والحاصل أنني سأعتني في هذا الفصل بذكر الاعتقادات _ التي تعني بذاتها مظهراً  من مظاهر التشـبه بالكفار في الجانب الاعتقادي  _ خصوصاً، وبالمناهج _ المأخوذة من عند الكفار _ التي غذت هذه المظاهر عموماً.

 المبحث الأول: مظاهر التشـبه بالكفار في توحيد المعرفة

المطلب الأول: الفلسـفة، أصولها وآثارها في العصر الحديث.

الفلسـفة اسم يوناني معرب من كلمة (فيلاسـوفيا)، ومعناه: إيثار الحكمة، وهو في لسانهم مركب من: (فيلا) و (سـوفيا) و (فيلا): الإيثار، (وسـوفيا): الحكمة( )، والفيلسـوف معناه: المؤثر للحكمة( )، وذكر الشهرستاني في الملل والنحل قريباً من ذلك فقال: "الفلسـفة باليونانية: محبة الحكمة والفيلسـوف هو (فيلا)و(سـوفا)، و(فيلا): هو المحب، و(سـوفا): الحكمة، أي هو: محب الحكمة" ، والتعبير عن الفلسـفة بمعنى إيثار الحكمة يستلزم أن تكون الحكمة التي يسعى إليها الفيلسـوف المسلم موافقة للشرع القويم فإن الحكمة الحقيقية إنما تؤخذ من مشكاة النبوة، قال تعالى: (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)

وجاء في الموسـوعة العربية العالمية: "الفلسـفة هي دراسة تسعى إلى فهم غوامض الوجود والواقع، كما تحاول أن تكتشف ماهية الحقيقة والمعرفة، وأن تدرك ماله أهمية أساسـية وقيمة عظمى في الحياة، كذلك تنظر في العلاقات القائمة بين الإنسان والطبيعة، وبين الفرد والمجتمع"( )، وهذا هو المعنى الواسع للفلسـفة، وقد يعرفها بعضهم بتعريفات أخرى قد تحصرها في مجالات أضيق من التعريف السابق حسب منظور كل منهم، أو حسب الميادين التي اشتهرت بها الفلسـفة، فقد جاء تعريفها في التعريفات: "الفلسـفة: التشـبه بالإله بحسب الطاقة البشرية لتحصيل السعادة الأبدية في الإحاطة بالمعلومات والتجرد عن الجسمانيات" ، وهنا نرى هذا التعريف قد خصها بأكثر ما اشتهرت به وهو النظر في الإلـهيات، الناتج عنه إمكانية التخلق بأخلاق الإله، وهذا التعريف مشوب بعقيدة المتصوفة الذين استقوا هذا الفكر من البراهمة الذين يقومون بالعبادات من أجل الفناء في براهما .

          ولكننا نجد الفلسـفة جاءت في بعض نظرياتها بما يخالف الشرع مما جعل الكثير من  أئمة الإسلام يقفون منها موقفاً معادياً ، ومن تلك النتائج التي توصل إليها الفلاسفة ما ذكره ابن القيم فقال: "وقد علمتم الاعتراضات التي اعترض بها أهل الفلسـفة على كونه خالقاً للعالم في ستة أيام وعلى كونه يقيم الناس من قبورهم ويبعثهم إلى دار السعادة أو الشقاء ويبدل هذا العالم ويأتي بغيره" .

ومن تلك المواقف: سئل الإمام أبو حنيفة: ما تقول فيما أحدث الناس من الكلام في الأعراض والأجسام؟ فقال: "مقالات الفلاسفة، عليك بالأثر وطريقة السلف، وإياك وكل محدثة فإنها بدعة" ، وما ذلك إلا لانحرافهم عن سـواء السبيل بتلك العقائد المستنبطة من نتاج الفكر الإنساني البسـيط الذي لا يستغني بحال عن نور الوحي الإلهي، يقول الشيخ مرعي بن يوسف الحنبلي: "قال الطوفي( ): وقد اعترف أكثر أئمة أهل الكلام والفلسـفة من الأولين والآخرين أن الطرائق التي سلكوها في أمور الربوبية بالأقيسة التي ضربوها لا تفضي بهم إلى العلم واليقين في الأمور الإلهية مثل تكلمهم بالجسم والعرض في دلائلهم ومسائلهم ومقالة أساطين الفلسـفة من الأوائل أنهم قالوا: العلم الإلهي لا سبيل فيه إلى اليقين وإنما يتكلم فيه بالأولى والأحرى، قال: ولهذا اتفق كل من خبر مقالة هؤلاء المتفلسـفة في العلم الإلهي أن غالبه ظنون كاذبة وأقيسة فاسدة وأن الذي فيه من العلم والحق قليل، انـتهى. هذا والفلاسفة هم أرباب النهاية في العقول لكن العقول إذا لم تستند إلى الشرع المنقول وقعت في الحيرة والضلالات وطرأت عليها الخيالات والاستبعادات لما جاءت به الرسل ولهذا كانت الفلاسفة يعتقدون أن عندهم من العلوم والمعارف ما يستغنون به عن علم الأنبياء عليهم السلام، قال أبو حيان( ): وكانوا إذا سمعوا بوحي الله تعالى دفعوه وصغروا علم الأنبياء بالنسبة إلى علمهم"( )، ومنهم من شرط شروطاً حاسمة للنظر في هذا العلم فقال: صاحب كشف الظنون: "تنبيه: اعلم أن النظر والمطالعة في علوم  الفلسـفة يحل بشرطين، أحدهما: أن لا يكون خالي الذهن عن العقائد الإسلامية بل يكون قوياً في دينه راسخاً على الشريعة الشريفة، والثاني: أن لا يتجاوز مسائلهم المخالفة للشريعة، وإن تجاوز فإنما يطالعها للرد لا غير، هذا إن ساعده الذهن والسـن والوقت وسامحه الدهر عما يفضيه إلى الحرمان، وإن لا فعليه أن يقتصر على الأهم وهو قدر ما يحتاج إليه فيما يتقرب به إلى الله تعالى، وما لا بد منه في المبدأ والمعاد والمعاملات والعبادات والأخلاق والعادات" ،فشرط أن يكون متسلحاً بالعقيدة الصحيحة قبل أن يخوض في فلسفات القوم، وأن لا يدخل نفسه فيما لا ينفع من علومهم إلا للرد عليه.

          ولذلك لم يأخذ بتلك النظريات المخالفة للدين من المسـلمين إلا أهل الفرق المنحرفة من المتكلمين والفلاسفة، فجاءت ردود علماء الإسلام عليهم ردوداً واضحة تجلو الغبار عن منهجهم الضال لتبين موقف الإسلام الصحيح من كل فكر دخيل يعارض قيم الإسلام وعقائده وأصوله .

          ومع ذلك يرى بعض الباحثين أن الفلاسفة المسـلمين تخيروا من الفلسـفة ما يتناسب مع حقائق الدين فيقول: "تهيأ للمسـلمين حظ موفور من معرفة أكثر المذاهب الفلسفية التي ذهب إليها فلاسفة اليونان، فاستنبطوا منها ما ينسجم مع الدين الإسلامي ويوافق الشريعة الإسلامية"( )، وليس هذا بصحيح فلو كان الأمر كذلك لما أدى إلى الانشقاق والتفرق في الدين كما هو الحاصل بين الفلاسفة والعلماء من أهل السـنة والجماعة( )، ولو قال الكاتب إنهم استنبطوا منها ما ظنوه منسجماً مع الدين لربما كان مصيـباً، وحينئذ نقول: إنهم ظنوا وأخطؤوا الظن، وكان الأولى بهم أن يستنبطوا من نصوص الشرع ما يفيدهم في دينهم ودنياهم، فإن أبوا إلا الفلسـفة فليستدلوا بها على نصوص الشرع ويجعلوه الأساس الذي من أجله تؤول العقليات الظنية لا العكس، وأما القطعيات فلا تعارض بينها وبين الدين، فإن تُـوُهِّـمَ ذلك فلـيُـتهم العقل.

ولما جاءت الفلسـفة بما يعارض الدين الصحيح كان ذلك من أسباب رفضها حتى عند بعض أصحاب الأديان السماوية السابقة أيضاً، جاء في أبجد العلوم: "وكانت الفلسـفة ظاهرة في اليونانيـين والروم قبل شريعة المسـيح عليه السلام، فلما تنصرت الروم منعوا منها واحرقوا بعضها وخزنوا البعض؛ إذ كانت بضد الشرائع، ثم إن الروم عادت إلى مذهب الفلاسفة" ، وقال شيخ الإسلام _ رحمه الله _: "ولهذا لما ورد ناموس عيسى بن مريم عليه السلام على الروم انتقلوا عن الفلسـفة اليونانية إلى دين المسـيح" ، فإذا كان حال الأمم السابقة من النصارى الذين آمنوا بالإنجيل( ) الذي جاء به عيسى عليه السلام وصدقوا به: أنهم تركوا الفلسفات اليونانية؛ وما ذلك إلا لعلمهم بأنها تخالف الأديان والعقائد السماوية المشتملة على الأخبار الصادقة التي لا مرية فيها ولا تحير؛ ذلك بأنها ثقافات بشرية متحررة من ربقة الشرائع السليمة التي لا تحريف فيها، ولذلك لما حرف النصارى دينهم وأدخلوا فيه الأكاذيب والأباطيل المفتراة على الله رب العالمين وعلى رسـوله عيسى عليه السلام عادوا إلى تلك الثقافات الضحلة مرة أخرى لأن الدين المحرف يرحب بكل ما هو مخالف لشرع الله القويم وصراطه المستقيم. 

كما أن الفلسـفة قد ساهمت مساهمة فعالة في إشعال الجدل والخصومات بين المسـلمين وتشتتهم إلى فرق وأحزاب( )، قال شيخ الإسلام _ رحمه الله _: "وأما الخلاف الذي بين الفلاسفة فلا يحصيه أحد لكثرته ولتفرقهم"( ).

          ويعتبر التوغل في علم الفلسـفة _ بدون القاعدة الاعتقادية الراسخة والهدف الصحيح _: مظهراً من مظاهر التشـبه بالكفار ، يشهد لذلك أصلها الإغريقي، فإن الفلسـفة لم تكن بحال من الأحوال وليدة الفكر الإسلامي الصافي، فقد جاءت من بلاد اليونان ، وكان أصلها الشك، قال (ول ديورانت) مبيناً تاريخ الفلسـفة من بداياته: "وربما كان التجار أول من اظهروا شكهم وريبتهم، فقد رأوا الكثير في أسفارهم وتعذر عليهم الاعتقاد بهذا الكثير، كما أن ميل التجار العام إلى تقسـيم جميع الناس إلى حمقى أو أوغاد، جعلهم يميلون إلى استجواب كل عقيدة ومذهب" ، وهذا توقع منه لبداية نشوء الفلسـفة؛ نظراً لطبيعة الفلسـفة التي تقوم على الشك والريبة في العقائد؛ فإن أكثر من يتوقع منهم ذلك: هم التجار الذين يسافرون في أقطار الأرض غير متسلحين بسلاح الإيمان والعلم الصحيح مما يحدو بهم إلى الشك؛ لكثرة العقائد التي يمرون عليها من خلال تجوالهم في البلاد.

          وقد يقسم بعض الباحثين الفلسـفة إلى قسمين:

1-      الفلسـفة الغربية القديمة: وهي جذور الفلسـفة الغربية المتأخرة فمعتقدات الغرب المتعلقة بما وراء الطبيعة والعلم والمنطق والأخلاق في العصر الحديث هي تبع لرواد الفلسفة القديمة، وكان من روادها سقراط وأفلاطون وأرسطو.

2-      الفلسـفة الشرقية (الهندية، والصينية): فالفلسفة الهندية والتي تسمى (دَرْشانا) لها علاقة بتفاسـير كتبهم المقدسة، والهدف الرئيسـي منها: هو التحرر من العذاب والتوتر الناتجين عن البدن والحواس والكف عن التشبث بالدنيا وما فيها( )، كما اشتهر الفكر الكونفوشي المأخوذ عن الفيلسـوف كونفوشيوس (في الصين)، في القرن السادس ق.م ( ).

هنا نلاحظ أن القسمين _ وخاصة ما يتعلق منهما بما وراء الطبيعة وصفات الخالق _ بعيدان عن مصادر الدين الإسلامي، كما أن كثيراً من مباحث الفلسـفة داخلة في ما هو من العقائد الغيبـية التي لا يمكن لأحد أن يخبر عنها خبراً يقيناً إلا الله عز وجل، ولم يترك لنا الله عز وجل أمراً من الأمور الغيبية إلا وحدثنا عنه في كتابٍ جعله تبياناً لكل شيء فما هي الحاجة لأخذ العقيدة من مثل هذه العلوم القادمة من عند الكفار؟. ولذلك فقد بات من المجمع عليه تقريباً بين الباحثين أن الفلسـفة علم دخيل على المسـلمين من الأمم السابقة ، وطريقة في التفكير والتوصل إلى الحقائق لم تُعهد ولم يأت بها نبي من الأنبياء، بل هي مما أخذ عن الكفار لغير مصلحة معتبرة شرعاً، وقد نهينا عن التشبه بهم.

          ولكن مع أن هذا العلم من العلوم المستوردة من الكفار نجد من المسـلمين من ولج فيه، وأخذ يستقي منه بعض العقائد، وأعرض عن كثير من نصوص الوحي، كما فعلت جموع من الفلاسفة في القرون الوسطى، ولا زالت العقائد المبنية على قواعد الفلسـفة اليونانية تتوالى لتضرب في صميم وحدة الأمة، ونرى من الكتاب والمفكرين المعاصرين من يتأثر بهذا المنهج السقيم، يريد بذلك أن يصوغ منه فكراً اعتقادياً سليماً حراً _ على حد ما ينشد ويدعي _ معارضاً بذلك نصوص الوحي، ومتشـبهاً بأعداء الملة والدين من الكفار الملحدين الضالين التائهين، فيتشـبه بهم في حيرتهم وهم يهيمون على وجوههم، ليبحثوا عن العقيدة الصحيحة في إلههم وخالقهم، ظناً منهم أنهم لن يجدوها نقية خالصة إلا في أوحال الفلسـفة الإغريقية، بعيداً عن القرآن والسـنة، ثم تتم المعالجة لتلك النصوص الثابتة الصريحة من القرآن بالتأويل، ومن السـنة بالرد والتعطيل، كل هذا من تبعات الاتجاه الفلسفي، علمه من علمه وجهله من جهله أو تجاهله.

          فمع أن الفلسـفة تعتبر علماً  خارجاً على الوحي، وارداً من الأمم السابقة التي كفرت بالله أو غلب عليها الكفر، ومع أنها تتدخل في الغيبيات التي لا تحتاج إلى نظر واستدلال بل ينبغي أن لا تؤخذ إلا من الوحي؛ فإن من المسـلمين في هذا العصر من يحاول المقارنة بينها وبين الوحي، فيقول أحد الباحثين، وهو يبين تلاقي النبوة والفلسـفة: "والعلم الذي يجيء عن طريق الوحي، لا يختلف في نتائجه عن العلم الذي ينـتهي إليه النظر العقلي والاستدلال المنطقي، وإن اختلف الطريق في كل منهما، ومن هنا تلاقت النبوة والفلسـفة، إذ قيل إن المعرفة التي تجيء عن طريق الوحي، إن قابلها صاحبها بما عند العلماء من حقائق، ألفاها على اتفاق معها؛ لأن العلل والمبادئ واحدة، فإذا أخبر بها من وصل إليها من أسفل بالتفلسف، اتفق رأيهما وصدق أحدهما الآخر بالضرورة، وبادر الفيلسـوف إلى قبول ما يأتي به النبي أو الكاهن، لأنهما على اتفاق والفرق بينهما أن أحدهما ارتقى من أسفل أما الآخر فقد انحط من علٍ، والمسافة بين السطح والقرار واحدة ولكنها بالإضافة إلى من بالقرار تسمى صعوداً وبالإضافة إلى من في السطح تسمى هبوطاً، والأنبياء في هذا كله متفاوتون، فقد يكشف أحدهم ما يطويه المستقبل بعد قرن ويكشف غيره ما تخفيه عشرة قرون تالية، كما يتفاوت الفلاسفة في معرفة الحقائق وسبر غورها"( )، فلم يكتف بأن قارن بين الوحي والفلسـفة بل قرن معهما التكهن، وجعل ما وصل إليه النبي هو نفسه ما يصل إليه الفيلسـوف، وهذا مغاير للواقع المحسـوس فإن الفلاسفة جاءوا بكثير من الأمور المشككة في الدين مما لا يخفى تعارضه مع الوحي بحال.

 جاء في كتاب: (اعتقادات فرق المسـلمين والمشـركين) عن الفلاسفة: "وأكثرهم ينكرون علم الله تعالى وينكرون حشر الأجساد"( ).

          كما أن القرآن والسـنة كلاهما مليء بإثبات صفات الباري ولكن الفلاسفة اتفقوا على نفي الصفات( )، يقول ابن سـينا: "فإذا حققت تكون الصفة الأولى لواجب الوجود أنه موجود ثم الصفات الأخرى يكون بعضها المتعين فيه هذا الوجود مع إضافة، وبعضها هذا الوجود مع السلب وليس واحد منها موجباً في ذاته كثرة البتة ولا مغايرة"( )، فهنا يحاول ابن سـينا أن ينفي جميع الصفات ويردها إلى صفة الوجود، ويشرح هذا الاتجاه للفلاسفة الغزاليُّ، فيقول: "اتفقت الفلاسفة على استحالة إثبات العلم والقدرة والإرادة، للمبدأ الأول، وزعموا أن هذه الأسامي وردت شرعاً، ويجوز إطلاقها لغة، ولكن ترجع إلى ذات واحدة ولا يجوز إثبات صفات زائدة على ذاته كما يجوز في حقنا أن يكون علمنا وقدرتنا أوصافاً لنا زائدة على ذاتنا، وزعموا أن ذلك يوجب كثرة، لأن هذه الصفات لو طرأت علينا لكنا نعلم أنها زائدة على الذات، فكل شيئين إذا طرأ أحدهما على الآخر، وعلم أن هذا ليس ذاك، وذاك ليس هذا، فلو اقترنا أيضاً، لعقل كونها شيئين، فإذن لا تخرج هذه الصفات بأن تكون صفات مقارنة لذات الأول عن أن تكون أشياء سـوى الذات، فيوجب كثرة في واجب الوجود. وهو محال فلهذا أجمعوا على نفي الصفات"( )، فهذا أعظم ما جاءت به نصوص الوحي _ وهو إثبات صفات البارئ _ اختلفت عليه الفلاسفة اختلافاً عظيماً فكيف يقال: إن الفيلسـوف والنبي لا تختلف نتائج ما توصلا إليه في النهاية!

          في الحقيقة أن المتفلسـفة من المسـلمين أشبهوا الفلاسفة القدماء الذين تصوروا الإله بما لا يليق أن يوصف به المعدوم فضلاً عن المخلوق( )، وفارقوا ما كان عليه الوحي المنـزل على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهم باليونانين أشبه منهم بالنبيـين.

          لقد دخلت الفلسـفة ضمن المؤثرات على عقيدة المسـلمين وصارت مصدراً لبعضهم ليستقي منه العقيدة يقول مصطفى غالب( ) في مقدمة كتابه: فلاسفة من الشرق والغرب: "الحكمة العرفانية العقلانية، والبحث عن كنه الوجود والموجودات، غريزة بشرية تكونت منذ وجود العقل الإنسان، في هذا العالم الذي يمور بالأسرار والرموز والإشارات.  وتمتد نشاطات الحكمة عبر الأكوان والموجودات إلى الأمور الماورائية، والعلة السـببيـة والمسالك التوحيدية، والإشراقات( ) الروحانية السرمدية، الحكمة إذن هي ثمرة العقول الواعية وخلاصة التأمل والتفكير المبدع الخلاق"( )، فجعل الفلسـفة _ وهي ما عبر عنه بالحكمة _ جعلها مصدراً من مصادر تلقي العقيدة والأمور الماورائية _ على حد تعبيره _ بل بها تعلم المسالك التوحيدية، وقد اعترف أن هذه الحكمة المنشودة التي يتحدث عنها: إنما هي ثمرة العقول الواعية، مع أنه من المعلوم في ديننا الحنيف أنه لا تعارض بين العقل الصريح والنقل الصحيح، فإن تُوُهم التعارض بينهما؛ لقصر في العقل، لا يقدم العقل على شيء من النقل ، وقد جاء النقل بما يجيب عن كل الأسئلة في المسائل التوحيدية، فإن كان الأمر كذلك فما فائدة هذه الحكمة (الفلسـفة) التي نأخذ منها التوحيد، وقد تتعارض مع النقول الصحيحة من الوحي، كما هو الحاصل في الواقع، فالاعتراض على كلامه من حيث أنه أطلق العنان للفلسـفة أن تـتدخل بإطلاق في الغيبيات والمسالك التوحيدية، بدون تقيـيد والصحيح أن الفلسـفة لا يمكن أن نطلق لها العنان في هذا الباب؛ لأن الغيب لا يعلمه إلا علام الغيوب فالأصل فيه هو النص ولا تكون الاستدلالات العقلية فيه إلا من باب الرد على الخصوم.

          ونرى على سبيل المثال بعض الباحثين يقرر صحة مذهب المعتزلة وعدم تناقضه، رغم أنهم يقولون بنفي الصفات وما ذلك إلا لتأثره بالمنهج الفلسفي اليوناني _ والذي استقى منه المعتزلة مذهبهم في الصفات  بعد تحويره في قالب كلامي منطقي _  فيقول: "وأن قول المعتزلة بهذا الوجود العقلي، أو الصوري أو الإلهي للأشياء لا يعني قولهم بوجودها الفعلي، الحسـي المادي في الخارج، وبذلك ينحل التناقض، وتبقى الوحدة الفكرية في مذهبهم، بحيث لا يوجد أي تناقض في منظورهم الميتافيزيقي( )، حول الله والعالم"( )، ومن المعلوم أن مذهب المعتزلة قائم على الفلسـفة اليونانية، وهي التي جاء أصحابها بالبدع الاعتقادية الكبرى من نفي الصفات والقدر استناداً على مقدمات كلامية فاسدة مأخوذة عن اليونانيين، فهل يوصف مثل هذا المنهج الفكري بالوحدة الفكرية وعدم التناقض؟!  فما الذي يحملنا على أخذ معلوماتنا حول الله في الأزل وأفعال الله وما يجب على الله من علم الكلام أو الفلسـفة الواردة إلينا من الكفار، ونترك كلام الله الذي أنزله الله (تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ) .

          وفي معرض الإعجاب بهذا الفن الدخيل على المسـلمين قال في كتاب: (أسس الفلسـفة) مقدمة مرتضى المطهري: "والإنسان - سـواء نجح أم خاب- لا يستطيع أن يكف نفسه عن المحاولات الفكرية والنشاطات العقلية التي تدور حول بدء العالم وغاية الوجود ومبدئه وحول الحدوث والقدم، والوحدة والكثرة، والمتناهي واللامتناهي والعلة والمعلول، والواجب والممكن، وغيرها من الأمور التي هي من هذا القبيل. وهذه الحاجة الفطرية هي التي أوجدت الفلسـفة.

فالفلسـفة تجعل الوجود بأجمعه ميداناً ليجول فيه الفكر البشري، وهي تحمل العقل الإنساني على جناحها وتحلق به إلى عوالم هي منـتهى آماله وغاية طموحه" ، والجواب على ما قاله: أن الفكر الإنساني محدود بما هو من مقدوره فإذا تجاوز المقدور إلى ما يتعذر أن يأتي فيه العقل البشري بالنتائج الصحيحة _ كما هو الحال في الغيبيات _ توقفت مهمة العقل البشري ليترك الباقي لما هو أجدر أن يتبع ويفصل النـزاع ألا وهو الوحي الإلـهي.

          كما زعم أن الفلسـفة ظهرت مع تاريخ ظهور الإنسانية، فقال في مقدمة كتابه أصول الفلسـفة: "وتاريخ الفلسـفة مع تاريخ الفكر البشري توأمان ولهذا فنحن لا نستطيع أن نعتبر قرناً معيناً ولا منطقة خاصة على أساس أنهما مبدأ ومنشأ ظهور الفلسـفة على وجه الأرض. فالإنسان- بحكم رغبته الفطرية- لم يفوت أية فرصة أتيحت له في أي وقت وأي مكان للتفكير وإبداء الرأي حول النظام الكلي للعالم"( )، وهذا زعم يحتاج إلى دليل، وهو ناتج عن الاقتناع الكامل بهذا المذهب الفكري الدخيل، فعلم المفلسـفة مخترع من البشر وليس توأماً مع ظهور الإنسانية، فإن كان يقصد العقائد الإنسانية فإنه يلزمه أن يغير تعبيره إلى ما يفصح عن القصد، ولو قال: إن العقائد ظهرت مع ظهور الإنسانية بدلاً من إطلاق ذلك على الفلسـفة، فإن العقائد التي علمها الله آدم شيءٌ والعقائد المستخلصة من الفلسـفة شيء آخر، والفلسـفة والعقائد الصحيحة المستندة إلى الوحي لا يخفى تناقضها في كثير من الأمور.

          كما نجد الباحث أحمد صبحي في كتابه: الفلسـفة الأخلاقية يقرر صحة الفلسـفة التي سار عليها المعتزلة ويحاول مدحها لكونها تنشأ عنها أخلاقيات وإن كانت هذه الأخلاقيات ضمن إطار خلق العبد فعل نفسه فالمعتزلة فلسفتهم خير من فلسـفة ابن عربي وفلسـفة الجبرية( ) اللتان أطلقتا العنان للإنسان في تصرفاته خارجاً عن حدود الأخلاق؛ فإن المعتزلة يقولون بأن العبد يخلق فعل نفسه ومن ثم هو مسؤول عن كل ما يفعله من خير أو شر، ففي نظره أن فلسـفة المعتزلة استطاعت أن تكون فلسـفة أخلاقية تعين المسلم على التفريق بين الحسـن والقبيح في تصرفاته( ).

فصار المعيار عند الباحث في تقيـيم هذه الفلسـفة أو تلك هو: مقدار مراعاتها لجانب الأخلاق، ولو كان ذلك على حساب العقيدة الإسلامية، فلا أدري كيف سمح الباحث لنفسه أن يمهد لبحثه ويكون له المادة التي تثبت أن للفلسفات الإسلامية بعداً أخلاقياً ولو كان ذلك مستقىً من الفلسفات اليونانية الضالة البعيدة عن نور الوحي، ولو كان ذلك على حساب صحة العقائد التي جاءت بها تلك الفلسفات من عدمها؛ فيقول في شرحه  لفلسـفة ابن عربي: "كمال الإنسان لدى أصحاب وحدة الوجود لأنه قد اجتمعت فيه كمالات، والوجود العقلي والروحي والمادي لا فرق في ذلك بين أي من هذه المظاهر، فليس سفك الدماء والفساد في الأرض بأدنى من البر والإحسان من حيث إن الأولى مظاهر لصفات الجلال الإلهي، ولا تفترق صفات الجلال عن صفات الجمال فالمعصية من العبد كمال أو هي جلال لأنها مظاهر لاسم المنتقم أو الجبار وهو من أسماء الله، فلا فرق بين الخير والشر، بين من يظهر بصورة العاصي ومن يظهر بصورة المطيع من حيث إن كلاهما هو مظهر لاسم من أسماء  الله"( )، ولم يجد طريقاً لنقد هذه النظرية إلا من حيث أنها أجحفت في جانب الأخلاق، فيقول: "وغني عن البيان أن نظرية كهذه تلغي القيم الخلقية وأحكام الشرائع وتفسر الخلق وحياة الإنسان وسلوكه ومآله بعد الممات تفسـيراً وجودياً بحتاً لا أثر للأخلاقية فيه، إنها لا تقوض أصول الشرع وأحكامه فحسب بل إنها تعبث بكل تقيـيم ومن ثم فإنها إن صلح أن تلحق بالمذاهب الأنطولوجية التي تفسر الوجود فإنها لا يمكن أن تكون بحال ميتافيزيقا أخلاق، إنها وإن جعلت الإنسان ربانياً فإنها لم تكرمه، وأي تكريم ذلك الذي يستوي فيه الطيب مع الخبيث ويلحق فيه إبليس منـزلة الرسـول باسم صفتي الجمال والجلال"( )، ويقول في شرحه لفلسـفة الإنسان الكامل: "والنظرية شأنها شأن نظرية ابن عربي تفسر النشأة الإنسانية بالحديث المنسـوب إلى الرسـول، خلق الله آدم على صورته فالله قد خلق الإنسان على صورته وحلاه بأوصافه وسماه بأسمائه فهو الحي والإنسان حي وهو العليم والإنسان عليم وهو الموجود والإنسان موجود وله الربوبية للإنسان الربوبية" ، ثم يبدأ في نقده لهذه النظرية على أساس الأخلاق الذي من أجله صنف كتابه، وربما لو وجد في هذه النظرية أو تلك ما يعضد الأخلاق ويقومها لاعتبرها فلسفات إسلامية يعتز بها، ويشهد لذلك موقفه من فلسـفة الاعتزال مع نفيها للصفات وقولهم في الحقيقة بخالقين في الكون، فيقول: "فالإنسان متصف بالكمال وفق هذه النظرية لا لسبب أخلاقي وإنما لنسبة إلهية من حيث هو صورة الحق أو بالأحرى لسبب وجودي محض، والنظرية في جملتها أنطولوجية لا تدع مجالاً للأخلاق بل لعلها تعبث بالقيم شأنها شأن نظرية وحدة الوجود حين تسـوي بين الخير والشر كما تسـوي بين الجنة والنار"( ).

          ثم إنه يدعو غيره إلى تطوير الفلسـفة في الجانب الاعتقادي إلى فلسفات أخلاقية مبنية على نتائج مقدمات الفكر اليوناني لتشمل جوانب الحياة، فيبين _ في كتابه (الفلسـفة الأخلاقية في الفكر الإسلامي) ( ) _ أن  الفلسـفة التي عنيت بالنظر والاستدلال في الجانب الاعتقادي لا بد أن تكون لها أبعادها في الجانب الأخلاقي، فالعلوم التي أخذت من اليونان في الاعتقادات لا بد أن تفعل في جانب الأخلاق، وكأن المسـلمين لا يجدون المنبع الإلهي السماوي للأخلاق، والاعتقادات من قبل ‍‍‍‍‍‍‍‌‌‍‍!! فلا بد في نظره أن يكون من بين الدراسات المتعلقة بالإنسان التي يعنى بها المتكلمون: الدراسات في الجانب الأخلاقي .

          وكاتب آخر يطلق على بعض الكتب الفلسفية التي خلفها فلاسفة اليونان: (تراثنا الفلسفي)، ومن تراثنا الفلسفي الذي لا بد من نقده وتمحيصه: كتاب (فلوطرخس في الآراء الطبيعة التي يقول بها الحكماء)( )، ومنها: الرسالة الذهبية للمعلم الأول أرسطوطاليس إلى الإسكندر في العالم والمخلوقات، وشرح مجموع من كتاب: (أناميلحس)، _كذا _ لوصايا فيثاغورس الفيلسـوف، وهو شرح الوصايا الذهبية لفيثاغورس( ).

          وجاء في كتاب (مدخل إلى مبادئ التربية) بعد بيان معنى الفلسـفة اليونانية وبيان مهمة الفيلسـوف: "إن هناك علاقة وثيقة بين الفلسـفة وطريقة حياة أي مجتمع  إنساني؛ فالناس يعيشون حسب فلسفتهم في الحياة وقدرتهم على استيعاب ما يدور حولهم من مظاهر طبيعية واجتماعية، إن العقيدة الفلسفية في غاية الأهمية لمعتنقها؛ لأنها تنير له طريق الحياة"( )، وفي الحقيقة فإن المسلم لا يحتاج أن يسلك طريقة الفيلسـوف، الذي يعتمد في تقرير عقائده على العقل، خاصة إذا كانت المعطيات العقلية التي يرتكز عليها في معرفة عقيدته وفلسفته مفروضة عليه مسبقاً من قبل الكفار من اليونانيـين وغيرهم.

          والدخول في علم الفلسـفة أدى إلى تسرب بعض العقائد الفاسدة إلى العقيدة الإسلامية الصافية، لتكدر صفاءها؛ فإذا كانت الطريقة التي يتوصلون بها إلى معرفة الغيبيات: طريقة مأخوذة من الكفار الذين فسدت تصوراتهم، مع ترك السبيل الأمثل وهو سبيل القرآن والسـنة، فإن النتيجة الحتمية ستكون هي الأخرى بعيدة عن منهاج الكتاب والسـنة.

 نظرية الفيض:

ومن العقائد الفاسدة التي جاء بها هذا العلم: نظرية الفيض، وهي التي يقررها الفلاسفة وإن لم يقولوا بلوازمها، ويمكن تلخيص النظرية بملامحها العامة كما يلي: صدر العلم عن الله الواحد المختار أزلاً، بمعنى أن العلم قديم بالزمان حادث بالذات، والله واجب الوجود بذاته، والعلم ممكن الوجود بذاته، ولكنه لأنه متصل وجوداً وعدماً بإلـه، فهو واجب الوجود بغيره، فلأن الله لا يتغير، وعلمه وفعله شيء واحد، ولا يصدر عن الواحد مباشرة إلا واحد، فقد فاض عنه أزلاً وأولاً  أولية مرتبية وبالذات العقل الأول، وعن هذا صدر عقل ثان، وجسم فلك وصورته (نفسه)؛ وذلك لثنائيته؛ لأنه ممكن بذاته، وواجب بغيره، وتفكيره بكل، وبالله ينتج عنه شيئان: عقل ثان وفلك بصورته وجسمه (الفيض هنا ثنائي)، أو عقل ثان ونفس وفلك (الفيض هنا ثلاثي) ويستمر الأمر هكذا حتى نصل إلى العقل العاشر، فيصدر عنه هيولي جميع الموجودات السفلية والبذور أو الصور أو النفوس والطبائع والخصائص المميزة لأشخاص وأجناس وأنواع الإنسان والحيوان والنبات والجماد. ومع أن الله فاعل مختار، فقد صدر عنه العالم أزلاً لأنه علة تامة لا يتأخر عنها فعلها ولاستحالة الترجيح بلا مرجح، ولقدم الهيولي بالزمان ولاستحالة حدوث الزمان واستحالة حدوث الحركة بعد أن لم تكن( ).

          قال شيخ الإسلام _ رحمه الله _: "فالإلهية عند القوم أمر مشترك بين الله وبين الملائكة وبين المعلمين ومن نقتدي به لكن إلهية الله أفضل وأكمل كما أن الوجود مشترك بين الموجودات لكن الوجود الواجب أكمل وهذا الشـرك شر من شرك مشركي العرب فإن أولئك وإن أشركوا بالوسائط وقالوا: ( هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)( )، وقالوا: ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)( )، فلم يكن التأله عندهم بمعنى  التشـبه والاقتداء، بل بمعنى العبادة والذل والمحبة، وهؤلاء مع عظيم شركهم بالله بمخلوقاته جعلوا التأله لنا هو التشـبه بالإله لا أنه يُحب ويُعبد ويُدعى ويُسأل ولهذا لم تكن الآلهة مختصة بالله عندهم لأن  التشـبه مبناه على أن الأدنى يتشـبه بالذي فوقه والذي فوقه يتشـبه بمن فوقه حتى ينـتهي إلى الغاية ولهذا سموه إله الآلهة ولهذا يقولون إن كل فلك يتحرك للتشـبه بعقله ففلك القمر يتحرك للتشـبه بالعقل العاشر والفلك التاسع يتحرك للتشـبه بالعقل الثامن وبهذا الطريق أثبت أرسطو وأتباعه وجوده وقالوا إن الفلك يتحرك للتشـبه به وشبهوه بتحريك المعشوق لعاشقه لكن العاشق يحب ذات المعشوق والفلك عندهم إنما يحب  التشـبه بالله وهو كتحريك الإمام للمصلين والمتبوع للتابعين فلم يثبتوا بهذا أن الله رب العالمين خلقه وأنشأه ولا أنه إله العالم الذي يحبه العبد ويرجوه ويخشاه" ، وعلى هذا فعبادتهم لله إنما هي تشـبههم به، وهذا ما لم يقل به حتى مشركوا العرب، فإنهم يعلمون أن الله فوق خلقه في ذاته وصفاته وقهره، وإنما كان شركهم في الوسائط، فهؤلاء المتفلسـفة قد أزروا بمنـزلة الربوبية في قلوبهم، حتى صارت عقيدة الإلـه عند مشركي قريش خير من تصور الإلـه في أذهان هؤلاء الفلاسفة ، فلم يشبهوا بذلك سـوى الذي حاج إبراهيم في ربه حين قال له إبراهيم: ( رَبِّيَ الَّذِي يُحْيـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ، فبهت الذي كفر لتعريه من الحجة التي يثبت بها ما يروج له من ضلال وكبر وإعجاب بنفسه، ولم تكن له طريق لإثبات تلك العقيدة الفاسدة لمن حوله، إلا التشـبه بالإلـه في صورة سمجة عارية عن البرهان، فبهت الطاغوت وبهت كل من تشـبه به ممن كابر المعقول وتنكف المنقول.

          ويكاد يجمع الباحثون على أن الفارابي( ) هو أول من قال بنظرية الفيض في الإسـلام( )، وهذه النظرية (عقيدة صدور العالم عن الله) ليست من ميراث الفلسـفة الإغريقية فحسب، بل هي مزيج من الفلسـفة الإغريقية والعقائد النصرانية المحرفة، يقول المستشرق (دي بور): "وربما تجلى في أقوال الفارابي هذه أنه متأثر بالمعلمين النصارى؛ لما نلاحظ فيها من تقسـيم ثلاثي، والاصطلاحات التي يستعملها الفارابي تؤيد ما نلاحظه من التأثر بأساتذته النصارى، غير أن هذا كله لا يعدو أن يكون ظاهر فلسـفة الفارابي؛ أما الجوهر الذي تحويه فمرده إلى المذهب الأفلاطوني الجديد" ، وهنا يتوقع أن الفارابي جاء بهذا القول من أساتذته النصارى كما هو معروف من سـيرته؛ حيث تلقى العلم في بداية أمره على يد شخصية لا يزال يكتنفها الغموض ويغلب على الظن أن أستاذه الأول كان نصرانياً ، ولأنه يقول بالصدور الثلاثي ، وهو يشبه ما يعتقده النصارى من عقيدة التثليث التي تقوم عليها فلسفتهم بوصف الإلـه بأنه مزيج متجانس من الآب والابن وروح القدس، وهنا قد يكون (دي بور) قد سلك هذا المسلك في تفسـيره لمنشأ نظرية الفيض؛ بسبب انتمائه النصراني؛ ولكن يؤيده شيخ الإسلام في فكرته على وجه العموم، فيقول مبيناً أصل منبت أقوال الفارابي في الفيض: "والفارابي كان قد أخذ الفلسـفة عن متى، ثم دخل إلى حران فأخذ ما أخذه منها عن أولئك الصابئة الذين كانوا بحران وكانوا يعبدون الهياكل العلوية، ويبنون هيكل العلة الأولى، هيكل العقل الأول، هيكل النفس الكلية، هيكل زحل، هيكل المشتري، هيكل المريخ، هيكل الشمس، هيكل الزهرة، هيكل عطارد، هيكل القمر، ويتقربون بما هو معروف عندهم من أنواع العبادات والقرابين والبخورات وغير ذلك"( ).

          ومن الفرق المنـتـسبة إلى الإسلام في العصر الحديث والتي تقول بنظرية الفيض: الإسماعيلية( )، يقول د. سليمان بن عبد الله السلومي: "إن مؤلفاتهم الفلسفية ونظرياتهم الاعتقادية تدور على هذا الفكر وتقوم عليه. وبالتالي فإن ترتيبهم للموجودات متفرع من ذلك حيث بعد المبدع – بكسر الدال – يأتي المبدع – بفتح الدال – وهو ما أسموه بالعقل الأول والسابق ووصفوه بصفات الله وأسمائه بعد نفيها عن الله عز وجل"( ).

يقول أحدهم واصفاً العقل الأول: "إن جميع صفات الشرف والجلالة وما يعبر به في جميع اللغات من الإشارات بنعوت الإلهية فإنها واقعة على العقل الأول"( )، وعلة هذا القول عندهم: "أنه لما كانت حروف المعجم محدثة لم تكن تدل إلا على محدث مثلها وإذا كان القول كذلك كانت هذه الأسماء والصفات منفية عنه – أي المبدع – تعالى وتكبر وكانت واقعة على إبداعه الذي هو العقل الأول الموجود الأول والسابق وهو متنزه متعال"( ).

وأما العقل الثاني فيعتبر عند الإسماعيلية "أصلاً ثانياً مع العقل الأول ويأتي في الوجود والرتبة بعد السابق ولذلك أطلقوا عليه التالي؛ لأنه تلا العقل الأول في الأفضلية والوجود والأهمية وكثيراً ما أطلق الإسماعيلية على هذا العقل (النفس الكلية) وطبيعتها عقلية محضة وهي أقرب الموجودات من العقول العشرة إلى عالم الكون والمخلوقات"( ).

وممن تأثر بهذه النظرية: بعض الصوفية، يقول أحد المتصوفة في العصر الحديث: "نحن نعرِّف النفس أنها ناطقة، ولقد مُـيِّزت النفس الناطقة عن النفس الحيوانية بالنطق، والنطق فكرٌ، فكون الإنسان إنساناً وتميزه عن الحيوان إنما كان بسبب فكره. فالنفس كما قلنا صورة، والصورة فكر، والفكر إلـهي. أفلوطين ذاته جعل أول الموجودات: العقل الأول، ووصف هذا العقل بأنه وجود. إذن أول الموجودات العقل وهو فكر. والنفوس الإنسانية أفكار، إذ لكل إنسان نفسه، أي صورته، أي فكره الخاص به، وأصل هذه الأفكار كلها  الفكر الإلـهي. فالنفوس كانت إذن أفكاراً في العقل الإلـهي، ثم طبعت في صفحة الوجود المادي. فتشابهها حادث من قبيل كون الفكر فكراً، والفكر واحد مع تشعب في الصور، إذ الأفكار الجزئية مدرجة في أفكار كلية، والأفكار الكلية مشتقة من فكر أول هو العقل الأول قلنا إنه الماهية. فكل النفوس كانت في الواحد فكراً، ثم صارت في الكثرة كثرة، كل صورة، لها بالواحد المشع ارتباط، وهي بالتالي انعكاس لهذا الإشعاع. فالواحد موجود فيها كمصدر وهي محل للواحد باعتبار تجزئتها وبالإضافة فإن التعين يحمل في ذاته نورانية صافية مع قابلية للانطباع في المادة، ولهذا رأيت أن الصورة ستنزل إلى تحت، أي: ستفارق العالم النوراني المحض لتدخل  العالم الظلماني، أي عالم المادة، وتنطبع فيه"( ).

          من هذا ومما قبله نعلم أن الاعتماد على الفلسـفة في إثبات العقائد من مظاهر التشـبه  بأولئك الكفار الذين ضلوا وأضلوا غيرهم، هذا مع ما جرته إلينا الفلسـفة من عقائد فاسدة، والتي منها عقيدة الفيض التي ترجمت بعض عقائد الأمم الكافرة من قبل، فما أشد غِـنى المسـلمين عن كل هذه المصادر بمصدر عزتهم وهو الوحي من كلام الله تعالى أو كلام نبيه صلى الله عليه وسلم.

المطلب الثاني:-

 علم الكلام  أصوله وآثاره في العصر الحديث:

لقد وقفت من خلال هذه الدراسة على بعض التعريفات لعلم الكلام المستند على المنطق، فأقوم أولاً  بتعريف المنطق: جاء في الموسـوعة العربية العالمية: "هو علم يتناول بالدراسة مبادئ وطرائق المحاكمة العقلية؛ فهو يستكشف كيفيات التميـيز بين المحاكمة القويمة والمحاكمة السقيمة، ويسمى المثال المستخدم في المحاكمة: البرهان والاستدلال"( )، وعلى هذا التعريف فإن موضوع علم المنطق هو طريقة التفكير الصحيحة للوصول إلى النتائج السليمة عن طريق الدليل العقلي والحجة، وهو ما يعرف بالمنطق اليوناني، والمنطق اليوناني جزء من الفلسـفة الإغريقية كما جاء في أبجد العلوم بالنسبة للفلسـفة: "إنها ليست علماً برأسها، بل هي أربعة أجزاء: أما الهندسة والحساب فهما مباحان، وأما المنطق والطبيعيات فبعضها مخالفٌ الحق فهو جهل وليس بعلم وبعضها ليس كذلك" ، فجعل الفلسـفة أقساماً منها المنطق، ثم حكم على تلك الأقسام بما رآه في أغلب الأحوال من واقعها.

وأما علم الكلام بالتحديد فقد جاء تعريفه كما في كتاب التعريفات: "علم الكلام: علم باحث عن الأعراض الذاتية للموجود من حيث هو على قاعدة الإسلام" ، فهنا عرفه بتعريف المنطق؛ فأدخل علم الكلام في سائر الموجودات دون تحديد للإلهيات، فعرفه بشكل عام، ولكنه قيده بما كان على قاعدة الإسلام، ولكن الحاصل أن علم المنطق هو أداة للتفكير لها طريقتها وأسسها ومصادرها، فقد تكون هذه الأداة على طريقة الإسلام وقد تستعمل بطريقة مخالفة للدين.

وأما تعريف علم الكلام على اصطلاح أهله: فقد جاء في أبجد العلوم: "هو علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج عليها ودفع الشبه عنها وموضوعه عند الأقدمين: ذات الله تعالى وصفاته؛ لأن المقصود الأصلي من علم الكلام: معرفته تعالى وصفاته"( )، وهو مشابه لتعريف الإمام الإيجي حيث قال: "والكلام علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه"( )،كما حذا حذوهما المناوي حيث قال: "والكلام  علم يبحث فيه عن ذات الله وصفاته وأحوال الممكنات من المبدأ والمعاد على قانون الإسلام" ،  بينما عرفه ابن خلدون في مقدمته: "علم الكلام هو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السـنة" ، وتعريف ابن خلدون تضمن معنى الدفاع عن العقيدة الصحيحة، وإن كان تقيـيده بأنه على مذهب السلف وأهل السـنة فيه نظر _ كما سـيأتي في موقف العلماء من أهل السـنة من علم الكلام _ ويرد نفس الإشكال على وصف صديق حسـن القنوجي لعلم الكلام حيث قال: "ثم إن علم الكلام شرطوا فيه أن تؤخذ العقيدة أولاً من الكتاب والسـنة ثم تثبت بالبراهين العقلية" ، وإن كان قد يشكل في كلام القنوجي أمر آخر وهو أنه جعل من مهمة علم الكلام: الدفاع عن العقائد‍ الثابتة بالكتاب والسـنة أصلاً فجعل مهمة علم الكلام هو مجرد الدفاع وليس تقرير العقائد، وقد عرف علم الكلام في نفس الموضع من كتابه فقال: "هو علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج عليها ودفع الشبه عنها، وموضوعه عند الأقدمين: ذات الله تعالى وصفاته" ، فاعتبر علم الكلام مصدراً لإثبات العقائد الدينية، وهنا تكمن مغالطة هذا التعريف للواقع المحسـوس؛ فهل يعتبر علم الكلام علم يدافع عن العقيدة الثابتة أصلاً؟ أم نعتبره هو نفسه مقرراً للعقائد الدينية؟ والواقع أن المتكلمين أخذوا هذا العلم على أنه أساس في تقرير العقيدة، ثم يستشهدون بعد ذلك بنصوص الشرع _ إذا كانت موافقة لما توصلوا إليه من نتائج كلامية _؛ فإنه لا يمكن أن نفسر نفيهم لصفات الباري جل وعلا الثابتة ثبوتاً واضحاً بالقرآن والسـنة _ أو بعضها _ إلا بهذا التفسـير( )، ويعضد هذا التفسـير ما قاله الشيخ محمد عبده في سبب تسمية علم الكلام بهذا الاسم: "إما لأن أشهر مسألة وقع فيها الخلاف بين علماء القرون الأولى هي أن كلام الله المتلو حادث أو قديم؛ وإما لأن مبناه الدليل العقلي وأثره يظهر من كل متكلم في كلامه وقلما يرجع فيه إلى النقل اللهم إلا بعد تقرير الأصول الأولى ثم الانتقال منها إلى ما هو أشبه بالفرع عنها وإن كان أصلا لما يأتي بعدها؛ وإما لأنه في بيانه طرق الاستدلال على أصول الدين أشبه بالمنطق في تبيـينه مسالك الحجة في علوم أهل النظر وأبدل المنطق بالكلام للتفرقة بينهما"( )، فبين أن استنادهم الأساسـي إنما هو على الدليل العقلي وقلما يرجع فيه إلى النقل اللهم إلا بعد تقرير الأصول الأولى.

الفرق بين الفلسـفة وعلم الكلام:-

وبالنظر إلى تعريف الفلسـفة وعلم الكلام فإننا نلاحظ أن علم الفلسـفة عام بالنسبة للوجود والحياة، وأما علم الكلام فإنه خاص بالعقائد الدينية، وإن كان في الأصل هو تطور عن الفلسـفة، وعن الفرق بين الفلسـفة وعلم الكلام يقول الباحث سليمان الغصن: "يمكن التفريق بينها وبين علم الكلام بأن الفلسـفة تبحث فن الحقيقة، وسـواء أصابها الفيلسـوف حقيقة دينية، أو غير دينية، فهي بحث عن الحقيقة، أي حقيقة"( )، وفي شرح طريقة اختلاط هذين الفنين ببعضهما يقول صديق حسـن القنوجي: "خلط المتأخرون من المتكلمين مسائل  علم  الكلام بمسائل الفلسـفة لعروضها في مباحثهم وتشابه موضوع  علم  الكلام بموضوع الإلهيات ومسائله بمسائلها، فصارت كأنها فن واحد، ثم غيروا ترتيب الحكماء في مسائل الطبيعيات والإلهيات وخلطوهما فنا واحداً قدموا  الحديث في الأمور العامة ثم أتبعوه بالجسمانيات وتوابعها إلى آخر العلم، كما فعله جمعٌ من علماء  الكلام وصار علم  الكلام مختلطاً بمسائل الحكمة( ) وكتبه محشوة بها، كأن الغرض من موضوعهما ومسائلهما واحد، والتبس ذلك على الناس وهو غير صواب؛ لأن مسائل  علم الكلام إنما هي عقائد متلقاة من الشريعة كما نقلها السلف من غير رجوع فيها إلى العقل ولا تعويل عليه( )، بمعنى أنها لا تثبت إلا به فإن العقل معزول عن الشرع، وما تحدث فيه المتكلمون من إقامة الحجج فليس بحثاً عن الحق فيها؛ فالتعليل بالدليل بعد أن لم يكن معلوماً هو شأن الفلسـفة( )، بل إنما هو( ) التماس حجة عقلية تعضد عقائد الإيمان ومذاهب السلف فيها وتدفع شبه أهل البدع عنها الذين زعموا أن مداركهم فيها عقلية وذلك بعد أن تفرض صحيحة بالأدلة النقلية كما تلقاها السلف واعتقدوها وكثيراً ما بين المقامين من التفاوت في ذلك، والمتكلمون إنما دعاهم إلى ذلك كلام أهل الإلحاد( ) في معارضات العقائد السلفية بالبدع النظرية فاحتاجوا إلى الرد عليهم من جنس معارضاتهم واستدعى ذلك الحجج النظرية والبطلان؛ فليس ذلك من موضوع  علم  الكلام ولا من جنس أنظار المتكلمين فاعلم ذلك لتميز به بين الفنين، فإنهما مختلطان عند المتأخرين في الوضع والتأليف والحق مغايرة كل منهما لصاحبه بالموضوع والمسائل، وإنما جاء الالتباس من اتحاد المطالب عند الاستدلال وصار احتجاج أهل  الكلام كأنه إنشاء لطلب الاعتداد بالدليل وليس كذلك بل إنما هو ورد على الملحدين"( )، يؤيد هذا الرأي ما قاله شيخ الإسلام: "وهؤلاء المتكلمون المتأخرون الذين خلطوا الفلسـفة بالكلام كثر اضطرابهم وشكوكهم وحيرتهم بحسب ما ازدادوا به من ظلمة هؤلاء المتفلسـفة الذين خلطوا الفلسـفة بالكلام فأولئك( ) قلت ظلمتهم بما دخلوا فيه من كلام أهل الملل وهؤلاء كثرت ظلمتهم بما دخلوا فيه من كلام أولئك المتفلسـفة"( )، فاتضح أن الأصل في علم الكلام هو الرد على الشبه والمحدثات وليس البحث عن الدليل، ثم تأثر العلم بالفلسـفة وصار أصحابه يبحثون عن الدليل ليعتقدوا ما هو صحيح، وإنما هذه هي طريقة الفلاسفة في الأصل وليست طريقة المتكلمين.

          وبعد بيان معنى علم الكلام عرفنا أنه يبحث عن العقائد الدينية الصحيحة بالطريقة العقلية والمسالك الفلسفية _ هذا على طريقة المتأخرين، وهي التي تعنينا في هذه الرسالة _ فقد كان موقف العلماء من علم الكلام مشابهاً لموقفهم من الفلسـفة، وأسـوق هنا جملة من مواقفهم: -

          قال أبو يوسف( )_ رحمه الله _: "من طلب الدين بالكلام تزندق( )"( )، ولا شك أن هذه المقولة خطيرة جداً؛ حيث فيها وصف لمن طلب الدين بالكلام بالزندقة وهو من أوصاف المنافقين، ولا شك أن كلمة كهذه عندما تصدر من عالم كأبي يوسف _ رحمه الله _ فهي تسترعي الانـتباه وتستدعي الوقوف والتأمل، وهي تعني أن علم الكلام لا حاجة له بالنسبة لعلم هذه الأمة؛ فالعلم الذي رزقها الله إياه كاف في إخراجها من الظلمات إلى النور، وخاصة في مجال العقائد.

          ولما سئل الإمام الشافعي _ رحمه الله _ عمن يأخذ عقيدته عن طريق النظر العقلي والحجج الكلامية أجاب بعبارة قوية مؤثرة من إمام ذكي عظيم، قال: "حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسـنة وأقبل على الكلام"( )، وقال _ رحمه الله _: " لأن يبتلي الله المرء بكل ذنب نهى الله عنه ما عدا الشـرك خير له من الكلام"( )، وإنما استثنى الشـرك؛ لأنه أكبر الكبائر وجعل ما سـوى ذلك من الذنوب أقل جرماً من الدخول في علم الكلام _ المبني على المقدمات الفلسفية _ والاستدلال به على العقائد، ولا يصدق هذا الوصف على ذنب إلا على البدعة الخطيرة في الدين، وعلى هذا فإن الشافعي _ رحمه الله _ يرى أن علم الكلام _ المبني على المقدمات الفلسفية _  من البدع التي هي أخطر من الكبائر كلها ما عدا الشـرك.

          وكان موقف الإمام أحمد بن حنبل _ رحمه الله _ كموقف شيخه الشافعي فقد أثر عنه أنه قال: "لا تجالسـوا أهل الكلام وإن ذبّوا عن السـنة"( )، وما ذلك إلا لأنه يعتبرهم من أهل البدع، فأوصى بعدم مجالستهم من باب هجر المبتدع؛ تأديباً له واتقاء العدوى منه، بل وصف الإمام أحمد علماء الكلام بما هو أشد من ذلك فقال: "لا يفلح صاحب كلام أبداً علماء الكلام زنادقة"( )، وهذا تعميم من الإمام _ رحمه الله _ بأنه لا يفلح كل من اقتبس من  هذا العلم، ثم بين حال من ولج فيه وعمل به وعلمه للناس، وهم علماؤه؛ فاعتبرهم زنادقة.

          وقال البربهاري( )في شرح السـنة: "واعلم أنها لم تكن زندقة ولا كفر ولا شكوك ولا  بدعة ولا ضلالة ولا حيرة في الدين إلا من الكلام وأهل الكلام"( )، وما كل هذا التحذير _ من هذا الإمام _ إلا من شدة ما رآه أهل السـنة من آثار علم الكلام في ذلك الزمن.

          ولذلك فقد ذم الكلام جموع من أهل العلم( )، قال شيخ الإسلام: "كان مذموما ممنوعاً منه عند السلف والأئمة"( )، بل قد نقل في موضع آخر إجماع أهل العلم على ذمه( )، كما نقل الإجماع في ذلك الشيخ محمد بن عبد الوهاب( )، وصنف الإمام أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة كتاباً سماه: (تحريم النظر في كتب الكلام)، ونقل فيه إجماع أهل العلم على تبديع أهله، فقال: "وقد بينا بما سبق فساد علم الكلام من أصله وذم أئمتنا له واتفاق أهل العلم على أن أصحابه أهل بدع وضلالة وأنهم غير معدودين من أهل العلم وأن من اشتغل به يتزندق ولا يفلح"( )، وقال الإمام الفقيه مرعي بن يوسف الكرمي المقدسـي: "نصيحة اعلم وفقك الله أنه ليس للمرء أسلم في دينه من ترك الخوض في مثل هذا والإعراض عن الخوض في علم الكلام المذموم واقتفاء طريقة السلف فإنهم لم يخوضوا في شيء من هذا"( ).

ولقد كان من أهل العلم من خاض في بحر علم الكلام وأبحر فيه باحثاً عن فائدة ترجى منه، وكان أغلبهم يصف نفسه بعد عودته وتركه للكلام بالحيرة والريبة والشك، وأنه لم يستفد من كل تلك البحوث سـوى التذبذب بين أهل الكلام وآرائهم، ومن هؤلاء العلامة ابن أبي الحديد المعتزلي وقد حكى كثرة بحثه في علم الكلام حتى قال في أبيات جميلة:

وأسائل الملل التي  اختلفت    في الدين حتى عابدي الوثن

وحسبت أني بالغ  أملي في    ما طلبت ومبرئ شـجني

فإذا  الذي استكثرت منه               هو الجاني على عظائم المحن

فضللت  في  تيه  بلا  علم             وغرقت  في يم بلا سـفن( )

وقال الشهرستاني في نهاية الإقدام في علم الكلام:

لقد طفت في تلك المعاهد كلها               وسـيرت طرفي بين تلك المعالم

          فلم أر إلا واضعاً كف حائر على       ذقـن أو قارعـاً سـن نـادم( )

ويروي شيخ الإسلام بعض الحكايات في ذلك فيقول: "وتجد عامة هؤلاء الخارجين عن منهاج السلف من المتكلمة والمتصوفة يعترف بذلك إما عند الموت وإما قبل الموت والحكايات في هذا كثيرة معروفة هذا أبو الحسـن الأشعري نشأ في الاعتزال أربعين عاماً يناظر عليه ثم رجع عن ذلك وصرح بتضليل المعتزلة وبالغ في الرد عليهم وهذا أبو حامد الغزالي مع فرط ذكائه وتألهه ومعرفته بالكلام والفلسـفة وسلوكه طريق الزهد والرياضة والتصوف، ينـتهي في هذه المسائل إلى الوقف والحيرة ويحيل في آخر أمره على طريقة أهل الكشف، وإن كان بعد ذلك رجع إلى طريقة أهل الحديث، وصنف إلجام العوام عن علم الكلام. وكذلك أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي, قال في كتابه الذي صنفه في أقسام اللذات: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً, ولا تروى غليلاً, ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن أقرأ في الإثبات (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)( ) (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)( ) وأقرأ في النفي (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)( )، (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً)( )، (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً)( ), ثم قال: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي: وكان يتمثل كثيراً:-

نهاية إقدام  العقـول  عقـال         وأكثر  سـعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا        وحاصل  دنيانا  أذىً  ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا               سوى أن جمعنا فيه  قيل وقالوا

وهذا إمام الحرمين ترك ما كان ينتحله ويقرره واختار مذهب السلف، وكان يقول يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام؛ فلو أني عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به وقال عند موته لقد خضت البحر الخضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم ودخلت فيما نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي _ أو قال _: عقيدة عجائز نيسابور"( )، ومن هؤلاء: الغزالي _ رحمه الله _ يقول في قواعد العقائد في معرض حديثه عن علم الكلام: "فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه، وهيهات، فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف، ولعل التخبيط والتضليل فيه أكثر من الكشف والتعريف، وهذا إذا سمعته من محدث أو حشوي ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا، فاسمع هذا ممن خبر الكلام ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة، وبعد تغلغل فيه إلى منـتهى درجة المتكلمين، وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخر تناسب نوع الكلام، وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود"( )، ومن هؤلاء: الإمام محمد بن علي الشوكاني حيث يقول عن نفسه: "وها أنا أخبرك عن نفسـي وأوضح لك ما وقعت فيه في أمسـي، فإني في أيام الطلب وعنوان الشباب شغلت بهذا العلم الذي سموه تارة علم الكلام، وتارة علم التوحيد، وتارة علم أصول الدين، وأكببت على مؤلفات الطوائف المختلفة منهم، ورمت الرجوع بفائدة والعود بعائدة فلم أظفر من ذلك بغـير الخيبة والحيرة وكان ذلك من الأسباب التي حببت إلي مذهب السلف على أني كنت قبل ذلك عليه ولكن أردت أن أزداد منه بصيرة وبه شغفاً"( )، وما هذا الشك ولا تلك الحيرة التي توصل هؤلاء الجهابذة إليها إلا لكون هذا العلم من العلوم التي استغنى عنها المسلمون بما آتاهم الله من الوحي، ولذلك نجد أن كل من مل تلك الطرق لم يجد طريقاً يغنيه إلا طريق القرآن، بعد ما أرهقته طريقة اليونان.

ولكن يستثنى من علم الكلام المذموم ما كان تعلمه من أجل الرد على العقائد المخالفة للقرآن والسـنة( )، وليس لإثبات العقائد الدينية، فإن ذلك طريقه الوحي، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية _ رحمه الله _: "والسلف لم يذموا جنس الكلام؛ فإن كل آدمي يتكلم، ولا ذموا الاستدلال والنظر والجدل الذي أمر الله به رسـوله والاستدلال بما بينه الله ورسـوله، بل ولا ذموا كلاما هو حق بل ذموا الكلام الباطل، وهو المخالف للكتاب والسـنة وهو المخالف للعقل أيضاً، وهو الباطل، والحذاق العارفون تحقيقه علموا أنه باطل عقلا وشرعاً وأنه ليس بطريق موصل إلى المعرفة, بل إنما يوصل لمن اعتقد صحته إلى الجهل والضلال ومن تبين له تناقضه أوصله إلى الحيرة والشك؛ ولهذا صار حذاق سالكيه ينـتهون إلى الحيرة والشك"( ).

ولعلمهم بأن هذا العلم مأخوذ من عند الكفار ألف بعضهم كتباً في تحريم تعلم هذا العلم مطلقاً؛ وذلك لاستغناء المسـلمين عنه من قبل، كما ألف في ذلك أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حذيفة( ): كتابه: تحريم النظر في كتب الكلام، نقل فيه اتفاق أهل العلم على أن أصحابه أهل بدع وضلالة وأنهم غير معدودين من أهل العلم فقال فيه: "وقد بينا بما سبق فساد علم الكلام من أصله وذم أئمتنا له واتفاق أهل العلم على أن أصحابه أهل بدع وضلالة وأنهم غير معدودين من أهل العلم وأن من اشتغل به يتزندق ولا يفلح"( )، وقال صديق القنوجي: "العلماء المتقدمون كانوا إذا اطلعوا على شيء من ألفاظ الفلاسفة في أي كلام يَرِدُ عليهم اكتفوا في رده وإبطاله بكون فيه شيء من عبارة الفلاسفة, ولم يتشاغلوا ببيان بطلانه, وإن كثيراً من العلماء المتقدمين وكثيراً من المتأخرين نهوا عن الخوض فيه أشد النهي, وصنف الشيخ جلال الدين السـيوطي كتاباً سماه: (القول المشرق في تحريم الاشتغال بالمنطق)، ولم يشتغل من اشتغل من المتأخرين؛ إلا لما كثر التعبير بقواعده من المخالفين؛ واستعانوا بالخوض فيه على تيسـير الرد عليهم بالطريق التي سلكوها, وكان الأولى: السلوك في طريقة المتقدمين؛ لأن قواعد التعبير بعبارة المنطق كثيرة الغلط وخارجة عن عبارة الكتاب والسـنة واللسان العربي مع أنه مفسدة في كل من الأديان"( ).

وما كان هذا الموقف الحاسم من كثير من علماء الإسلام تجاه هذا العلم إلا لما أدى إليه من مخالفة النصوص الشرعية، وتحريف لبعضها، واختلاف في أصول الدين، كما أنهم وجدوا أن أصوله مأخوذة من الكفار( )الذين لا يعتبرون للنص أي اعتبار؛ ولِمـا توصلت إليه مقدمات هذا العلم من نتائج باطلة، مشابهةً لعقائد الكفار من الأمم السابقة.

مصادر علم الكلام:-

إن المسـلمين لما كانت عقائدهم مستقاة من المعين الصافي الأصيل المشرق ألا وهو الوحي _ القرآن والسـنة _ وكلاهما من عند الله الذي خلق البشر وبين لهم ما يجب أن يعتقدوه وهو أعلم بنفسه وصفاته وما يجب نحوه _ لما كانوا كذلك _ كانت عقائدهم تجاه الباري جل وعلى عقائد مشرقة مضيئة، كيف لا وهم لم يتجاوزوا ذلك المنبع الصافي إلى غيره من المنابع، ولكن الأمر لم يستمر على ذلك الحال فلما ازدهرت حركة الترجمة في عهد المأمون( ) ترجمت أقوال الفلاسفة وبدأ بعض المسـلمين يستقون منها العلم، ولكنهم لم يكتفوا في ذلك بالعلوم التطبيقية بل قاموا بترجمة حتى ما يتعلق بجانب العقائد، كما أن نقل تلك العلوم القائمة على علم الكلام كان على سـواعد أناس لا يؤمن جانبهم؛ فإن مما يلفت الانـتباه في أمر هؤلاء المترجمين أن أكثرهم _ فيما اطلعت _ كانوا منحرفي العقيدة، فهم ما بين زنديق حاقد، ونصراني متربص، ومرتزق متهالك، ومن نظر في أسمائهم وسـيرهم بين له حقيقة أمرهم( )، قال محمد بن إسحاق النديم وهو بصدد بيان بعض أسماء النقلة للكتب الأجنبية إلى اللسان العربي: "ونقل لخالد بن يزيد بن معاوية كتب الصنعة وغيرها: البطريق وكان في أيام المنصور, واقليدس بن ناعمة واسمه عبد المسـيح بن عبد الله الحمصي الناعمي سلام الأبرش من النقلة القدماء في أيام البرامكة"( ), وهكذا تحمس هؤلاء الكفار لنقل هذه الكتب إلى العربية لعلهم لما وجدوا من الأعطيات الضخمة على أيدي الخلفاء؛ أو ربما لما وجدوا في هذه العلوم من إفساد للعقائد( )، قال صديق حسـن القنوجي: "وقد روي أن بعض الخلفاء العباسـيـين لما طلب الفلاسفة ليترجم علم المنطق باللغة العربية شاور كبيراً لهم، فقال: ترجموه لهم فإن علمنا هذا لا يدخل في دين إلا أفسده"( )،  يقول الباحث على بن بخيت الزهراني: "ومن عجائب الأمور أن حركة الترجمة هذه كان قد تولى العمل بها والإشراف عليها أناس ليسـوا بمسـلمين، من يهود ونصارى ومجوس وطوائف شتى، فما عسى أن تكون النتيجة حين أسـندت حركة الترجمة إلى تلك الطوائف الحاقدة على الإسلام، التي انطلقت في ظل رعاية الدولة وفي كنف تشجيعها تتبارى في إخراج تلك السموم من مكامنها؛ لحقن فكر المسـلمين وعقولهم بها؟ فإن تهافت هؤلاء المترجمين من أعداء الإسلام على القيام بترجمة هذه الفلسـفة ليؤكد لنا أن هناك مؤامرة خفيةً أو اتفاقاً على الأقل بين هذه الفئات الحاقدة لتدمير المسـلمين من الداخل، وغزوهم فكرياً بهذه السموم الخطيرة"( ), وعلى إثر ذلك كله قام المسلمون بتلقي كثير مما تُرجم لهم من هذه الكتب على وجه القبول، حتى ما كان منها في جانب العقائد؛ انبهاراً منهم بالعقول اليونانية فسلكوا بعضهم في الإلهيات مسلكهم, فأصابهم من ذلك المسلك ما أصابهم من الشك والريـبـة والاختلاف الذي أصاب من قبلهم من الأمم؛ لمـّا ابتغوا غير نور الله ليوصلهم بزعمهم إلى الحق والنور، ولم يكن ما أصابهم من ذلك الاختلاف إلا لأنهم جعلوا طرائق العقول البشرية التي يعتريها الغي والضلال هي الأساس في تقرير العقائد وجعلوا الوحي هو المقرر لذلك؛ فالتعارض عندهم بينهما يتم فيه ترجيح العقل البشري على السمع الرباني( ).

ولكننا ما زلنا نجد أن هذا العلم هو الأصل في تلقي العقيدة عند كثير من المعاصرين، بل وحتى بالنسبة إلى المعاهد الإسلامية الكبرى، يقول الباحث علي بن بخيت الزهراني: "أما المعاهد الإسلامية الكبرى كالأزهر وغيره فلم توفق إلى تدريس المذهب السلفي، أو حتى تحاول ذلك، وظلت كما هي عليه دوماً من تبنٍّ للمذاهب الكلامية وإعراض بل وعداء متوارث لمذهب السلف( )"( )، يقول الباحث سليمان الغصن: "كما حاول بعض الكتاب المحدثين إبراز أهمية الكلام، وإظهار دور المتكلمين، وبيان أهمية منهجهم العقلي في تناول القضايا، وفي المقابل نعوا على السلف مجابهتهم للمتكلمين من المعتزلة ونحوهم، وتمسكهم بالنصوص الشرعية، بل صرح بعضهم بأن من أكبر مصائب المسـلمين موت المعتزلة"( )، يقول الباحث حسـن محمود عبد اللطيف: في مقدمة تحقيقه لكتاب غاية المرام في علم الكلام: "ولعل الدراسات الكلامية من أكثر جوانب التراث الإسلامي أصالة وخطراً؛ إذ هي قاعدته الأساسـية، وفلسفته الفكرية، وأصوله العقدية التي عنها تنبثق أكثر القيم والعادات الأخلاقية والنظم الاجتماعية والقانونية، بل الاتجاهات الفنية والأدبية. ولكنها _ مع ذلك _ لم تحظ بعد بالعناية التي تستحقها، ولم يتوفر عليها العدد الكافي من الباحـثين الذين يقومون على تجديدها وخدمتها؛ بنشر أصولها المخطوطة وتحقيقها، وبعض نظرياتها الهامة وتحليلها، ثم بالتأريخ لها وبنقدها وتقويمها أيضاً على ضوء من أصول الإسلام نفسه والتقدم العلمي المعاصر"( )، فجعل الباحث الدراسات الكلامية _ التي عرفنا مصدرها _ هي القاعدة الأساسـية للتراث الإسلامي، وعليها تبنى أكثر القيم الدينية، فيا ليت شعري ما تلك القيم التي سـنبنيها على هذا التراث اليوناني بعد أن نجعل الدراسات الكلامية هي قاعدتنا الأساسـية، بدلاً من القرآن الكريم والسـنة النبوية المطهرة؛ فإنه لم يقل: بأن علم الكلام قاعدة ثانوية، ولكنه اعتبره هو القاعدة الأساسـية للتراث الإسلامي، ولا أدري ما هي أصول الإسلام التي يرى أن ننقد على أساسها تلك المخطوطات الكلامية، بعد أن نكون قد أسسـنا تراثنا الإسلامي على الدراسات الكلامية، فكيف نتحاكم إلى من نريـد أن نقاضيه، وكيف نضع القاضي _ بعد أن اعترفنا بمصداقيته _ في قفص الاتهام.

ولكن من قبل قال الإمام مالك: "لو كان الكلام علماً لتكلم فيه الصحابة والتابعون كما تكلموا في الأحكام والشرائع، ولكنه باطل يدل على باطل"( )، فأما كونه باطلاً؛ فلأنه أُخذ عن الكفار، وقد استغنى المسلمون عنه في إثبات عقائدهم من قبل؛ فلم يكونوا ليأخذوها إلا من الكتاب والسـنة( )، وأما أنه يدل على باطل: فهو من جهة ما جره علم الكلام من العقائد الفاسدة على وجه العموم، وأقول: على وجه العموم؛ لما أثبته علم الكلام من بعض العقائد الصحيحة مؤيداً بذلك كتاب الله وسـنة رسـوله صلى الله عليه وسلم، ولكن لا يشفع ذلك له؛ فقد استغنى السلف من قبل عن هذا النوع من الإثبات العقلي، بالإثبات الذي جاء به القرآن والسـنة الصحيحة، ثم جاء علم الكلام من بعد؛ ليثبت بعض العقائد الصحيحة بناء على المعقولات المستوردة، وبناء على نظريات مأخوذة من اليونان، ثم أدى الاعتماد على نفس تلك النظريات إلى نفي بعض العقائد الثابتة الأخرى؛ مجاراة لتلك النظريات بحجة أنها أثبتت بعض العقائد الصحيحة، ولو كان ذلك على حساب البعض الآخر من العقائد الإسلامية الثابتة بالقرآن والسـنة الصحيحة، ولم يفرق الوحي بين هذه العقائد أو تلك بل أثبتها جميعاً من قبل، فما أشد غنى المسـلمين عن علم الكلام! وما أشد تعلق بعضهم به! والله المستعان.

 كل هذا الإصرار من بعض المسـلمين في الماضي والحاضر على الاعتماد على علم الكلام في جانب العقائد أدى إلى وقوعهم في التشـبه بالكفار، وذلك من جهتين: من جهة الوسـيلة ومن جهة الغاية (وهي النتيجة)، فالوسـيلة علم الكلام المأخوذ من عند الكفار، والنتيجة( ): هي الوقوع في بعض العقائد المشابهة لعقائد الكفار، وكل ذلك فيما يتعلق بالغيبيات التي لا ينبغي أن تؤخذ إلا ممن يعلم الغيب (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلاَّ هُوَ)( )، وهنا أعرض لذكر بعض تلك النـتائج التي وقع فيها المتكلمون لمـا سلكوا هذا المسلك.

محاولة إثبات وجود الله:

موقف أهل السـنة والجماعة من إثبات الباري أنه يمكن أن يكون ذلك عن طريق تصديق النبي أو الرسـول ولا يلزم أن يكون التصديق بإثبات الباري عن طريق النظر، ولا يشتغلون بإثبات وجود الله أصلاً إلا فيما يتعلق بجانب الرد على المخالفين من الملحدين، أو في مناقشة المتشككين؛ لأن المسألة عندهم فطرية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد على الفطرة  فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه))( ) ، فلا يلزمون الناس بالاشتغال بإثبات وجود الله، إلا لمن وجد في نفسه شك من ذلك، أو كان في ذلك رد على المخالفين من الملحدين الذين ينكرون وجود الله أصلاً، وهنا مسألتين:-

 الأولى: أن أهل السـنة لا يشتغلون بإثبات وجود الله؛ لأن ذلك أمر فطري قد جبلت عليه النفوس( )، يقول الشيخ أحمد سعد حمدان _ حفظه الله _: "فما عُدَّت هذه المسألة من النظريات التي يقام عليها برهان. على صانع حكيم قادر عليم، (أَفِي اللَّهِ شَكّ)( )، (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)( )، (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ)( )، إن هم غفلوا عن هذه الفطرة في حال السراء فلا شك أنهم يلوذون إليها في حال الضراء: (دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين)( )،(وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلاَّ إِيَّاهُ)( ). ولهذا لم يرد التكليف بمعرفة وجود الصانع وإنما ورد بمعرفة التوحيد ونفي الشـرك" .

وأما من شوِّهت فطرته فكان في شك من وجود الله، فإن إيمانه بالنبي صلى الله عليه وسلم _ عن طريق أعلام النبوة _ سـيدله بالضرورة إلى الإيمان بوجود الله ولا شك، قال الإمام الخطابي _ رحمه الله: "فأما مثبتوا النبوات فقد أغناهم الله تعالى عن ذلك وكفاهم كلفة المؤونة في ركوب هذه الطريقة المنعرجة التي لا يؤمن العنت على راكبها والانقطاع على سالكها"( )؛ فإن إثبات النبوات يقتضي بالضرورة الإيمان بوجود الخالق المعبود، وعلى هذا فلا يجب على كل من آمن بالنبي أن يبحث عن إثبات وجود الله فإن إيمانه بالنبي يقتضي إيمانه بصدق أخباره وقد أخبر النبي بأنه جاء بالوحي من عند الله عز وجل.

ولذلك فإن الله لما أرسل رسـوله موسى _ عليه السلام _ إلى أحد منكري وجود الله في التاريخ (فرعون): وعظه بالنسبة لإنكاره لوجود الله فقال: (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى،وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى)( )، ولم يقنعه بآية لأن المسألة مفروغ منها عند فرعون وغيره، ولكنه حين أراد أن يثبت له صدق رسالته أتاه بالمعجزة من عند الله، (فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى)( )، ومعلوم أن هذه الآية ليست لإثبات وجود الله بقدر ما هي لإثبات صدق الرسالة التي جاء بها الكليم عليه السلام.

والثانية: أن هؤلاء المتكلمين يلزمون الناس بالبحث عن وجود الله أولاً، يقول الشيخ أحمد سعد حمدان _ حفظه الله _: "ولهذا فإن المتكلمين أول ما يوجبون على الشخص: ((المعرفة)) أي: معرفة الله عز وجل على اختلاف في بدايات المعرفة ويحكون على ذلك الوجوب: الإجماع لظنهم أن ذلك قضية إجماعية"( )، يقول الإيجي: "قد اختلف في أول واجب على المكلف أنه ماذا فالأكثر ومنهم الشيخ أبو الحسـن الأشعري على أنه معرفة الله تعالى إذ هو أصل المعارف والعقائد الدينية وعليه يتفرع وجوب كل واجب من الواجبات الشرعية كما مر وهو قبلها وهذا مذهب جمهور المعتزلة والأستاذ أبي إسحاق الأسفرائيني وقيل هو أول جزء من النظر لأن وجوب الكل يستلزم وجوب أجزائه فأول جزء من النظر واجب وهو متقدم على النظر المتقدم على المعرفة وقال القاضي واختاره ابن فورك وإمام الحرمين إنه القصد إلى النظر لأن النظر فعل اختياري مسبوق بالقصد المتقدم على أول أجزائه والنزاع لفظي إذ لو أريد الواجب بالقصد الأول أي لو أريد أول الواجبات المقصودة أو لا وبالذات فهو المعرفة اتفاقاً وإلا أي وإن لم يرد ذلك بل أريد أول الواجبات مطلقاً فالقصد إلى النظر لأنه مقدمة للنظر الواجب مطلقاً فيكون واجباً أيضا وقد عرفت أن وجوب المقدمة إنما يتم في السبب المستلزم دون غيره"( )، وهذا إيجاب على المكلف بأن يعمد إلى النظر، بل جعلوه أول واجب على المكلف، وهو إيجابٌ لما لم يوجبه الله.

وهكذا فإن المتكلمين ألزموا الناس باستخدام طريقتهم في الاستدلال، رغم أن هذه الطريقة تسببت في أخطاء في العقيدة وفي الصفات بشكل أخص.

قال الخطابي _ رحمه الله _ مؤكداً لما سبق: "إنا لا ننكر أدلة العقول والوصل بها إلى المعارف، ولكننا لا نذهب في استعمالها إلى الطريقة التي سلكتموها في الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها على حدوث العالم وإثبات الصانع، ونرغب عنها إلى ما هو أوضح بياناً وأصح برهاناً، وإنما هو الشيء أخذتموه عن الفلاسفة واتبعتموهم عليه، وإنما سلكت الفلاسفة هذه الطريقة؛ لأنهم لا يثبتون النبوات ولا يرون لها حقيقة فكان أقوى شيء عندهم في الدلالة على إثبات هذه الأمور ما تعلقوا به من الاستدلال بهذه الأشياء"( ).

لقد كان المزلق الأول لمن أخذ بعلم الكلام: أنهم اقتنعوا ببدايات المتكلمين لما بدؤوا بإثبات الصانع فلم يكن عند اليونانيـين وحي يقتنعون به يستقون منه العقيدة وكانوا يعيشون في ضلال فلا يعرفون رباً ولا إلـهاً ولا يعرفون نبياً ولا رسـولاً، ولكن الحاصل أن متكلمي المسـلمين لما بدؤوا الكلام في ما يجب اعتقاده كانت بدايتهم هي نفس بداية الفلاسفة وهي إثبات وجود الخالق جل وعلا ( )، قال شيخ الإسلام _ رحمه الله _: "وأصل ذلك أنهم طلبوا أن يقرروا ما لا ريب فيه عند المسـلمين، من أن الله تعالى خلق السماوات والأرض، وأن العالم له صانع خالق خلقه"( )، وكانت للمتكلمين طريقتان في إثبات الصانع( ): طريقة الجواهر والأعراض( )أو طريقة الإمكان والوجوب( )، وهي مبنية على ما شاهده المتكلمون من الشواهد الحاضرة أمامهم وما جبلت عليه من صفات، وللتمثيل على ذلك أسـوق ما قاله الآمدي وهو يستدل على صفة الحياة للرب عز وجل فقد قال: "وإذا ثبت كونه قادراً مريداً عالماً وجب أن يكون حياً؛ إذ الحياة شرط هذه الصفات على ما عرف في الشاهد"( )، فطريقتهم هي قياس الغائب على الشاهد( ) في تقرير صفات الباري عز وجل؛ وفي الحقيقة قياس الشاهد على الغائب بهذه الطريقة ليس بصحيح في هذا الباب؛ فإن الله عز وجل قد عرفنا بنفسه فقال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)( )، فلا ينبغي أن يقاس بأحد من خلقه من كل وجه، وإن كانت هذه الطريقة أثمرت بالنسبة لإثبات هذه الصفة، فسـنرى كيف صارت هذه القاعدة عند المتكلمين قاعدة تنفي الكثير من الصفات الثابتة للباري جل وعلا بالقرآن والسـنة؛ وذلك بسبب توهم تشبيه الخالق بالمخلوق في الصفات التي نسبت للمخلوق وهو ما يعبرون عنه بالحادث الذي تخالف صفاته صفات واجب الوجود، جاء في أبجد العلوم: "وتوصلوا إلى إبطال مسائل التوحيد؛ لأنهم جعلوا مسائل التوحيد مبنية على قياس الغائب على الشاهد( )"( )، قال شيخ الإسلام _ رحمه الله _: "وأما الخوض في الأعراض والأجسام كما خاض فيه المتكلمون كقولهم ليس بجسم ولا عرض ونحو ذلك فأول من ابتدعه في الإسلام: الجهمية( ) وأتباعهم من المعتزلة، لا يعرف في هذه الأمة حدوث القول في الله بأنه ليس بجسم ولا جوهر ونحو ذلك إلا من جهة هؤلاء، وكذلك الاستدلال على حدوث العالم بطريق الجسم والعرض إنما ابتدعها في الإسلام هؤلاء، وهذا أصل علم الكلام"( )،  وأسـوق هنا كلاماً جليلاً للإمام ابن قيم الجوزية، حيث يقول: "وهذا الطريق من الناس من يظنها من لوازم الإيمان. وأن الإيمان لا يتم إلا بها، ومن لم يعرف ربه بهذه الطريق لم يكن مؤمناً به ولا بما جاء به رسـوله. ومن الناس من يقول: ليس الإيمان موقوفاً عليها ولا هي من لوازمه، وليست طريق الرسل، ويحرم سلوكها لما فيها من الخطر والتطويل، وإن لم يعتقد بطلانها. وهذا القول لأبي الحسـن الأشعري نفسه، فإنه صرح بذلك في رسالته إلى أهل الثغر، وبين أنها طريق خطرة مذمومة محرمة، وإن كانت غير باطلة، ووافقه على هذا جماعة من أصحابه من أتباع الأئمة، وقالت طائفة أخرى: بل هي طريق في نفسها متناقضة مستلزمة لتكذيب الرسـول لا يتم سلوكها إلا بنفي ما أثبته، وهي مستلزمة لنفي الصانع بالكلية، كما هي مستلزمة لنفي صفاته ونفي أفعاله، وهي مستلزمة لنفي المبدأ والمعاد؛ فإن هذه الطريق لا تتم إلا بنفي سمع الرب وبصره وقدرته وحياته وإرادته وكلامه، فضلاً عن نفي علوه على خلقه، ونفي الصفات الخبرية من أولها إلى آخرها، ولا تتم إلا بنفي أفعاله جملة وأنه لا يفعل شيئاً البتة"( ).

يقول د. عبد القادر محمد عطا: "اعتبر شيخ الإسلام ابن تيمية _ رحمه الله _ هذا الدليل _ دليل الأعراض وحدوث الأجسام _: "أعظم القواطع العقلية التي يعارضون بها الكتب الإلهية، والنصوص النبوية، وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها"( )؛ لذلك كان هدم هذه القواطع العقلية، والأصول الأساسـية: هدماً لمذهب المبتدعة، واجتثاثاً له من جذوره؛ فإذا هدم الأصل، فلا عبرة بالفرع؛ كالشجرة تجتث من جذورها، أيّ حياة في أغصانها وفروعها"( )، يقول الشيخ خليل هراس _ رحمه الله _: "ومن الحق أن نقرر أن ابن تيمية كان على صواب فيما عمد إليه من إفساد هذه الطرق والتحذير من سلوكها؛ فإنها طرق معتاصة يصعب تصورها على كثير من الناس وفي مقدمتها طول وخفاء ونزاع كثير بحيث لا يمكن إثباتها بطريق قطعي، فكيف تجعل سبيلاً لتحصيل أشرف المطالب وهو الإيمان بالله تعالى، وإن من أعظم الحرج أن نكلف العامة ومن لا قدرة لهم على النظر أصلاً بتحصيل معنى الإمكان والحدوث والتغير والجوهر والعرض وغير ذلك مما يدخل في تركيب هذه الأدلة، ثم نقول لهم إنكم لا يصح إيمانكم بالله إلا من هذه الطريق فنضيق عليهم رحمة الله ونصدهم عن سبيله ونكلفهم من الأمر ما لا يطيقون"( ).

وهذا المسلك من مسالكهم في إثبات الصانع، وهو مأخوذ من الكفار في الأصل، وهي طريقة جالينوس، قال الإيجي في المواقف: "مذهب جالينوس في حدوث الأجسام مسالك، المسلك الأول وهو المشهور:  الأجسام لا تخلو عن الحوادث وكل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث"( )، وقد أُلفَت بعض الكتب في بيان أصل هذه الطريقة في إثبات الخالق وأنها جاءتنا من عند الكفار، قال صديق القنوجي: "وللسـيد الإمام العلامة محمد بن الوزير كتاب: (ترجيح أساليب القرآن لأهل الإيمان على أساليب اليونان، وبيان ذلك بإجماع الأعيان بأوضح التبيان)، وكتاب: (البرهان القاطع في إثبات الصانع وجميع ما جاءت به الشرائع) رد في هذين الكتابين على المتكلمين والكلام، وأثبت أن جميع مسائل هذا العلم تـثبت بالسـنة والقرآن، ولا يحتاج معهما إلى قوانين المتكلمين وقواعد  الكلام وهما نفيسان جداً"( )، فهذه البداية غير صحيحة، وفيها مشابهة لطريقة اليونان.

 ثم تدرجوا مع لوازم الدلائل التي استدلوا بها لإثبات الخالق مما أدى بهم إلى نفي بعض الصفات؛ حتى لا ينخرم دليل إثبات الصانع؛ فهي مبنية على ثلاث مقدمات كلها تعتمد على الأمور المحسـوسة وعلى أساسها تم القياس بالنسبة للمغيبات وهذه المقدمات هي: الأعراض حادثة، والأجسام لا تخلو من الحوادث، وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث( )، فالأعراض المشاهدة حادثة والأجسام المشاهدة لا تخلو من الحوادث، فالأجسام كلها حادثة؛ ولذلك فلا يجوز للباري أن يتصف بصفات الحوادث بأن يكون محلاً لها؛ حتى لا ينخرم دليل وجود الصانع؛ ونفياً للتشبيه بالمخلوقات في زعمهم، وبذلك نفى بعض المتكلمين الأسماء والصفات( )ونفى بعضهم بذلك الصفات ، ونفى بذلك بعضهم بعض الصفات وأولوا البعض الآخر( )، بل أدى ببعضهم ممن تمادى في الغي والضلال إلى أن يقول بقول ظاهره نفي الذات حتى ينفي بذلك عن الخالق مطلق ما للحوادث من صفات( )، وزعموا أنهم بذلك يرومون نفي التشبيه عن الخالق بالحوادث، فوقعوا بذلك في تشبيهه بالمعدومات، ووقعوا هم في التشـبه بالملحدين الذين نفوا وجود الله أصلاً.

تعطيل صفات الباري:

وبناءً على الأساس الذي وضعوه وهو أن سبيل إثبات الصانع إنما يكون عن طريق الحدوث فإن وصفه بما هو من خصائص الحوادث هو من التجسـيم الذي يبطل به دليل الصانع عندهم؛ فإن المقدمة القائلة: ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث "تعني نفي جميع صفات الله عز وجل الفعلية كالاستواء والمجيء والنزول إلى سماء الدنيا والرضى والغضب ونحو ذلك مما وردت به النصوص لأنها عندهم: حوادث فلو جاز حلولها في ذات الله لكان مخلوقاً حسب القاعدة التي قعدوها لإثبات الخالق"( )، وعلى أساس أن ما لا يسبق الحوادث فهو حادث "فما دام أن الأجسام لم توجد بمفردها قبل الأعراض والأكوان _ التي تسمى حوادث _فإذن الأجسام مخلوقة؛ لأنها لا تسبق الحوادث، وهذه القاعدة _ كذلك _ نفوا بسببها جميع الصفات الفعلية التي تقوم بذات الله عز وجل بمشيئته متى ما أراد"( )، وليس كل المتكلمين ينفون جميع الصفات الإلهية؛ فإن منهم من أثبت الصفات التي توصلوا إليها عن طريق العقل، وأولوا ما سـوى ذلك مما يتعارض مع العقل _ في زعمهم _ كصفة النـزول، واليد والعين والاستواء وغير ذلك من الصفات الخبرية( )التي لا تثبت إلا عن طريق السمع، يقول الآمدي: "وأما خبر النـزول فإنه يحتمل أن يكون المراد النـزول بمعنى اللطف والرحمة وترك ما يليق بعلو الرتبة وعظم الشأن والاستغناء الكامل المطلق"( )، وهذا التأويل رد عليه العلماء من أهل السـنة والجماعة في موضعه وسموه تعطيلاً؛ لأنه غاية ما يؤدي إليه قولهم.

قال شيخ الإسلام: "ثم أصل هذه المقالة مقالة التعطيل للصفات إنما هي مأخوذة عن تلامذة اليهود والمشـركين وضلال الصابئين فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام _ أعنى أن الله سبحانه وتعالى ليس على العرش حقيقة وأن معنى استوى بمعنى استولى ونحو ذلك _ هو الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم ابن صفوان وأظهرها فنسبت مقالة الجهمية إليه، وقد قيل: إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان وأخذها أبان عن طالوت بن أخت لبيد بن الأعصم وأخذها طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي، وكان الجعد بن درهم هذا فيما قيل من أهل حران، وكان فيهم خلق كثير من الصابئة والفلاسفة بقايا أهل دين نمرود، والكنعانيـين الذين صنف بعض المتأخرين في سحرهم، ونمرود هو ملك الصابئة الكلدانيـين المشـركين كما أن كسرى ملك الفرس والمجوس وفرعون ملك مصر والنجاشي ملك الحبشة وبطليموس ملك اليونان وقيصر ملك الروم فهو اسم جنس لا اسم علم، فكانت الصابئة إلا قليلاً  منهم إذ ذاك على الشـرك وعلماؤهم هم الفلاسفة وإن كان الصابئ قد لا يكون مشركاً بل مؤمناً بالله واليوم الآخر كما قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)( )، لكن كثيراً منهم أو أكثرهم كانوا كفاراً أو مشركين كما أن كثيراً من اليهود والنصارى بدلوا وحرفوا وصاروا كفاراً أو مشركين فأولئك الصابئون الذين كانوا إذ ذاك كانوا كفاراً أو مشركين وكانوا يعبدون الكواكب ويبنون لها الهياكل"( )، ولقد انـتهج أكثر المتكلمين في تعطيل صفات الباري _ جل وعلا _ سبيل التأويل؛ ليخرجوا من تبعة رد النص القرآني، وادعوا أن نسبة الصفات إلى الرب _ عز وجل _ إنما هي على سبيل المجاز اللغوي، يقول الباحث أحمد الحربي: "والذي يغلب على الظن كما أن القول بنفي الصفات انتقل إلى الجهمية والمعتزلة من طريق اليهود والنصارى فكذا القول بالتأويل؛ إذ أن التأويل بهذا الاصطلاح كان معروفاً عند اليهود والنصارى قبل ظهوره على يد الجهمية والمعتزلة، ففي اليهودية ارتبط التأويل باسم (فايلو الإسكندراني)( ) الذي كان ينفي الصفات الخبرية التي وردت في التوراة( )، ويؤكد على وجوب تفسـيرها تفسـيراً مجازياً وفق قوانين التأويل المجازي التي حددها هو بنفسه. وسار على نهج (فايلو) عدد من لاهوتي اليهود في العصور الإسلامية، منهم: سعدايا الفيومي( )، وموسى بن ميمون( )الذي أكد في كتابه (دلالة الحائرين) أن السبب الرئيس الذي أدى إلى ظهور التشـبيه هو التمسك بظاهر الصفات الخبرية التي وردت في التوراة وتفسـيرها بالحقيقة دون المجاز. وفي النصرانية ظهر القول بالتأويل المجازي على يد (كلمانت الإسكندري)( ) و(أوريجين)( )، والقديس: (أوغسطين)( )، واشتهر به أيضاً: (يوحنا الدمشقي)( ) الذي يعتبر من أكبر آباء الكنيسة الشرقية، وقد كان له دور كبير في ظهور الجدل العقلي بين المسـلمين، بل يعده كثير من الباحثين المسؤول الأول عن ظهور الجدل العقلي في البيئة الإسلامية"( ).

وطريقة المتكلمين في إنكار الصفات المبنية على صريح المعقول عندهم وإن كانت تلك الصفات قد ثبتت بالكتاب أو السـنة أو الإجماع، ليست طريقة جديدة، بل سبقهم بها مشركوا العرب حينما حكَّموا عقولهم في نفي ما أثبته الرسـول صلى الله عليه وسلم من خلال القرآن من البعث بعد الموت، حيث قالوا _ كما جاء في القرآن _: (قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ)( )، فعارضوا الوحي، في صريح ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من البعث بعد الموت، وطريقة المتكلمين فيها مشابهة لما سلكه مشركوا مكة حين صعب عليهم التصديق بما يخالف مشاهداتهم، فادعوا مخالفة صريح الوحي للحس والمشاهدة والمعقول، فكفروا بالوحي، لأنهم لم يجدوا مخرجاً إلا إنكار أحد المتناقضين على حسب ما توصلوا إليه، وأما المتكلمون الذين ادعوا مخالفة صريح الوحي للقطعيات العقلية حاولوا أن يخرجوا من هذا التعارض الذي في أذهانهم بتأويل النص أو بالطعن في ثبوته، فلم يكن من فرق بينهما إلا أن مشركي العرب عارضوا الوحي بالحس والمشاهدة، وهي بلا شك أقوى مما عارض به المتكلمون النص؛ فإنهم عارضوه بالمعطيات العقلية المبنية على مقدمات منطقية والمحسـوسات أقوى بلا شك من المعقولات؛ فإن المعقولات لم تقم إلا بما هو محسـوس ومشاهد؛ فأنّى لمن كان أعمى أصم أن يرتب مقدمات ليصل بها إلى نتائج صحيحة! وفرق آخر أن مشركي العرب قاموا بالكفر بالنص صراحة، وأما المتكلمون فطريقتهم هي محاولة الجمع بين النص وبين المعقول _ في نظرهم _ بما يزري على النص، ويبقي العقل شامخاً على حساب النص، والله المستعان، هذا هو الفرق بينهما في نظري، وإلا فإن هؤلاء اعترضوا على النص بحجة أنه مخالف للعقل وأولئك كذلك، وهؤلاء أزروا على النص وأولئك ردوه جملة وتفصيلاً، ولم تتهم كلتا الطائفتين ما توصلت إليه من المعقولات.

وفي نفي المتكلمين لبعض الصفات اعتماداً على المنطق، يقول ابن الوزير( ): "وإنما كره علم الكلام؛ لما يؤدي إليه الخوض فيه من المحارات ومخالفة الضرورات أو المشهورات ألا تري أن المتكلمين لما توغلوا في هذه المباحث أدي ذلك طائفة منهم إلي القدح في الحكمة، وطائفة إلي القدح في القدرة على هداية العصاة، وطائفة إلي القدح في دوام العذاب، ورجحت كل طائفة تأويلها، أما غلاة الأشعرية الذين قدحوا في معني الحكمة فرجحوا ذلك؛ لصعوبة النظر في حكمة الله تعالى في جميع الشرور الدنيوية والأخروية؛ وعجز العقول عن درك ذلك، وأما غلاة المعتزلة فرجحوا قدحهم في القدرة( ) على اللطف أنه قد خاض في أمر معين يحتمل أنه محال ولا بد من إخراج المحال من المقدورات بالإجماع وإلا أدى إلي تجويز قلب القديم حادثاً والحادث قديماً، وغير ذلك مما يستقبح ذكره، وقد أشار الغزالي إلي مثل كلامهم في شرح الرحمن الرحيم من المقصد الأسـنى، وأما الأشعرية فقدحوا في الحكمة بأسرها فكان ما ذهبت إليه المعتزلة أهون من هذه الجهة، وأما ابن تيمية وأصحابه فرأوا أن القدح في الحكمة والقدرة يتطرق إلي النقص في كمال الربوبية وذلك يحتمل الكفر ويضارعه أو يقرب منه"( )، وإنما كان إنكار الأشاعرة للحكمة بسبب إرادتهم نفي الغرض عن الله؛ لتوهم التشبيه بالحوادث؛ لأن الغرض هو من الأعراض التي هي من خصائص الأجسام التي ثبت عندهم أنها حادثة، وذلك بالاعتماد على مقدماتهم المنطقية.

وفي نفي الحكمة عن الله يقول الآمدي: "ونحن لا ننكر أن ذلك( )مما يقع وإنما ننكر كونه مقصوداً بالتكليفات والأمر بالطاعات حتى يقال: إنه خلق لكذا أو لعلة كذا بل تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، بل ويكفى الخصم من سخف عقله وزيف رأيه أن عادت حكمة خلق السموات والأرض والنجوم والشجر والجبال وإظهار الآيات والدلائل والمعجزات وإيجاب الطاعات والعبادات وتصريف الخلائق بين المأمورات والمنهيات إلى لذة يجدها بعض المخلوقين في مقابلة طاعته تزيد على اللذة التي يجدها بطريق الابتداء والتفضل، مع أن الله تعالى قادر على أن يخلق له أضعاف تلك اللذة في التفضل الابتدائي من غير تعب ولا نصب إن الله على كل شئ قدير"( )، وهنا يحاول الآمدي أن ينفي صفة الحكمة عن الله بحجة فهمه لمعنى الحكمة في القرآن( )بأنها تشـبه تلك اللذة الحاصلة لدى العبد المقدم على فعل له فيه مصلحة، وكان الأولى به أن ينـزه الله تعالى عن العبث كما نزهه عن حصول اللذة له، فلا لذة ولا عبث تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فإن نفي الحكمة عن الله والتي يسميها المتكلمون: الغرض _ تسمية ما أنزل الله بها من سلطان _ يوجب إثبات أن تكون مفعولات الله جل جلاله هي ضرب من العبث.

وقد رد الله على كفار قريش بنفي العبث الذي ظنوه به، مع أن كفار قريش لم يصرحوا بأن الله عز وجل قد خلق الخلق لغير حكمة، وإنما جوزوا للعبد أن يعبد غير الله( ) _ مع علمهم بأن الله قد خلق الخلق وأنه هو المدبر لشؤونهم _ وظنوا أنه لا بعث ولا عقاب ولا ثواب( )، فقالوا ما يلزم منه نفي الحكمة عن الله، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ)( )، (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) ( )، (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ، مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)( )، (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ، لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ)( )، فرد الله عليهم قولهم: بعدم وجوب عبادة الله وعدم توقع البعث بعد الموت بأنه يلزم منه لازم باطل هو اتهام الله بالعبث، مع أنهم لم يتفوهوا بإلصاق ذلك النقص بالذات الإلـهية، ولم ينفوا الحكمة عن الله جل جلاله صراحة، وإنما قالوا ما يلزم عنه ذلك.

ولا يوصف الله تبارك وتعالى عند المتكلمين بأنه في العلو؛ لأن المكان يعتبر عرضاً والعرض من خصائص الأجسام التي هي في الحقيقة حادثة( )، وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، فالله ليس في مكان معين ولا يشار إليه في رأيهم، والحقيقة أن هذا القول يلزمهم القول بوحدة الوجود أو الحلول، ومع أن لازم المذهب لا يلزم أن يكون مذهباً، ولكن الجهمية من المتكلمين لم يتورعوا عن ذلك والتزموا بهذا اللازم فإنهم زعموا "أن الله في كل مكان ولا يكون في مكان دون مكان"( )، والحلول من عقائد الحرانيـين( ) فإنهم يقولون: "ربما يكون حلول الصانع بحلول ذاته، وربما يكون بحلول جزء من ذاته، على قدر استعداد مزاج الشخص، وربما قالوا: إنما تشخص بالهياكل السماوية كلها وهو واحد"( )، وإن كان هذا القول في الحقيقة ظاهره نفي وجود الله أصلاً، ولذلك يروي شيخ الإسلام حكاية مناظرة أحدهم للجهمية حيث قال له _ عندما صرح بالقول بأن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه: "فلو أردت تصف المعدوم، كيف كنت تصفه بأكثر من هذا؟ _ أو قال _ فرق لي بين هذا  الرب الذي تصفه وبين المعدوم!"( )، فلم يجد لهذا السؤال جواباً إلا بعد حين، وكان جوابه: "لو كان فوق العرش للزم أن يكون جسماً"( )، وهكذا فإن هذه المسألة جرت إلى مشابهة الكفار، إما بأصحاب القول بالحلول ووحدة الوجود، وإما بالملاحدة الذين يقولون بنفي وجود الله، والله المستعان.

ومع ذلك فإننا نجد من المسـلمين من يقول بهذا القول بل ما زال يتلى عند الشيعة الإمامية ما جاء في الكافي: "هُوَ أَيَّنَ الأيْنَ بِلا أَيْنٍ وَ كَيَّفَ الْكَيْفَ بِلا كَيْفٍ فَلا يُعْرَفُ بِالْكَيْفُوفِيَّةِ وَ لا بِأَيْنُونِيَّةٍ"( ).

 المبحث الثاني:  مظاهر التشبه بالكفار في توحيد الطلب والقصد:-

تعرف العبادة في اللغة: بمعنى التذلل والخضوع، فيقال طريق معبد أي: مذلل قد وطئته الأقدام( ).

وخير تعريف للعبادة باعتبار المتعبد به _ وهو الاعتبار الذي يعنينا هنا _ هو التعريف الذي اختاره شيخ الإسلام حيث قال: "العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة"( )، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)( )، فكل ما يدخل تحت هذا التعريف هو من أنواع العبادة التي لا يجوز صرفها لغير الله، فالصلاة والزكاة والصوم والحج والذبح والنذر والرغبة والرهبة والخوف والرجاء والاستعاذة والاستعانة والاستغاثة، كل ذلك من أنواع العبادة التي صَرْفُها لغير الله شرك بالله، وقد قال تعالى: (أَمَرَ ألاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إِيَّاهُ)( )، وقال: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً)( )، يقول الشيخ محمد خليل هراس _ رحمه الله _: "وإذا كان توحيد الإلهية يقوم كما ذكرنا آنفاً على صرف جميع العبادات لله والإخلاص له فيها بغـير شائبة توجه بشيء منها إلى غيره أصلاً، فلا بد إذاً من معرفة أنواع العبادات التي تعبدنا الله عز وجل بها في العقائد والأقوال والأعمال التي يحبها ويرضاها والتي أمرنا أن نتقرب إليه بها، فإن بعض هذه الأمور قد التبس على كثير من الناس فلم يفقهوا معنى التعبد فيها فتوجهوا بها إلى غير الله عز وجل دون أن يشعروا بخطر ذلك على دينهم، وانخلاعهم به من ربقة الإسلام"( ).

وجه دخول عبادة غير الله في الجانب الاعتقادي:

إن صرف العبادة لغير الله قد يكون في ظاهره عملياً، ولكنه إنما يكون تبعاً لاعتقاد أن شيئاً من خصائص الربوبية يكون لغير الله؛ فإن من  عبد وثناً وصرف شيئاً من أنواع العبادة القلبية أو العملية له، لا يتصور منه إلا أنه يرى أن في هذا الصنم أو الوثن صفة توجب له هذا النوع من العبادة، فإنه "ليس من الطبيعي أن يتوجه إنسان إلى حجر أو شجر أو قبر أو أي مخلوق آخر بأشكال التقديس والتقرب، ولذا: فإن الصورة الساذجة المباشرة لهذه الأعمال لا يتصور أنها تنطلي من أول وهلة وبصورتها الساذجة على المخلوق المكرم بعقله، المميز بفطرته، إذ لا بد من وجود حجج وحيثيات تزين هذا الانحراف وتسـوغه له، أي: لا بد من وجود (فلسـفة) لهذا الأمر حتى ولو لم تظهر مصاحبة له، فهي في كثير من الأحيان تظهر في صورة أشبه ما تكون بالاتجاه النفسـي( ) لدى المبتلين بهذا الداء، وهنا تكمن الصعوبة في هذا الجانب من البحث، لأننا نريد دخول منطقة (اللاوعي) عند القبوريـين للخروج بالوعي الكامن الذي يحركهم ويدفعهم إلى هذه الأفعال التي من المفترض ألا يقبلها عقل راشد، بل كيف تمسكوا بها ودافعوا عنها ؟"( ). وفي الحقيقة: أن هذا الذي يدعو من دون الله إنما يعتقد فيه نوعاً من النفع أو الضر ، يقول الإمام الشوكاني _ رحمه الله _: "والبلية كل البلية ما صار يعتقده كثير من العوام، وبعض الخواص في أهل القبور، وفي المعروفين بالصلاح من الأحياء، من أنهم يقدرون على ما لا يقدر عليه إلا الله جل جلاله، ويفعلون ما لا يفعله إلا الله عز وجل، حتى نطقت ألسـنـتهم بما انطوت عليه قلوبهم، فصاروا يدعونهم تارةً مع الله، وتارةً استقلالاً، ويصرخون بأسمائهم ويعظمونهم تعظيم من يملك الضر والنفع، ويخضعون لهم خضوعاً زائداً على خضوعهم عند وقوفهم بين يدي ربهم في الصلاة والدعاء"( )، ومنهم من يعتقد في المقبور قدرة على سماع الأصوات تشـبه قدرة الله، أو يعتقد فيه معرفة لعلم الغيب( )، قال الشوكاني: "فلولا اشتمال ضمائرهم على هذا الاعتقاد لم يدع أحد منهم ميتاً أو حياً عند استجلابه لنفع أو استدفاعه"( )  بل حتى مشركو العرب لم يعبدوا الأصنام لمجرد كونها حجارة أو أخشاباً، بل عبدوها "معتقدين أنها منازل الأرواح - كما بين الإخباريون -"( ) ومن هنا دخلت هذه التصرفات العملية في باب التشـبه في جانب الاعتقاد؛ فإنه لا يتصور ممن ينادي ولياً من الأولياء، وهو في منأىً عنه أن يكون غير معتقد سماعه، وإجابته له، ولا يعقل أن من يقرب قرباناً لصاحب قبر يريد بذلك شفاء ولده إلا أنه يعتقد بصاحب القبر أنه يشفي كما يشفي الله، أو يسمع الصوت من المستغيث، كما يسمع الله، وهذه لوثة فكرية توجب لهذا الذي يمارس هذه الأعمال الخروج من الإسلام.

كما أن هذا الذي يدعو الأموات ويظن بهم الضر والنفع ظاهر فعله أنه مكذب بقوله تعالى: (أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ)( )، وقوله تعالى: (يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ)( )، كما أنه لا يتصور ممن يتطلع إلى معرفة المستقبل من الكهان والعرافين والمنجمين إلا أنه يؤمن بكونه يعلم الغيب أو أنه مكذب بقوله تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ)( )، وهذه لوثة اعتقادية أخرى توجب له الدخول في الكفر المخرج من الملة؛ لتكذيبه لكلام الله تعالى.

حقيقة توحيد العبادة:               

توحيد العبادة هو الذي يعبر عنه العلماء بتوحيد الألوهية، وهو كما عرفه شيخ الإسلام: "أن يعبد الله وحده فيكون الدين كله لله ولا يخاف إلا الله ولا يدعى إلا الله ويكون الله أحب إلى العبد من كل شيء فيحبون لله ويبغضون لله ويعبدون الله ويتوكلون عليه" ، وعلى هذا فتوحيد العبادة يستوجب صرف العبادة لله وحده دون ما سـواه؛ فهو المستحق للعبادة، ولذلك قال الله تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً)( )، فعبادة الله تستلزم عدم إشراكه مع غيره في صرف شيء من أنواع العبادة، وبناء على الآية السابقة فإن من عبد الله وأشرك معه غيره لم يكن مستقيماً على ما أمر الله به، قال تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ( )، وقال: (وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين) ( ).

          ويخطئ من يظن أن التوحيد الذي أمر الله به هو توحيد الله بأفعاله فقط، دون توحيد العبادة له _ عز وجل _، وأن التوحيد الذي جاءت به الرسل هو توحيد الربوبية الذي هو توحيد الله بأفعاله، بأنه لا خالق ولا مالك ولا متصرف إلا الله، فإن هذا التوحيد مستلزم لتوحيد العبادة وهو فطري، ولم يكابر فيه كفار قريش ولا غيرهم من الكفار، إلا من شذ، وأما التوحيد الذي بدأ به الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم فهو توحيد الألوهية، وهو توحيد الله بأفعال العباد، بأن لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، قال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسـولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) ( )، وقال: (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ألاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) ( )، وقال: (إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ألاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ اللَّهَ)( )، كل هذه الآيات تدل على أن التوحيد الذي جاءت به الرسل هو توحيد الإلهية، وإن كان توحيد الربوبية له مساس بالتوحيد الذي أمر به الرسل أقوامهم، كما سبق، فتوحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية، فمن عبد الله وحده ولم يشرك به شيئاً تضمن ذلك إيمانَه بأنه لا خالق ولا متصرف في الكون إلا الله.

حقيقة الشـرك:

ولابد قبل الخوض في المظاهر أن نعرج على تعريف الشـرك الأكبر، يقول الشيخ حافظ الحكمي( ) _ رحمه الله _: "وإذا عرفت أن توحيد الإلهية هو إفراد الله تعالي بجميع أنواع العبادة ونفي العبادة عن كل ما سـوى الله تبارك وتعالى فضد ذلك هو صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله عز وجل وهذا هو الغالب على عامة المشـركين وفيه الخصومة بين جميع الرسل وأممها"( )

ويمكن تقسـيم الشـرك في الألوهية إلى قسمين رئيسـيـين:-

1-      من عبد غير الله يظن فيه النفع والضر من دون الله، كما قال تعالى عن المشـركين،: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)( )، وقال: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً)( )، فعبادة غير الله شرك في الألوهية، مبني على اعتقاد خاطئ في جانب الربوبية، وهو اعتقاد النفع والضر بغير الله.

2-      من عبد غير الله، يريد شفاعتهم عند الله، قال تعالى: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)( )، وقال: (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ)( )، وهؤلاء كفروا بأحد ثلاثة وجوه _ ومنهم من قد جمع بين ذلك كله:-

الأول: عبادتهم لغير الله، وهذا شرك في  الألوهية، قال تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً)( )، وهؤلاء أشركوا معه غيره، في جانب العبادة

الثاني: اعتقادهم بأنهم يسمعونهم، ويستجيبون لهم _ في حال ندائهم للأموات _، وهذا شرك في الربوبية وتكذيب لله تعالى: (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ)( )، فوصف ما يقومون به بأنه شرك، بعد إخباره بحقيقة حالهم وهو عدم سماعهم للنداء، وقال عز وجل: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ)( )، فمن ظن أنهم يسمعون النداء أو يستجيبون لمن يدعوهم فهو ضال لا أحد أضل منه، مكذب لكلام الله.

الثالث: اعتقادهم أنهم بيدهم الوساطة المطلقة، والشفاعة التي لا ترد عند الله، ولكن الله تبارك وتعالى قد قيد الشفاعة، فقال: (لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى)( )، وقال: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ)( )، وقال: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلاَّ بِإِذْنِهِ)( )، قال الرازي: "اعلم أن الكفار أوردوا على هذا الكلام سؤالاً فقالوا: نحن لا نعبد هذه الأصنام لاعتقاد أنها آلهة تضر وتنفع وإنما نعبدها لأجل أنها تماثيل لأشخاص كانوا عند الله من المقربين، فنحن نعبدها لأجل أن يصير أولئك الأكابر شفعاء لنا عند الله فأجاب الله تعالى بأن قال: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ)( )، وتقرير الجواب: أن هؤلاء الكفار: إما أن يطمعوا بتلك الشفاعة من هذه الأصنام أو من أولئك العلماء والزهاد الذين جعلت هذه الأصنام تماثيل لها، والأول باطل: لأن هذه الجمادات وهي الأصنام لا تملك شيئاً ولا تعقل شيئاً، فكيف يعقل صدور الشفاعة عنها؟ والثاني باطل: لأن في يوم القيامة لا يملك أحد شيئاً ولا يقدر أحد على الشفاعة إلا بإذن الله، فيكون الشفيع في الحقيقة هو الله الذي يأذن في تلك الشفاعة. فكان الاشتغال بعبادته أولى من الاشتغال بعبادة غيره"( )، وهذا الاعتقاد: شرك في الربوبية، كما أن الفعل الذي انبنى عليه: شرك في الألوهية.

وهذا النوع من الاعتقادات والأفعال هو الذي أشكل على القبوريـين في العصر الحديث( )، حيث ظنوا أن دعاء الأموات من ابتغاء الوسائل المشروع الذي أمر الله به في قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسـيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً)( )، ولكن التفسـير الصحيح لهذه الآية كما يقول الطبري رحمه الله: "القول في تأويل قوله تعالى (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً)( ): يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين يدعوهم هؤلاء المشركون أرباباً يبتغون إلى ربهم الوسـيلة  يقول يبتغي المدعوون أرباباً إلى ربهم القربة والزلفة لأنهم أهل إيمان به، والمشركون بالله يعبدونهم من دون الله، (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ): أيهم بصالح أعماله واجتهاده في عبادته أقرب عنده زلفة" ، وجاء في تفسـير الجلالين: "الوسـيلة: القربة بالطاعة" ، فهؤلاء الصالحون الذين يدعونهم الناس من دون الله ظناً منهم أنهم يسمعون الكلام والاستغاثة الموجهة إليهم وهم أموات في قبورهم، هم كانوا يعبدون الله ويبتغون إليه الوسـيلة بالطاعات والقربات، فكيف تدعونهم من دون الله وتتخذونهم وسائط فيما بينكم وبين الله وهو الذي أمركم أن تدعوه دون واسطة، فلماذا لا تقتدون بهم وتدعون الله وتتقربون إليه بالصالحات كما كانوا يفعلون؟ هذا لو كانوا صالحين، فأما إن كانوا ممن يظن بهم الصلاح وليسـوا كذلك فإنهم لا يصلحون أن يكونوا وسائط بينكم وبين الله، ثم إن سـياق الآيات كان يتحدث عن دعاء غير الله فالآية التي قبل هذه الآية مباشرة هي قوله تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً)( )، وفيها إقناع للمشركين بأن لا يشركوا بالله غيره في الدعاء بأن الذين يدعونهم من دون الله لا يملكون إزالة البلاء الذي أراده الله بعباده ولا يملكون تحويله عنهم، وكان من المناسب أن يكون الحديث بعد ذلك عن حال المدعوين من دون الله لكي يتم الاقتداء بهم في المسألة التي تم التنبيه عليها في الآية السابقة مباشرة، فلا داعي هنا لذكر حال أناس يبتغون الوسـيلة إلى ربهم بدعاء الأولياء والصالحين؛ فإن هذا الكلام فضلاً عن كونه بعيداً عن سـياق الحديث في الآية السابقة، فإن فيه تناقض معها فكيف ينعى على المشـركين كونهم لا يستفيدون شيئاً من دعاء غيره من كشف ضر أو تحويله، ثم يبرز لهم قدوة أناساً يجعلون بينهم وبين الله في الدعاء وسائط.

          يقول الباحث مبارك بن محمد الميلي _ فيما يتعلق بالذين يصرفون شيئاً من أنواع القربات إلى الأولياء _: "وربما مازوا أنفسهم من الجاهلية الأولى بأن وضعهم بالشـرك جاء من قبل اعتقادهم في الجماد وغير الصالحين من العباد، أو أن أحداً غير الله يماثله في الخلق والإيجاد ويقولون نحن إنما نعتقد في الصالحين والأخيار أن الله جعل لهم النفع والضر في هذه الدار وتلك الدار فهم يعطون أو يمنعون وبأيديهم مفاتح غيبه، وتحت قبضتهم خزائن فضله، ينـزلون الأمطار متى شاءوا ويعافون من أحبوا ويبتلون من أبغضوا، ويهبون لمن أرادوا ذكوراً أو إناثاً، أو يزوجونهم ذكراناً وإناثاً، ويجعلون من غضبوا عليه عقيماً"( )، وربما قال قائلهم: الاختلاف في نوع الوسائط؛ فوسائط المشـركين لا أصل لها من الصلاح، ووسائط المؤمنين هم عباد الله الصالحين، فالجواب: أن ذلك غير مسلَّم؛ فكيف نفى الله النفع الحاصل بالتوسط عموماً ولم لم يخصه بكون الوسائط هم أناس غير صالحين؟! والآية السابقة تدل على إنكار الله على المشركين عبادتهم لأوليائه الصالحين: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسـيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً)( )، فبين أن دعاء المشركين لعباد الله الصالحين ابتغاءً للوسيلة، مردود عليه بكون هؤلاء الصالحين هم أنفسهم كانوا يبتغون الوسيلة الصحيحة إلى الله، كدعائه والتضرع إليه بأسمائه وصفاته، إلى غير ذلك من الوسائل المشروعة.

ومن الآيات التي أنكر الله فيها على من عبد غيره ولو كان من أوليائه الصالحين، قوله: (وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سـواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً)( )، قال ابن كثير: "قال عبد الله ابن عباس وغير واحد من علماء التفسـير: وكان أول ما عبدت الأصنام أن قوماً صالحين ماتوا فبنى قومهم عليهم مساجد وصوروا صور أولئك فيها ليتذكروا حالهم وعبادتهم فيتشـبهوا بهم فلما طال الزمان جعلوا أجساداً على تلك الصور فلما تمادى الزمان عبدوا تلك الأصنام وسموها بأسماء أولئك الصالحين وداً وسـواعاً ويغوث ويعوق  ونسراً"( ).

وقوع الشـرك في هذه الأمة:

          لقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأن الشـرك سـوف يقع في هذه الأمة لا محالة قبل قيام الساعة، وذلك بطريقتين:-

الأولى: إخباره صلى الله عليه وسلم بأن المسـلمين سـيقع منهم التشـبه باليهود والنصارى حذو القذة بالقذة كما  في حديث أبي سعيد الخدري _ رضي الله عنه _ أن النبي  صلى الله عليه وسلم قال: ((لتتبعن سـنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه ، قلنا: يا رسـول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن)) ، قال ابن حجر _ رحمه الله _: "والذي يظهر أن التخصيص إنما وقع لجحر الضب لشدة ضيقه ورداءته ومع ذلك فإنهم لاقتفائهم آثارهم واتباعهم طرائقهم لو دخلوا في مثل هذا الضيق الرديء لتبعوهم"( )، كما يعرف جحر الضب بالتوائه وعدم استقامته.

وهذه الدقة في التمثيل بهذه الدابة تدل على أن هذه الأمة سـيحصل من بعض أفرادها التشـبه في كل شيء، وهذا عموم يدخل فيه التشـبه بهم في عبادتهم لغير الله؛ حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث أخرى بأن اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد( )، كما جاءت بعض الآيات تخبرنا عن وقوع الشـرك في اليهود والنصارى، فمن الآيات قوله تعالى: (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ)( )، وقوله: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) ( )، وقوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) ( ).

والطريقة الثانية: التي أخبرنا بها النبي صلى الله عليه وسلم بأن الشـرك سـوف يقع في هذه الأمة لا محالة قبل قيام الساعة: هي طريقة التصريح بذلك حيث ورد عن أبي هريرة _ رضي الله عنه _  قال: قال رسـول الله  صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات  نساء دوس حول ذي الخلصة)) ، ومعنى ذلك أنه لن تقوم الساعة حتى ترحل نساء دوس إلى الصنم المعروف في أيام الجاهلية بذي الخلصة، يردن بذلك التعبد كما كان يفعله أهل الجاهلية. وعن عائشة _ رضي الله عنها _ قالت: سمعت رسـول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يذهب الليل والنهار حتى تُعبد اللات والعزى )) .

          كل هذه الأحاديث إنما جاءت على وجه التحذير من الوقوع في الشـرك الذي وقع فيه أهل الكتاب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية _ رحمه الله _: "وهذا كله خرج منه مخرج الخبر عن وقوع ذلك والذم لمن يفعله، كما كان يخبر عما يفعله الناس بين يدي الساعة من الأشراط والأمور المحرمات"( )،كما أن فيها علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم؛ حيث وقع ما أخبر به عليه الصلاة والسلام، على وجهه.

الشـرك بين الأمس واليوم: 

          يحاول بعض المعاصرين أن يفرق بين الصورة التي يحصل فيها الطلب من المقبورين اليوم، وبين الصورة التي عرفت عن كفار قريش في الجاهلية من عبادة الأوثان، والاستغاثة بهم وطلب كشف الكروب منهم( ).

          إن الكفار في زمن نوح عليه السلام كانوا يعبدون الأصنام، ولكن ماذا يقصدون بهذه الأصنام؟ إنها رموز لرجال صالحين، وهم: ود وسـواع ويغوث ويعوق ونسر، كما سبق، وكفار قريش كانوا يعبدون الأصنام على أنها أسماء لرجال صالحين؛ فالصنم المسمى بـ (اللات) إنما هو رجل صالح سمى بهذا الاسم لأنه كان يلت السـويق للحجاج، فلما مات، عبد من دون الله. والقبوريون اليوم يعبدون المقبورين الصالحين _ بغض النظر عن صحة نسبة القبور إلى أصحابها _، وهم يطلبون من هؤلاء الصالحين كل ما يطلبه الكفار من أصنامهم في السابق.

ولذلك فإن الصورة التي يفعلها بعض الناس اليوم من طلب الواسطة إلى الله من عباده الصالحين لا تختلف عما كانت عليه في زمن الرسـول صلى الله عليه وسلم فهؤلاء يقولون: نريد من دعائهم التقرب إلى الله، وكفار قريش كانوا يعبدون الأصنام من أجل التقرب إلى الله كذلك، كما قال الله تعالى وهو يبين خطأ وضلال الكفار الذين يفعلون هذا الفعل: (مَا نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) ، فأي فرق بين الصورتين في الماضي والحاضر؟

          كما أن الكفار في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يعتقدون بأن الله هو الخالق الشافي....، في أغلب أمرهم، حيث قال الله تعالى عنهم: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) ،(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)( )، (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ)( )، (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) ، فهذه الآيات تقنع الكفار بوجوب عبادة الله وحده، بالاستناد إلى مسلمات عندهم، ألا وهي أن الله هو الخالق المدبر، وإلا فلا داعي لذكر خلق الله للكون وشفائه للمرضى، ولكان الاستناد إلى ذلك ضرب من العبث، وتعالى الله عن العبث، يقول الإمام الشوكاني _ رحمه الله _: "اعلم أن الله لم يبعث رسله، ولم ينـزل كتبه لتعريف خلقه بأنه الخالق لهم، والرازق لهم،ونحو ذلك، فإن هذا يقربه كل مشرك قبل بعثة الرسل: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله)( ) ولهذا نجد كل ما ورد في الكتاب العزيز في شأن خالق الخلق ونحوه، في  مخاطبة الكفار مُعَنْـوَناً باستفهام التقرير: (هل من خالق غير الله)( ) (أفي الله شك فاطر السموات والأرض ؟)( ) (أغير الله أتخذ ولياً فاطر السموات والأرض ؟) ( )"( ).

فكانت مصيبة كفار قريش أنهم توسلوا إليه بالتوجه إلى غيره، ولم يشفع لهم اعتقادهم بأن الله هو الخالق المدبر ، بل وصفهم الله بالكفر ووعدهم بالنار، فأي فرق بين هؤلاء ومن يقدم القرابين في هذا الزمن لقبر يظن أنه لأحد من أولياء الله الصالحين لكي يقربه إلى الله ويشفع له، الدعوى نفسها، والطريقة نفسها، الدعوى هي التقرب إلى الله، والطريقة هي تقديم القرابين والدعوات والتوجه القلبي لغير الله، يقول الإمام الشوكاني _ رحمه الله _: "فإن قلت: إن هؤلاء القبوريـين يعتقدون أن الله تعالى هو الضار النافع، والخير والشر بيده، وإن استغاثوا بالأموات قصدوا إنجاز ما يطلبونه من الله سبحانه، قلت: وهكذا كانت الجاهلية فإنهم كانوا يعلمون أن الله هو الضار والنافع، وأن الخير والشر بيده، وإنما عبدوا أصنامهم لتقربهم إلى الله زلفى، كما حكاه الله عنهم في كتابه العزيز"( ).

          وهكذا فإن الفرق لا يكاد يذكر إلا في كون كفار قريش كانوا يعلمون أنهم مشركون بالله في ألوهيته ؛ فلم يلتزموا النطق بكلمة التوحيد التي جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم بها، والقبوريون اليوم ينطقون بهذه الكلمة مراراً وتكراراً، ولكنهم لا يعلمون أنها تستلزم منهم ترك التعلق بغـير الله، يقول الباحث مبارك بن محمد الميلي: "ولقد سادت هذه الحالة العالم الإسلامي فانـتهوا إلى جاهلية كجاهلية العرب في الدين لا في اللسان والبيان، فقد ارتقى العرب أيام جاهليتهم في معرفة معاني الكلام والإبانة عما في أنفسهم بالألفاظ المؤدية لأصل المعنى، ولكن المسـلمين تشمل أخطاؤهم هذه الناحية أيضاً فلم يكونوا مثل أولئك العرب في فصاحة اللسان، ووضع الأسماء على مسمياتهم فتراهم يعتقدون في الغوث والقطب( ) وصاحب الكشف، والتصريف معنى الألوهية، وكان لا يسمونهم آلهة. ويخضعون لأوليائهم ويخشونهم كخشية الله أو أشد، ولا يسمون ذلك عبادة"( )، ويقول وهو يبين الفرق بين الوثنية القديمة والوثنية في العصر الحديث: "لا فرق بينهما في الجهل بما ينافي التوحيد، ولا في الابتلاء بالمبتدعين والدجالين، ولا في التبرك بالآثار احتماءً من الأقدار، ولا في التقرب من الأحجار، والنفور من المرشدين الأخيار، ولا في عصيان من خلقهم وعبادة ما نحتوه"( ).

          يقول الشيخ محمد خليل هراس _ رحمه الله _: " توحيد الربوبية وحده لا يكفي لتحقيق معنى التوحيد المطلوب شرعاً، والعبد لا يكون موحداً التوحيد الذي ينجي صاحبه في الدنيا من عذاب القتل والأسر، وفي الآخرة من عذاب النار بمجرد اعتقاده أن الله هو رب كل شيء وخالقه ومليكه وأنه المدبر للأمور جميعاً، فإن مثل هذا التوحيد كان يقر به المشركون الذين أمر الرسـول صلى الله عليه وسلم بقتالهم، بل لابد مع ذلك من توحيد الإلهية الذي هو الغاية العظمى من بعثة الرسل عليهم الصلاة والسلام والذي من أجله خلق الله الخلق وجعل الجنة والنار وفرق الناس إلى شقي وسعيد( ).

          وفي مكابرة عجيبة يرى بعضهم أن ما ورد من النهي عن الشـرك والتحذير من عاقبة المشـركين إنما هو خاص بالمشـركين دون من تشـبه بهم من المسـلمين، يقول الباحث مبارك الميلي: "رأى الطرقيون ومن لف لفهم أن القرآن فاضحهم وكاشف عوارهم؛ فتعللوا للتسلل منه بعلل شتى وما هي بنافعتهم، وكان من تعللهم: تقولهم أن ما جاء في قوم من المشـركين وأهل الكتاب فهو خاص بهم لا يتناول المسـلمين وإن جاءوا بما هو أشنع وأضل"( ).

وهذا مردود بأدلة كثيرة، منها:

-        "قوله تعالى: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ)( ) فعطف على ضمير المخاطبين من المشـركين من بلغه القرآن في زمنهم وبعد عصرهم.

-        وقال: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ)( )، والذين يخافون الحشر هم المؤمنون، ومن هم مظنة الإيمان، ممن لم يطبع الله على قلوبهم.

-        وقال:بعد حكاية حادثة قوم لوط: (وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ)( )، والمقصود هنا: مشركوا مكة أو ظالموا هذه الأمة" .

وبنفس المغالطة والمكابرة يرى بعضهم أن الالتجاء بأصحاب القبور لا يعد شركاً، فيقول: "الأحجار والأخشاب المعمولة للبناء عَلى قبور الأنبياء والأولياء والالتجاء إليهم لا يقاس بأفعال عبدة الأوثان، فإنهم يدعون أصنامهم، ويذبحون لها، والمستشفعون بالأنبياء لا يدعونهم، ولا يذبحون لهم، ولا يقولون: ما نعبدهم إ لاّ  ليقربونا إ إلى الله زلفى" ، ولا أدري كيف جمع بين كونهم يلتجئون إليهم وكونهم لا يدعونهم، وكيف جمع بين كونهم لم يقولوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، وبين كونهم اتخذوهم شفعاء؛ فإن الالتجاء إليهم هو دعاؤهم، والاستشفاع بهم هو نفسه قول الكفار: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى.

فهذه الأفعال هي الشـرك بعينه، يقول الشيخ خليل هراس في أصحاب هذه الأفعال: "وهذا إذا لم يكن شركاً فلا تدري ما هو الشـرك، وإذا لم يكن كفراً فليس في الدنيا كفر"( )، هذه العبارة جاءت من عالم جليل يدرك خطورة الشـرك على هذه الأمة، ويدرك حقيقة ما كان عليه الكفار في الجاهلية ووجه التشابه بينه وبين أفعال بعض الناس اليوم، وفيما يلي أسـوق بعض المظاهر الشـركية التي تشـبه فيها أهل هذا الزمن بمشركي العرب وغيرهم:-

دعاء غير الله:

          الدعاء من أعظم العبادات التي يتقرب المسلم بها إلى الله عز وجل، وورد فضله والأمر به في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً)( )، (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَه)( )، (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) ( )، وقوله: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعا) ( )، الآيات السابقة دلت على أن الله عز وجل أمر بدعائه وطلب المعونة منه سبحانه، ومدح الذين يدعونه.

          كما أن الله عز وجل أمر بدعائه وحده لا شريك له في آيات عديدة، ونهى عن دعاء غيره من المخلوقين في آيات عديدة: (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ)( )، (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ) ( )(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)( )، (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَر)( )، (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ)( )، (وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ)( )، (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)( )، (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً)( )، هذه الآيات تدل على أهمية أن يكون الدعاء خالصاً لله وحده؛ حيث لم يكتف بالنهي عن الشـرك عموماً بل خص الشـرك في الدعاء بالنهي، مع دخوله في النهي العام، يقول الشيخ محمد خليل هراس: "فهذا النوع  فيه من الرجاء والخشية، والرغبة والرهبة، والذل والعجز، والضراعة والاستكانة ما يجعله عبادة من أعظم العبادات ولهذا ورد الحث عليه في كثير من الآيات والأحاديث، وقد ورد في هذا الباب من الأدعية المأثورة في كل مقام ما يناسبه، وفيها غنية لمن يريد الدعاء عن هذه الأدعية الشـركية المبتدعة التي تمتلئ بها كتب الصوفية، والتي يسمونها أوراداً ويريدون بها أن يصرفوا الناس عن أدعية الكتاب والسـنة"( ).

          ولذلك سمى الله الدعاء عبادة فقال: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)( )، وقال حكاية عن إبراهيم الخليل عليه السلام: (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى ألاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً، فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاً جَعَلْنَا نَبِيّاً)( )، فسمى دعاءهم أصنامهم: عبادة، يقول الباحث عبد الرحمن دمشقية: "ولما كان دعاء غير الله عند إبراهيم شركاً قال لهم: (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي)( ) فحكم عليهم في الآية التي تليها أن دعاءهم لها عبادة من دون الله: (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)( )، وأكد ذلك في آية واحدة فقال: (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)( ) وقد دلت الآية على أن دعاء غير الله عبادة تتعارض مع الإسلام لرب العالمين.  ولو كان يعلم عنهم أنهم كانوا يعتقدون فيها النفع والضر لما حاجهم بذلك ولأجابوا عن سؤاله (قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ)( ) بقولهم: نعم، إنها تنفع وتضر. فلما عجزوا عن الإجابة قالوا: (قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ)( ) قال: (قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ)( ) فقال لهم أولاً (تَدْعُونً) ثم قال: (تَعْبُدُونَ) وفي آية أخرى (قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ)( )"( ).

ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الدعاء هو العبادة)) ، قال ابن حجر: "الدعاء من أعظم العبادة فهو كالحديث الآخر الحج عرفة أي: معظم الحج" ، وقال شارح سنن أبي داود: "أي هو العبادة الحقيقية التي تستأهل أن تسمى عبادة لدلالته على الإقبال على الله والإعراض عما سـواه" ، قال الزبيدي: "لما حكم بأن الدعاء هو العبادة الحقيقية التي تستحق أن تسمى عبادة من حيث أنه يدل على أن فاعله مقبل بوجهه إلى الله تعالى، معرض عما سـواه، لا يرجو ولا يخاف إلا منه: استدل عليه بالآية فإنها تدل على أنه أمر مأمور به إذا أتى به المكلف قبل منه لا محالة وترتب عليه المقصود ترتب الجزاء على الشرط وما كان كذلك كان أتم العبادة وأكملها ويمكن حمل العبادة على المعنى اللغوي أي الدعاء ليس إلا إظهار غاية التذلل والافتقار"( ).

كما قال عليه الصلاة والسلام: ((ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء))( )، فالدعاء أكرم العبادات إلى الله، فهو الذي يستجيب للداع إذا دعاه، قال تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)( )، فالله سبحانه وتعالى أمر بدعائه ووعد بالإجابة، وتوعد من دعا غيره، ومع ذلك نجد في هذا العصر من يدعو غيره.

ومن الآيات الفاصلة في هذا المجال: قوله تعالى: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً)( )" ما أوضح هذه الآية لطالب الحق، وهل بعدها مبرر للنـزاع والجدل؟؛ فقوله: (أحداً) نكرة في سـياق النهي تعم كل مدعو من دون الله. والمسجد ليس مكاناً للسجود فقط وإنما للدعاء أيضاً، فالصلاة التي تتضمن السجود تتضمن أكثر منه: وهو الدعاء فهل يجيز أحد دعاء غير الله في الصلاة؟ فما الذي يجعل دعاء غير الله داخلَ الصلاة محرماً وخارجها جائز؟"( )، وهكذا فإن النهي العام هنا يدل على عدم جواز صرف الدعاء لغير الله, فمع أن الدعاء هو نوع عبادة، والعبادات منهي عن صرفها لغير الله عموماً، كما في قوله تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً)( )، ولكن خص الله الدعاء بمزيد نهي عن صرفه لغير الله؛ لشرفه ولأنه أصل العبادات ومخها.

  بعض مظاهر دعاء غير الله في العصر الحديث:

          تنوعت الصور التي يتوجه بها القبوريون في هذا العصر إلى أصحاب القبور بالدعاء فمنهم من يدعو صاحب القبر ويتوجه إليه بطلب الشفاء والإعانة في الشدائد( )، ومنهم يتخذ أصحاب القبور شفعاء عند الله، وكل ذلك داخل في الشـرك الأكبر المخرج من ملة الإسلام.

          ومنهم من جمع بين الدعاء والعبادة للمقبور، يقول الكاتب عثمان محمد سليمان: "وكذلك دعاء المقبور والاستعانة به والإلحاح عليه في الدعاء، فقد رأيت بعض الزائرين يجلس عند القبر ممسكاً بسـياجه، ويلح في طلب حاجته، وأحياناً يصرخ، وبعضهم الآخر يدعو المقبور أثناء الطواف حول القبر، ومما يندى له الجبين أن امرأة شوهدت عند قبة( ) تحمل طفلاً، ترفعه بيديها وتهزه وهي تخاطب الشيخ المقبور راجية منها البركة في صغيرها، ثم تقول: (يا شيخ.. سمعت) لتتيقن سماعه وقضاء حاجتها!"( ).

بل من هؤلاء القبوريـين من يوجب دعاء غير الله وطلب الحوائج من المخلوقين يقول عبد الله الميرغني: "ولهذا يتبين لك (وجوب) التعلق بالوسائل والأسباب، وتأكد لزوم التزام الوسائط والأبواب، فتعلق بالوسائل والأسباب، والجأ واستغث، وتوجه لخواص الله والأحباب، واطرق لدى الخطوب ما شئت من الأبواب، تنل بذلك من فيض الوهاب ما لا يدخل في حساب"

          حتى إن منهم من يستغيث بمن ثبت فجوره وإلحاده في صفات الله، يقول الشيخ: إسماعيل بن سعد بن عتيق: "محيـي الدين بن عربي صاحب (فصوص الحكم) والمعتقد بوحدة الوجود والحلول والاتحاد( ) وزعيم الفلاسفة القائلين بهذه البدعة المكفرة، أقول إن مزاره وثن يعبد ويقدس في عاصمة دولة كانت عاصمة الخلافة الأموية، ولا يزال في أهلها الخير _ إن شاء الله _، غير أن الفتنة بهذا الوثن تزداد يوماً بعد يوم، وقفت على باب القبة لأرى وأعتبر، وكنت أحمل حذاءً في يدي، فأنكروا علي بالإجماع: كيف تقرب من المقام وفي يدك حذاؤك؟! احتراماً وتقديساً للولي!" .

          ويقول أحد الزائرين لمدينة دمشق: لقد ذهبت إلى قبر ابن عربي في دمشق فوجدت فئاماً من الناس يغدون إليه ويروحون... وجدتهم يطوفون حوله ويتوسلون به ويعلنون دعاءهم له من دون الله.. وجدت المرأة تضع خدها على شباك الضريح وتمرغه وتنادي: أغثني يا محيـي الدين... وجدت الصبايا البريئات يجئن إليه، ويمددن أمامه الأكف، ويمسحن الوجوه، ويخشعن، ويتضرعن وعلقت حوله من التعاويذ والقصائد الشيء الكثير، حفظت من بينها:

 أن يكون المدح فيكم سيدي       لنجـــاة العبــد أقـوى السبب          

 فأجرني من زمان جـــائر    لا يــــراعــي حق أهل الأدب         

 كم مصاب هاضـه قيل لـه أن تخف نــاب ضـواري النــوب      

 زر مقاماً بدمشـق حـرمـاً   ثـم قــل جئتــك يا ابن العربـي

 تحظ بالأمن وغايات الـمنى      وتـــعد منــه بأقصــى الأرب

ومن قصيدة أخرى:

هو منهل للسائلين ومقصـد          للمذنبـين وراحـم المسـكين

ما خاب راج قد دعاه مؤملاً        ألا المــراد أتــاه بالتسكين

يمم حمى أعتابه وألثم ثـرى ترب شذي نفحـاته النسـرين

قد جئت قطب العارفين بذلة                 أرجوك يا عربـي وفـاء الدين"( )

          وتروى في هذا الباب الأساطير والخرافات فيروى أن بعضهم سافر فضل الطريق، وكان ذلك في ليلة مظلمة حصل له كرب عظيم وضيق فنادى بأعلى صوته: يا سـيدي أحمد أنقذني من هذه الحيرة، فما تم مقالته إلا وضوء أضاء له أبصر به الطريق، وفرج الله عنه ما به ببركة هذا الأستاذ من الهم والضيق .

          وتفنن بعضهم في الطلب ممن هو دون الله، فذهب ينسج أبياتاً _ هي أوهى من نسج العنكبوت _ يستغيث فيها بالمقبور الذي لا يسمع ولا يستجيب، يقول محمد القاياتي بعد أن زار الضريح المنسـوب إلى إبراهيم بن أدهم في بلدة جبلة بقرب اللاذقية: "ولقد أنشأ الفقير قصيدة استغاثية وشكوى حال واقعية وجعلتها في صورة عرض حال بسبب ما وقع لنا من الغربة والارتحال، وقدمته لجنابه، وألقيتها في رحابه، متوسلاً إلى الله بكل أحبابه، ومفاتيح أبوابه:

 جئـــت والوقت بالمكارم أظلم                 أبتغي العيون من جناب ابن أدهم

مأمــل الآمليـن فـي كل خيـر                   ملجـأ الخائفيـن إن أفرط الهـم                  

حرم الأمن كعبة اليمـن لكـن         بيتـه للوفـود غيـر محـرم

قطب غوث يغيث من حل فيـه     ويحــل المقــود ما لم يحتم

وفؤادي على الضريـح ينـادي         ما لهـذا الجريـح غيرك مرهم

يا إمـام العلـو أتجـد مريـداً   هو بالحـب فـي جنابك مغرم

فتحنن يا ابن الكــرام علينـا علنا من حوادث الدهر نسلـم

فتعطف يا قطب وارحم وادفـع       عن نزيل وقـل مرادك تــم"( )        

          يقول الإمام الشوكاني _ رحمه الله _: "وقد ذكر أهل العلم أنه يجب على كل مكلف أن يعلم أن لا غياث ولا مغيث على الإطلاق إلا الله سبحانه، وأن كل غوث من عنده، وإذا حصل شيء من ذلك على يد غيره فالحقيقة له سبحانه ولغيره مجاز. ومن أسمائه المغيث والغياث"( ).

          ولقد انتشر دعاء غير الله بين المسـلمين اليوم بشكل يندى له الجبين، وحتى في العالم العربي الذي يزخر بالعلم وبالقرب من الجامعات والمعاهد الإسلامية، وما سبب ذلك إلا قلة من يعمل على نشر العلم الصحيح الذي ينقذ الناس من خرافات الجهل وأوهام الضلالة، فهذا ضريح من يسمى بالسـيد أحمد البدوي، في الجامع الأحمدي بطنطا بمصر "تجد حوله مظاهر متعددة للتوسل بالبدوي ومناجاته، ومطالبته بتفريج الكرب وقضاء الحوائج، وتبدو على وجوه الزائرين الثقة في أن البدوي سـيجيب مطالبهم، وترى رفع الأكف بالدعاء في خشوع وذله والبكاء أحياناً"( ).

ويروي بعضهم أسطورة عن أحمد البدوي تقول هذه الأسطورة: "إن امرأة مات لها ولد صغير فجاءت إلى (سـيدي أحمد البدوي) وهي باكية، وقالت: يا سـيدي ما أعرف ولدي إلا منك، وهي تقول: توسلت إليك بالله ورسـوله، أو قالت: سقت إليك الله ورسـوله, فمد (سـيدي أحمد البدوي) يده إليه ودعا له فأحياه الله تعالى فقال بعضهم مادحاً البدوي:

          أنت أحيـيت ميتاً وبعد أن قد       فتك الدود لحمه والبلاء( )

ومن الغريب أنه قد يتوجه بعضهم إلى القبر من مكان بعيد ويدعو الميت ويجعل القبلة وراءه، بل هناك "من يسجد وهو مستقبل القبة( )، نسأل الله السلامة" ، وهذا يفعله بجانب القبر ولا يستبعد أن يفعله من مكان آخر؛ فإن الضلال يقود إلى الضلال، ولا شك أن هذا الفعل غير مستبعد على مثل هذا؛ فإن التوجه القلبي إلى صاحب القبر سبق التوجه البدني عنده، ثم تلاه التوجه بالبدن، والجوارح جنود القلب، وهذا من الشـرك الأكبر _ والعياذ بالله ¬_ قال شيخ الإسلام _ رحمه الله _: "ومن الناس من يتحرى وقت دعائه استقبال الجهة التي يكون فيها الرجل الصالح سـواء كانت في المشرق أو غيره وهذا ضلال بين وشرك واضح" .

ولقد اتضح لي من خلال البحث أن من هؤلاء الذين يستغيثون بأصحاب القبور من خلط بين معنى التوسل بدعاء الصالحين، وبين الاستشفاع بأصحاب القبور وندائهم للتوسط عند الله، يقول الشيخ محمد حسـنين مخلوف: "وهذا النوع من التوسل موضع الكلام ومحفل الإفهام وهو التوسل بالنبي أو الولي حياً أو ميتاً بإسـناد الفعل إليه نحو يا نبي الله  أو يا سـيدي فلان اشف مريضي أو ارزقني أو أدخلني الجنة أو نجني من النار أو نحو ذلك مما شأنه أن يسـند إلى الله تعالى ولا تتعلق به قدرة العبد باعتبار ذاته ضراً ولا نفعا وإنما أسند الفعل إليه ليتوجه إلى الله تعالى، وسأله أن يفعل ذلك بحيث لا يكون للنبي أو الولي إلا مجرد السعي في حصوله بالتوجه والطلب من الله تعالى أو ليرشده في يقظته أو منامه إلى ما فيه قضاء حاجته أو يدبر له علاجاً روحانياً أو طبياً أو نحو ذلك من طرق السعي التي يترتب عليها عادة فعل الله حتى يكون فعل النبي أو الولي وسـيلة إلى فعله تعالى فهذا السعي وإن كان جائزاً وواقعاً لكثير من الأنبياء والأولياء فكم شفي مريض بتوجهاتهم وكم قضيت حاجات بإراداتهم وإرشاداتهم ومن أنكر ذلك فقد أنكر محسـوساً، إلا أنه لا يجوز دعاء النبي أو الولي به ولا طلبه منه بمثل هذه الصيغة التي من شأنها أن تسـند إلى الله تعالى لأنه في ذلك إيهام أن للنبي أو للولي شيئاً من صفات الألوهية وأنه معبود من دون الله حيث وجه ما شأنه أن يسـند إلى الله تعالى إلى غيره من العباد"( )، وهذا كلام خطير يتضمن تجويز دعاء غير الله؛ فهنا يلحظ أن هذا النوع من سؤال الأنبياء والأولياء إذا كانوا غائبين أو أمواتاً بطلب السعي منهم في مصلحة الداعي بالتوسط له عند الله لدخوله الجنة أو شفاء مريضه أو إسباغ الرزق عليه، فإن صورة هذا النوع من السؤال لا تختلف عن سؤال كفار قريش للصالحين الذين اتخذوهم وسائط عند الله وهم يعلمون أنهم لا يطيقون فعل ما ينفعهم أو يصلح حالهم، ولذلك قال تعالى واصفاً حالهم: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)( ).

          ويقول: "فالرسـول صلى الله عليه وسلم بالنسبة لأمته شافع أي داع وسائل ربه أن يرحمهم ويغفر لهم أو يقضي حاجتهم ووسـيلة بينهم وبين ربهم في كشف ما ينـزل بهم من هول يوم القيامة داخلة في عموم قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ)( )، وقوله تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ)( )، مما يقرر ثبوت الشفاعة للأنبياء وغيرهم ولا ينافي طلبها منهم كما زعمه بعض المبتدعة ذاهباً إلى منع سؤال الشفاعة من النبي كأن يقول اشفع لي يا رسـول الله أو أسألك الشفاعة  قال وإنما يطلب ذلك من الله تعالى بأن يقول اللهم شفع فينا نبيك ولا تطلب من غيره محتجاً بهذه الآية وهو زعم باطل واحتجاج فاسد فإن القائل اشفع لي يا رسـول الله  لا يريد به أن يكون فاعلاً للغفران ودخول الجنة والنجاة من النار مثلاً فمعنى اشفع لي يا رسـول الله : اطلب منك الشفاعة أي: سؤال الله تعالى أن يغفر لي ويدخلني الجنة"( )، ولكن كون النبي يشفع لأمته يوم القيامة وأنهم يسألونه ذلك ويتوسلون إلى الله بدعائه تحت العرش وهو حي بينهم، يختلف تماماً عن سؤاله في حال كونه ميتاً ، فإن الله عز وجل قال عن الأموات : (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ)( )، كما أن هذا النوع من السؤال لم يؤثر عن أحد من الصحابة؛ فلم يصل إلينا أن أحداً من الصحابة ذهب إلى قبر النبي وطلب منه الشفاعة، ولو كان هذا هو تفسـير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسـيلَةَ)( )، لكان الصحابة أول الناس وأولاهم فهماً له وتطبيقاً لهذا النوع من الوسائل ولتواترت عنهم الأخبار في ابتغائها ولكنهم لم يكونوا يطلبون المغفرة وقضاء الحوائج إلا من الله وحده.

ولهذا فقد نسـي فرقاً مهماً بين الصورتين، وهو أن في صورة التشفع _ التي مثل بها _ والتي أطلق عليها اسم (الشفاعة) طلبٌ من الميت، وهو نفس الطلب من الأموات الذي كان يفعله كفار قريش بنص القرآن الكريم، قال تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)( )، وقال: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)( )، فسماه الله شركاً رغم تسمية الكفار له شفاعة، وأما قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسـولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً)( )، ففيه توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وهو طلب من حي حاضر لا ينكره أحد على سبيل المبدأ، وليس فيه تلمس الحاجة ممن لا يقدر عليها، وليس فيه إضفاء للمطلوب منه صفةً من صفات الرب المنـزه عن الشبيه والمثيل، بل وليس فيه تشـبه بأهل الجاهلية، وهذا الأخير لا يختلف فيه مسلمان، وهو أن التشـبه بالكفار مذموم في الشرع، وخاصة الكفار الذين ذمهم الله في القرآن، فكيف بالتشـبه بهم في الأفعال التي ورد ذمهم وتكفيرهم في القرآن من أجلها.

اتخاذ القبور مساجد:

جاءت السـنة النبوية بالنهي عن اتخاذ القبور مساجد وذلك بمنع الصلاة في مواضع التي فيها مقابر، ونقل شيخ الإسلام الإجماع على النهي عن اتخاذ القبور مساجد( )، فقد جاء عن أبي سعيد الخدري _ رضي الله عنه _ قال: قال رسـول الله  صلى الله عليه وسلم: ((الأرض كلها مسجد إلا المقبرة  والحمام))( )، وجاء وصف اليهود بأنهم شرار الخلق عند الله بسبب اتخاذهم القبور مساجد فجاء عن عائشة وعبد الله بن عباس _ رضي الله عنهم _: أن رسـول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم  مساجد يحذر ما صنعوا))( )، وجاء وصف النصارى بأنهم شرار الخلق عند الله ففي الصحيحين عن عائشة _ رضي الله عنها _: أن أم سلمة _ رضي الله عنها _ ذكرت لرسـول الله  صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها مارية، فذكرت له ما رأت فيها من الصور فقال رسـول الله  صلى الله عليه وسلم: ((أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله))( )، وعن جندب قال: سمعت النبي  صلى الله عليه وسلم يقول: ((ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك))( ).

          كل هذه الأحاديث جاء فيها النهي عن اتخاذ القبور مساجد؛ حتى لا يكون ذلك ذريعة إلى عبادة المقبورين، وهو الظاهر من أقوال العلماء، قال ابن القيم _ رحمه الله _: "قال شيخنا( ): وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور هي التي أوقعت كثيراً من الأمم إما في الشـرك الأكبر أو فيما دونه من الشـرك فإن الشـرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشـرك بخشبة أو حجر، فلأجل هذه المفسدة حسم النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم مادتها حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقاً وإن لم يقصد المصلي بركة البقعة بصلاته، وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور متبركاً بالصلاة في تلك البقعة فهذا عين المحادة لله ولرسـوله والمخالفة لدينه وابتداع دين لم يأذن به الله تعالى؛ فإن المسـلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين رسـول الله أن الصلاة عند القبور منهي عنها وأنه لعن من اتخذها  مساجد. فمن( ) أعظم المحدثات وأسباب الشـرك الصلاة عندها واتخاذها مساجد وبناء المساجد عليها وقد تواترت النصوص عن النبي عليه الصلاة والسلام بالنهي عن ذلك والتغليظ فيه فقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها متابعة منهم للسـنة الصحيحة الصريحة وصرح أصحاب أحمد وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريم ذلك وطائفة أطلقت الكراهة والذي ينبغي أن تحمل على كراهة التحريم إحساناً للظن بالعلماء وأن لا يظن بهم أن يجوزوا فعل ما تواتر عن رسـول الله لعن فاعله والنهي عنه"( )، وقال الشوكاني _ رحمه الله _: "والأحاديث في هذا الباب كثيرة وفيها التصريح بلعن من اتخذ القبور مساجد مع أنه لا يعبد إلا الله، وذلك لقطع ذريعة التشريك، ودفع وسـيلة التعظيم، وورد ما يدل على أن عبادة الله عند القبور بمنـزلة اتخاذها أوثاناً تعبد" ( ).

ومما يزيد من التغليظ في التحريم هو إخباره صلى الله عليه وسلم عن اليهود والنصارى بأنهم فعلوا ذلك، وتعقيبه على ذلك بالنهي، فمن اتخذ القبور مساجد فقد تشـبه باليهود والنصارى الذين لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم، بل تشـبه بهم في نفس الفعل الذي لعنوا من أجله، ألا وهو بناء المساجد على القبور، وكان ذلك ذريعة له إلى مشاركتهم في شركهم الذي وقعوا فيه، بسبب اتخاذهم القبور مساجد.

بعض مظاهر اتخاذ القبور مساجد في العصر الحديث:

إننا لو ألقينا نظرة على أحوال العالم الإسلامي اليوم لوجدنا الحال يرثى لها، فإن من المسـلمين أداروا ظهورهم لهذه الأحاديث السالفة الذكر، إما جاهلين أو متجاهلين أو متبعين لفتوى ضالة مخالفة لما نهى الله عنه ورسـوله، فمنذ نشأة الدولة العبيدية في مصر _ والمتسمية بالفاطمية _ وهذه المساجد ممتلئة بهذه القبور، إما أن يكون المسجد بني على قبر، وإما أن يكون القبر قد جعل في المسجد بعد بنائه، ولقد كان لتساهل الحكام العثمانيين في هذا الباب بل وولعهم أحياناً بالأضرحة والقباب أثر كبير في انتشار ذلك.

          ففي إسطنبول عاصمة السلطنة العثمانية كان يوجد (481) جامعاً يكاد لا يخلو جامع فيها من ضريح، أشهرها الجامع الذي بني على القبر المنسـوب إلى أبي أيوب الأنصاري في الآساتانة (القسطنطينية)" ، ولم تكن الدولة العثمانية تعتني بهذا الجانب من صيانة التوحيد، فكان إهمالها لهذا الجانب من أعظم الأسباب التي كانت وراء انتشار هذه القبور في المساجد؛ فقد كان اتجاه الدولة آنذاك اتجاهاً صوفياً.

          "ولقد تعلق أصحاب الطرق الصوفية بالقبور حتى إنك لا تكاد تجد طريقة صوفية إلا ولها ضريح، ومرجعهم في ذلك هو الرؤيا التي يستندون بها على بناء القبور، فبمجرد أن يرى أحد أوليائهم أن أحد الصالحين جاءه في المنام وأمره ببناء ضريح له في المكان الفلاني فإنه يستجيب لذلك ومن ثم يتخذ ذلك المكان مسجداً يعكف فيه، وهذه الطريقة هي طريقة النصارى الذين ما إن يرى أحد رهبانهم أو كهانهم رؤيا يعبرها بأن ثمة قبر الشهيد المعين فإنه يسارع لتلبية النداء ويقوم ببناء الضريح( )، وهي طريقة اليهود أيضاً؛ فإنهم يعتمدون على ذلك في بناء قبورهم المقدسة( )" .

          ولقد حرص السلاطين العثمانيـون على خدمة هذه الأضرحة والعمل على كسـوتها "ففي سـنة 1305هـ أمر السلطان عبد الحميد أيضاً بتبيـيض القبب وتعمير المسجد، وأمر أيضاً بكسـوتين للضريحين  (الزبير وعتبة بن غزوان) من الحرير الأحمر المفتخر المطرز بالفضة وأمر أيضاً بوضع مباخر وقماقم من الفضة عند الضريحين" .

          "وفي بغداد كان يوجد أكثر من مئة وخمسـين جامعاً في أوائل القرن الرابع عشر الهجري، وقل أن يخلو جامع منها من ضريح، وفي الموصل يوجد أكثر من ستة وسبعين ضريحاً مشهوراً كلها داخل جوامع، وهذا كله بخلاف الأضرحة الموجودة في المساجد والأضرحة المفردة " .

ومن أشهر القباب الموجودة في العالم الإسلامي مما يتخذ مزارات أو أماكن للعبادة: قبة الشيخ: محمد عثمان عبده البرهاني (شيخ الطريقة البرهانية) في السـودان، بالخرطوم – السـوق الشعبي، وقبة الشيخ: قريب الله، بأم درمان، ودنوباوي، وقبة الشيخ: حمد النيل، بأم درمان، وقبة الشيخ: محمد بن عبد الله كريم الدين (شيخ الطريقة المحمدية الأحمدية الإدريسـية). وفي إريتريا: ضريح الشيخ بن علي بقرية (أم بيرم) القريبة من مدينة مصوع الميناء الرئيسـي لإريتريا، وضريح سـيدي هاشم الميرغني وبنـته الست علوية بمدينة مصوع. ولا يختلف الحال كثيراً في بلاد الهند ففي بنجلادش مثلاً تنتشر الأضرحة والمزارات خاصة في مدينة دكا (العاصمة)( ).

صرف العبادة لأهل القبور:

لقد مر معنا آنفاً أن العبادة في اللغة هي التذلل والخضوع، ولذلك حرص الإسلام على عدم صرف أي نوع من التعظيم للمخلوق؛ حتى يصفو جانب العبودية لله رب العالمين، ولذلك لما مرض النبي وصلى بالناس قاعداً وصلى الصحابة خلفه قياماً: خشي أن يجلب لهم ذلك نوع تعظيم له كما يعظم الكفار ملوكهم ورؤساءهم، فقال: ((إن كدتم آنفاً لتفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا، ائتموا بأئمتكم إن صلى قائماً فصلوا قياماً وإن صلى قاعداً فصلوا قعوداً))( )، إلى هذا الحد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أن يبقى جانب العقيدة صافياً لا تشوبه أي مكدرات، رغم أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا ليعظموا أحداً كتعظيم الله، بل كانوا في أشد أحوالهم تعظيماً لربهم، وهو حال الصلاة التي هي شعار الذل والعبودية والتعظيم لله جل وعلا، فلم يرض لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يعظموا غير الله خوفاً منه عليهم من أن يتشـبهوا بالكفار، وحتى لا يكون في قلوبهم ذلة أو خضوع لغير الله، ولو كان هذا الذي يقام على رأسه هو رسـول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف بمن يسجد لغير الله تعظيماً له، ورجاء ما عنده من الخير، وما هو عسى أن يكون رأيه صلى الله عليه وسلم إذا رأى من يسجد لصاحب قبر من القبور، أو يقدم له نوعاً من الذبائح من أجل أن يشفي له مريضاً أو يرد له ضالة، أو يقضي له حاجة، إن هذا هو أخشى ما كان يخشاه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته حين نهاهم عن القيام على أئمتهم، ولذلك كان من كلامه صلى الله عليه وسلم: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد)) .

بعض مظاهر عبادة أهل القبور:

إن أعظم عبادة يؤديها المسلم لربه هي الصلاة، وهذا مما لا يختلف عليه مسلم، وأشرف وضع في الصلاة وأقرب ما يكون العبد من ربه: عندما يكون في وضع السجود، ولكننا نجد أن هذه العبادة العظيمة التي لا يجوز أن تصرف إلا لله: قد صرفها بعض الناس إلى غير الله.

          إن السجود في هذه الشريعة محرم لغير الله ولو كان لغير التعظيم، فإنه ولو كان جائزاً في شريعة يوسف فإنه قد نسخ في شريعتنا، ولذلك لما سجد معاذ للنبي صلى الله عليه وسلم، قال له النبي : ((ما هذا يا معاذ!؟)) قال: أتيت الشام فوافقتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم فوددت في نفسـي أن نفعل ذلك بك. فقال رسـول الله صلى الله عليه وسلم: ((فلا تفعلوا))( ).

          ولقد غلا العوام في هذا الباب حتى إنه بدأ يعترض عليهم من كان يتولى كبرهم في تجويز بعض الأفعال لأصحاب القبور فيقول: أحمد بن محمد بن الصديق الغماري: "نرى بعض العوام بالمغرب يسجدون للشيخ عبد القادر الجيلاني ويقبلون الأرض بين يديه في حال سجودهم"، ثم ذكر بعض الأعمال والاعتقادات حيال القبور، وعقب بقوله: "فهذا كفر"( ).

وإن من أعظم القربات التي يحبها الله جل وعلا: الذبح له، ولذلك قرن بين الذبح والصلاة التي هي عمود الدين في موضعين من كتابه تعالى فقال: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)( )، وقال: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي  وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)( )، ومع ذلك فإن من أهل هذا الزمن من يصرف هذا النسك الجليل لغير الله.

فنرى بعض منحرفي العقيدة من المسـلمين يتجه نحو قبور الموتى بأفضل أنواع القرابين والتي لها من المواصفات ما لا يفكر في شرائه _ ربما _ لو أراد أن يحج إلى بيت الله العتيق، رغبة في أن يرزقهم الولي الذرية الصالحة، أو لكي يعيش الولد الذي جاء بعد حين، أو لغير ذلك من الأسباب( ).

ومن العبادات التي يحبها الله تعالى وقد مدح أصحابها: النذر( ) فقال تعالى: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً)( )، وهذه الآية جاءت في مدح الذين يوفون بالنذر بعد وقوعه منهم، ولكن هذه العبادة صارت في هذا الزمن تصرف عند بعضهم لأصحاب القبور، كالبدوي وغيره، يقول الباحث عبد الله صابر: "والشائع عند الذين ينذرون للبدوي أنهم لا بد أن يوفوا بنذورهم مهما كانت طبيعتهم في المطل وأكل الحقوق ؛ لاعتقادهم الخاطئ في بطش السـيد وانتقامه، كيف لا وهو يسلط الأمراض على من لم  يف بنذره  ويميت عياله ويحرق غيطه ويكب زيته، إلى آخر هذه المعتقدات التي يروج لها مجموعة المنتفعين تحت سمع وبصر الحكام بل وبتشجيعهم وحمايتهم"( ).

وتحصل بسبب هذه الاعتقادات أمور مخزية، وفي القصة التالية نموذج من تلك الأحداث الناجمة عن فساد الاعتقاد، والتي يرويها لنا أحد العائدين من خندق الخرافة بعد أن أنجاه الله منه، فيحدث عن أحد المعتقدين في السـيد البدوي: "لقد عاد من طنطا مع زوجته إلى بلدهما، وحملا معهما بعض أجزاء من الخروف الذي كان قد ذبح على أعتاب ضريح السـيد البدوي، فقد كانت تعاليم الجهالة تقضي بأن يعود ببعضه، التماساً لتوزيع البركة على بقية المحبين _ وأيضاً _ لكي يأكلوا من هذه الأجزاء التي لم تتوافر لها إجراءات الحفظ الصالحة ففسدت، وأصابت كل من أكل منها بنـزلة معوية، وقد تصدى لها الكبار وصمدوا، أما الطفل فمرض، وانتظرت الأم بجهلها أن يتدخل السـيد البدوي لكن ينقذ حالة الطفل التي ساءت وفي آخر الأمر ذهبت به إلى الطبيب الذي أذهله أن تترك الأم ابنها يتعذب طوال هذه الأيام؛ فقد استغرق مرضه أربعة أيام، وهز الطبيب رأسه، ولكنه لم يـيأس وكتب العلاج، أدوية وحقن، ولكن الطفل اشتد عليه المرض، ولم يقو جسمه على المقاومة فمات!" ، إلى هذا الحد وصلت الثقة بالخرافات (الشـركية) لدى تلك الأم، حتى استطاعت أن تضع عاطفة الأمومة تحت قدمها انتظاراً للشفاء من صاحب القبر، وكأنها تنتظر الوعد الإلهي: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ)( )

يقول الباحث مبارك بن محمد الميلي: "وقد أصبح الناس في جاهليتهم الحاضرة ينذرون لمن يعتقدون فيه من الأحياء والأموات والمزارات، الأموال والثياب والحيوانات والشموع والبخور والأطعمة وسائر المتمولات ويعتقدون أن نذرهم سبب يقربهم من رضى المنذور وأن لذلك المنذور دخلاً في حصول غرضهم. فإن حصل مطلوبهم ازدادوا تعلقاً بمن نذروا له واشتدت خشيتهم منه وبذلوا أقصى طاقتهم في الاحتفال بالوفاء له"( ).

ومع أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحلف بغـير الله فقال: " من حلف بغـير الله فقد أشرك" ، تجد كثيراً من المسـلمين اليوم لا يتورع عن الحلف بالنبي وبمن دونه، كالحلف بالوالدين والحلف بكل ما هو معظم عندهم، بل قد يعظمون الحلف بغـير الله أكثر من تعظيمهم للحلف بالله، يقول الباحث مبارك بن محمد الميلي: "وهكذا تراهم يعظمون الإيمان بأوليائهم ويخشون الحنث فيها أكثر من تعظيم اليمين بالله وخشية الحنث فيها. فيحلفون بالله كاذبين في استخفاف وعدم مبالاة ولا يقدمون على الحلف بمرابطيهم وشيوخ طرقهم كذباً، ولا يكذبون من حلف بهم، بل يمتقع لون الواحد منهم إذا حاول الحلف بهم أو سمع من أسرع إلى ذلك الحلف. وكم بلغنا أنهم يستحلفون بالله على الشيء فيسرعون إلى الحلف على خلاف الواقع، ثم يستحلفون بشيوخهم أو آبائهم على ذلك الشيء نفسه فتخرس ألسـنـتهم وتجف أرياقهم ويعترفون بكذبهم في اليمين بالله ولا يستحيون"( ).

يقول الباحث إدريس محمد إدريس واصفاً حال بعض المسـلمين في القطر الإريتري: "ففي إريتريا: يقصد كثير من القبوريـين الأضرحة حاملين معهم الأغنام والأبقار والسكر والقهوة والشاي وغيرها من أنواع الأطعمة إضافة إلى الأموال؛ ليقدموها قرباناً إلى صاحب الضريح، وقد يذبحون الأنعام تقرباً أيضاً للولي( ) أو الشيخ، ويطوفون بالقبر ويتمرغون بترابه، ويطلبون قضاء الحوائج وتفريج الكربات منه، كما يحصل من الفساد الأخلاقي حول الأضرحة ما يستحيـي  الإنسان من ذكر تفاصيله وخاصة الاختلاط وانـتهاك الأعراض، وتكثر هذه الممارسات حول الأضرحة الشهيرة، كضريح الشيخ (بن علي)، وضريح سـيدي هاشم الميرغني وبنـته الست علوية، وضريح الشيخ عبد القادر الجيلاني، وضريح سـيدي هاشم، وضريح أحمد النجاشي"( ).

وهكذا يكاد القلب يتفطر على التوحيد الضائع، ورجوع بعض المسـلمين إلى ما كان عليه المشركون الأوائل، من تنوع أشكال العبادة التي تصرف لغير الله، ويشاركنا في هذا التأسف أحد الغيورين على هذه الأمة فيقول: "وارجع البصر نحو أركان الإسلام الخمس، التي ليس في كونها عبادة لبس، هل تجد المسـلمين يأتون بها على وجهها أم يخصون بها الخالق جل وعلا؟ إنك تجدهم يشهدون شهادة الإخلاص ثم لا يخلصون لله، بل يفزعون لأوليائهم، ويخشونهم خشية تأليه. وتراهم يصلون ولكن لا يخشعون، إلا بين يدي من به يتبركون، ويتساهلون في إخراج الزكوات ويتشددون في الوفاء بما ينذرون للمزارات والمقامات، بل يشحون بما هو منها واجب مشروع، ويسخون بالمقدار المبدوع، كالمكيال المقرر في الحبوب للشيخ عبد القادر الجيلاني. ويصومون رمضان معرضين عن الحجة الشرعية في ثبوته وانقضائه، متعمدين مخالفتها إلى أوامر رؤسائهم الروحيـين من المرابطين والطرقيـين ويصبرون على الجوع والعطش في زيارة هؤلاء الرؤساء ويألمون لذلك في الصيام لله ويحجون بقلة، ويزورون سادتهم بكثرة، ويطوفون ببعض المزارات، ويوقتون لها الأوقات، ويجعلون أعداداً منها تقوم مقام الحج إلى بيت الله الحرام فهل تفرق مع هذا بين جاهلية عصر الوحي، وجاهلية زمن الاستعباد والبغي"( )، وهذا النوع من التشبه بالكفار هو من التشبه بهم فيما به كفروا ومن أجله ناصبهم أهل التوحيد العداء وتبرؤوا منهم، وحاربوهم باللسان والسنان، فأي تشبه بالكفار بعد هذا التشبه، الذي هو في أخص خصائصهم، وهو الفيصل والفرقان بينهم وبين المؤمنين، والله المستعان.

 المبحث الثالث:  أثر العلمانية في التحاكم إلى غير الله:-

لقد كان من المقرر عند المسـلمين ومن المسلمات البدهية لديهم ما للتحاكم إلى الشرع  من منـزلة عظيمة من الدين، فهو من أصول الدين التي لا تنفصل عن العقيدة الإسلامية بحال، ولم يحصل بين المسـلمين اختلاف حول أهمية الحكم بالشرع الحنيف، وأنه لا بد وأن يحكم الحياة الدنيا بكامل فروعها، وأن الوحي هو المنهج المشرف لحياة المسـلمين، ينظم حياتهم السـياسـية والاقتصادية والاجتماعية، لم يزل هذا التصور لا يغادر أذهان المسـلمين وأنماط حياتهم حتى ما قبل عصرنا الحاضر، فإن كان في التاريخ الإسلامي انحراف عن تطبيق الوحي فلا يعدو عن كونه مجاراة لأهواء النفوس الضعيفة, والتي لا تملك أن تؤصل لذلك الانحراف وأن تجعل منه عملاً شرعياً ومقبولاً لدى المسـلمين، حتى بذرت بين المسـلمين بذور العلمانية القادمة من أعماق الغرب المظلم.

          إن التحاكم إلى شرع الله يمثل روح هذا الدين؛ فإن دين الله الذي رضيه للناس _ حيث قال جل جلاله: (وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً)( )، _ لم ينـزل ليظل معزولاً عن الحياة البشرية، إن دين الله نزل من عند الله ليكون شرعاً ومنهاج حياة، قال تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)( )، فالحياة التي من أجل الله لا بد أن تكون على شرع الله.

          ولذلك جاءت الآيات مقررة لهذه المسألة، قال تعالى: ( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)( )، فكما أن الخلق من خصائص الله وحده فكذلك الأمر له وحده، ومن ادعى أن للكون خالقاً غير الله فقد أشرك وكذلك من ادعى أن مع الله أحداً يحق له أن يأمر وينهى دون إذنه تعالى فقد أشرك كذلك، يقول د. صلاح الصاوي: "إن حقيقة الرضا بالله رباً تتمثل في الإقرار بالأمر بقسميه: الكوني والشرعي لله عز وجل وأن يقر له بالتفرد في كليهما فيرضى بشرعه كما يرضى يقدره ويسكن إلى تدبيره الشرعي كما يسكن إلى تدبير الكوني... ذلك أن الخلق والأمر من أخص خصائص الربوبية وأجمع صفاته, كما قال تعالى: (ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين) ( ), ولهذا أجاب بهما موسى عليه السلام في مقام المحاجة مع فرعون عندما ابتدره سائلاً: (فمن ربكما يا موسى) ( ), فكان جواب الكليم عليه السلام: (ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى)( )"( )

  وقال تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ)( )، وقال: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسـولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسـن تَأْوِيلاً)( ).

          ولقد ذم الله الذين تركوا حكم الله إلى حكم غيره فقال جل جلاله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً)( )، فسمى ما ذهبوا إليه وتركوا حكم الله من أجله: طاغوتاً، واتهمهم في إيمانهم . ونفى الله الإيمان عمن لم يسلِّم لحكم الله ورسـوله، وأقسم على ذلك بنفسه، فقال: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)( ). كما نفى الإيمان عن أهل الكتاب الذين تركوا العمل بحكم الله وأخذوا يتحاكمون إلى أهوائهم فقال: (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) ( ).

          ولما كان الحكم له سبحانه دون غيره كان الذي يأخذ أحكام الحلال والحرام من غير الله كمن اتخذه نداً لله؛ فإنه قد أشرك مع الله إلهاً آخر في الخصيصة الإلهية التي اختصها الله لنفسه ألا وهي التحليل والتحريم، ولذلك يقول تعالى عن اليهود والنصارى الذين أطاعوا علماءهم وقساوستهم في شؤون التحليل والتحريم، فصاروا يحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسـيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)( )، وهنا وصف الله جل وعلا هؤلاء الرهبان والأحبار بأنهم صاروا بالنسبة لهؤلاء التابعين لهم: أرباباً من دون الله، وليس هذا الوصف لأنهم يعبدونهم فيسجدون لهم ويصلون، بل لأنهم أشركوهم مع الله في ما اختص به وحده من التشريع، ولذلك لما سمع عدي بن حاتم الطائي هذه الآية وقد كان في الجاهلية نصرانياً، قال: ((أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه)) .

ومظاهر التشريع البشري عند النصارى وقيامهم بتشريع ما لم يشرعه الله عز وجل قديمة قدم المجامع المسكونية  والتي كان أولها المجمع الذي حرموا فيه الختان على غير اليهود، وأحلوا فيه أكل لحم الخنزير على خلاف شريعة موسى ، حين اجتمعوا في أورشليم سـنة: 105م( ).

فمن أدار ظهره للوحي وأخذ الحلال والحرام من غير شرع الله، فقد أضاف إلى كونه اتخذ مع الله نداً في جانب التشريع: أنه تشـبه باليهود والنصارى الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم مشرعين لهم من دون الله.

          ووصف الله جل وعلا الذين يشرعون للناس ما هو بخلاف الدين الحق المنـزل من عند الله بأنهم أضافوا إلى أنفسهم وصف الشراكة مع الله الذي لا شريك له في خلقه وأمره، قال تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)( )، فمن اتبع من شرع له ما لم يأذن به الله فقد اتخذه شريكاً مع الله، ولقد تقدم الكلام في قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)( ) ، وأن الحكم بغـير ما أنزل الله منه ما هو كفر أكبر مخرج من الملة ومنه ما هو كفر أصغر .

العلمانية نشأتها ودخولها إلى بلاد المسـلمين:-

          تعرف العلمانية بأنها محاولة فصل الدين عن أحكام الحياة، يقول الشيخ محمد قطب: "هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس عن الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بالدنيا وحدها"( ).

لقد عانت أوروبا من تسلط الدين المحرف على أشكال الحياة في العصور الوسطى ، وكان من الحتمي أن تطالب يوماً ما بالفصل بين هذا الدين المحرف الذي وقف عائقاً بينها وبين التقدم والعلم، وإن كان الدين لم يكن يحكم في الحقيقة كل ما يتعلق بشؤون الحياة، بل كان محصوراً في جانب معين( )، "ولكن هكذا كانت الممارسة الدينية في ظل الجاهلية الكنسـية المنحرفة, والتي من جرائها كان لرجال الدين كل ذلك النفوذ على عقول الناس وأرواحهم, فهم الوسطاء بين الناس وبين الدين ومفاهيمه, بل هم الوسطاء بين الناس وبين الله, والناس – علماء أو غير علماء – لا يبحثون في أي شأن من الشؤون ليكوّنوا فيه رأياً أو موقفاً. إنما يسألون رجال الدين ليدلوهم على الرأي أو الموقف الذي ينبغي عليهم اتخاذه، وكان رد الفعل أن الإنسان هو الذي ينبغي أن يستشار في الأمور كلها وليس الدين, وأن العقل البشري هو الذي ينبغي أن يكون صاحب القرار وليس الله.. ولو كان الأمر متعلقاً بالعقيدة أو الأمور الأخروية. وبمقدار ما كان العقل مكبوتاً ومحجوراً عليه, انطلق هذا العقل يريد أن يقتحم كل ميدان ولو كان خارجاً عن اختصاصه! يقتحمه بروح أنه هو صاحب الحق الذي كان ممنوعاً من حقه فهو يريد أن يؤكد هذا الحق. ويقتحمه بروح الشك, أو روح المحو لكل"( )، ولو أن أوروبا اختارت الدين الصحيح الذي لا يشوبه أي تحريف لحصل الانسجام التام بين الدين والحياة. يقول الشيخ محمد قطب: "الذي تقصده أوروبا حين تطلق هذه الكلمة هو إبعاد ما فهمته هي من معنى الدين عن واقع الحياة, متمثلاً في "بعض" المفاهيم الدينية, وفي تدخل "رجال الدين" باسم الدين في السـياسة والاقتصاد والاجتماع والفكر والعلم والأدب والفن.. وكل مجالات الحياة؛ ثم إقامة هذا كله بعيداً عن نفوذ الكنيسة من جهة, وبعيداً عن مفاهيم الدين كلها من جهة أخرى, بصرف النظر عن وجود الكنيسة أو عدم وجودها"( )، وهكذا اختار الأوربيون تنحية الدين كاملاً بدلاً من الرجوع إلى الدين الصحيح.

وفي الحقيقة لم يكن هناك بديل في دينهم المحرف يمكن أن ترجع تلك الجموع الثائرة إليه، ولم يعد هناك وقت لديهم للبحث عن الدين الصحيح، ثم إن الأفكار قد تشبعت بكراهية الأديان بسبب ذلك التسلط، مما جعل الحل الوحيد هو نبذ الدين بالكلية، يقول الباحث محمد العرمابي: "ونتيجة لطغيان الكنيسة وتكميمها الأفواه ولذلك فقد سخط الناس عليها ونقموا نقماً لا هوادة فيه وانسحب هذا السخط على الدين وكل ما يمت به بصلة، بل كرهوا كل متدين، ومثل أمامهم ذلك الشيخ المخيف من الجلادين وفكروا بالخروج من وهدة العقل المتحجر. وبالتالي قرروا بل وفكروا في سبيل يخرجهم من هذا الدين الذي أيقنوا أنه والعلم نقيضان لا يجتمعان وخطان متوازيان لا يلتقيان، وعلى ذلك ولذلك عملوا بجد واجتهدوا في إبعاد الدين عن ساحة العقل المخترع وعن مجال البحث العلمي... وكان من أول نتاج وثمار أعمال الكنيسة أن انفجر ذلك البركان الذي كان يغلي داخل صدور العلماء خاصة والناس عامة، فقذف بحممه التي كانت هي الثورة الفرنسـية(1789)م التي أقامت مبادئها وأنشأت أسسها على العلمانية بعيداً عن الدين ورهبانه"( ).

          ولكن مع ذلك فإن العلمانية بعد الثورة الفرنسـية ما لبثت أن تشكلت إلى صورتين:-

"الصورة الأولى: العلمانية الملحدة: وهي التي تنكر الدين كلية: وتنكر وجود الله الخالق البارئ المصور، ولا تعترف بشيء من ذلك، بل وتحارب وتعادي من يدعو إلى مجرد الإيمان بوجود الله"( )، ولكن هذه الصورة لم تلق قبولاً واسعاً في النهاية، فإن الإنسان بطبيعته متدين، فظهر من يدعو إلى إبقاء الدين، ولكن لم ينسـوا ما فعله بهم هذا الدين، وخشية على أنفسهم من تسلط رجال الدين مرة أخرى، قالوا بفصل الدين عن مظاهر الحياة، لتظهر بذلك صورة أخرى للعلمانية، سماها الباحث أحمد شاكر الشريف بالعلمانية غير الملحدة ، فيقول: "وهي علمانية لا  تنكر وجود الله، وتؤمن به إيمانًا نظريًا: لكنها تنكر تدخل الدين في شؤون الدنيا، وتنادي بعزل الدين عن الدنيا، (وهذه الصورة أشد خطراً من الصورة السابقة) من حيث الإضلال والتلبيس على عوام المسـلمين، فعدم إنكارها لوجود الله، وعدم ظهور محاربتها للتدين ( ) يغطي على أكثر عوام المسـلمين حقيقة هذه الدعوة الكفرية، فلا يتبينون ما فيها من الكفر لقلة علمهم ومعرفتهم الصحيحة بالدين، ولذلك تجد أكثر الأنظمة الحاكمة اليوم في بلاد المسـلمين أنظمة علمانية، والكثرة الكاثرة والجمهور الأعظم من المسـلمين لا يعرفون حقيقة ذلك" ، ولذلك فإن هذا النوع من العلمانية هو الذي انتشر وشاع بين الناس ووصل إلى المسـلمين، وهو الذي عرفته في بداية الحديث عن العلمانية.

          ولكن لما دخلت العلمانية (Secularism) إلى بلاد المسـلمين، عربت تعريباً خاطئاً؛ فإن لفظ العلمانية ليس له علاقة بتعريفها فأصل هذا اللفظ باللاتينية هو الاسم: (secular وهو يعني ثلاثة معاني: 1- دنيوي، 2- غير ديني، 3- مدني( )، يقول الشيخ محمد قطب: "وهي ترجمة مضللة لأنها توحي بأن لها صلة بالعلم, بينما هي في لغاتها الأصلية لا صلة لها بالعلم. بل المقصود بها في تلك اللغات هو إقامة الحياة بعيداً عن الدين, أو الفصل الكامل بين الدين والحياة"، فكان الأولى أن تكون الترجمة باسم: (اللادينية).

          ولقد كانت أول قصة دخول هذه الفكرة إلى البلاد الإسلامية في الدولة العثمانية، بأن تم إنشاء أول خلية تعمل على تغريب المسـلمين، وهي جمعية الاتحاد والترقي بزعامة مدحت باشا، التي قامت بدورها بالتمهيد لعمل الدستور العلماني للبلاد، وإقحامه مكان الشرع الإسلامي( )، وما زالت المؤامرات تحاك، والأحداث تتلاحق، حتى تم انتخاب مصطفى كمال رئيسـاً للجمعيـة الوطنيـة، فعمـل على فصل السـلطنة عن الخلافة عام: (1923م)، ثم ألغيت الخلافة الإسلامية في 3/3/1924م، كما ألغيت معها وزارتا الشريعة والأوقاف ، وكان يرى أن السلطة شيء والخلافة شيء آخر، وأن الخلافة قد أخذت السلطة من الشعب، وأن من حق الشعب أن يستردها، وفصل بين السلطنة والخلافة . وهكذا قام الكماليون بترويج فكرة فصل الدين عن سـياسة الحكم بغرض إبعاد الدولة عن الشريعة الإسلامية، وعملوا على إلغاء كل ما ينتمي إلى الإسلام من شؤون الحكم في تركيا، وأبطلوا المحاكم الشرعية، وألغوا الوزارة التي كان اسمها: مشيخة الإسلام وجعلوا مكانها دائرة صغيرة تابعة لنظارة الداخلية سموها: أمور الديانة، كما حذفوا من دستور  تركيا المادة التي فيها أن الإسلام هو دين الجمهورية التركية .

"وجاء قرار إعلان الجمهورية في 29 أكتوبر 1923م كالتالي:

1.      شكل الدولة جمهوري و دينها الإسلام ولغتها التركية.

2.      رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة يتولى رئاسة المجلس الوطني ورئاسة الوزارة.

3.      رئيس الجمهورية يختار رئيس الوزارة من أعضاء المجلس"( ).

"ومنذ هذه اللحظة بدأ "مصطفى كمال" مرحلة بناء تركيا على أسس جديدة, وقد أقيمت الاحتفالات بانتخابه في كل قرى ومدن تركيا, فيما عدا إستانبول التي قام ساستها وصحافيوها بالهجوم على مصطفى كمال لمحاولته القضاء على الخلافة وإبعاد تركيا عن العالم الإسلامي, وكانوا يرون ضرورة وجود الخليفة في الدولة كرمز لوحدة الأمة, إلا أن مصطفى كمال لم يعر اهتماماً لهذه الانتقادات بل بدأ بتشكيل أول حكومة في ظل النظام الجمهوري الجديد"( ).

"وفي هذا الوقت قامت الحكومة بدعوة السلطان عبد المجيد إلى احتفال بمناسبة فصل الدولة عن الدين وجعل الحكومة منفصلة عن الخلافة, على أن يكون السلطان عبد المجيد خليفة للمسـلمين, وذلك في صلاة الجمعة. وقام عبد المجيد بالدعاء لمصطفى كمال وتهنئته برئاسة الحكومة, وقد فرحت أكثر البلاد الإسلامية بهذه المبايعة, وهنأت مصطفى كمال على إحيائه سـنة الخلفاء الراشدين في إقامة الدولة والخلافة على أساس الشورى, وبايعت عبد المجيد للخلافة والإمامة الكبرى, وقامت بتلقيب عبد المجيد بلقب "أمير المؤمنين وخليفة رسـول الله وحامي الحرمين الشريفين"وفي مقدمة هؤلاء المهنئين كان مسلمو الهند إلى جانب مسلمي مصر وأساتذة المدارس وعلماء الدين في الأزهر.

وعلى الرغم من هذا فقد كان الناس منقسمون بين من يقول بصحة هذه المبايعة في فصل الدين عن الدولة مثلما حدث في أوروبا من فصل بين الكنيسة والحكومة, وبين من يرفض هذه المبايعة, واعتبر أن هذه الخلافة ما هي إلا خلافة مشايخ الطرق وهي ليست من الإسلام( ).

ولقد كانت الصوفية التي تنـتهجها الدولة العثمانية من الممهدات لدخول العلمانية إلى الدولة، فإنها تشـبه إلى حد ما الرهبانية التي كانت أوروبا عليها في بداية دخولهم في الدين النصراني؛ فإن السلبية التي أنتجتها الصوفية تجاه قضايا الأمة ، أورثت شعوراً بأن الدين له رجاله كما أن السـياسة لها رجالها، وأوحت _ ولو عن بعد _ بأن الدين لا دخل له في السـياسة. إن التصور المحرف لدين الله عند الأوربيـين النصارى منذ اعتناقهم للنصرانية، أدى إلى نظرة تتهم الدين بالنقص مما هيأ النفوس إلى رفض تدخل الدين بالكلية؛ فلم يكن عندهم بديل يقتنعون به ويملأ أرواحهم وأفكارهم، ويواكب تطوراتهم بسبب التحريف، ولم يكن في الدين الذي عرفوه ما يحكم الحياة البشرية سـوى بعض الأحوال الشخصية، فلم يكن بد عندهم من تنحية الدين، يقول الشيخ محمد قطب: "إن الفصل بين الدين والحياة وقع مبكراً جداً في الحياة الأوروبية, أو أنه – إن شئت – قد وقع منذ بدء اعتناق أوروبا للمسـيحية, لأن أوروبا قد تلقت المسـيحية عقيدة منفصلة عن الشريعة (بصرف النظر عما حدث في العقيدة ذاتها من تحريف على أيدي الكنيسة) ولم تحكم الشريعة شيئاً من حياة الناس في أوروبا إلا "الأحوال الشخصية" فحسب, أي أنها لم تحكم الأحوال السـياسـية ولا الأحوال الاقتصادية ولا الأحوال الاجتماعية في جملتها" ، فكما أن التصور المحرف لدين الله عند الأوربيـين النصارى منذ اعتناقهم للنصرانية، أدى إلى نظرة تتهم الدين بالنقص مما هيأ النفوس إلى رفض تدخل الدين بالكلية، فكذلك الحال بالنسبة لتصور بعض المسـلمين عن الدين الممزوج بالصوفية _ مع الفارق _ فإن الصوفية قلصت من بعض وظائف الدين الحقيقية لتجعل الدين محصوراً في بعض الأذكار والأوراد والعبادات بعيداً عن واقع الأمة، مما هيأ نفوس بعض المسـلمين لتقبل العلمانية، وإن كان البديل لدى المسـلمين موجود في الدين الصحيح النقي من المحدثات، بخلاف حال الأوربيـين النصارى، وهذا من الفارق بينهما.

ثم حانت الفرصة ليحل القانون الغربي مكان الشريعة الإسلامية بشكل رسمي، ولذلك صرح كمال بذلك فقال: "نحن لا نريد شرعاً فيه قال وقالوا ولكن شرعاً فيه قلنا ونقول" ، ووقع اختيار مصطفى كمال على القانون السـويسري، "وقد أكد مصطفى كمال رأيه في إحلال هذا القانون بقوله: "إن الأديان تعبر عن أحكام ثابتة بينما الحياة تتحول وتحتاج إلى تغيـير. وأقر أن كل ما تعانيه تركيا يرجع إلى كونها تستمد أحكامها من الدين كما أكد مصطفى كمال أن مقتضيات الحياة تتطلب وضع قانون مدني متسق مع متطلبات المدنية الحديثة"( ).

"ويقع القانون السـويسري الذي وضعته الحكومة الجديدة في 937 مادة مقسمة إلى خمسة وعشرين باباً ومقدمة تحوى أحكاماً عامة"( )، وقد طبق كمال هذا القانون بكل ما يحويه بغض النظر عن عادات الشعب التركي، "فمن أحكام الرشد والزواج التي تضمنها القانون المدني السـويسري:

1-      يبدأ سـن الرشد في تمام الثامنة عشرة.

2-      سـن الزواج السابعة عشرة للرجل والسادسة عشرة للمرأة.

3-      لا يجوز لشخص أن يتزوج مرة ثانية.

4-      لا يجوز للمرأة المتوفى زوجها أن تتزوج إلا بعد مرور ثلاثمائة يوم.

5-      لكل من الزوجين الحق برفع قضية طلاق بسبب زنا الآخر أو بسبب محاولة الآخر اغتياله أو معاملته معاملة سـيئة جداً أو بسبب العشرة بين الزوجين, وعلى الحاكم أن يحكم بالطلاق إذا ثبت صحة أسباب الطلاق.

6-      تبني الأولاد لا يجوز إلا من قبل من كان عمره أربعين سـنة فما فوق, والمتبني يتلقب بلقب متبنيه ويكون وريثاً له"( ).

ومما قام به أتاتورك أيضاً لهدم النظام الإسلامي أنه ألغى نظام تعدد الزوجات، كما منع نظام الإرث وأعلن المساواة التامة بين الذكر والأنثى في الميراث والحقوق السـياسـية والاجتماعية .

ومن ثم انتشرت هذه الفكرة بين المسـلمين انتشار النار في الهشيم، ولقد كان من أسباب دخول العلمانية إلى العالم الإسلامي: تآمر المستعمرين على إدخالها إلى العالم الإسلامي، وفرضها كمنهج حياة .

كما أن من الأسباب التي ساعدت على نشر هذه الفكرة: تآمر المنصرين الذين حرصوا على نشر كل ما يضعف شوكة الإسلام والمسـلمين، "وبهذه الصلات الثقافية بين مسـيحيـي العرب وبين الثقافة الفرنسـية والثقافة الإنجليزية من ناحية، وبهذا الكلف الجديد بالثقافة والدراسات الغربية من ناحية أخرى، فتحت عيونهم على عالمين جديدين خارج الكنيسة وخارج المدارس التبشيرية، وهيأت ذلك لظهور الفكر العلماني المعادي للكنيسة في كثير من كتاباتهم، في الوقت الذي لم يكن فيه لهذا الفكر أثر بين معاصريهم من كتاب المسـلمين ومفكريهم، وقد أخذ هؤلاء النصارى ينشرون هذه الأفكار العلمانية في الصحف والمجلات، بل البعض ألف في ذلك مقالات تعد كتباً أو ضمن هذه المبادئ بعض فقرات مما كتبوا، وقد ساعدهم على ترويجها: الاستعمار الذي تناوش البلاد الإسلامية، ومن هنا فقد سرت هذه التيارات الخبيثة في العالم الإسلامي وإن وجهت سهامها الأولى صوب رباط المسـلمين الأكبر الخلافة الإسلامية"( ).

وهكذا اتسعت دائرة هذه الفكرة لتصل إلى بلاد المسـلمين الأخرى ومنها مصر، وكان ذلك بعد قدوم الخديوي إسماعيل من بلاد الغرب، وتسلمه السلطة في مصر، "وكانت فترة حكم الخديوي إسماعيل باشا (1863- 1879)م،  كانت من أخطر المراحل في تدمير الشخصية الإسلامية لمصر وإذابتها وحل عروتها، وهدم شريعة الإسلام فيها جملة، هدماً غير مسبوق إليه في تاريخ البلاد"( ).

"ومن أخطر ما قام به الخديوي إسماعيل في مجال ضرب الشريعة الإسلامية: نقل وترجمة القوانين الفرنسـية إلى اللغة العربية والعمل على تطبيقها" .

موقف العلماء من القوانين الوضعية:

لقد كان للعلماء العاملين موقفهم الصلب من دخول هذه القوانين الغربية إلى بلاد المسـلمين، أذكر منهم على سبيل المثال، لا الحصر: مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ _ رحمه الله _ حيث أصدر كتابه المشهور بعنوان تحكيم القوانين ذكر فيه أنواعاً من الحكم بغـير ما أنزل الله وبين أحكامها، حتى وصل إلى النوع الخامس وهو الحكم بالقوانين الوضعية، فقال: "الخامس: وهو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندة للشرع، ومكابرة لأحكامه، ومشاقة لله ولرسـوله، ومضاهاة بالمحاكم الشرعية، إعداداً وإمداداً وإرصاداً وتأصيلا، وتفرعاً وتشكيلاً وتنويعاً وحكماً وإلزاماً، ومراجع ومستندات. فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع مستمدات، مرجعها كلها إلى كتاب الله وسـنة رسـوله صلى الله عليه وسلم، فلهذه المحاكم مراجع، هي: القانون الملفق من شرائع شتى، وقوانين كثيرة، كالقانون الفرنسـي، والقانون الأمريكي، والقانون البريطاني، وغيرها من القوانين، ومن مذاهب بعض البدعيـين المنتسبين إلى الشريعة وغير ذلك. فهذه المحاكم الآن في كثير من أمصار الإسلام مهيأة مكملة، مفتوحة الأبواب، والناس إليها أسراب إثر أسراب، يحكم حكامها بينهم بما يخالف حكم السـنة والكتاب، من أحكام ذلك القانون، وتلزمهم به، وتقرهم عليه، وتحتمه عليهم، فأي كفر فوق هذا الكفر، وأي مناقضة للشهادة بأن محمداً رسـول الله بعد هذه المناقضة" .

ومن العلماء الذين تكلموا في هذا الشأن الشيخ أحمد شاكر _ عليه رحمة الله _، حيث يقول: "أفيجوز في شرع الله أن يحكم المسلمون في بلادهم بتشريع مقتبس عن تشريعات أوربا الوثنية الملحدة؟ بل بتشريع تدخله الأهواء والآراء الباطلة, يغيرونه ويبدلونه كما يشاءون, لا يبالي واضعه أوافق شرعه الإسلام أم خالفها. إن المسـلمين لم يبلوا بهذا قط – فيما نعلم من تاريخهم – إلا في ذلك العهد عهد التتار... أفرأيتم هذا الوصف القوي من الحافظ ابن كثير – في القرن الثامن – لذلك القانون الوضعي, الذي صنعه عدو الإسلام جنكز خان؟ ألستم ترونه يصف حال المسـلمين في هذا العصر, في القرن الرابع عشر؟... ثم كان المسلمون الآن أسـوأ حالاً وأشد ظلماً وظلاماً منهم؛ لأن أكثر الأمم الإسلامية الآن تكاد تندمج في هذه القوانين المخالفة للشريعة, والتي هي أشبه شيء بذاك الياسق الذي اصطنعه رجل كافر ظاهر الكفر, هذه القوانين التي يصطنعها ناس ينتسبون للإسلام, ثم يتعلمها أبناء المسـلمين, ويفخرون بذلك آباءً وأبناءً, ثم يجعلون مرد أمرهم إلى معتنقي هذا الياسق العصري, ويحقرون من يخالفهم في ذلك, ويسمون من يدعوهم إلى الاستمساك بدينهم وشريعتهم رجعياً وجامداً إلى مثل ذلك من الألفاظ البذيئة... إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس, هي كفر بواح, لا خفاء فيه"( )، كما أن الحكم بالقوانين الوضعية فيها محذور آخر يجمع مع المحاذير الشرعية السابقة، حيث إن الحكم بالقوانين الوضعية المأخوذة من الكفار يعتبر مظهراً من مظاهر التشـبه بالكفار ولا شك.

وغيرهم كثير من علماء الإسلام الذين رأوا من واجبهم التحذير من هذا البلاء الذي جلبه بعض المسـلمين إلى بلاد المؤمنين ، متشـبهين في ذلك بالغرب الكافر، مغترين بدعاوى الديمقراطية المزعومة، ومستوردين لأنظمة حياتهم عن البشر، كما فعله أسلافهم من أهل الكتاب الذين قال الله تعالى فيهم: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)( ).

الديمقراطية وعلاقتها بالعلمانية:

لقد كان من المناسب للشعوب الغربية الثائرة التي تريد العدل والمساواة وإعادة الحقوق الضائعة والتحرر من ربقة العبودية للإقطاعيـين، ووصاية الكنيسة ورهبانها، أن يكون نظامها ذا خاصيتين:

الخاصية الأولى: أن تكون السلطة بعيدة عن الكنيسة وأحكامها الجائرة، فتم تجريد السلطة من الوصاية الروحية.

والخاصية الثانية: أن تأخذ السلطة في اعتبارها غضب الجماهير من الطبقات الكادحة، الحاقدة على الطبقات الغنية المالكة للثروات.

وهكذا تم اختيار سلطة يتم فيها توزيع الحكم على الشعب بالتساوي، عن طريق النيابة، بحيث ينيب كل واحد من الشعب من يرغب في إنابته ليقوم بالتصويت على التشريعات التي توافق رغبات الشخص المنيب. يقول الشيخ محمد قطب: "لذلك كانت الديمقراطية هي اللعبة المناسبة التي توفق بين رغبة الطبقتين الساعيتين إلى السلطة, إحداهما وهي الطبقة الرأسمالية تستولي على السلطان الحقيقي, والثانية وهي طبقة الشعب تشارك – بقدر – في ذلك السلطان وذلك فضلاً عن عنصرين آخرين إحداهما إيحاء الفكر الإغريقي القديم وتأثيره على المفكريـين  الغربيـين منذ عصر النهضة( ), وهو فكر يحمل صورة "تذكارية" للديمقراطية من أيام أثينا وإسبرطة, والثاني هو الشعارات التي وضعتها الماسـونية اليهودية للثورة الفرنسـية وهي: الحرية والإخاء والمساواة, والديمقراطية هي المنطلق الأنسب لهذه الشعارات, ومن ورائها يحقق اليهود ما يحلو لهم من أهداف، وهكذا كانت نقطة الانطلاق, أو نقطتا الانطلاق في الحقيقة هما: أولاً: وجوب إشراف الشعب على أعمال الحكومة, أي إلغاء (الحق الإلهي المقدس) وإخضاع الحكومة لرقابة الشعب على تصرفاتهم, وفصل السلطات, وجعل الحكومة سلطة تنفيذية فحسب, لا سلطة تشريعية..وثانياً: إعطاء الشعب حقوقهم (الإنسانية) التي حرم منها أكثر من ألف عام في ظل نظام الإقطاع"( ).

          وهكذا تمت نشأة الديمقراطية، على أساس أن حكم الشعب للشعب، "فالديمقراطية إذن هي التعبير السـياسـي أو الوجه السـياسـي للعلمانية، كما أن الرأسمالية تعبير اقتصادي عن العلمانية"( ).

          وفي الديمقراطية يتم اختيار الرئيس للدولة بناء على ما سبق بالانتخابات، وهي طريقة يتم فيها التصويت من قبل الشعب بأكمله، جاء في الموسـوعة العربية العالمية بشأن الانتخابات: "الانتخاب عملية يدلي فيها الناس بأصواتهم للمرشح, أو الاقتراح الذي يفضلونه وتجري الانتخابات باختيار المسؤولين في كثير من التنظيمات مثل الجمعيات والنقابات والنوادي الرياضية والاجتماعية. يعتبر حق الانتخاب في الدول الديمقراطية من أهم الممارسات السـياسـية, فهي وسـيلة لنقل السلطة بطريقة سلمية من شخص إلى شخص آخر وفي كثير من البلاد يجري أحياناً نوع آخر يعرف باسم الاستفتاء للبت في مسائل دستورية أو سـياسـية مهمة.

تختلف إجراءات ونظم الانتخابات من بلد لآخر إلا أن هناك أسساً معينة يجري العمل بها في كثير من البلدان. وفي الغالب , ينتخب رؤساء الدول والحكومات والهيئات التشريعية على فترات منتظمة. وإذا توفي عضو الهيئة التشريعية أو استقال, تعقد انتخابات فرعية لانتخاب بديل يحل محله.

وفي البلدان الديمقراطية يحق لكل المواطنين, فوق عمر محدد – عادة18أو21 سـنة – الإدلاء بأصواتهم ما داموا مسجلين, ولم يفقدوا هذا الحق لسبب أو لآخر. ويستثنى من ذلك الذين يعانون من مرض عقلي ومرتكبي بعض أنواع الجرائم. تجرى انتخابات الهيئات التشريعية (البرلمانات) عادةً, بالاقتراع السري. فكل شخص حر في التصويت دون أن يتأثر بالآخرين. وتتحدث وسائل الإعلام التي تشمل: الإذاعة والتلفاز, والمجلات والصحف عن المرشحين وعن المسائل المهمة المطروحة في الانتخابات بحرية.

تختار الأحزاب السـياسـية في أكثر البلاد الديمقراطية مرشحيها لعضوية الهيئات التشريعية, وتقترح السـياسات العامة. غير أنه في – بعض الدول النامية – تجرى الانتخابات المحلية على أسس غير حزبية, أي تظهر أسماء المرشحين بدون الإشارة إلى انتماءاتهم الحزبية.

يختار المقترعون الموظفين الرسميـين من بين المرشحين لتولي المناصب إما بالانتخاب المباشر أو غير المباشر. ففي الانتخاب المباشر يدلي الناس بأصواتهم بأنفسهم للمرشحين. أما في الانتخاب غير المباشر فيختار الناس ممثلين لهم ليكونوا هيئة انتخابية, ويقوم ممثلو الشعب بدورهم باختيار المرشحين وفقاً للاتجاه الشعبي الذي يمثلونه.

وفي ظل النظام البرلماني – ويطلق عليه أيضاً الحكم البرلماني – ينتخب المواطنون أعضاء الهيئة التشريعية أو البرلمان. ويختار الملك أو رئيس الجمهورية رئيس الوزراء من بين أعضاء الهيئة التشريعية. وفي أغلب البلاد يعين رئيس الدولة زعيم حزب الأغلبية في الهيئة التشريعية أو رئيس الائتلاف الحزبي رئيساً للحكومة"( )، ولكن هل يستحق كل من كان فوق عمر 18 أو 21 أن يشارك في اختيار الرئيس للشعب بحجة الديموقراطية، إن هذا العموم سـيدخل فيه ولا شك كل فرد من أفراد المجتمع مهما كانت انتماءاته، ومهما كانت ميوله وأخلاقه، وعندها سـوف تكون الرئاسة من نصيب كل من يحقق رغبات الشعب، سـواء كان هذا الشعب يريد الأخلاق أو كان منسلخاً من القيم والمفاهيم التربوية الصحيحة.

هذا بالنسبة لانتخاب الرئيس في السلطة الديمقراطية، وأما عن تشريع القوانين والأنظمة فيتم عن طريق البرلمانات التشريعية، والبرلمان يتكون من مجموعة من الأعضاء الذين قام الشعب بانتخابهم لتمثيلهم في هذه المجالس التشريعية، جاء في الموسـوعة العربية العالمية: "البرلمان: هو الهيئة الوطنية التي تشرع القوانين في البلدان التي تأخذ بالنظام الديمقراطي. وهناك برلمانات تتكون بالكامل من أفراد منتخبين وأعضاء معينين أو أعضاء يرثون عضويتهم"( )، ولكن ما هي التشريعات التي ستكون مقررة من خلال هذه القوانين والأنظمة؟ هل ستكون على قدر كافٍ من المسؤولية، بحيث تفي بكل احتياجات الشعب، أم ستكون موجهة من أصحاب الثروات والأموال الذين لا تهمهم سـوى مصلحتهم الشخصية، يقول الشيخ عبد الرحمن الميداني: "وغالباً ما يحرك هذه المجالس أفراد معدودون، ويوجهونها حسب أهوائهم بوسائلهم وأحابيلهم الشيطانية، هذا إذا لم يتم تزوير الانتخاب بتبديل الصناديق التي ألقى المقترعون فيها أوراق انتخابهم، بصناديق أخرى مشابهة لها في الظاهر، وما في بطنها مزور تزويراً كلياً. وكم حدث هذا في مزاعم انتخابات ديمقراطية وكانت الحصيلة: مئة في المئة، لصالح المزور أو الآمر به، أو 99،9 في المئة، أو نحو ذلك"( ).

إن الصواب والخطأ في هذه الحياة لم يكن يوماً ما معياره الأكثرية منذ خلق الله البشر، قال تعالى: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) ( )، إن الأكثرية لم تكن معياراً للصواب والخطأ سـوى في هذه الديمقراطية التي يحكم فيها الشعب ويختار دستوره لنفسه، ترى هل سـيكون الصواب هو ما صوبه علماء الطبيعة المنشغلون بدراساتهم بعيداً عن معاناة الشعوب، أم سـيكون الصواب هو ما اختاره العمال الكادحون الذين يسعون وراء لقمة العيش، والذين لا يقدمون من الآراء سـوى ما يحقق لهم ما يرومونه من الحياة السعيدة، أم سـيكون الصواب هو الذي تراه الفئة الثرية التي لا يهمها سـوى رواج ما تنتجه مصانعهم، مهما كانت المادة المنتجة، إن الجواب لدى الديمقراطية هو أن الصواب والخطأ سـيختاره الأكثر والأغلب، بغض النظر عن الفئات الأخرى رضيت أم سخطت، وهنا تبدأ المشكلة التي لا نهاية لها، ويشعر الآخر بالظلم الدستوري؛ لأنه ضَمن حقوق المنافس ولم يضمن حقوقه، وتُسلك الطرق الملتوية للحصول على تغيـير الدستور الظالم في نظر البعض والعادل في نظر الآخرين، إن الصواب والخطأ في المعاملات وغيرها لا يعرفه سـوى خالق البشر، ولذلك قال تعالى: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)( )، فعندما تكون الحرية للشعب في اختياره للشرع الذي يحكمه سـيكون الأمر بيد الشعب، وإن كان الأمر لا ينبغي أن يكون إلا لمن كان له الخلق، يقول خير الدين التونسـي وهو يصف الحرية في النظام الديمقراطي: "الحرية الشخصية، وهي إطلاق تصرف الإنسان في ذاته وكسبه مع أمنه على نفسه وعرضه وماله ومساواته بأبناء جنسه لدى الحكم، والحرية السـياسـية وهي حق الرعايا في التدخل وإبداء الرأي في مصالح الدولة، عن طريق المجالس النيابية. وحرية الرأي التي نسميها _ ترجمة للمصطلح الأوربي _ حرية المطبعة، وهي متحققة على درجات متفاوتة في البلاد الأوروبية" ، ولكن هذه الحرية ليست في الحقيقة سـوى بعد عن تعاليم الوحي الرباني، ومشاركة الله في أحد خصائصه، يقول د. صلاح الصاوي: "إن الحالة التي تواجهها مجتمعاتنا المعاصرة هي حالة الإنكار على الإسلام أن تكون له صلة بشؤون الدولة، والحجر عليه ابتداءً أن تتدخل شرائعه لتنظيم هذه الجوانب، وتقرير الحق في التشريع المطلق في هذه الأمور للبرلمانات والمجالس التشريعية. إننا أمام قوم يدينون بالحق في السـيادة العليا والتشريع المطلق لمجالسهم التشريعية، فالحلال ما أحلته، والحرام ما حرمته، والواجب ما أوجبته، والنظام ما شرعته، فلا يجرم فعل إلا بقانون منها، ولا يعاقب عليه إلا بقانون منها، ولا اعتبار إلا للنصوص الصادرة منها"( )، فالحرية في عصر الديمقراطية ما هي إلا طاغوت يسلم له الأمر من دون الله الذي اختص بالخلق والأمر دون ما سـواه.

فإذا كان هذا النظام الديمقراطي سـيطبق لدى المسـلمين الذين يقرون بأن الله هو خالقهم فإن ثمة تناقض في هذا الاختيار إلا إذا تشـبهوا بالغرب الكافر في اعتقاداتهم، فإما أن يقولوا مثل ما قال الملحدون من العلمانيـين بأنه لا خالق في الكون ولا رب يحكم، وإما أن يقولوا مثل ما يروي النصارى عن عيسى عليه السلام أنه قال: اعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله( ) _ وهو ما يدعيه العلمانيون الذين لم ينكروا الأديان بالكلية منهم _ وفي الحالتين سـيكون تطبيق الديمقراطية في بلاد المسـلمين من التناقض، إضافة على ما في ذلك من التشـبه بالكفار.

فمن كان مقتنعاً بالقول الأول وهو أنه لا خالق في الكون، لم يكن مسلماً. ومن كان مقتنعاً بما نسبه النصارى للمسـيح من تلك المقولة الجائرة _ إذا فهمناها على حسب فهمهم _ فهذا قد تشـبه بالنصارى، وقد ألقى بالآيات القرآنية التي لا تتفق وتلك المقولة عرض الحائط، وكأن دينه دين النصارى، وهذا في الحقيقة تنصلَ من الإسلام، وتنكر لدينه الإسلامي، وذهب يأخذ دينه عن أساطير النصارى.

فإن هذه العبارة هي من تحريفاتهم لدين الله _ خاصة لو فهمناها على حسب فهمهم _ يقول الشيخ سفر الحوالي: "إن هذه العبارة ظاهرها الأمر الصريح بالشـرك (أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله)، فهي تجعل قيصر شريكاً لله في التوجه إليه بالعمل، ومن ينفذها على ظاهرها يقع حتماً في شرك الطاعة والاتباع وهو شرك أعظم، لتنافيه مع توحيد الألوهية، وهذه الدلالة تكفي لنفي صدور العبارة من المسـيح عليه السلام، لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما بعثوا لتحذير الجماعة البشرية من الشـرك وتنفيرها منه جليله ودقيقه، فكيف يأمر نبي من أنبياء الله من أولي العزم بالشـرك ويدعو إليه بهذه الصورة ؟، والواقع أنه ليس في استطاعة المسـيح – عليه السلام – والقلة المسلمة معه و لا من منهج دعوته أن يرفضوا دفع الجزية للجاني الروماني الذي يجمعها من كل رعايا الإمبراطورية ويدفعها للطاغوت قيصر، ولكن هذا لا يعني أبداً أن المسـيح عليه السلام يقر ذلك الواقع الظالم، ويعترف لقيصر بحق مساواة الله في خلقه ويجعله شريكاً له في ألوهيته كما فهمت الكنيسة. فالمسـيح عليه السلام – لو صحت العبارة – وافق على إجراء مؤقت تقتضيه ضرورة الواقع وطبيعة الدعوة المرحلية. ولو قدر للمسـيح عليه السلام أن تبلغ دعوته من القوة ما بلغت الدعوة الإسلامية عند الإذن بالجهاد لأذن لقومه بأن يرفضوا دفع الجزية لقيصر، بل لأمرهم بجهاد الرومان وإشهار عدواتهم. وبذلك يتضح أنه حتى في حالة ثبوت العبارة فإنها ذات مدلول جزئي مؤقت في مسألة فرعية، ولا يجوز أن يستنبط منه قاعدة أبدية عامة يفضي تطبيقها إلى إهمال شريعة الله، والتخلي عن إقامة دينه في واقع الحياة، وإقرار أحكام الطاغوت"( )، وعلى هذا فالعبارة إما أن تكون مختلقـة ليست من قول المسـيح أو أن يكون لها معنى آخر لم يفهمه العلمانيون من النصارى، وسـواء هذا أم ذاك فإن المسلم لا يمكن أن يحتج بهذه العبارة وأمثالها إلا إذا كان غارقاً في أوحال التشـبه بالكفار، متنكراً لدينه ومصادره الأصيلة.

بعض مظاهر تأيـيد العلمانية في الحكم:

إن الاستشهاد بالنصوص لدى من يريد التبريح للعلمانية لا يأتي غالباً بنصوص التوراة والإنجيل؛ فإن ذلك يعتبر صاحبه ظاهرَ التشـبه بالكفار، فينفر منه الجميع، ولكن المصيبة عندما يتم تطويع النصوص الشرعية لصالح الاتجاه العلماني، وإيجاد الشرعية للعلمانية في الحكم، وعندها لن يتنبه لهذا التلفيق سـوى من كان متيقظاً لهذه الدعاوى وكان قد تسلح بسلاح العلم الشرعي، وهناك من الكتاب المسـلمين من تأثروا بهذا النهج وبدؤوا يحاولون أن يجدوا للعلمانية في بلاد المسـلمين مبررات شتى بحجة أن الإسلام لا دخل له في الحكم، وأن الرسـول لم يأت بمنهج في التحاكم بل كان واعظاً ومخوفاً بالله، لا يعدو كونه كذلك( )، يقول محمد شاكر الشريف: "ومن ذلك زعمهم أن الإسلام ليس فيه نظام سـياسـي، وأن الرسـول لم يكن من عمله إقامة دولة وإدارتها، وأن عمله لم يتجاوز حدود البلاغ والإنذار المجرد من كل معاني السلطان، وأن الخلافة ليس لها سـند من الدين، ومن هؤلاء: الشيخ على عبد الرازق القاضي الشرعي في كتابه: الإسلام وأصول الحكم، وممن قفا قفوه في إنكار النظام السـياسـي الإسلامي الكاتب: خالد محمد خالد( ) في كتابه: (من هنا نبدأ)"( )، وهذا إنما يقوله قائله؛ لتأثره بالعلمانية والنظام الديموقراطي الغربي الذي يراد له أن يحل مكان النظام السـياسـي الإسلامي، ولا أدري كيف تجاهل نظام الحكم الإسلامي المطبق خلال قرون من الزمن وكيف جهل أو تجاهل سـيرة الرسـول والتي تنطق شاهداً على السـياسة النبوية الحكيمة والتي رسمها النبي لأمته من بعده، وكيف جهل أو تجاهل ما ألفه علماء الإسلام من كتب مستنبطة من النظام النبوي( )، وهذا القول واضح البطلان بما تقدم من بيان لمنـزلة التحاكم في الشرع، وأن الإسلام منهج حياة شامل، قال تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ( ).

فالديمقراطية إذن منهج لا يتفق مع الإسلام بشكل من الأشكال، ولا يمكن أن نأخذ به ونقول: نجمع بينه وبين الإسلام، يقول الشيخ محمد قطب: "وفي العالم الإسلامي كتاب ومفكرون ودعاة مخلصون مخدوعون بالديمقراطية. يقولون نأخذ ما فيها من خير ونترك ما فيها من شرور. يقولون نقيدها بما أنزل الله. ولا نبيح الإلحاد ولا نبيح التحلل الخلقي والفوضى الجنسـية! إنها إذن لن تكون الديمقراطية.. إنما ستكون الإسلام!!

إن الديمقراطية هي حكم الشعب بواسطة الشعب. إنها تولى الشعب سلطة التشريع. فإذا ألغي هذا الأمر أو قيد بأي قيد فلن تكون هي الديمقراطية التي تقوم اليوم بهذا الاسم. واسألوا الديمقراطيـين! قولوا لهم: نريد أن نحكم بما أنزل الله, ولا يكون للشعب ولا ممثله حق وضع القوانين إلا فيما ليس فيه نص من كتاب أو سـنة أو إجماع من علماء المسـلمين! قولوا لهم: نريد أن ننفذ حكم الله في المرتد عن دينه, وحكم الله في الزاني والسارق وشارب الخمر.. قولوا لهم: نريد أن نلزم المرأة بالحجاب, ونمنع التبرج, ونمنع العري على الشواطئ وفي الطرقات, ونريد في الوقت ذاته أن نكون ديمقراطيـين! اسألوهم وانظروا ماذا يقولون! سـيقولون على الفور: إن هذه ليست الديمقراطية التي نعرفها.. ففي الديمقراطية يشرع الناس في جميع الأمور لا يلتزمون في شيء منها بغـير ما يريده الشعب (نظرياً على الأقل! وإن كانت الحقيقة أن الرأسماليـين هم الذين يشرعون من وراء الستار!) سـيقولون إن الديمقراطية لا تتدخل في(الحرية الشخصية) للأفراد! فمن شاء أن يرتد عن دينه فهو حر! ومن شاء أن يتخذ صديقة أو خليلة فهو حر. ومن شاءت أن تكشف عن صدرها أو ظهرها أو ساقيها فهي حرة! ومن شاءت أن تخون زوجها فهي حرة ما لم يشتك الزوج!"( )، فلا يمكن الجمع بين الديمقراطية والإسلام بحال، لا يمكن أن نجمع بين النظام الرباني والنظام الطاغوتي، لا يمكن أن نجمع بين قول الله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ)( )، وبين الحكم بالأنظمة والدساتير الغربية، إلا بالكفر بأحدهما، ولا يمكن أن نجمع بين العمل بالسـنة النبوية التي يقول صاحبها : ((ومن تشـبه بقوم فهو منهم))( )، وبين الارتماء في أحضان الغرب الكافر، نستقي منه نواتج معاركهم ومهاتراتهم وثوراتهم .

          إننا لا نعجب أن يلجأ الغرب إلى أطروحات العلمانية، أو أن يعجبوا بها ولكننا نعجب من بعض المسـلمين الذين أعجبتهم الديمقراطية ورأوا فيها حلاً لمشكلات المجتمعات الإسلامية في التحاكم، يقول أحد الكتاب المعاصرين: "تعني الديموقراطية: أن تطلق الحريات في (التفكير) و(التعبير) والتجمع والتحزب، ويحرم شيء واحد فقط هو استخدام القوة والسلاح والإكراه لفرض الأفكار. ومنهج الأنبياء يقوم على (تراض منهم وتشاور) و لا إكراه في الدين، وهو يستخدم اللاعنف من طرف واحد حتى لو اعتمد الآخر على العنف; لأن التورط في العنف معناه الدخول في مذهب الآخر، والأنبياء دعوا إلى شق طريق جديد في تحرير الإنسان من علاقات القوة ووثنية الإكراه بأن لا تكون المرجعية الأساسـية في المجتمع السلاح والعضلات والإكراه، فهذا هو لب التوحيد أن لا إله إلا الله وليست القوة هي الله وليس الحاكم هو الله رب الناس ملك الناس إله الناس، ولتحقيق هذا دعا الأنبياء الناس أن لا يقتلوا أحداً أو حاكماً لتغيـير الأوضاع لأنه استبدال طاغوت بطاغوت ولكن أن يغيروا رصيد ما بنفوسهم بالتخلص من القابلية لعبادة القوة" ، هنا يحاول الكاتب أن يصل إلى أن الديمقراطية الصحيحة تقتضي عدم معارضة الحكم بالدستور بالعنف إذا أردنا أن نكون ديمقراطيـين فعلاً، وربما تكون هذه القضية لها وجه من الصحة،  والديمقراطية والتي يجب أن نسعى إليها ومن الشرف أن ننتمي إليها في نظره تسعى إلى الحرية في التعبير وعدم فرض الآراء بالقوة. ثم يحاول أن يقنع القارئ بأن الإسلام لا يعارض هذا التوجه الذي تسلكه الديمقراطية، فإنه لا إكراه في الدين، وعلى هذا يجب على الذين يريدون تغيـير الحكم بهذه الدساتير أن ينـتبهوا إلى أمور مهمة في نظره، وهي:-

-        أن الإسلام لا يشجع الإكراه بل هو مع الحوار والتشاور(البرلمانات)، هذه الطريقة الصحيحة التي يجب أن يسلكها كل من أراد أن يجمع بين الديمقراطية والإسلام، فالعلمانية تطالب بالحرية بلا عنف، والإسلام كذلك، والدليل قوله تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)( )، والحقيقة أن هذه دعوى فضفاضة تحتاج إلى تفصيل، فالإسلام يكفل الحريات، ولكنه لا يتيح الحرية بحيث يستطيع أن يغير كل من شاء دينه الإسلامي إلى أي دين، وإذا أراد أن يثبت هذا النوع من الحرية المزعومة فعليه أن يبحث لها مسـوغاً آخر غير الدين الإسلامي ولا يمكن أن يلصقها بالإسلام، فالنبي أكد على حد الردة فقال: ((من بدل دينه فاقتلوه)) .

-        ادعى أن عدم الإكراه في الدين هو لب التوحيد، وهذه دعوى جديدة؛ فلب التوحيد هو الإخلاص لله وأما عدم الإكراه في الدين هو من أوامر الله.

-        أن الحاكم في نظره ليس هو الله رب الناس وملك الناس، وهذه مخالفة صريحة لقول الله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ)( )، وقوله: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ)( )، فكيف لا يكون الحكم لله وهو رب الناس وملك الناس.

-        يقول: "ولتحقيق هذا دعا الأنبياء الناس أن لا يقتلوا أحداً أو حاكماً لتغيـير الأوضاع لأنه استبدال طاغوت بطاغوت"، والحقيقة أن الأنبياء جاءوا ليغيروا نظام حياة الناس، ولم يرض نبي من الأنبياء بحكم الطواغيت، ومنهم نبـينا محمد فقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً)( )، وغزوات النبي معلومة وكتب السـيرة مليئة بتلك المحاولات النبوية المباركة لتغيـير حكم الطواغيت، ولكنني أتعجب من قوله: "لأنه استبدال طاغوت بطاغوت"، فهل حكم الأنبياء يعتبر طاغوتاً؟!

ويقول كاتب آخر: "ومن ثم فالديمقراطية، هي عملية تربية مجتمعية، تبدأ في المنـزل والمدرسة والجامعة والمسجد والكنيسة والشارع والمؤسسات الوسـيطة، وإذا لم تمارس الديمقراطية في هذه المؤسسات يكون صندوق الانتخابات عملية خادعة ومضللة يجيء بمن له قدرة على حشد الجماهير غير الواعية. فالطرح الذي يختزل الديمقراطية في صندوق الانتخابات، هو طرح خاطئ ومضلل، ولكن الديمقراطية غير ذلك كما قلت، فهي تعني وجود دولة مؤسسات، وتعني التربية والتنشئة السـياسـية، وتعني تنمية الوعي وتفعيله وتعميقه، وتعني إعلاماً تنويرياً وتعليماً يخاطب العقل، وتعني وضع الدين في مكانه الصحيح، ونتحدث بعد ذلك عن الانتخابات في شكلها النهائي، فهذه الانتخابات ستقذف بالإسلاميـين إلى الحكم من خلال قدرتهم على حشد الجماهير البسـيطة، ونتيجة لغياب الوعي الصحيح لدى المواطن الذي تعرضت إرادته السـياسـية للقهر. الديمقراطية الحقيقية إذا خلصت النوايا يمكن أن تتحقق وتكتمل خلال عدة سـنوات، بشرط أن نبدأ بجدية وإخلاص وفقاً للمفهوم الحقيقي لديمقراطية المؤسسات، وليس مجرد تدشين هياكل ديمقراطية لخداع العالم وخداع الذات. الخطر يكمن في أن الديمقراطية بتعريفها المؤسسـي تنسحب من مجتمعاتنا بشكل منتظم، وهذا يجعل خطر الانتخابات النهائية خطراً جسـيماً، لأن وعي الفرد أصبح مشوهاً وباتت عقليته لا تستوعب أكثر من المصطلحات الدينية. ويبدو أن هناك تفاهماً ما في الوطن العربي بتحجيم الديمقراطية بمعناها الحقيقي، بل إن هناك بدعة الآن في الإعلام العربي، بأن الديمقراطية الغربية لا تناسبنا، وماذا عن الشعوب؟ إن شعباً يندفع وراء مشاعره الدينية فقط، ولا يعبأ بحريته، ولا يستثيره الاعتداء على كرامته الإنسانية، ويطارد المبدعين، ويخرج في مظاهرات صاخبة من أجل جملة في عمل إبداعي تم نزعها من سـياقها، ولا يتظاهر من أجل الانـتهاكات اليومية للديمقراطية ولحقوق الإنسان، هو شعب لم يكافح بعد من أجل الديمقراطية، ومن ثم لا يستحقها"( )، فهو يطالب إذن بأن يوضع الدين في مكانه الصحيح، وهو أن يكون محكوماً لا حاكماً، وهو يعتقد كذلك أن الديمقراطية الغربية هي أفضل ما يمكن تطبيقه بالنسبة لنظام الحكم، كما أنه لم يسلم من قلمه حتى الإسلاميـين الذين يتخذون الديمقراطية سلماً لتحقيق الفضيلة، والله المستعان.

 المبحث الرابع: مظاهر التشـبه بالكفار في تحريف الكتب المنزلة

تمـهيـد:-

التحريف هو التغيـير قال ابن منظور: "والتـحريف فـي القرآن والكَلـمة: تغيـير الـحرفِ عن معناه والكلـمة عن معناها"( )، ويطلق التحريف على الزيادة في النص أو النقص منه، قال الغزالي: "والتحريف  في الزيادة والنقص"( ).

والتحريف نوعان: تحريف اللفظ وهو: تبديله، وتحريف المعنى وهو: صرف اللفظ عنه إلى غيره مع بقاء صورة اللفظ .

          قال ابن القيم: "والتحريف: العدول بالكلام عن وجهه وصوابه إلى غيره وهو نوعان: تحريف لفظه، وتحريف معناه، والنوعان مأخوذان من الأصل عن  اليهود؛ فهم الراسخون فيهما، وهم شيوخ المحرفين وسلفهم؛ فإنهم حرفوا كثيراً من ألفاظ التوراة وما غُلبوا عن تحريف لفظه حرفوا معناه، ولهذا وُصفوا بالتحريف في القرآن دون غيرهم من الأمم، ودرج على آثارهم الرافضة فهم أشبه بهم من القذة بالقذة، والجهمية فإنهم سلكوا في تحريف النصوص الواردة في الصفات مسالك إخوانهم من  اليهود، ولما لم يتمكنوا من تحريف نصوص القرآن حرفوا معانيه وسطوا عليها، وفتحوا باب التأويل لكل ملحد يكيد الدين فإنه جاء فوجد باباً مفتوحاً وطريقاً مسلوكة، ولم يمكنهم أن يخرجوه من باب أو يردوه من طريق قد شاركوه فيها، وإن كان الملحد قد وسع باباً هم فتحوه وطريقاً هم اشتقوه"( )، وسـيأتي في هذا المبحث تفصيل كلام ابن القيم إن شاء الله تعالى.

المطلب الأول:  تحريف النص.

لقد أخبرنا الله عز وجل عن حفظه وصيانـته لكتابه من التحريف فقال: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)( )، قال ابن جرير الطبري: "يقول تعالى ذكره إنا نحن نزلنا الذكر وهو القرآن (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، قال: وإنا للقرآن لحافظون  من أن يزاد فيه باطل ما ليس منه أو ينقص منه ما هو منه من أحكامه وحدوده وفرائضه" ، وقال القرطبي: "وإنا له لحافظون  من أن يزاد فيه أو ينقص منه، قال قتادة وثابت البناني: حفظه الله من أن تزيد فيه الشياطين باطلاً أو تنقص منه حقاً فتولى سبحانه حفظه فلم يزل محفوظا وقال في غيره بما استحفظوا فوكل حفظه إليهم فبدلوا وغيروا" ، وهنا يشير القرطبي  _ رحمه الله _  إلى قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ   شُهَدَاءَ)( )، فإن الله عز وجل وكل حفظ التوراة إلى الأحبار، ولم يتكفل بحفظها كما تكفل بحفظ القرآن.

          ومن الأدلة كذلك على حفظ الله لكتابه عن التحريف قوله تعالى: (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تنـزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)( )، روى الطبري _ رحمه الله _ بسـنده عن قتادة قوله: "يقول تعالى ذكره وإن هذا الذكر لكتاب عزيز بإعزاز الله إياه وحفظه من كل من أراد له تبديلاً أو تحريفاً أو تغيـيراً من إنسـي وجني وشيطان مارد" ، وقال القرطبي _ رحمه الله _: "قال ابن عباس: (عَزِيز) أي: ممتنع عن الناس أن يقولوا مثله (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ)،  أي: لا يكذبه شيء مما أنزل الله من قبل ولا ينـزل من بعده كتاب يبطله وينسخه" ، وفي قول ابن عباس هذا إشارة إلى من يدعي أن عنده كتاب ينسخ القرآن أو شيئاً منه أنه كاذب وأن ما جاء به باطل والقرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

          وقد صارت هذه المسألة _ مسألة حفظ الله للقرآن من الزيادة والنقصان _ مما ينص عليه أهل السـنة ضمن اعتقاداتهم، قال البيهقي في كتابه: (الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد على مذهب السلف وأصحاب الحديث): "ونعتقد فيما أنزله الله تعالى على رسـوله محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن، ولم ينسخ رسمه في حياته وأنه بقي في أمته محفوظاً لم تجر عليه زيادة ولا نقصان" .

ومن هنا فإن الزعم بأن القرآن فيه زيادة أو نقص تكذيب لما سبق من الآيات، قال البيهقي: "فمن أجاز أن يتمكن أحد من زيادة شيء في القرآن أو نقصانه منه أو تحريفه فقد كذب الله في خبره وأجاز الخلف فيه" ، ومن جاء بشيء من عنده وزعم أنه سقط من القرآن فإنه قد افترى على الله كذباً بنص كلام الله؛ لأنه زعم أن الله لم يحفظ كتابه في ما سلف من الزمن حتى جاء هو بما عنده من السقط، فهذا الفعل يعتبر محاولة للتحريف في القرآن، وكذلك من حاول النقص من القرآن فإنه يقع تحت طائلة هذا التكذيب، بل كفر العلماء من قال بشيء من ذلك لتكذيبه ما جاء في القرآن من نفي الزيادة والنقصان .

وتحريف الكتب السماوية جاء في القرآن بأنه من صفات اليهود، قال تعالى: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ)( )، قال الطبري _ رحمه الله _: "يعني بذلك الذين حرفوا كتاب الله من بني إسرائيل وكتبوا كتاباً على ما تأولوه من تأويلاتهم مخالفاً لما أنزل الله على نبيه موسى صلى الله عليه وسلم ثم باعوه من قوم لا علم لهم بها ولا بما  في  التوراة جهال بما في  كتب الله لطلب عرض من الدنيا خسـيس فقال الله لهم فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون"( )، فاليهود حرفوا نص كتابهم عمداً لمكاسب دنيوية، وأهواء شخصية.

ومن الآيات التي ذكرت تحريف اليهود للنص في كتبهم قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسـولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا)( )، قال ابن كثير في تفسـيرها: "نزلت في اليهوديـين اللذين زنيا وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم من الأمر برجم من أحصن منهم، فحرفوه واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مئة جلدة والتحميم والإركاب على حمارين مقلوبين، فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة قالوا فيما بينهم: تعالوا حتى نتحاكم إليه فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه واجعلوه حجة بينكم وبين الله، ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذلك.

وقد وردت الأحاديث بذلك فقال مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن اليهود جاؤوا إلى رسـول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا فقال لهم رسـول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تجدون في التوراة في شأن الرجم» فقالوا: نفضحهم ويجلدون، قال عبد الله بن سلام: كذبتم إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك فرفع يده فإذا آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمد فيها آية الرجم فأمر بهما رسـول الله فرجما، فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة أخرجاه"( )، وهذه محاولة من اليهود لإخفاء نص مما أنزله الله عليهم من التوراة، ولولا حكومة النبي صلى الله عليه وسلم الواعية لما طبق حكم الله في هذه القضية بناء على تحريفهم لكتابهم.

          ولقد تبع اليهود في هذه الصفة الذميمة من التحريف لنصوص القرآن الكريم ثلاث طوائف من المنتسبين إلى الإسلام وهم الرافضة( ) والجهمية والقرامطة، قال ابن القيم _ رحمه الله _: "وكان عصبة الوارثين لهم في ذلك ثلاث طوائف الرافضة والجهمية والقرامطة فإنهم اعتمدوا في النصوص المخالفة لضلالهم هذه الأمور الثلاثة" .

          ومن اعتقادات الرافضة إلى يومنا هذا أن القرآن الذي عند المسـلمين فيه نقص كبير ، فقد صرح بذلك بعضهم، يقول أحدهم: "فإنهم بعد النبي قد غيروا وبدلوا في الدين، كتغيـيرهم القرآن وتحريف كلماته وحذف ما فيه من مدائح آل الرسـول والأئمة الطاهرين وفضائح المنافقين وإظهار مساويهم" .

 ولهم في ذلك روايات، فيروي الكليني( ) عن أحدهم: "قَالَ دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) فَقُلْتُ لَهُ جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنِّي أَسْأَلُكَ عَنْ مَسْأَلَةٍ هَاهُنَا أَحَدٌ يَسْمَعُ كَلامِي قَالَ فَرَفَعَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) سِتْراً بَيْنَهُ وَ بَيْنَ بَيْتٍ آخَرَ فَاطَّلَعَ فِيهِ ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ قَالَ قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنَّ شِيعَتَكَ يَتَحَدَّثُونَ أَنَّ رَسـولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) عَلَّمَ عَلِيّاً (عليه السلام) بَاباً يُفْتَحُ لَهُ مِنْهُ أَلْفُ بَابٍ قَالَ فَقَالَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ عَلَّمَ رَسـولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) عَلِيّاً (عليه السلام) أَلْفَ بَابٍ يُفْتَحُ مِنْ كُلِّ بَابٍ أَلْفُ بَابٍ قَالَ قُلْتُ هَذَا وَ اللَّهِ الْعِلْمُ قَالَ فَنَكَتَ سَاعَةً فِي الأَرْضِ ثُمَّ قَالَ إِنَّهُ لَعِلْمٌ وَ مَا هُوَ بِذَاكَ قَالَ ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ وَ إِنَّ عِنْدَنَا الْجَامِعَةَ وَ مَا يُدْرِيهِمْ مَا الْجَامِعَةُ قَالَ قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ وَ مَا الْجَامِعَةُ قَالَ صَحِيفَةٌ طُولُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً بِذِرَاعِ رَسـولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وَ إِمْلائِهِ مِنْ فَلْقِ فِيهِ وَ خَطِّ عَلِيٍّ بِيَمِينِهِ فِيهَا كُلُّ حَلالٍ وَ حَرَامٍ وَ كُلُّ شَيْ‏ءٍ يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْهِ حَتَّى الأَرْشُ فِي الْخَدْشِ وَ ضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَيَّ فَقَالَ تَأْذَنُ لِي يَا أَبَا مُحَمَّدٍ قَالَ قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنَّمَا أَنَا لَكَ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ قَالَ فَغَمَزَنِي بِيَدِهِ وَ قَالَ حَتَّى أَرْشُ هَذَا كَأَنَّهُ مُغْضَبٌ قَالَ قُلْتُ هَذَا وَ اللَّهِ الْعِلْمُ قَالَ إِنَّهُ لَعِلْمٌ وَ لَيْسَ بِذَاكَ ثُمَّ سَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ وَ إِنَّ عِنْدَنَا الْجَفْرَ وَ مَا يُدْرِيهِمْ مَا الْجَفْرُ قَالَ قُلْتُ وَ مَا الْجَفْرُ قَالَ وِعَاءٌ مِنْ أَدَمٍ فِيهِ عِلْمُ النَّبِيـينَ وَ الْوَصِيـينَ وَ عِلْمُ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ مَضَوْا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ قُلْتُ إِنَّ هَذَا هُوَ الْعِلْمُ قَالَ إِنَّهُ لَعِلْمٌ وَ لَيْسَ بِذَاكَ ثُمَّ سَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ وَ إِنَّ عِنْدَنَا لَمُصْحَفَ فَاطِمَةَ (عليها السلام) وَ مَا يُدْرِيهِمْ مَا مُصْحَفُ فَاطِمَةَ (عليها السلام) قَالَ قُلْتُ وَ مَا مُصْحَفُ فَاطِمَةَ (عليها السلام) قَالَ مُصْحَفٌ فِيهِ مِثْلُ قُرْآنِكُمْ هَذَا ثَلاثَ مَرَّاتٍ وَ اللَّهِ مَا فِيهِ مِنْ قُرْآنِكُمْ حَرْفٌ وَاحِدٌ" ، وهذه الرواية يزعمون أنه يقول فيها: إن عند آل البيت ثلاثة أسفار ليست عند بقية المسـلمين: الجامعة والجفر( ) ومصحف فاطمة، وهذا المصحف هو من القرآن وليس من القرآن الذي بين أيدي المسـلمين، وما هذا القرآن الذي عند المسـلمين إلا ما يساوي ثلث المصحف المنسـوب إلى فاطمة، ولكن أين هذا المصحف لم يظهر كل هذه السـنين المتطاولة، وبغض النظر عن سـند هذه الرواية، أليست هذه الرواية تعارض قول الله تبارك وتعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)( )، وما عارض القرآن كان خطأً بلا شك، فعلم أن هذا الذي يدعونه إنما هو من تلفيقهم وكذبهم؛ فلو كان هذا الذي يدعونه من القرآن لحفظه الله عز وجل بنص القرآن.

          ويروي الكليني عن جعفر _ رحمه الله _ أنه قال: "مَا ادَّعَى أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّهُ جَمَعَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ كَمَا أُنْزِلَ إلاَّ كَذَّابٌ وَ مَا جَمَعَهُ وَ حَفِظَهُ كَمَا نَزَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلاَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) وَ الأَئِمَّةُ مِنْ بَعْدِهِ (عليهم السلام)" ، فهل حفظه الله لعلي وحده، أم أنزله ليكون حجة على خلقه إلى يوم القيامة، وما فائدة هذا القرآن الذي أنزل على الثقلين ولا يعلمه إلا رجل من الإنس، ثم يخفى على كل الناس من بعده، وكلما سأل الناس عن بقية القرآن أجيبوا بأنهم لا يعلمون من القرآن إلا ثلثه، والباقي حفظه الله لكنه عند علي والأوصياء من بعده.

          ولكي نعرف المزيد عن هذا المصحف المزعوم يروي الكليني رواية أخرى عَنْ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ قَال"سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) يَقُولُ تَظْهَرُ الزَّنَادِقَةُ فِي سـنةِ ثَمَانٍ وَ عِشْرِينَ وَ مِائَةٍ وَ ذَلِكَ أَنِّي نَظَرْتُ فِي مُصْحَفِ فَاطِمَةَ (عليها السلام) قَالَ قُلْتُ وَ مَا مُصْحَفُ فَاطِمَةَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَبَضَ نَبِيَّهُ (صلى الله عليه وآله) دَخَلَ عَلَى فَاطِمَةَ (عليها السلام) مِنْ وَفَاتِهِ مِنَ الْحُزْنِ مَا لا يَعْلَمُهُ إلاَّ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ فَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهَا مَلَكاً يُسَلِّي غَمَّهَا وَ يُحَدِّثُهَا فَشَكَتْ ذَلِكَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فَقَالَ إِذَا أَحْسَسْتِ بِذَلِكِ وَ سَمِعْتِ الصَّوْتَ قُولِي لِي فَأَعْلَمَتْهُ بِذَلِكَ فَجَعَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يَكْتُبُ كُلَّ مَا سَمِعَ حَتَّى أَثْبَتَ مِنْ ذَلِكَ مُصْحَفاً قَالَ ثُمَّ قَالَ أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْ‏ءٌ مِنَ الْحَلاَلَ وَ الْحَرَامِ وَ لَكِنْ فِيهِ عِلْمُ مَا يَكُونُ" ، ولكن أين هذا المصحف ولماذا لم يظهره علي رضي الله عنه وقت خلافته.

          ويذكر علي بن إبراهيم القمي الشيعي في تفسـيره بعض التحريفات للقرآن الكريم، منها: "قرأ قارئ قوله تعالى: ((كنتم خير أمة خرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)( )، فقال أبو عبد الله عليه السلام لقارئ هذه الآية: (خير أمة) يقتلون أمير المؤمنين والحسـن والحسـين بن علي عليهم السلام ؟  فقيل له:  وكيف نزلت يا ابن رسـول الله؟ فقال:  إنما نزلت: ((كنتم خير أئمة أخرجت للناس))  ألا ترى مدح الله لهم في آخر الآية ((تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)) ومثله آية قرئت على أبي عبد الله عليـه السلام: ((الذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما ( ))) فقال أبو عبد الله عليه السلام:  لقد سألوا الله عظيما أن يجعلهم للمتقين إماما.  فقيل له:  يا ابن رسـول الله كيف نزلت ؟ فقال:  إنما نزلت: (الذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعل لنا من المتقين إماما)) وقوله: ((له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ( ))) فقال أبو عبد الله:  كيف يحفظ الشيء من أمر الله وكيف يكون المعقب من بين يديه فقيل له:  وكيف ذلك يا ابن رسـول الله ؟  فقال: إنما نزلت ((له معقبات من خلفه ورقيب من بين يديه يحفظونه بأمر الله)"( ).

          إن اليهود لما اخترعوا بعض الكلام من عند أنفسهم فقالوا هو من عند الله وما هو من عند الله، لم تكن إضافتهم سـوى تحريفٍ لما جاء في التوراة، ولم ينسبوا إلى التوراة أضعافها كما فعلت الرافضة، فكان هؤلاء شر سلف لشر خلف، ولقد تعدى فعلهم فعل اليهود الذين هم أساتذة التحريف للنصوص.

          ومن هؤلاء المحرفين لنص القرآن: الباطنية ومنهم القرامطة الذين ذكرهم الإمام ابن القيم رحمه الله آنفاً، وهم أصحاب "حركة باطنية هدامة تنتسب إلى شخص اسمه حمدان بن الأشعث ويلقب بقرمط لقصر قامته وساقيه وهو من خوزستان في الأهواز ثم رحل إلى الكوفة. وقد اعتمدت هذه الحركة التنظيم السري العسكري، وكان ظاهرها التشيع لآل البيت والانتساب إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق وحقيقتها الإلحاد والإباحية وهدم الأخلاق والقضاء على الدولة الإسلامية"( )، ومنها تتفرع بعض الفرق الباطنية في العصر الحديث، وعلى منوالهم درج البابية البهائية والقاديانية.

          والبهائية حركة نبعت من المذهب الشيخي( ) سـنة 1260ه‍ ، وهي تطورٌ عن البابية، التي أسسها الميرزا علي محمد رضا الشيرازي (1235_1266هـ) ، وهو الملقب بالباب الشيرازي، وممن أكمل مسـيرة البهائية: حسـين بن علي المازندراني، والذي لقب بعد ذلك بـ (بهاء الله)، وادعى نسخ الشريعة الإسلامية ، وادعى النبوة بعد ذلك، ووصل بعد ذلك إلى ادعاء الربوبية ، ومن تعليمات البهائية:-

1.      وحدة الأديان.

2.      وحدة الأوطان.

3.      وحدة اللغة.

4.      السلام العالمي، أو ترك الحروب.

5.      مساواة الرجال بالنساء( ).

          ويدعي الشيرازي بأن عنده مصحف يسمى البيان أوحاه الله إليه وهو أفضل من القرآن( ) وناسخ له( )، وفيه يتحدى الجن والإنس أن يأتوا بحرف من مثله، فيقول فيه _ بعبارة غاية في العجمة _: "إنا قد جعلناك جليلاً للجاللين وإنا قد جعلناك به عظيماً عظيماناً للعاظمين وإنا قد جعلناك نوراً نوراناً للنورين قد جعلناك رحماناً رحيماً  للراحمين وإنا قد جعلناك تميماً للتامين _ إلى أن يقول _:  قل إنا قد جعلناك مليكاناً مليكاً للمالكين قل إنا قد جعلناك عليناً علياً للعالين قل إنا قد جعلناك بشراناً بشيراً للباشرين" .

وقال متحدياً الإنس والجن على أن يأتوا بحرف منه: "يوم نكشف الساق عن ساقهم ينظرون إلى الرحمن وذكره في الأرض المحشر قريباً: فيقولون ياليتنا اتخذنا مع الباب سبيلاً إمامكم هذا كتابي قد كان من عند الله في أم الكتاب بالحق على الحق مشهود لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا الكتاب بالحق على أن يستطيعوا ولو كان أهل الأرض ومثلهم معهم على الحق ظهيراً فوربك الحق لن يقدروا بمثل بعض من حروفه ولا على تأويلاته من بعض السرقطميراً" .

كما أن المازندراني تبع الشيرازي في دعوى النبوة، فإنه لم تفته دعوى إنزال الله عليه كتاباً مثل الشيرازي، فلفق كتابه: (الأقدس)، جاء فيه بدعاوى غريبة، حتى ادعى فيه بعض خصائص الربوبية، يقول في كتابه: "يا ملاء البيان إنا دخلنا مكتب الله إذا أنتم راقدون ولاحظنا اللوح إذ أنتم نائمون تالله الحق قد قرأناه قبل نزوله وأنتم غافلون" ، ويقول في بيانه لمنـزلة كتابه: "لا تحسبن أنا أنزلنا لكم الأحكام بل فتحنا ختم الرحيق المختوم بأصابع القدرة والاقتدار يشهد بذلك ما نزل من قلم الوحي تفكروا يا أولي الأفكار"( )، ويقول: "من يقرأ آية من آياتي لخير له من أن يقرأ كتب الأولين والآخرين هذا بيان الرحـمن( ) إن أنتم من السامعين قل هذا حق العلم لو أنتم من العارفين" .

فسبحان الذي حفظ كتابه عن مثل هذه الكلمات التافهة وجعله في صيانة عن أيدي العابثين وتحدى بحق فلم يحاول العرب الأقحاح من أهل الشعر الفصيح، من رثاء ومديح أن يأتوا بمثله، حتى انبهر أمام ذلك الإعجاز، أصحاب عكاظ وذي مجاز .

فهذه محاولات في العصر الحديث لتحريف القرآن تشـبه أصحابها بأساتذة التحريف من اليهود، فلربما غلا بعضهم حتى غلب أستاذه في التحريف، ولا غرو فقد تشـبهوا بهم في الانحطاط وقسـوة القلوب، وقد قال الله عن اليهود: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسـوةً)( )، فزاد هؤلاء المغرضين على ما افتراه اليهود من التحريف في التوراة، حتى ادعى الواحد منهم قرآناً وفضله على  كلام الله، وقال الله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ)

وأما الجهمية فلم أقف على تحريف لهم في نصوص القرآن في العصر الحديث، ولكن إنما وقع تحريفهم للقرآن من جهة المعنى، وسـيأتي، ولكن ذكر ابن كثير _ رحمه الله _ رواية لأحدهم حاول أن يحرف شيئاً من القرآن ليتناسق مع اعتقاده وهو من المعتزلة ، قال ابن كثير: "وكان هذا من المعتزلة الذين ينكرون أن يكون الله كلم موسى عليه السلام أو يكلم أحداً من خلقه كما رويناه عن بعض المعتزلة أنه قرأ على بعض المشايخ وكلم اللهَ موسى تكليماً فقال له يا ابن اللخناء  كيف تصنع بقوله تعالى: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ)( ) يعني أن هذا لا يحتمل التحريف ولا التأويل" ، ومحاولة التحريف من هذا القارئ إنما كانت لاعتقاده أن وصف الله بالكلام تشبيهٌ له بالمخلوق، أو لنفي تعدد القدماء، وهذا مبنى على لوثة كلامية ، وكفى بالآية التي استشهد بها هذا الشيخ دليلاً على خطأ هذا المسلك.

المطلب الثاني:  تحريف المعاني:-

ومما يدخل في مسمى التحريف: تحريف المعاني( )، والذي يسـمى بتحريف التأويل( )، وهو: صرف اللفظ عن ظاهره الراجح إلى معنى آخر مرجوح بقرينة تدل عليه ، وهذا النوع من التأويل لا يعتبر تحريفاً إلا باعتبار كون القرينة التي أول اللفظ من أجلها غير صحيحة، فإن كانت صحيحة لم يكن تحريفاً .

وكما أن الله تبارك وتعالى وعد بحفظ نص كتابه فقال: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)( )، فقد توعد ببيان معاني كتابه كذلك فلا يستطيع أحد أن يمنع بيانها الحقيقي الذي يرضاه الله عز وجل، قال تعالى: (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ)( )، قال ابن كثير: "قال ابن عباس وعطية العوفي ثم إن علينا بيانه: تبيـين حلاله وحرامه وكذا قال قتادة" .

وتختلف الأفهام في تفسـير كلام الله تعالى، وهنا يكمن السؤال: أي فهم منها هو الفهم  الصحيح؟ وما هي الطريقة التي يرضاها الله لنفهم كلامه الذي أنزله على رسـوله صلى الله عليه وسلم؟ والجواب الذي ينبني على التفكير السليم هو أن الذي أنزل القرآن أعلم بمراده بالقرآن فإن وجدنا في القرآن ما يفسر معناه من آيات أخرى كان أولى ما يفسر به القرآن، ثم إن الذي أُنزل عليه القرآن أعلم بمراده وهو النبي صلى الله عليه وسلم، فإن لم نجد تفسـير القرآن في بعض آي القرآن وجب أن نبحث في السـنة فهي أولى ما يفسر به القرآن، ثم إن أعلم الناس بعد ذلك بمراد الله هم الصحابة الكرام، وهم الذين شاهدوا نزول القرآن وعلموا من مناسبات آياته ما لم يعلمه غيرهم من الناس، فوجب الأخذ عنهم في تفسـير ما لم نجد تفسـيره في السـنة من كلام الله تبارك وتعالى، هذا هو الترتيب العقلي الصحيح، ولا شك أنه أقرب طريق للصواب لمن أراد الحق بدون هوى، وبه قال علماء التفسـير، وأنقل هنا كلاماً جيداً للمفسر المشهور ابن كثير في مقدمة تفسـيره حيث يقول بهذا الصدد: "فإن قال قائل فما أحسـن طرق التفسـير فالجواب أن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن  فما أجمل في مكان فإنه قد بسط في موضع آخر فإن أعياك ذلك فعليك بالسـنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له بل قد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى كل ما حكم به رسـول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن  قال الله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً)( ) وقال تعالى: (بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)( ) وقال تعالى: (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)( )، والغرض أنك تطلب تفسـير القرآن  منه فإن لم تجده فمن السـنة، وحينئذ إذا لم نجد التفسـير في القرآن  ولا في السـنة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح لا سـيما علماؤهم وكبراؤهم كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين والأئمة المهتدين المهديـين وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم" ، هذه الطريقة هي التي تضمن لكل من أراد الحق أن يقف على المقصود من كلام الله أو قريباً منه دون زيغ أو هوى أو تحريف لمعنى ما أراده الله من كلامه.

ولذلك قال ابن كثير _ رحمه الله _: "من قال في كتاب الله برأيه فأصاب فقد   أخطأ، أي: لأنه قد تكلف ما لا علم له به ما أمر به فلو أنه   أصاب  المعنى في نفس الأمر لكان قد أخطأ  لأنه لم يأت الأمر من بابه، ولهذا تحرج جماعة من السلف عن تفسـير ما لا علم لهم به كما قال أبو بكر الصديق : أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله بما لا أعلم. وعن عمر بن الخطاب  أنه قرأ على المنبر (وَفَاكِهَةً وَأَبّاً)( ) فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها فما الأب ثم رجع إلى نفسه فقال إن هذا لهو التكلف يا عمر، وعن أنس قال كنا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفي ظهر قميصه أربع رقاع فقرأ: (وَفَاكِهَةً وَأَبّاً) فقال ما الأب؟ ثم قال: إن هذا لهو التكلف، فما عليك أن لا تدريه. وهذا كله محمول على أنه إنما أرادا استكشاف علم كيفية الأب وإلا فكونه نبتاً من الأرض ظاهر لا يجهل لقوله تعالى: (فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً)( )"( ).

          وأكثر من اشتهر من أهل الأديان السابقة بتحريف معاني كلام الله هم اليهود، قال تعالى: (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسـنـتهمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إلاَّ قَلِيلاً)( )، قال ابن جرير الطبري _ رحمه الله _: "وأما تأويل قوله: (يحرفون الكلم عن مواضعه): فإنه يقول: يبدلون معناها ويغيرونها عن تأويله، والكلم جماع كلمة، وكان مجاهد يقول: عنى بالكلم التوراة، وأما قوله: (عن مواضعه): فإنه يعني عن أماكنه ووجوهه التي هي وجوهه" ، فاليهود كانوا من أوائل من حرف معاني كلام الله عز وجل، قال ابن القيم _ رحمه الله _: "والتحريف: العدول بالكلام عن وجهه وصوابه إلى غيره، وهو نوعان تحريف لفظه وتحريف معناه والنوعان مأخوذان من الأصل عن  اليهود؛ فهم الراسخون فيهما وهم شيوخ المحرفين وسلفهم؛ فإنهم حرفوا كثيراً من ألفاظ التوراة وما غلبوا عن تحريف لفظه حرفوا معناه ولهذا وصفوا بالتحريف في القرآن دون غيرهم من الأمم" .

          وممن تبعهم في ذلك من الأمم: النصارى قال ابن القيم _ رحمه الله _: "فالتأويل هو الذي فرق اليهود إحدى وسبعين فرقة والنصارى ثنتين وسبعين فرقة وهذه الأمة ثلاثاً وسبعين فرقة فأما اليهود فإنهم بسبب التأويلات التي استخرجوها بآرائهم من كتبهم صاروا فرقاً مختلفة بعد اتفاقهم على أصل الدين والإيمان بما في التوراة والزبور وكتب أنبيائهم التي يدرسـونها ويؤمنون بها وبسبب التأويلات الباطلة مسخوا قردة وخنازير وجرى عليهم من الفتن والمحن ما قصه الله وبالتأويل الباطل عبدوا العجل حتى آل أمرهم إلى ما آل وبالتأويل الباطل فارقوا حكم التوراة واستحلوا المحارم وارتكبوا المآثم فهم أئمة  التأويل والتحريف والتبديل والناس لهم فيه تبع فلا تبلغ فرقة مبلغهم فيه وبالتأويل استحلوا محارم الله بأقل الحيل وبالتأويل قتلوا الأنبياء فإنهم قتلوهم وهم مصدقون بالتوراة وبموسى وبالتأويل والتحريف حلت بهم المثلات وتتابعت عليهم العقوبات وقطعوا في الأرض أمما وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله وبالتأويل دفعوا نبوة عيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما وقد استهلت التوراة وكتب الأنبياء بالبشارة بهما وظهورهما ولا سـيما البشارات بمحمد فإنها متظاهرة في كتبهم بحيث كان علماؤهم لما رأوه وشاهدوه عرفوه معرفتهم أبناءهم ومع هذا فسطوا على تلك البشارات بكتمان ما وجدوا السبيل إلى كتمانه وما غلبوا عن كتمانه حرفوا لفظه عن ما هو عليه وما عجزوا عن تحريف لفظه حرفوا معناه بالتأويل، وكانت حالهم فيما جنت عليهم التأويلات الباطلة أفسد حالا من  اليهود؛  فإنهم لم يصلوا بتأويلهم إلى ما وصل إليه عباد الصليب من نسبة الرب تعالى إلى ما لا يليق به ثم دفعوا بالتأويلات إلى إبطال شرائع التوراة فأبطلوا الختان واستحلوا السبت واستباحوا الخنزير وعطلوا الغسل من الجنابة حتى آل أمرهم إلى ما آل إليه من انسلاخهم عن شريعة المسـيح في التوحيد والعمليات"( )، ما سبق من كلام ابن القيم هو بعض ما وقع فيه أهل الكتاب من معصية الله وتحريف دين الله؛ من جراء التأويل الفاسد( ).

          وكما أن تحريف الألفاظ قد سبقت إليه ثلاث طوائف وهم الرافضة والقرامطة والجهمية، فإن هذه الفرق الثلاث كان لها أكبر الأثر في نشر فكرة التأويل الفاسد، وذلك بتحريف معاني كلام الله وكلام رسـوله صلى الله عليه وسلم، ومن تبعهم من الفرق التي شاركتهم بعد ذلك في قضية تحريف المعاني قد أخذوا عنهم وساروا على منوالهم، قال ابن القيم _ رحمه الله _: "ودرج الرافضة على آثار اليهود؛ فهم أشبه بهم من القذة بالقذة والجهمية فإنهم سلكوا في تحريف النصوص الواردة في الصفات مسالك إخوانهم من  اليهود ولما لم يتمكنوا من تحريف نصوص القرآن حرفوا معانيه وسطوا عليها وفتحوا باب  التأويل لكل ملحد يكيد الدين فإنه جاء فوجد باباً مفتوحاً وطريقاً مسلوكة ولم يمكنهم أن يخرجوه من باب أو يردوه من طريق قد شاركوه فيها وإن كان الملحد قد وسع باباً هم فتحوه وطريقاً هم اشتقوه"( ).

فكل من حرف معاني كلام الله وكلام رسـوله وأوله تأويلاً باطنياً ليس له أي صلة بلغة العرب وقد اتضح فيه نصيب الهوى: فيه شبه من القرامطة الباطنية( )، كالنصيرية والدروز والزنادقة وغيرهم، ومن حرف المعاني مجاراة للأهواء الفاسدة والعقائد المختلقة من الأديان السالفة، الشرقية منها على وجه الخصوص كالعقائد الهندية والفارسـية، وتستر بحب آل البيت ففيه شبه من الرافضة، كالصوفية وغيرهم، وكل من حرف المعاني بسبب مجاراة العقائد الفلسفية اليونانية والمنطق الأرسطي فيه شبه من الجهمية، كالمعتزلة والماتريدية وغيرهم.

          وكل أولئك قد تشـبهوا بالأساتذة الأُوَلِ _ من اليهود _ الذين رسموا المنهج وساروا في ركب الشيطان ليقتدي بهم إخوانهم من النصارى، ومن رغب في حالهم ومآلهم، ومن تشـبه بقوم فهو منهم.

          فالباطنية ومنهم النصيرية  والدروز  جاءوا بتأويلات للقرآن تعد تحريفاً خطيراً لمعانيه، فمن تحريفات النصيرية أنهم يزعمون أن الصلاة التي ورد ذكرها في القرآن ما هي إلا عبارة عن خمسة أسماء هي: علي وحسـن وحسـين ومحسـن وفاطمة و(محسـن) هذا هو: (السر الخفي) إذ يزعمون بأنه سقط طرحته فاطمة، وذكر هذه الأسماء يجزئ عن الغسل والجنابة والوضوء، كما يزعمون أن الصيام: هو حفظ السر المتعلق بثلاثين رجلاً وثلاثين امرأة عندهم، وأن الزكاة ما هي إلا رمز لشخصية سلمان الفارسـي( )، وأما الدروز فيرون أن لفظ الفحشاء والمنكر في القرآن الكريم وفي غيره تعني: أبا بكر وعمر( )، هكذا يفسرون كلام الله كما تشاء أهواؤهم وأحقادهم وما ذلك إلا لإرادة هدم الدين، ولا تزال هذه الفرق الباطنية تعتقد ما سطره لها أسلافها من هذه التأويلات الشنيعة.

وممن شارك في تحريف معاني القرآن: (البابية والبهائية)، يقول الباب( ) مفسراً لسبب تحريفه لمعاني القرآن: (إن الحروف والكلمات كانت قد عصت واقترفت خطيئة في الزمن الأول، فعوقبت بخطيئتها بأن قيدت بسلاسل الإعراب، وحيث أن بعثتنا جاءت رحمة للعالمين؛ فقد حصل العفو عن جميع المذنبـين والمخطئين حتى الحروف والكلمات، فأطلقت من قيدها تذهب إلى حيث تشاء من وجوه اللحن والغلط)( ).

وأما الرافضة فقد أولوا الكثير من الآيات بأهوائهم، وخاصة ما يتعلق منها بالصحابة الكرام، فإنه لما لم يأت في القرآن ولا في السـنة سـوى مدحهم والثناء عليهم أرادوا أن يسـيئوا إليهم عن طريق تحريف معاني القرآن ففسروا بعض الآيات على هذا الأساس، ومنها قوله تعالى: (فقاتلوا أئمة الكفر)( ) يفسرونها بأن أئمة الكفر هم طلحة والزبير( )، ويفسرون الجبت والطاغوت الوارد في قوله سبحانه (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت..) ( ).، يفسرونهما بصاحبي رسـول الله صلى الله عليه وسلم وخليفتيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ( )، ويفسرون الفحشاء والمنكر، في قوله (وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي) ( ) بولاية أبي بكر وعمر وعثمان( )، وهذه التأويلات التي انبنت على عقيدة العداء لبعض الصحابة عند الرافضة، لا تزال متبعة حتى العصر الحديث.

وممن وقع في تحريف معاني القرآن الكريم: من تأثر بالمنهج العقلاني الأوروبي، وأضربُ على ذلك بمثال واحد _ منعاً للإطالة _: يرى الجنرال سـياد بري( ) أن القرآن الكريم يخضع للتغيرات الاجتماعية ويسايرها, ويستدل على ذلك – على حد زعمه – بوجود التفاوت بين أنصبة الرجل والمرأة في الميراث، ويعلل ذلك بمسايرة الأوضاع التي كانت سائدة آنذاك؛ والتي كان وأد البنات خشية الإملاق متفشياً بين العرب في تلك الفترة، ولهذا جاء تشريع هذا التفاوت بين أنصبة الرجل وأنصبة المرأة في الميراث إرضاءً للطرفين، وتحقيقاً لمصلحة الجانبـين، فهو من جهة فيه إرضاءٌ للرجل بأنه أفضل من البنت، وأنها لن تزاحمه في الميراث، وبالتالي فإن ذلك سـيصرفه عن قتل أخته، وهو من الجهة الأخرى فيه مصلحة للبنت بحفظ حياتها وحمايتها من القتل من الرجال، وإذا تغيرت هذه الأوضاع وترك الناس عادة وأد البنات استنفذ تشريع التفاوت في الميراث أغراضه، وحان وقت تشريع المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة. ثم يضيف قائلاًُ: "إننا نجد في القرآن كما تعلمون أن خمسـين بالمئة من الآيات القرآنية منسـوخة أو متناقضة مع آيات أخرى، وإذا لم تكن التطورات الاجتماعية هي السبب الأساسـي كما ذكرت؛ إذاً فما هو نسخ آية بآية أخرى"( )، وليس هذا هو موضع الرد المفصل على هذه الشبهات غير أنه يكفي أن هذه القاعدة التي قررها هذا الرجل لم يسبقه إليها أحد من أهل العلم، لا سـيما وأن تطبيقاتها التي مثل بها يظهر التأثر فيها بالغرب جلياً واضحاً، فإن عقدة المساواة بين الرجل والمرأة شغلت الغرب كثيراً ومع ذلك لم يتوصلوا إلى حل أفضل من الحل الإسلامي. 

          وأما المتكلمون فإنهم تأولوا بعض الآيات التي ورد فيها وصف الله عز وجل بصفات يرون أن إثباتها ينافي المسلمات العقلية، ويقصدون بالمسلمات العقلية تلك الحجج المنطقية اليونانية التي أثبتوا بها وجود الخالق، ثم طردوا على أساسها إثباتهم لصفات الخالق التي تتناسق مع تلك المسلمات  المنطقية، وما تعارض معها من صفات الباري المثبتة في القرآن أولوه بدعوى تعارض العقل مع النقل.

          بل أسس الرازي قانوناً يسـير عليه المتكلمون قال فيه: "إذا تعارضت الأدلة السمعية والعقلية أو السمع والعقل أو النقل والعقل أو الظواهر النقلية والقواطع العقلية أو نحو ذلك من العبارات، فإما أن يجمع بينهما وهو محال؛ لأنه جمع بين النقيضين، وإما أن يردا جميعاً، وإما أن يقدم السمع وهو محال؛ لأن العقل أصل النقل فلو قدمناه عليه كان ذلك قدحاً في العقل الذي هو أصل النقل والقدح في أصل الشيء قدح فيه فكان تقديم النقل قدحاً في النقل والعقل جميعاً، فوجب تقديم العقل ثم النقل إما أن يتأول وإما أن يفوض"( )، وذلك لأنهم لم يتوصلوا إلى صدق القرآن والرسـول إلا بعد ما توصلوا إلى وجود الخالق عن طريق المقدمات المنطقية التي كانت هي السبيل الوحيد إلى معرفة الحق عندهم، حتى إنه إذا تعارض معها القرآن وجب تأويله أو تفويضه.

          هذا غيض من فيض والمصاب الجلل أن تستمر عجلة التأويل في الدوران إلى عصرنا الحديث لتنحى منحى أكاديمياً، مع غض الطرف عن أصل علم الكلام، وعن آثاره على آيات القرآن؛ فالأصل من اليونان والأثر هو تأويل آي القرآن( ).

 المبحث الخامس: مظاهر التشـبه بالكفار في جانب النبوات

المطلب الأول: إطراء النبي والاستغاثة به:-

الإطراء هو: مُـجاوَزَةُ الـحَدِّ فـي الـمَدْحِ والكَذِبُ فـيه( )، فالإطراء يكون بالأوصاف الزائدة على ما يستحقه الإنسان من المدح، وأما ما كان من الأوصاف منطبقاً على الموصوف فلا بأس به، وذلك كوصف النبي بما يليق به مما وصفه الله تعالى به، وما وصف به نفسه ، فقد وصفه الله تعالى بأنه خاتم الأنبياء، فقال: (وَلَكِنْ رَسـولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيـينَ)( )، ووصفه بأنه سراج منير، فقال تعالى: (وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً)( )، ووصف خلقه بأنه خلق عظيم، فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)( )، ووصفه بأنه أولى الناس بإبراهيم، فقال: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)( )، وجعل الغضب وحبوط العمل على من رفع صوته بجواره فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)( ).

وكما وصف النبي نفسه بأنه سـيد ولد آدم كما روى عنه أبو هريرة قال قال رسـول الله  : ((أنا سـيد ولد آدم يوم القيامة)) ، وكما سمى نفسه بأسماء حسـنة فقال : ((لي خمسة أسماء أنا محمد وأحمد وأنا الماحي  الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب))( ).

وكما أن للنبي أوصافاً لا ينبغي تعديها بوصفه بما ليس من صفاته مما فيه إطراء وغلو فيه، فكذلك له حقوق ينبغي أن تؤدى إليه من غير زيادة ولا نقصان؛ تجنباً للغلو والإطراء فمن حقوقه :-

حق محبته واحترامه، قال رسـول الله : ((لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين))( )، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ، إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسـولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ)( ).

وحق اتباعه واتخاذه قدوة، قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)( )، وقال: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسـولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ)( )، وقال: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسـولِ اللَّهِ أُسـوةٌ حَسـنةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)( ).

وحق الصلاة والسلام عليه كلما ذكر ؛ فقد قال : ((البخيل  الذي من ذكرت عنده  فلم يصل علي)) .

إلى غير ذلك من أوصافه وحقوقه الثابتة بالقرآن والسـنة، فلا تجوز مجاوزة الحد فيها بإطرائه ووصفه بأوصاف فوق مستوى العبودية؛ حتى لا نقع فيما وقع فيه النصارى الذين تجاوزوا الحد في نبيهم عيسى فوصفوه بأوصاف الربوبية، ولقد حذرنا النبي من ذلك الإطراء الذي وقع فيه النصارى فقال: ((لا تطروني  كما أطرت النصارى بن مريم فإنما أنا عبده فقولوا عبد الله ورسـوله))  ، وهذا الحديث أشمل حديث في هذا الباب، وفيه أن النصارى أطرت عيسى وكذبت في وصفه ومدحه، ورفعوه فوق المستوى اللائق به، ولو أمعنا النظر في الحديث لوجدنا أن الوصف اللائق بالنبي محمد وهو نفس الوصف اللائق بعيسى ، مذكور في الحديث؛ فإن النبي عقب على نهيه عن الإطراء بوصفه لنفسه بالعبودية لله رب العالمين، كما وصفه ربه بالرسالة، وهذا هو عين الاعتجال بالبعيد عن الإطراء والجفاء، فكان المقصود الأعظم من النهي عن الإطراء هو خوف النبي على أمته من أن يسلكوا نفس الطريق التي سلكها النصارى مع نبيهم عيسى حيث رفعوه وجاوزوا به منـزلة العبودية إلى منـزلة الربوبية، فجعلوه شريكاً لله في كل شيء، بل جعلوه هو الله نفسه.

ولو وجد النبي _ وهو الذي أوتي جوامع الكلم _ تعبيراً يكبح جماح الإطراء له غير التعبير بالعبودية لله لذكره، ولكن النبي وجد وصف العبودية لله هو خير وصف يحدد القدر اللائق به من المدح الجائز الذي لا يخرج عن حد الاعتدال.

وهو نفس الوصف الذي ارتضاه له ربه جل وعلا في أسمى المقامات وأرفعها وأشرفها، فوصفه بالعبودية في "مقام التحدي ومقام  الإسراء ومقام الدعوة فقال في التحدي (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسـورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)( )، وقال في مقام  الإسراء (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ)( )، وقال في مقام الدعوة: (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً)( )، وإذا تدافع أولو العزم الشفاعة الكبرى يوم القيامة يقول المسـيح لهم: ((اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر))  فنال ذلك المقام بكمال العبودية لله وكمال مغفرة الله له، فأشرف صفات العبد صفة العبودية" .

ولذلك دعا النبي ربه عز وجل فقال: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد)) ، وما ذلك إلا من خوفه على أمته أن يفعلوا به كما فعل الناس بقبور أنبيائهم، يقول ابن القيم في نونيته:-

ولقد نهى ذا  الخلق عن إطرائه                فعل النصارى عابدي الصلبان 

ولقد نهانا أن  نصير  قبره عيداً      حذار الشـرك بالرحــمن 

ودعا  بأن لا  يجعل القبر الذي               قد  ضمه  وثناً  من الأوثـان

          والنبي لم يترك مظهراً من مظاهر إطرائه أو الغلو فيه إلا ونهى عنه وحذر منه؛ اهتماماً منه بهذا الجانب حتى لا يوصف بشيء مما ليس من خصائصه، ولما قدم معاذ من الشام سجد  للنبي  فقال: ((ما هذا يا معاذ؟) قال: أتيت الشام فوافقتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم فوددت في نفسـي أن نفعل ذلك بك، فقال رسـول الله  : ((فلا تفعلوا فإني لو كنت آمراً أحد أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسـجد لزوجها))( )، ولمَّا نسـي النبي مرة في صلاة فلما سلم قيل له يا رسـول الله أحدث في الصلاة شيء؟ قال: ((وما ذاك؟) قالوا: صليت كذا وكذا، فثنى رجليه واستقبل القبلة فسجد سجدتين ثم سلم ثم أقبل عليهم بوجهه فقال: ((إنه لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكم به ولكن إنما أنا بشر أنسى كما تنسـون فإذا نسـيت فذكروني)) ، فأكد على بشريته بل أكد على ذلك بذكر لازم من لوازم البشرية وهو النسـيان الذي لا ينبغي لمقام الربوبية.

وفي باب القضاء: النبي يقضي بين الناس بالظاهر، ولكنه لا يعلم من هو صاحب الحق الحقيقي _ ما لم يوح إليه بذلك _، فيقول مؤكداً على ذلك: ((إنما أنا بشر  وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وأقضي له على نحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذ فإنما أقطع له قطعة من النار)) ، فإن النبي في هذا الباب لا يختلف عن أحد من الناس؛ فما يقضيه إنما يكون على حسب المعطيات التي أعطيت له من المتخاصمين، فإن أخفى أحدهما شيئاً عنه فلا يعدو عن كونه يقضي في القضية بما أنزل الله، والله يتولى السرائر.

وما هذا الحرص منه إلا خوفاً على أمته أن تقع فيما وقع فيه النصارى الذين اتخذوا عيسى إلهاً مع الله.

وذلك مثبت في تحريفاتهم للكتاب الذي أنزل على عيسى عليه السلام، كما أثبتوه في العهد الجديد، جاء في العهد الجديد( ): "1 بولس عبد ليسـوع المسـيح المدعو رسـولا المفرز لإنجيل الله، 2 الذي سبق فوعد به بأنبيائه في الكتب المقدسة، 3 عن ابنه. الذي صار من نسل داود من جهة الجسد، 4 وتعيّن ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات. يسـوع المسـيح ربنا، 5 الذي به لأجل اسمه قبلنا نعمة ورسالة لا طاعة الإيمان في جميع الأمم، 6 الذين بينهم أنتم أيضاً مدعووا يسـوع المسـيح، 7 إلى جميع الموجودين في رومية أحباء الله مدعوين قديسـين. نعمة لكم وسلام من الله أبينا والرب يسـوع المسـيح، 8 أولاً  أشكر إلهي بيسـوع المسـيح من جهة جميعكم أن إيمانكم ينادى به في كل العالم"( ).

في النص السابق من العهد الجديد يؤكد بولس _ وهو رسـول المسـيح كما يزعم _ على عبوديته للمسـيح الذي صار ابناً لله الأب من ناحية الجسد _ وهي عقيدة النصارى اليوم بأن الرب حل في جسد المسـيح _ لتخليص الناس من الخطيئة التي ورثوها عن آدم، وفي هذا تقرير لربوبية المسـيح.

وفي العهد الجديد جاء أيضاً: "1 بولس رسـول يسـوع المسـيح بمشيئة الله إلى القديسـين الذين في أفسس والمؤمنون في المسـيح يسـوع، 2 نعمة لكم وسلام من الله أبينا والرب يسـوع المسـيح، 3 مبارك الله أبو ربنا يسـوع المسـيح الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسـيح" ، وفي هذا النص أيضاً يدعي بولس أن المسـيح عيسى ابن مريم هو ابن الله ومنه تأتي البركات وتتنـزل من السماوات، فكل بركة هي من الرب الأب والابن معاً، وهذا الإطراء للمسـيح مما علم عن دين النصارى المحرف، وهو مما يصعب حصره، وما سقته آنفاً إنما هو على سبيل المثال لا الحصر.

وما وقع النصارى في هذا الكفر البواح إلا بسبب إطرائهم لرسـولهم عيسى ، قال تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنـتهوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّـنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)( )

ولقد حذرهم الله تعالى عاقبة إطرائهم لعيسى وغلوهم فيه فقال: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسـيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسـولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انـتهوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً)( )، فبين لهم تعالى ذكره بأن المسـيح ما هو إلا عبد جاء بكلمة منه هي كلمة كن، (إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسـيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)( )، ولو كان من غير أب، فإن الله على كل شيء قدير.

ولقد كان الحواريون( ) من أصحاب عيسى عليه السلام يعرفون أنه عبد الله ورسـوله، فقد قالوا له حين طلبوا منه ما يثبت نبوته ورسالته: (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ( )، ولم يقولوا هل يستطيع أبوك أو هل تستطيع أنت، ثم دعا عيسى ربه الذي أرسله قائلاً: (اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)( )، ولما جاء عيسى إلى بني إسرائيل قال لهم: (يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسـولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسـولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ)( )، ولكن أبى المحدثون من النصارى المحرفون لدين الله إلا الإطراء له أيما إطراء، جعلوه ابناً لله الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولداً ولم يكن له شريك في الملك.

ولقد افتتن النصارى بعيسى حيث جاء من أم بغـير أب، ولكن الرد كان شافياً في القرآن الكريم: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)( )، وجاءتهم الوصفة الناجعة حين قال الله لهم: (مَا الْمَسـيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلاَّ رَسـولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نبـين لَهُمُ الآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)( )، ومن احتاج إلى الطعام احتاج إلى ما يفرز ذلك الطعام لترشيح الغذاء، وذلك كله مما يتنـزه عنه الرب جل وتقدس وعلا عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

وافتتنوا به _ أخرى _ حين جاءهم بمعجزات توهم الربوبية لدى من ليس له بصر ولا بصيرة؛ فإن عيسى عليه السلام لم ينسب إلى نفسه شيئاً من تلك المعجزات بل جاء بها من عند الله وبإذن الله الذي خلقه ثم أرسله، قال تعالى: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي)( )، فكل ما جاء به عيسى من عند الله وهو الذي أذن له فيه وهو الذي خلق تلك المعجزات ومن أتى بتلك المعجزات.        وكان من أسباب هذا الإطراء منهم لرسـولهم: التشـبه بمن قبلهم من الأمم السابقة، كما أخبرنا الله بذلك فقال: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسـيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)( )، قال الطبري _ رحمه الله _: "(يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) يعني: قول اليهود عزير ابن الله، يقول نسبة قول هؤلاء في الكذب على الله والفرية عليه ونسبتهم المسـيح إلى أنه لله ابن ككذب اليهود وفريتهم على الله في نسبتهم عزير إلى أنه لله ابن" .

والمسـيح نفسه لا يرضى ولن يرضى يوماً ما عما قاله عنه أتباعه وما وصفوه به من الربوبية والمساواة بالله أو البنوة له قال تعالى عنه: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسـيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ)( )، فما المسـيح إلا عبد من عباد الله معرض لثوابه إن أطاع ومعرض لعقابه إن عصى قال تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسـيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسـيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)( )، ولذلك لم يأمر قومه إلا بطاعته كأي نبي من الأنبياء، قال تعالى: (وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ)( )، ويوم القيامة يشهد عليهم عندما يسأله الله عن حقيقة ما دعاهم إليه، يقول عز وجل: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسـي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَمُ الْغُيُوبِ)( )، تلك حقيقة عيسى الذي غلا فيه أتباعه (ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ)( ).

          فإن كانت شبهة النصارى في تأليههم لعيسى هي ولادته من غير أب، فما هي حجة من غلا من المسـلمين في نبيهم محمد وهو الذي أخبرهم عنه ربهم فقال: (وَمَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسـولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)( )، وهو الذي حذر أمته مراراً وتكراراً من الغلو فيه، ونهاهم عن التشـبه بالنصارى الذين تشـبهوا باليهود في ذلك؛ خوفاً على أمته من الانخراط في سلسلة التشـبه بالكفار من اليهود الذين لم يألوا النصارى جهداً في التشـبه بهم والجري وراء مخططاتهم .

          ولكن السـنة الكونية جرت بأن التشـبه حاصل من بعض هذه الأمة بالأمم السابقة من اليهود والنصارى كما أخبرنا بذلك النبي  صلى الله عليه وسلم فقال: ((لتتبعن سـنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه ، قالوا: يا رسـول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن)) .

          لقد ظهر من بين المسـلمين من ينسب للنبي بعض خصائص الربوبية التي لا تليق إلا بالله عز وجل فقد أخذ الصوفية هذه اللوثة الفكرية من النصارى ولا غرو؛ فالمصدر النصراني في ممارسات الصوفية وعقائدهم ظاهر الملامح واسع المعالم، فلا ينكِر التشابه بين رهبانية النصارى ومسالك الصوفية من كان ذا اطلاع على كتب القوم وأحوالهم ، فمنهم من تكلم في الحقيقة المحمدية وأن النبي يتكون من حقيقتين إحداهما لاهوتية والأخرى ناسوتية( )، كما قال النصارى في عيسى ، حتى إن "منهم من يعتقد أن الرسـول هو قبة الكون وهو الله المستوي على العرش وأن السماوات والأرض والعرش والكرسـي وكل الكائنات خلقت من نوره وأنه هو أول موجود وهو المستوي على عرش الله وهذه عقيدة ابن عربي ومن تبعه"( )، يقول قائلهم: "إن الفيوض التي تفيض من ذات سـيد الوجود تتلقاها ذوات الأنبياء"( ).

          ويقول مؤسس الطريقة البريلوية أحمد رضا( ) وهو يصف شخص الرسـول : "إن رسـول الله متصرف في كل مكان وهو مالك الأرضين، ومالك الناس"( ).

          ويبالغ بعض المعاصرين في إطرائه حتى يقول: "إن مجمع نوره لو وضع على العرش لذاب"( ).

          وتظهر تلك الإطراءات جلية في قصائد الصوفية التي تقرأ في الموالد وغيرها، فمن مدعي للنبي وصفاً من صفات الرب، ومن مستغيث بجنابه وهلم جراً، يقول أحدهم في مدح النبي :-

لست أخشى ولي إليك التجاء                يا نبياً سمت  بـه الأنبـياء

كنت  نوراً وكان  آدم طينـاً          فأضاءت  بنوره  الأرجـاء

أيها  المادحون  طيبوا نفوسـاً                   إن مدح  النبي فيه الشفـاء

ما  رماني  الزمان منه بسـهم                   أو دهتني  الخطوب والضراء

وتوسلـت بالمشـــفع إلا                داركتني   الألطاف والسراء

يارفيع  الجناب أنت المرجـى          في المهمات  إذ يعم البـلاء

كن مجيري يـا خير  هاد لأني                  ليس لي في الأمورعنك غناء

ومن تلك المدائح الشـركية، قول البوصيري( ) في البردة:-

فإن من جودك الدنيا وضرتها

                                                          ومن علومك علم اللوح والقلم( )

          ومع ذلك فإن هذه القصيدة هي محط أنظار بعض المسلمين في العصر الحديث ومن أجلها تُعقد الدروس، وفي وصف هذا الاهتمام يقول صاحب كتاب المدائح النبوية في الأدب العربي: "وأما أثرها في الدرس، فيتمثل في تلك العناية التي كان يوجهها العلماء الأزهريون إلى عـقـد الدروس في يومي الخميس والجمعة لشرح البردة، وهي دروس كانت تتلقاها جماهير من الطلاب، وإنما كانوا يتخيرون يومي الخميس والجمعة، لأن مـثـل هذا الـدرس لم يـكن من المقررات فكانوا يتخيرون له أوقات الفراغ"( ).

ويقول البوصيري:-

                   يا أكرم الرسل ما لي من ألـوذ بـه              سواك عند حلول الحادث العمم

ولن يضيق رسول الله جاهك  بـي             إذا الكريم تحلى باسـم منتقـم

                   فإن لي  ذمة منه  بتســميـتـي                   محمداً وهو أوفى الخلق بالذمـم

إن لم يكن في معادي آخذاً  بـيدي           فضلاً  وإلا فقل: يا زلة القـدم( )

يقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب _ معلقاً على هذه الأبيات _: " فتأمل ما في هذه الأبيات من الشـرك منها أنه نفى أن يكون له ملاذاً إذا حلت به الحوادث إلا النبي وليس ذلك إلا لله وحده لا شريك له فهو الذي ليس للعباد ملاذ إلا هو، الثاني: أنه دعاه وناداه بالتضرع وإظهار الفاقة والاضطرار إليه وسأل منه هذه المطالب التي لا تطلب إلا من الله وذلك هو الشـرك في الإلهية، الثالث: سؤاله منه أن يشفع له في قوله: ولن يضيق رسـول الله... البيت، وهذا هو الذي أراده المشركون ممن عبدوه وهو الجاه والشفاعة عند الله وذلك هو الشـرك، وأيضاً فإن الشفاعة لا تكون إلا بعد إذن الله فلا معنى لطلبها من غيره فإن الله تعالى هو الذي يأذن للشافع أن يشفع لأن الشافع لا يشفع ابتداء، الرابع: قوله: فإن لي ذمة... إلى آخره كذب على الله وعلى رسـوله ؛ فليس بينه وبين من اسمه محمد ذمة إلا بالطاعة لا بمجرد الإشراك في الاسم مع الشـرك، الخامس: قوله: إن لم يكن في معادي... في البيت تناقض عظيم وشرك ظاهر فإنه طلب أولاً  أن لا يضيق به جاهه ثم طلب هنا أن يأخذ بيده فضلاً وإحساناً وإلا فيا هلاكه"( ).

          فماذا ترك هؤلاء من إطراء النصارى لرسـولهم لم ينطقوا به في حق نبـيناً محمد .

 المبحث السابع:- مظاهر التشـبه بالكفار في الاختلاف في أصول الدين:-

المطلب الأول: تعريف الاختلاف المذموم:-

الاختلاف في اللغة يأتي بعدة معانٍ: منها المضادة، والمفارقة، وعدم الاتفاق، والفساد والترك وقصد الشيء بعد النهي عنه، قال ابن منظور: "والخلاف:  المضادة وقد خالفه مخالفة و خلافاً، ويقال: خلف فلان بعقبي إذا فارقه على أمر فصنع شيئاً آخر، وخالفه إلى الشيء  عصاه إليه أو قصده بعدما نهاه عنه وهو من ذلك  وفي التـنزيل العزيز (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ)( )، وخلف فلان بعقبي وذلك إذا ما فارقه على أمر ثم جاء من ورائه فجعل شيئاً آخر بعد فراقه، وتخالف الأمران و اختلفا: لم يتفقا وكل ما لم يتساو فقد تخالف و اختلف وقوله عز وجل: (وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ)( )، أي: في حال اختلاف أكله، ويقال:  به خلفة أي بطن وهو الاختلاف وقد اختلف الرجل و أخلفه الدواء  والمخلوف  الذي أصابته خلفة ورقة بطن، والخلف والخالف والخالفة  الفاسد من الناس الهاء للمبالغة والخوالف: النساء المتخلفات في البيوت،  والخلوف: الحي إذا خرج الرجال وبقي النساء والخلوف: إذا كان الرجال والنساء مجتمعين في الحي وهو من الأضداد وقوله عز وجل: (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ)( )، قيل  مع النساء وقيل  مع الفاسد من الناس، ويقال  خلف فلان عن أصحابه إذا لم يخرج معهم  وفي الحديث  أن  اليهود قالت لقد علمنا أن محمداً لم يترك أهله خلوفاً أي لم يتركهن سدى لا راعي لهن ولا حامي يقال  حي خلوف إذا غاب الرجال وأقام النساء ويطلق على المقيمين والظاعنين ومنه حديث المرأة والمزادتين ونَفَرُنا خلوف  أي رجالنا غُيَّب"( ). وقال المناوي: "اختلاف افتعال من الخلف وهو ما يقع من افتراق بعد اجتماع في أمر من الأمور" .

          وإنما أطلت في بيان معنى الاختلاف في اللغة؛ لأن ثمة معنى أريد أن أؤكد عليه وهو معنى الاختلاف على الشيء دون أن يستلزم وجود طرف آخر يختلف مع الطرف الثاني، فعلى المعنى الأول: يقال اختلفت اليهود على كتبهم، وعلى المعنى الثاني يقال: اختلفت اليهود مع بعضهم البعض، فالمعنى الأول يجهله كثير من الناس فيظن أن الاختلاف لابد أن يكون فيه طرفان وشيء مختَلف عليه، والواقع اللغوي: أن الاختلاف يكون كذلك، ويكون باختلاف على الشيء دون وجود طرف ثان. ذلك مما يعين على معرفة معنى الاختلاف في الشرع.

          ولو تدبرنا معنى الاختلاف الذي جاءت به الآيات الناهية عن التشـبه بالكفار في الاختلاف الذي وقعوا فيه لوجدناه يتعلق بالاختلاف على نصوص الكتاب والسـنة من النصوص الواضحات التي هي أصول لا ينبغي الخروج عنها، فقوله تعالى: (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ)( )، وقوله: (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ)( )، وقوله: (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ)( )، وقوله: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ)( )، كلها نصوص تربط بين الاختلاف والنصوص الشرعية، فالاختلاف المنهي عنه هو الاختلاف على النصوص الشرعية الواضحة الدلالة.

          قال ابن كثير في تفسـير قوله تعالى: (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ)( ): يعني بذلك أهل الكتب المنـزلة على الأمم قبلنا بعدما أقام الله عليهم الحجج والبينات تفرقوا واختلفوا في الذي أراده الله من كتبهم واختلفوا اختلافاً كثيراً" . كقوله تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ)( ).         ومن الآيات التي نهت عن الاختلاف: قوله تعالى: (وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ)( ). وقوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ)( ). وقوله تعالى: (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ)( ). وقوله: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ)( ). ففي هذه الآيات وغيرها لم يكن الذم فيها على مجرد الاختلاف الذي الناس فيه، ولكنه وقع على مخالفتهم للكتاب المنـزل من عند الله عليهم، والذي أدى بعد ذلك إلى فرقتهم وتـنازعهم، فيذكر الله تبارك وتعالى في هذه الآيات نعمته عليهم بإنزال الكتاب ويذكر بعدها كفرهم هذه النعمة باختلافهم على الكتاب ومخالفتهم له، فليس في مجرد مخالفتهم لبعضهم البعض معصية، كما قال تعالى: (وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ)( ) فهنا امتدح الله طائفة لأنها آمنت ووقفت على الحق وأخذت به، مع أنها خالفت الأخرى، فالمخالفة هنا هي مخالفة أهل الكتاب السابقين للكتاب الذي أنزل عليهم، وإن كان الافتراق من لوازم هذه المخالفة. فاللفظ يحمل على اللازم والملزوم.

قال شيخ الإسلام: "ثم الاختلاف على الرسل بالمعصية كما أخبرنا الله عن بني إسرائيل من مخالفتهم أمر موسى: في الجهاد وغيره، وفي كثرة سؤالهم عن صفات البقرة. لكن هذا الاختلاف على الأنبياء هو – والله أعلم – مخالفة الأنبياء، كما يقول اختلف الناس على الأمير إذا خالفوه" .

          قال ابن كثير في تفسـير قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ)( ) أي إنما استحقوا هذا العذاب الشديد لأن الله تعالى أنزل على رسـوله محمد وعلى الأنبياء قبله كتبه بتحقيق الحق وإبطال الباطل وهؤلاء اتخذوا آيات الله هزواً، فكتابهم يأمرهم بإظهار العلم ونشره فخالفوه وكذبوه وهذا الرسـول الخاتم يدعوهم إلى الله تعالى ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر وهم يكذبونه ويخالفونه ويجحدونه ويكتمون صفته فاستهزءوا بآيات الله المنـزل على رسلهم فلهذا استحقوا العذاب والنكال ولهذا قال: (ذَلِكَ بِأَنَّ الله نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) ( )"( )، ففسر ابن كثير الاختلاف هنا بمخالفة الكتاب ولم يذكر البتة مخالفة أهل الكتاب بعضهم البعض، وإن كان ذلك من لوازم الاختلاف على الكتاب( ).

          وفي قوله تعالى: (وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ)( )، الرحمة واقعة على الطائفة التي استثناها الله في الآيات، ومفهوم ذلك أن العذاب واقع على الفرق الأخرى، وعلة العذاب في الفرق الأخرى هو الاختلاف على النصوص، وعلة الرحمة لدى الفرقة المستثناة: عدم الاختلاف على نصوص الوحي، وهذا النوع من الاختلاف _ وهو الاختلاف على نصوص الكتاب والسـنة _ هو المذموم في الشرع وهو الذي وقع فيه أهل الكتاب من قبلنا.

والنوع الثاني من الاختلاف هو: اختلاف الفرقة الناجية مع الفرق الأخرى التي جانبت القرآن والسـنة، وهو اختلاف محمود، بخلاف النوع الأول: وهو الاختلاف على الكتاب والسـنة.

فإذا قارنا بين وصف الله لهم في الآية السابقة بالرحمة إذا لم يختلفوا، وبين وصفه لهم في الآية الأخرى بأنهم اختلفوا فقال: (وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ)( )، وقوله : "وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة – يعني الأهواء – كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة"( ) علمنا أن الاختلاف هنا غير الاختلاف هناك، وأن الاختلاف الذي وقع من الفرقة الناجية مع غيرها من الفرق في الآية والحديث الأخيرين محمود بالنسبة للفرقة المؤمنة المتمسكة بالسـنة، ومذموم بالنسبة للفرق الأخرى؛ وذلك لأنهم وقعوا في النوع الأول من الاختلاف وهو مفارقة الكتاب والسـنة والاختلاف عليهما، كما في آيتي الأنعام وهود .

وتقرير هذا المعنى للاختلاف في الأحاديث والآيات، فيه رد على من يعيب على أهل السـنة والجماعة والمتبعين لمنهج السلف الصالح اختلافهم مع بقية الفرق، فإن هذا الاختلاف محمود في حق الفرقة الناجية كما قال تعالى: (ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر)( )، ومذموم في حق غيرها من الفرق، والذي يحدد موطن الذم من الحمد في هذا، هو الكتاب والسـنة فمن فارق الكتاب واختلف على الرسـول في هديه وعقيدته، فقد وقع في الاختلاف المذموم وهو الذي ذكره الله في قوله تعالى: (ولا يزالون مختلفين)( ) كما أن هذا المعنى فيه إنكار على من يجمع الناس، ابتعاداً عن الفرقة، فيجمعهم على غير عقيدة صحيحة، وهو بهذا يظن نفسه قد أبعد الناس بدعوته هذه عن الفرقة المذمومة في قوله تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء)( )، ولم يعلم أن المفارقة الحقيقية والمقصودة في هذه الآية هي مفارقة الكتاب والسـنة، فما الفائدة لو اجتمعت أجساد الناس وأعمالهم المادية، وإنجازاتهم وإخراجاتهم  للمجتمع ولم تجتمع قلوبهم وعقائدهم على الكتاب والسـنة. فالافتراق المذموم، هو الافتراق عن كتاب الله وسـنة رسـوله ، وإن كان من نتائج هذا الافتراق الحتمية: افتراق الناس مع بعضهم البعض ونشوء التـنازع بينهم في أمر الدين.

          ولذلك فسر ابن عباس قوله تعالى: (وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسـودُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسـودَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)( )، قال: "(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسـودُّ وُجُوهٌ)  يعني يوم القيامة حين تبيض وجوه أهل  السـنة والجماعة وتسـود وجوه أهل البدعة والفرقة" ، ففسر اختلافهم من بعد ما جاءهم البينات هو بدعتهم التي خالفوا بها الكتاب والسـنة حتى سـودت وجوههم.

          بل وحتى الألفاظ التي جاءت في القرآن بمعنى الاختلاف المنهي عنه بلفظ آخر _ غير لفظ الاختلاف _، جاءت بمعنى الاختلاف على الدين وأصول الشرع،  فقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء)ٍ( )، قال الطبري _ رحمه الله _: "قرأها علي رضي الله عنه فارقوا دينهم وعن قتادة فارقوا دينهم وكأن علياً ذهب بقوله فارقوا دينهم خرجوا فارتدوا عنه من المفارقة، وقرأ ذلك عبد الله بن مسعود (فرقوا دينهم)،  وكأن عبد الله تأول بقراءته ذلك كذلك أن دين الله واحد وهو دين إبراهيم الحنيفية المسلمة ففرق ذلك اليهود والنصارى فتهود قوم وتـنصر آخرون فجعلوه شيعاً متفرقة والصواب من القول في ذلك أن يقال إنهما قراءتان معروفتان؛ وذلك أن كل ضال فلدينه مفارق وقد فرق الأحزاب دين الله الذي ارتضاه لعباده فتهود بعض وتـنصر آخرون وتمجس بعض وذلك هو التفريق بعينه ومصير أهله شيعاً مجتمعين فهم لدين الله الحق مفارقون وله مفرقون" ، فهنا نرى الآية تكلمت عن معنى الافتراق، ونلحظ في تفسـير الطبري _ رحمه الله _ أنه جعل الافتراق متعلق بالدين ففسره بمفارقة الدين والبعد عنه، أو تفريقه إلى شيع وأحزاب _ حسب القراءتين _، كما هو نص الآية: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ)( ).

          وقال القرطبي _ رحمه الله _ في تفسـير الآية: "قوله تعالى إن الذين فرقوا دينهم قرأه حمزة: فارقوا بالألف وهي قراءة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه من المفارقة والفراق على معنى أنهم تركوا دينهم وخرجوا عنه وكان علي يقول والله ما فرقوه ولكن فارقوه وقرأ الباقون بالتشديد إلا النخعي فإنه قرأ فرقوا مخففاً أي آمنوا ببعض وكفروا ببعض والمراد اليهود والنصارى في قول مجاهد وقتادة والسدي والضحاك وقد وصفوا بالتفرق قال الله تعالى (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ)( )" ، فنلاحظ هنا القرطبي ساق قول علي ابن أبي طالب وهو يفسر الآية بمعنى المفارقة التي تـنتج عن ترك الدين إلى غيره، وفسر القرطبي _ رحمه الله _ قراءة: (فرَّقوا)، بالإيمان ببعض المنـزل وترك بعضه، فالمقصود ترك شيء من الدين، لا مجرد المخالفة.

          قال ابن كثير في تفسـير قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ)، بعد سـياقه لبعض أقوال أهل العلم: "والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفاً له، فإن الله بعث رسـوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق، فمن اختلف فيه (وَكَانُوا شِيَعاً) أي فرقاً كأهل الملل والنحل والأهواء والضلالات فإن الله تعالى قد برأ رسـوله مما هم فيه، وهذه الآية كقوله تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ)( ) الآية"( ).

فهنا رجح ابن كثير أن الاختلاف هو مفارقة الكتاب ومفارقة دين الله، وهذا الاختلاف يؤدي بلا شك إلى التـنازع بين الناس، وينشئ الفرق. ثم استشهد ابن كثير بقوله تعالى: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)( )، فالتفرق هنا عكس إقامة الدين ولما أمر الله بإقامة الدين نهى عن التفرق فيه وهو مفارقته وعدم إقامته .

          قال شيخ الإسلام _ رحمه الله _مؤيداً لما سبق، بعد سـياقه لآيات الفرقة في الدين والاختلاف فيه: "فما أنزل الله على رسله قد يقع التفريق والتبعيض في قدره وقد يقع في وصفه فالأول مثل قول  اليهود نؤمن بما أنزل على موسى دون ما أنزل على عيسى ومحمد وهكذا النصارى في إيمانهم بالمسـيح دون محمد فمن آمن ببعض الرسل والكتب دون بعض فقد دخل في هذا فإنه لم يؤمن بجميع المنـزل وكذلك من كان من المنتسبين إلى هذه الأمة يؤمن ببعض نصوص الكتاب والسـنة دون بعض فإن البدع مشتقة من الكفر وأما الوصف فمثل اختلاف  اليهود والنصارى في المسـيح هؤلاء قالوا إنه عبد مخلوق لكن جحدوا نبوته وقدحوا في نسبه وهؤلاء أقروا بنبوته ورسالته ولكن قالوا هو الله فاختلف الطائفتان في وصفه وصفته كل طائفة بحق وباطل ومن هنا تتبين الضلالات المبتدعة في هذه الأمة حيث هي من الإيمان ببعض ما جاء به الرسـول دون بعض وإما ببعض صفات التكليم والرسالة والنبوة دون بعض وكلاهما إما في التـنزيل وإما في  التأويل" ، فمدار كلام شيخ الإسلام حول النصوص والاختلاف عليها، إما في جانب التأويل بالتفسـير الباطل، أو في جانب التـنزيل بالتحريف، ولم يذكر الاختلاف بين الناس، وإن كان الاختلاف بين الناس مذموماً ولا شك، ولكن المذموم من مجموع المختلفين هم الذين كانوا أبعد عن النص وأقرب إلى الاختلاف على نصوص الشرع.

          وقال تعالى: (وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)( ) فسرها ابن كثير بقول معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنهما _ "قال: إن رسـول الله قال: ((إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة _ يعني الأهواء _ كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة، وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب  لصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله))"( ).

ويؤيد ما سبق ما جاء عن أبي هريرة أن رسـول الله قال: ((ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم))( )، فجعل الاختلاف  المنهي عنه والذي يأتي بالهلاك هو الاختلاف على ما جاء به الأنبياء( )، لا مجرد الاختلاف بين الناس فإن الاختلاف بين الناس لا ضابط له.

وقد يأتي الاختلاف في الشرع بلفظ الاختلاف مع الناس في الدين كما جاء عن عبد الله بن عمرو قال: "هجَّرت إلى رسـول الله    يوماً فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية فخرج علينا رسـول الله    يعرف في وجهه الغضب فقال: ((إنما هلك  من كان قبلكم  باختلافهم في الكتاب))" ، فهنا عبر الصحابي عن الخلاف الذي دار بين الصحابيـين بلفظ الاختلاف، ولكن يجب أن يلاحظ أن النبي في هذا الحديث رتب هلاك من كان قبلنا على الاختلاف في الكتاب؛ ولا بد من تفسـير القرآن بالشكل الصحيح، فلا يكون من فسره كما ينبغي ممن يدخل ضمن هذا الخلاف المؤدي للهلاك _ وإن كان قد خالف غيره ممن فسره على هواه أو بشبهة _، فهنا سمى الصحابي التنازع الذي دار بين هذين الصحابيـين: اختلافاً؛ حيث قال الصحابي: "فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية" وذلك من تسمية الشيء بنتيجته، فهو في الأصل اختلاف على الكتاب؛ فإن أحد الصحابيـين أو كلاهما كاد أن يقع في الاختلاف المذموم _ على الكتاب _ الذي حذر منه النبي ، لولا أنه تدراكه .

          فينتج عندنا أن الاختلاف المنهي عنه في الآيات والأحاديث والذي يعتبر تشـبهاً بأهل الكتاب هو: مخالفة الكتاب أو السـنة بحيث يبعد كون المخالف مريداً للحق.

المطلب الثاني: ضابط الأصول التي لا يسـوغ فيها الخلاف:-

          إننا عندما نتحدث عن أصول لا ينبغي أن يتجاوزها أحد إلى غيرها، ولا ينبغي مخالفتها لا نقصد مسائل بعينها؛ فإن ذلك من ديدن المعتزلة الذين يقولون بأصولهم الخمسة، وأما أهل السـنة والجماعة فإن أصولهم الثابتة التي لا يخالفونها إلى غيرها هي نصوص الكتاب والسـنة وإجماع السلف المبني على الكتاب والسـنة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية _ رحمه الله في كلام طويل وأسـوقه هنا لأهميته وعلاقته بالمطلب _: "وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق وقد تكون عنده ولم تـثبت عنده أو لم يتمكن من فهمها وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهداً في طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطأه كائناً ما كان سـواء كان في المسائل النظرية أو العملية، هذا الذي عليه أصحاب النبي وجماهير أئمة الإسلام وما قسموا المسائل إلى مسائل أصول يكفر بإنكارها ومسائل فروع لا يكفر بإنكارها فأما التفريق بين نوع وتسميته مسائل الأصول وبين نوع آخر وتسميته مسائل الفروع فهذا الفرق ليس له أصل لا عن الصحابة ولا عن التابعين لهم بإحسان ولا أئمة الإسلام وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع وعنهم تلقاه من ذكره من الفقهاء في كتبهم وهو تفريق متناقض فإنه يقال لمن فرق بين النوعين: ما حد مسائل الأصول التي يكفر المخطئ فيها؟ وما الفاصل بينها وبين مسائل الفروع؟ فإن قال: مسائل الأصول هي: مسائل الاعتقاد، ومسائل الفروع هي مسائل العمل، قيل له: فتنازع الناس في محمد هل رأى ربه أم لا؟ وفى أن عثمان أفضل من على أم على أفضل؟ وفى كثير من معاني القرآن وتصحيح بعض الأحاديث هي من المسائل الاعتقادية العلمية ولا كفر فيها بالاتفاق، ووجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وتحريم الفواحش والخمر هي مسائل عملية والمنكر لها يكفر بالاتفاق، وإن قال: الأصول هي المسائل القطعية قيل له كثير من مسائل العمل قطعية وكثير من مسائل العلم ليست قطعية وكون المسألة قطعية أو ظنية هو من الأمور الإضافية وقد تكون المسألة عند رجل قطعية لظهور الدليل القاطع له كمن سمع النص من الرسـول وتيقن مراده منه وعند رجل لا تكون ظنية فضلاً عن أن تكون قطعية؛ لعدم بلوغ النص إياه؛ أو لعدم ثبوته عنده؛ أو لعدم تمكنه من العلم بدلالته وقد ثبت في الصحاح عن النبي حديث الذي قال لأهله إذا أنا مت فاحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في اليم فوالله لئن قدر الله على ليعذبني الله عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين فأمر الله  البَـرَّ بردِّ ما أخذ منه  والبحرَ بردِّ ما أخذ منه وقال ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك يا رب، فغفر الله له( ) فهذا شك في قدرة الله وفى المعاد بل ظن أنه لا يعود وأنه لا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك، وغفر الله له وهذه المسائل مبسـوطة في غير هذا الموضع ولكن المقصود هنا أن مذاهب الأئمة مبنية على هذا التفصيل بين النوع والعين ولهذا حكى طائفة عنهم الخلاف في ذلك ولم يفهموا غور قولهم فطائفة تحكى عن أحمد في تكفير أهل البدع روايتين مطلقاً حتى تجعل الخلاف في تكفير المرجئة والشيعة المفضلة لعلى وربما رجحت التكفير والتخليد في النار، وليس هذا مذهب أحمد ولا غيره من أئمة الإسلام، بل لا يختلف قوله أنه لا يكفر المرجئة الذين يقولون الإيمان قول بلا عمل ولا يكفر من يفضل علياً على عثمان، بل نصوصه صريحة بالامتناع من تكفير الخوارج والقدرية وغيرهم، وإنما كان يكفر الجهمية المنكرين لأسماء الله وصفاته لأن مناقضة أقوالهم لما جاء به الرسـول ظاهرة بينة ولأن حقيقة قولهم: تعطيل الخالق، وكان قد ابتلى بهم حتى عرف حقيقة أمرهم وأنه يدور على التعطيل. وتكفير الجهمية مشهور عن السلف والأئمة، لكن ما كان يكفر أعيانهم فإن الذي يدعو إلى القول أعظم من الذي يقول به، والذي يعاقب مخالفه أعظم من الذي يدعو فقط والذي يكفر مخالفه أعظم من الذي يعاقبه ومع هذا فالذين كانوا من ولاة الأمور يقولون بقول الجهمية أن القرآن مخلوق وأن الله لا يرى في الآخرة وغير ذلك ويدعون الناس إلى ذلك ويمتحنونهم ويعاقبونهم إذا لم يجيبوهم ويكفِّرون من لم يجبهم _ حتى أنهم كانوا إذا أمسكوا الأسـير لم يطلقوه حتى يقر بقول الجهمية أن القرآن مخلوق وغير ذلك _ ولا يولون متولياً ولا يعطون رزقاً من بيت المال إلا لمن يقول ذلك، ومع هذا فالإمام أحمد رحمه الله تعالى ترحَّم عليهم واستغفر لهم لعلمه بأنهم لمن يُـبـين لهم أنهم مكذبون للرسـول ولا جاحدون لما جاء به، ولكن تأولوا فأخطؤوا وقلدوا من قال لهم ذلك. وكذلك الشافعي لما قال لأحدهم حين قال القرآن مخلوق: كفرت بالله العظيم، بين له أن هذا القول كفر ولم يحكم بردته بمجرد ذلك؛ لأنه لم يتبين له الحجة التي يكفر بها، ولو اعتقد أنه مرتد لسعى في قتله وقد صرح في كتبه بقبول شهادة أهل الأهواء والصلاة خلفهم"( ).

بل قال شيخ الإسلام _ رحمه الله _: "وكذلك ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيماً له والله قد  يـثيـبهم على هذه  المحبة والاجتهاد لا على البدع من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيداً"( )، وعلى هذا فلا يكون المخالف المجتهد آثماً ما دام أنه لم يـبـين له وجه مخالفته للكتاب والسـنة، ولذلك قال النبي : ((إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب؛ فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ؛ فله أجر)) ، قال الشاطبي _ رحمه الله _: "فأما من صح كونه مجتهداً فالابتداع منه لا يقع إلا فلتة، وبالعرض لا بالذات، وإنما تسمى غلطة أو زلة ؛ لأن صاحبها لم يقصد اتباع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويل الكتاب ؛ أي : لم يتبع هواه، ولا جعله عمدة، والدليل عليه : أنه إذا ظهر له الحق ؛ أذعن له، وأقرّ به ... لأنه بحسب ظاهر حاله فيما نقل عنه إنما اتبع ظواهر الأدلة الشرعية فيما ذهب إليه، ولم يتبع عقله، ولا صادم الشرع بنظره، فهو أقرب إلى مخالفة الهوى"( ).

ومن الاختلاف السائغ الذي جاء به الشرع: اختلاف التنوع الذي لا تضاد فيه( )، مثاله ما جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رجلاً  قرأ آية وسمعت النبي  صلى الله عليه وسلم  يقرأ خلافها فجئت به النبي  صلى الله عليه وسلم  فأخبرته فعرفت في وجهه الكراهية وقال: ((كلاكما محسـن ولا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا)) ( )

 وغضب النبي في هذه الحادثة يشعر بأن الخلاف والفراق الذي لا حاجة له لا ينبغي بين الأمة، فعبد الله بن مسعود كان متأكداً من القراءة التي عنده، وسمع قراءة من رجل آخر ثقة، فلما جاء إلى النبي مخالفاً لصاحبه كره ذلك النبي ، لما فيه من الخلاف الذي لا ينبغي، فالقرآن نزل بهذا ونزل بهذا، وهذا النوع من الخلاف ليس من نوع الاختلاف الذي فيه مفارقة للكتاب والسـنة؛ فكلا الرجلين مصيب، وإنما الخطأ الذي كرهه النبي هو المنازعة في أمرين كلاهما على صواب، ومع ذلك فإن النبي رتب على هذا النوع من الخلاف الهلاك، وبين أنه وقع في من كان قبلنا.

          وإن كان الأمر يعود إلى الاختلاف على القرآن؛ فإن كل واحد من الرجلين ينكر ما عند الآخر من القرآن وهذا يفضي إلى الكفر ببعض القرآن ومخالفته، فرجع الأمر إلى مخالفة الكتاب.

          وهناك نوع من الخلاف لم يأت به الشرع بل هو من الاختلاف النسبي الذي يعتمد على أفهام الناس( )، وهو من اختلاف التضاد، فهذا إذا لم يكن فيه مخالفة لنصوص الكتاب والسـنة فلا بأس به مع بقاء الأخوة الإسلامية، يقول د. محمد بازمول: "إن هذا الاختلاف؛ لما كان مما لم يأت به الشرع، ولما كان الشرع يدعو إلى الاتفاق؛ فإن السعي إلى إزالته من الأمور المستحبة، بل الواجبة، فإن بقي؛ فيبقى مع الود والصفاء، دون بغض أو عداء، والاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية!"( )، فإن تناظر المختلفان في هذا النوع من المسائل، فينبغي أن يكون ذلك مع العدل والإنصاف، قال شيخ الإسلام _رحمه الله _: "والمناظرة والمحاجة لا  تنفع إلا مع العدل والإنصاف وإلا فالظالم يجحد الحق الذي يعلمه وهو المسفسط والمقرمط أو يمتنع عن الاستماع والنظر في طريق العلم وهو المعرض عن النظر والاستدلال فكما أن الإحساس الظاهر لا يحصل للمعرض ولا يقوم للجاحد فكذلك الشهود الباطن لا يحصل للمعرض عن النظر والبحث بل طالب العلم يجتهد في طلبه من طرقه ولهذا سمى مجتهداً كما يسمى المجتهد في العبادة وغيرها مجتهداً كما قال بعض السلف ما المجتهد فيكم إلا كاللاعب فيهم وقال أبي بن كعب وابن مسعود اقتصاد في سـنة خير من اجتهاد في بدعة وقد قال النبي إذا  اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا  اجتهد فأخطأ فله أجر وقال معاذ بن جبل ويروى مرفوعاً وهو محفوظ عن معاذ عليكم بالعلم فإن تعليمه حسـنة وطلبه عبادة ومذكراته تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة  وبذله لأهله قربة فجعل الباحث عن العلم مجاهداً في سبيل الله  "( ).

ولذلك فإن الأصول التي لا يسـوغ الاختلاف فيها هي النصوص الشرعية المحكمة، بمعنى النصوص التي لا شك في دلالتها على المقصود مما يبعد كون المخالف فيه مريداً للحق، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ)( )، قال ابن كثير: "منه آيات محكمات فيهن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم الباطل ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه، قال: والمتشابهات في الصدق ليس لهن تصريف وتحريف وتأويل، ابتلى الله فيهن العباد وكما ابتلاهم في الحلال والحرام ألا يُصرفن إلى الباطلِ ولا يُحرَّفنَ عن الحق" إلى أن قال: "كما لو احتج النصارى بأن القرآن قد نطق بأن عيسى روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وتركوا الاحتجاج بقوله: (إِنْ هُوَ إلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ)( ) وبقوله: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)( ) وغير ذلك من الآيات المحكمة المصرحة بأنه خلق من مخلوقات الله وعبد ورسـول من رسل الله" .

ولكن يؤخذ في الاعتبار: كون المخالف لهذه النصوص متبع لهواه، وإلا لم يكن من المبتدعة المخالفين للنصوص، وفي هذا يقول الشاطبي( ) _ رحمه الله _: "فالمبتدع من هذه الأمة، إنما ضل في أدلتها، حيث أخذها مأخذ الهوى والشهوة لا مأخذ الانقياد تحت أحكام الله. وهذا هو الفرق بين المبتدع وغيره؛ لأن المبتدع جعل الهوى أول مطالبه، وأخذ الأدلة بالتبع، ومن شأن الأدلة أنها جارية على كلام العرب، ومن شأن كلامها الاحتراز فيه بالظواهر، فكما تجد فيه نصاً لا يحتمل التأويل، تجد فيه ظاهراً يحتمل التأويل، حسبما قرره من تقدم في غير هذا العلم، وكل ظاهر يمكن فيه أن يصرف عن مقتضاه في الظاهر المقصود، ويُتأول على غير ما قصد فيه، فكأن المبتدع أغرق في الخروج عن السـنة، وأمكن في ضلال البدعة، فإذا غلب الهوى أمكن انقياد ألفاظ الأدلة إلى ما أراد منها. والدليل على ذلك أنك لا تجد مبتدعاً ممن يُنسب إلى الملة إلا وهو يستشهد على بدعته بدليل شرعي، فيُنـزله على ما وافق عقله وشهوته. لكن إنما ينساق لهم من الأدلة المتشابه منها لا الواضح، والقليل منها لا الكثير، فإن المعظم والجمهور من الأدلة إذا دل على أمر بظاهره، فهو الحق، فإن جاء على ما ظاهره الخلاف فهو النادر والقليل، فكان من حق الظاهر ردُّ القليل إلى الكثير والمتشابه إلى الواضح"( ).

ولذلك فإن المخالف لأهل السنة والجماعة، هو في الحقيقة مخالف للآيات المحكمة من القرآن، أو الأحاديث الصريحة من السنة، ويكون قد غـرَّه ظاهر آية مشتبه، وكان الأولى به أن يرد المتشابه إلى المحكم، ولكن ما منعه من ذلك إلا هواه المخالف للكتاب والسنة.

ولذلك يقول الشاطبي _ رحمه الله _: "غير أن الهوى زاغ بمن أراد الله زيغه، بخلاف غير المبتدع، فإنه إنما جعل الهداية إلى الحق أول مطالبه، وأخر هواه _ إن كان _ فجعله بالتبع، فوجد جمهور الأدلة ومعظم الكتاب واضحاً في الطلب الذي بحث عنه، فوجد الجادة وما شذ له عن ذلك فإما أن يرده إليه، وإما أن يكله إلى عالمه، ولا يتكلف البحث عن تأويله. وفيصل القضية بينهما قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)( )، فلا يصح أن يسمى من هذه حاله مبتدعاً ولا ضالاَّ، وإن حصل في الخلاف أو خفي عليه. فأما أنه غير مبتدع: فلأنه اتبع الأدلة، ملقياً إليها حَكَمَةَ الانقياد باسطاً يد الافتقار مؤخراً هواه، ومقدماً لأمر الله. وأما كونه غير ضال؛ فلأنه على الجادة سلك، وإليها لجأ، فإن خرج عنها يوماً فأخطأ، فلا حرج عليه، بل يكون مأجوراً حسبما بينه الحديث الصحيح: ((إذا اجتهد الحاكم فأخطأ، فله أجر، وإن أصاب، فله أجران))"( ).

ومما يستأنس به في الدلالة على أن النصوص الشرعية المحكمة هي المعول عليها في تحديد المخالفة المنهي عنها: أن الأسباب التي ذكرها العلماء في اختلاف الأئمة _ الذي لا بأس فيه _ ليس منها ما يتعلق بالنصوص المحكمة التي لا لبس فيها، ألف أبو محمد عبد الله بن السـيد البطليوسـي( ) كتاباً في أسباب الاختلاف الواقع بين حملة الشريعة، وحصرها في ثمانية أسباب: 

أحدها: الاشتراك الواقع في الألفاظ واحتمالها للتأويلات( ).

والثاني: دوران اللفظ بين الحقيقة والمجاز.

والثالث: الإفراد والتركيب.

والرابع: دوران الدليل بين الخصوص والعموم.

والخامس: الرواية والنقل.

والسادس: الاجتهاد فيما لا نص فيه.

والسابع: الناسخ والمنسـوخ.

والثامن: الإباحة والتوسع .

          فنجد هذه الأسباب اختصت بما لم يكن فيه نص واضح جلي، ووقع فيها اشتباه في أمر من الأمور.

          قال ابن القيم _ رحمه الله _: "والصواب ما عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوباً ظاهرا مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه فيسـوغ فيها إذا عدم فيها الدليل الظاهر الذي يجب العمل به الاجتهاد لتعارض الأدلة أو لخفاء الأدلة فيها وليس في قول العالم إن هذه المسألة قطعية أو يقينية ولا يسـوغ فيها الاجتهاد طعن على من خالفها" .

          وأما قولهم: (لا إنكار في مسائل الخلاف)، إنما مرادهم به المسائل الخلافية الاجتهادية، أما المسائل التي ثبت فيها النص الذي لا معارض له، فهذه من خالف فيها النص ينقض قوله وينكر عليه إجماعاً( ).

قال الشافعي رحمه الله في محاورة له مع بعض أهل العلم: "قال فإني أجد أهل العلم قديما وحديثاً مختلفين في بعض أمورهم فهل يسعهم ذلك، قال فقلت له الاختلاف من وجهين أحدهما محرم ولا أقول ذلك في الآخر، قال فما الاختلاف المحرم، قلت كل ما أقام الله به الحجة في كتابه أو على لسان نبيه منصوصاً بـيِّناً لم يحل الاختلاف فيه لمن علمه،  وما كان من ذلك يحتمل التأويل ويدرك قياساً فذهب المتأول أو القايس إلى معنى يحتمله الخبر أو القياس وإن خالفه فيه غيره لم أقل أنه يضيق الخلاف في المنصوص. قال فهل في هذا حجة تبين فرقك بين الاختلافين قلت قال الله في ذم التفرق (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ)( )،  وقال جل ثناؤه (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ)( )، فذم الاختلاف فيما جاءتهم به البينات" ، فبين الإمام الشافعي _ رحمه الله _ أن الاختلاف نوعين: أحدهما محرم والآخر سائغ بين أهل العلم وجعل ضابط الاختلاف المحرم هو ما أقام الله فيه الحجة على خلقه في كتابه أو على لسان رسـوله ، فلا يجوز الخلاف في فهم النصوص المبينة، لمن علم معناها، وأما ما كان يحتمل التأويل من النصوص التي لم ترق إلى منـزلة النصوص المحكمة من ناحية الإحكام فالخلاف فيها سائغ، ما دام أنها ليست من البينات الواضحات واستدل بقوله تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ)( )، فلا داعي للخلاف والفرقة مع وجود البينات.

          وهو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية _ رحمه الله _ حيث قال: "والصواب الذي عليه الأئمة  أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوباً ظاهراً مثل حديث صحيح لا معارض من جنسه فيسـوغ له _  إذا عدم ذلك فيها _ الاجتهاد لتعارض الأدلة المتقاربة أو لخفاء الأدلة فيها" ، فجعل الاختلاف السائغ هو الاختلاف الذي عدم فيه الدليل الذي يجب العمل به وجوباً ظاهراً.

          وهو رأي تلميذه المحقق ابن القيم _ رحمه الله _ حيث يقول: "الاجتهاد إنما يعمل به عند عدم النص فإذا تبين النص فلا اجتهاد إلا في إبطال ما خالفه"( ).

وعلى هذا فإن الاختلاف إذا كان في ما لا نص فيه خرج عن كونه من الاختلاف المذموم إلا أن يكون الخلاف في مسألة مشكلة من أجل هوى في النفس، وعندها لن يكون هذا الخلاف من الاختلاف المنهي عنه في قوله تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)( )، لأن شأن هذا الاختلاف _ الذي يكون في المسائل الفرعية التي لا نص فيها _ أنه ليس فيه مخالفة واضحة مع الكتاب والسـنة فلا يحدث فرقة حتى لو كان دافع القائل بالقول الذي فيه بعد عن الصواب: هو الهوى؛ حيث يجب تقديم العذر للمخالف؛ لأن ظاهره الاجتهاد ما دامت المسألة اجتهادية وليست نصية، فلا يمكن التفريق بينه وبين المخالف المجتهد بلا هوى بسهولة، كما أن الاختلاف المنهي عنه في هذه الآية _ والذي يعتبر تشـبهاً بأهل الكتاب _ هو الاختلاف بعد مجيء البينات والعلم، وهنا لا تعتبر هذه المسألة من البينات ما دامت ليست نصية بل هي اجتهادية.

وأما حديث: ((اختلاف أمتي رحمة))، فقد نص غير واحد من العلماء بأن هذا الحديث لا أصل له عن النبي ، كما بين العلامة الألباني _ رحمه الله _ أن هذا الحديث حديث باطل مكذوب( ).

          وأما ما قاله عمر بن عبد العزيز _ رحمه الله _: "ما يسرني أن لي باختلافهم حُمْرَ النعم"، وقوله: "ما أحب أن أصحاب رسـول الله لم يختلفوا" ، فهذان القولان يؤخذان على أن الاختلاف الذي حمده عمر بن عبد العزيز بين الصحابة، هو الاختلاف في المسائل الاجتهادية  التي لا نص فيها؛ فلا يتصور من الصحابة رضي الله عنهم أن يخالفوا ما جاء فيه نص من كتاب الله أو سـنة رسـوله .

          ويشرح الإمام الشاطبي هذين القولين فيقول: "قد ثبت أن الشريعة لا اختلاف فيها، وإنما جاءت حاكمة بين المختلفين فيها وفي غيرها من متعلقات الدين؛ فكان ذلك عندهم عاماً في الأصول والفروع، حسبما اقتضته الظواهر المتضافرة والأدلة القاطعة، فلما جاءتهم مواضع الاشتباه؛ وكلوا ما لم يتعلق به عمل إلى عالمه على مقتضى قوله: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ)( )، ولم يكن لهم بد من النظر في متعلقات الأعمال؛ لأن الشريعة قد كملت؛ فلا يمكن خلو الوقائع عن أحكام الشريعة، فتحروا أقرب الوجوه عندهم إلى أنه المقصود الشرعي، والفطر والأنظار تختلف؛ فوقع الاختلاف من هنا، لا من جهة أنه مقصود الشارع، فلو فرض أن الصحابة لم ينظروا في هذه المشتبهات الفرعية، ولم يتكلموا فيها – وهم القدوة في فهم الشريعة والجري على مقاصدها – ؛ لم يكن لمن بعدهم أن يفتح ذلك الباب؛ للأدلة الدالة على ذم الاختلاف، وأن الشريعة لا اختلاف فيها، ومواضع الاشتباه مظان الاختلاف في إصابة الحق فيها، فكان المجال يضيق على من بعد الصحابة، فلما اجتهدوا، ونشأ من اجتهادهم في تحري الصواب الاختلاف؛ سَهُل على من بعدهم سلوك الطريق، فلذلك – والله أعلم – قال عمر بن عبد العزيز: "ما يسرني أن لي باختلافهم حُمْرَ النعم"، وقال: "ما أحب أن أصحاب رسـول الله لم يختلفوا"( ).

فالمُعَوَّل عليه في الأصول التي لا يسـوغ فيها الخلاف هو النص المحكم، ويخطئ من يقول إن الأصول التي لا يسـوغ الخلاف فيها هي العقائد عموماً، وأن السلف لم يختلفوا في شيء من العقائد؛ ظناً منه بأن العقائد هي الأصول فكل ما هو اعتقادي فهو من الأصول التي لا يسـوغ فيها الخلاف، وهذا ليس بصحيح؛ فإن من العقائد ما اختلف فيه الصحابة، فعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قد خالفت الصحابة في أن النبي رأى ربه، وقالت: "من زعم أن محمداً رأى ربه؛ فقد أعظم على الله تعالى الفرية" ، وجمهور الأمة على خلاف ذلك، مع أنهم لا يبدعون المانعين الذين وافقوا أم المؤمنين رضي الله عنها( ).

          قال شيخ الإسلام: "وليس كل من خالف في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكاً فإن المنازع قد يكون مجتهداً مخطئا يغفر الله خطأه" .

"والخطأ المغفور في الاجتهاد هو في نوعي المسائل الخبرية والعلمية، كمن اعتقد ثبوت شيء لدلالة آية أو حديث، وكان لذلك ما يعارضه ويبين المراد ولم يعرفه؛ مثل من اعتقد أن الذبيح إسحاق؛ لحديث اعتقد ثبوته. أو اعتقد أن الله لا يُرى؛ لقوله: (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ)( )، ولقوله: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ)( ).

كما احتجت عائشة بهاتين الآيتين على انتفاء الرؤية في حق النبي ، وإنما يدلان بطريق العموم.

وكما نقل عن بعض التابعين أن الله لا يُرى، وفسروا قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَة، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة)( )؛ بأنها تنتظر ثواب ربها، كما نقل عن مجاهد وأبي صالح. أو من اعتقد أن الميت لا يعذب ببكاء الحي؛ لاعتقاده أن قوله: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)( )؛ يدل على ذلك، وان ذلك يقدم على رواية الراوي؛ لان السمع يغلط كما اعتقد ذلك طائفة من السلف والخلف. أو اعتقد أن الميت لا يسمع خطاب الحي؛ لاعتقاده أن قوله: (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى)( ) يدل على ذلك. أو اعتقد أن الله لا يعجب؛ كما اعتقد ذلك شريح؛ لاعتقاده أن العجب إنما يكون من جهل السبب، والله منـزه عن الجهل"( )، وبناء على ما سبق فليس كل اعتقادي هو من أصول الدين التي لا يسـوغ الخلاف فيها، كما أنه ليس كل ما هو عملي يسـوغ الخلاف فيه، فإن من الأمور العملية ما هو من الأصول التي لا يسـوغ فيها الخلاف كوجوب الصلاة والزكاة وهي ليست من الاعتقاديات.

          وكل أمر حادثٍ مخالفٌ للكتاب والسـنة؛ فالبدع والمحدثات هي أوضح شكل لمخالفة الكتاب والوقوع فيما وقع فيه أهل الكتاب .

سـياق بعض مظاهر التشـبه بالكفار بالخلاف في الأصول:-

وبناء على ما سبق فإن الخلاف الذي يقع في هذه الأمة في الأصول من الكتاب أو السـنة مما يبعد كون المخالف فيه مريداً للحق هو مظهر من مظاهر التشـبه بالكفار، فالواجب في نصوص القرآن التي يظهر عليها التعارض: الجمع بينهما إن أمكن، ورد المتشابه منها إلى المحكم، كما قال تعالى: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا ألوا الألباب)( )، فضرب كتاب الله بعضه ببعض – وعدم الجمع بين آياته وعدم رد المتشابه إلى  المحكم – من عمل الذين في قلوبهم زيغ كما في قوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِه)( )، وهو سبب هلاك الأمم السابقة، فكل من تشـبه بهم في الوقوع في الخلاف الذي لا ينبغي في نصوص الكتاب والسـنة، فقد شاركهم في تعرضهم للهلاك؛ فقد قال النبي : ((ولا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا)) ، وفي هذه الأمة ما ضلت الفرق وتنازع الناس إلا بالاختلاف على الكتاب أو ضرب بعضه ببعض.

ومن الأمثلة على ذلك في العصر الحديث: ما يقع من الخلاف في إثبات بعض الصفات الواردة في القرآن الكريم وجاء بيانها في السـنة النبوية الشريفة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، من ذلك ما ورد في تفسـير قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ)( )، فقد ورد تفسـيرها في الحديث: ((يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى كل من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً)) ، ومع ذلك فإن من الناس من ينفي صفة الساق لله رب العالمين، يقول محمد علي الصابوني، في تفسـير قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ)( ): "أي اذكر يا محمد لقومك ذلك اليوم العصيب الذي يكشف فيه عن أمر فظيع شديد في غاية الهول والشدة، قال ابن عباس: هو يوم القيامة يوم كرب وشدة، قال القرطبي: والأصل فيه أن من وقع في شيء يحتاج فيه إلى الجد شمر عن ساقه، فاستعير الساق والكشف عنها في موضع الشدة كقول الراجز:

قد كشفت عن ساقها فشدوا                 وجدَّت الحرب بكم فجدوا"

فهنا فسر المؤلف كشف الساق بأنها الشدة التي تقع يوم القيامة، رغم أن الحديث واضح في إثبات صفة القدم لله تعالى: ((يكشف  ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ويبقى كل من كان يسجد  في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً))( )، فتفسـير كشف الساق بالشدة مخالَفة بينة لهذا الحديث، وهو ينص على أن الله جل وعلا يكشف عن ساقه يوم القيامة، وقد نجد له العذر بعدم وصول الحديث إليه، أو أنه لا ينطبق على هذه الآية لولا أنه أورده بعد ذلك مباشرة في تفسـير الآية نفسها، ولكنه بتره، فأورد ما يناسب عقيدته، واعرض عن الباقي.

ومن الخلافات في العصر الحديث في ما لا يسـوغ فيه الخلاف وهو امتداد للخلاف في بعض صفات الله الواردة في السـنة النبوية، منها تفسـير فرح الله بتوبة عبده بالرضى، جاء في كتاب: (نزهة المتقين شرح رياض الصالحين): "أفرح( ): أي أشد فرحاً، والفرح بالنسبة للإنسان: السرور ولذة القلب بنيل ما يشتهي، وبالنسبة لله تعالى يراد: الرضى" ، رغم أن الحديث نص على صفة الفرح لله تعالى، قال : ((لله  أشد فرحاً بتوبة  عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه  وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح)) ، فثبتت صفة الفرح لله تعالى بالدليل الشرعي، وتفسـير هذه الصفة بالرضى، فيه نفي لصفة من صفات الله التي أثبتها له رسـوله ، ومخالفة للنص الصحيح الصريح، مما ينتج الخلاف والفرقة في الصف الإسلامي.

ومن مظاهر التشـبه بالكفار في العصر الحديث في جانب الاختلاف في أصول الدين في العصر الحديث( ): ما نراه لدى الشيعة الاثني عشرية من سب للصحابة( ) الذين ثبت النص بعدالتهم جميعاً، وأذكر على سبيل المثال من الآيات في تزكية الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم قوله تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسـولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سـيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سـوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)( )، وقد تواترت النصوص بفضلهم على غيرهم من البشر، مما لا يتسع المقام لتفصيله، ومع ذلك نجد كتب الرافضة (الشيعة الاثناعشرية)، مملوءة بالتقرب إلى الله بسب هؤلاء الأفاضل من الناس، فكيف تأتي هذه الآيات بمدح هؤلاء وتأتي أسفار الرافضة لتقدح في عدالتهم وتتعبد الله بسبهم وتنقصهم( ).

يقول أحد الشيعة المعاصرين، وهو يذكر أبا بكر وعمر رضي الله عنهما متهماً إياهما بتعمد إخفاء بعض ما أنزل الله في القرآن: "ولا ينبغي لأحد أن يقول: لو ورد ذكر الإمام في القرآن لما استساغ الشيخان أن يخالفاه، ولو خالفاه فرضاً لم يقبله المسلمون وقاموا ضدهما، فنحن نقول: إنه لا ينبغي القول بهذا، لأننا نعرف أنهما خالفا صريح القرآن جهراً وعلنا والناس لم يردوا عليهما، بل قبلوا مخالفتهما للقرآن"( )، ويقول: "ويعلم بهذا كله مخالفة أبي بكر وعمر القرآن في حضور المسـلمين ولم يكن هذا الأمر ذا بال عندهم، بل كانوا هم معهما وفي حزبهما مناصرين مساعدين لهما في نيل المقصود، ويعرف بهذا كله أنه لو ورد ذكر الإمام في القرآن لم يكونوا تاركين للرئاسة لقول الله عز وجل، ولا معطين له أي اهتمام، وكما أن أبا بكر الذي كان خداعه ظاهراً وزائداً استطاع أن يحرم ابنة رسـول الله () من إرثها الثابت بالقرآن والعقل باختلاق حديث مكذوب، لم يكن مستبعداً من عمر أن يقول بأن الله أو جبريل أو الرسـول أخطؤوا في ذكر اسم الإمام في القرآن وآياته، ولذلك لا ينظر إليه ولا يعمل به، وآنذاك قام حزب السـنة وتابعوه على قوله وتركوا القرآن مهجوراً، كما أنهم تابعوه في جميع التغيـيرات التي أتى بها في دين الإسلام ورجحوا قوله على القرآن وآياته وقدموه على أحاديث رسـول الإسلام () وأقواله"( )، وفي هذا افتراء حتى على بقية الصحابة الذين داهنوا الشيخين _ على حد زعمه _ فلم يبق أحد من الصحابة بعد موت النبي إلا سكت على ذلك الكفر في زعمه، وليس المقصود هو تفصيل الرد عليه في هذا الموضع، ولكن المقصود هو بيان مخالفة الرافضة في العصر الحديث للكتاب والسـنة الثابتين بتبرئة الصحابة من النفاق فضلاً على تبرئتهم من الاجتماع على كتمان شيء من القرآن، وفي هذا الزعم مخالفة للكتاب والسـنة وإجماع الأمة على عدالة الصحابة.

فأي مخالفة لنصوص الوحي وأصول الدين، أعظم من هذه المخالفة، وأي فُرقة أحدثها المخالفون في اجتماع الرأي الإسلامي من هذه الفُرقة، عندما يترضى المسلمون على هؤلاء الأخيار، الذين ثبتت عدالتهم في غير ما آية من كتاب الله الكريم، وفاضت كتب السـنة بمآثرهم، ويأتي هؤلاء المخالفون للكتاب والسـنة وإجماع المسـلمين بما لا يليق ذكره في حقهم.

          وغير ذلك الكثير _ في العصر الحديث _ من أنواع مخالفة النصوص الشرعية الواضحة البينة، كلها تلبس لباس التشـبه بأهل الكتاب الذين ما تفرقوا إلا من بعد ما جاءتهم البينة.

 الفصل الثاني مظاهر التشـبه بالكفار في العصر الحديث في العبادات

 المبحث الأول: الرهبانية والتصوف:-

عندما أرسل الله الرسل يأمرون الناس بعبادته وحده لا شريك له، أوحى إليهم بالشرائع التي تعبَّد الناسَ بها والتي رضيها لعباده، فعصيان الله فيما أمر به هو مما يغضبه، كما أن فعل ما نهاهم عنه هو مما يسخطه جل وعلا، كل ذلك من باب النقص والتقصير في حق هذه الشرائع، والزيادة على تلك الشرائع هو من الافتيات على الله جل وعلا فيما شرعه لعباده، فالله أعلم بما يصلح لعباده، ولو كانت هذه الزيادة خيراً لكانت شريعة الله المنـزلة أولى بها، ولذلك لما جاء عباد النصارى بالرهبانية( ) المبتدعة من عند أنفسهم ذمهم الله تعالى في كتابه الكريم حيث قال: (ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإنجيل وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)( )، قال ابن كثير: "وهذا ذم لهم من وجهين أحدهما الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله والثاني في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله عز وجل" ،  ولم تكن الرهبانية مقبولة لدى جميع النصارى فإن منهم لم يقبلها ووجد فيها خروجاً عن تعاليم المسـيح، يقول د. محمد أبو زهرة: "أنكر أولئك المصلحون لزوم الرهبنة التي يأخذ رجال الدين أنفسهم بها ويعتبرونها شريعة لازمة، يفقد رجل الدين صفته الكهنوتية أن تخلى عنها، ولقد رأوا ما أدى إليه ذلك الحظر من كبت للجسد الإنساني، وتعذيب له من غير ضرورة، ولا نص من الكتب قديمها وجديدها يفيد ذلك، بل لقد رأوا ما أدى إليه ذلك الكبت من انفجار غريزة الإنسان في رجل الدين فانطلق يكرع اللذة من شقتها الحرام بعد أن حرم على نفسه الحلال، وطفق يغترف من ورد معتكر( ) بالآثام، وترك المنهل العذب الذي حللته الشرائع، ويتفق مع ناموس الاجتماع الإنساني"( ).

والنصارى قد عرف عنهم الغلو ليس في العبادات فحسب، بل في العقيدة كذلك فقد نهاهم الله عن الاستمرار في الغلو في عيسى عليه السلام وإطرائه، فقال لهم: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسـيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسـولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انـتهوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً)( ).

ولما نبتت نابتة الرهبنة في عهد رسـول الله كان هو أول من نهى عنها، فعن أنس قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي  صلى الله عليه وسلم  يسألون عن عبادة النبي  صلى الله عليه وسلم  فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا وأين نحن من النبي  صلى الله عليه وسلم  قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال أحدهم أما أنا فإني أصلي الليل أبداً وقال آخر أنا أصوم الدهر ولا أفطر وقال آخر أنا أعتزل النساء  فلا أتزوج أبداً فجاء رسـول الله  صلى الله عليه وسلم فقال: ((أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء  فمن رغب عن سـنتي فليس مني))( )، فبين الرسـول أن الخشية لله هي لزوم طريق النبي وعدم الزيادة على ما شرعه الله تبارك وتعالى، وأن الزيادة هي انحراف عن السـنة.

ولقد حرم رسـول الله الغلو في الدين والزيادة فيه في عدد من الأحاديث، من ذلك قوله : "لا رهبانية في الإسلام"( )، وعن عبد الله بن عباس قال: قال رسـول الله غداة العقبة وهو على ناقته: ((القط لي الحصى)) فلقطت له سبع حصيات، من حصى الخذف، فجعل ينفضهن في كفه ويقول: ((أمثال هؤلاء فارموا) ثم قال: ((أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)) ، قال شيخ الإسلام: "والغلو مجاوزة الحد بأن يزاد الشيء في حمده أو ذمه على ما يستحق ونحو ذلك" .

"ثم ظهر بعد ذلك أناس اتخذوا الزهد والورع والتقشف شعاراً لهم، وأطلق عليهم الصوفية" ، ويظهر من اسم الصوفية علاقته بالزهد ولبس الصوف، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن الصوفية نسبة إلى لبس الصوف، وإنه أول ما ظهرت الصوفية من البصرة، وأول من بنى دويرة لصوفية بعض أصحاب عبد الواحد من أصحاب الحسـن، وكان في البصرة من المبالغة في الزهد والعبادة والخوف ونحو ذلك ما لم يكن في سائر أهل الأمصار، ولهذا كان يقال: فقه كوفي، وعبادة بصرية"( )، وذهب البيروني  إلى أنهم منسـوبون إلى "السـوفية" الحكماء القائلون بالوحدة، وأن الصوفية أول من أدخل ذلك في الإسلام فسموا باسمهم( ).

ويبدو للمتأمل في أفعال الصوفية أن المصدر الأصيل لكثير من ممارساتهم هو رهبانية النصارى، يقول شيخ الإسلام _ رحمه الله _: "كما أن كثيراً من زهاد الصوفية يشبه النصارى ويسلك في زهده وعبادته من الشـرك والرهبانية ما يشبه سلوك النصارى ولهذا أمرنا الله تعالى أن نقول في صلاتنا اهدنا الصراط..."( ).

"ويبدو أن من أسباب ظهور طبقة العباد والزهاد في القرن الثاني الهجري هو إقبال الناس على الدنيا يجمعون منها ويتفاخرون( )، فكانت ردة الفعل عند البعض هي الابتعاد الكلي عنها، ولا بد أن هناك أسباباً أخرى قد تكون شخصية، وقد تكون من أثر إقليم معين أو مدينة معينة، فإن من الخطأ تفسـير ظاهرة ما بسبب واحد. ثم حدثت مرحلة انتقالية بين هذا الزهد المشروع وبين التصوف حين أصبح له تآليف خاصة، ويمثل هذه النقلة مالك بن دينار( ) فنراه يدعو إلى أمور ليست عند الزهاد السابقين، منها التجرد أي ترك الزواج، وهو نفسه امتنع عن الزواج وكان يقول: "لا يبلغ الرجل منـزلة الصديقين حتى يترك زوجته كأنها أرملة ويأوي إلى مزابل الكلاب"( ). ويقول: "إنه لتأتي علي السـنة لا آكل فيها لحماً إلا في يوم الأضحى، فإني آكل من أضحيتي"( ). وكثيراً ما يقول: قرأت في التوراة،( ) ويروى عن عيسى عليه السلام: (بحق أقول لكم، إن أكل الشعير والنوم على المزابل مع الكلاب لقليل في طلب الفردوس"( )، أو "قرأت في الزبور..."( ). فمن الواضح ومن خلال قراءة ترجمته في كتب الطبقات أنه متأثر بما ترويه الكتب القديمة عن الزهاد والرهبان.. ومن الواضح أن هذه الكتب قد حرفت ولسـنا مأمورين بقراءتها بل منهيون عن الأخذ منهم وتقليدهم. وربما يكون عبد الواحد بن زيد ورابعة العدوية( ) من أقطاب هذه المرحلة الانتقالية"( ).

          وهكذا اتخذ التصوف مساراً خارجاً عن مسار الزهد الذي أمر به الإسلام إلى مسار يشبه الرهبانية لدى النصارى.

          ولقد تنوعت أشكال التصوف في العصور الإسلامية، على أنه لم يخل قرن من القرون _ خلا القرون المفضلة _ من غلاة المتصوفة المتأثرين بالرهبانية النصرانية، وغيرها من الأديان الأخرى، كما سـيأتي، على أن الأمر لو خلا من مشابهة المشـركين وتفرد بالابتداع في الدين لكان مذموماً فكيف وقد جمعت الممارسات الصوفية بين الابتداع والتشـبه بالمشـركين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني _ رحمه الله _، بعد الكلام عن قصة عمرو بن لحي الخزاعي( ): "فقد تبين لك أن من أصل دروس دين الله وشرائعه، وظهور الكفر والمعاصي: التشـبه بالكافرين، كما أن من أصل كل خير: المحافظة على سـنن الأنبياء وشرائعهم، ولهذا عظم وَقْعُ البدع في الدين، وإن لم يكن فيها تشـبه بالكفار، فكيف إذا جمعت الوصفين" .

ولقد تنوعت تلك المظاهر التي استقاها الصوفية من الرهبانية النصرانية ومن الأديان الأخرى والتي منها أديان الهند القديمة، وهنا أذكر بعض تلك المظاهر والممارسات الصوفية التي أخذت من الأديان الأخرى، مع أن المنهج الصوفي الذي اتخذ طريقاً غير طريق الشرع في التعبد لله هو خارج عن السـنة عموماً، موغل في التشـبه بالنصارى الذين ابتدعوا الرهبانية التي  ما كتبها الله عليهم، فالتشـبه بالكفار من سمات التصوف عموماً، وهنا أذكر بعض المظاهر التي جاء بها المتصوفة بذاتها من الأديان الأخرى، فمن تلك المظاهر:

التعبد بالتضيـيق على النفس وحرمانها من متطلباتها والاعتكاف في الزوايا وترك مخالطة الناس:

وهي طريقة النصارى، فإن من ديدنهم التشديد على النفس( ) وقد جاء في  الحديث: ((لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديار (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ)( ))) ، يقول بولس في رسالته الأولى لأهل كورنثوس: "وأما من جهة الأمور التي كتبتم لي عنها فحسـن للرجل أن لا يمسّ امرأة" .

"وقد بلغت الرهبانية المسـيحية ذروة عتوها في القرون الوسطى وبلغ تحريم الطيبات أشده عند هؤلاء الرهبان الذين كانوا يعدون بالألوف, حتى جعل بعضهم غسل الرجلين إثماً, ودخول الحمام شيء يجلب الأسف والحسر"( ).

          ويرى بعض الباحثين أن من مصادر الرهبانية النصرانية بعضها مستقى من أديان الهند القديمة، ولو استعرضنا، طرائق بعض تلك الأديان لوجدنا التشابه الكبير في طريقة التعبد.

ففي الجينية مثلاً نجد أن طريقة مؤسسها قائمة على التشديد على النفس، فقد "صام مهاويرا يومين ونصف يوم، ونتف شعر جسمه، وبدأ يجوب البلاد حافياً ولجأ إلى الزهد والجوع والتقشف، وغرق في التفكير، واهتم بالرياضة الصعبة القاسـية والتأملات النفسـية العميقة، وبعد ثلاثة عشر شهراً من ترهبه خلع ملابسه دون حياء، إذ كان قد قتل في نفسه عواطف الجوع والإحساس والحياء وكان أحياناً يعتكف في المقابر وكان يغرق في المراقبة إلى حالة الذهول وعدم الإحساس بما حوله، وأفنى كل اتجاه مادي، فحصل من درجات العلم على الدرجة الخامسة (أعلى الدرجات)، وهي درجة العلم المطلق، ونيل البصيرة أو النجاة،وبعد سـنة أخرى من الصراع والتأملات فاز بدرجة المرشد وبهذا بدأ مهاويرا مرحلة جديدة هي الدعوة لعقيدته"( ). ويقول د. محمد ضياء الأعظمي( ): "تحث الجينية على ترك العلاقات الدنيوية، والتمسك بالحياة الرهبانية، فتأثر بها النساك الهندوسـيون والبوذيون وتركوا العلائق الدنيوية، واختاروا الحياة الرهبانية" ، فهي ظلمات بعضها قد أخذ الظلمة عن بعض.

وفي الديانة الهندوسـية لا يصل الراهب إلى الرهبانية الحقيقية حتى يتدرج في رياضة النفس والجسد، بأنواع من الرياضات، يقول (مانو) في شريعته: "والآن أذكر أحكام الرهبان وهم على أربع فئات:-

الفئة الأولى: (بَرَهْمَا جَاريا آشَرَمْ) يعني به دور التربية والتعليم.

الفئة الثانية: (كِرْهَسْتا آشَرَمْ) يعني به دور الحياة العائلية.

الفئة الثالثة: (سـنياسْ آشَرَمْ) يعني به دور التربية الجسدية والروحية.

الفئة الرابعة: (بَانبرَستَ آشَرَمْ) يعني به دور الحياة الرهبانية" .

وهنا أذكر بعض ما توصلت إليه الصوفية في العصر الحديث من الابتداع في الدين على منوال عباد تلك الأديان الباطلة أو المحرفة:

يقول الشيخ محمد الحجوري( ): "حتى إنك إذا بحثت في أي مدينة أو قرية في غالب الممالك الإسلامية تجد زواياها أكثر من مساجدها ومن المدارس، ولا تكاد تجد عائلة إلا وهي آخذة طريقة من الطرق تتعصب لها برجالها ونسائها وصبيانها، على أنه ربما تجد في العائلة طالباً واحداً للعلم، ولا تجد فيها من يحسـن الكتابة، حتى التجأت الدول الإسلامية أن تعتبر رؤساء الطرق بمنـزلة الموظفين وتسميهم كما تسمي موظفيها، لتختار من لا يكون ضدها، وفي بعض الأقاليم تجعل رئيساً عاماً على جميع المشايخ تسميه شيخ المشايخ"( ).

يقول أحد مفكري الهند: "لم تكن في الهند إلا فتنة التصوف الباطل، ولم تخل قرية أو مدينة من الزوايا"، ويقول: "ومن أكبر البليات في الهند أن العامة والخاصة كلهم كانوا مصطبغين بصبغة التصوف، حتى بلغ بهم الأمر إلى أنهم ما كانوا يقبلون شيئاً إلا إذا كان مسبوكاً في قالبه"( ).

وفي المغرب العربي: كان بعضهم يخرج إلى الغابات كما كان يفعل الشيخ محمد المبارك المغربي الجزائري؛ إذ "كان في بداية أمره يأوي إلى غابة كثيرة الوحوش والسباع، يعبد الله فيها أياماً، ثم يرجع إلى أهله يتزود لمثلها ويرجع لمكانه، حتى نادته هواتف العنايات بلطائف الإشارات، وطابت سريرته واستنارت بصيرته، وتخلى من أوحاله، وتحلى بجميل أحواله... وبعد رجوعه لداره اتخذ لنفسه خلوة في منـزله لا يخرج منها إلا لقضاء أوطاره، إلا يوم الخميس فإنه جعله لزيارة القاصدين ومذاكرة الواردين.... ثم يعود لخلوته ليلة السبت"( ).

"وفي مكة المكرمة مهبط الوحي كان المدعو بالسـيد عمر بن عبد الله السقاف (المتوفى سـنة 1305هـ) قد تلقى العلوم عن عدة مشايخ... ثم إنه أخذ الطريقة النقشبندية على الشيخ محمد مطهر، فعقب ذلك ترك الاشتغال بالتدريس بتاتاً، وتوجه لها( ) واشتغل بها، وتقشف وانفرد عن الناس بالكلية"( ).

بين وصاية الأب الروحي، ووصاية الشيخ على المريد:

لقد أعطت بعض الطرق الصوفية لمشائخ الطرق أوصافاً تصل إلى حد التقديس، بل رفع إلى مقام الربوبية أحياناً فله أن يحلل ويحرم( ). "فالشيخ عند المتصوفة هو إله، وتسمى الطرق الصوفية كلها باسم مشايخها ومؤسسـيها، ومع الزمن تتفرع الطريقة الواحدة إلى طرق كثيرة تحمل أسماء مشايخها الجدد"( )، وهذه الطريقة تشـبه إلى حد  كبير تقديس النصارى للرهبان والكنيسة، التي أعطيت الوصاية الروحية على النصارى، فلا اعتراض على ما تقره الكنيسة من عقائد أو ما تفرضه من أحكام( )، ولا يجوز للنصراني أن يسأل عن شيء من الدين بل عليه الإيمان المطلق بكل ذلك . بل حتى وصل من تسلط الكنيسة أنها صارت توزع صكوك الغفران.

وهذه التبعية للرجال والانقياد لهم دون الانقياد للحق هي من صفات اليهود أيضاً، يقول شيخ الإسلام _ رحمه الله _: "فوصف الله اليهود بأنهم كانوا يعرفون الحق قبل ظهور النبي الناطق به والداعي إليه  فلما جاءهم النبي الناطق به من غير طائفة يهوونها لم ينقادوا له فإنهم لا يقبلون الحق إلا من الطائفة التي هم منتسبون إليها مع أنهم لا يتبعون ما لزمهم في اعتقادهم وهذا يبتلى به كثير من المنتسبين إلى طائفة معينة في العلم أو الدين من المتفقهة أو المتصوفة أو غيرهم أو إلى رئيس معظم عندهم في الدين غير النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم لا يقبلون من الدين لا فقها ولا رواية إلا ما جاءت به طائفتهم ثم إنهم لا يعلمون ما توجبه طائفتهم مع أن دين الإسلام يوجب اتباع الحق مطلقاً رواية وفقها من غير تعيـين شخص أو طائفة غير الرسـول صلى الله عليه وسلم"

والعجيب أن الصوفية التي تبعت الرهبانية النصرانية _ في بادئ الأمر _ لم يتورع متأخروهم في الشطح على منوال الرهبان النصارى إلى أبعد درجة يمكن تصورها، فحرم على المريد أن يعترض على شيخه مهما وجد عليه من أمور ساقطة، "وقد وضع الصوفية قواعد عامة لتربية مريديهم، وكلها تحوم حول الخضوع التام من المريد للشيخ، بحيث يتحول التلميذ المسكين إلى انقياد أعمى( )، وحتى تتم هذه التربية الذليلة ألزموهم بلبس معين، ومشية معينة، وشيخ معين، وطريقة معينة، ومن هذه القواعد المتعارفة بينهم: كن بين يدي الشيخ كالميت بين يدي المغسل. لا تعترض فتنطرد. من قال: لشيخه لِمَ؟، لا يفلح"( ). "وفي ظل الدولة العثمانية، انتشرت تلك المقولة العجيبة: من لا شيخ له فشيخه الشيطان! وأصبحت الصوفية – بالنسبة للعامة بصورة خاصة – هي مدخلهم إلى الدين وهي مجال ممارستهم للدين!!"( ).

وفي خلافة الدولة العثمانية اتخذ بعض الحكام العثمانيـين مكانة في قلوب الناس توجته بها الصوفية، فقد "اعتنق السلطان عبد الحميد الثاني الطريقة الشاذلية( )، وحينما اعتلى عرش الخلافة أخذ أنصاره ينشطون في الدعوة إلى (الصوفية الإمامية) على اعتبار أن الخليفة ظل الله على الأرض، مما يوجب طاعته وطلب رضاه"( ).

"والحقيقة أن النظرة للربط بين سلطة الحاكم وإرادة الخالق كانت على عهد الفراعنة القدماء الذين اعتبروا سلطة الفرعون مستمدة من سلطان السماء باعتباره – كما كانوا يعتقدون – ابن الإله، ثم نظر الفرس إلى أكاسرتهم باعتبارهم على صلة بالإله (أهورا – مزدا)، وحكم قيصر روما أوربا بالحق الإلهي قبل المسـيحية باعتباره ابن السماء وبعدها باعتباره رئيس الكنيسة وحليف الكهانة، وحينما جاء الإسلام ألغي هذه النظرة على اعتبار أن العصمة للأنبياء وحدهم أما الخلفاء فهم بشر ولكل بشر شيطان وعلى الرعية أن تقوم الخليفة إذا أخطأ، كما أعلن ذلك أبو بكر منذ بدء الخلافة الإسلامية"( ).

وحتى الآن يقوم نظام الحكم في بعض الدول على ما يسمى بنظام الملكية المقدسة، فإنهم يعتبرون ممثلين للذات الإلهية أمام شعوبهم، وتكون زعامتهم روحية وسـياسـية في آن واحد. وهذه النوعية من الملكية نادرة في الوقت الحاضر( ).

رفع التكاليف المأخوذ عن عقيدة النرفانا:

عرفت النرفانا في الهندوسـية بأنها النجاة. يقول الباحث محمد ضياء الأعظمي: "النرفانا هي: حالة الروح التي بقيت صالحة في دورات تناسخية متعاقبة ولم تعد تحتاج إلى تناسخ جديد فيحصل له النرفانا (النجاة) من الجَوَلان وتتحد الروح بالخالق. فهذه العقيدة قائمة على أن الأرواح هي في حال تجول مستمر من جسد إلى آخر، ولا يحصل لها الاستقرار إلا بعد النجاة، وهذا التجوال هو ما يسمى في الهندوسـية بالكارما( )، التي هي أصل عقيدة التناسخ( )" . "ولا يصل أحد إلى النرفانا إلا بعد أن يقضي على جميع شهواته الحيوانـية، ورغباته المادية والجسـدية، ويكون في النـهاية في مرتبة: (لا شيء أريـده) (WANTLESSNESS)" .

يقول (كرشنا)( ): "من يعرف طبيعة ظهوري وأعمالي التجاوزية لا يولد ثانية عند تركه الجسد في العالم المادي، بل يدخل مقامي السرمدي" . 

كما عُرفت هذه العقيدة لدى الديانة الجينية، يقول د. أحمد شلبي: "ولا بد للنجاة كذلك من قهر جميع المشاعر والعواطف والحاجات، ومؤدى هذا ألا يحس الراهب بحب أو كره، ولا بسرور أو حزن، ولا بحرٍّ أو برد، ولا بخوف أو حياء، ولا بجوع أو عطش، ولا بخير أو شر. والجيني بذلك يصل إلى حالة من الجمود والخمود والذهول فلا يشعر بما حوله، ودليل ذلك أن يتعرى فلا يحس بحياء وينتف شعره فلا يتألم، لأنه لو أحس بما في الحياة من خير وشر أو نظم متفق عليها، فمعنى هذا أنه لا يزال متعلقاً بها خاضعاً لمقايـيسها"( ).

ولقد اتخذت عقيدة الفناء (النرفانا) عند الهندوس طابع التدرج كما هو الحال عند الصوفية؛ فلا يصل الفرد إلى الاتحاد بذات الخالق إلا بعد مروره بعدد من الرياضات التي تمكنه من الحلول في الذات المقدسة والفناء فيها، يقول د. محمد ضياء الأعظمي: "كانت هذه العقيدة سائدة في الهند منذ عهد بعيد. ويعتبر أرقى الناس في الهند وأعمقهم فكراً عند الهندوس من عرف حقيقة (AIRMEWADWITEA) يعني هو فقط لا ثاني له، وهذه هي غاية الفكر الهندي كما يوضح (الفيدانت):

الخطوة الأولى: أن تعرف الخالق بمعرفة مخلوقاته.

والخطوة الثانية: أن تميز بين الخالق وطبيعة الكون.

والخطوة الثالثة: أن ترى الوحدة بين الخالق وطبيعة الذرة التي خلق منها هذا الكون.

والخطوة الرابعة: وهي الغاية العظمى عند الهنادك أن ترى أن ذرة التخليق تتلاشى في ذات الخالق، لأنها هي هيولي الكائنات، ومصيرها الاتحاد بعلة العلل" .

ويؤكد د. محمد ضياء الأعظمي على تأثر الصوفية بهذه العقيدة الهندوسـية، فيقول: "وأثرت هذه العقيدة على أفكار الصوفية في الهند أولاً، ثم انتقلت إلى البلاد المجاورة لها مثل تركستان، ومن هنا انتشرت في البلاد الأخرى، ومن هذا المعين يقول ابن عربي:

فما نظرت عيني إلى غير وجهه      وما سمعت أذني خلاف كلامه

فإن الهدف الأسمى للحياة عند الهندوس هو التحرر من رق الأهواء والشهوات، فإن الروح إذا خرجت من جسم تنتقل إلى جسم آخر وهكذا تظل متنقلة من جسم إلى جسم حتى يحصل لها (النرفانا) وهو العودة إلى أصلها الذي صدرت عنه، والاتحاد والاتصال به وهو (برهما) وفي تعبير المتصوفين (الفناء)( ). ومما لا شك فيه أن التصوف تأثر كثيراً بالعقائد الهندية، ففكرة الاتحاد أو وحدة الوجود عند الحلاج وابن عربي وغيرهما من المتصوفين مصدرها (الفيدانت) حيث ترجم في عهد المأمون في دار الحكمة، وبقي ابن عربي مدة من الزمن في الشرق بعد أن خرج من موطنه بلاد الأندلس، وكان يتلقى مبادئ التصوف من مشايخ الشرق وألف كتابه "الفتوحات المكية" بمكة المكرمة، وهو شبيه بتعليمات التصوف الهندي. أليس قول ابن عربي: الاعتقاد بصحة كل عقيدة حتى لو كانت عبادة الحجر والشجر. شبيه بفكرة (الفيدانت) القائلة: وفي النهاية كل هذه الأفكار توصل إلى ذات الله"( )، بلى.

ومما يتصل أيضاً بفكرة الاتحاد: عقيدة وحدة الوجود المأخوذة عن الفكر الهندي كذلك، والتي انتشر بسببها الفساد الأخلاقي بين الصوفية في العصور المتأخرة  فعقيدة وحدة الوجود – التي استفحلت عند متأخري الصوفية( ) – شجعت على الإباحية "لأن الثواب والعقاب يصبح من المشكلات فمن الذي يثيبنا حين نحسـن؟ ومن الذي يعاقبنا حين نسـيء؟ إذا كان الإنسان جزأً من الله، إنها خطر على عالم الأخلاق، بل تأتي على قواعده من الأساس، ولذلك عاش بعض الصوفية عيشة التفكك والانحلال، وقد كان لابن الفارض وهو من شيوخ وحدة الوجود( )، كان له مغنيات بالقرب من قرية (البهنسا) يذهب إليهن فيغنين له بالدف والشبابة وهو يرقص ويتواجد( )"( ).

ولقد كان مما انتقده الأزهر على الصوفية في مصر: ادعاء بعض مشائخ الطرق الصوفية إسقاط التكاليف الشرعية عنه .

ولقد لقيت هذه العقيدة – عقيدة وحدة الوجود _ رواجاً حتى في عصرنا الحاضر "وهذا (أحمد السهسـواني الهندي) (المتوفى سـنة 1259هـ): كان من القائلين بوحدة الوجود له مصنفات منها: (البنيان المرصوص في شرح الفصوص لابن عربي)( ). وكان تدريس كتابي (فصوص الحكم) و (الفتوحات المكية) لـ(ابن عربي) وغيرهما من كتب المتصوفة التي تطفح بعقيدتي وحدة الوجود والحلول هو شعار كبار العلماء من المتصوفة وغيرهم، وهو المنـزلة العلمية التي لا يتبوؤها إلا الخاصة منهم، والمستوى العلمي الذي لا يرقى إليه إلا فحول العلماء. كما رأينا ذلك بوضوح عند الأمير (عبد القادر الجزائري)، وجمهور علماء (الشام)، ولم يكن الأمر مقتصراً على (الشام)، بل كان ذلك الانحراف واقعاً في غالب الأقطار"( ).

ويذكر صاحب كتاب حلية البشر عن الشيخ: سعيد الخالدي الدمشقي أنه ممن ادعى سقوط التكاليف عنه، فيقول: "وأنكر العلم والعمل، وعن كثير من التكاليف اعتزل، وقال هذه واجبة على المحجوبين لا على المحبوبين... وصار لا يقول بواجب ولا مسـنون، ويقول إن التمسك بذلك محض جنون، ومن دخل في الطريق، وترقى في المقامات، صارت ذاته عين الذات، وصفاته عين الصفات، وهل يجب على الله صلاة أو صيام بحال؟! وهل يقال في حقه عن شيء حرام أو حلال؟!

وقد وافقه على ذلك عدة أشخاص قد خرجوا من الدين ولات حين مناص، فتجاهروا بالآثام، ولم يتقيدوا بحلال أو حرام... وتبعهم على ذلك جملة قوية، حتى صاروا فرقة ذات متانة وحمية"( ).

ويدعو أحد مشائخ الطرق مبتهلاً إلى الله أن يوصله إلى درجة الفناء، فيقول: "وزج بي في بحار الأحدية! وانشلني من أوحال التوحيد! وأغرقني في عين بحر الوحدة حتى لا أرى ولا أسمع ولا أجد ولا أحس إلا بها"( ).

ويقول الشيخ (حسـن رضوان)( ), من منظومته الصوفية (روض القلوب المستطاب):

          وحسبك من ذلك المقصود          إشراق نور وحــدة الوجــود

          وكل ما سـواه نجـم آفل      بل  في شهود العارفين باطـــل       

          فليـس إلا  الله والمظاهـر     لجملة  الأسماء  وهـو  الظاهــر"( )

ويقول الشيخ (علي بن أحمد اليشرطي الشاذلي)( ): "ما زال العبد يذكر الله حتى يستولي عليه الاسم، ومتى استولى عليه الاسم، انطوت العبدية بالربية وظهرت عليه صفات الرب، ولذة الرب تغيب العبد عن وجوده حساً ومعنى... ومن يرحم الفقير ربي يحسـن إليه، وهذه وحدة الوجود لا يحصل عليها أي إنسان، فهي للأصفياء والأنبياء"( ).

ويقول علي حرازم الفاسـي: "إن جميع المخلوقات مراتب للحق، يجب التسليم له في حكمه وفي كل ما أقام خلقه، لا يعارض في شيء، ثم حكم الشرع من وراء هذا يتصرف فيه ظاهراً لا باطناً، ولا يكون هذا إلا لمن عرف وحدة الوجود فيشاهد فيها الوصل والفصل، فإن الوجود عين واحدة لا تجزؤ فيها على كثرة أجناسها وأنواعها ووحدتها، لا تخرجها عن افتراق أشخاصها بالأحكام  والخواص، وهي الـمُعبر عنها عند العارفين أن الكثرة عين الوحدة والوحدة عين الكثرة، وهذا النظر للعارف فقط لا غيره من أصحاب الحجاب وهذا لمن عاين الحدة ذوقاً لا رسماً وهذا خارج عن القال" ، كل ذلك يبين مدى انتشار عقيدة الحلول والاتحاد الهندوسـية عند الصوفية في العصر الحديث.

ولذلك فإن ما يقال اليوم على ألسـنة المتأثرين بالمتصوفة( ) من استحباب التخلق بأخلاق الإله هو لوثة من لوثات الفناء (النرفانا)، يقول شيخ الإسلام _ رحمه الله _ منكراً التلفظ بهذا اللفظ: "ولهذا ضل من سلك سبيل هؤلاء فصار مقصودهم هو التشـبه بالله واحتجوا بما يروون تخلقوا بأخلاق الله وصنف أبو حامد شرح أسماء الله الحسـنى وضمنه التشـبه بالله في كل اسم من أسمائه وسماه التخلق حتى في اسمه الجبار والمتكبر والإله ونحو ذلك من الأسماء التي ثبت بالنص والإجماع أنها مختصة بالله وأنه ليس للعباد فيها نصيب كقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره ((يقول الله تعالى العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحداً منهما عذبته))( )، وسلك هذا المسلك ابن عربي وابن سبعين وغيرهما من ملاحدة الصوفية وصار ذلك مع ما ضموا إليه من البدع والإلحاد موقعاً لهم في الحلول والاتحاد وقد أنكر العلماء على أبي حامد ما ذكره في التخلق وبالغوا في النفي حتى قالوا ليس لله اسم يتخلق به العبد"( ).

          وأما ما يسمى بالجذبة عند الصوفية فهي تشـبه النرفانا من ناحية أنها اقتراب من ذات الله _ عندهم _، ولكنها تختلف من ناحية أن لها وقتاً محدداً، ولكنها لا تسلم من كونها مأخوذة من الأديان الأخرى، ولعلنا نأتي على تعريفها أولاً، الجذبة هي: أن من عبَد الله فإن الله يجذبه إليه بحيث يكشف له الغطاء الذي يجعله يرى أنه غير الله، والطريق الموصلة إلى هذه الجذبة هي الرياضة الروحية .

          يقول المستشرق جولد تسـيهر: "فالأشكال الكثيرة للرياضات الدينية المتعلقة بالذكر في الجماعات الصوفية وكذا الوسائط التي تستخدم للوصول إلى الانجذاب والنشوة – نظام التنفس – أرجعها " كريمر " إلى أصولها الهندية التي أثبتت صدورها عنها" .

ومن تلك الرياضات التي ترجع إلى أصول هندية: اليوغا، وتعرَّف بأنها: "اللغة الهندية المقدسة وتعني الاتحاد والاتصال بالله، أي الاتحاد بين الجسم والعقل والله، وهي توصل الإنسان إلى المعرفة والحكمة، وتطور تفكيره بتطوير معرفته للحياة، وتجنبه التحزب أو التعصب الديني وضيق الأفق الفكري وقصر النظر في البحث، وتجعله يحيا حياة راضية بالجسد والروح"( ).

وجاء تعريفها في المعجم الفلسفي: "اليوغا: لفظ سـنسكريتي معناه  الاتحاد، ويطلق على الرياضة الصوفية التي يمارسها حكماء الهند في سبيل الاتحاد بالروح الكونية، فاليوغا ليست إذن مذهباً فلسفياً، وإنما هي طريقة فنية تقوم على ممارسة بعض التمارين التي تحرر النفس من الطاقات الحسـية والعقلية، وتوصلها شيئاً فشيئاً إلى الحقيقة، واليوغي: هو الحكيم الذي يمارس هذه الطريقة"( ).

وهذا يعني أن اليوغا ليست رياضة جسدية فحسب بل فيها ما يتصل بالروح، وهي عبارة عن طريقة للاتحاد والاتصال بالله، فهي طريقة مبتدعة للسمو بالروح، فهي لا تعدو أن تكون مأخوذة عن فكرة النرفانا، وهي كما سبق طريقة هندوكية ضالة تعتمد على وصول الإنسان إلى حالة الاتحاد في براهما، عن طريق الرياضة الروحية والجسدية.

وبناءً على ذلك فإننا لا نستطيع أن نصف اليوغا بأنها رياضة عادية نافعة، ما دام أن لها هذه الغاية الملحدة، ولم أجد من عرف اليوغا تعريفاً مادياً بعيداً عن جانبها الروحي، فكل من عرفها لا بد أن يذكر الجانب الروحي لها وما تضفيه من صفاء الروح وطريقة التفكير، بل حتى من غالط في مفهوم اليوغا وادعى أنها ليست فلسـفة( ) نجده عرفها بأنها "رياضة جسدية نفسـية فكرية فيها يخضع الإنسان جسده بوظائفه الإرادية طبعاً واللاإرادية بالسـيطرة العصبية إلى محض إرادته، وبواسطتها تتصل  روحه بروح الرب مسـير الكون العظيم فهي أي اليوغا إذن (صلة الوصل) بين الإنسان وخالقه"( )، إذن فمن قال: إن اليوغا رياضة جسدية لا علاقة لها بالروح فقد غالط، أو لم يتعرف على اليوجا فهو على جهل بها.

كما أن اليوغا لها علاقة بفكرة وحدة الأديان، يقول د. أحمد شلبي: "وذوبان بوذا في آلهة الهندوس ليس إلا عوداً إلى تفكير الجنانا يوجا الذي يرى في كل الديانات وفي كل الفلسفات حقاً، ولكن هذا الحق ليس سـوى ذرة من الحق الأعظم الكامل، فهذا المذهب لا يعترض على دين أو فلسـفة، ويرى أن أي دين أو فلسـفة ليس هو كل شيء وليس هو كل الحق، ومعتنق هذا التفكير لا ينتمي إلى دين أو مذهب لأنه يرى أتباع كل الديانات المختلفة إخوة له مهما اختلفوا، فجنانا يوجا مذهب يتسع لمعتقدات الجميع، ويأبى أن يتقيد بقيود أي منها، ويجب أن نقرر بشدة أن إثارة هذا المذهب والدعاية له ترمى إلى محاربة الإسلام بطريق غير مباشر، وقد رأيت هذه المحاولات في عدة بلاد، فالإسلام هو القوة التي قهرت المبشرين المسـيحيـين والبوذيـين، فإذا صرفوا الناس عنه بطريق أو بآخر ولو باسم جنانا يوجا التي تتسع لكل المعتقدات ولا تتقيد بقيود أي منها، فإن هذا كسب لهم عظيم، وبعد أن يصرف المسلم عن الإسلام بهذه الحيلة البارعة يمكن نقله إلى التشكيك، فجذبه إلى دائرة أخرى، فليحذر المسلم اليوجا ومداخلها ودعاتها"( ).

كل ذلك مما يجعلنا نؤمن بخطر هذه الرياضة الروحية والتي تساعد في تسرب العقيدة الهندوسـية الوثنية إلى المسـلمين.

ولكننا نجد مظاهر الإعجاب بهذه الرياضة الدخيلة بدأت تنتشر، يقول د. أحمد شلبي: "وقد نشرت جريدة الأخبار الصادرة في 16/7/75 خبراً عن إنشاء مكتب بالقاهرة باسم تدريبات اليوجا، وكان المكتب من خلف هذه التدريبات يـباشر نشاطاً دينياً لتميـيع الأديان وللانتقاص من القيم الروحية التي تتضمنها، كما ثبت أنه يمول من جهات صهونية، ولهذا أصدرت وزارة الداخلية قراراً بإغلاق هذا المكتب وترحيل الأجانب الذين يعملون فيه"( ).

ولكن هذه الفكرة لم تلبث أن وجدت لها سبلاً أخرى للدخول إلى بلاد المسـلمين، يقول أحدهم في بيان قصة معرفته باليوجا وإعجابه بها: "وذهبت إلى بيت السفير في الموعد وكان في انتظاري ولكني فوجئت بأنه لم يكن ينتظرني في مكتبه أو في الصالون بل في غرفة المائدة.. وفوجئت أكثر إذ لم أجده يرتدي ملابسه الهندية التقليدية أو حتى رداءاً غربياً .. بل كان يلبس (شورت) وصدره عارياً .. يمارس تمارين اليوجا في أحد أركان الغرفة في مواجهة الشرفة المفتوحة. وكان هذا اللقاء بداية معرفتي الواسعة بـ (اليوجا) .. ودعاني السفير: (أبا بانت) إلى مشاركته في تمارينه فكانت أولى خطواتي في ممارسة تمرينات اليوجا .. وبعدها جلسـنا إلى مائدة الإفطار .. مائدة عامرة بالصحون ولكنها كلها صحون نباتية تتفجر منها الفيتامينات. وعلى المائدة عرفت أن والد السفير (بهاوانراو بانت براتينهي) راجا ولاية (أونده) في الهند هو أحد أقطاب اليوجا على مستوى العالم كله. وبعد الإفطار أجريت الحديث المطلوب مع السفير. وافترقنا على موعد لأبدأ دروسـي في اليوجا"، إلى أن يقول: "إنني أهدي هذا الكتاب إلى روح الراجا: (بهاوا نراو بانت براتيندهي)"( ).

التعبد بما لم يشرع الله:-

إن عبادة الله عز وجل ينبغي أن لا تكون إلا عن طريق ما شرعه سبحانه، فهو أعلم بما يجب له وما يُتقرب به إليه، وإلا فإن العمل سـيخرج عن كونه صالحاً، قال تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)( )، فلا يكفي كون العمل خالصاً لله، بل لا بد من كونه صواباً، قال ابن كثير في تفسـيره: "وهذان الشرطان لا يصح عمل عامل بدونهما أي يكون خالصاً صواباً والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون متابعاً للشريعة فيصح ظاهره بالمتابعة وباطنه بالإخلاص فمتى فقد العمل أحد هذين الشرطين فسد فمتى فقد الإخلاص كان منافقاً وهم الذين يراءون الناس ومن فقد المتابعة كان ضالا جاهلاً  ومتى جمعهما كان عمل المؤمنين"( ).

          ولكننا نجد أن المتصوفة جاءوا بعبادات ما أنزل الله بها من سلطان، وبدأ الانحراف بزاوية ضيقة ثم اتسعت حتى صار ضلعا الزاوية أبعد ما بين المشرق والمغرب، وعظم بذلك بعدهم عن الشريعة؛ فحين ظهرت القصائد الدينية في الزهد، والترنم بها واتخاذها طريقاً لترقيق القلوب( )، لم ير الصوفية في ذلك غرواً، أو بعداً عن الحق، ولكن الأمر لم يقف إلى هذا الحد، بل تعداه حتى "تطور إلى ذكر الله بالرقص والدف والغناء، وعندما تقام الحضرة( ) تبدأ التراتيل بذكر اسم الله المفرد (الله) بصوت واحد، ولكن عندما يشتد الرقص ويلعب الشيطان برؤوسهم يرفعون عقيرتهم أكثر ويتحول اسم الله إلى (هو) ثم لا تسمع بعدها إلا همهمة، وقد يجتمع مع هذا الصراخ والقفز في الهواء أخلاط الناس من النساء والأولاد لرؤية هذا (التراث الشعبي)"( ).

"وما يفعل في مصر من احتفالات مولد البدوي أو الحسـين، حيث حفلات الرقص والطبل والزمر، وحيث الاختلاط بالنساء وتضيع الفرائض شيء يخجل منه أهل الإسلام ويتبرأ منه دينه وشرعه، والأزهر بجوارهم وما من منكر عليهم( )، وتقام الصلاة في مسجد الحسـين ولا يدخلون للصلاة لأنهم جاءوا للاحتفال (بسـيدنا الحسـين) وليس للصلاة"( ).

يقول الباحث علي بخيت الزهراني: "وبعضهم كان يقوم بتعليم الموسـيقى، كما فعل الحاج  عثمان بن الحاج عبد الله الطحان( )، ويا ليت أن هؤلاء المتصوفة اقتصروا على الولوع بالطرب والسماع والغناء، ولكنهم جعلوه إلى الله قربة، وعدوه طاعة تلين بها القلوب، وتشف بها الأرواح"( ).

وتعبد الصوفية لله بالغناء والرقص والطبول يشبه تعبد المشـركين (مشركي العرب) لله بالمكاء  والتصدية ، فما الفرق بينهما، هذا صوت وهذا صوت، وهذا بغـير دليل ولا برهان والآخر كذلك، وكلاهما مما تجره الشهوات الضالة على بني آدم، لما فيه من الطرب المحرم، قال تعالى: (وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً)( ).

قال شيخ الإسلام: "وقال سبحانه عن الضالين: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ)( ). وقد ابتلي طوائف من المسـلمين من الرهبانية المبتدعة بما الله به عليم – إلى أن قال – ثم إن الضالين تجد عامة دينهم إنما يقوم بالأصوات المطربة، والصور الجميلة، فلا يهتمون بأمر دينهم بأكثر من تلحين الأصوات، ثم تجد قد ابتليت هذه الأمة من اتخاذ السماع المطرب، بسماع القصائد، وإصلاح القلوب والأحوال به، ما فيه مضاهاة لبعض أحوال الضالين" .

          ومما يلحق بهذا الباب ما تفعله بعض الجماعات الإسلامية التي جعلت الأناشيد ديدناً لها، وتقول: إنها تلين القلوب وتجذب الشباب، وهي نفس العلة التي علل بها الصوفية سماعهم. ولذلك قل أن تجد احتفالاً من احتفالاتهم إلا وقد طغت عليه هذه المادة على حساب غيرها مما هو مفيد، وجدير بالطرح.

 وكل هذه التعبدات القائمة على الغناء والرقص والطبل فيها مضاهاة للأديان السابقة، يقول د. محمد ضياء الأعظمي: "إن الراهبات الهندوسـيات يعبرن عن شوقهن وحبهن للإله المعبود بالرقص والغناء والموسـيقى، واشتهرت منهن الراهبة (ميرابائي) المولودة سـنة (1516-1546م) التي كانت تدور مع الرهبان والنساك في المعابد والخانقات، وتسحرهم وتسكرهم بصوتها الجميل، وألحانها الجذابة، وكانت تضرب (كرتال) (هو نوع من آلة الموسـيقى) وترقص أمام تمثال (كرشنا) وتنتقل من معابد (برندا) و (داركا) (المدينتان اشتهرتا بتماثيل كرشنا). هكذا دخل الغناء والموسـيقى في تكوين الفكر الهندوسـي. وعلماء الهنادك وفلاسفتهم اتخذوا الموسـيقى وسـيلة للتعبير عن تخليق الكون ووجوده من عدمه، فهم يسمعون هذه الألحان في جميع أجزاء العالم. ولم تكن الفكرة السـيخية( ) في جانب من هذه الفلسـفة، فقد كان مؤسسها (نانك) يجيد الموسـيقى إلى حد الإعجاب، واتخذها وسـيلة لنشر مبادئه حتى رتب كتابه (كروكرنـتها صاحب) على ترتيب الألحان الغنائية التي بلغت واحداً وثلاثين لحناً. ونجد في آخر الكتاب فهرساً طويلاً  لهذه الألحان، هذا هو الكتاب المقدس عند السـيخيين"( ).

وقد جاء في مزامير العهد القديم: "3 سبحوه بصوت الصور سبحوه برباب وعود. 4 سبحوه بدف ورقص. سبحوه بأوتار ومزمار. 5 سبحوه بصنوج التصويت سبحوه بصنوج الهتاف"( ).

وفي العهد الجديد: "(19) مكلمين بعضكم بعضا بمزامير وتسابيح وأغاني روحية مترنمين ومرتلين في قلوبكم للرب – (20) شاكرين كل حين على كل شيء في اسم ربنا يسـوع المسـيح للّه والآب( )"( ).

ويعتمد كثير من الصوفية في معرفة الحلال والحرام على الرؤى، قال الشاطبي _ رحمه الله _: "وأضعف هؤلاء احتجاجاً قوم استندوا في أخذ الأعمال إلى المنامات، وأقبلوا وأعرضوا بسببها: فيقولون: رأينا فلاناً الرجل الصالح، فقال لنا: اتركوا كذا، واعملوا كذا. ويتفق مثل هذا كثيراً للمترسمين برسم التصوف، وحكى الغزالي عن بعض الأئمة: أنه أفتى بوجوب قتل رجل يقول بخلق القرآن، فروجع فيه، فاستدل بأن رجلاً رأى  في منامه إبليس قد اجتاز بباب المدينة ولم يدخلها، فقيل: هل دخلتها؟ فقال: أغناني عن دخولها رجل يقول بخلق القرآن، فقام ذلك الرجل، فقال: لو أفتى إبليس بوجوب قتلي في اليقظة، هل تقلدونه في فتواه؟ فقالوا: لا! قال: فقوله في المنام لا يزيد على قوله في اليقظة. وربما قال بعضهم: رأيت النبي في النوم، فقال لي كذا، وأمرني بكذا، فيعمل بها، ويترك بها، معرضاً عن الحدود الموضوعة في الشريعة"( )، وبين الشاطبي _ رحمه الله _ خطأ هذه الطائفة وبين سبب ذلك فقال: "وهو خطأ؛ لأن الرؤيا من غير الأنبياء لا يحكم بها شرعاً على حال إلا أن تعرض على ما في أيدينا من الأحكام الشرعية، فإن سـوغتها عمل بمقتضاها، وإلا وجب تركها والإعراض عنها، وإنما فائدتها البشارة والنذارة خاصة وأما استفادة الأحكام، فلا، وأما الرؤيا التي يخبر فيها رسـول الله الرائي بالحكم، فلا بد من النظر فيها أيضاً، لأنها إذا أخبر بحكم موافق لشريعته، فالعمل بما استقر, وإن أخبر بمخالف، فمحال، لأنه عليه السلام لا ينسخ بعد موته شريعته المستقرة في حياته، لأن الدين لا يتوقف استقراره بعد موته على حصول المرائي المنامية، لأن ذلك باطل بالإجماع، فمن رأى شيئاً من ذلك، فلا عمل عليه، وعند ذلك نقول: إن رؤياه غير صحيحة، إذ لو رآه حقاً، لم يخبره بما يخالف الشرع"( ).

ولم يقتصروا في أخذهم عن الرؤى والمنامات على أحكام الحلال والحرام، بل تعدوا ذلك إلى أصول العقائد والصفات الإلـهية العليا، يقول أحد المعاصرين وهو ينقل لنا وصايا شيخه الثمينة _ في نظره _: "ما أعلمه هو ما رأيته في الرؤيا. وأنا لن أحدثك عن شيء إلا رأيته في رؤيا، وهذا ما يؤمن بها الصوفية فقط .. الكشف في اليقظة والكشف في المنام"( ). وينقل مرة أخرى تأكيد شيخه التزام الصوفية بهذا المصدر من مصادر التشريع، ويعلل بأنه الأفضل والأقرب إلى الصواب، فيقول وهو يحاور أهل الشريعة _ ويسميهم: علماء الرسوم _ الذين أخذوا علمهم عن الأسانيد المتصلة إلى الرسول وتركوا العلم اللدني والكشوفات الصوفية: "أخذتم علمكم ميتاً عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت. والصوفيون لم يأتوا بشيء من عندياتهم، وإذا كان علماء الرسوم أنكروا عليهم شيئاً فلأن علماء الرسوم محجوبون، محجوبون حتى بحجاب الشريعة. أما علمنا فهو من تركة النبي  []فهو العلم اللدني، والعلم اللدني هو الذي أثبت أن لنبـينا هذه المكانة، ولقد سبق أن قلت لك إنني لن أقول شيئاً إلا وقد رأيته في رؤيا"( ).

وأذكر هنا مثالاً واحداً لما يقصه الكاتب عن شيخه من تفسـير بعض الرؤى بما فيه تعدي على الصفات الإلـهية، يقول: "لقد رأيتني في رؤيا مع امرأة اسمها نجلاء رمضان واقفَين أمام فرن، ولقد صنعت المرأة خفين من عجين ووضعتهما على النار ثم أعطتهما لي، ثم وجدتني أنا وهي على سرير، ونظرت فإذا أنا في الفضاء ومن تحتي الأرض بعيدة، وأبصرت على الأرض امرأتين واحدة اسمها نهى والثانية أمل، وأخذني الخوف من البقاء على هذا الارتفاع فهبطت.

والنجلاء: العين، ورمضان: أشد الأسماء الإلـهية خصوصية؛ فالصيام لله ورمضان شهر العبادة على الحقيقة. إذن لقد كنت مع العين الإلـهية أمام الفرن، والفرن مصنع الخبز، والخبز حياة لأنه مقوِّم للحياة وبه العيش، والإشارة إلى اسمه (الحي) تعالى. ولقد صنعت المرأة خفين من عجين ووضعتهما على النار، ولقد سبق أن تحدثنا عن مقام خلع  النعلين: النفس والبدن أو الدنيا والآخرة، فالفاني استبدل بنعليه، أي: بوجوده النفسـي والبدني وجوداً جديداً إلـهياً أشير إليه بخفين مصنوعين من العجين الذي صنع من الذر اللطيف الإلـهي (طحين). هذا هو مقام البقاء بالله يا بني، وهو مقام علوي فوق العقل، ولهذا رأيتني جالساً مع المرأة على سرير أي: على العرش أو الكرسـي الإلـهي الذي وسع السموات والأرض، ولهذا رأيت على الأرض امرأتين اسم إحداهما: (نهى) أي: العقل، والثانية: أمل، أي أن حلمي تحقق بزيادة في العقل أو ما سميناه العقل القدسـي الآخذ عن الله بلا واسطة"( ).

فنجده في تفسـير هذه الرؤيا قد اخترع اسماً لله لم يدله عليه كتاب ولا سـنة، وادعى أن هذا  الاسم (رمضان) أشد الأسماء الإلـهية خصوصية، ثم فسر المرأة التي اسمها نجلاء بالعين الإلـهية، وهذا استنـتاج غريب فيه إزراء بصفة العين لله تعالى، ثم ادعى لنفسه الجلوس على العرش الذي هو سقف المخلوقات وهو الذي استوى عليه ملك الملوك _ تبارك وتعالى وتقدس في علاه _ والعجيب أن هذا الموطن لم يصل إليه حتى رسول الله ، ثم يخـتم بادعاء أن رؤياه تحققت بزيادة في عقله الآخذ عن الله بلا واسطة، والحقيقة أنها نقص في العقل والدين، وتشبه بالنصارى في تحريفهم للدين.

فهذه الطريقة في معرفة الحلال والحرام وتقرير العقائد عرفت لدى النصارى، فقد اشتهرت لديهم رؤيا يوحنا _ في العهد الجديد _ التي يعتمدون عليها في تبديل ما أنزل الله على المسـيح _ قال الإمام القرطبي _ رحمه الله _: "فإن معظم معتمدهم في أمور دياناتهم إنما هو الإنجيل، ونقله غير متواتر لا سـيما والأحداث عندهم في أكثر الأحيان بمنامات يدعونها، يجعلونها أصولاً يعولون عليها"( )، يقول د. محمد ضياء الأعظمي: "كتب هذا السفر( ) صاحب الإنجيل يوحنا في عهد إمبراطور الدولة الرومانية الغربية عام 81م إلى 96م. وهو رؤيا منامية ادعاها يوحنا، وادعى أنه أوحى إليه فيها كثير من حقائق الديانة المسـيحية، وأحداث المستقبل، وهي مشتملة على الأمور الآتية:

1-      تقرير ألوهية المسـيح.

2-      تقرير سلطان المسـيح في السماء، وإشرافه في عليائه على شؤون الكنيسة والقوّامين عليها، وبيان أعمال الملائكة في السماء، وخضوعهم للمسـيح.

3-      تقرير بأن الناس سـيبعثون يوم القيامة ويعرضون على المسـيح، وأنه هو الذي سـيتولى حسابهم على أعمالهم فيجزي المحسـن على إحسانه، والمسـيء على إساءته.

4-      ذكر طائفة من الأحداث التي ستحصل في العالم الإنساني على العموم، وفي العالم المسـيحي بالخصوص في صورة رمزية مبهمة. ولم تعتمد الكنيسة هذه الرسائل إلا في حدود عام 363م"( ).

فإذا كان ما توصل إليه النصارى من اتباع أصحاب الرؤى هو تحريف عقيدتهم من التوحيد إلى التثليث، فما هو يا ترى الشيء الذي سـيجنيه الصوفية الذي يريدون أن يتشـبهوا بالنصارى في مصدر التلقي.

 المبحث الثاني:  الأعياد المكانية:-

يعرف العيد في اللغة بأنه: اسم لكل: "ما يَعتادُ من نَوْبٍ وشَوْقٍ وهَمَ ونـحوه. وما اعتادَك من الهمِّ وغيره، فهو عِيدٌ"( )، وكذلك إذا أضيف العيد إلى المكان، قال شيخ الإسلام _ رحمه الله _: "العيد إذا جعل اسماً للمكان فهو المكان الذي يقصد الاجتماع فيه وإتيانه للعبادة عنده أو لغير العبادة كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة جعلها الله عيداً مثابة للناس يجتمعون فيها وينتابونها للدعاء والذكر والنسك وكان للمشركين أمكنة ينتابونها للاجتماع عندها فلما جاء الإسلام محا الله ذلك كله"( ).

وفي الشرع يعرف العيد المكاني بأنه: كل ما يعتاد من الأمكنة بقصد القربة أو التعظيم، فأما تقيـيده بقصد التقرب فهو لنهي النبي عن جعل قبره عيداً، وهذا لا يتصور إلا لقصد التقرب ؛ فإن تخصيص قبر النبي بجعله عيداً _ عند من فعل ذلك _ لم يكن إلا لأجل التعبد، وأما تقيـيد العيد بما اعتيد قصده للتعظيم؛ فللآية: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)( )، فجعل التعظيم لتلك الأماكن من التقوى، ولا خلاف أنها من الأعياد.          إن الله _ جل وعلا _ جعل لبعض الأمكنة من المزايا ما لم يجعله لغيره من الأمكنة، كما هو معلوم من فضل مكة والمدينة وبيت المقدس( )، وندب إلى تكرار الحج والعمرة إلى مكة( )، فصارت من الأعياد المكانية التي يسـن للمسلم أن يعتاد مجيئها وقصدها، وكل ما يقصد في الحج من الأمكنة هو من الأعياد المكانية المشروعة، كما قال عز وجل: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) ( )، فجعل الصفا والمروة من شعائر الله التي يجوز للمسـلمين أن يسافروا وفي نيتهم أن يسعوا بينهما، فتعظيم هذه الأعياد المكانية يعتبر من تقوى القلوب ومما يؤجر عليه الإنسان؛ لأنه مما شرعه الله وجعله من الشعائر الدينية التي تعبدنا بها، فتعظيم الأعياد المكانية الشرعية من تقديس الدين.

فإذا كانت الأعياد المكانية التي هي من دين الإسلام تعتبر تعظيماً للدين فإن الأعياد التي لها انتماءات أخرى هي تعظيم لتلك الانتماءات، سـواء كانت دينية أو قومية أو غير ذلك.          

ولذلك جاء نهى رسـول الله عن اتخاذ بعض الأماكن أعياداً _ ولو كانت لها خصيصة شرعية _؛ حتى لا تقاس على تلك الأعياد الشرعية، فقال: ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ولا تجعلوا  قبري عيداً  وصلوا على فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) ، ولذلك فقد اتفق العلماء على عدم جواز إتيان القبور من أجل الدعاء عندها ، ولقد علل العلماء هذا النهي بما في ذلك من مشابهة الكفار بالصلاة عند القبور ، قال شيخ الإسلام _ رحمه الله _: "ويبين صحة هذه العلة: أنه لعن من يتخذ قبور الأنبياء مساجد، ومعلوم أن قبور الأنبياء لا تنبش ولا يكون ترابها نجساً، وقال صلى الله عليه وسلم عن نفسه: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد)) ، فعلم أن نهيه عن ذلك من جنس نهيه عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها " ، ولذلك لا نجد في كتب السلف الحديث عن جواز ذلك فضلاً عن استحبابه( ).

ومما يدخل في اتخاذ القبر عيداً شد الرحال إليه، يقول الشيخ صالح السدلان: "شد الرحل لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم غير مشروع ولا مأمور به وجميع الأحاديث المرغبة في ذلك ثبت وضعها وكذبها واختلاقها وبمثلها لا يجوز إثبات حكم شرعي باتفاق علماء الإسلام سلفاً وخلفاً"( ).

كما ((أن عمر بن الخطاب أمر بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي ؛ لأن الناس كانوا يذهبون تحتها، فخاف عمر الفتنة عليهم))( )، ويؤخذ منه أنه لا فرق في الأعياد المكانية بين ما صح سبب اتخاذه عيداً وبين ما كان فيه خبرٌ لم يصح؛ فإن عمر قطع الشجرة التي صح عن النبي أنه بويع تحتها، فما لم يصح فيه خبر فالنهي عنه من باب أولى، وإنما ذكرت ذلك لأن بعض الناس يستدل بثبوت الخبر على صحة ذلك وهذا يكثر عند العوام، في هذا العصر.

ويسـوق شيخ الإسلام _ رحمه الله _ بعض آراء أهل العلم فيقول: "وقد اختلف العلماء رضي الله عنهم في إتيان تلك  المشاهد فقال محمد بن وضاح( ): كان مالك وغيره من علماء المدينة يكرهون  إتيان تلك المساجد وتلك الآثار التي بالمدينة ما عدا قبراً واحداً ودخل سفيان الثوري بيت المقدس وصلى فيه ولم يتتبع تلك الآثار ولا الصلاة فيها فهؤلاء كرهوها مطلقاً لحديث عمر رضي الله عنه هذا لأن ذلك يشبه الصلاة عند المقابر إذ هو ذريعة إلى اتخاذها أعياداً وإلى التشـبه بأهل الكتاب ولأن ما فعله ابن عمر لم يوافقه عليه أحد من الصحابة فلم ينقل عن الخلفاء الراشدين ولا عن غيرهم من المهاجرين والأنصار أن أحداً منهم كان يتحرى قصد الأمكنة التي نزلها النبي صلى الله عليه وسلم والصواب مع جمهور الصحابة لأن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم تكون بطاعة أمره وتكون  في فعله بأن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعله فإذا قصد النبي صلى الله عليه وسلم العبادة  في مكان كان قصد العبادة فيه متابعة له كقصد المشاعر والمساجد وأما إذا نزل في مكان بحكم الاتفاق لكونه صادف وقت النزول أو غير ذلك مما يعلم أنه لم يتحر ذلك المكان فإنا إذا تحرينا ذلك المكان لم نكن متبعين له فإن الأعمال بالنيات" ، فإنه إنما يكون الاتباع في تحري ما تحراه النبي لا في تحري ما فعله رسـول الله صدفة، فإننا إن جئنا للأصل _ بغض النظر عن فعل ابن عمر _ فإن تحري ما فعله اتفاقاً لا يعتبر متابعة بل هي المخالفة بعينها كما قال عمر بأبي هو وأمي : ((هكذا هلك أهل الكتاب اتخذوا آثار أنبيائهم بيعاً من عرضت له منكم فيه الصلاة فليصل ومن لم تعرض له منكم فيه الصلاة فلا يصل))( ).

وقد يفرق العلماء بين الكثير الذي يعتبر عيداً وبين القليل الذي لا يعتبر عيداً، وذلك فيما ليس فيه مشابهة للمشركين كزيارة قبر بعينه، فلا بأس عندهم في زيارة بعض الأماكن التي غشيها النبي لا على وجه الاعتياد، ويرى شيخ الإسلام _ رحمه الله _ أن هذا التفصيل فيه جمع بين الآثار وأقوال الصحابة ، ونقل في اقتضاء الصراط المستقيم: "سُئل الإمام أحمد عن الرجل يأتي هذه المشاهد يذهب إليها ترى ذلك قال أما على حديث ابن أم مكتوم أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في بيته حتى يتخذ ذلك مصلى وعلى ما كان يفعله ابن عمر يتتبع مواضع النبي صلى الله عليه وسلم وأثره فليس بذلك بأس أن يأتي الرجل المشاهد إلا أن الناس قد أفرطوا في هذا جداً وأكثروا فيه" .

وجاء عن عمر هذا الأثر: عن المعرور بن سـويد( ) قال خرجنا مع عمر في حجة حجها فقرأ بنا (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ)( )، (لإِيلافِ قُرَيْشٍ)( )، فلما قضى حجه ورجع والناس يبتدرون فقال: ما هذا؟! فقالوا مسجد صلى فيه رسـول الله فقال: «هكذا هلك أهل الكتاب اتخذوا آثار أنبيائهم بيعاً، من عرضت له منكم فيه الصلاة فليصل ومن لم تعرض له منكم فيه الصلاة فلا يصل» ، وهذا الأثر مما يؤكد التفريق السابق بين الأماكن التي لها أصل في الشرع _ كالمساجد التي صلى فيها رسـول الله _، وبين غيرها من الأماكن التي لا أصل لها في الشرع (كالقبور)؛ فإن عمر لم يأمر بتخريب هذه الأماكن التي صلى فيها النبي ، كما لو كان فيها قبر، ولم يحكم على ذات الفعل بأنه حرام بل قال: هكذا هلك، أي بمثل هذا إذا استشرى وكثر، ولم يفعل كما فعل بالشجرة( ) رغم أنها من الآثار ولم يكونوا يشركون عندها، بل كانوا يفعلون عندها ما يفعلونه في المسجد من صلاة وغير ذلك؛ لأن الشجرة ليس لوجودهم عندها مسـوغ سـوى أنهم اعتبروها عيداً وأما المسجد فإنهم لهم مسـوغ أن المساجد هي في الأصل أماكن للصلاة؛ فالمساجد قد لا يعتبر ذلك في حقها عيداً؛ لما ذكرته، والأشجار يعتبر ذلك في حقها من اتخاذها عيداً؛ لأنه لا توجد مناسبة شرعية لوجودهم عندها، ولا فضل لذلك المكان أصلاً بخلاف المسجد الذي له فضلٌ أصلاً.

كما لا يخفى ما في غشيان الناس للشجرة من مشابهة أفعال المشـركين الذين كانوا يقدسـون بعض الأشجار في الجاهلية ، مع أن فعل الناس في ذلك الحين لم يكن إلا من أجل واقعة البيعة( ) وليس من أجل فعل ما كان يفعله المشركون عند الأشجار التي كانوا يتبركون بها، فقطعها عمر قطعاً للمشابهة من كل وجه وسداً لذريعة الشـرك.

فكيف إذا كان العيد المكاني لا أصل له في الإسلام، عندها سـيكون التحريم أشد؛ لأن المشابهة صارت في أصل نفس الفعل، ولذلك استفصل النبي من الرجل الذي جاءه فسأله إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة فقال النبي : ((هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟)) قالوا: لا، قال: ((هل كان فيها عيد من أعيادهم؟)  قالوا: لا، قال رسـول الله  : ((أوف بنذرك))  ، قال شيخ الإسلام _ رحمه الله _: "فإذا كان صلى الله عليه وسلم قد نهى أن يذبح بمكان كان الكفار يعملون فيه عيداً وإن كان أولئك الكفار قد أسلموا وتركوا ذلك العيد والسائل لا يتخذ المكان عيداً بل يذبح فيه فقط فقد ظهر أن ذلك سد للذريعة إلى بقاء شيء من أعيادهم خشية أن يكون الذبح هناك سبباً لإحياء أمر تلك البقعة وذريعة إلى اتخاذها عيداً"( ).

ولا يخفى شغف أهل الجاهلية ببعض الأماكن التي ما أنزل الله بها من سلطان، كالقبور والأعياد التي كانوا يذبحون فيها لأصنامهم، ولذلك أمر النبي بتسـوية القبور التي كانت قد رفعت في زمن الجاهلية، فقد روى مسلم وغيره عن أبي الهياج الأسدي( ) قال قال لي علي بن أبي طالب: ((ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسـول الله أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً  مشرفاً إلا سـويته)) ، كما سبق  ذكر بعض الأحاديث التي ذكر فيها النبي أن ذلك من صفات أهل الكتاب: فجاء عن عائشة وعبد الله بن عباس _ رضي الله عنهما _: أن رسـول الله قال: ((لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم  مساجد يحذر ما صنعوا)) ، وجاء وصف النصارى بأنهم شرار الخلق عند الله ففي الصحيحين عن عائشة _ رضي الله عنها _: أن أم سلمة _ رضي الله عنها _ ذكرت لرسـول الله  صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها مارية، فذكرت له ما رأت فيها من الصور فقال رسـول الله  : ((أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله)) ، وعن جندب قال: سمعت النبي  يقول: ((ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك)) ، وذلك يعتبر من أعظم أشكال اتخاذ القبور أعياداً، فالمساجد أظهر شكل من أشكال الاعتياد؛ فالمساجد يعتادها الناس أكثر من غيرها من المواطن.

وفي العصر الحديث نجد بعض المسـلمين قد افتتنوا ببعض المشاهد، كالقبور التي أقيمت عليها الأضرحة لبعض الصالحين، في أماكن كثيرة من بلاد المسـلمين.

ولو استعرضنا الأضرحة المقامة في المساجد في العالم الإسلامي _ والتي تعتبر أعظم شكل من أشكال اتخاذ القبور مساجد _ لوجدناها قد انتشرت انتشاراً يندى له الجبين:

"ففي مصر تلقى الأضرحة احتراماً وتبجيلاً لدى كثير من الناس، حيث يندفع أكثرهم لا شعورياً للقيام ببعض الممارسات المتنوعة والمتعلقة بهذه الأضرحة، وتبدأ هذه الممارسات بالحرص على الصلاة في المسجد الذي به الضريح، ثم الحرص على زيارته وترديد بعض الكلمات والصلوات والدعوات"( )، ويعيد السبب إلى هذا التأثر بتلك الممارسات الوثنية الكاتب خالد أبو الفتوح في مجلة البيان إلى بعض العقائد التي كانت لها جذورها منذ فجر التاريخ فيقول: "ففكرة تشيـيد المساجد الجميلة فوق أجساد الموتى وتقديسهم تتصل بجذور الفكر الديني المصري منذ العصر الفرعوني، ولا سـند لها في القرآن والسـنة. وعلى ذلك نرى أن الطقوس التي كانت تقام داخل معبد الأقصر للإله (آمون) في عصر الفراعنة هي الطقوس ذاتها التي تتبع في مولد (أبي الحجاج الأقصري) والذي يقع ضريحه داخل معبد الأقصر نفسه، وأهم ظاهرة في هذا المولد: تلك المراكب التي يجرها جموع المريدين وسط صيحات التكبير والتهليل، مما يلقي بظلاله على ما كان يحدث في المهرجانات الدينية في عصور الفراعنة؛ حيث كان لمعظم الآلهة عدد من القوارب التي تلعب دوراً رئيساً في طقوس الاحتفالات الدينية، وإلى الآن يستمر هذا التقليد في مولد (أبي الحجاج الأقصري)، على الرغم من تأكيد أهالي الأقصر على أن هذه القوارب مرتبطة بمجيء أبي الحجاج من مكة، أو بحجه إليها، كما يتماثل أيضاً في مولد (عبد الرحيم القنائي) الذي أقيم قبره على طلل معبد إله من آلهة قدماء المصريـين. ولعل منشأ كل ذلك عائد إلى التقديس الخاطئ للرموز الإسلامية إضافة إلى القياس الفاسد على من كانوا يعظمونهم في جاهليتهم، فقد يبدأ الأمر بالرغبة في تعظيم الرمز الإسلامي والزعم بأن الأولياء ليسـوا بأقل من الذين كانوا يعظمونهم في جاهليتهم، فيعظمونهم بمثل ما كانوا يمارسـونه مع معبوداتهم الوثنية"( )، وقد يُعترض على كون هذه الممارسات التي تُفعل اليوم _ في مصر _ هي بسبب التأثر بتلك العقائد الفرعونية الوثنية، وذلك لأن المد الإسلامي والفتح الذي قام به الصحابة قضى على كثير من رواسب الجاهلية الفرعونية القديمة. ولكن تلك الممارسات في الحقيقة فيها قدر كبير من المشابهة بتلك العقائد الوثنية والممارسات الفرعونية، تحكي واقع المشابهة بين المسـلمين الذين يشهدون الشهادتين، وبين الوثنيـين الذين لا دين لهم سـوى ما اخترعوه من عند أنفسهم.

ولو تجولنا في العالم الإسلامي المترامي الأطراف لما وجدنا الأمر يختلف كثيراً( )، ففي العراق، وبلاد الهند في بنجلادش وغيرها تنتشر هذه الأمور، وفي بلاد المغرب العربي، وفي السـودان قباب وأضرحة مزارات وأعياد شركية باطلة ما أنزل الله بها من سلطان( ).

وما يسمى بـ (مرقد علي)  بالنجف  من الأماكن التي تحوز على كثير من اهتمام الزوار: "والروضة الحيدرية على شكل مربع يرقد في وسطها قبر الإمام علي وأرضها وجدرانها مكسـوة بالرخام البديع وتقوم المرايا الملونة بالزخارف الهندسـية فوق الرخام. للقبر قبة واسعة و12 شباكاً مزيناً بالقاشاني والمرايا وفوق القبر وضع صندوق من الخشب الساج المرصع بالعاج  ونقشت عليه بعض الآيات القرآنية ويحيطها شباكان أجدهما من الفضة والآخر من الفولاذ وللروضة الحيدرية 6 أبواب، الأول يتوسط الإيوان ومعمول من الذهب مطعم بالميناء والأحجار الكريمة والباب الثاني والثالث يصلان إلى الرواق فالحرم وهما ذهبيان وفي داخل الحرم بابان فضيان أحدهما من جهة الشمال في الرواق نصب باب سادس محلى بالذهب. وللصحن خمسة أبواب ويتخلل الصحن الأواوين العديدة التي هي بالأصل غرف لرجال الدين، وتكتنف القبة مئذنتان شاهقتان مكسـوتان بالذهب الخالص وتزين الضريح الهدايا الثمينة والمفروشات النادرة، وجوانب الضريح محلاة بالزخارف المعمولة من القاشاني الملون والمرايا والأشرطة الكتابية القرآنية بحيث تظهر وكأنها آية في الفن والإبداع"( ).

          كما أن مرقد الحسـين رضي الله عنه في كربلاء( ) يعتبر من أهم المزارات التي تقصد، ولدي تسجيل مرئي يظهر فيه أحد خطباء الرافضة يدعو إلى زيارة الضريح والبكاء عنده ولطم الخدود والضرب بالسلاسل، مستدلاً برواية مكذوبة من روايات الرافضة وهي أن السماء أمطرت دماً حين استشهد الحسـين، فلا ينبغي _ في نظره _ أن يستقل المؤمن أن يقطر بعض القطرات من الدم، حزناً على من كانت هذه منـزلته. وهذا الذي يأمر به هذا الخطيب هو نفسه الذي وجد منذ زمن الإمام أحمد بن حنبل وشيخ الإسلام ابن تيمية الحراني رحمهما الله، وهو الذي نهى عنه أئمة الدين، متبعين في ذلك نهج الرسـول الكريم ، يقول شيخ الإسلام: "وفي الجملة هذا الذي يفعل عند هذه القبور هو بعينه الذي نهى عنه رسـول الله بقوله: ((لا تتخذوا قبري عيداً))، فإن اعتياد قصد المكان المعين في وقت معين عائد بعود السـنة أو الشهر أو الأسبوع هو بعينه معنى العيد ثم ينهى عن دق ذلك وجله وهذا هو الذي تقدم عن الإمام أحمد إنكاره قال وقد أفرط الناس في هذا جداً وأكثروا وذكر ما يفعل عند قبر الحسـين"( )، فإذا كان النبي ينهى عن اتخاذ قبره عيداً فمن باب أولى أن يُنهى عن اتخاذ قبر غيره عيداً.

          وفي القدس يصف أحد الكتاب _ متأسفاً على ضياع ثرى الآباء والأجداد _ أحدَ الأضرحة في القدس وهو ضريح الشيخ أحمد الثوري( )، فيقول: "وكان الضريح على مدى القرون مزاراً لسكان القدس وزائريها يتبركون به. وقد زاره مشاهير السائحين المسـلمين. وكان ضريح الشيخ مقصوداً للزيارة حتى سـنة 1948م عندما احتل الإسرائيليون قمة الجبل"( ).

          وفي السـودان تلقى بعض القباب عناية من القادة السـياسـيـين، فقد "لوحظ على بعض القباب أنها حظيت برعاية بعض القادة السـياسـيـين، مثل قبة الشيخ يوسف أبو سـتـرة، التي شيدت برعاية الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري، وكذلك قبـة الشيـخ مدني السـني، بمدينـة ود مدني، كما لوحظ أيضاً عدم اقتصار اتخاذ القباب على قبور المعظمين في الـمسـلمين، بل من شدة الجهل والغفلة اتخذت قبة على مقبرة (الرفيق) الصيني الشيوعي يانغ تـشــي تشنغ، ولوحظ كذلك: أن بعض هذه القباب يتوسط المساكن" .

ويذكر الشيخ محمد رشيد رضا صورة من هذا التشابه، فيقول: "في بنارس [في الهند] قبر أبي البشر آدم ـ عليه السلام ـ وقبر زوجه وقبر أمه! (ويقال: إنهم يعبرون بأمه عن الطبيعة) وقبور قضاته، وهي تحت قباب مصفحة بالذهب كقبة أمير المؤمنين علي في النجف وقباب غيره... وجميع هذه القبور تعبد بالطواف حولها والتمسح بها وتلاوة الأدعية والأوراد عندها كغيرها من تماثيل معبوداتهم، مع الخشوع وبذل الأموال والنذور لها ولسدنـتها وكهنـتها، فلا يحسبن الجاهل بالتاريخ وبعقائد الملل والنحل أو التعبدات فيها أن علماء وثنيـي الهند يعتقدون أن هذه الأشياء تنفع وتضر بنفسها، وأنهم ليس لهم فلسـفة في عبادتها"( ).

بل وصل الأمر إلى تقديس أضْرِحة (دواب الأولياء) واتخاذها أعياداً، ففي اللاذقية بسـورية حضرة يقال إنها مدفن الفرس التي كان يركبها الولي المغربي، لا تزال حتى اليوم تزار وتبخر( ).

وفي جنوب الجزيرة( ) "قام الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي بهدم قبة في الساحل بمشاركة بعض زملائه، وبقايا قبة على قبر الشريف حمود المكرمي في سامطة" .

ويقول الشيخ محمد ناصر الدين الألباني: "ومن تلك الأشجار شجرة كنت رأيتها من عشر سـنين شرقي مقبرة شهداء أحد، خارج سـورها، وعليها خرق كثيرة، ثم رأيتها سـنة 1371هـ قد استأصلت من أصلها، والحمد لله، وحمى المسـلمين من شر غيرها من الشجر وغيره من الطواغيت التي تعبد من دون الله تعالى" .

 المبحث الثالث: الأعياد الزمانية: -

سبق تعريف العيد وأنه كما قال شيخ الإسلام _ رحمه الله _: "العيد اسم جنس يدخل فيه كل يوم أو مكان لهم فيه اجتماع وكل عمل يحدثونه في هذه الأمكنة والأزمنة، فليس النهي عن خصوص أعيادهم، بل كل ما يعظمونه من الأوقات والأمكنة التي لا أصل لها في دين الإسلام، وما يحدثونه فيها من الأعمال يدخل في ذلك"( ).

          فالعيد الزماني: هو أي وقت يحصل له نوع تعظيم، أو يحصل فيه اجتماع معظم لأي فئة من البشر، فما ثبت من الأزمنة اعتباره عيداً في الشرع فهو تعظيم لدين الإسلام وما كان من أعياد غير المسـلمين فهو تعظيم لسبب فعل العيد، سـواء أكان السبب دينياً أو اجتماعياً أو قومياً.

          ولذلك جاء النهي عن الاحتفال بأعياد المشـركين، قال تعالى: (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً)( )، قال ابن كثير: "قال أبو العالية وطاووس وابن سـيرين والضحاك والربيع بن أنس وغيرهم هو أعياد المشـركين" ، وقال رسـول الله : ((إن لكل قوم عيداً، وإن عيدنا هذا اليوم))( )، قال الإمام الذهبي _ رحمه الله _: "فهذا القول منه يوجب اختصاص كل قوم بعيدهم، كما قال تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا)( )، فإذا كان للنصارى عيد، ولليهود عيد، مختصين بذلك، فلا يشركهم فيه مسلم، كما لا يشاركهم في شرعتهم، ولا في قبلتهم"( ).

وعن أنس قال: قدم رسـول الله    المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: ((ما هذان اليومان؟) قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسـول الله ((إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما يوم الأضحى ويوم الفطر)) ، وفي هذا إلغاء للأعياد التي كانت في زمن الجاهلية، وإبدالها بأعياد إسلامية، فلم يقرهم النبي على أعيادهم في حال شرعه لعيدي المسـلمين، بل ألغى احتفالهم بذينك اليومين فقد قال: أبدلكم والإبدال يقتضي ترك المبدل منه( )، فأشعر فعله هذا بأنه لا يمكن أن يكون في الإسلام أي عيد آخر غير العيدين الذين شرعاً لأهل الإسلام، أو ما أضيف إليهما بنص شرعي آخر، ولذلك قام بإلغاء الأعياد التي كانت أيام الجاهلية.

          وعن عمر بن الخطاب ، قال: ((لا تتعلموا رطانة الأعاجم، ولا تدخلوا على المشـركين في كنائسهم يوم عيدهم، فإن السخط ينـزل عليهم))( )، وينقل لنا الإمام الذهبي _ رحمه الله _ رأي أهل العلم في حضور أعياد الكفار، فيقول: "قال العلماء: ومن موالاتهم التشـبه بهم، وإظهار أعيادهم، وهم مأمورون بإخفائها في بلاد المسـلمين، فإذا فعلها المسلم معهم، فقد أعانهم على إظهارها. وهذا منكر وبدعة في دين الإسلام، ولا يفعل ذلك إلا كل قليل الدين والإيمان، ويدخل في قول النبي : ((من تشـبه بقوم فهو منهم))( )"( ).

ويشمل النهيُ الاحتفالَ بيوم أو ليلة لم يثبت أنها عيد من أعياد المسـلمين ولو كان ذلك الاحتفال غير مأخوذ عن الكفار في الأصل، يقول شيخ الإسلام _ رحمه الله _: "فيكفيه أن يعلم أنه لا أصل له في دين الإسلام فإنه إذا لم يكن له أصل فإما أن يكون قد أحدثه بعض الناس من تلقاء نفسه أو يكون مأخوذا عنهم فأقل أحواله أن يكون من البدع" .

أشكال الاحتفاء الذي تحصل به المشابهة:

الضابط في حصول الاحتفاء المحرم بأعيادهم الذي هو شكل من أشكال المشابهة هو أن يبعثه وجود ذلك العيد إلى أي فعل من الأفعال، إلا فعلاً هو من أجل مخالفة أهل ذلك العيد، يقول شيخ الإسلام _ رحمه الله _: "وإنما المحرك على إحداث ذلك: وجود عيدهم، ولولا هو لم يقتضوا ذلك، فهذا أيضاً من مقتضيات المشابهة" .

ومن الاحتفاء الذي لا ينبغي بأعياد الكفار: الفرح في يوم عيدهم ، قال شيخ الإسلام _ رحمه الله _: "ومن ذلك ترك الوظائف الراتبة من الصنائع أو التجارات أو حلق العلم أو غير ذلك واتخاذه يوم راحة وفرح واللعب فيه بالخيل أو غيرها على وجه يخالف ما قبله وما بعده من الأيام"( )، ومن الاحتفاء الذي لا يجوز كذلك: الاحتفاء والفرح بسبب العيد ولو لم يكن في وقت عيدهم، يقول شيخ الإسلام _ رحمه الله _: "وكذلك حريم العيد وهو ما قبله وما بعده من الأيام التي يحدثون فيها أشياء لأجله أو ما حوله من الأمكنة التي يحدث فيها أشياء لأجله، أو ما حدث بسبب أعمال من الأعمال حكمها حكمه فلا يفعل شيء من ذلك، فإن بعض الناس قد يمنع من إحداث أشياء في أيام عيدهم، كيوم الخميس والميلاد، ويقول لعياله: إنما أصنع لكم ذلك في الأسبوع أو الشهر الآخر" .

بل يرى شيخ الإسلام أنه لا تجوز إعانـتهم في أي عيد من أعيادهم، يقول _ رحمه الله _: "وكما لا يتشـبه بهم في الأعياد فلا يعان المسلم المتشـبه بهم في ذلك بل ينهى عن ذلك فمن صنع دعوة مخالفة للعادة في أعيادهم لم تجب دعوته، ومن أهدى للمسـلمين هدية في هذه الأعياد مخالفة للعادة في سائر الأوقات غير هذا العيد لم تقبل هديته خصوصاً إن كانت الهدية مما يستعان بها على التشـبه بهم في مثل إهداء الشمع ونحوه في الميلاد أو إهداء البيض  واللبن والغنم في الخميس الصغير الذي في آخر صومهم وكذلك أيضا لا يهدى لأحد من المسـلمين في هذه الأعياد هدية لأجل العيد لا سـيما إذا كان مما يستعان بها على التشـبه بهم كما ذكرناه ولا يبيع المسلم ما يستعين المسلمون به على مشابهتهم  في العيد من الطعام واللباس ونحو ذلك لأن في ذلك إعانة على المنكرات فأما مبايعتهم ما يستعينون هم به على عيدهم أو شهود أعيادهم للشراء فيها فقد قدمنا أنه قيل للإمام أحمد هذه الأعياد التي تكون عندنا بالشام مثل طور يانور أو دير أيوب وأشباهه يشهده المسلمون يشهدون الأسـواق ويجلبون فيه الغنم والبقر والدقيق والبر وغير ذلك إلا أنه إنما يكون في الأسـواق يشترون، ولا يدخلون عليهم بيعهم وإنما يشهدون الأسـواق؟ قال: إذا لم يدخلوا عليهم بيعهم، وإنما يشهدون السـوق فلا بأس"( ).

ولقد ابتلي كثير من المسـلمين في هذا العصر بالتشـبه بالكفار في أعيادهم الزمانية وتنوعت انتماءات تلك الأعياد فمنها الدينية _ غير إسلامية _ ومنها الاجتماعية، وابتدئ الحديث أولاً عن الدينية منها لخطورة التشـبه فيها:-

أعياد المجوس:

          فإن للمجوس أعياداً منها: عيد المهرجان( ) وعيد النيروز ، يقول الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد: "فللمجوس الفرس أعياد متعددة جداً, وهم أكثر الناس أعياداً, منها: (عيد رأس السـنة, وهو عندهم: (النيروز) وهو أول يوم تتحول فيه الشمس إلى برج الحمل, وقيل: هو أول يوم خلق الله فيه النور. وقيل: هو أول الزمان, وهو أول يوم من سـنة القبط: ولفظ: (النيروز) معناه: (اليوم الجديد). ويسمى عند أهل مصر: (عيد شم النسـيم). ومدة هذا العيد ستة أيام, تبدأ من اليوم السادس من شهر حزيران. (عيد المهرجان) وأصله: (مهركان) بالفارسـية, وهو اسم للشهر الذي مات فيه أحد ملوك الفرس. وهو أول يوم تتحول فيه الشمس إلى برج الميزان, وهو يوافق السادس والعشرين من أكتوبر, ومدة إقامته ستة أيام"( ).

وإذا كان من المحرم مشاركة الكفار في أعيادهم وإعانـتهم عليها، وكل ما يفضي إلى ذلك، من أي فعل سبب حدوثه من المسلم هو وجود عيد للكفار، فكيف بأخذ اسم العيد ووصف بعض احتفالات المسـلمين باسمه، ولو كان ذلك في غير وقت عيدهم المسمى بهذا الاسم، كما يفعل الناس اليوم من الاحتفالات أو المسابقات الثقافية أو الدعائية أو التخفيضات ويسمون ذلك بـ (مهرجان) كذا، و(مهرجان) كذا( )، لا شك أن هذا النوع من المشابهة هو أعظم ممن يبيع الشمع أو البيض لمن يستفيد منه في الاحتفال بالعيد.

الأعياد اليهودية:

لقد انتشر بين الناس اليوم ما يسمى بالاحتفال باليوبيل( )، ويقسمونه إلى عدد من الأنواع: "(عيد اليوبيل الفضي) بعد مضي خمسة وعشرين عاماً على ميلاد شخص, أو افتتاح مؤسسة, أو بناء دار, وهكذا، و(العيد الذهبي) بعد مضي خمسـين عاماً، و(العيد الماسـي) بعد مضي ستين عاماً"( ).

          وعيد اليوبيل هو من أعياد اليهود، يقول الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد:(اليوبيل): كلمة عبرية، معناها: قرن الكبش، الذي تصنع منه الأبواق، التي يستعملونها في أعيادهم، فيلقون به الألفاظ التي يهلون بها"( ).

          وهو منصوص عليه في أسفارهم، فقد جاء في سفر اللاويـين: "1 وكلم الرب موسى في جبل سـيناء قائلا، 2 كلم بني إسرائيل وقل لهم. متى أتيتم إلى الأرض التي أنا أعطيكم تسبت الأرض سبتاً للرب. 3 ست سـنين تزرع حقلك وست سـنين تقضب كرمك وتجمع غلتهما. 4 وأما السـنة السابعة ففيها يكون للأرض سبت عطلة سبتاً للرب. لا تزرع حقلك ولا تقضب كرمك. 5 زريع حصيدك لا تحصد وعنب كرمك المحول لا تقطف. سـنة عطلة تكون للأرض. 6 ويكون سبت الأرض لكم طعاما. لك ولعبدك ولامتك ولأجيرك ولمستوطنك النازلين عندك. 7 ولبهائمك وللحيوان الذي في أرضك تكون كل غلتها طعاماً. 8 وتعدّ لك سبعة سبوت سـنين. سبع سـنين سبع مرات. فتكون لك أيام السبعة السبوت السـنوية تسعاً وأربعين سـنة. 9 ثم تعبر بوق الهتاف في الشهر السابع في عاشر الشهر في يوم الكفّارة تعبّرون البوق في جميع أرضكم. 10 وتقدسـون السـنة الخمسـين وتنادون بالعتق في الأرض لجميع سكانها. تكون لكم يوبيلاً  وترجعون كل إلى ملكه وتعودون كل إلى عشيرته. 11 يوبيلاً  تكون لكم السـنة الخمسـون لا تزرعوا ولا تحصدوا زريعها ولا تقطفوا كرمها المحول. 12 أنها يوبيل. مقدسة تكون لكم. من الحقل تأكلون غلتها. 13 في سـنة اليوبيل هذه ترجعون كل إلى ملكه"( ).

          "فلفظ (اليوبيل) كما ترى, انتقل من معنى الآلة التي ينفخ فيها الكلام إلى ذلك اليوم الذي يتم فيه الاحتفال بالتحرير, والإطلاق, والخلاص, على مدد متفاوتة عند اليهود باسم: (عيد اليوبيل) وعند النصارى باسم: (عيد يوم الغفران) أو (عيد يوم الغفران الكامل العظيم)"( ).

ولذلك فإننا نجد أن هذه الاحتفالات باليوبيل أكثر من يحرص على دفع المسـلمين على إقامتها: تلك المنظمات السرية أو العلنية اليهودية مثل: "(الماسـونية) و (الروتاري) و (الليونز) و (الاكستشانج) و (المائدة المستديرة)، هذه النوادي وتلك الحركات الهدامة لا يمكن مطلقاً أن تغفل عن الاحتفال باليوبيل الفضي والذهبي لتلك النوادي, بل وتصر عليه, ومن الغريب أن فروع تلك النوادي في بلد عربي مسلم, يسافر منها أعضاء إلى الولايات المتحدة المقر الرئيسـي لتلك النوادي كلها, لحضور اليوبيل الذهبي، والأغرب أن المقر الرئيسـي للروتاري في الولايات المتحدة الأمريكية يبعث إلى أعضاء في منطقة الروتاري العربية, بتذاكر سفر بالطائرة بالدرجة الأولى, على نفقة منظمة الروتاري الأم, لمجرد حضور الاحتفال باليوبيل الفضي أو الذهبي, دون مناقشة أية موضوعات والهدف إبراز الاحتفال باليوبيل على أنه واجب مقدس لا يمكن تجاوزه أو نسـيانه"( ).

أعياد النصارى:

اشتهر عند النصارى ما يسمى بعيد الميلاد( ) أي ميلاد المسـيح عليه السلام ويبدأ من الخامس والعشرين من شهر ديسمبر، حتى منتصف ليلة 31 منه وهو المسمى عن الأوربيـين اليوم باسم: (عيد الكرسـمس)( ).

          ويهنئ بعضُ مسلمي عصرنا النصارى في هذا العيد، وربما يشاركونهم الاجتماع والفرح به، وقد يحصل أحياناً أنهم "يعطلون الدوائر الحكومية والشـركات تعظيماً لهذا اليوم، احتراماً له ويزورون أصدقاءهم النصارى ويرسلون لهم بطاقات التهنئة"

          وقلد النصارى في ذلك الشيعةُ الفاطميون (الباطنية) الذي ابتدعوا في الإسلام عيد ميلاد النبي ( ) قياساً على ما عند النصارى من احتفال بمولد عيسى وكان ذلك عام: (363هـ) ، ثم انتشر بعد ذلك بين المسـلمين، وخاصة الصوفية الذين يزعمون أن ذلك من محبة النبي ، واستمرت هذه البدعة حتى عصرنا الحاضر، وانتشرت انتشاراً واسعاً حتى صار يوم عيد ميلاد النبي يوم عطلة رسمية في بعض الدول .

          ويعتبر بعض الناس هذا الاحتفال من الاحتفالات الإسلامية التي تعبر عن روح الإسلام _ جهلاً منهم بحقيقة مصدر هذا الاحتفال _ يقول بعضهم: "على أننا إذا احتفلنا بميلاد الرسـول  فإننا نحتفل في الحقيقة بالإسلام الذي جاء به مولانا رسـول الله صلى الله عليه وسلم، نحتفل بالفكرة، بالمنهج، أيستطيع أحد أن يمنعنا من الفرح بشخص رسـولنا، وبالهداية التي جاءت على يده وبالمنهج الذي أمرنا به" ، والجواب على ذلك: أن الفرح الذي يكون بالدين وبنعمة الله بإرسال الرسـول هو الفرح بما كان من الشريعة الحقة، وذلك بالعيدين الذين شرعهما الله عز وجل لنا بعد إكمال عبادتين من أعظم العبادات الصوم والحج، وهما عيدا: الفطر والأضحى، لا أن نحتفل بعيد استقيناه من عند الكفار الذين يقولون إن الله ثالث ثلاثة، ونقله إلينا من ثبت بغضهم للإسلام والمسـلمين من الشيعة العبيديـين!!

          وقبل أن أصف للقارئ الكريم ماذا يدور في بعض احتفالات الموالد أنقل هذا الكلام عن أحد المعجبين بدور المولد في التربية على مكارم الأخلاق، يقول: "والاحتفال بعيد مولد الرسـول صلى الله عليه وسلم هو احتفال بالإسلام، وتدل دراسة علم النفس والتربية الحديثة، أن العقيدة تثبت في نفوس الأطفال والعوام، بوسائل مختلفة، والاحتفال بالمولد من هذا الباب، بل نحن ندعو إلى استغلال الوسائل العلمية والتكنولوجية، للدعوة إلى الإسلام كما يفعل المبشرون الآن في بعض مجاهل إفريقيا وغيرها من بلاد العالم"( ).

ينطلق الاحتفال بالمولد النبوي من الأضرحة التي تعتبر في الأصل أعياداً مكانية نهانا شرعنا القويم تشيـيدها، حيث يصف أحد الصحفيـين المشهد الذي رآه في الاحتفال بالمولد النبوي في القاهرة فيقول: " سار موكب ممثلي الطرق الصوفية لمدة (45) دقيقة تقريباً مشياً على الأقدام حاملين الأعلام والرايات في جو من البهجة والاحتفال بدءاً من ضريح الشيخ صالح الجعفري بمنطقة الدرّاسة إلى مسجد الحسـين، وهناك وجدوا في انتظارهم بعض المستقبلين، على رأسهم شيخ مشايخ الطرق الصوفية، فقاموا بالسلام عليه وقراءة الفاتحة والدعاء جماعيّاً. ويشهد هذا الاحتفال أيضاً كبار رجال الدولة أو ممثلون عنهم، وعلى رأسهم شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية ورئيس جامعة الأزهر ووزير الأوقاف ومحافظ القاهرة؛ حيث يلقي معظمهم كلمات في الاحتفال، كما يشهد حضوراً إعلاميّاً واضحاً من صحافة وإذاعة وتلفاز. وبعد نهاية الاحتفال الرسمي ينصرف أتباع الطرق الصوفية لإلقاء أناشيدهم ومدائحهم وأذكارهم في أماكن معدة لذلك سلفاً، ويستمرون في ذلك حتى منتصف الليل تقريباً" .

ولبيان الأثر التربوي الذي نجنيه من الموالد المبتدعة أسـوق هذا الوصف للمولد النبوي، يقول الكاتب عثمان محمد سليمان (من الخرطوم): "وقد تأصل هذا النوع من الاحتفالات حتى خصصت لها ميادين معينة، عرفت بميادين المولد؛ ففي كل مدينة ميدان يسمى ميدان المولد الكبير، وهو ساحة متسعة مخصصة لهذا الغرض، وتلتقي فيه كل الطرق الصوفية المشتركة في الاحتفال بالمولد، وتتم المشاركة فيه بعد الحصول على تصديق رسمي من الدولة يتم بموجبه السماح للطريقة المعينة بنصب سرادقها في المكان المخصص لها في ساحة المولد، وعمل تجهيزاتها اللازمة لها.. وتقوم كل طريقة بعمل الأذكار التي تخصها والمدائح المتعلقة بالمولد، كما تتم قراءة الكتب المؤلفة في المولد النبوي في شكل حلقات تشـبه حلقات تلاوة القرآن، وعند مرورهم بمواطن معينة في هذه الموالد المؤلفة يقف الحاضرون اعتقاداً منهم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يحضر عند ذكر ولادته، ويرددون في صوت واحد عبارة (مرحباً بالمصطفى يا مرحبا...) وفي بعض المواضع من القراءة يضعون الأيدي على الرؤوس، وفي مواضع أخرى يضربونها أو يوجهونها نحو الأرض عند الاستعاذة من بعض الأمراض أثناء قراءة المولد. وفي المولد يضربون أيضاً على الطبول الكبيرة (النوبة) التي تصدر أصواتاً قوية، ويرددون معها القصائد الملحنة كنوع من الذكر الذي يُتقرب به إلى الله.. وكل هذا مع الحركة والاضطراب الشديد، وربما دار أحد الدراويش على رجل واحدة وهو (يترجم)، أي: يصدر أصواتاً لا تفهم، فيوصف بأنه غرق في الذكر. ويزداد الزحام في الليلة الأخيرة، ويكون الناس في هذه الساحات خليطاً من الرجال والنساء، وقد شاهدت في أحد الموالد نساءً يصفقن ويتحركن مع رجال يضربون هذه الدفوف (النوبة) حتى انـتهين إلى أحد السرادقات المقامة وهن يصفقن على أصوات المديح، ويتحركن على صوت ضربات الطبول، إلى أن يستقبلهن شيخ ممسك بمسبحته وهو يهز رأسه استحساناً لهذا الصنيع"( ).

وانتقلت بدعة الاحتفال بالمولد النبوي إلى الاحتفال بموالد الصالحين والأولياء حتى صار "من الصعب أن نجد _ على مدار السـنة _ يوماً ليس فيه احتفال بمولد ولي بمكان بمصـر"( )، ومما يذكر هنا أن مولداً للبدوي عام: (1996م) حضره حوالي ثلاثة ملايـين زائر( ).

 الفصل الثالث المذاهب الفكرية المعاصرة، مصادرها وآثارها في الجانب العملي

 المبحث الأول: المذاهب الفكرية المعاصرة وعلاقتها بالغرب.

          يتكون هذا المبحث من مطلبين: الأول: الصراع بين الدين والعلم في الغرب، وأبين فيه أن المذاهب الفكرية إنما نشأت عند الغرب، وأن السبب الأساسي لظهورها في الغرب، هو: العقد النفسية الناتجة عن الحياة البعيدة عن المنهج الرباني، فسميت هذا المطلب بأبرز العقد النفسية التي أنتجت المذاهب الفكرية المعاصرة في الغرب، وهو الصراع بين العلم والدين في الغرب.

          والمطلب الثاني: قاعدة تأثر المغلوب بالغالب، أشرح فيه انتقال المذاهب الفكرية الغربية إلى المنبهرين بالحضارة الغربية من أبناء المسلمين، وأن سبب ذلك هو الاقتناع بما لدى الغرب من حضارة مادية، تبع ذلك انبهارٌ بالمذاهب الفكرية الشائعة لديهم، ظناً من المنبهرين أن الحضارة المادية التي توصل إليها الغرب، ناتجة عن الأفكار والمذاهب التي اعتنقوها.

المطلب الأول: الصراع بين الدين والعلم في الغرب:

لا يدرك أحد ما يصلح للبشر من اعتقادات أو عبادات ومعاملات سـوى خالق البشر، فعندما ينـزل الله ديناً من الأديان أو شريعة من الشرائع على عباده تكون هي الشريعة الصالحة وهي العقيدة الصحيحة التي لا ينبغي أن يغادرها الناس إلى غيرها، فإن خالفوها وحرفوا ما أنزل الله عليهم، فقد وكلوا إلى ما اخترعوه من عند أنفسهم، ولن يكون أصلح مما أنزل الله بحال.

          ولقد مر معنا فيما سبق إلى أي مدى تم تحريف الدين النصراني _ والعقيدة بالذات _، والقول بأن المسـيح هو ابن الله أضفى إلى الكنيسة نوعاً من القداسة، "قائمة على أساس أن المسـيح عليه السلام ذو طبيعتين إحداهما لاهوتية والأخرى ناسـوتية, ومن ثم فهو إله وبشر في ذات الوقت, وهو على هذه الهيئة وسـيط بين البشر ذوي الطبيعة الناسـوتية الخاصة والإله ذي الطبيعة اللاهوتية الخالصة!! فهو ليس رسـولاً يبلغ وحي الله للناس – كما هو الحقيقة – إنما هو حلقة وسـيطة تمر بها مشاعر الناس وأعمالهم لكي تصل إلى الله, كما تمر من خلاله كلمة الله إلى الناس!

وقائمة – من بعد – على أساس أن الكنيسة هي وريثة المسـيح, ومن ثم فإن لها ذات الوضع وذات السلطان الذي كان للمسـيح, فهي مقدسة, و "قداسة" البابا – ومن يكل الأمر إليهم من الكرادلة وغيرهم – هم الوسطاء الذين تمر بهم مشاعر الناس وأعمالهم لكي تصل إلى الله, كما تمر من خلالهم كلمة الله إلى الناس!!"( )، وعلى هذا فكل ما تأمر به الكنيسة من الأوامر أو تنهى عنه من النواهي، وكل ما تقره من العقائد هو مستمد من تلك القداسة المستمدة في الأصل من عقيدة بنوة المسـيح لله.

تلك القداسة التي اكتسبتها الكنيسة هي التي جرأتها على الطغيان الذي قامت به في ما يطلقون عليه (القرون الوسطى)، أو (عصور الظلمات)، وهو الوقت نفسه الذي كان المسلمون يتمتعون فيه بالحرية في التفكير، ووحدة الكلمة، والسمعة العالية بين شعوب الدنيا.

مارست الكنيسة تبعاً لذلك التفويض الإلهي الذي أعطاه بولس لها( ) أنواعاً من الطغيان، فلم يقتصر الطغيان الذي مارسته على الطغيان الروحي المصرح لها به، بل مارست طغيانها في جميع أشكال الحياة المادية.

فمن الناحية الدينية (الروحية) برزت وصاية الكنيسة على العقول النصرانية في أوروبا فلا مناقشة في أمور الدين، فلا يجوز السؤال عن العقيدة التي تمليها المجامع، الواجب هو الإيمان والتسليم دون اعتراض أو نقاش( )، الله هو الآب وهو الابن وهو روح القدس، واحد، وهو في نفس الوقت ثلاثة، والذي يسأل كيف؟: هذا خارج على تعاليم الكنيسة، كافر بالرب. كان هذا هو جزء من طغيان الكنيسة في الغرب على عقول الناس، وكان الناس _ وخاصة من اختلط منهم بالمسـلمين _ يرون الفارق بين وضوح العقيدة لدى المسـلمين، وتوحيد المشرع عندهم، وبين ممارسات الكنيسة، كانت المعاهد الإسلامية تدرس العقيدة وتطرحها طرحاً مبسطاً، ثم ترد على الشبهات الواردة في طريقة شرعية عقلية غير متسلطة، بغض النظر عن كونها مأخوذة عن الوحي _ وهو الغالب _ أو متأثرة بالعقليات الفاسدة كعلم الكلام أو الفلسـفة أو غيرها؛ فإن الذي كان ينظر إليه الأوربيون ويعجبون به هو: تحرر العقيدة لدى المسـلمين من وصاية  البشر.

          كما يهمنا في هذا الشأن تسلط الكنيسة و(رجال الدين) في الجوانب العلمية التجريبية والتي كانت تتوهم الكنيسة أنها تعارض الدين _ أو أنها تعارض دينهم المحرف فعلاً _، وبالفعل كانت معارضة الاكتشافات العلمية لبعض المسلمات الكنسـية سبباً في ثورة الكنيسة على هذه العلوم وعلى أصحابها.

          يقول أبو الحسـن الندوي _ رحمه الله _: "من أعظم أخطاء رجال الدين في أوروبا، ومن أكبر جنايتهم على أنفسهم، وعلى الدين الذي كانوا يمثلونه، أنهم دسـوا في كتبهم الدينية المقدسة معلومات بشرية، ومسلمات عصرية، وعن التاريخ والجغرافيا والعلوم الطبيعية، ربما كانت أقصى ما وصلوا إليه من العلم في ذلك العصر، وكانت حقائقَ راهنة لا يشك فيها رجال ذلك العصر. ولكنها ليست أقصى ما وصل إليه العلم الإنساني، وإذا كان ذلك في عصر من العصور غاية ما وصل إليه علم البشر، فإنه لا يؤمن عليه التحول والتعارض؛ فإن العلم الإنساني متدرج مترق، فمن بنى عليه دينه فقد بنى قصراً على كثيب مهيل من الرمل. ولعلهم فعلوا ذلك بنية حسـنة، ولكنه كان أكبر جناية على أنفسهم وعلى الدين، فإن ذلك كان سبباً للكفاح المشؤوم بين الدين والعلم، الذي انهزم فيه ذلك الدين _ المختلط بعلم البشر الذي فيه الحق والباطل، والخالص والزائف _ هزيمة منكرة، وسقط رجال الدين سقوطاً لم ينهضوا بعده، وشر من ذلك وأشأم: أن أوروبا أصبحت لا دينية. ولم يكتف رجال الدين بما أدخلوه في كتبهم المقدسة، بل قدسـوا كل ما تناقلته الألسـن واشتهر بين الناس، وذكره بعض شراح التوارة والإنجيل ومفسريهما من معلومات جغرافية وتاريخية وطبيعية، وصبغوها صبغة دينية، وعدوها من تعاليم الدين وأصوله التي يجب الاعتقاد بها، ونبذ كل ما يعارضها، وألفوا في ذلك كتباً وتآليف، وسموا هذه الجغرافية التي ما أنزل الله بها من سلطان (الجغرافية المسـيحية)، وعضوا عليها بالنواجذ، وكفَّروا كل من لم يَدِن بها"( ).

          كما أن هناك سبباً آخر في تلك المعارضة من رجال الكنيسة للعلم ورجاله وهو أن العلم التجريبـي الجديد قادم من الشرق وفي التسليم له إذعان للإسلام الذي هو دين العلماء الذين جاءوا بهذا العلم التجريبـي.

فقامت الكنيسة بممارساتها التعسفية، ضد كل من يحاول الطعن في الدين _ بزعمهم _ بعمل تلك التجارب، أو النظر عبر الأفلاك لاكتشاف الكون، فقتلت من قتلت، وأحرقت من أحرقت من العلماء( ).

تقول (زغريد هونكه)( ): "إن القسس كانوا يلعنون كل من قال بكروية الأرض، ومن تقبل التعليل بأسباب طبيعية لفيضان أو بزوغ كوكب، أو شفاء قدم مكسـور"( ).

"وقد اخترع رئيس بلدية في ألمانيا مصباحاً يعمل بالنفط، فحكمت الكنيسة بكفره بحجة أن الله خلق الليل مظلماً والنهـــار مـنـيـراً، وهذا الرجل يبدل في خلق الله، فيجعل الليل كالنهار"( ).

"ويقدر أن من عاقبت الكنيسة يبلغ عددهم ثلاثمائة ألف، أحرق منهم اثنان وثلاثون ألفاً أحياء، كان منهم العالم الطبيعي (برونو)، نقمت منه الكنيسة آراءً من أشدها قوله بتعدد العوالم، وحكمت عليه بالقتل، واقترحت بأن لا تراق قطرة من دمه، وكان ذلك يعني أن يحرق حياً، وكذلك كان"( ).

و"كانت الكنيسة آخذة بنظرية (بطليموس) التي تجعل الأرض مركز الكون، وتقول: إن الأجرام السماوية جميعها تدور حولها. فجاء القسـيس (كوبرنيق) بنظرية تقول بخلاف النظرية القديمة، التي جعلتها الكنيسة ضمن معارفها الدينية، وشرح نظريته في كتابه (حركات الأجرام السماوية). وطبع كتابه هذا، فثارت ثورة الكنيسة ضده، وقبل أن يساق إلى محكمة التفتيش أدركته منيته، فحرمت الكنيسة هذا الكتاب، ومنعت تداوله، وقالت: إن ما فيه هو وساوس شيطانية مغايرة لروح الإنجيل. وبعد عدة سـنوات ظهر (جاليليو) الذي توصل إلى صنع المنظار الفلكي (التلسكوب) فأيد بمشاهداته نظرية (كوبرنيق) وقال بدوران الأرض. فسـيق إلى محكمة التفتيش، وحكم عليه سبعة كرادلة بالسجن، وفرضوا عليه تلاوة مزامير الندم السبعة مرة كل أسبوع طوال ثلاث سـنوات. ولما خاف (جاليليو) من المصير الذي انـتهى إليه (برونو) أعلن توبته، ورجع عن رأيه، وركع أمام رئيس المحكمة قائلاً: أنا جاليليو وقد بلغت  السبعين من عمري سجين راكع أمام فخامتك: والكتاب المقدس أمامي ألمسه بيدي، أرفض وألعن وأحتقر القول الإلحادي المخطئ بدوران الأرض. وتعهد للمحكمة بأن يبلغها عن كل ملحد يوسـوس له الشيطان بتأيـيد هذا الزعم المضلل"( ).

كل ذلك في الوقت الذي كان يزخر فيه الشرق الإسلامي بكل أنواع العلوم النافعة، وأوروبا على مرأىً ومسمع، والنفوس قد امتلأت كراهية لذلك الدين الذي يحبس الإنسان عن العلم والتطور والمضي في ركب الحضارة( ).

إن طبيعة الإنسان لا تقبل الوصاية العقلية أو الاعتقادية، أن تقوم الكنيسة بالتسلط على أموال الناس، قد يكون ذلك أمراً مقبولاً إذا اقتنع الناس بقداسة الكنيسة، أو أن تفرض الكنيسة سـياستها على الأوربيـين فرضاً، لا ضير في ذلك ما دامت أنها تستمد مصداقيتها من لاهوتية المسـيح (ابن الله)، ولكن أن تقوم الكنيسة بفرض ما تفرضه من عقائد تقررها في المجامع الكنسـية، ولا نقاش فيها، ذلك أمر فيه غضاضة، وأشد منه نفوراً أن تكون الكنيسة حائلاً بين عقول الناس وبين ما يرونه أمامهم من اكتشافات، وتقول لهم الكنيسة: كل ذلك حرام كل ذلك يبعد عن الله، فلا تطور ولا تقدم في سباق الحياة بين الشعوب، كل ذلك أحدث الصراع بين العلم والدين في الغرب.

إن الصراع بين الدين والعلم في الغرب هو  أحد الصراعات التي كانت قائمة بين الدين المحرف ومظاهر الحياة الغربية؛ فهناك الصراع بين الدين والحياة الاقتصادية، والصراع بينه وبين رجال السـياسة، والصراع بين الدين المحرف وبين العقل الذي بدأ يحس بأن عليه أن يتحرر من ربقة العبودية الفكرية للكنيسة، ولكن طغيان الكنيسة العلمي يظل له أكبر الأثر على الأحداث بعده؛ فإن التقدم العلمي الهائل والسريع الناشئ عن التقاء الغرب بالحضارة الإسلامية( ) كان له أكبر الأثر في كشف زيف المعطيات الكنسـية، التي زادت في الدين وغلت في جوانب فيه،) وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)( )، ولكن الكنيسة لما رأت ذلك التصادم بين العلم الحديث والذي قد يكون قائماً على مسلمات علمية جديدة: عملت على محاربة العلم، وفي الحقيقة لو كان الدين الذي يبشر به الرهبان في ذلك الوقت صحيحاً لكان من المستحيل أن يتصادم مع المسلمات العلمية؛ فإن ما جاء من عند الخالق لا يمكن أن يتصادم مع ما خلقه الخالق نفسه.

والنتيجة الطبيعية لهذا الصراع هو الثورة... الثورة على الدين، ما دام أن الذي يقف حائلاً أمام العلم هو الدين متمثلاً في الكنيسة ورجالها وكل ما يأمر به رجالها، ولكنها كانت ثورة على الدين ككل؛ وذلك لأن الصراع في أوروبا بين العلم والدين أنشأ لدى الأوروبيـين تصوراً قاتماً تجاه الدين، وهو أن الدين في مواجهة العلم دائماً، ولا يمكن تصور دين متفق مع العلم، ولم ينـتبه الأوربيون الغاضبون إلى أن تلك البدهيات المدخلة إلى الدين والتي تعارضت مع العلم هي من صنع البشر، ومن تحريف الكنيسة لدين الله _ الذي كان يوماً من الأيام ديناً يصلح لمن أنزل عليهم من البشر _ كقضية السلطان اللاهوتي المعطى للكنيسة، وهو داهية الدواهي، فلم يفكر الغربيون بنـزع ذلك السلطان، بقدر ما فكروا بنـزع الدين نفسه من التطبيق في مجالات الحياة البشرية كلها بل بالكفر به تماماً.

يقول الشيخ محمد قطب: "ولقد بدأت نذر الثورة على الكنيسة ورجال الدين، وعلى الدين المزيف الذي تقدمه الكنيسة، بدأت منذ (عصر النهضة)( )، وبدأ الكتاب يتمردون على سلطان الكنيسة الطاغي ويهاجمون رجال الدين، بل يهاجمون كذلك خرافات ذلك الدين الكنسـي ومعمياته. ولكنها كانت أصواتاً متناثرة، فظن القوم أنهم قادرون عليها وعلى إسكاتها. كانت هذه الأصوات تهز النائمين ليصحوا .. تزيل عنهم تبلد نفوسهم .. وتزيل (الأمر الواقع) من حسهم، وتشعرهم أن التغيـير ممكن، وأن هذا الأمر الواقع ليست له صفة الخلود، ولا هو كذلك في منعة من النقد والتجريح.

وبذلت الكنيسة جهدها في محاولة إسكات هذه الأصوات، مستخدمة في ذلك نفوذها على قلوب الناس وعقولهم وأرواحهم، وسلطانها (التقليدي)الذي كانت تأمر به فتطاع، وينظر إلى كلمتها على أنها موضع التقديس .. لأنها مرتبطة في حس الجماهير بالدين .. وما أعظم سلطان الدين على النفوس، كما استخدمت محاكم التفتيش حين اشتد فزعها وخافت على ما في يدها من السلطان. ولكن رويداً رويداً زادت الأصوات عدداً، وزادت جرأة، وزادت استخفافاً بالجبروت. علماء .. ومفكرون .. وفلاسفة .. مصلحون .. وحاقدون! حاقدون على سلطان الكنيسة الطاغي وما تتمتع به من المزايا بغـير استحقاق .. وكان حجم الطغيان هائلاً مخيفاً، وكان له في الأرض تمكن طويل يبلغ عدة قرون. ولكن في النهاية حدث الانفجار! وكان بشعاً في شدة انفجاره، بشعاً في سرعة اكتساحه، بشعاً في قسـوة الحمم الذي تفجر من بركانه.

واكتسحت الثورة الفرنسـية في طريقها ما كان تراكم من المظالم خلال ألف وأربعمائة عام! وأزالت الطبقتين الحاكمتين الطاغيتين المتحالفتين! رجال الإقطاع (الأشراف!) ورجال الدين!"( ).

وهكذا صار الدين نفسه عقدة في ضمائر الأوربيـين( )، ومثلهم كمثل الذي أكل طعاماً رديئاً فسبب له تسمماً في معدته، فعالج نفسه بأن امتنع عن الطعام كلياً؛ لأنه أصابته عقدة التألم بسبب نوع رديء من الطعام الفاسد، فصمم هذا على ترك الطعام بكل أنواعه، إن هذا الشخص نلحظ فيه أمرين: الأول أن مرضه أورثه مرضاً نفسـياً آخر، هو أعتى من المرض الذي كان يعاني منه، ويمكن أن نسميه: عقدة الألم. والثاني أن هذا الشخص لن يعيش طويلاً، فحاجته للطعام ماسة وعقدة الألم لن تشفع له في تخليصه من الجوع الذي واجهه أو سـيواجهه، وسـيموت، سـيموت بفكرته الفاسدة، وتموت معه عقدته قريباً.

فقامت الثورة الفرنسـية( )، وكان شعارها: (اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسـيس)، هذا الشعار يبين كذلك أثر الإقطاع( ) _ الذي صادقت عليه الكنيسة _ على الشعوب الأوروبية، ويلاحظ في هذا الشعار حنق الناس على رجال الدين الذي زاد على حنقهم على الحكم الإقطاعي، الذي اضطرهم للعيش تحت مستوى الفقر( )؛ وذلك من خلال تقدم قتل القسـيس على قتل الملك، فتم نبذ الدين قبل نبذ السـياسة الظالمة المستمدة من الدين.

وما زالت عقدة الدين راسخة في عقول الغربيـين يقول الشيخ محمد قطب: "فقد حدثني رجل إنجليزي متخرج في (أكسفورد)، ويعمل أخصائياً في مؤسسة اليونسكو، وهي مؤسسة ثقافية! زار مصر منذ سـنوات، وجرت بيني وبينه عدة مناقشات، فقال : إنه لا يحب الروحانية لأنه يحب أن يستمتع بالسفر بالطائرة، والاستماع إلى المذياع !! فقلت له مدهوشاً: وماذا يحملك على ترك هذا المتاع حين تؤمن بالروحانية ؟ قال: أو ليس يقتضي ذلك أن أعود إلى الخيام ؟!"( )، فالتعارض بين العلم والدين وبين المدنية والتدين قائم في عقولهم، كما أن هناك تلازم _ في اعتقادهم _ بين التدين والتخلف الذي كان في عصر الإقطاع.

إن اللادينية التي نشأت بعد الثورة الفرنسـية( ) هي ما يعبر عنه الناس اليوم بالعلمانية، فالعلمانية إقصاء للدين وكفر بالله، إن هذا الكفر وهذه الظلمات ما كانت لتنشأ عنها إلا الضلالات، فإن الذي يمشي في الظلام الدامس ليس كالذي يمشي ومعه مسكة من نور، وربما كان الدين النصراني المحرف على ما فيه من تحريف وتبديل يضيء بعض الطريق لهؤلاء فيقيهم شر التخبط، ولكن بعد الكفر بالأديان، لم يعد ثمة سـوى التخبط والهذيان، فنشأت المذاهب الفكرية الكفرة التي ما أنزل الله بها من سلطان، لتسد الفراغ الروحي الذي أحدثه غياب الدين، وهكذا نشأت كثير من المذاهب الفكرية القائمة على فلسفات جديدة وقديمة، تحاول تلك الفلسفات أن تفسر الإنسان ووجوده والحياة التي يعيشها الإنسان، وكيف ينبغي أن يمارسها.

المطلب الثاني:  تأثر المغلوب بالغالب:-

في العصور الوسطى وهي التي تسمى بعصور الظلمات _ بالنسبة للغرب _ كان الشرق الإسلامي قد ازدهر بالعلم بشتى أشكاله، وأخذ الغرب ينهلون من علوم المسـلمين، يقول الشيخ محمد قطب: "فحركات الإصلاح الديني التي تمردت على سلطان البابوية الطاغي كانت متأثرة بالإسلام.. وحركات التمرد على سلطان الإقطاع الطاغي، الذي يجعل أمير الإقطاعية هو السلطة التشريعية وهو السلطة التنفيذية وهو السلطة القضائية في آن واحد، كانت متأثرة بالإسلام. ومحاولة التجمع في أمة ذات قانون موحد يحكم في جميع أرجائها بالسـوية، ويخضع الناس فيه لنظام موحد كانت متأثرة بالأمة الإسلامية الموحدة، وإن كانت أوربا لم تفلح في هذه المحاولة إلا في حدود القومية الضيقة، لا في حدود الأمة الموسعة. والنظام الجامعي الغربي مأخوذ من الجامعات الإسلامية بما فيه من ضرورة إشراف الأستاذ على الطالب حتى يتخرج على يديه، وتوجيهه للمراجع التي يرجع إليها، ومناقشته فيما حصل منها للاطمئنان على قدرته على التحصيل قبل إعطائه الإجازة التي تجيز له أن يبدأ في تعليم غيره، بل إن الروب الجامعي وغطاء الرأس المكمل له هما تقليد لعباءة الأستاذ المسلم وعمامته، كما تأثر الأدب وتأثرت العمارة حتى عمارة الكنائس ذاتها إذ نقشت في بعضها _ بغـير علم _ عبارات منقولة من المساجد الإسلامية، وذلك كله فضلاً عن المنهج التجريبي في البحث العلمي وما أُحدث في أوربا من انقلاب كامل في طريقة التفكير"( ).

وبعد انشغال المسـلمين بالحروب والفتن التي وقعت بينهم، ضعف المد العلمي الذي كان يأتي من الشرق الإسلامي، فواصل الغرب العلماني عجلة السـير العلمية.

وما اكتشفه الغربيون من العلوم كانوا مبتدئين فيه من حيث انـتهى المسلمون؛ ولذلك كانت اكتشافاتهم متميزة بالسرعة، فالقاعدة العلمية موجودة والأصول مؤصلة، ولم يبق عليهم سـوى إكمال المسـيرة.

وتمت الاكتشافات العلمية بأسرع مما كان يتصور العالم، وتقدم الغرب في شتى المجالات، ومنها المجالات الحربية والعسكرية، فحين كانت الآلة العسكرية العثمانية متمثلة في المدفعية العثمانية أقوى مدفعية في العالم( )، توقف المسلمون عن تطوير أجهزتهم الحربية لتتفوق أوروبا عليهم من الناحية العسكرية ولذلك منيت الجيوش العثمانية بهزائم كبيرة في شرق أوروبا وخسرت كثيراً من ممتلكاتها هناك.

وتفوقت أوروبا في أكثر النواحي حتى اقتسم الأوربيون أجزاء الدولة العثمانية الممزقة.

وابتعث المسلمون إلى هناك إلى حيث العلمانية اللادينية، إلى حيث المذاهب الفكرية التي لم تنشأ إلا على أنقاض الدين ولم تنشأ إلا بعد التنكر للخالق، والكفر به.

إن الحضارة الغربية كانت حينئذ في تقدم باهر، انبهر به أبناء المسـلمين، حتى قال قائلهم: "سبيل النهضة واضحة بينة مستقيمة ليس فيها عوج، ولا التواء، وهي: أن نسـير سـيرة الأوروبيـين ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً، ولنكون لهم  شركاء في الحضارة خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يُحب منها وما يكره، وما يحمد منها وما يعاب"( )، ويقول أحد دعاة العلمانية الأتراك: "إنا عزمنا على أن نأخذ كل ما عند الغربيـين، حتى الالتهابات التي في رئيهم والنجاسات التي في أمعائهم"( ).

          ولا شك أن هذه العبارة لم تصدر إلا من نفسـية متأثرة بالوضع الذي وصل إليه الغرب من علو في الأرض وإحساس بالغَلَـبة وتفوُّقِ الآخر، وهو السبب لهذه التبعية العمياء، يقول الكاتب عبد المنعم النمر: "ويصحب هذا كله عامل نفساني قوي، كثيراً ما وَجَّـهَنا في حياتنا توجيهاً قوياً بل إني لأستطيع أن أقول إنه العامل المسـيطر علينا الآن المتحكم في آرائنا وأفعالنا وأعني به عامل التقليد وحب المحاكاة للغربيـين وعدم المبالاة بتقاليدنا وآرائنا الدينية! وهذا العامل النفسـي يسـيطر على حياة الأمم الضعيفة المغلوبة على أمرها كما يسـيطر على حياة الأفراد الضعفاء سـيطرة تدفعهم إلى الفناء في شخصية القوي، ونحن نشاهد أن هذا العامل النفساني له تأثير كبير على حياتنا أكثر من أي عامل آخر، فنحن نخضع له خضوعاً لم يحظ به أي عامل آخر من دين أو دنيا, فالأفكار الغربية بل والسلع الغربية مفضلة عندنا على أفكارنا وسلعنا, ننظر إليها بمنظار حسـن ونحيطها بسـياج من الثقة والإكبار يدفعنا إلى التوفر عليها تاركين أفكارنا الخاصة، ومنتجاتنا الوطنية مهما كانت أفكارنا سليمة وبضاعتنا متينة، فالإلحاد وعدم الاعتراف بالدين ومبادئه طغى على أفكارنا أياماً حتى عد ذلك مظهراً من مظاهر الرقي والنهوض، وطابعاً من طابع التفكير الحديث السليم!! لأن ذلك كان طابعاً للغرب في وقت من الأوقات ونحن تصل إلينا منتجات الغرب أحياناً متأخرة، وتبادل الزوجات والأخوات للرقص معهن في الحفلات العامة أصبح من مميزات الرقى والنهوض في نظر بعض الطبقات؛ لأن الغربيـين يعملون ذلك فلا بد أن نجاريهم ولو كان ذلك لطمة قوية لديننا وتقاليدنا, لأن الدين والتقاليد رجعية قديمة لا تليق بحضاراتهم! وتطويل الثياب وتقصيرها وطريقة تفصيلها راجع إلى تقاليد الغرب وبيوت (الموضات) فيه لا إلى الدواعي القويمة من ديننا وبيئتنا، فيمكن تطويل الثياب( ) لأن ذلك وحي باريس أو لندن فقط ولا يمكن تطويلها لأن ذلك من وحي الإسلام والقرآن! وهكذا كل شأن من شئوننا يسـيطر عليه عامل التقليد بشكل مخيف . التقليد لأناس لا يتفقون معنا في الدين أو اللغة أو الجنس أو البيئة"( ).

فكان كل تقدم مقترن لدى المنبهرين بالغرب بما وصل إليه الغربيون من الحضارة المادية الباهرة، وكل خطوة يخطوها هؤلاء يكون الغرب الأسـوة والمثل الأعلى فيه، والذي ترنوا إليه قلوبهم ونفوسهم بعد ما أشربت الذل والانقياد واقتنعت بأنها المغلوبة والتي لا بد أن تمشي في ركاب النهضة. ولذلك لما توصل كمال أتاتورك إلى الرئاسة "ألقى بعد انتخابه رئيساً للجمهورية خطاباً قال فيه: بفضل هذا النظام الجديد ستنجح أمتنا في أن تظهر مناقبها وخصائصها أمام العالم المتحضر, ولسـوف تبرهن الجمهورية التركية, فعلاً لا قولاً, أنها جديرة بالمكانة التي تحتلها في العالم"( )، وعمل بعد ذلك على تغريب الدولة العثمانية التركية ومسخ هويتها الإسلامية جرياً وراء اللحاق بركب التقدم والحضارة.

والحقيقة أن المذاهب الفكرية الغربية إنما أنتجتها مجموعة من العقد والأمراض النفسية التي عاشها الغرب النصراني، إبان عصر الإقطاع، فكانت هناك صراعات اجتماعية داخلية عديدة يتزعمها رجال الدين والإقطاعيين من جهة، والعامة والعمال من جهة أخرى، فلا ينبغي أن نجعلها مشكلة لنا، وأن نتوهم أن لدينا من الأمراض الاجتماعية مثل ما عندهم.

يقول سلامة موسى وهو يعرض مشكلة المجتمع الغربي ويخلط بينه وبين المجتمع الإسلامي والذي لا يعاني من شيء مما قال: "تعدد مشكلاتنا يوهم اختلافها في الأصل وأنها لا يتصل بعضها ببعض، ولكن المتأمل المفكر يستطيع أن يجد النقطة البؤرية لجميع هذه المشكلات والنقطة البؤرية الوحيدة هنا هي أن نظامنا الإقطاعي في نظرته للعائلة ومركز المرأة والأخلاق الأبوية والنظرة الاجتماعية، كل هذا يعود إلى مشكلة واحدة هي أن آراءنا الإقطاعية القديمة لم تعد تصلح للحياة العصرية وأن متاعبنا وأرزاءنا واصطداماتنا تنبع من هذا الكفاح الذي نكافحه نحو حياة ديموقراطية جديدة نتخلص بها من الحياة الإقطاعية القديمة"( )، وهذه في الأصل هي مشكلة المجتمع الإقطاعي الغربي وليست مشكلة الشرقيـين المسـلمين بحال، ولكنه هنا كمن يتظاهر بالمرض ويطلب الدواء؛ لا لشيء إلا لأنه رأى مريضاً (حقيقياً) يتناول دواءً _ ربما يشفيه وربما يزيد في مرضه _، وهو في ذلك كله لم يكن مريضاً حقيقياً من جهة الأصل، ثم إنه لم يحاول أن يعرض الدواء الذي يتناوله المريض الحقيقي على طبيب حاذق، والطبيب الحاذق الذي كان ينبغي أن يعرضه عليه _ هنا _ هو الوحي السماوي الصحيح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

          فمن تبع الغرب من أبناء المسلمين في تبني المذاهب الفكرية المعاصرة المأخوذة عن الغرب، فقد تشبه بهم في الأمراض التي مرت بهم، وكان أخذه بتلك المذاهب الفكرية المعاصرة علاجاً وهمياً لها.

ولا زال بعض المسلمين يتغنى بما وصل إليه الغربيون من الحضارة التقدمية السريعة، وينادي بأفكارهم، اقتناعاً منهم بتلك الآراء والأفكار التي أحدثها الأوروبيون في حياتهم علاجاً لما وقعوا فيه من حيرة وتخبط، وكان يكفيهم أن يأخذوا بما توصل إليه الغرب من التقنية المادية، وترك ما عندهم من زبالة الأفكار والمذاهب الهدامة، التي لم تزدهم إلا حيرة وضلالاً.

 المبحث الثاني: مظاهر تأثر المسـلمين بالعلمانية في الجانب العملي:-

تقدم في الفصل الأول من هذا الباب تعريف العلمانية، وأنها اتخذت شكلين: العلمانية الملحدة (اللادينية)، والعلمانية التي تؤمن بوجود الله إيماناً ظاهراً وتحصر الدين في نطاق ضيق وتعمل على فصل الدين عن مظاهر الحياة، وكل ذلك نتيجة الصراع بين الإقطاع والكنيسة من جهة وبين الشعوب الغربية من جهة أخرى.

          إن العلمانية التي انتقلت إلى العالم الإسلامي، لم تعرف في العالم الغربي النصراني بهذا الاسم، ولكن لما دخلت العلمانية (Secularism) إلى بلاد المسـلمين، عربت تعريباً خاطئاً؛ فإن لفظ العلمانية ليس له علاقة بتعريفها وأصل هذا اللفظ باللاتينية هو الاسم: (secular وهو يعني ثلاثة معاني: 1- دنيوي، 2- غير ديني، 3- مدني( )، فكان الأولى أن تسمى بـ (اللادينية)، وقد حاول دعاتها في المشرق محاكاة الغرب في اللادينية التي توصلوا إليها؛ فإن الأحداث التي وقعت في الغرب وأدّت إلى العلمانية، لم يكن لها نظير في العالم الإسلامي، ولذلك فالتعبير الأوضح والأقرب إلى الواقع أن نقول: (افتعلت) العلمانية في العالم الإسلامي؛ فإن العالم الإسلامي لم يمر يوماً من الأيام بنفس الظروف التي مر بها العالم الغربي ولم توجد العلمانية في العالم الإسلامي كردة فعل للشعوب الثائرة، بل افتعلت العلمانية بين المسـلمين افتعالاً؛ فإن اسم العلمانية يوحي بأن السبب في مفارقة الدين والبعد عنه هو العلم المظلوم من الدين وهذا لم يحصل أبداً في العالم الإسلامي منذ فجر التاريخ؛ فإنه لم يحصل ثَـمَّ صدام بين علماء المسلمين وبين العلم التجريـبي لدى الباحثين المسلمين، إذن فما هو الشيء الذي انتقل من الغرب تحت غطاء اسم العلمانية ؟! إن الشيء  الذي انتقل من بلاد الغرب إلى العالم الإسلامي _ من أطروحات العلمانية في الغرب _ هو اللادينية أو محاولة حصر الدين وإقصائه عن شؤون الحياة، وأما الصراع _ وهو أمر جوهري في العلمانية الغربية _ فلم ينتقل بل افتعل افتعالاً بعد أن انتقلت اللادينية بسبب الإعجاب بالغرب والانبهار بالحضارة الغربية، ولهذا فإذا كان من الصحيح أن نصف اللادينية الغربية بالعلم فنقول (علمانية)، فإنه ليس من الإنصاف أن نسميها بنفس الاسم في العالم الإسلامي، فهي في العالم الإسلامي لادينية وليست علمانية بشكل من الأشكال.

ولذلك فنحن إنما نعبر عن هذه اللادينية بلفظ العلمانية لشهرتها بهذا الاسم. والذي جعل أدعياء العلمانية في العالم الإسلامي يعبرون عنها بلفظ العلمانية _ دون لفظ (اللادينية) _ رغم أنه لا صراع بين العلم والدين في الإسلام؛ هو أنهم لما حاولوا نقل اللادينية الغربية إلى بلاد المسـلمين لم يكونوا في موقف القوة إلى حد التعبير بلفظ (اللادينية)؛ فبعض بلاد المسـلمين نجدها تحكم بالشريعة الإسلامية، وعلى هذا تكون الدعوة إلى اللادينية جهاراً نهاراً أمراً صعباً أو متعذراً، وإن كان ربما يعتبر ذلك أمراً مرحلياً، فقد تأتي على البلاد التي تحكم بالإسلام فترة ضعف، بسبب النخر اللاديني أو غيره من أسباب الضعف، وعندها ربما تكون تلك هي فرصة اللادينيـين في التصريح باللادينية التي يعتنقونها، ويعبرون عنها بلفظ العلمانية.

كما أن الشعوب الإسلامية التي حكمت بالإسلام منذ قرون طويلة، لن تجد لفظ (اللادينية) لفظاً مقبولاً، وستجد جهود العلمانيـين في الإصلاح المزعوم استهجاناً واسعاً ما دام أن الهدف المعلن هو (اللادينية)، فلذلك كله اتخذت تلك اللادينية الغربية من  العلمانية شعاراً، وعملت على الظهور بأشكال متعددة قد تكون أشد قبولاً وأقل نفوراً من المسـلمين.

ولذلك فقد ظهرت العلمانية في العالم الإسلامي بأشكال تبين مدى التأثر بالواقع الغربي زمن الثورة الفرنسـية، وتحمل نفس العُقَد التي نشأت في أذهان الشعوب النصرانية إبان الحكم الإقطاعي والتسلط الكنسـي، ومن تلك الأشكال التي تشكلت بها العلمانية في العالم الإسلامي: -

افتعال صراع بين العلم والدين على النمط الغربي:-

          يقول بعض الذين يتوهمون الصراع بين العلم والدين من العلمانين المنتسبين إلى الإسلام: "كيف ألتزمُ النظرة العلمية الصارمة، لأساير عصري، وأن أظل مع ذلك تواقاً إلى غيب وراء الشهادة، يتحقق لي فيه الخلود والدوام، لأظل محتفظاً بهذه السمة الغريبة في نظري؟"( )، وهو بهذا في حيرة من أمره كيف يجمع بين العلم والدين، متوهماً وجود صراع بينهما، وما ذلك إلا بتأثره بمعطيات الغرب الفكرية القائمة في عصر النهضة الحديثة( ) _ كما يسمونه _ على العداء المتوارث بين العلم والدين فعقدة الشعوب الأوربية المظلومة من اضطهاد الكنيسة تسللت إلى قلبه وفكره.

منذ بداية وصول العلوم الغربية إلى مصر "حاول محمد علي باشا( ) في أول الأمر أن يدخل العلوم الحديثة ضمن مناهج الأزهر، إلاّ أنه خشي معارضة الأزهريـين، فقام على الفور بإنشاء نظامه التعليمي الحديث، وهكذا انقسم التعليم في مصر إلى نظام ديني ونظام مدني حديث"( )، وفي الحقيقة ما كان الأزهر ليعارض التعليم الحديث إذا كان هذا العلم القادم من الغرب نقياً من الشوائب الاعتقادية والأخلاقية، وربما لم تكن لدى الأزهر الآلة التي تمكنه من تمحيص تلك العلوم البحتة من مما قد يشوبها من دنس الحضارة الغربية التي قامت على أساس لا ديني.

          ولكن العلم القادم من الغرب كان فعلاً يعج بالنظريات الفاسدة، والأفكار الفلسفية المنحرفة، ولكنه كان يراد له أن يؤخذ على عجره وبجره، فإن تصفيته من الشوائب تلزمنا بالرجوع إلى معايـير وأخلاقيات الإسلام، وهو الشيء الذي لم يكن يعجب المنبهرين بالحضارة الغربية اللادينية التي اكتوت بنار الدين المحرف، فقد نشأت في أذهانهم نفس العقدة، فحاولوا افتعال صراع آخر بين العلم والدين، ولكنه هذه المرة بين الدين الصحيح وبين العلم، يقول: (طه حسـين): "سبيل النهضة بينة واضحة مستقيمة ليس فيها عوج، ولا التواء، وهي: أن نسـير سـيرة الأوروبيـين ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً، ولنكون لهم  شركاء في الحضارة خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يُحب منها وما يكره، وما يحمد منها وما يعاب"( )، ويقول أحد دعاة العلمانية الأتراك: "إنا عزمنا على أن نأخذ كل ما عند الغربيـين، حتى الالتهابات التي في رئيهم والنجاسات التي في أمعائهم"( )، هنا نلمس افتعالاً للصراع بين العلم والدين، وإلا فما هي الفائدة من أخذ كل ما عند الغربيـين من خير أو شر مع الاعتراف بأن منها ما هو شر محض، ولا دليل على هذا الاعتراف أعظم من تسميته بالنجاسات، إن السبب الوحيد لعدم التفريق بين الخير والشر اللَّذين عند الغربيـين وأخذهما معاً في إناء واحد وفي لقمة غير سائغة: أن معيار قياس الخير والشر الذي عندهم هو الدين الذي عند المسـلمين، وهؤلاء _ العلمانيون _ لا يريدون الحديث عن الدين بل يريدون إقصاءه عن واقع الحياة، فإذا ميزنا ما عند الغربيـين على أساس الدين لم يكن لإقصاء الدين معنى، ومن ثم لا يكون للادينية التي يرومونها وجود. ولذلك نلحظ أن مثل هذه العبارات التي تدعو إلى أخذ كل ما عند الغربيـين من خير أو شر (بهذا الإطلاق) قلَّت بشكل ملحوظ؛ فلم يعد العلمانيون يحتاجون إليها بعد إدخال معايـير أخرى ومقايـيس صار المسلمون يقيسـون بها الأمور لمعرفة الخير من الشر؛ فقد صارت هناك معايـير أخرى كالعادات الاجتماعية والمصالح الوطنية والقومية والعقلانية والفلسفات الاقتصادية كالشيوعية وغيرها، وذلك بعد أن لم تكن لدى جمهور المسـلمين معايـير غير الدين المنـزل من عند الله.

ولكن ما إن جاءت سـنة 1961م حتى استطاع دعاة اللادينية أن يدخلوا التعليم المختلط على الأزهر نفسه( )، وبذلك تم الانـتهاء من الخطوة الأولى في طريق علمنة الأزهر، ومن ثم بقية المؤسسات التعليمية الأخرى.

وهكذا صيغت قوانين تطويع الأزهر باسم تطويره( ) تباعاً من عام 1936م إلى عام 1976م، وكان من نتيجة هذا التطوير "إلغاء (تخصص القضاء الشرعي) من كلية الشريعة، حتى تموت المحاكم الشرعية موتاً أبدياً في المستقبل لا حياة بعده"( ).

وكان من نتيجته أيضاً "إدخال القانون الوضعي في صلب البرامج الدراسـية لكلية الشريعة بجامعة الأزهر، وتسميتها: (كلية الشريعة والقانون) وكان يقصد بهذا العمل: تقريب الشقة بين الشريعة والقانون، وحل عقدة الرفض في الرؤوس والنفوس التي يخشى دائماً أن تنبعث منها قيادة فكرية جادة لحركة تحكيم الشريعة الإسلامية وإعادتها إلى التفرد بالهيمنة على شؤون الحياة"( ).

والواقع أن هذا العمل لم يكن نتيجة قناعات بحثية وعلمية منصفة بقدر ما كان وهماً من أوهام الانبهار بالحضارة الغربية، ومظهراً من مظاهر التشـبه بالكفار في مجال الفكر( ).

"ومن هؤلاء أيضاً: سلامة موسى، ففي كتابه: (اليوم والغد) يدعو إلى حمل مصر على الحضارة الغربية وطبعها بها، وقطع صلتها بماضيها الإسلامي، وإقامة الحكم والوطنية على أساس مدني، لا دخل فيه للدين، وتطوير اللغة العامية على حساب اللغة الفصحى"( ).

"وقد كان من أهداف أعداء الإسلام ما أوصى به مؤتمر القاهرة التنصيري المنعقد سـنة 1906م من وجوب إنشاء جامعة علمانية على نمط الجامعة الفرنسـية   لمناهضة الأزهر والذي قالوا أنه ((يتهدد كنيسة المسـيح بالخطر)) !.

وقد قام الأذيال بتنفيذ المهمة إذ أنه بعد انـتهاء المؤتمر بسـنتين تقريباً أسس سعد زغلول وأحمد لطفي السـيد وزملاؤهم الجامعة المصرية، وكان النص الأول من شروط إنشائها هو: ألا تختص بجنس أو دين بل تكون لجميع سكان مصر على اختلاف جنسـياتهم وأديانهم فتكون واسطة للألفة بينهم))"( ).

          وقبل ذلك في تركيا قام مصطفى كمال بتنفيذ خطة شاملة للثورة على الثقافة الإسلامية، فقام بإلغاء التعليم الديني عام 1350هـ 1931م، ثم وضع أنماطاً جديدة من التعليم تقوم على مناهج غربية بحتة( ).

وفي الهند تزعم السـيد أحمد خان( ) الحركة العلمية الهادفة إلى تحويل التعليم الإسلامي إلى تعليم غربي( )، فبنى لهذا الغرض وبمساعدة الإنجليز مدرسة في (عليكرة) سماها في البداية: (مدرسة المحمديـين) لتكون فخاً يصيدون به أبناء المسـلمين لتربيتهم على الأفكار الغربية( ).

وتم إدخـال ما لا عـلاقة له بالعـلم التجريبي إلى بعـض الكليات والمعـاهد فـي العـالم الإسـلامي كالرقص، والغناء، والموسيقى، والتمثيل، والنحـت، تحـت اسـم (الفـنون الجميلة)( )، وهي الأمور التي كان يمكن أن نخـرجها من بين العـلوم الغربية المفـيدة لو طبقنا طريقة التميـيز بين الخـير والشـر القادم من الغرب بمقياس الشـرع حـيالها.

يقول قاسـم أمين: "لعـل أكبر الأسـباب فـي انحـطاط الأمة المصرية تأخـرها فـي الفـنون الجميلة: التمثيل، والتصوير، والموسيقى... هذه الفـنون ترمي جميعـاً عـلى اخـتلاف موضوعـها إلى غاية واحـدة هي تربية النفـس عـلى حـب الكمال والجمال، فـإهمالها هو نقص فـي تهذيب الحـواس والشـعـور"( ).

          وفي إعـجاب كبير بما توصل إليه الغرب بثورتهم عـلى الأصولية (الدين)، وأذكر هذا الكلام بطوله لأنه يكفي في التعبير عن الإعجاب بالعلمانية، وماذا تعني العلمانية التي يعتنقها بعض من ينتمي إلى الإسلام في عصرنا، ومدى علاقتها بالعلمانية الغربية، وأنها صورة طبق الأصل منها، لقد قام الكاتب بشرح ذلك كله بإبداع فائق، كما أنه أعطانا صورة عن موقفه المتشبع بعشق العلمانية التي يسميها هو: (تنويرية)، ولكنها الظلام بحق، والله المستعان، يقول الكاتب هاشـم صالح : "فــي وقت تسـيطر فــيه مشـكلة الأصولية والأصوليـين على العالم كله لا أجد لي عزاء إلا أن أغطس فــي الزمن وأعود إلى الوراء لكي أرى كيف حلت أوروبا مشـكلتها مع أصوليتها. إن مشـكلة الأصولية هي مشـكلة المشـاكل، أم المشـاكل. ولن يسـتطيع المثقفــون العرب أو المسـلمون تشـخيصها وعلاجها إلا بعد مرور زمن طويل. إنها ســوف تسـتغرق خيرة جهودنا طيلة هذا القرن أو حتى منتصفــه على الأقل. إنها من الضخامة والاتسـاع بحيث تتجاوز مقدرة جيل واحد، وإنما يلزمها مرور عدة أجيال من أجل الإجهاز عليها أو التخلص منها. ولكن هذا لا يبرر لجيلنا أن يقف مكتوف الأيدي أمام ما يحصل. فــالمشـكلة لن تنحل من تلقاء ذاتها، وإنما ينبغي أن يضطلع بها المفــكرون من كافــة الاختصاصات والمشـارب. وإذا ما نظرنا إلى التجـربة الأوروبية في التنوير( ) وجدنا أنها كانت صعبة ومريرة. فالمعركة استغرقت ثلاثة قرون متتالية، كل فلاسفة أوروبا جيشوا طاقاتهم. إن كل مثقف عربي لا يعتبر مشكلة الأصولية بمثابة المشكلة الأساسـية لعصرنا ليس مثقفاً ولا يستحق هذه التسمية بأي حال. فالمثقف هو ذلك الشخص الذي يشعر بأنه مهموم بقضايا شعبه وأمته. فبدلاً من القراءة المنغلقة، بل والإرهابية التي يقدمها المتزمتون عن تراثنا الإسلامي، كان ينبغي أن نولد قراءة جديدة لنفس التراث كما فعل فلاسفة التنوير الأوروبي مع تراثهم المسـيحي. فلو أن هؤلاء الفلاسفة قالوا بينهم وبين أنفسهم: أن معظم شعبنا أصولي أو يتبع الأصوليـين في تفسـيرهم للدين، وبالتالي فينبغي علينا أن نلتحق بالشعب ونستسلم للمقادير.. لو قالوا ذلك لما حصل أي تطور في أوروبا. كانت أوروبا ستظل جاهلة، متخلفة، تتخبط في حروبها الأهلية والمذهبية حتى هذه اللحظة. فالوفاء للشعب يعني إنقاذ الشعب من تصوراته الخاطئة، والآن أطرحُ هذا السؤال: هل يستطيع مثقف عربي واحد أن يقول: إن العصر الذي نعيشه هو عصر مستنير؟ أقصد العصر العربي أو الإسلامي بالطبع وليس العصر الأوروبي، لأننا نعاصر الأوروبيـين زمنياً لا فكرياً ولا عقلياً، من يجرؤ على ادعاء ذلك؟ لا، إنه عصر الأصولية الظافرة، عصر الضجيج والعجيج، عصر طالبان وبقية الجحافل الزاحفة على التاريخ. أكثر ما نستطيع قوله هو أننا نحضر لعصر تنويري عربي ـ إسلامي مقبل. ذلك أن الموجة الحالية سـوف تنكسر أو تنحسر عما قريب. وبانحسارها سـوف يبزغ نور جديد يكاد يخطف الأبصار،( ) نور انتظرناه طويلاً: أي منذ عدة قرون!. ولكي نقدم مثالاً تطبيقياً على صحة هذا القول يكفي أن ننظر إلى القرن الذي سبق مباشرة عصر التنوير في أوروبا: أي القرن السابع عشر. فقد كان عصراً لاهوتياً خطيراً.. إنه العصر الذي شهد سـيطرة التيار المضاد للإصلاح الديني، العصر الذي حاكم (غاليليو)، وأجبر (ديكارت) على الهرب من فرنسا، وأرعب (سبينوزا).. إنه عصر الحروب المذهبية والأهلية التي اجتاحت أوروبا. إنه عصر الإرهاب اللاهوتي الذي لا يقل جبروتاً عن إرهاب طالبان أو بقية الأصوليـين الحاليـين. ومع ذلك، فبعده بعشرين سـنة فقط، دارت رحى المعركة بين التنويريـين والظلاميـين وكانت النتيجة لصالح التنوير: أي لصالح توليد تفسـير جديد للدين. وهو تفسـير تحريري، لا قمعي ولا ظلامي. هنا يكمن طريق الخلاص: بلورة فهم آخر للتراث الديني غير الفهم السائد والمسـيطر منذ مئات السـنين والذي يحاول الأصوليون إقناعنا بأنه هو وحده الممكن.. هكذا انتصرت أوروبا على نفسها، وحلت عقدتها التاريخية المزمنة المتمثلة بذلك الصدام المروع ما بين العقل اللاهوتي والعقل العلمي أو الفلسفي، كنت قد نبهت أكثر من مرة إلى خطورة لاهوت القرون الوسطى أو فقه القرون الوسطى، هذا اللاهوت الذي يسمح لأي جاهل بان يطلق فتاوى التكفير والتحريم والقتل والذبح..وقلت إن تفكيكه يمثل ضرورة ملحة وعاجلة بالنسبة لكل المجتمعات العربية والإسلامية.ولا يمكن لهذه المجتمعات أن تتقدم إلا إذا فككته لأنه يعرقل حركتها ويشعرها في كل خطوة تخطوها بالخطيئة والذنب( ). كما أنه أصبح يشعرنا بالعار والخجل والحرج أمام لآخرين"( )، فهو يشـبِّه الأصولية التي عاشتها أوربا في زمن ما قبل الثورة الفرنسـية بالعودة الإسلامية والصحوة في العصر الحديث، ثم يعطينا الحل لمشكلة الأصولية (الصحوة الدينية) التي نعيشها، وذلك الحل المقترح هو أن نسلك نفس الطريق التي سلكتها أوربا في التخلص من التسلط الكنسـي الذي عانت منه الأمرين، ثم يثني على جهود المفكرين الذين ساهموا في ذلك من مثل تلك الأسماء التي ذكرها في مقاله، وهم الذين جاءوا (بالتنوير)، ثم يحث كل مثقف عربي على سلوك تلك الطريق، فينبغي _ في نظره _ على كل مثقف عربي أن يسعى إلى قراءة التراث الإسلامي قراءة تحررية يفصل فيها بين الدين والدولة كما فعل التنويريون الأوروبيون مع تراثهم المسـيحي، ونسـي أن النور الحقيقي هو الذي جاء به هذا الدين، قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسـولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ)( )، وهذا خطاب لأهل الكتاب الذين منهم هؤلاء الذين زعم من التنويريـين، وكان الأجدر بهم أنهم لما رأوا أن الدين الذي عندهم لا يقربهم إلى النور بل يبعدهم أن يتوجهوا إلى دين الله الحق الذي هو النور الحقيقي، ولكنهم أبوا إلا الابتعاد عن ظلام الخرافة الذي في ثناياه بصيص من نور الوحي إلى الظلام الدامس الذي لا نور فيه، قال تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ)( )، وقال: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسـيةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)( ).

وأما الذين يحاولون أن يقضوا على التدين والصحوة التي انبعثت في أعماق المسـلمين اليوم فلا ينطبق عليه سـوى قوله تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)( )، فالعودة إلى هذا الدين هي النور الحقيقي، وأهلها هم أهل التنوير الحقيقيـين، فالواجب هو أن نعود لنطبق الإسلام الحقيقي لا على طريقة كانت( ) وديوي( ) وهيجل( ) ونيتشه( )، بل على فهم الرسـول وعلى فهم السلف الصالح، لا أن نتنكر لديننا كما فعل الأوربيون بكهنوتهم لما عانوا من الكنيسة الأمرين.

ومن أشكال ظهور العلمانية في العالم الإسلامي والتي تبين مدى التأثر بالواقع الغربي زمن الثورة الفرنسـية، وتحمل نفس العُقَد التي نشأت في أذهان الشعوب النصرانية إبان الحكم الإقطاعي والتسلط الكنسـي: -

التظاهر بالكبت ومن ثم نشدان الحرية:

لقد مرت أوروبا بأيام يملؤها البوس والشقاء والحرمان، في ظل حكم الإقطاعيـين والكنيسة، ولذلك لما ثارت أوروبا، كانت تضع نصب عينيها مبدأ الحرية الذي حرمت منه عدة قرون، ولكن ما هو عسى أن يَنشده أدعياء العلمانية في العالم الإسلامي، إن الكبت الذي عانت منه أوروبا لم يمر عشر معشاره على المسـلمين، وإن مر على العالم الإسلامي نوع من أنواع الظلم فهو على نطاق ضيق، ثم لا علاقة له بالدين.

ربما كان يقع الظلم على بعض الأفراد من تسلط بعض الحكام ولكنه لا علاقة له بتنظير أو تقنين، لا من الشريعة ذاتها ولا من الحكام، فالشريعة الإسلامية لا تكتفي بالأمر بالعدل وتحريم الظلم( ) فحسب، بل تقدم نماذج واقعية من التاريخ الإسلامي رجع فيها الحق إلى أصحابه حتى لو كان الظالم أميراً أو وزيرا ً، فتطمئن نفس المظلوم إلى أن الظلم الواقع عليه ليس إلا سحابة صيف ستمضي.

فما الذي يسعى إليه العلمانيون في العالم الإسلامي، إنه اللهث وراء الغرب، فإن كان الكبت الذي حصل للغربيـين من جراء ممارسات الكنيسة أو الإقطاع داعياً لهم لكي ينشدوا الحرية التي قد حرموا منها، فما هو الداعي لنقل مرض الكبت إلى بلاد المسـلمين الذين عاشوا بعيداً عن هذه الأمراض النفسـية.

 فحين كانت أوروبا تشكوا من القهر الواقع على شعوبها من الإقطاع الظالم كانت حياة المسـلمين في ظل حكم  الدولة الإسلامية، هي حياة نعيم وبسط من العيش، حتى كان المكلف بأداء الزكاة ليجد العناء في البحث عن من يستحقها.

ولكن العلمانيـين مصممون على المحاكاة الممقوتة إلى حد التقليد الأعمى، فصاروا ينعقون بطلب الحرية الزائفة كما نعق أولئك، لا لأنهم فقدوا الحرية في ظل الإسلام، بل لأنهم يريدون محاكاة الغرب في كل صغيرة وكبيرة في عقلية جامدة تأبى ترشيح الخير من الشر، كعقلية: (طه حسـين) عندما قال: "سبيل النهضة واضحة بينة مستقيمة ليس فيها عوج، ولا التواء، وهي: أن نسـير سـيرة الأوروبيـين ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً، ولنكون لهم شركاء في الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يُحب منها وما يكره، وما يحمد منها وما يعاب"( )، أو لأنهم يريدون هدم الإسلام ومحاربة شعائره بدعوى الحرية.

ففي الوقت الذي أعطى الإسلام الحرية الكاملة للمرأة في ما لا يمس بحرمتها وكرامتها، نجد دعاة العلمانية يتهالكون على الدعوة إلى حرية المرأة، يقول حسـين مؤنس: "وقد انهارت المجتمعات الشرقية كلها بسبب ظلمها للمرأة وحرمانها إياها من مكانها وحقها الطبيعيـين، وهذه حقيقة لم يتنبه لها معظم من يدرسـون تواريخ هذه الدول الشرقية من المشارقة ولكنها معروفة للدارسـين من أهل الغرب لأن مجتمعهم ((يقوم على المرأة والرجل مجتمعين، ومن ثم فهم يعرفون أهمية المرأة في المجتمع الإنساني، ويشيرون إلى ذلك ويقررون أنه أساس تقدم مجتمعهم على غيره من المجتمعات، وهذه الحقيقة _ على ما يبدو من بساطتها _ تفرق بين مجتمع ومجتمع وحضارة وحضارة، بل هي الحد الفاصل بين الحضارات التي أينعت وعاشت والحضارات التي ذبلت وماتت)).

والحضارة المصرية القديمة من الطراز الذي أعطى المرأة حقها واعترف بها ومنحها حقها كاملاً  في البيت وفي ميدان العمل والحياة، بل إن عينك لا تقع على رسم مصري قديم إلا وجدت المرأة فيه إلى جانب الرجل ورأيتها رافعة الرأس تسـير معه وتعمل معه... وحضارة مصر مشتركة من هذه الناحية الأساسـية مع حضارتنا الراهنة وأنا أقول حضارتنا لأنك سترى أن ما نسميه اليوم بحضارة الغرب إن هو إلا الحضارة المصرية القديمة متطورة في اتجاه مستقيم"( )، ففي نظره أن المجتمعات الشرقية (الإسلامية) انهارت !! وكان السبب لانهيارها هو ظلمها للمرأة!! والعلاج لما حصل لهذه المجتمعات هو إما الاقتداء بالحضارة الغربية التي تقوم على سـواعد الرجال والنساء معاً _ في حال مختلطة فينتجون للبشرية أدوات التحضر أحياناً، وينتجون الأولاد غير الشرعيـين أحياناً أخرى!! _، أو الاقتداء بالحضارة الفرعونية القديمة التي عجَّت بأنواع الخرافات. ولكن من يقول: إن المجتمعات الشرقية (الإسلامية) قد انهارت، إن الضعف الذي عانت منه المجتمعات الإسلامية في العصور المتأخرة لا يمكن أن نعتبره انهياراً بحال من الأحوال، ثم إنه من غير المعقول أن لا نجد لحالة الضعف التي مرت بها الأمة الإسلامية علاجاً سـوى التوجه للغرب العلماني، أو للحضارة الفرعونية المبعدة عن نهج الأنبياء والمرسلين منذ فجر التاريخ، وربما كان كثير منهم حطب جهنم، كما قال تعالى عن آل فرعون: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)( )، لئن انـتهجنا هذا النهج الذي يدعونا إليه، فإنه لهو التنكب للصراط المستقيم وابتغاء سبيل المشـركين، وهو التشـبه بهم بعينه.

وفي مقدمة الدعاة إلى تحرير المرأة في العالم الإسلامي: هدى شعراوي التي ما فتئت تنادي بحقوق المرأة المصرية (المسلمة)، بحجة كبت حريتها، وهي المرأة التي عاشت قروناً متطاولة في ظل الإسلام وتمتعت بكافة الحريات، تقول في حديث لها مع بنات جنسها: "إنه ليسرني حقيقة أن أرى نفسـي بينكن في هذه الجمعية المحترمة التي أمكن للمرأة المصرية أن تجيء لتناقش في حقوقها لأول مرة في التاريخ، وأنه لمما يدعوني إلى الاغتباط والفخر اختياري لإظهار تلك الرابطة بين بنات النيل وأخواتهن في أوروبا" ، إلى أن تقول: "والآن قبل أن أعود أرجو أن تسمحن لي أيتها السـيدات على طلبكن بإلحاح إبداء الرغبة في اشتراك المرأة المصرية في واجب ((الاتحاد)) الجليل ولنا عظيم الرجاء في أن نصل بفضل نصائحكن الغالية التي نعتبرها السبيل الهادي والنسج على منوالكن الذي نجد فيه خير كفيل إلى تحقيق آمالنا ورغائبنا، ونضع تحت تصرفكن أنفسـنا في خدمة مبادئكن ونشر آرائكن" .

وأما تحرير المرأة في الشام فإن "أول كتاب يتحدث عنها لم يصدر إلا سـنة 1928م، وهو الكتاب الذي ألفته _ أو ألف باسم _ نظيرة زين الدين بعنوان ((السفور والحجاب)) ولعل ما يثير الانـتباه أن الذي قرظه هو علي عبد الرزاق صاحب ((الإسلام وأصول الحكم)) وكان مما قال: "إني لأحسب أن مصر قد اجتازت بحمد الله طور البحث النظري في مسألة السفور والحجاب إلى طور العمل والتنفيذ، فلست تجد بين المصريـين إلا المخلفين منهم من يتساءل اليوم عن السفور هو من الدين أم لا ومن العقل أم لا، ومن ضروريات الحياة الحديثة أم لا بل نجدهم حتى الكثير من الرجعيـين المحجبين منهم يؤمنون بأن السفور دين وعقل وضرورة لا مناص لحياة المدنية عنها...أما إخواننا السـوريون فيلوح أن للسفور والحجاب عندهم تاريخٌ غير تاريخه في مصر، فهم لم يتجاوزوا بعد طور البحث النظري الذي بدأه بيننا المرحوم قاسم أمين منذ أكثر من عشرين سـنة، ولكنهم على ذلك يسـيرون معنا جنباً إلى جنب في الطور الجديد الذي نسـير فيه، طور السفور الفعلي الكلي الشامل"( ).

وبدعوى الحرية المفقودة من الغرب، تلك الحرية التي سعد بها المسلمون قبل أن يسمعوا بدعاة العلمانية، أدخلوا ما يسمى بـ (الفن) إلى بلاد المسـلمين وهو يحمل شعار الحرية المزعومة، والتي جعلت منه أداة لمسخ الشعوب، يقول الشيخ محمد قطب: "ولكن الجديد الذي أحدثه التطور العلماني هو إعطاء الشرعية لهذا الهبوط الحيواني، وكشفه في النور، وإعطاؤه صفة الفن، ووضع منتجيه في قائمة المشاهير، بل في قائمة العظماء من الفنانين! وينشغل النقد الأدبي والنقد الفني بتتبع أثارهم وكشف جوانب العظمة الفنية فيهم.. بل يتبجح نقاد فيبحثون لهم عن عظمات نفسـية في وسط الماخور الكبير الذي يعيش فيه هؤلاء وهؤلاء من نقاد وفنانين! لقد سقط الإنسان كله إلى السراديب، وقرر المقام هناك، وأضاء الأنوار على قاذوراتها وعرضها على أنها البضاعة الحاضرة! لم تعد سراً يستخفي منه. لم تعد قذارة تستنكر.. لم تعد شيئاً يتقزز منه الناس"( ).

إن حقوق الإنسان التي ضاعت في الغرب منذ تسلط الكنيسة في العصور الوسطى هي التي ضاعت وكانت تحتاج إلى إنشاء منظمة لحقوق الإنسان، أما المسلمون فلا يحتاجون لمثل هذه المنظمة، فالنظام الإسلامي قائم على الشورى (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)( )، وقائم على التناصح فيما بينهم ولولاة أمورهم، ولو كانوا يحتاجون إلى إقامة منظمة لذلك الغرض فلا داعي لمعرفة ما هي الحقوق التي يحتاجها المسلمون من الغرب النصراني الكافر، والذي لا تحمل الحرية التي يطالب بها أي معايـير أخلاقية، إلا إذا كنا نريد أن نزيح الدين الذي يقدم لنا المعايـير الصحيحة، نعم إنها غاية العلمانين (اللادينين)، ولذلك ينعقون وراء منظمة حقوق الإنسان ويتلقفون كل ما تنادي به في الغرب وينقلونه إلى الشرق.

ومن أحدث ما تنادي به هذه المنظمة، ومن ورائها أدعياء العلمانية من أبناء جلدتنا اعتراضهم على قلة الانفتاح الموجود لدى دول الخليج على شبكة الإنترنت، فإن تلك المواقع الإباحية التي امتلأت بها شبكة الإنترنت لا تلقى رواجاً في هذه الدول، وهذا يعني لدى منظمة حقوق الإنسان هو الكبت وضياع حقوق الفرد في المتعة التي أتيحت له.

يقول د. مشعل القدهي: "فنجد جمعية مراقبة حقوق الإنسان (Human Rights Watch) مثلاً  تذم وتنكر بشدة أي محاولات لدول الخليج العربي لحجب الإنترنت ويدعوننا إلى (الانفتاح والحرية)"( ).

ولسـنا نرد على تلك المنظمة التي ليس لديها مقايـيس ولا ضوابط أخلاقية سـوى ما تمليه عليهم أهواؤهم. كما أن الحديث عن ضرر تلك المشاهد على الفرد والمجتمع لا يخفى على كل ذي لب.

ولكننا نتعجب من فهم _ أبناء جلدتنا الذي يتكلمون بألسـنتنا ويدينون بديننا من _ العلمانيـين لمعنى الحرية، فإن كانوا يريدون أن يفهموا معناها فليأخذوها من كتاب ربهم وسـنة رسـوله ، لا أن يفهموا معنى الحرية الحقة من أناس أعمى أجدادهم الكبت وصنوف الظلم والاضطهاد، حتى صاروا لا يرومون سـوى التحرر، ولم يستطيعوا أن يرجعوا إلى دينهم المحرف _ الذي هربوا من سـياط قساوسته ورهبانه _ ليستقوا منه مفاهيم الصواب والخطأ؛ فهو ذات المشكلة التي هربوا منها.

 المبحث الثالث: مظاهر تأثر المسـلمين بالشيوعية في الجانب العملي:-

سبق تعريف الشيوعية في الفصل الأول من هذا الباب وأنها: مذهب فكري يقوم على الإلحاد وأن المادة هي أساس كل شيء، ويفسر التاريخ بصراع الطبقات وبالعامل الاقتصادي( ).

          وكان الحديث في الفصل الأول يختص بجانب الإلحاد الذي تدعو إليه الشيوعية، وكيف قامت الشيوعية بمحاولة نشره كمبدأ أول لفكرة الشيوعية.

وقبل أن نخوض في الجوانب الأخرى التي حاولت الشيوعية نشرها بين الشعوب _ وما يخصنا هنا هو من اقتنع بها في العالم الإسلامي _ لا بد من الوقوف على المعالم الأساسـية للشيوعية ليتضح المذهب، ومن ثم نكون قد عرفنا تطبيقاته التي أخذت عنه.

          وفي الأصل الشيوعية سارت على خطين عريضين وفلسفتين أساسـيتين بهما فهم الشيوعيون الحياة والفكرة التي قامت عليها الحياة البشرية، وهما: -

1.      أن المادة هي أساس كل شيء وأن الدوافع وطرق الحياة ونتائج الأمور يجب أن تفهم على هذا الأساس المادي، إن الاشتراكية المنبثقة عن الشيوعية الماركسـية ما هي إلا نتيجة من نتائج الفكر المادي المجرد الذي يحاول التخلص من المؤثرات الخارجية عن نظام الحس، يقول الباحث أنور الجندي: "تلتقي الماركسـية مع الفكر الغربي في نظرية التفسـير المادي للتاريخ، التي ليست من إنشاء الشيوعيـين وإنما يُرد أصلها  إلى هيجل، ولا ينفرد الشيوعيون باعتناقها، بل يشاركهم فيها الماديون والدهريون والوجوديون"( )، وهكذا لما انـتهج ماركس هذا النهج المادي في تفسـير التاريخ، ولم يجعل في اعتباره أي أمر من الأمور الغيبية أو (الميتافيزيقية):  توصل إلى هذا المنهج الاقتصادي والسـياسـي ؛ إذن فالاشتراكية منشؤها الفكر المادي الملحد، الذي بنى عليه ماركس نظرته المادية للتاريخ الذي يتطور بناءً على متطلبات المادة وتطورها، لتكون الشيوعية هي الفكرة المناسبة لهذه الفترة التاريخية في نظره.

2.      ما دامت أن المادة هي الأساس فالمادة متطورة وغير ثابتة على حال معين( )، والحياة يجب أن تكون على هذا الأساس، فلا ينبغي أن تكون الأخلاق والقيم على ثبات بل هي تابعة للمادة المتطورة، يقول ستالين: "والمادية التاريخية _ خلافاً للعلوم الأخرى _ لا تدرس فقط هذه القوانين الخاصة أو تلك  من قوانين تطور أشكال معينة لحركة المادة، وإنما هي تدرس القوانين العامة الشاملة للحركة المادية، والمجتمع هو أيضاً شكل لحركة المادة"( ).

فالعادات والأخلاق الاجتماعية ومعها القوانين الاقتصادية المنبثـقة عن الدين ما هي إلا تطور للمادة التي حكمت الناس بهذه الطقوس الدينية اقتصادية كانت أو اجتماعية، يقول (إنجلز): "إن الدين يولد من نظريات الإنسان المحدودة، وهذه النظريات محدودة بعجز الناس البدائيـين المطلق تقريباً أمام الطبيعة المعادية، وهي محدودة من ناحية ثانية بتعلقهم الأعمى بالمجتمع الذي لا يفهمونه، والذي كان يبدو لهم أنه تعبير عن إدارة سامية. وهكذا كانت الآلهة – وهو الكائنات المهمة الجبارة المسـيطرة على الطبيعة والمجتمع، وكان على تقدم العلوم الطبيعية والاجتماعية أن يظهر طابع المعتقدات الوهمي: الاعتقاد بوجود آلهة متعددة، ثم الاعتقاد بوجود إله واحد"( ).

وكل العادات الاجتماعية والأخلاق المرعية عند المجتمعات البشرية يعتبرها الشيوعيون مبنية على المادة؛ فالاقتصاد هو المحرك لكل تلك الموروثات الأخلاقية، يقول إنجلز: "وهكذا فإننا نرفض كل محاولة لإلزامنا بأية عقيدة أخلاقية مهما كانت على اعتبارها شريعة أخلاقية أبدية، نهائية، وثابتة أبدا، بحجة أن للعالم الأخلاقي أيضا مبادئه الدائمة التي تنهض فوق التاريخ وفوق الفوارق بين الأمم.. إننا على النقيض من ذلك بأن سائر النظريات الأخلاقية قد كانت حتى هذا التاريخ، في آخر تحليل، نتاجاً لأوضاع المجتمع الاقتصادية السائدة في زمنها" ، هنا نشتم رائحة عقدة الدين لدى الغربيـين والتي نشأت عن الظلم الواقع من الكنيسة اللاهوتية والإقطاع، فالإقطاع ما هو إلا نموذج للحياة الاقتصادية التي كان الدين سائداً بحكمها، لكنها كانت تتسم بالظلم للشعوب الفقيرة، مما أنتج الفكر المادي الكافر بالأديان وظهرت المادية الأولى _ في العصر الحديث _ والتي عبروا عنها باللادينية (العلمانية) ثم تمخضت عنها الاشتراكية( ) التي أبعدت في التطرف لسحق هذا الظلم الواقع على الشعوب الأوروبية والذي تمثل في الإقطاع في العصور الوسطى، وأخذ شكل الرأسمالية العلمانية في العصر الحديث.

وهكذا فالمبادئ الأخلاقية التي سار عليها الناس ديناً وعرفاً منذ فجر البشرية لا تعترف بها الشيوعية، جاء في كتاب المادية التاريخية "إن الماركسـية تنتقد دون ما تحفظ محاولات علماء الاجتماع البرجوازيـين( )، والبرجوازيـين الصغار، لجعل الاشتراكية قائمة على أساس أخلاقي" .

يقول (إنجلز)، مبيناً موقف الشيوعية من مشروعية المحرمات من النساء على الرجال بوصفها الأساس الفكري الذي يخلق الغَيْرة: "ولئن كان ثمة أمر أكيد فهو أن الغيرة عاطفة نشأت في عهد متأخر نسبياً، وهذا يصدق على مفهوم (المحرم) لأن الأخ والأخت لم يكونا وحدهما يعيشان في الأصل كما يعيش الزوج والزوجة، بل إن العلاقات الجنسـية بين الآباء والأولاد مسموح بها أيضاً لدى شعوب عديدة حتى اليوم وقبل اختراع المحارم _ لأن المحارم اختراع حقاً، بل اختراع ثمين جداً _ لم يكن الوصال الجنسـي بين الآباء والأبناء ليثير من الاشمـئزاز أكثر مما يثيره الوصال بين أشخاص من أجيال مختلفة – كذلك الذي يحدث فعلاً اليوم حتى في أكثر البلاد تظاهراً بالتزمت – دون أن يثير النفرة الشديدة" .

وتبعــاً لتطورات المادة تتطور الأسرة بأشكالها المتعــددة، جاء في كتاب: (المرأة والاشتراكية): "لا تشكل الأسرة كياناً اجتماعــياً خالداً، ولقد طرأت عــليها تبدلات عــديدة عــبر القرون، وهذا التطور يتحدد في التحليل الأخير بالعــامل الاقتصادي" ، ولذلك فهم يتصورون أن نظام الأسرة السائد اليوم والمكون من أب وهو رب الأسرة وأم وهي شريكة هذا الأب في بعــض المهام وبعــض المسؤوليات، وأطفال ينشؤون في كنف الأسرة، هذا المفهوم للأسرة يعــتبرونه ناشئاً لحلقات درج فيها النظام الأسري وتطور، ويسلكون في شرحها نفس الطريقة التي سلكوها في قضية تطور الكائنات والتي استمدها الشيوعــيون من نظرية: (النشوء والارتقاء)( )، وعــلى النحو نفسه يتخيلون تطوراً للأسرة من أسرة الجيل إلى أسرة الشـركاء إلى الأسرة الزوجية إلى الأسرة الوحدانية( )، ويشرحون ذلك: بأن الأسرة كانت في البداية عــلى أساس التزاوج المباح بين أبناء الجيل الواحد عــلى سبيل التبادل ، ثم انتقلت إلى نظام العــشائر الذي يشترك فيه الناس في قضية التناسل عــلى حد سـواء في حدود العــشيرة ، ويقصدون بنظام الأسرة الزوجية هو: ما كان الزواج فيها بناء عــلى إعــطاء الرجل أكثر الامتيازات، وأما الأبناء فهم من حق المرأة ، والأسرة الوحدانية هي التي أعطت الحق في الأولاد للرجل فقط فلا ينسبون إلا إليه، وليس لأحد أن يفصل رابط الزوجية سـوى الرجل وحده، فيكون التسلط التام بيده( ).

وأما التطور الذي تريد أن تحدثه الشيوعية على ضوء النظرة المادية التي أحدثت كل فترات التاريخ الأسري فهو نظام شيوعية الجنس والنسل، حتى تلغى كل أنواع الملكية الفردية، حتى ملكية الأولاد التي تختفي وراءها غريزة حب التملك خوفاً عليهم أثناء الحياة من الفقر والحاجة، كما أنها خلفية التوريث لهم؛ إشفاقاً عليهم من نوائب الدهر بعد موت الوالدين( )، يقول إنجلز: "إن العلاقات بين الجنسـين ستصبح مسألة خاصة لا تعني إلا الأشخاص المعنيـين والمجتمع لن يتدخل فيها، هذا سـيكون ممكنا بفضل إلغاء الملكية الخاصة، وبفضل تربية الأولاد على نفقة المجتمع، وبنتيجة ذلك يكون أساسا الزواج الراهنان قد ألغيا، فالمرأة لن تعود تابعة لزوجها ولا الأولاد لأهلهم، هذه التبعية التي ما تزال موجودة بفضل الملكية الخاصة" .

والافتقار إلى المادة هو الذي يؤسس الدين ومن أجله اخترع الناس التدين، يقول إنجلز: "ومادام المجتمع قد تطور حتى الوقت الحاضر ضمن التضادات الطبقية، فإن الأخلاق كانت على الدوام أخلاقاً طبقية، فهي إما أن تبرر سلطة الطبقة الحاكمة ومصالحها، وإما أن تمثل – حالمـا تحوز الطبقة المضطهدة ما يكفي من القوة – التمرد على تلك العقيدة، ومصالح المضطهدين المقبلة في الوقت نفسه"( ).

وحتى الاقتصاد لدى المجتمعات لم تتكون نظرياته إلا تبعاً لمجريات المادة عبر التاريخ، فما كان الأصلح للمجتمعات البدائية (وهي ما يعبرون عنه بالمشاعية البدائية) هو الذي تم إقراره في تلك الأزمنة من التاريخ، وحين تتغير تلك المجتمعات فتصبح مجتمعات مدنية متحضرة تتغير معها النظرة الاقتصادية لتصير أكثر تحضراً وتعقيداً، فالثبات منعدم في كل ذلك، يقول أحد الشارحين للمذهب الشيوعي: "لقد ولدت علاقات الإنتاج الجماعية في النظام المشاعي البدائي عادات وتقاليد جماعية وأخلاقاً جماعية عند الناس البدائيـين، وعندما واجه الناس في مجرى تطور القوى المنتجة علاقات أصبح فيها التمتع الشخصي ببعض الأشياء أكثر سهولة لعملية الإنتاج، تغيرت أراء الناس أيضاً، أصبحت الملكية الشخصية لبعض الأشياء .. وهي الملكية التي كانت تعتبر في المراحل السابقة لا أخلاقية، أو غير طبيعية وغير معتادة على أقل تقدير، أمراً لا ضير فيه، ولا يتعارض مع المصلحة العامة" .

 وبناءً على ما سبق فإن الأسس الفكرية العلنية التي تستقي منها الشيوعية آراءها وتطبيقاتها تتلخص في نظرتها المادية البحتة للكون والحياة والتاريخ والدوافع الإنسانية، وكل ذلك استقاءً من بعض المصادر التي غذت روح النظرة المادية التي قامت عليها الشيوعية: وتلك المصادر التي غذت هذا المذهب: هي بعض النظريات وفي مقدمتها: نظرية التطور الداروينية، وجدلية هيجل المادية والتاريخية. ومن هذه المنطلقات المادية البحتة التي لا تعترف بما وراء الحاسة تبلور المذهب الماركسـي بعقائده وسـياسته ونظامه الاقتصادي.

ولذلك كان من الجدير بالأوفياء للمذهب الشيوعي في البلاد الإسلامية أن لا يُظهروا التنكر للدين كاملاً، وأن يتبنوا موقفاً فيه نوع من الحياد بالنسبة للدين والتدين عموماً حتى لا تنكشف اللعبة ويتضح ما فيها من زيف؛ فالمادية التي تنكر كل ما وراء المشاهد المحسـوس لا تجد قبولاً لدى أبناء المجتمع الإسلامي حتى الذين ابتعدوا عن الدين قليلاً، يقول باحث يساري( ): "إن التدين من العناصر الأصيلة في تكويننا الحضاري، والتدين أحد الأسلحة الخطيرة في أيدي اليمين؛ ولهذا كان المنتمي إلى اليسار في موقف رد الفعل من الدين والمتدين معاً بصفة عامة، إنه يجد نفسه وجهاً لوجه أمام نقطة شائكة، وهي: أن أدوات التغيير ليست صناعة محلية، إنه في مأزق لم يعرفه الثوري في الغرب، وهو مأزق نفسي مرير، فبينما يتسلح الأوروبي بالماركسية ـ وهي صناعة أوروبية ـ في وجه الدين المسيحي ـ وهو بضاعة مستوردة ـ يفاجأ الثوري في الشرق بأنه يقف في الطرف المقابل، يستورد الفكر ونظريات التغيير من أوروبا، ليواجه حضارة متدينة من آلاف السنين؛ لهذا: يكون موقف المنتمي إلى اليسار في بلادنا هو رد فعل لجوهر هذه الحضارة، وردود الفعل تتسم بالتضخم والانفعال والمبالغة، ومن ثم: يصبح الموقف من الدين هو نقطة البدء عند اليساري العربي، وليس كذلك موقف اليميني من الـدين؛ لأنه يرى فيه منذ البداية مسـنداً مريحاً للكسل العقلي، وعاملاً خطيراً في توطيد مـصالحه الاجتماعية، فأغلبية الجماهير الشعبية متدينة وجاهلة، وبالتالي: يمكن الاعتماد عليها من هذه الزاوية، خاصة إذا كانت هي الهدف في الاستغلال الاجتماعي"( )، يقول الكاتب عبد اللطيف بو عبد الولي معلقاً على هذا المقال: "كان يتمنى الكاتب لو لم توجد هذه العقبة في وجه اليساري العربي، حتى يجد الطريق ممهداً لبسط مقولاته، كما فعل رفيقه في الغرب، ولكن ما دام الواقع غير ما يتمنى فعليه أن يكيِّف مقولاته مع هذا الواقع، وذلك حتى يوجه مؤسسة الدين لخدمة توجهه، وانتزاعها من قبضة اليمين (فإن الدين كان وما يزال مؤسسة قوية من مؤسسات اليمين)! يتخذه تُكأة لتزكية الأوضاع القائمة والمحافظة عليها. وجب إذن تفسـير النصوص الدينية تفسـيراً ثوريّاً تقدميّاً، بدل التفسـير الرجعي المتخلف الذي يعكس الاختيارات اليمينية المحافظة"( ).

ولذلك فإن التأثر بهذا المذهب في العالم الإسلامي والذي يظهر من خلال تبني بعض الأفكار الشيوعية، والتغني بالنظريات الاقتصادية الماركسـية، إذا غضضنا الطرف عن كون هذه النظريات مأخوذة من معين غير المعين الإسلامي الصافي، فإنه لا يمكننا أن نتصور هذه الأفكار _ اقتصادية كانت أو اجتماعية _ بعيداً عن الفلسـفة المادية البحتة التي قامت عليها، والتي تنكر الشرائع وتنكر كل ما وراء المشاهد المحسـوس، إن نظرية تبنى على هذا القدر من المادية ليس من شأنها أن تغير أنماط الحياة الإسلامية إلى أنماط أخرى فحسب، بل من شأنها أن تهدم الدعائم الأساسـية للعقيدة الإسلامية.

وأعرض هنا لبعض النماذج من التأثر بالنظرية الشيوعية من الناحية العملية في مجتمعات المسـلمين:-

لقد اندفع المفتونون من أبناء المسـلمين لتطبيق النظم الاشتراكية، معتذرين بأن نظام الإسلام الاقتصادي لا توجد دولة تطبقه حقاً ، أو بغـير ذلك من الأعذار الواهية، وكان من أبرز مظاهر التأثر بهذا المذهب الماركسـي ما حصل من بعض أبناء الأمة الإسلامية الذين اقتنعوا بهذا المذهب كواجهة اقتصادية براقة تحمي الشعوب من تسلط الطبقات الحاكمة في زعمهم، فما إن تأسس الحزب الشيوعي اللبناني عام: (1924م) _ على يد مجموعة من الشباب اللبنانيـين، بإشراف اليهودي: (جوزيف بيرجر)( )، بعد اقتناعهم بالأفكار الشيوعية كالإخاء البشري، والتحرر من القومية والدين، والفردوس الأوحد الذي يُدْعى: الاتحاد السـوفياتي( ) _ وتأسس الحزب الشيوعي الفلسطيني في عام (1919م)، حتى رأى العالم بعض أبناء المسـلمين المنخدعين بشعارات تلك الأحزاب ينخرطون في العمل فيها، مشكلين بذلك أعظم تأثر بالفلسـفة الماركسـية المادية التي لا تؤمن بما وراء المادة، وهم بذلك لا يشكلون خطراً على واقع الأمة وتميزها فحسب، بل يتركون صدعاً في عقيدة كل من يدعو إلى هذه الأفكار المادية البحتة.

"وبدأت الاشتراكية في البلاد الإسلامية على شكل (موضة) بواسطة بعض الكتاب النصارى، وبعد ظروف إنهاء الدولة العثمانية وفدت الشيوعية إلى مصر يحملها يهود (سـنة 1339هـ/ 1921م، وسـنة 1346هت/ 1927م). وفي سـوريا أسس الحزب الشيوعي يهود (سـنة 1343هـ/ 1924م)" ، وفي المغرب العربي تم إنشاء ما يسمى بـ (حزب التقدم والاشتراكية) ذيلاً للحزب الشيوعي الفرنسـي، تحـت قيادة (ليون سلطان) في عام 1943م، وهو يهودي مغربي كان يعمل في سلك المحاماة .

وحاولوا بذلك الجمع بين الإسلام والنظام الاقتصادي الذي جاء به (ماركس)، وجهلوا أو تجاهلوا "أن الماركسـية قد بنيت بناءً كلياً على الإلحاد بالله، ومقاومة كل دين يصل الإنسان بإله معبود , يقول الشيخ محمد قطب: "ليست الشيوعية مذهباً اقتصادياً بحتاً كما يتبادر إلى ذهن كثير من الناس حين يسمعون لفظة الشيوعية، وإن كان لها ولا شك مذهب اقتصاديـي محدد متميز، إنما هي تصور شامل للكون والحياة والإنسان ولقضية الألوهية كذلك، وعن هذا التصور الشامل ينبثق المذهب الاقتصادي. ثم إنها من جهة أخرى مذهب اقتصادي واجتماعي وسـياسـي وفكري مترابط متشابك لا يمكن فصل بعضه عن بعض. ومن ثم فلا يمكن عزل المذهب الاقتصادي وحده بعيداً عن التصور الشامل الذي ينبثق عنه، أو بعيداً عن الأوضاع الاجتماعية والسـياسـية والفكرية المصاحبة له؛ ففي جميع الحالات لا يمكن فصل المذهب الاقتصادي عن الفكرة الإلحادية، وعزله عن التصور الشامل الذي انبثق عنه، ولا عن الأوضاع الاجتماعية والسـياسـية والفكرية المصاحبة، كما أنه لا يمكن تركيبه على تصور آخر، ولا على أوضاع سـياسـية واجتماعية وفكرية مغايرة. وليس هذا خاصاً بالشيوعية إنما هو من طبيعة كل تصور، وكل أوضاع ناشئة عن ذلك التصور"( )، فهل يعني تطبيق بعض الحكومات العربية لنظام الاشتراكية أنها آمنت بهذا الفكر من ألفه إلى يائه؟! وإلا كيف يُفهم أن يُطبق نظام كهذا وينادى به في الأحزاب وتكون له الكراسـي الانتخابية، هل كل هذه النداءات لهذا الشعار هي على أساس الإيمان بفكرته المادية الأساسـية؟ أم لها رصيد آخر من الأسباب المادية _ كذلك _، من تهافت الغوغاء على من يحمل تلك الشعارات، وغير ذلك من الأسباب المادية التي تحقق الكسب الانتخابي، ومن وراء ذلك إيقاع الجماهير الإسلامية في التشـبه بأعدائها من حيث لا تفقه أو تفقه.

ومما لا يخفى في عالمنا الإسلامي ما خاضه حكام اليمن الجنوبي من محاولات آثمة لتطبيق هذا النظام الاشتراكي، ولكنهم وإن أفلحوا في تطبيق هذا النظام فإنهم لم يستطيعوا المضي في تطبيقه؛ لعجز هذا النظام أصلاً عن إصلاح واقع الأمة( ).

ولقد قام حزب البعث العراقي على النظام الاشتراكي وإن لم يكن تطبيقه هناك بنفس الدقة بالنسبة لما حصل في اليمن الجنوبي، وتصريحات حزب البعث الاشتراكي، بل وحتى الدستور الذي وضع للبلاد خير شاهد على ذلك.

وإمعاناً في التشـبه بالكفار لم يكتف (الحزب الشيوعي السـوري اللبناني) بالعمل على تكوين قاعدة اشتراكية في المجتمعات الإسلامية، بل أخذ ينحى نفس النحو الذي اتخذته الأحزاب الشيوعية اليهودية من قبل، فقـد استعار أسماء صحفه التي أصدرها من أسماء الصحف التي أصدرتها الحركة الشيوعية اليهودية في فلسطين؛ فاسم (صوت الشعب) وهي الصحيفة السرية للحزب الشيوعي في سـورية ولبنان ترجمة حرفية لاسم الجريدة العبرية للحزب الشيوعي اليهودي (كول عاهام)، واسم (النور) وهي الصحيفة العلنية للحزب التي أصدرها في دمشق عام: (1956م) منقول حرفياً عن اسم صحيفة (الحزب الشيوعي الإسرائيلي) التي أصدرها في فلسطين عام: (1934م) وعلى نفس المنوال سار (الحزب الشيوعي العراقي) في الخطة نفسها في تعريب الأسماء اليهودية في الصحف التي أصدرها، إذ حملت صحيفته السرية أيضاً عام: (1959م) اسم (صوت الشعب) أسـوة بالصحيفة اليهودية (كول عاهام)، وما كان منها إلا أن وقفت وقفتها الشجاعة بعد ذلك مع العدو الصهيوني لتبرز الوجه الحقيقي لها من العداء للإسلام والمسـلمين .

ومن أكثر الأحزاب تأثراً بالاشتراكية الشيوعية، يقول  منيف الرزاز الأمين العام لحزب البعث: "ارتبط الحزب من جهة بهذا التراث العربي ووجد تعبيراته الحديثة في نظرة هيغل الجدلية التاريخية وفي استكمال هذه النظرة في جدلية ماركس المادية"( )، وقد لخص منيف الرزاز لحزب البعث مبادئ وعقائد البعث في كتابه: (ألف باء البعث) المجموع ضمن أعماله الفكرية والسـياسـية _ من ص: (149) إلى ص: (162) فكان مما قال: "البعث حركة اشتراكية: الاشتراكية مصير حتمي؛ لأن الروح الثورية التي يخلقها النضال القومي في الجماهير تودي بالجماهير الكادحة وقد تحررت من رواسبها، إلى رفض الاستغلال بكل صوره( ). والاشتراكية وحدها هي النظام المناقض للاستغلال. الاشتراكية ليست مجرد نظام اقتصادي يتحقق في مستقبل الأيام. إنها قبل ذلك وعي على القوى الفاعلة في المجتمع، ووعي على مكان هذه القوى من المعركة القومية. الإيمان بالاشتراكية إذن ليس إيماناً بالمستقبل، بل هو إيمان اليوم إيمان في قلب المعركة"( ).

كما أن الناصرية( ) تنادي بالاشتراكية فمن مبادئها: الحرية والاشتراكية والوحدة للقضاء على مشكلات العالم العربي الأربعة : وهي الاستعمار والتخلف والطبقية والتجزئة بين أقطار العالم العربي . (وهي نفسها أفكار حزب البعث القومي اليساري : الوحدة، الحرية، الاشتراكية)( ).

ولم تكن الأحزاب الاشتراكية والتي تمثل التيار الشيوعي داخل الصف الإسلامي مقصورة على هذا النوع من التأثر الكلي؛ فهناك أصوات في الانتخابات في بعض الدول الإسلامية تنادي بهذا المبدأ وتعبد الطريق لأدعيائها للوصول إلى السلطة إلى حد قريب، وأما البرلمانات فلم تزل إلى الوقت الحاضر تطرح الأطروحات الاشتراكية كطريقة للإصلاح الاقتصادي( ).

وهذه الأفكار التي اقتنع بها بعض أبناء الأمة الإسلامية ألقت بظلالها بالطبع على التعليم والثقافة في العالم الإسلامي، ففكرة التطور الداروينية التي افتتن بها بعض المنتسبين إلى الإسلام لم تزل إلى عهد قريب تدرس في معاهد المسـلمين "على أنها حقيقة علمية( ) في مواد كثيرة كالأحياء والتاريخ الطبيعي وعلم الأرض... سـواء ذُكر داروين أو لم يذكر. ونظرية فرويد المتهافتة نجدها مقررة في أقسام علم النفس في الجامعات قاطبة على أساس أنها نظرية علمية كذلك !. وفي أقسام الاجتماعيات تدرس نظرية دوركاريم، بل يدرس علم الاجتماع بكامله على المنهج الغربي، ونحن نعلم مما سبق أنه _ كعلم النفس _ بني أصلاً  على أسس لا دينية. وفي أقسام الكيمياء والفيزياء والفلك والطب... الخ تدرس مناهج محشوة بإيحاءات فلسفية أو وثنية في العبارات المسمومة مثل ((المادة لا تفنى ولا تستحدث)) ومثل ((خلقت الطبيعة كذا))" ، بل وصار رد بعض الأمور العلمية التي لم تظهر أسبابها المباشرة إلى (ما وراء المادة) يعد نقصاً في البحث العلمي وسفهاً في العصر المادي الحديث ، وكان السبب في تدريس هذه النظريات المستمدة من الشيوعية أن المسـلمين اقتبسـوا "العلوم الغربية وهي مصطبغة بصبغتها الإلحادية، وإيحاءاتها الفلسفية، وتفسـيراتها المادية، واتجاهاتها الإباحية، معتقدين في ذلك "تلازم الأمرين، وتوهموا أن مظاهر الانحلال والفساد هي من ضرورات التحضر والمدنية في جوانبها الصحيحة"( ).

كما أننا نجد أن هذه الفكرة قد لقيت رواجاً في الصحافة، ففي إحدى الصحف يُنشر مقال عن أحداث الفتنة التي حصلت في زمن عثمان في صورة ثورة  اقتصادية تشـبه الثورة الشيوعية، فيقول كاتب المقال: "وروى أهل مصر ما كان من أمرهم وأمر عثمان لأهل المدينة، فلم يبق أحد من أهل المدينة إلا ضيق على عثمان وطالب بتسليمه مروان، فانضم أهل المدينة إلى وفود الأمصار وشددوا النكير على عثمان" كما قال: "وكتب أهل المدينة إلى عثمان يدعونه إلى التوبة النصوح، ويحتجون ويقسمون عليه بالله أن يعطيهم حق الله فإذا لم يفعل قتلوه" وكتب أيضاً ما يفيد أن الصحابة تحولوا إلى جمع المال وتركوا الجهاد( )، يعلق على هذا المقال: الكاتب سالم علي البهنساوي فيقول: "إنه هنا يستخدم الفلسـفة المادية في تفسـيرها للتاريخ، فيقدم الأحداث في ثوب ثورة من أهل المدينة ضد أمير المؤمنين، والمصادر التاريخية تكذب ذلك، فأصحاب الفتنة لم يكونوا أهل المدينة بل إن الصحابة بها أرادوا حماية عثمان والدفاع عنه فنهاهم عن ذلك وأعلن أن من كان في عنقه بيعة فليغمد سـيفه وليلزم بيته. كما أن جهاد الصحابة وهجرتهم إلى الأمصار لم يكن لهدف مادي بل لنشر الإسلام وحماية عقيدته، كما هو معلوم للجميع" ، والحقيقة أن ما قاله الكاتب في هذا المقام هو إيحاء بالفلسـفة المادية التي يؤمن بها الشيوعيون ونص عليها أحد منظري مذهبهم وهو: (إنجلز)، فيقول مفسراً سبب الحروب الدينية التي سادت في العصور الوسطى _ ويقصد به عصر المد الإسلامي _ "إن ما يسمى بالحروب الدينية.. كانت تتضمن مصالح طبقية تماما.. ورغم أن الصراعات الطبقية كانت عندئذ مغلفة بشعارات دينية، ورغم أن مصالح وحاجات ومطالب مختلف الطبقات كانت مختفية خلف شعار ديني، فلم يبدل هذا شيئا من الأمر، ويمكن تفسـيره ببساطة من واقع ظروف تلك الأيام " .

ومما ينبغي التنبيه عليه: أن ما جاءت به الشيوعية من أمر مستحسـن _ من حيث ذاته بغض النظر عن نسبته إلى الشيوعية _ فإن الإسلام قد نبه عليه وحض عليه من قبل، فلا يكون كل من عمل عملاً جاءت به الشيوعية – وقد أقره الإسلام من قبل – لا يكون بذلك متشـبهاً بأصحاب هذا المذهب. ولكنه من الخطأ الفادح أن ننسب شيئاً من النظم الهدامة _ التي جاءت بها الشيوعية _ إلى الإسلام لإرضاء العامة، وإقناعهم بجدوى الشيوعية وأن لها سـنداً من الإسلام، وهذا ما فعله بعض المقتنعين بهذا المذهب الهدام، فهذا الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي( ) يعود بالاستدلال للمذهب الشيوعي بالإسلام فيعلل في كتابه _ بغض النظر عما في الكتاب من زندقة  ووصف للصحابة بأمور مكذوبة عليهم لا تليق بأحد منهم( ) _  تحريم الله عز وجل للخمر والقمار على أغنياء المؤمنين ليدفعوا أموالهم لأسر شهداء المعارك الذين أعوزتهم الحاجة، بدلاً من تبديدها في الخمر والقمار .

  والحقيقة أن هؤلاء لم يكتفوا بالتشـبه بأعداء الملة والدين من الشيوعيـين، بل حاولوا أن يجدوا لأنفسهم مخرجاً وتوفيقاً مع الإسلام الذي ينتسبون إليه، وما ذلك إلا لاقتناعهم بأطروحات هذا المذهب الاقتصادية لعلاج الفقر بين الشعوب، وليس هذا موضعاً للرد على أمثال هؤلاء، ولكن الواجب على كل مسلم حريص على إسلامه: أن يكون على ثقة بهداية ربه وأنه لن يكون على الأرض نظام يفي بحاجات الشعوب أعظم من النظام الرباني، الصادر عن الوحي الإلهي، وأن في تطبيق النظام الاشتراكي تشـبه بأهله الماديـين الملحدين الضالين عن سـواء السبيل.

 المبحث الرابع: مظاهر تأثر المسـلمين بالعقلانية في الجانب العملي:

          تقديس العقل وتقديمه على النقل هو السمة الأساسـية لما يسمى في العصر الحديث بالعقلانية. يعرف العقلانيةَ الشيخ محمد قطب فيقول: هي "التفسـير العقلاني لكل شيء في الوجود، أو تمرير كل شيء في الوجود من قناة العقل لإثباته أو نفيه، أو تحديد خصائصه"( ).

وجاء تعريفها في الموسـوعة الميسرة بأنها: "مذهب فكري يزعم أنه يمكن الوصول إلى معرفة طبيعة الكون والوجود عن طريق الاستدلال العقلي بدون الاستناد إلى الوحي الإلهي أو التجربة البشرية، وكذلك يرى إخضاع كل شيء في الوجود للعقل لإثباته أو نفيه أو تحديد خصائصه"( ).

ولقد كان أول تقديم للعقل على الأمر الإلهي منذ بداية الخليقة وذلك لما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم فاعترض إبليس بمقايـيسه العقلية وعارض بذلك أمر الله الصريح له؛ لمجرد أن الله خلقه من نار، وخلق آدم من طين، فظن أن النار أشرف من الطين، فأبى أن يستجيب لأمر الله تكبراً منه، فكان ذلك أول تقديم للعقل على النص الصريح، فكانت النتيجة أن طرد إبليس من رحمة الله؛ حيث قال الله تعالى له: (قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ، وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ)( ).

وعلى هذا يكون أصل الشرور في العالم مبدؤها من تقديم العقل على النص الإلهي، وأنه من أول ما عُصي الله به، ومن أعظم ما عصي الله به.

          وتبع هذه الطريقة الشيطانيةَ مشركوا العرب في الجاهلية، الذين أنكروا البعث بناء على عدم تصور عقولهم القاصرة لقضية إعادة الخلق، فقالوا: (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ)( )، (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ)( )، وكان ذلك منهم غاية السفه، ولذلك رد الله عليهم بقوله: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسـي خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيـي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ)( )، وقال: (أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً، أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى، ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسـوى، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى، أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِـيَ الْمَوْتَى)( ).

ويأتي تقديم المعقولات الذهنية على النصوص الشرعية بسبب تقديس العقل ورفعه فوق مكانـته التي كان ينبغي أن يوضع فيها ، والعقل له مكانـته في الإسلام والتي لا يجوز أن يتجاوزها إلى غيرها، ومن مكانـته في الإسلام أنه أبيح له التدبر والتفكر في ملكوت السماوات والأرض، دون تدخل فيما ليس له به شأن، قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) ، وقال (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) .

يقول الشيخ محمد قطب: "هذا شأن المسلمات في الدين الصحيح : أمور لا يملك العقل أن يستدل عليها من تلقاء نفسه، ولا يملك في الوقت ذاته دليلاً حقيقيا ينفيها، ثم إنه لا يدعي إلى التسليم بها قبل أن يسلم بالمقدمات التي توصل إليها عن طريق التفكر والتدبر والتأمل في ملكوت السماوات والأرض .

أما المسلمات التي فرضتها الكنيسة فرضاً وأرهبت الناس من مناقشتها في غير ذلك تماماً . فحيث يتجه العقل والتدبر والتأمل إلى الإيمان بأن الله واحد أحد، وأنه لو كان في السماوات آلهة إلا الله لفسدتا .. تقول الكنيسة إن الله ثلاثة، ثم تزيد الأمر تعقيداً فتقول له إن الثلاثة واحد والواحد ثلاثة، ثم تمنعه من المناقشة عن طريق الإرهاب .. وحيث يتجه العقل – بوسائل تفكيره – إلى الإيمان بأن الله الذي خلق كل شيء وقدره تقديراً هو في غنى عن كل شريك، ومن ثم فهو الجدير بالعبادة وحده .. تقول له الكنيسة إن هناك شريكاً لله هو المسـيح عيسى ابن مريم عليه السلام، هو إله مع الله، ومعبود كذلك مع الله. ثم تمنعه من المناقشة وتتهمه بالمروق إن خالف .. وحيث يتجه العقل – بمنطقه الذاتي – إلى الإيمان بأن الله ليس في حاجة إلى اتخاذ الولد – والخلق كلهم خلقه، خلقهم بمشيئته وهم عباد له – وليس من شأنه سبحانه أن يتخذ ما لا حاجة له إلى اتخاذه، وهو المهيمن الذي يدبر أمر الوجود كله بمفرده، بلا كلفة عليه سبحانه ولا جهد ولا حاجة إلى معين .. تقول الكنيسة إن لله ولداً، خلقه بمشيئته كما يخلق كل شيء بمشيئته ثم تبناه – سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً – ليضعه بعد ذلك على الصليب ويجرعه ألام الصلب، ليكفر بذلك عن خطيئة لم يرتكبها ذلك الابن إنما ارتكبها آدم وحواء قبل ذلك بزمن لا يحصيه إلا الله! ثم تفرض عليه ذلك فرضاً وتقول له هذه هي العقيدة .. ومن لم يعتقدها فقد حلت عليه لعنة السماء.

تلك هي المسلمات التي لا يمكن التسليم بها لأن العقل يملك كل دليل ينفيها، ولأنها لا تستند إلى شيء إلا قرارات المجامع المقدسة التي تبتدعها من عند نفسها وتزعم مجرد زعم أنها من عند الله"( ).

ولذلك لما كان اليونانيون يقدسـون العقل إلى حد التأليه، حاولوا التعرف إلى خالق الكون، وقاسـوه على خلقه، وصار الإله الخالق مُثْلَةً في يد الإله الأول عندهم وهو العقل، وتبعهم على ذلك المعتزلة، الذين لم ينـزهوا الله ولم يدفعوا عنه التشبيه ولم يروموا ذلك إلا على أسس عقلية مستنبطة مستقاة من الفكر اليوناني المتألِّه للعقل، يقول الشيخ محمد قطب: "كانت العقلانية الإغريقية لوناً من عبادة العقل وتأليهه، وإعطائه حجماً مزيفاً أكبر بكثير من حقيقته، كما كانت في الوقت نفسه لوناً من تحويل الوجود كله إلى (قضايا) تجريدية مهما يكن من صفائها وتبلورها فيه بلا شك شئ مختلف عن الوجود  ذاته، وكان أشد ما يبدو فيه هذا الانحراف معالجة تلك الفلسـفة (لقضية) الألوهية و (قضية) الكون المادي وما بينهما من علاقة. ويتشعب هذا الانحراف شعباً كثيرة في وقت واحد، فأول انحراف هو محاولة إقحام العقل فيما ليس من شأنه أن يلم به فضلاً عن أن يحيط بكنهه في قضية الذات الإلهية. فمن باب احترام العقل لذاته ومعرفته لطبيعته وحدود مقدرته، ما كان لهذا العقل أن يقتحم ميدانا ليس بطبيعته مؤهلاً لاقتحامه، ولا قدرة له على الخوض فيه" .

 ولذلك خرج فكر المعتزلة متحرراً عن النصوص، يضرب يمنة ويسرة في أمور عقلية عندهم يظنونها مسلمات، وهي في الحقيقة _ إن كانت مصادمة للوحي _ لا تعدوا أن تكون على منوال ما حصل من تفضيل إبليس لخلقه على خلق آدم( ).

          وأما النصارى فمن ابتداعهم في دينهم ما شرعه لهم قساوستهم ورهبانهم، وفي مقدمتهم: بولس أو بولش (شاؤول) ( )، من تبديل متعمد للأحكام الشرعية التكليفية( )، باستحسان عقلي، تحت غطاء الوصاية الإلهية( ) المعطاة للكنيسة، وذلك في ما يسمى بالمجامع النصرانية( ).

وفي العصر الحديث ظهرت طائفة من أبناء الأمة الإسلامية تمجد العقل وترفع من مكانـته وتقدمه على النصوص الشرعية، تمثلت في المدرسة العقلانية( ) ومن تأثر بها، يقول الشيخ محمد عبده وهو من عمداء المدرسة العقلية في مصر: "اتفق أهل الملة الإسلامية – إلا قليلاً ممن لا ينظر إليه – على أنه إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل" .

وهذه الآراء فيها تشابه كبير بآراء العقلانية الأوروبية، كما أن ملامح المدرسة الاعتزالية لا يمكن تجاهلها في هذه الطائفة.

          وعلى هذا فللعقلانيـين الإسلاميـين في العصر الحديث مصدرين أساسـيـين تأثروا بهما بشكل مباشر، وهذان المصدران: - .......................................

...................................................................................

(لتكملة المبحث: راجع النسخة المطبوعة).

 المبحث الخامس: مظاهر تأثر المسـلمين بالوجــــــودية في الجانب العملي:

سبق تعريف الوجودية بأنها: جملة من الاتجاهات والأفكار المتباينة، وليست نظرية فلسفية واضحة المعالم، والذي يجمع بين تلك الأفكار أنها تمثل: تياراً فلسفياً يعلي من قيمة الإنسان ويؤكد على تفرده، وأنه صاحب تفكير وحرية وإرادة واختيار ولا يحتاج إلى موجِّـه ( ).

          أشهر مؤسسـي المذهب الوجودي: (جان بول سارتر)، وهو الذي اكتمل المذهب بصورته النهائية الإلحادية بآرائه وأطروحاته( ).

          والذي يخصنا هنا هو ما أنتجه مذهب سارتر من آراء عملية ربما تتدخل في جانب السلوك الإنساني، يقول د. عبد الرحمن بدوي شارحاً لمذهب سارتر الوجودي: "يؤكد سارتر على معنى الحرية في كتابه (الخيالي)، ويأتي بمثال صار مشهوراً  مفاده أن كوني وأنا في هذا المقهى، أشاهد غياب بطرس الذي أنا على موعد معه في هذا المقهى في ساعة معلومة، أشاهده على خلفية الحاضرين في المقهى _ هذا في الوقت نفسه اكتشاف للحرية الأساسـية التي للإنسان في أن يشاهد غياب (=عدم وجود) كائن غائب وكأنه واقعة مشاهدة.

          والمبدأ الرئيسـي الذي يضعه سارتر للوجودية هو القول بأن (الوجود يسبق الماهية) . ويلاحظ أن هيدجر( ) لم يستعمل هذه العبارة، وإن تضمنها مذهبه وكل مذهب وجودي. وقد كان السائد  في الفلسـفة المبدأ المضاد لهذا القول،، وهو إن الماهية تسبق الوجود: فقبل أن يوجد العالم كانت صورته أو فكرته في عقل الله، وقبل أن يوجد شيء تسبق وجوده فكرة عند صانعه، ومن هنا كان يقال إن ثمة طبيعة للإنسان، (وهذه الطبيعة الإنسانية وهي التصور الإنساني، توجد عند جميع الناس، أي أن كل فرد من الناس هو مثال جزئي لتصور كلي هو الإنسان)، أما الوجودية فترفض هذا الرأي وتقول إن الوجود يسبق الماهية أي فيما يتصل بالإنسان مثلاً الإنسان يوجد أولاً  ويصادف، وينبثق في العالم، ثم يتحدد من بعد، فالإنسان في أول وجوده ليس شيئاً ولا يمكن أن نحده بحد؛ وعلى ذلك فليس ثم طبيعة  إنسانية. بل الإنسان كما يتصور نفسه وكما يريد نفسه وكما يدرك  نفسه بعد أن يوجد، وكما يشاء هو بعد هذه الوثبة نحو الوجود. (الإنسان صانع نفسه).

          الإنسان يوجد أولاً غير محدد بصفة، ثم يلقي بنفسه في المستقبل، ويشعر أنه يلقي بنفسه في المستقبل، وذلك بأفعاله التي يؤديها. ولهذا فإن الإنسان هو أولاً  مشروع وتصميم يحيا حياة ذاتية؛ ولا شيء يوجد قبل هذا المشروع، بل الإنسان هو الذي يصمم مستقبله ثم يحقق من هذا التصميم ما يستطيع.

وما دام الإنسان مشروعاً وتصميماً يضعه لنفسه، إن بالضرورة مسؤول عما يكون عليه. وكل إنسان يحمل المسؤولية الكاملة عن وجوده. ولا تقتصر هذه المسؤولية عليه وحده بوصفه فرداً، بل تمتد إلى الناس جميعاً، لأن القرار الذي يتخذه لنفسه يمس سائر بني الإنسان فالإنسان حينما يختار نفسه هو في الوقت نفسه يختار لسائر الناس؛ ذلك لأنه باختياره هذا يرسم الإنسان كما يرى أن يكون؛ إذ أن اختياره لهذا أو ذاك توكيد في الوقت نفسه لقيمة ما يختاره، لأننا لا نختار أبداً ما نؤمن أنه شر وإنما نختار دائماً ما نعتقد أنه خير، ولا شيء يمكن أن يكون خيراً لنا دون أن يكون أيضاً خيراً للآخرين، فبتشكيلنا لصورة أنفسـنا نحن نشكل في الوقت عينه صورة الإنسان وهكذا نرى أن مسئوليتنا أكبر بكثير جداً مما نظن، لأنها تلزم الإنسانية كلها. وحتى الأفعال الشخصية، مثل الزواج، تلزم سائر الناس؛ فاختياري مثلاً أن أتزوج وأن أنجب أولاداً، حتى ولو كان الأمر عندي أمراً متعلقاً بحالتي الخاصة أو بملذاتي وشهواتي، فإن هذا الاختيار نفسه يمس الناس جميعاً وعلى هذا فأنا مسؤول قِـبَل نفسـي وقِـبَل الناس جميعاً في آن واحد معاً.

          وهذه المسؤولية البالغة الهائلة، لأنها تمس الناس جميعاً لا بد أن تـثير في الإنسان القلق البالغ الهائل أيضاً.  إذ كيف لا أكون مهموماً كل الهم والقرار الذي اتخذته وإن بدا في الظاهر أنه قرار شخصي _ إنما هو قرار يمس جمع البشر؟! نعم! إن الإنسان يحاول الفرار من هذا القلق، بإسدال قناع عليه، ولكن هذا القناع لن يستر الحقيقة الرهيبة الكبرى"( ).

          هنا نلحظ أمرين:-

 الأول: أن فكرة سارتر: (الوجود يسبق الماهية)، تعارض عقيدة القضاء والقدر؛ فإن ماهية الأشياء موجودة مسبقاً معلومة لدى الله في كتاب حفيظ،   (عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى)( )، فهي تعارض هذه العقيدة بمراحلها الأربع: من العلم إلى الكتابة وإلى المشيئة ومنها إلى الخلق( )، فلا ماهية للشيء قبل وجوده وهذا ينفي المراتب الثلاث الأولى، مما ينفي بدوره الخلق، ولذلك فالوجودية لا تصرح بعدم وجود الخالق بقدر ما تصرف النظر عنه.

 والثاني: أن فكرته هذه نفسها _ والتي لم يسبقه إليها أحد؛ فهو يجرد الموجودات عامةً من كل وصف قبل وجودها كأفراد في الخارج، ويزعم أنه ليس ثمة لها أوصافاً في الذهن يمكن تصورها قبل وجودها _ تجرد الإنسان من ماهيته وطبيعته كإنسان، وتصفه بوصف هو وجوده في ذاته، وليس ثمة وصفٌ للإنسانية بشكل عام، إنما يتوصل الفرد إلى وصف نفسه بما يوجده هو في نفسه من صفات نافعة أو ضارة، وفي ذلك يستوي مع الحيوان فلا كرامة لأحدهما على الآخر فليس ثمة للإنسان صفة حين ولادته غير صفة وجوده، كما أن الحيوان عند ولادته ليست له صفة أخرى غير صفة وجوده، وأما الشيء الذي يحدد ماهية الإنسان، فهو الشيء الذي يلصقه هو بنفسه ويعلقه على شمـاعة الإنسانية _ إن صح التعبير _ فليس للإنسانية (ماهية) أو معنى عام يشترك فيه جميع  الناس، وإنما يحدد كل إنسان معنى إنسانيته من خلال ممارساته، ليضيف إلى الإنسانية معنى آخر، ربما سُـبق إليه وربما لم يسبق إليه؛ فليس ثمة للإنسانية معنى مثالياً، تحكمه أديان أو أخلاق أو أعراف.

ولذلك فالوجودية ترى أن تحقيق الوجود للإنسان لا يتم إلا إذا أطلق العنان لرغباته، وأفسح المجال أمام شهواته بلا نظام أو قيد( ).

إن هذه الفكرة فيها من المكابرة الشيء الواضح، مما لا يستلزم الرد عليها تفصيلاً؛ فكل إنسان يعلم معنى إنسانيته ويعلم أن للإنسانية معان فاضلة، موجودة من قبل وجوده كفرد من أفراد جنس الإنسان. كما أن _ فكرة أن (الوجود يسبق الماهية) _ فيها دعوة للحياة بدون قيود، ليس فقط القيود الدينية والأخلاقية والأعراف السائدة والتقاليد( )، بل حتى قيود الإنسانية التي كُـرِّم بها الإنسان على سائر الحيوانات كما قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)( )؛ فالقيود من صنع الإنسان الذي صنع ماهيته وكنهـه بنفسه بعد وجوده كفرد من أفراد البشر.

ولكننا نجد هذه الفكرة  _ مع حقارتها وبعدها عن المعقول _ تنـتشـر في الغرب، أو تُـنشـر بأيدٍ آثمة تريد للإنسانية أن تصل إلى الدرك الأسفل من الحيوانية، بل وأدنى من ذلك، تحت غطاء الحرية المطلقة والتي يحقق المرء من خلالها كنهه وماهيته من تلقاء نفسه.

          ولذلك في النهاية: "تقول وجودية سارتر إن الكون والحياة لا هدف لها ولا غاية.. ولا عدل فيها ولا حق. إنما كله ضلال وعبث. وإن الوجود الإنساني ضياع كله، ومن المستحيل أن يحقق الإنسان فيه وجوده! وإلى هنا نستطيع أن نقول إن هذا أيضاً تعبير باطني صادق عن فقدان الحياة معناها وهدفها حين تفقد العنصر الذي يوجد الترابط بين أجزائها ويعطى أحداثها تفسـيرها ومعناها وهو الدين.

ولكن وجودية سارتر لا تقف عند تسجيل الضياع والعبثية وفقدان المعنى والغاية.. ولكنها تقدم حلاً للمشكلة! وياله من حل! الحل أن يعيش كل إنسان وحده، وأن يحقق وجوده بأن يفعل ما يرى هو أنه حق وأنه واجب وأنه حسـن!

في مسرحيته: (الجحيم هو الآخرون) يرسم الجحيم في نفس إنسان – إذا كان إنساناً! – تعذب من أول المسرحية إلى آخرها من وجود آخرين لا يكفون عن الوجود حوله، ويفرضون عليه أن يكونوا موجودين معه، فيمنعونه أن يكوِّن نفسه.. أن يحس بذاتيته.. أن يفعل ما يمليه عليه هواه الشخصي. فيظل ساكناً ساكتاً يتعذب. يتطلع إلى اللحظة التي يذهب فيها عنه (الآخرون) لينطلق بوجوده الذاتي، ليحقق ذاته.. ولكنهم لا ينصرفون.. فيظل هو في الجحيم!"( ).

وعلى هذا فإن أبرز سمة من سمات الوجودية هي محاولة التحرر من كل القيم والأعراف والمثل، والجري وراء الحرية بكل طريق حتى ولو خالفت المبادئ السائدة، حتى ولو خالفت الديمقراطية؛ فاعتبار مصلحة الجماعات اعتبار مفقود لدى الوجوديـين، كما أن اعتبار موافقة الأديان والشرائع السماوية _ التي تقف في وجه إرادة الفرد أحياناً _ اعتبار مُنَحَّىً من باب أولى، وباختصار: فإنه ليس عند الوجوديـين أي اعتبار لأي كائن ما دام يقف في وجه الحرية، فلا ينبغي عندهم لنظام من الأنظمة البشرية، ولا لدين من الأديان السماوية أن يقف عقبة في وجه دعوات التحرر، الأمر الذي نشر الإباحية السافرة في الغرب.

وما دعوات التحرر التي ينادي بها بعض الناس في العالم الإسلامي، إلا لوثة من لوثات هذا الفكر الوجودي التحرري، بل قد يكون مظهراً من مظاهر الوجودية المتلفعة بثوب شرقي، فالدعوى هي نفسها (الحرية)، مناهضةً للشرع أو موافقةً، فإن كانت مخالفة فالسبيل هو محاولة تطويع الشرع فإن لم يكن فالاعتراض، وعلى أساس هذه الدعوات قامت دعوة تحرير المرأة على يد رفاعة الطهطاوي( ) الذي تلقف فكره من نفس الموطن الذي انطلقت منه دعوة سارتر (من فرنسا)، وعاد لكي يؤلف كتابه: (تحرير المرأة)، وهو خطوة في سبيل التحرر والحرية، الحرية التي راجت في الغرب النصراني بفضل دعوة سارتر الوجودية، وغيرها من الشعارات التحررية الزائفة، تحرير المرأة من الحجاب، ثم من الأخلاق، ثم تحرير المجتمع بأسره من العبودية لله رب العالمين؛ فقد كان رفاعة في كتابه تحرير المرأة يتمسح شيئاً ما بالإسلام، ولكن الخطوة التالية لا بد وأن تكون أشد تحرراً؛ ففي كتابه: (المرأة الجديدة) لم يعد يذكر الإسلام؛ لأنه يقف في وجه الحرية التي يريد، فصار يعلن أن المرأة المصرية ينبغي أن تتقدم وتتحرر( ) كما فعلت أختها الفرنسـية من قبل، وذلك حين استجابت لدعاوى التحرر والإباحية والتي في مقدمتها دعوة سارتر (الوجودية).

حينها سـوف يحقق الإنسان وجوده في نظر (سارتر)، وعندها لا بد أن ينسى الذي يأمره و ينهاه ويسبب له الكبت، فالإنسان مسؤول والإنسان حر الإرادة، ولا يتم ذلك إلا حين يطغى وجود الإنسان على وجود الإله الذي خلق الوجود والماهية والتصورات والأفكار.

ونحن نقول: حينها ستبدأ عبادة الهوى التي يسعى إليها سارتر، لينقل نفسه ومن معه من عبادة الله الواحد الأحد إلى عبادة كل شيء تهواه نفسه وترنوا إليه، من الحرية الحقيقية إلى الحرية الزائفة، يقول سارتر: "إن ما ينبغي أن تكون عليه حياة الوجودي: تلبية كل ما تدعوه إليه شهواته، ونبذ كل التقاليد والتعاليم الاجتماعية وتحطيم القيود التي ابتدعتها الأديان ... ثم تطليق الماضي وسلخ المرء نفسه منه متجهاً إلى  الأمام .. إلى المستقبل قفزاً .. إلى المصير المحتوم إلى الهاوية.. إلى الموت والعدم الأبدي"( ).

فأول خطوة إلى الوجودية هي التي دعا إليها رفاعة والخطوة الأخيرة هي التي وصل إليها سارتر، فمن دعوة صغيرة إلى إنكار الحي القيوم.

ولذلك إذا فهمنا هذه المعادلة، فقهنا ذلك العد التنازلي، في القيم والمبادئ عند المتحررين، من العبث والتمرد واللامعقول( )، لم نستغرب قول الشاعر المتحرر في وصف من افتتن قلبه بهن – حين وصل التحرر في ضميره إلى الدرجة  السفلى من التحرر ( ) – حيث يقول:

فإذا الظباء الآنســــات      تمر لا تلـــوي بمثلي         

وإذا الخصور الضـــامرات    تجل عن وصف وقـول     

وإذا الجفون الناعســـات     تكاد تقتل أي قتـــل        

وإذا الوجوه المشرقـــات      تكاد تخطف كل عقــل    

يا قلب هــذي كعبـة الدْ    دُنيا فقف يوماً وصــل     

للعاريـــات كأنــهـنْ ........................

(لتكملة المبحث: راجع النسخة المطبوعة).

إنها عبودية الهوى، كما قال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ)( )، وقال: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً)( )، ولقد سمى رسـول الله من جرى وراء الشهوات وأعرض عن الله: عبداً لتلك الشهوات، فقال : ((تعس عبد  الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض))( )، وعليه فقد يكون الإنسان عبداً للدنيا، وفي ذلك قال المناوي: "عبد الدنيا المعتكف على خدمتها ومراعاتها، وعليه يصح أن يقال ليس كل إنسان عبد الله"( )، فمن كان على هذه الحال من اتباع الهوى صح أن يطلق عليه أنه عبدٌ للدنيا؛ فإنه لما تشـبه بالكفار في عبادتهم لأصنامهم وتلبيتهم لندائها وعكوفهم عليها، فهو عاكف على دنياه ملبٍ لرغبات هواه، فصار عبداً لهواه ودنياه، وهو ما تأمر به الوجودية في العصر الحديث.

          وفي إعجاب بالمذهب الوجودي يقول أحد المتأثرين به في إطراء لمجنون ليلى الذي استطاع أن يعبر عن الفلسـفة الوجودية قبل وجودها عن طريق شعره الذي يصف فيه معشوقته: "إن ليلى في كل مكان وفي كل زمان.. وهو ضائع من أجلها وفي سبيلها.. وإذا أضاعه الحب، فإنه قد وجد نفسه في هذا الضياع. ولو عاش مجنون ليلى في زماننا وترجمنا شعره إلى أية لغة أوروبية لجعلوه زعيماً للفلسـفة الوجودية.. فقد استطاع بصدقه وإحساسه العميق أن يعبر القرون أحد عشر قرناً حتى يعايشنا في القرن العشرين ويتقدمنا جميعاً.. بالمعنى العميق والكلام الجميل.. مجنون؟ ليكن، ولكن ليس أعقل من كلامه الصادق، كلاماً من فلاسفة القرن العشرين. من أتى بهذه المعاني، ثم كيف واتته هذه الموسـيقى وهو عريان يتقلب على رمل كالنار، وفي داخله الجوع ينهشه والعطش يكويه، والجنون يلعب به"( )، وهكذا فإن الشاعر وجد نفسه في هذا الحب الأعمى الذي يشبه عبادة المعشوق، وهذه هي الفلسـفة الوجودية التي يحترمها الأوربيون والتي وجدنا من تراثنا الشعري ما يترجمها قبل وقوعها، وبذلك يكون العرب قد سبقوا أوروبا إلى هذه الفلسـفة الجيدة التي توصلوا إليها.

وكان من أوائل من اعتنى بتقديم فكر سارتر إلى العالم العربي الإسلامي: سهيل إدريس بعد عودته من باريس، في أوائل الخمسـينات، وتأسـيسه مجلةَ «الآداب» التي تحولت فيما بعد إلى دار للنشر( ).

          "ويعتبر الدكتور عبد الرحمن بدوي من كبار رواد الوجودية في العالم الإسلامي المعاصر، إن لم يكن أكبر رائد لها على الإطلاق"( )، يقول متحدثاً عن نفسه:

...........................................................................

...........................................................................

...........................................................................

(لتكملة المبحث: راجع النسخة المطبوعة).

 المبحث السادس:  القومية والوطنية:-

القومية هي: "أن أبناء الأصل الواحد واللغة الواحدة ينبغي أن يكون ولاؤهم واحداً وإن تعددت أرضهم وتفرقت أوطانهم، وإن كان معناه أيضاً السعي في النهاية إلى توحيد الوطن بحيث تجتمع القومية الواحدة في وطن شامل، فيكون الولاء للقومية مصحوباً بالولاء للأرض.. ولكن الولاء للقومية يظل هو الأصل ولو لم تتحقق وحدة الأرض"( ).

          والوطنية هي: "أن يشعر جميع أبناء الوطن الواحد بالولاء لذلك الوطن، والتعصب له، أياً كانت أصولهم التي ينتمون إليها، وأجناسهم التي انحدروا منها. أي أن الولاء فيها للأرض بصرف النظر عن القوم واللغة أو الجنس"( ).

          ولقد جاء الإسلام بإلغاء كل هذه الأنواع من التفرقة العنصرية والنعرات القبلية التي كانت موجودة في الجاهلية( )، قال تعالى: (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّة) ( ).

          وقال رسـول الله : ((ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية)) ، قال شيخ الإسلام _ رحمه الله _: "وتكون دعوى الجاهلية في العصبية" .

          وعن أبي بن كعب قال: قال رسـول الله : ((من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه، ولا تكنوا))( )، قال المناوي _ رحمه الله _: "إذا رأيتم الرجل يتعزى أي: ينـتسب بعزاء الجاهلية، أي: بنسبها والانتماء إليها، يقال: اعتزى إليه أي انتسب وانتمى، وتعزى كذلك، فأعضوه، أي: اشتموه بهن أبيه، أي: قولوا له: اعضض بهن أبيك، أو بذكره، وصرحوا بلفظ الذكر ولا تكنوا عنه بالهن تنكيراً وزجراً"( )، وهذه الطريقة من الشتم _ في مقابل الإساءة _ لم نعهدها من النبي في كثير من المواضع وإنما جاءت هنا بهذا الأسلوب؛ لأن المسـيء في هذه الحالة يجمع بين أمور، منها: أنه تبجح بذكر مآثر الجاهلية، وأنه استعلى على غيره من المسـلمين، والأمر الأعظم: أنه تشـبه بأهل الجاهلية وذلك بافتخاره بهم أمام المسـلمين، فهو لم يتشـبه بهم فحسب، بل استعلى بهم، وفي ذلك محبة للكفار وتفضيل لهم على إخوانه المسـلمين( ).

          كما أثر عنه قوله لأبي ذر لما عير رجلاً بأمه: ((إنك امرؤ فيك جاهلية)) ، فتقيـيم الإنسان بنسبه أو قرابته: من صفات أهل الجاهلية، فليس في الإسلام فخرٌ بالأباء والأجداد، لا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى، وعن أبي هريرة عنه قال: قال رسـول الله : ((إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية، وفخرها بالآباء، مؤمن تقي أو فاجر شقي أنتم بنوا آدم وآدم من تراب، ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن)) .

وعن أبي هريرة أيضاً عن النبي أنه قال: ((من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية. ومن قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبية أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة فقتل فقتلة جاهلية)) ، فمن قاتل من أجل أي عنصرية صغيرة كانت أو كبيرة يدخل تحت هذا الوعيد منه ، لا فرق بين من قاتل من أجل عصبية قبلية أو عصبية وطنية أو عصبية قومية.

وعن جابر بن عبد الله قال: غزونا مع رسـول الله وقد تاب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا وكان من المهاجرين رجل لعاب، فكسع( ) أنصارياً فغضب الأنصار غضباً شديداً حتى تداعوا وقال الأنصاري يا للأنصار، وقال المهاجري يا للمهاجرين، فخرج النبي فقال: ((ما بال دعوى الجاهلية) ثم قال: ما شأنهم فأخبر بكسعة المهاجري للأنصاري، قال: فقال النبي : ((دعوها فإنها خبيثة))( )، قال شيخ الإسلام: "فهذان الاسمان المهاجرون والأنصار, اسمان شرعيان جاء بهما الكتاب والسـنة وسماهما الله بهما كما سمانا المسـلمين من قبل وفي هذا. وانتساب الرجل إلى المهاجرين أو الأنصار: انتساب حسـن محمود، عند الله وعند رسـوله، ليس من المباح الذي يقصد به التعريف فقط، كالانتساب إلى القبائل والأمصار ولا من المكروه أو المحرم، كالانتساب إلى ما يفضي إلى بدعة أو معصية. ثم مع هذا لما دعا كل منهما طائفته منتصراً بها أنكر النبي ذلك وسماها دعوى الجاهلية، حتى قيل له إن الداعي بها إنما هما غلامان، لم يصدر ذلك من الجماعة، فأمر بمنع الظلم وإغاثة المظلوم ليبين النبي أن المحذور إنما هو تعصب الرجل لطائفته مطلقاً، فعل أهل الجاهلية فأما نصرها بالحق من غير عدوان فحسـن واجب أو مستحب" ، فنهاهم النبي عن التداعي بهذه الألقاب ونسبها إلى الجاهلية، رغم أنها ألقاب إسلامية، وما ذلك إلا لأنها استخدمت في هذا الموضع على وجه التفرقة العنصرية بين المسـلمين.

فلم يطلق النبي على المسـلمين من أهل مكة وأهل المدينة هذا الإطلاق إلا لأنه خالٍ من العصبية، أو التفرقة العنصرية، يقول شيخ الإسلام: "وذلك أن الانتساب إلى الاسم الشرعي أحسـن من الانتساب إلى غيره ألا ترى إلى ما رواه أبو داود عن أبي عقبة وكان مولى من أهل فارس، قال: شهدت مع رسـول الله أحداً فضربت رجلاً من المشـركين فقلت خذها مني وأنا الغلام الفارسـي، فالتفت إلي فقال: ((هلا قلت خذها مني وأنا الغلام الأنصاري)) ، حضه رسـول الله على الانتساب للأنصار وإن كان بالولاء وكان إظهار هذا أحب إليه من الانتساب إلى فارس بالصراحة، وهي نسبة حق ليست محرمة"( )، كل هذا حرصاً منه على أن يكون الولاء والبراء من أجل الدين، بعيداً عن أي نعرة قومية.

وهكذا جاء الإسلام ملغياً لكل ما يجلب التعصب العنصري المقيت، فلا فرق في الإسلام بين أسـود وأبيض ولا بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)( )، والله عليم خبير بما تميز به بعضكم على بعض بالتقوى التي في قلبه( )، وليس المقياس هو الحسب والنسب، ولذلك قال النبي : ((سلمان منا أهل البيت))( )، وسلمان فارسـي الأصل، ولما باع صهيب الرومي ماله كله الذي اكتسبه خلال عمر طويل، وكان الثمن هو الهجرة إلى النبي وجواره، استقبله النبي بقوله: ((أبا يحيى ربح البيع)) ثلاثاً( )، وأظهر النبي من العداوة لعمه أبي لهب _ والذي جاء القرآن بالوعيد الشديد في شخصه: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ، مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ، سـيصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ)( ) _ وهو العربي القرشي السـيد في قومه، ما أظهر أضعافه من المودة لسلمان وصهيب وبلال الحبشي رضي الله عنهم جميعاً.            وعلى هذا ربى النبيُّ صحابته الكرام، حتى رأينا الصحابة لا يفاضلون فيما بينهم إلا بالتقوى،، وقال عنه عمر : ((أبو بكر سـيدنا وأعتق سـيدنا)) ( ).

          استطاع النبي أن يفرز جيلاً للتاريخ لا يعرف سـوى الإسلام علاقة وحمية، ولا يعرف معياراً سـوى الإيمان حباً وتفضيلاً، بعد أن كان العرب في الجاهلية لا يفاضلون إلا بالحسب والنسب، ولا يدعون الفخر بالأنساب والأحساب، والولاء عندهم ولاء ضيق محدود بالعشيرة والقبيلة وأبناء العمومة، الولاء عندهم للمخلوق بدل الخالق، حتى قال قائلهم:

أنا من غزية إن غوت غويت                  وإن ترشـد غزية أرشـد

ولما كان العرب في الجاهلية يذكرون الآباء والأجداد في المحافل، وعند فراغهم من مناسكهم( ): نهاهم الله عن ذلك فقال: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً)( )، فصار الولاء للخالق بدل المخلوق، وتبصرت عقولهم، واتسع أفقهم، كما اتسعت بعد ذلك رقعتهم حتى امتدت إلى مشارق الأرض ومغاربها، لما تخلصوا من أدران الجاهلية وعبيتها .

العرقيات في الملل المحرفة والنحل الضالة:

          لقد رزحت البشرية تحت هذه الجاهليات لما ابتعدت عن منهج الأنبياء؛ فلم يكن العرب في الجاهلية وحدهم قد وقعوا في هذا النوع من العنصرية، فالأديان الهندية القديمة قامت على التفريق بين أنواع من البشر على أساس طبقي مردُّه العنصر والنسب، يقول د. علي عبد الواحد وافي: "وذلك أن أسفار الفيدا وقوانين مانو لا تعترف بمبدأ المساواة بين الناس في القيمة الإنسانية المشتركة، بل تقرر التفاضل بينهم بحسب عناصرهم ونشأتهم الأولى. فتزعم أن الإله براهما( ) قد خلق أربع طبقات من الناس، وخلق كل طبقة من هذه الطبقات من طبيعة خاصة ومن موضع خاص من جسمه. فخلق طبقة (البرهمنيـين) Brahmans  من فمه، وطبقة (الكشتريـين) Kachtriyas من ذراعه، وطبقة (الفيسائيـين) Vaisyas  من فخذه، وطبقة (الشودرا) أو المنبوذين Soudras من قدمه. ولما كان أشرف الأعضاء وأطهرها هو ما علا السرة، وأشرفها وأطهرها جميعاً هو الفم، ويليه في ذلك الذراع، ولما كان أحط الأعضاء هو ما كان أسفل السرة، وأحطها جميعاً هو القدم، لذلك كان أشرف الناس جميعاً وأطهرهم بحسب العنصر والنشأة الأولى هم الذين انحدروا من فم براهما وهم (البرهمنيون)، ويليهم في الفضل الذين انحدروا من ذراعه وهم (الكشتريون)، وكان أحط الطبقات الإنسانية الذين انحدروا من فخذه وقدمه وهم (الفيسائيون) و(الشودرا) أو المنبوذون، وأكثرهم رجساً ونجساً هم (الشودرا) المنحدرون من قدم براهما"( ).

          كما أن التفرقة العنصرية من سمات دين اليهود المبتدع؛ فإن دينهم قائم على أن بني إسرائيل شعب الله المختار، وينظرون إلى من سـواهم من الناس نظرة وضيعة في سلم الإنسانية( )، وهم من يسمونهم بـ(الأمميـين) "وهي الترجمة العربية للكلمة العبرية ((الجويم)) وهي أحد المصطلحات التي يطلقها اليهود على غير اليهودي، وتعني عندهم الكفرة، والوثنيـين، و الأنجاس، والحيوانات"( )، ولقد بين الله تعالى ذلك في القرآن الكريم، فقال: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأمِّيـينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)( )، قال ابن كثير: "أي إنما حملهم على جحود الحق أنهم يقولون ليس علينا في ديننا حرج في أكل أموال الأميـين وهم العرب فإن الله قد أحلها لنا"( ).

ولقد رد الله عليهم برد مقحم في هذا الزعم الذي زعموه من عند أنفسهم، فقال جل وعلا: (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)( )، وقال: (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)( ).

القوميات الأوروبية:

          وبطبيعة حال الأمم الأوروبية الكافرة التي قامت على فصل الدين عن الدولة _ بغض النظر عن الدين الذي يعتنقونه _ أن تكتوي بنار القوميات؛ ما دامت لا يجمعها شيء يوحد كيانها المتفرق، فنشأت هناك قوميات عدة، منها القومية الألمانية والقومية الفرنسـية، وفي بريطانيا انتشر الزعم بتفوق الرجل الأبيض وتفضيله على غيره، وفي أمريكا قامت الحرب الأهلية ما بين: (1861- 1865م) بسبب العنصرية( )، وغيرها من القوميات التي احترق الغرب بنيرها.

يقول الشيخ محمد قطب: "وقد رأى النصارى عند احتكاكهم بالمسـلمين عالماً مختلفاً تمام الاختلاف، عالماً لا كنيسة فيه ولا (بابا) ولا رجال دين.. إنما فيه علماء يتفقهون في الدين، وغالباً ما يتفقهون في علوم أخرى مع العلوم الدينية كالطب أو الفلك أو الرياضيات.. الخ.. بلا تعارض بين تفقههم هنا وهناك.. وليس لهم – مع تفقههم – كهانة على الناس ولا سلطان إلا توقير العلماء من أجل علمهم فحسب، ولا وساطة لهم بين الناس وبين ربهم الذي يعلمهم أنه لا وسطاء ولا شفعاء عنده، وأنه ما على العباد إلا أن يدعوه، فيستجيب لهم بلا وسـيط: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)( )، (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) .

عندئذ تحركت نفوس الذين يرغبون في الإصلاح لمحاولة إصلاح مفاسد الكنيسة المتراكمة خلال القرون، وخلع السلطان الطاغي الذي فرضه البابا ورجاله على الناس باسم الدين. ولكن محاولاتهم كانت كالرقعة في الثوب الخلق بسبب رفضهم الدخول في الإسلام، وسعيهم إلى الإصلاح بغـير عدته الحقيقية التي تؤدي إليه.. واستغل الملوك هذه الحركات لحسابهم الخاص كما أسلفنا , لا يريدون الإصلاح الديني الحقيقي، ولا يريدون للناس أن يستقيموا على دين صحيح فيخرجوا على طاعتهم ! إنما رأوا فيها أداة تساعدهم على الانسلاخ من سلطان البابا فاستغلوها في هذه الحدود.

ولم يكن الملوك وحدهم وراء اللعبة، إنما كان وراءها كذلك اليهود المتربصون لأية فرصة تسـنح لهم للانتقام من النصارى الذين اضطهدوهم وأذلوهم على أساس أنهم تسببوا في صلب المسـيح . فلما قامت حركات تؤذن بتفريق كلمة النصارى وتشتيت سلطان الكنيسة، كان من صالحهم ولا شك أن يحتضنوها ويوجهوها خلسة أو علانية لتوسـيع الشقة بينها وبين الكنيسة الأصلية، وكل فرقة – سـواء قامت باسم الإصلاح أو بهدف الإفساد – هي في النهاية في صالح اليهود ما دامت لا تؤدي إلى إصلاح حقيقي ! وإن صلة اليهود بالبروتستانتية بالذات لأمر معلوم لكل من يدرس تاريخ تلك الحركة، وإن أنكر تلك الصلة هؤلاء وهؤلاء! هكذا كان مولد القوميات في أوربا.. حركات إصلاحية مبتورة غير ناضجة، استغلها ذوو الأهواء لحسابهم الخاص، فأفسدوها وحولوها إلى اتجاه شرير" .

وهكذا قامت الحركات الدينية الإصلاحية في أوروبا يحمل بعضها القومية في طياتها، كما هو حال الحركة الدينية التي قام بها لوثر والتي تدعى: (حركة إصلاح الدين على وحدة أوربا الثقافية الدينية)، كل ذلك مما أورث الأوربيـين الفشل والتنازع والتمزق ، حتى نشأ ما يسمى بالحروب الإيطالية: و"الحروب الإيطالية هي حروب منقطعة نشبت بين فرنسا وأسبانيا خلال فترة استطالت خمسة وستين عاماً (1494-1559) وكانت هذه الحروب مظهراً للتنافس الدولي بين هاتين الدولتين من أجل السـيطرة والنفوذ في أوربا، والرغبة في التوسع الإقليمي داخل القارة، وقد بدأ هذا التنافس بين فرنسا وأسبانيا قبل أن يلفظ القرن الخامس عشر أنفاسه الأخيرة، واقترن بصراع حربي مرير خاضته الدولتان، وكانت شبة الجزيرة الإيطالية ميداناً لتصارع الجيوش الفرنسـية والأسبانية خلال المراحل الأولى لهذه الحروب التي تطورت بعد ذلك إلى نضال أوربي اتسع نطاقه وانتقل إلى ميادين متعددة خارج شبة الجزيرة الإيطالية" .

          ولقد ظل المسلمون خلال العصور السابقة بعيدين عن تلك العصبيات الجاهلية( ) إلا ما كان من ممارسات لا تعد تياراً جارفاً يحصر أنواع الولاء في قوميات ضيقة، ولقد كان من أسباب ثباتهم على توحيد الولاء من أجل الإسلام: أنهم كانوا تحت راية واحدة، سـواء كان ذلك ممثلاً في الدولة الأموية أو العباسـية أو العثمانية.

          ولكن القوميات بدأت تطل من وراء أنقاض الدولة العثمانية، وربما كان ذلك من إرهاصات السقوط لهذا الصرح الشامخ، وكانت أول قومية منظمة خرجت في العصر الحديث: الطورانية التركية.

الطورانية التركية:

ظهرت الدعوة إلى الطورانية التركية على يد جمعية الاتحاد والترقي( )، والطورانية: حركة قومية ظهرت بين الأتراك العثمانيـين في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي وأوائل القرن العشرين، كانت تستهدف تتريك العناصر العثمانية، واشتقت اسمها من ((طوران)) أو ((توران)) أي بلاد توره، باعتبار أنها مهد الشعوب التركية من شرقية وغربية، وتهدف الطورانية إلى تزكية النعرة القومية الطورانية بين الأتراك، دون غيرهم من المواطنين العثمانيـين، وتحقيق سـيادة العنصر التركي على غيره من العناصر المكونة للدولة. وفي بداية هذه الدعوة قبل الحرب العالمية الأولى استخدمت عدة وسائل لتحقيق أهدافها بتكوين جمعيات ومنتديات مثل: ((ترك أوجاغي)) أي: العائلة التركية، والتي تفرعت عنها جمعيات مختلفة تتعاون في تحقيق أهدافها، في تخليص اللغة التركية من الألفاظ العربية والفارسـية، والتنقيب عن ألفاظ تقوم مقامها من التركية القديمة، وهو ما تحقق على يد الكماليـين. كما تهتم رابطة ((ترك درنكي)) بدراسة أحوال الشعوب التركية وتاريخها وبث الفكر القومي بالإشادة بعظماء الطورانيـين في القديم والحديث، كما عنيت بالأناشيد والأغاني التي تمجدهم"( ).

وفي الحقيقة كانت الطورانية التركية في الأصل صناعة يهودية، "فاليهود المتمسلمون، المعروفون بيهود الدونما، الذين هاجروا من المغرب واستوطنوا البلقان كانوا من المنظمين الحقيقيـين لحزب الاتحاد والترقي الذي نادى بالقومية الطورانية (وهو قومية الأتراك في جاهليتهم قبل دخولهم في الإسلام) ورفع شعار الذئب الأغبر (وهو معبود الأتراك في جاهليتهم) كما نادى بضرورة (تتريك) الدولة، أي جعل المناصب فيها وقفاً على الأتراك وحدهم ومعنى ذلك – كما حدث في الفعل – أن يحس العرب أنهم مظلومون في ظل الحكم التركي وأنهم مهضوموا الحقوق.. عندئذ تلقفتهم الصليبية – حليفة اليهود في الحرب ضد الإسلام – فأرسلت إليهم (لورنس) ليؤجج فيهم روح القومية العربية رداً على القومية الطورانية.. ويؤلف الثورة العربية الكبرى ضد دولة الخلافة ! وببساطة تم الأمر.. في غفلة من المسـلمين"( ).

"وكان السلطان عبد الحميد الثاني يطارد تلك الجماعات السرية التي تنادي بالعروبة والقومية العربية كما يضيق على النشاط السري لحزب الاتحاد والترقي، لإدراكه المقصود من ورائهما، فيتخذ ذلك ذريعة لمزيد من الكيد ضده ويتهم بالدكتاتورية الطغيان في داخل تركيا، وباضطهاد الأقليات خارجها ! وتصنع من هذه وتلك مادة للدعاية ضده ونشر البغض والكراهية له، تمهيداً لما يخطط من عزله، عقاباً له على عدم موافقته على إنشاء الدولة اليهودية!"( ).

"وبالتالي فإن الطورانية دعوة لتقليد دعاوى القومية التي نشطت في أوربا"( )

وأخذت الطورانية التركية نصيبها من الأدب التركي وكان على رأس الكتاب الطورانيـين: ضيا كوك ألب( )، الذي لقب بأبي القومية التركية، ومحمد أمين ، وكان ممن تصدى لهذه الحملة الطورانية: الشاعر (محمد عاكف) الذي اعتبر شاعر الإسلام في الدولة العثمانية فقد وقف ينادي بوحدة المسـلمين محذراً من التيارات القومية الهدامة كالطورانية وغيرها، وكان يؤكد أن الدعوة للقوميات فتنة إنكليزية استهدفت فتح ثغرات في جدران القلعة الإسلامية الصامدة( ).

القومية العربية والقضية الفلسطينية:

وهكذا تلقف( ) الدعوة إلى القومية العربية بعض نصارى العرب على نمط الدعوة إلى الطورانية التركية ، ومنهم: بطرس البستاني وإبراهيم اليازجي وأحمد فارس الشدياق( ) وسليم تقلا( )، وجورجي زيدان( )، وعلى يد هؤلاء بدأت التفرقة بين الجامعة الإسلامية والجامعة العربية( ).

ومن دسائس الاستعمار الغربي: دعوته إلى إحياء الآثار القديمة والفنون الشعبية المندثرة حتى يشغلا المسـلمين عن العمل في رد المستعمر بإحياء الحضارات القديمة والعودة إلى الوراء وتجاهل حضارة الإسلام ( ).

وهذا ما أكده المستشرق (كويلر يونغ) في كتابه: (الشرق الأدنى: مجتمعه وثقافته)؛ حيث يقول: "إننا في كل بلد إسلامي دخلناه، نبشنا الأرض لنستخرج حضارات ما قبل الإسلام، ولسـنا نطمع بطبيعة الحال أن يرتد المسلم إلى عقائد ما قبل الإسلام، ولكن يكفينا تذبذب ولائه بين الإسلام وبين تلك الحضارات"( ).

وهكذا وكذلك أثيرت الفينيقية في لبنان، والآشورية والسـومرية والبابلية في العراق، والكنعانية في فلسطين، والبربرية في المغرب، والحيثية في آسـيا الصغرى، والهندوكية في إندونيسـيا، والفارسـية في إيران، وذلك لعزل هذه الأجزاء عن بعضها البعض, والتفريق بينهما تفريقاً يحول دون التقائها في وحدة إيمانية قوية"( ).

وشغلت الصحف بالكلام عن الكشوف الأثرية الجديدة وما تدل عليه من حضارات البابليـين والآشوريـين والكلدانيـين والفينيقيـين والفراعنة( )، وما زال بعض الكتاب المسلمون لا يفتؤون يذكرون مآثر الآباء والأجداد السابقين حتى يصل الأمر إلى المفاخرة بما أنجزه أهل الحضارات الكافرة، ما قبل الإسلام، حتى يفخر بعض الكتاب بمآثر قدماء المصريـين وحضارتهم القديمة( ).

يقول أحدهم في مقدمة كتابه: "حسـناً ألم تقم مصر بدور قيادي في التاريخ منذ فجر الحضارة؟ إذا لم تكن هي أول موطن ظهرت فيه حضارة الإنسان في التاريخ القديم، فهي لا شك الموطن الثاني. وإذا كان العراق قد سبق مصر، فإنما سبقها ببضعة قرون على الأكثر" .

وفي الثلاثينيات، وتحديداً في عام 1932م،  تأسس الحزب القومي في لبنان( ) على يد أنطوان سعادة( )، ومن أهم مبادئ هذا الحزب التي يذكرها أنطوان سعادة في كتابه نشوء الأمم:

-  إعداد جيش قومي ذي قيمة فعلية في تقرير مصير الأمة والوطن.

-  مصلحة سـوريا فوق كل مصلحة.

كما أنهم يعتزون بالماضي السحيق الذي يمثله الفينيقيون بوثنيتهم وخمرهم وآلهتهم وعاداته وتقاليدهم ولذاتهم ويعتزون بالثقافة الروحية الطابع العمراني الذي نشرته سـوريا في البحر السـوري المعروف بالبحر المتوسط، ويعتبرون أن أزهى العصور في تاريخ سـوريا هو العصر الفينيقي، وأن الفتح الإسلامي يعتبر فتحاً أجنبياً ولا يرون في التاريخ الإسلامي في سـوريا بعد الفتح إلا تاريخاً سـورياً خالصاً، فمعاوية رضي الله عنه أصبح سـورياً لإقامته في دمشق عشرين عاماً قبل الخلافة، وأمجاد الأمويـين أمجاد سـورية محضة، والنزاع بين معاوية وعلي رضي الله عنهما إنما هو نزاع بين القومية السـورية والقومية العراقية، وعندما يتحدثون عن سـوريا فإنما يقصدون بذلك سـوريا الكبرى والتي تضم سـوريا الحالية ولبنان و الأردن وفلسطين( ).

ومن لوثة هذا الفكر العنصري الجاهلي المريض تقديم العرب على المسـلمين في اللفظ وإقحام لفظ العرب مع المسـلمين في قضايا المسـلمين، وهذا مشهور في كثير من الإذاعات والتلفزة العربية، إيماناً منهم بأن للعرب خصوصية في ذلك، إن لم يكن بسبب إيمانهم بالعروبة كعنصر يجمع بين العربي وأخيه العربي ويجعلهما يعملان جنباً إلى جنب نصراً للعروبة، تحت شعار (الدين لله والوطن للجميع) ( )، وإن كان ذلك على حساب الإسلام دين الله الحق؛ فإن من العرب من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، ومن غير العرب من هو أكثر تمسكاً بالإسلام من المسـلمين العرب.

وعلى هذا فيكون من التضليل الإعلامي للمسـلمين ومن تميـيع قضاياهم هو إلباسها ثوباً غير الثوب الإسلامي، سـواءً أكان ذلك الثوب عربياً أو كردياً أو طورانياً أو غير ذلك؛ فإن تفصيل كل هذه الثياب تفصيل جاهلي، خاطها من قبل لأهل الجاهليات: إبليس، حين اعترض على ربه ظاناً أن عنصره أفضل من عنصر آدم فقال: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)( ).

وألقت القومية العربية بظلالها على ما يسمى بالقضية الفلسطينية، وهي قضية احتلال الصهاينة لفلسطين، فصار كثير من المسـلمين العرب يحمل هم القضية على أساس أن الذي حدث ويحدث لإخواننا الفلسطينيـين هو مما يمس إخواننا في العروبة( )، الأمر الذي يجعل العروبة هي الدين الجديد الذي يجمع بين العرب والذي يجب أن يلتقي عليه العربي مع أخيه العربي مهما كانت ديانـته وانتماؤه، فيقاتل اليهودَ: مسلمون عرب ونصارى عرب وربما يهود عرب.

لم يحصل في التاريخ الإسلامي _ حسب علمي _ تميـيع لقضية إسلامية وصبها في قالب قومي كما حصل لقضية المسجد الأقصى، حتى صارت إعادة الأرض المباركة، من إعادة الكيان العربي المنهار والذي يجب التعاون على وحدته.

والعجيب: كيف يقاتل المسلم وبجانبه في الصف: الشيوعي الملحد والنصراني المشرك بحجة أنهما أخوان في العروبة، إنها القومية التي تعود بالمسـلمين إلى التخلق بصفات أهل الجاهلية الأولى.

وانتشر الجدل فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، بمن يكون صاحب الحق في الأرض تأريخياً، وافتتح في ذلك جدل طويل دار في المجالس العامة، كما دار في المنابر الاجتماعية والسـياسـية كالصحف وغيرها، فقال قائل العروبة: العرب هم أحق الناس بأرض فلسطين، واستدل بأن الكنعانيـين من قوم إبراهيم كانوا عرباً، وجعل الطريقة لإثبات أحقية بيت المقدس للعرب: أسبقيتهم تاريخياً، ونسـي أن من العرب الذين يتحدث عنهم من هو يهودي متربص أو صليبي حاقد، كما نسـي القضية الأساسـية التي تفصل بين الناس ألا وهي الكفر والإيمان وليس العروبة والأعجمية: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)( )، ولم يعلم أن الأرض التي خلقها الله تعالى إنما أورثها عباده المؤمنين وليس للكفار منها شيء، قال تعالى: (إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)( )، فالأرض لله وأولى الناس بأرض الله هم المتقون ولذلك جعل العاقبة لهم في الأرض، وهؤلاء المتقون هم أهل الإسلام والإيمان والعمل الصالح: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيـينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)( )، هؤلاء هم المتقون وهذه هي صفات الذين اتقوا الله وكانوا أحق الناس بأرض الله والعاقبة لهم، وليست العاقبة لجنس من الناس، وليس لطائفة من الناس فضل على أخرى، كما أنه ليس للعرب فضل على غيرهم قال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسـوا بِهَا بِكَافِرِينَ)( )، قال ابن كثير في تفسـيرها: "أي إن يكفر بهذه النعم من كفر بها من قريش وغيرهم من سائر أهل الأرض من عرب وعجم ومليـين وكتابيـين فقد وكلنا بها قوما آخرين أي المهاجرين والأنصار وأتباعهم إلى يوم القيامة"( ).

          وسارت الدول الإسلامية في ركب الدول الغربية حتى في فكرة النشيد الوطني( ) وألحانه، فلم تكن فكرة النشيد الوطني معروفة لدى المسـلمين حتى تشـبهوا فيها بالدول الغربية التي سبقت المسـلمين بالغرق في أوحال القوميات والوطنيات الضيقة المنـتـنة، وأول نشيد ألفت ألحانه: نشيد العسكرية المارسـيليه الذي نظم أثناء الثورة الفرنسـية عام 1792م، أنشده مجموعة من الجنود الجمهوريـين عندما كانوا يتقدمون نحو باريس. وسرعان ما أصبح رائجاً. واتخذ المارسـيليه نشيد فرنسا الوطني عام 1795م( ).

 حتى صار لكل دولة إسلامية نشيدها الوطني الخاص الذي قد لا يحتوى على ما يرمز للإسلام بقدر ما يرمز للعروبة ومآثر الآباء والأجداد.

 الخاتمة

          بهذا نكون قد وصلنا _ بحمد الله _ إلى نهاية سياق مظاهر التشبه بالكفار في العصر الحديث على منوال الخطة المرسومة لهذا البحث، ولقد استفدت من البحث في هذا الموضوع كثيراً، ولقد ساعدني شمول هذا البحث على الوقوف على فوائد جمة في أبواب العقيدة و التاريخ و الواقع المعاصر.

          وبعد ذلك أخلص إلى ذكر نتائج البحث:-

•        مما استوقفني في هذا البحث: تشديد الكتاب والسـنة وأقوال الصحابة في النهي عن التشـبه بالكفار، بل وسـد الذرائع الموصلة إلى التشـبه بهم.

•        أن معنى الاختلاف المذموم: هو الاختلاف على الكتاب والسـنة؛ فليس للاختلاف بين الناس ضابط.

•        كان سبب افتراق كثير من الفرق عن أهل السـنة والجماعة هو التشـبه بالكافرين، بشكل أو بآخر؛ فإننا لو استعرضنا أركان الإيمان الستة والانحرافات التي حصلت فيها: سـنجد أن سائر تلك الانحرافات مستمدة من مناهج كفرية، لا علاقة لها بدين الإسلام.

•        لا يمكن أن ننظر إلى قضية التشـبه بالكفار نظرة كاملة إلا إذا وضعنا في اعتبارنا المرحلة التي يمر بها المجتمع الإسلامي، وهو حالة الضعف والانهزام العسكري والاقتصادي التي يمر بها، مما أدى إلى انبهار بعض المسـلمين بالحضارة الغربية، وتقليدهم لها.

•        إن كل ابتداع هو اختلاف على الكتاب والسـنة وكل اختلاف تشـبه بالكفار، النتيجة: أن كل ابتداع في الدين فيه تشـبه بالكفار بقدر ما فيه من الاختلاف على الكتاب والسنة( ).

•        أن المطلع على منشأ البدع التي انتشرت بين المسـلمين وأصولها وجذورها، ليخرج بنتيجة واضحة جلية: ألا وهي أنه ما من بدعة إلا إما أن تكون مأخوذة عن الكفار، وإما أن تكون أصلها من عندهم، وإما أن تكون قد فعلها الكفار وإن لم يكن صاحبها قد استقاها من عندهم، وإما أنها من باب التشـبه لأنها نوع من الافتراق الذي هو في أصله تشـبه بالكفار( ).

•        أن مظاهر التشـبه بالكفار عن طريق الفلسـفة في توحيد المعرفة منطلقة من شبهة عند بعض المسـلمين، ألا وهي اعتقادهم أنه لا بد من معرفة الله عن طريق العقل، وأن إثبات ذلك هو أول واجب على المكلف، فلزم على هذا الأساس أن تكون تلك المعرفة عقلية بحتة، وعلى أساسها يتم الإيمان بالغيب، فنتج عن ذلك، عدة أمور، كلها تعد من مظاهر التشـبه بالكفار من فلاسفة اليونان:

1.      الأول: اعتماد المعرفة العقلية أساساً لا يقف أمامه نص، ولا غرو؛ فالأساس الأول الذي اعتمدوه لمعرفة وجود الله أولاً هو العقل، وهو الأمر الذي يسـير في خط واحد هو والفلسـفة اليونانية، ألا وهو تقديس العقل.

2.      والثاني: التزام أمور عقلية في باب توحيد الله عز وجل، لا تتفق مع منهج القرآن والسـنة والسلف الصالح، الأمر الذي أدى إلى تحريف في الدين لا يستهان به، وخاصة في باب الصفات.

•        كما أن التشـبه بالكفار أمر واقع لا محالة كما أخبرنا بذلك النبي  _ وربما كان هذا الزمن الذي يكون فيه التشـبه بهم على أقوى صوره في التاريخ الإسلامي، بحكم حالة الضعف والانهزام التي يمر بها المسلمون اليوم _ فإن التخلص من التشـبه بالكفار أمر واقع كذلك،، وسـوف يكون النصر يوماً ما للمسـلمين، كما أخبرتنا بذلك الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، نعم، يوماً ما سـيتشـبه الكافر بالمسلم، ويصير التشـبه بالكفار أمراً مستهجناً ويتشـبه الكفار بالمسـلمين، كما كان الوضع في حال قوة المسـلمين وضعف أعدائهم. وعلى هذا فإن التشـبه بالكفار اليوم هو أمر مرحلي، بحكم تأثر المغلوب بالغالب، ولا يعني ذلك أن نستسلم اليوم لتلك المظاهر أو أن نعدها من الواقع الذي لا بد وأن يأخذ طريقه وزمنه، بل لا بد من محاربة تلك التوجهات الغربية في العالم الإسلامي بكل ما يميز المسلم بإيمانه ويحفظ له هويته الإسلامية، ولذلك:

التوصيات:

ولذلك فإنني من خلال البحث في هذا الموضوع المهم بالنسبة للمسـلمين اليوم، ومن خلال تقليب ملفاته وبطاقاته:-

-        وجَدت الحاجة ماسة للكتابة في هذا الموضوع وإشباعه بحثاً واستقصاءً وتجميع فتاوى أهل العلم فيه، وأرى من الخليق عمل موسـوعة في التشـبه بالكفار في العصر الحديث، يجمع فيها التعريف بكل أداة من أدوات التشـبه، وأحكامها، وأقوال أهل العلم وفتاواهم في ذلك، والتعريف بالشخصيات التي عملت على إقحام المذاهب الفكرية الغربية،  وتوضيح الصلة بين كل فكرة وبين مصدرها الكافر وتأريخ دخولها إلى بلاد المسـلمين، مما يقيم الحجة في هذا الباب، ويعمل على توعية المسـلمين بخطره.

-        السبب الأساسـي لتشـبه المسـلمين بالكفار في العصر الحديث هو ضعف الإيمان، وبجانبه عدم استحضار جوانب العزة والقدوة الإسلامية وخاصة عند الشباب، مما يستلزم من كل مخلص أن يعمل على إبراز جوانب القدوة الإسلامية ومن أهم جوانبها: السـيرة النبوية وسـيرة السلف الصالح والمعارك والفتوحات الإسلامية التي تزرع العزة في نفوس الناشئة، وتصرف أنظارهم عن الحضارة الغربية الزائفة.

-        وبالعكس فلا بد من إبراز الجانب المظلم في الحياة الغربية وأدوات الدمار الأخلاقي والاقتصادي والاجتماعي التي تنخر في تلك المجتمعات وتؤذن بقرب انـتهائها وانطفاء جذوة نارها التي لم ينشأ عنها نور في يوم من الأيام، والتي ما فتـئت تحرق في طريقها كل خلق فاضل وكل اتجاه سليم.

تنبيه

          هذا وإني أرجو من كل قارئ لهذه الرسالة، ممن رأى فيها نقصاً أو خللاً، أن لا يدخر جهداً، في بذل النصيحة لي فيما بيني وبينه وسأكون له من الشاكرين.

وفي النهاية أختم بما ابتدأت به، فأحمده سبحانه وتعالى على ما يسر وأعان وله الفضل كله وإليه يعود الأمر كله، وأسأله تعالى أن لا يجعل هذا العمل سبباً في هلاك صاحبه، وأن ينضر وجهه به، وأن يجعله خالصاً له، وأن يعفو عما فيه من الزلل، وأن يتقبله من صاحبه قبولاً حسـناً، وأن يجعل ما سطرت يداه حجة له يوم القيامة، لا حجة عليه، وصلِّ اللهم وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

كتبه الفقير إلى عفو ربه:

أشرف بن عبد الحميد بن محمد بارقعان.